فقه
النوازل " 10 "
دلالة البوصلة على
القبلة
(2/225)
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .
فهذا بحث في حكم ودلالة البوصلة على القبلة
وبيان البحث فيها
إعداداً وصياغة على ما يلي :
س : هل البوصلة التي تشير إلى اتجاه الكعبة
صحيحة ؟؟ وإن كان
كذلك نأمل توضيح ذلك - أي حجتها ؟
ج : ليعلم أن الجمهور منهم الحنفية والحنابلة
، وقول للشافعي
والأظهر عند المالكية أنه يكفي البصير القادر
استقبال جهة الكعبة باجتهاد
وليس عليه إصابة عينها ، فيكفيه غلبة الظن أن
القبلة في الجهة التي
أمامه (1) . لقوله تعالى : { وَحَيْثُ مَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } .
ولحديث
أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله به قال :
" ما بين المشرق والمغرب
قبلة " ... رواه الترمذي .
ومنها : عمل الصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا
خبر تحويل القبلة
في الصلاة استداروا إلى الكعبة أثناء الصلاة
من غير طلب دلالة .
ومنها : التوارث وهو أن الناس من عهد رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنوا
المساجد
__________
(1) المراجع : المغني مع الشرح 1 / 489 ،
الدسوقي 1 / 224 ، رد المحتار 1 / 287 ،
نهاية المحتاج 1 / 407 ، 418 ، الموسوعة
الفقهية 4 / 67 ، تفسير القرطبي بغية
الأريب للبنوري ص / 47 - 62 وهو مهم .
(2/227)
في جميع بلاد
الإسلام ولم يحضروا قط مهندساً ولا منجماً عند
تسوية
المحراب .
ومنها : أن هذا هو الممكن الذي يرتبط به
التكليف إذ الطاعة حسب
الطاقة والحرج مرفوع عن هذه الأمة بالنص .
ومنها : اتفاق المسلمين على الصف الطويل الذي
يُعلم قطعاً أنه
أضعاف عرض الكعبة زادها الله مجداً وشرفاً .
ومنها : انعقاد الإجماع على صحة صلاة الاثنين
المتباعدين يستقبلان
قبلة واحدة . [ حكاه البهوتي في (كشاف القناع)
كما في بغية الأريب
ص 56 ] .
ثم ليعلم أن أهل العلم بحثوا مستفيضاً أدلة
القبلة من مفسرين
ومحدثين وفقهاء على اختلاف مذاهبهم وقد أفاض
فيها جمع منهم :
العيني في (البناية) 2 / 85 - 92 ، والبهوتي
في (كشاف القناع) ،
والبنوري في (بغية الأريب) ص / 31 - 47 .
وهي على أنواع :
1- أرضية كالجبال والقرى والأنهار .
2- هوائية كالرياح ، وهي أضعف الدلائل .
3- سماوية ليلية : النجوم .
4- سماوية نهارية : الشمس .
5- آلية .
والأصل في الاستقبال : أن يبنيه المصلي على
اليقين إن تحصل له .
(2/228)
وإلا فإخبار من
يعتمد قوله . وإلا فالاجتهاد بواحد من أدلة
القبلة المذكورة
كما في (كفاية الأخيار) 1 / 184 - 185 .
وأشهر مباحثهم فيها على ما يلي .
1- الاستدلال بمحاريب الصحابة رضي الله عنهم ،
والتابعين - رحمهم
الله - على تفصيل في ذلك (وأنها كانت بالتحري)
.
2- بالنجوم وأهمها : القطب والجدي .
3- بالشمس والقمر .
4- بأخبار عارف من أهل البلد .
5- بالآليات المخترعة كالربع المجيب ،
والمقنطر والاسطرلاب .
وهذه الأخيرة هي محل البحث إذ بها يعلم الجواب
عن السؤال
والبحث فيها يمكن تكييفه في مبحثين :
المبحث الأول : في
حكم إعمال الآلات في الدلالة على القبلة
.
المبحث الثاني : فيما تم الوقوف عليه في خصوص
البوصلة .
أولاً : حكم إعمال الآلات في الدلالة على
القبلة :
جرى الخلاف في حكم تعلم أدلة القبلة وخلافهم
متردد بين
الاستحباب والفرض الكفائي والوجوب العيني ،
وذلك في المذاهب
الأربعة ، وفي المذهب نفسه منها كما في مذهب
الحنابلة مثلاً الاستحباب
أو الوجوب كما في (الإقناع والمبدع) وغيرهما
.. وقد حشد النقول العلامة
البنوري في (بغية الأريب ص / 90 - 93) ومعلوم
أن الطاعة بحسب الطاقة .
وقد قرر فيه ص / 78 أنه يستفاد من كلام أهل
العلم في حكم الاستدلال
(2/229)
بهذه الآلات
على القبلة ما يلي :
1- أنه يجوز اعتبار الأدلة الهندسية في باب
القبلة والاعتماد بقول
الفلكي في محاريب غير الصحابة والتابعين عند
الحنفية ، وأما عند
الشافعية فيجوز الاعتماد بها وإن كان في
محاريبهم بل يجب عندهم .
2- أنه يسوغ العمل بالأدلة الهندسية ولا يجب .
وفي ص / 90 - 93 نقل نقولاً جمّة عن المذاهب
ثم استخلص منها ما
يلي ص / 92 - 93 :
أقول فتحقق لنا من هذه الحقول المبثوثة التي
انتقيناها مسائل :
منها : أن الأدلة الهندسية معتبرة يسوغ بها
العمل لاستخراج سمت
القبلة ومعرفة مواقيت الصلاة وغيرها لكنها غير
ملزمة .
ومنها : أن من تيسر له استعمال تلك الأدلة
الفلكية يعمل بها ، ويقدمها
على سائر أمارات القبلة فإنها تفيد القطعية
للعارف بها ، وإن لم تفد
القطعية فتفيد ظناً أقوى مما تفيده سائر
العلامات والأمارات ولابد .
ومنها : أن من ترك العمل بتلك القواعد مع
العلم بها والقدرة على
استعمالها واكتفى بأمارات أخرى في تعيين جهة
القبلة والمواقيت جاز ،
وصحت صلاته فإن الشرع لم يرد بها قط ، ولم
يوجبها ، توسعة على الأمة
ورحمة عليها .
ومنها : أن معرفة أدلة القبلة من الشمس والقمر
والنجوم المشهورة
فرض كفاية عند الحنفية ، أو واجبة عند إرادة
السفر ، وهو المختار من
مذهب الشافعية من غير تردد كما صرح به الإمام
النووي في شرح
(2/230)
المهذب ، وعند
الحنابلة مستحبة ، وقيل عند السفر واجبة ،
فالمذاهب كلها
متقاربة في الحقيقة .
ومنها : أنه لا عذر لأحد في عدم معرفة جهة
القبلة إذا كنت السماء
مصحية فلو صلى رجل بالتحري والسماء مصحية غير
مغيمة وخرجت عن
الجهة بالكلية لم تصح صلاته وقال ظهير الدين
المرغيناني تصح ، والأوفق
بالدليل هو الأول والأنسب بالسعة والرفق هو
الثاني .
وفي بغية الأريب ص / 46 بعد ذكر الأدلة التي
بها تعرف القبلة وذكر
منها بعض الطرق الهندسية قال :
(وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم أبعد الخلق
عن أمثال هذه
التكلفات ، وكفى لنا التأسي والاقتداء بهم
فإنهم على علم وقفوا ، وببصر
نافذ قد كفوا ، وقد قصر دونهم قوم فجفوا ،
وطمح عنهم أقوام فضلوا وأنهم
بين ذلك لعلى هدى مستقيم) .
وقال الدهلوي - رحمه الله - في الحجة البالغة
ص / 89 (ولم
يكلفهم في معرفة استقبال القبلة وأوقات الصلاة
والأعياد حفظ مسائل الهيئة
والهندسة وأشار بقوله : القبلة ما بين المشرق
والمغرب إذا استقبل الكعبة
إلى وجه المسألة) .
على أن العمل الصحيح بتلك الآلات المؤدي إلى
سكينة صدر وشفاء
قلب وثلج يقين منوط على مصادفة الآلات الصحيحة
وكثيراً ما رأيناها
يخالف بعضها بعضاً مخالفة بينة تورث قلقاً
واضطراباً في الأمر وقد تعسر
مصادفة الآلات الصحيحة على كل أحد ولا يتيسر
إلا نادراً شاذاً فكيف
تطمئن به النفوس ، وكيف يبنى عليها أمر السمحة
الحنيفية البيضاء التي
(2/231)
فيها العالم
والعامي سواء وأن التكليف بها تكليف فوق الوسع
، ولا يكلف
الله نفساً إلا وسعها فما ذلك إلا تحجر للرحمة
الواسعة .
وقال الشافعي رحمه الله تعالى في (الأم) (1) :
(ومن كان في موضع لا يرى منه البيت أو خارجاً
عن مكة فلا يحل
له أن يدعي كلما أراد المكتوبة أن يجتهد في
طلب صوب الكعبة بالدلائل
من النجوم والشمس والقمر والجبال ومهب الريح
وكل ما فيه دلالة
القبلة) اهـ .
ثم إني رأيت في القواعد للمقري عدة قواعد
ذكرها وذكر التفريع عليها
فيما نحن بصدده على مشروعية أعمال الآلات في
الدلالة على القبلة وهي
كما يلي (2) :
قاعدة : قال القرافي : (كل ما أفضى إلى
المطلوب فهو مطلوب
كالعروض والأطوال والقطب والكواكب والنيرين
والرياح لإفضائها إلى معرفة
القبلة وفيه نظر) .
والتحقيق : (كل ما لا يتوصل إلى المطلوب إلا
به فهو مطلوب وهذا
أخص من ذلك) القواعد للمقري 2 / 426 .
قاعدة : إذا أثبت الشرع حكماً منوطاً بقاعدة
فقد نيط بما يقرب منها
وإن لم يكن عينها (3) .
__________
(1) 1 / 81 .
(2) 2 / 426 .
(3) القواعد للمقري 2 / 413 رقم / 133 .
(2/232)
قاعدة : القدرة
على اليقين بغير مشقة فادحة تمنع من الاجتهاد
، وعلى
الاجتهاد تمنع من التقليد ، أي من الاتباع إلا
بدليل عام ، كالمحاريب
القديمة .
(2/233)
المبحث الثاني
فيما تم الوقوف عليه في خصوص البوصلة
وتسمى (قطب نما) وتسمى في الهند (قبلة نما)
وتسمى في بلاد
العرب (الإبرة) في بغية الأريب ص / 93 ما نصه
:
(تنبيه : من كانت عنده ساعة يعرف بها وقت
الصلاة أو آلة يعرف بها
سمت القبلة من الآلات التي تسمى (بقطب نما)
والتي تسمى (بقبلة نما)
في بلاد الهند و (بيت الإبرة) في بلاد العرب
ينبغي أن تكفي له عن معرفة
أدلة القبلة ومواقيت الصلاة إذا كانت تلك
الآلات صحيحة سليمة ، وأفادت
ظناً عنده في معرفة تلك الأمور فإن غلبة الظن
كافية عندهم في أعمال
الشرائع وإن لم أر من صرّح به ، نعم ، قواعدنا
الفقهية لا تأباه وقد جرى
به العرف وتعامل المسلمين من غير نكير العلماء
على ذلك ، والله أعلم
وعلمه أتم وأحكم) .
وقد صرح بها قبل من الشافعية الرملي في (نهاية
المحتاج)
1 / 423 - 424 .
وصرح بها من الحنابلة ابن بدران في تعليقته
على (أخصر
المختصرات) ص / 22 فقال :
(وأما بيت الإبرة المسمى بقبلة ناما فإنه يجوز
العمل به إن تكررت
(2/234)
إصابته) اهـ .
وقال في (كتاب الفريدة اللؤلؤية) ص / 268 في
معرض
احتجاجه بالتلغراف قال :
(ولهذا نظائر قد اصطلح الناس عليها وعملوا بها
في العبادات منها
الآلة المسماة ببيت الإبرة التي مهما وضعتها
انحرف أحد طرفي عقربها إلى
الجنوب وانحرف الآخر نحو الشمال فتعين الجهات
الأربع فتعرف بذلك
جهة القبلة . وحيث جربت فكانت بعيدة من الخطأ
كانت من جملة الأدلة
التي يذكرها الفقهاء وعلماء الميقات في كتبهم)
اهـ .
وقال رشيد رضا في (الفتوى) رقم 720 مجلد 5 /
1985 - 1987 ما
نصه :
سَمْتُ القبلة ، وأدلتها ، وأقواها بيت الإبرة
، والقطب الشمالي (1) .
من صاحب الإمضاء مرسي سيف من اسريجة - منوفية
مصر .
حضرة الفضيلة السيد محمد رشيد رضا أطال الله
حياته .
السلام عليكم ورحمة الله .
يا صاحب الفضيلة قال بعضنا إن البوصلة (بيت
الإبرة) هي العلامة
الوحيدة لقبلة الصلاة لأن عقربها لا يقف إلا
مقابلاً لبناء الكعبة .
فراجعه البعض الآخر قائلاً : إن البوصلة ما
وضعت إلا لمعرفة الجهات
الأربع (الشمال . الجنوب . الشرق . والغرب)
وبها يهتدي الملاحون
والطيارون إلى الجهات التي يقصدونها . وعلامة
القبلة هي قطب السماء
__________
(1) المنار جـ 28 (1927) ص / 657 - 658 .
(2/235)
مستدلاً على
ذلك بقول سادتنا العلماء في كتب الفقه (شعراً)
.
قطب السما اجعل حَذو أُذْنٍ يسرى ... بمصر
والعراق حذو الأخرى
والشأم خلفاً وأماماً باليمن ... مواجهاً تكن
بذا مستقبلن
* وفسر الحذو أن يجعل القطب قابلاً لثقب الأذن
اليسرى .
فقال البعض الأول : إن معنى الحذو أن يكون
القطب خلف الأذن
لا مقابلاً لها ، وقال أيضاً : إن كتب الفقه
محرفة ، وكل واقف للصلاة في
محراب الجامع الأزهر يجعل القطب خلف أذنه
اليسرى لا مقابلاً لها ، ثم
قال : إنه لا يصح مخالفة محراب المساجد ولو
تبين له بالدليل الشرعي
أنه منحرف انحرافاً كبيراً ، ثم قال : إنه لو
قال كائناً من كان بخلاف ذلك
يكون كاذباً ولا يصح الاقتداء به . لذا نرجو
التكرم علينا بشرح أقوال
الطرفين شرحاً وافياً حتى يتبين لنا الحق
فنتبعه ، وهل الذي يجعل القطب
خلف أذنه بمصر عامداً معتمداً صلاته صحيحة أم
لا ؟ .
الإجابة : إن بيت الإبرة تقف إبرته المشابهة
لعقرب الساعة وأحد طرفيها
متجه إلى جهة الشمال دائماً وهو الطرف الأخضر
القصير والطرف الآخر
متجه إلى جهة الجنوب ، فيعرف بذلك الشرق
والغرب وسائر الجهات غير
الأصلية من الخطوط التي ترسم في قاعدتها
فيستدل بها على القبلة من
يعرف موقعها في كل قطر . والعلم الخاص بذلك
علم تقويم البلدان ،
ولكن الفقهاء يذكرون ذلك في كتبهم ، ومنهم من
ألف في ذلك رسائل
مخصوصة . ومن المعلوم المنصوص في الكتب إن
الجنوب قبلة المدينة ،
والشام والشمال قبلة اليمن ، وأما قبلة مصر
فهي بين الجنوب والشرق
ويقابلها العراق ، فقبلتها بين الجنوب والغرب
، ويعرف هذا وذاك بخطوط
(2/236)
بيت الإبرة .
وأما نجم القطب الشمالي فهو أضبط الأدلة
لمعرفة الجهات ،
لأنه ثابت لا يتغير موقعه في الشمال ، فمن
استدبره كان متوجهاً إلى
الجنوب ، لذلك يجعله أهل الشام وراء ظهورهم في
صلاتهم إلخ . فعلم
من ذلك أن أهل مصر يجعلونه خلف الأذن اليسرى ،
لأن قبلتهم بين
الجنوب والشرق . وحذو الشيء وحذاؤه مقابله
وتجاهه لا خلفه ، وإنما
يكون القطب حذاء ثقب الأذن اليسرى لمن كانت
قبلته جهة الجنوب كأهل
المدينة المنورة وأهل الشام ، وكذلك قال
الفقهاء في الكتب التي نعرفها ،
فصواب الشعر الذي ذكرتموه " خلف أذن يسرى "
وإلا فهو خطأ .
وأما المحاريب في البلاد الإسلامية ،
فالمتواتر منها معتمد لا يحتاج فيه
إلى اجتهاد ، وليس لأحد فيها رأي ، ومنها
محراب الجامع الأزهر ، ولا يعتد
بقول من يخالف ذلك ، ولا قول من يقول إن كتب
الفقه محرفة - هكذا
على الإطلاق - ، فكثير من كتب الفقه في غاية
الضبط والإتقان وما يقع
في بعضها من تحريف النساخ أو المطابع فيعرفه
الفقهاء ، ومنها الأصول
المصححة على مصنفيها أو خطوطهم ، والمتلقاة
بالإجازة والتلقين أحدهما
أو كليهما : والله أعلم .
انتهى
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
(2/237)
|