مختصر خلافيات البيهقي

 (كتاب الاشربة)

وَمن كتاب الْأَشْرِبَة:
(مَسْأَلَة) (305)
:
مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام، من أَي الْأَجْنَاس كَانَ: من مطبوخ ونيّ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " النيُّ من التَّمْر، وَالزَّبِيب، وَالْعِنَب محرم، وَمن غَيرهَا مُبَاح، وَأما الْمَطْبُوخ فَمن الْأَجْنَاس كلهَا حَلَال ".
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن أبي رَجَاء عَن ابْن سعيد عَن أبي حَيَّان عَن عَامر عَن ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - أَنه قَامَ خطيباُ على مِنْبَر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: " أما بعد، فَإِن الْخمر نزل تَحْرِيمهَا، وَهِي من خَمْسَة: من الْعِنَب، وَالتَّمْر، وَالْبر، وَالشعِير، وَالْعَسَل، وَالْخمر مَا خامر الْعقل، وَثَلَاث وددت أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يفارقنا حَتَّى يعْهَد إِلَيْنَا فِيهَا عهدا يَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجد، والكلالة، وأبواب من أَبْوَاب الرِّبَا "، فَقلت: " مَا ترى فِي السَّادِسَة

(5/5)


يصنع بالسند يدعى الْجَاهِل يشرب مِنْهُ الشربة، فتصرعه، يصنع من الْأرز؟ قَالَ: " لم يكن هَذَا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَو كَانَ لنهى عَنهُ، أَلا ترى أَنه قد عَم الْأَشْرِبَة كلهَا، فَقَالَ: الْخمر مَا خامر الْعقل ".
قَالَ البُخَارِيّ: " وَقَالَ حجاج عَن حَمَّاد أبي حسان مَكَان " الْعِنَب " " الزَّبِيب ". وَقَوله: " الْخمر مَا خامر الْعقل " فِي آخر الحَدِيث مُسْند فافهمه.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ -: كنت قَائِما على الْحَيّ (أسقيهم) على عمومتي، وَأَنا أَصْغَرهم سنا، من فضيخ لَهُم، قَالَ: " فجَاء رجل فَقَالَ: " إِن الْخمر قد حرمت "، فَقَالُوا: " أكفئها يَا أنس "، قَالَ: " فكفأتها "، فَقيل لأنس: " فَمَا كَانَ شرابهم؟ " قَالَ: " رطب وَبسر "، قَالَ أَبُو بكر بن أنس: - وَأنس شَاهد -: " وَكَانَت خمرهم يَوْمئِذٍ "، فَلم يُنكر ذَلِك أنس، قَالَ: " وحَدثني بعض أَصْحَابِي أَنه سمع أنسا يَقُول: " كَانَت خمرهم يَوْمئِذٍ ".
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا عَن قَتَادَة عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " إِنِّي

(5/6)


لأسقي أَبَا طَلْحَة، وَأَبا دُجَانَة، وَسُهيْل بن بَيْضَاء من خليط بسر وتمر إِذْ حرمت الْخمر، فدفعتها، وَأَنا ساقيهم، وأصغرهم، وَإِنَّا نعدها يَوْمئِذٍ الْخمر ".
وَعند البُخَارِيّ عَن ثَابت عَنهُ حرمت الْخمر حِين حرمت، وَمَا نجد خمور الأعناب إِلَّا الْقَلِيل، وَعَامة خمرهم الْبر وَالتَّمْر ".
وَعِنْده عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " نزل تَحْرِيم الْخمر، وَإِن بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ لخمسة أشربة مَا فِيهَا شراب الْعِنَب ".
واتفقا على صِحَة حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن البتع، فَقَالَ: " كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام "، زَاد مُسلم فِي رِوَايَة: " والبتع نَبِيذ الْعَسَل ".
وَفِي أُخْرَى عِنْد البُخَارِيّ سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن البتع، وَهُوَ نَبِيذ

(5/7)


الْعَسَل، كَانَ أهل الْيمن يشربونه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام ".
(اتفقَا على صِحَة حَدِيث أبي مُوسَى: فَقلت: يَا رَسُول الله، يصنع عندنَا شراب من الْعَسَل، يُقَال لَهُ: البتع، وشراب من الشّعير يُقَال المزر، وهما يسكران، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل شراب يسكر حرَام ") .
وَعند مُسلم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كل مُسكر خمر، وكل مُسكر حرَام ".
وَعند أبي دَاوُد عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام ".
وَله شَوَاهِد مِنْهَا مَا رُوِيَ عَن عَامر بن سعد عَن أَبِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أنهى عَن قَلِيل مَا أسكر كَثِيره "، رُوَاته ثِقَات.
وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(5/8)


يَقُول: كل مُسكر حرَام، وَمَا أسكر مِنْهُ الْفرق، فملء الْكَفّ مِنْهُ حرَام ". وَفِي رِوَايَة: " فالحسوة مِنْهُ حرَام ".
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كل مُسكر خمر، وَمَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام ". وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن عبد الرَّحْمَن بن حجيرة، وَعَن عبد الله بن عَمْرو.
وَعند أبي دَاوُد عَن دَيْلَم الْحِمْيَرِي، قَالَ: " سَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا بِأَرْض بَارِدَة، نعالج فِيهَا عملاُ شَدِيدا، وَإِنَّا نتَّخذ شرابًا من هَذَا الْقَمْح نتقوى بِهِ، قَالَ: هَل يسكر؟ قلت: نعم، قَالَ: فَاجْتَنبُوهُ، قلت: فَإِن النَّاس غير تاركيه، قَالَ: فَإِن لم يَتْرُكُوهُ فقاتلوهم ". وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح عَن أبي عمر البهراني، قَالَ: " سُئِلَ ابْن عَبَّاس

(5/9)


- رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن الطِّلا، فَقَالَ: إِن النَّار لَا تحل شَيْئا، وَلَا تحرمه ".
وَعند البُخَارِيّ عَن أبي الجويرة قَالَ: " سَأَلت ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن الباذق، فَقَالَ: " سبق مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الباذق مَا أسكر فَهُوَ حرَام، قَالَ: الشَّرَاب الطّيب، لَا الْحَرَام الْخَبيث ".
وَعند أبي دَاوُد عَن مَالك بن أبي مَرْيَم قَالَ: " دخل علينا عبد الرَّحْمَن ابْن غنيم فتذاكرنا الطلاء، فَقَالَ: حَدثنِي أَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: ليشربن نَاس من أمتِي الْخمر يسمونها بِغَيْر اسْمهَا ".
وَقد ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " الْخمر من هَاتين الشجرتين "، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى هِيَ خَمْسَة، لم يفرق بَين الْمَطْبُوخ والنيِّ ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِنَّمَا الْخمر من هَاتين الشجرتين: النَّخْلَة والعنبة ".
وَعند أبي دَاوُد عَن النُّعْمَان بن بشير - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ:

(5/10)


" سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: إِن الْخمر من الْعصير، وَالزَّبِيب، وَالتَّمْر، وَالْحِنْطَة، وَالشعِير، والذرة، وَإِنِّي أنهاكم عَن كل مُسكر "، وَهَذَانِ الحديثان لَا يتنافيان.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " مَعْنَاهُ: أَن مُعظم مَا يتَّخذ من الْخمر إِنَّمَا هُوَ من النَّخْلَة والعنبة، وَإِن كَانَت قد تتَّخذ أَيْضا من غَيرهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب التَّأْكِيد لتحريمه لضراوته، وَشدَّة سورته، كَمَا يُقَال: الشِّبَع من اللَّحْم، والدفء من الْوَبر، وَلَيْسَ فِيهِ نفي الشِّبَع عَن غير اللَّحْم، وَنفي الدفء عَن غير الْوَبر ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن السَّائِب عَن يزِيد أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - خرج عَلَيْهِم، فَقَالَ: " إِنِّي وجدت من فلَان ريح شراب، فَزعم أَنه شراب الطِّلاء، وَأَنا سَائل عَمَّا شرب، فَإِن كَانَ يسكر جلدته، فجلده الْحَد تَاما ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا إِبْرَاهِيم عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لَا أُوتى بِرَجُل شرب خمرًا، وَلَا نبيذاً مُسكرا إِلَّا جلدته الْحَد ".

(5/11)


وَرُوِيَ عَن مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج قَالَ: " قلت لعطاء: أتجلد فِي ريح الشَّرَاب؟ قَالَ: إِن الرّيح ليَكُون من الشَّرَاب الَّذِي لَيْسَ بِهِ بَأْس، فَإِذا اجْتَمعُوا جَمِيعًا على شراب وَاحِد، فيسكر أحدهم جلدُوا جَمِيعًا الْحَد تَاما ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " أَرَأَيْت إِن شرب عشرَة، وَلم يسكروا؟ "، فَإِن قَالَ: " حَلَال "، قيل: " افرأيت إِن خرج، فأصابته الرّيح فَسَكِرَ؟ "، فَإِن قَالَ: " حَرَامًا "، قيل لَهُ: " أَرَأَيْت شَيْئا قطّ يشربه، وَصَارَ إِلَى جَوْفه حَلَالا، ثمَّ صيرته الرّيح حَرَامًا؟ ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - لقد سقيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقدحي هَذَا الشَّرَاب كُله الْعَسَل، والنبيذ، وَالْمَاء، وَاللَّبن ".
وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ، وَصفَة النَّبِيذ الَّذِي كَانَ يشربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منقولة إِلَيْنَا فِي صَحِيح مُسلم أَيْضا عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - كُنَّا ننبذ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سقا، يوكى أَعْلَاهُ، وَله عزلا، ننبذ غدْوَة، فيشربه عشَاء، وننبذه عشَاء، فيشربه غدْوَة ".
عِنْده عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - جَاءَهُ قوم، فَسَأَلُوهُ عَن بيع الْخمر، واشترائه، وَالتِّجَارَة فِيهِ، قَالَ: " لَا يصلح بيعهَا، وَلَا اشتراؤها، وَلَا التِّجَارَة فِيهِ لمُسلم "، ثمَّ سَأَلُوهُ عَن الطلاء، فَقَالَ:

(5/12)


" وَمَا طلاؤكم هَذَا؟ " قَالُوا: هُوَ الْعِنَب يعصر، ثمَّ يطْبخ، وَيجْعَل فِي الدنان، قَالَ: " وَمَا الدنان؟ "، قَالُوا: دنان مقيرة، قَالَ: " أيسكر؟ "، قَالُوا: إِذا أَكثر مِنْهُ أسكر، قَالَ: " فَكل مُسكر حرَام "، ثمَّ سَأَلُوهُ عَن النَّبِيذ، فَقَالَ: " خرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سفر، فَرجع من سَفَره، وناس من أَصْحَابه قد انتبذوا نبيذاً لَهُم فِي نقيرة، وحناتم، ودباء، فَأمر بهَا، فأهرقت، فَأمر بسقا، فَجعل فِيهِ زبيب وَمَاء، فَكَانَ ينْبذ لَهُ من اللَّيْل، فَيُصْبِح فيشربه يَوْمه ذَلِك وَلَيْلَته الَّتِي يسْتَقْبل، وَمن الْغَد حَتَّى يُمْسِي، فَإِذا أَمْسَى شرب وَسَقَى، فَإِذا أصبح فِيهِ شَيْء أَمر بِهِ فأهريق ".
وَعند أبي دَاوُد عَن عبد الله الديلمي عَن أَبِيه قَالَ: " أَتَيْنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، قد علمت من نَحن؟ وَمن أَيْن نَحن؟ فَإلَى أَيْن نَحن؟ ، قَالَ: إِلَى الله عز وَجل، وَإِلَى رَسُوله، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِن لنا أعناباً، مَا نصْنَع بهَا؟ قَالَ: زببوها، قُلْنَا: مَا نصْنَع بالزبيب؟ قَالَ: انبذوه على غدائكم، واشربوه على عشائكم، وانبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم، وانبذوه فِي الشنان، وَلَا تنبذوه فِي القلل؛ فَإِنَّهُ إِذا تَأَخّر عَن عصره صَار خلا ".
وَعِنْده أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " علمت أَن

(5/13)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَصُوم، فتحينت قَطْرَة نَبِيذ صَنعته فِي دباء، ثمَّ أَتَيْته بِهِ، فَإِذا هُوَ ينشى فَقَالَ: اضْرِب بِهَذَا الْحَائِط، فَإِن هَذَا شراب من لَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن سَلام عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي بردة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اشربوا، وَلَا تسكروا "، وَفِيه وهمان:
أَحدهمَا: فِي إِسْنَاده، حَيْثُ قَالَ: " عَن أبي بردة "، وَإِنَّمَا يرويهِ سماك عَن الْقَاسِم عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، كَذَا رَوَاهُ يحيى بن يحيى عَن مُحَمَّد بن جرير عَن سماك.
وَالْآخر: فِي مَتنه، حَيْثُ قَالَ: " اشربوا، وَلَا تسكروا "، وَإِنَّمَا يرويهِ النَّاس " وَلَا تشْربُوا مُسكرا "، يدل على صِحَة ذَلِك مَا روى مُسلم فِي الصَّحِيح عَن محَارب بن دثار عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كنت نَهَيْتُكُمْ عَن الْأَشْرِبَة فِي ظروف الْأدم، فَاشْرَبُوا فِي كل وعَاء غير أَن لَا تشْربُوا مُسكرا ".
وَفِي رِوَايَة: " فَاشْرَبُوا فِي الأسقية كلهَا، وَلَا تشْربُوا مُسكرا ".

(5/14)


وَبَلغنِي عَن أبي عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ أَنه قَالَ: " هَذَا حَدِيث مُنكر، غلط فِيهِ أَبُو الْأَحْوَص سَلام بن سليم، لَا نعلم أَن أحدا تَابعه عَلَيْهِ من أَصْحَاب سماك "، قَالَ النَّسَائِيّ: " قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أَبُو الْأَحْوَص يُخطئ فِي هَذَا الحَدِيث "، قَالَ النَّسَائِيّ: " وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة عَن سماك عَن مرصافة امْرَأَة مِنْهُنَّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " اشربوا وَلَا تسكروا "، وَهَذَا أَيْضا غير ثَابت، ومرصافة هَذِه لَا أَدْرِي من هِيَ، وَالْمَشْهُور عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - خلاف ذَلِك. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " وهم أَبُو الْأَحْوَص فِي إِسْنَاده وَمَتنه، وَقَالَ عَنهُ عَن سماك عَن الْقَاسِم عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه وَلَا تشْربُوا مُسكرا ". وروى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَلَا يَصح.
رُوِيَ عَن فرقد السبحي عَن جَابر بن يزِيد عَن مَسْرُوق عَن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " بَيْنَمَا نَحن نزُول مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْأَبْطح "، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: " فَاشْرَبُوا، وَلَا تسكروا "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " فرقد، وَجَابِر ضعيفان، وَلَا يَصح ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " حرمت الْخمر بِعَينهَا الْقَلِيل مِنْهَا وَالْكثير، وَالسكر من كل شراب "، نَحن نقُوله

(5/15)


بِظَاهِر الْخَبَر، وَهُوَ السُّكُوت فِيهِ، وَهُوَ الْقَلِيل مَأْخُوذ حكمه مِمَّا روينَاهُ، ثمَّ إِنَّهُم يروون هَذَا الحَدِيث على نَحْو مَا يذهبون إِلَيْهِ من تَحْرِيم الْمُسكر من كل شراب سوى الأعناب، والْحَدِيث عِنْد الْحفاظ " السكر من كل شراب " بِفَتْح السِّين وَالْكَاف، قَالَ صَاحب الغريبين: " السكر خمر الأعجام، وَيُقَال لما يسكر السكر ".
وَالَّذِي يدل على أَن المُرَاد بِهِ ذَلِك رِوَايَة إِمَام أهل الحَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن مسعر عَن أبي عون عَن ابْن شَدَّاد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - حرمت الْخمر بِعَينهَا، قليلها وكثيرها، والمسكر من كل شراب. كَذَا رُوِيَ عَن ابْنه عبد الله عَنهُ، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُوسَى ابْن هَارُون عَن أَحْمد، والمسكر من كل شراب. قَالَ مُوسَى: " وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهَا - لِأَنَّهُ قد روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل مُسكر حرَام ". وروى عَنهُ عَطاء، وَطَاوُس، وَمُجاهد: مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن

(5/16)


أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة.
استدلوا بقول الله عز وَجل: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} ، قَالُوا: " أخرجه مخرج الْمِنَّة، فَتَنَاول كَثِيرَة وقليله، فأخرجنا مِنْهُ إِذا أَكثر مِنْهُ، وَبَقِي مَا دونه على التَّحْلِيل. رُوِيَ عَن عَمْرو بن سُفْيَان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " السكر مَا حرم من ثَمَرَتهَا، والرزق الْحسن مَا حل من ثَمَرَتهَا ". وَعَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ فِي قَوْله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} ، فَحرم الله بعد ذَلِك السكر مَعَ تَحْرِيم الْخمر؛ لِأَنَّهَا مِنْهَا، قَالَ: {وَرِزْقاً حَسَناً} فَهُوَ حَلَال من الْخلّ، والرُّبِّ، والنبيذ، وَأَشْبَاه ذَلِك، فأقره الله، وَجعله حَلَالا للْمُسلمين.
وَقد روينَا عَن أبي عبيد أَنه قَالَ: " السكر نَقِيع التَّمْر ". وَعَلِيهِ تدل رِوَايَة ابْن أبي طَلْحَة مَعَ الدّلَالَة على دُخُوله فِي التَّحْرِيم حِين حرمت الْخمر؛ لِأَنَّهُ مِنْهَا.
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم، وَالشعْبِيّ، وَأبي رزين قَالُوا فِي هَذِه الْآيَة

(5/17)


{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} " هِيَ مَنْسُوخَة ".
وَرُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن أبان عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن خَالِد عَن أبي مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن النَّبِيذ حَلَال، أَو حرَام؟ فَقَالَ: حَلَال ". قَالَ عَليّ بن عمر: " عبد الْعَزِيز بن أبان مَتْرُوك الحَدِيث ". وَرُوِيَ عَن يحيى بن يمَان الْعجلِيّ عَن سُفْيَان بِالْإِسْنَادِ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عطس، وَهُوَ يطوف، فَأتي بنبيذ من السِّقَايَة فقطب، فَقَالَ لَهُ رجل: " أحرام هُوَ، يَا رَسُول الله؟ قَالَ: " لَا، عليّ بذنوب من مَاء زَمْزَم، فصب عَلَيْهِ، ثمَّ شرب، وَهُوَ يطوف بِالْبَيْتِ ". كَذَا رَوَاهُ اليسع بن إِسْمَاعِيل عَن زيد بن الْخَبَّاب عَن سُفْيَان، وَالْيَسع ضَعِيف الحَدِيث. قَالَه عَليّ بن عمر، والْحَدِيث مَعْرُوف بِيَحْيَى بن يمَان، وَيُقَال: " إِنَّه انْقَلب عَلَيْهِ الْإِسْنَاد، وَاخْتَلَطَ بِحَدِيث الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن الْمطلب بن أبي ودَاعَة هَذَا الْمَتْن، والكلبي مَتْرُوك الحَدِيث، لَا يعرفهُ، وَأَبُو صَالح بادان مولى أم هَانِئ ضَعِيف الحَدِيث، وَابْن يمَان كثير الْخَطَأ، يتَجَنَّب مَا ينْفَرد بِهِ. قَالَ يحيى بن معِين: " رُبمَا عارضت بِأَحَادِيث يحيى بن يمَان أَحَادِيث النَّاس فَمَا خَالف فِيهَا النَّاس ضربت عَلَيْهِ، وَقد ذكرت لوكيع شَيْئا من حَدِيثه عَن سُفْيَان، فَقَالَ وَكِيع: لَيْسَ هَذَا سُفْيَان الَّذِي سمعنَا نَحن مِنْهُ ".
قَالَ ابْن عدي: " سَمِعت عَبْدَانِ يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير يَقُول: ابْن يمَان سريع النسْيَان، وَحَدِيثه خطأ عَن

(5/18)


الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن خَالِد ابْن سعد عَن أبي مَسْعُود، إِنَّمَا هُوَ عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن الْمطلب ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " فقد سَرقه عبد الْعَزِيز بن أبان، فَرَوَاهُ عَن سُفْيَان، وَسَرَقَهُ اليسع بن إِسْمَاعِيل، فَرَوَاهُ عَن زيد بن الْحباب عَن سُفْيَان، وَعبد الْعَزِيز مَتْرُوك، وَالْيَسع ضَعِيف الحَدِيث، أخبرنَا بذلك السّلمِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ ابْن عدي: " حَدثنَا الجندي، قَالَ: قَالَ البُخَارِيّ - رَحمَه الله - فِي حَدِيث يحيى بن الْيَمَان: هَذَا لم يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقَالَ الْأَشْجَعِيّ، وَعَبدَة عَن سُفْيَان الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن الْمطلب. وَرُوِيَ عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَذكر قصَّة فِيهَا طواف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ودعاؤه بشراب، قَالَ: " فَأتي بشراب، فَشرب مِنْهُ، ثمَّ دَعَا بِالْمَاءِ، فَصَبَّهُ فِيهِ، فَشرب، ثمَّ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فدعاء بِمَاء، فصب فِيهِ، (فَشرب، ثمَّ اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاء، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) ، ثمَّ شرب مرَّتَيْنِ، أَو ثَلَاثَة، ثمَّ قَالَ: إِذا اشْتَدَّ عَلَيْكُم فَاقْتُلُوهُ بِالْمَاءِ "، وَيزِيد بن أبي زِيَاد ضَعِيف، لم يحْتَج بِهِ لسوء حفظه، وَقد روى خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَقد روى خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن

(5/19)


عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قصَّة طواف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وشربه، لم يذكر مَا ذكره يزِيد، وَإِنَّمَا تعرف هَذِه الزِّيَادَة من رِوَايَة الْكَلْبِيّ، كَمَا مضى، وَزَاد يزِيد " شربه مِنْهُ قبل خلطه بِالْمَاءِ "، وَهُوَ بِخِلَاف سَائِر الروَاة.
وروى عَن الشَّيْبَانِيّ عَن عبد الْملك بن نَافِع بن أخي الْقَعْقَاع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَذكر حَدِيثا طَويلا فِي نَبِيذ لَهُ ريح شَدِيدَة، قَالَ: " فَدَعَا بِمَاء، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، ثمَّ شرب، ثمَّ قَالَ: إِذا اعتملت الأسقية، فاكسروها بِالْمَاءِ ".
وَفِي رِوَايَة عَن مَالك بن الْقَعْقَاع، (قَالَ: " سَأَلت ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِيذ الشَّديد، فَذكره بِمَعْنَاهُ "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " كَذَا قَالَ مَالك بن الْقَعْقَاع، وَقَالَ غَيره عَن عبد الْملك بن نَافِع بن أخي الْقَعْقَاع) ، وَهُوَ رجل مَجْهُول ضَعِيف ". وَالصَّحِيح عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام ". وَهَذَا حَدِيث يعرف بِعَبْد الْملك بن نَافِع، وَهُوَ رجل مَجْهُول، وَاخْتلفُوا فِي اسْمه، وَاسم أَبِيه، فَقيل: هَكَذَا، وَقيل: " عبد الْملك بن الْقَعْقَاع "، وَقيل: " ابْن أخي الْقَعْقَاع "، وَقيل: " مَالك بن الْقَعْقَاع ".
وروى ابْن عدي عَن ابْن أبي مَرْيَم قلت ليحيى: " أَرَأَيْت حَدِيث عبد الْملك بن نَافِع الَّذِي يرويهِ إِسْمَاعِيل فِي النَّبِيذ؟ "، قَالَ: " هم يضعفونه "، قَالَ ابْن عدي: " سَمِعت ابْن حَمَّاد يَقُول: " قَالَ البُخَارِيّ:

(5/20)


قَالَ عبد الْملك ابْن نَافِع بن أخي الْقَعْقَاع بن ثَوْر عَن ابْن عمر فِي النَّبِيذ لم يُتَابع عَلَيْهِ "، قَالَ النَّسَائِيّ: " عبد الْملك بن نَافِع لَيْسَ بِمَشْهُور، وَلَا يحْتَج بحَديثه، وَالْمَشْهُور عَن ابْن عمر خلاف حكايته ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي حَدِيث وَفد عبد الْقَيْس، وَفِيه قَالُوا: " يَا رَسُول الله، فَإِن اشْتَدَّ فِي الأسقية "، قَالَ: " فصبوا عَلَيْهِ المَاء "، قَالُوا: " يَا رَسُول الله "، فَقَالَ لَهُم فِي الثَّالِثَة، أَو الرَّابِعَة: " أهريقوه "، ثمَّ قَالَ: " إِن الله - جلّ ثَنَاؤُهُ - حرم عَليّ، أَو حرم الْخمر وَالْميسر والكوبة "، قَالَ: " وكل مُسكر حرَام ". وَحَدِيث وَفد عبد الْقَيْس الْمَعْرُوف الْمَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمر بِالْكَسْرِ، ثمَّ المُرَاد بِهِ - إِن صَحَّ - كَسره بِالْمَاءِ إِذا خَافَ شدته قبل الاشتداد، فقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: لوفد عبد الْقَيْس: " لَا تشْربُوا فِي نقير، وَلَا مقير، وَلَا دباء، وَلَا حنتم، وَلَا مزادة وَلَكِن اشربوا فِي سقاء أحدكُم غير مُسكر، فَإِن خشِي شدته، فليصب عَلَيْهِ المَاء ".

(5/21)


فَأَما إِذا اشْتَدَّ، وَبلغ حد الْإِسْكَار فقد روينَا قبل هَذَا عَن أبي مُوسَى، وَأبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَمر فِيهِ بإراقته، وَلَو كَانَ إِلَى إِصْلَاحه بِالْمَاءِ سَبِيل لما أَمر بإراقته، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد لَا يحْتَج بِهِ عَن أبي سعيد مَرْفُوعا " لينبذ أحدكُم فِي سقائه، فَإِن خشِي سكره فليكسره بِالْمَاءِ "، وَرَأَيْت فِي حَدِيث يحيى بن أبي كثير عَن ثُمَامَة بن كلاب عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مَرْفُوعا " لَا تنبذوا فِي الدُّبَّاء، والمزفت، وَلَا النقير، وَلَا الحنتمة، وَلَا تنبذوا الرطب والبسر جَمِيعًا، وَلَا التَّمْر وَالزَّبِيب جَمِيعًا، وَمَا كَانَ سوى ذَلِك فَاشْتَدَّ عَلَيْكُم فاكسروه بِالْمَاءِ ". وثمامة مَجْهُول، وَالثَّابِت عَن ابْن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي قَتَادَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّهْي عَن الخليطين " دون هَذِه اللَّفْظَة.
ورأيته أَيْضا فِي حَدِيث عِكْرِمَة ابْن عمار عَن أبي كثير السحمي عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا إِلَّا أَنه قَالَ: " إِذا أَرَابَك فِي

(5/22)


شرابك ريب فسن عَلَيْهِ المَاء، أمط عَنْك حرَامه، واشرب حَلَاله "، وَهَذَا أَيْضا ضَعِيف، عِكْرِمَة بن عمار اخْتَلَط فِي آخر عمره، وساء حفظه، فروى مَا لم يُتَابع عَلَيْهِ. وَقد رَوَاهُ عبد الله بن يزِيد المَقْبُري عَن عِكْرِمَة بن عمار، وَقَالَ قَوْله: إِذا أَرَابَك ... " قَالَه أَبُو هُرَيْرَة، ذكره إِسْحَاق الْحَنْظَلِي فِي مُسْنده.
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا دخل أحدكُم على أَخِيه الْمُسلم، فأطعمه، فَليَأْكُل من طَعَامه، وَلَا يسْأَله، وَإِن سقَاهُ شرابًا، فليشرب من شرابه، وَلَا يسْأَله عَنهُ، وَإِن خشِي مِنْهُ فليكسره بِالْمَاءِ ".
المُرَاد - وَالله أعلم - إِذا خشِي أَن يبلغ حد الْإِسْكَار فليكسره بِالْمَاءِ حَتَّى لَا يشْتَد ويبلغ حد الْإِسْكَار بِدَلِيل مَا سبق ذكره، وَالله أعلم. وَرُبمَا استدلوا بِمَا روى عمار بن مطر عَن جرير عَن الْحجَّاج عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُم - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كل مُسكر حرَام "، قَالَ عبد الله: " هِيَ الشربة الَّتِي أسكرتك ".
وَعَن شريك عَن أبي حَمْزَة عَن إِبْرَاهِيم قَوْله: " كل مُسكر حرَام " هِيَ الشربة الَّتِي أسكرتك. قَالَ عَليّ بن عمر: " وَهَذَا أصح من الَّذِي

(5/23)


قبله، وَلم يسْندهُ غير الْحجَّاج، وَاخْتلف عَنهُ، وعمار بن مطر ضَعِيف، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
حَدثنَا أَبُو سعيد، وَذكر إِسْنَادًا عَن سُفْيَان بن عبد الْملك أَنه ذكر عِنْده - يَعْنِي عِنْد ابْن الْمُبَارك - حَدِيث ابْن مَسْعُود هِيَ الشربة الَّتِي أسكرتك؟ فَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك - رَحمَه الله -: " هَذَا حَدِيث بَاطِل ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى: " وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم بِخِلَافِهِ، قَالَ البُخَارِيّ: زَكَرِيَّا بن عدي لما قدم ابْن الْمُبَارك - رَحمَه الله تَعَالَى - الْكُوفَة كَانَت بِهِ عِلّة، فَأَتَاهُ وَكِيع، وأصحابنا الْكُوفِيُّونَ، فتذاكروا عِنْده، حَتَّى بلغُوا الشَّرَاب، فَجعل ابْن الْمُبَارك يحْتَج بِأَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والمهاجرين، وَالْأَنْصَار من أهل الْمَدِينَة، فَقَالُوا: " لَا، وَلَكِن من حديثنا "، فَقَالَ ابْن الْمُبَارك: " أخبرنَا الْحسن بن عَمْرو عَن فُضَيْل بن عَمْرو عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه سكر من شراب لم يحل لَهُ أَن يعود فِيهِ أبدا، فنكسوا رؤوسهم، فَقَالَ للَّذي يَلِيهِ: أَرَأَيْت أعجب من هَؤُلَاءِ؟ أحدثهم عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعَن أَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ، فَلم يعبؤا بِهِ، وأذكر عَن إِبْرَاهِيم، فنكسوا رؤوسهم ".
وروى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كل مُسكر حرَام، فَقَالَ رجل، أَو رجلَانِ: يَا ابْن عَبَّاس، إِن هَذَا الشَّرَاب الَّذِي نشربه إِذا أكثرنا سكرنا، قَالَ: لَيْسَ هَكَذَا، إِذا شربت تِسْعَة، فَلم يسكرك، فَلَا بَأْس، فَإِذا شربت الْعَاشِر، فأسكرك فَهُوَ حرَام "، وَهَذَا بَاطِل، الْكَلْبِيّ مَتْرُوك.

(5/24)


وَرُوِيَ عَن شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو بن مَيْمُون، قَالَ: " قَالَ عمر: إِنِّي لأشرب هَذَا النَّبِيذ الشَّديد ليقتطع مَا فِي بطوننا من لُحُوم الْإِبِل "، رَوَاهُ إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، وَلم يذكر " الشَّديد "، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو خَيْثَمَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو عَن عمر إِنَّا لنشرب من النَّبِيذ نبيذاً يقطع لُحُوم الْإِبِل فِي بطوننا من أَن يؤذينا. ونبيذهم الَّذِي كَانُوا يشربونه على الصّفة الَّتِي روينَا عَن ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة، وَغَيرهمَا - رَضِي الله عَنْهُم - لم يبلغ حد الْإِسْكَار.
وروى عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه كَانَ النَّبِيذ الَّذِي يشربه عمر كَانَ ينقع لَهُ الزَّبِيب غدْوَة، فيشربه عَشِيَّة، وينقع لَهُ عَشِيَّة، فيشربه غدْوَة، وَلَا يَجْعَل فِيهِ دردي.
وَرُوِيَ عَن وَكِيع عَن شريك عَن فراس عَن الشّعبِيّ أَن رجلا شرب من إداوة على نَبِيذ نِصْفَيْنِ، فَسَكِرَ، فَضَربهُ عَليّ الْحَد.
وَعَن سُفْيَان عَن إِسْحَاق عَن أبي عَامر أَن أَعْرَابِيًا شرب من أداوة عمر - رَضِي الله عَنهُ - نبيذاً، فَسَكِرَ، فَضَربهُ عمر الْحَد. قَالَ عَليّ بن عمر: " هَذَا مُرْسل، وَلَا يثبت، إِنَّمَا رَوَاهُ عَن سعيد بن ذِي

(5/25)


لعوة، وَسَعِيد ضَعِيف، ضعفه يحيى وَغَيره ".
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب قَالَ: " تلقت ثَقِيف عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - بنبيذ، فَوَجَدَهُ شَدِيدا، فَدَعَا بِمَاء، فصب عَلَيْهِ "، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا كَانَ اشتداده - وَالله أعلم - بالحموضة، أَو الْحَلَاوَة، فقد رُوِيَ عَن نَافِع مولى ابْن عمر أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ لي: " اذْهَبْ إِلَى إِخْوَاننَا فالتمس عِنْدهم شرابًا، فَأَتَاهُم، فَقَالُوا: مَا عندنَا إِلَّا هَذِه الأداوة، وَقد تَغَيَّرت، فَدَعَا بهَا عمر، فذاقها، فَقبض وَجهه، ثمَّ دُعَاء بِمَاء، فصب عَلَيْهِ، ثمَّ شرب ". قَالَ نَافِع: " وَالله مَا قبض وَجهه إِلَّا أَنَّهَا تخللت ".
وروينا عَن ابْن الْمسيب بِنَحْوِ من رِوَايَة نَافِع، وَيذكر عَن زيد بن أسلم أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا حمض عَلَيْهِم النَّبِيذ، كسروه بِالْمَاءِ؛ لما روى عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ: " قَالَ عبيد الله بن عمر لأبي حنيفَة فِي النَّبِيذ، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: أخذناه من قبل أَبِيك، قَالَ: أَي شَيْء هُوَ؟ قَالَ: إِذا رابكم فاكسروه بِالْمَاءِ، قَالَ عبد الله الْعمريّ: إِذا تيقنت بِهِ، وَلم ترَتّب، كَيفَ تصنع؟ فَسكت أَبُو حنيفَة ".

(5/26)


وَقد أَشَارَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - إِلَى تَضْعِيف الرِّوَايَة السَّابِقَة عَن عَليّ وَعمر فِي جلدهما اللَّذين شربا من أدواتهما؛ لِأَنَّهُ أعَاد الْحَدِيثين هَهُنَا، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: " رويتموه عَن رجل مَجْهُول عنْدكُمْ، لَا تكون رِوَايَته حجَّة ".
قَالَ البُخَارِيّ - رَحمَه الله -: " سعيد بن ذِي لعوة عَن عمر فِي النَّبِيذ يُخَالف النَّاس فِي حَدِيثه لَا يعرف ". وَقَالَ بَعضهم: " سعيد بن ذِي حدان وَهُوَ وهم ".
وَالْأَحَادِيث الَّتِي لنا، واحتججنا بهَا أَحَادِيث قد أجمع أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ على صِحَّتهَا، وَالْأَحَادِيث الَّتِي رويت فِي الْكسر بِالْمَاءِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أسانيدها غير قَوِيَّة، فإجراء مَا روينَا على ظَاهرهَا، وَحمل مَا رووا على الْأَمر بِالْكَسْرِ بِالْمَاءِ إِذا خشِي شدته قبل أَن يشْتَد على تَخْفيف حموضته، أَو حارته كَمَا حمله المتقدمون عَلَيْهِ أولى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: " فِي شربة من نَبِيذ مَا يخاطر الرجل بِدِينِهِ ". وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (306)
:
وحد الشّرْب أَرْبَعُونَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -:

(5/27)


" ثَمَانُون ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِي بِرَجُل شرب الْخمر، فَضَربهُ بجريدتين نَحوا من أَرْبَعِينَ، ثمَّ صنع أَبُو بكر مثل ذَلِك، فَلَمَّا كَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - اسْتَشَارَ النَّاس فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: " أخف الْحُدُود ثَمَانُون، فَفعل ".
قَوْله: " فَضَربهُ بجريدتين نَحوا من أَرْبَعِينَ " أَرَادَ بِهِ أَن بهما صَار الْعدَد أَرْبَعِينَ، وَبَيَان ذَلِك فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عِنْد مُسلم فِي الصَّحِيح عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يضْرب فِي الْخمر بِالْجَرِيدِ وَالنعال أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بكر ضرب أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا ولي عمر، سُئِلَ عَن ذَلِك، فشاورهم، فَقَالَ ابْن عَوْف: " أرى أَن تضربه ثَمَانُون "، فَضَربهُ ثَمَانِينَ. وَلَوْلَا ذَلِك لما كَانَ بَين مَا نَقله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي بكر وَعمر، وَبَين مَا أَشَارَ بِهِ عبد الرَّحْمَن خلاف.
وروى البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَن السَّائِب بن يزِيد قَالَ: " كُنَّا نؤتي بالشارب فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفِي إمرة أبي بكر، وصدراً من إمرة عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فجلد أَرْبَعِينَ حَتَّى إِذا عتوا فِيهِ، وفسقوا جلد ثَمَانِينَ ".
وَعند مُسلم عَن حُصَيْن قَالَ: " حضرت عُثْمَان، وَأتي بالوليد بن عقبَة، قد شرب الْخمر، فَقَالَ عُثْمَان لعَلي: أقِم عَلَيْهِ الْحَد، وَأمر عَليّ

(5/28)


عبد الله بن جَعْفَر ذَا الجناحين أَن يجلده، فَأخذ فِي جلد، وَعلي يعد، حَتَّى بلغ جد أَرْبَعِينَ، ثمَّ قَالَ لَهُ: أمسك، جلد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ، وَجلد أَبُو بكر أَرْبَعِينَ، وَجلد عمر ثَمَانِينَ، وكل سنة، وَهَذَا أحب إِلَيّ ".
وَعِنْده فِي رِوَايَة بِبَعْض مَعْنَاهُ عَنهُ، وَقَالَ فِيهِ: " ضرب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر وَعمر صَدرا من خِلَافَته أَرْبَعِينَ، ثمَّ أتمهَا عمر ثَمَانِينَ، وكل سنة ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن الشُّرَّاب كَانُوا يضْربُونَ على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي بِالْأَيْدِي، وَالنعال، والعصي، قَالُوا: " وَكَانُوا فِي خلَافَة أبي بكر أَكثر مِنْهُ فِي عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: لَو فَرضنَا لَهُم حدا فتوخى نَحوا مِمَّا كَانُوا يضْربُونَ فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ يجلدهم أَرْبَعِينَ حَتَّى توفّي، ثمَّ كَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - من بعده، فجلدهم كَذَلِك أَرْبَعِينَ، حَتَّى أُتِي بِرَجُل "، فَذكر قصَّة، ثمَّ قَالَ: " قَالَ عمر: فَمَاذَا ترَوْنَ؟ قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، إِنَّه إِذا شرب سكر، وَإِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، وعَلى المفتري ثَمَانُون جلدَة، فَأمر عمر - رَضِي الله عَنهُ - فجلد ثَمَانِينَ ".

(5/29)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " مَا من صَاحب حد أقيم عَلَيْهِ، فأجد فِي نَفسِي عَلَيْهِ شَيْئا إِلَّا صَاحب الْخمر لَو مَاتَ لوديته؛ لِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه ".
وَإِنَّمَا أَرَادَ لم يسن مَا وَرَاء الْأَرْبَعين إِلَى الثَّمَانِينَ، وَهُوَ مَا زادوا على حَده على وَجه التَّعْزِير، فَأَما الْأَرْبَعُونَ بِالْجَرِيدِ وَالنعال وأطراف الثِّيَاب فَهُوَ حد ثَابت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ عَن أبي بكر، ثمَّ عَن عمر، وَإِنَّمَا أَرَادوا الزِّيَادَة على الْأَرْبَعين على وَجه التَّعْزِير، وحد ثَبت فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ فِي عهد أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، وتوخيه فِي ذَلِك، فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يتَغَيَّر بِمَا رَوَاهُ من الزِّيَادَة عَلَيْهِ على وَجه التَّعْزِير، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ أعلم بِالصَّوَابِ.
(مَسْأَلَة) (307)
:
وَمن تطلع من صير بَاب، فَرمى صَاحب الدَّار بِمَا يدْفع بَصَره، فأعمي عينه كَانَ هدرا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يكون على صَاحب الدَّار ضَمَان عينه ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ - رَضِي الله عَنهُ - اطلع رجل من جُحر فِي حجرَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهُ

(5/30)


مِدْرى يحك بهَا رَأسه، فَقَالَ: " إِنِّي لَو أعلم أَنَّك تنظر لطعنت بِهِ فِي عَيْنك، إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان من أجل النّظر "، كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَو بِمَعْنَاهُ.
وَعند مُسلم أَيْضا عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا اطلع من بعض حجر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَامَ إِلَيْهِ بمشقص، أَو بمشاقص قَالَ: " فَكَأَنِّي انْظُر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخبأه؛ ليطعنه ".
وَعِنْدَهُمَا أَيْضا فِي الصَّحِيح، عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - يبلغ بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَو أَن امْرأ اطلع عَلَيْك بِغَيْر إِذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، مَا كَانَ عَلَيْك جنَاح ".
وَعند مُسلم عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من اطلع فِي بَيت قوم بِغَيْر إذْنهمْ فقد حل لَهُم أَن يفقؤا عينه ".
وروى بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من اطلع على قوم بِغَيْر إذْنهمْ، فَرَمَوْهُ، وَأَصَابُوا

(5/31)


عينه، فَلَا دِيَة لَهُ، وَلَا قصاص ".
وروى ابْن الْمُنْذر عَن عمر من اطلع على جَاره فأصابته جِرَاحَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (308)
:
وَإِذا عزّر السُّلْطَان إنْسَانا، فَتلف من التَّعْزِير ضمنه الإِمَام، إِمَّا فِي مَال نَفسه أَو فِي بَيت المَال على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا ضَمَان عَلَيْهِ ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ قَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا من رجل أَقمت عَلَيْهِ حدا، فَمَاتَ فأجد فِي نَفسِي إِلَّا الْخمر، فَإِنَّهُ إِن مَاتَ وديته؛ إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه "، (وَإِنَّمَا أَرَادَ - وَالله أعلم - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه) زِيَادَة على الْأَرْبَعين، أَو لم يسنه بالسياط، وَقد سنه بالنعال وأطراف الثِّيَاب مِقْدَار أَرْبَعِينَ، وَالله أعلم.
وَقد روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عَليّ بن يحيى عَن الْحسن أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " مَا أحد يَمُوت فِي حد من الْحُدُود، فأجد فِي نَفسِي مِنْهُ

(5/32)


شَيْئا إِلَّا الَّذِي يَمُوت فِي حد الْخمر، فَإِنَّهُ شَيْء أحدثناه بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَمن مَاتَ مِنْهُ، وديته إِمَّا قَالَ: " فِي بَيت المَال "، وَإِمَّا قَالَ: " على عَاقِلَة الإِمَام " أَشك - يَعْنِي الشَّافِعِي، وَإِنَّمَا أَرَادَ - وَالله أعلم - " إِذا مَاتَ فِيمَا أحدثوه من الزِّيَادَة على الْأَرْبَعين على وَجه التَّعْزِير ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وبلغنا أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أرسل إِلَى امْرَأَة، فَفَزِعت، فأجهزت ذَا بَطنهَا، فَاسْتَشَارَ عليا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يَدَيْهِ ". قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَقد كَانَ لعمر - رَضِي الله عَنهُ - أَن يبْعَث، وَللْإِمَام أَن يحد فِي الْخمر عِنْد الْعَامَّة، فَلَمَّا كَانَ فِي الْبعْثَة تلف على الْمَبْعُوث إِلَيْهَا، أَو على ذِي بَطنهَا، فَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " إِن عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك الدِّيَة كَانَ الَّذِي يراهم، ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَنه وَإِن كَانَت لَهُ الرسَالَة فَعَلَيهِ أَن لَا يتْلف بِهِ أحد، فَإِن تلف ضمن، وَكَانَ المأثم - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - مَرْفُوعا ".
(مَسْأَلَة) (309)
:
الْخِتَان وَاجِب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " سنة ".
دليلنا مَا اتفقنا على صِحَّته عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اختتن إِبْرَاهِيم النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ ابْن

(5/33)


ثَمَانِينَ سنة بالقدوم ".
وَقد قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وَالْأَمر على الْوُجُوب بِظَاهِرِهِ.
وروى ابْن عدي - بِسَنَدِهِ - عَن ابْن جريج قَالَ: " أخْبرت عَن عُثيم بن كُلَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَنه جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأسلم، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ألق عَنْك شعر الْكفْر واختتن ". قَالَ ابْن عدي: " هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن جريج إِنَّمَا حَدثهُ إِبْرَاهِيم بن يحيى، فكنى عَن اسْمه ".
وَعَن أبي دَاوُد عَن أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة أَن امْرَأَة كَانَت تختن بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تنهكي؛ فَإِن ذَلِك أحظى للْمَرْأَة، وَأحب للبعل ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " لَا تقبل صَلَاة

(5/34)


رجل لم يختتن "، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يُوجِبهُ.
وَرُوِيَ عَن أبي بَرزَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا فِي الأقلف يحجّ بَيت الله، قَالَ: " لَا، حَتَّى يختتن ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " الْخِتَان سنة للرجل، ومكرمة للنِّسَاء "، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ شَيْئا سنه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأمر بِهِ، فَيكون وَاجِبا بِدَلِيل مَا مضى. وَقد رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا، وَلَا يَصح رَفعه. وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة من حَدِيث أُسَامَة، وَأبي أَيُّوب مَرْفُوعا، وَالْحجاج، لَا يحْتَج بِهِ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (310)
:

(5/35)


(صفحة فارغة)

(5/36)


وَمَا أفسدت الْبَهَائِم من الزَّرْع بِاللَّيْلِ ضمنه أَهلهَا، وَمَا أفسدت بِالنَّهَارِ، وَلم يكن مَعهَا صَاحبهَا فَهدر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا ضَمَان على صَاحبهَا ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا روى أَبُو دَاوُد عَن الْبَراء - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كَانَت لَهُ نَاقَة ضارية، فأفسدت ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " فَذكر بِنَحْوِ مِمَّا سبق، وَقيل ذَلِك مَا مَعْنَاهُ: أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى على أهل الحوائط حفظهَا بِالنَّهَارِ، وعَلى أهل الْمَاشِيَة مَا أفسدت ماشيتهم بِاللَّيْلِ ".
وروى قَتَادَة عَن الشّعبِيّ أَن شريحاً رفعت إِلَيْهِ شَاة أَصَابَت غزلاً، فَقَالَ: " إِن كَانَ بلَيْل فقد ضمنته، وَإِن كَانَ بنهار فَلَا ضَمَان عَلَيْكُم ".

(5/37)


وَقَالَ: " النفش بِاللَّيْلِ، والهمل بِالنَّهَارِ ".
استدلوا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جرح العجماء جَبَّار، والبئر جَبَّار، والمعدن جَبَّار، وَفِي الرِّكَاز الْخمس "، اتفقَا على صِحَّته، قَالُوا: " فَهَذَا يدل على أَن حَدِيث الْبَراء صَار مَنْسُوخا ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فأخذنا بِهِ - يَعْنِي بِحَدِيث الْبَراء أَيْضا - لثُبُوته واتصاله، وَمَعْرِفَة رِجَاله، وَلَا يُخَالف هَذَا الحَدِيث حَدِيث (العجماء جرحها جَبَّار) ، وَلَكِن " العجماء جرحها جَبَّار " جملَة من الْكَلَام الْعَام الْمخْرج الَّذِي يُرَاد بِهِ الْخَاص، فَلَمَّا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (العجماء جرحها جَبَّار) ، وَقضى فِيمَا أفسدت العجماء بِشَيْء فِي حَال دون حَال دلّ ذَلِك على أَن مَا أَصَابَت العجماء من جرح وَغَيره فِي حَال جَبَّار، وَفِي حَال غير جَبَّار "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (311)
:
وَلَو وطِئت دَابَّته، وَهُوَ راكبها إنْسَانا برجلها كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانه؛ لِأَن عَلَيْهِ منعهَا فِي تِلْكَ الْحَال من كل مَا يتْلف بِهِ أحدا، احْتج

(5/38)


الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي ذَلِك بِحَدِيث الْبَراء - رَضِي الله عَنهُ - وَقد سبق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا ضَمَان عَلَيْهِ ".
وَاسْتدلَّ بِمَا لَا يُثبتهُ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا روى سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " الرجل جَبَّار "، فَذكر الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أَنه غلط؛ لِأَن الْحفاظ لم يحفظوا هَكَذَا، وَالله أعلم. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يُتَابع سُفْيَان بن حُسَيْن على قَوْله: " الرجل جَبَّار "، وَهُوَ وهم؛ لِأَن الثِّقَات خالفوه، وَلم يذكرُوا ذَلِك، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو صَالح السمان، وَعبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَمُحَمّد بن زِيَاد، وَغَيرهم عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - لم يذكرُوا فِيهِ: وَالرجل جَبَّار ".
وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَن أبي هُرَيْرَة مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح من حَدِيث اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة، وَابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " العجماء جرحها جَبَّار "

(5/39)


(الحَدِيث، لَيْسَ فِي " الرجل جَبَّار ") ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
كَذَلِك رَوَاهُ مَالك الإِمَام، وَابْن جريج، وَمعمر، وَعقيل، وَابْن عُيَيْنَة، وَغَيرهم عَن الزُّهْرِيّ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُس بن يزِيد عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الزبيدِيّ، وَابْن برْقَان عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْأسود بن الْعَلَاء عَن أبي سَلمَة، رَضِي الله عَنْهُم.
فَأَما حَدِيث سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ فَإِنَّهُ وهم، قَالَ الدَّارمِيّ: " سَأَلت يحيى بن معِين عَن سُفْيَان بن حُسَيْن فَقَالَ: ثِقَة، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ ".
وَرَوَاهُ آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد، وَفِيه عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - وَزَاد " وَالرجل جَبَّار "، وَلم يُتَابع عَلَيْهِ، وَقد رَوَاهُ غنْدر - وَهُوَ الحكم من حَدِيث شُعْبَة - ومعاذ الْعَنْبَري، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَأَبُو عَمْرو، وَغَيرهم عَن شُعْبَة دون هَذِه الزِّيَادَة.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الرّبيع بن مُسلم عَن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هُوَ وهم لم يُتَابع عَلَيْهِ أحد عَن شُعْبَة، وَرُوِيَ عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي ليلى عَن ابْن قيس عَن هُذَيْل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرجل جَبَّار "،

(5/40)


هَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ عَن ابْن قيس مُرْسلا، وَوَصله قيس بن الرّبيع، وَهُوَ ضَعِيف يذكر عبد الله فِيهِ، ونعارضهم بِمَا رُوِيَ عَن النُّعْمَان بن بشير مَرْفُوعا من ربط دَابَّة فِي طَرِيق الْمُسلمين، فأصابت أحدا فَهُوَ ضَامِن، وَالله أعلم.

(5/41)


(فارغة)

(5/42)


(كتاب السّير)

وَمن كتاب السّير:
(مَسْأَلَة) (312)
:
فَإِن أدْرك أهل الْحَرْب الْمُسلمين المنصرفين بالغلبة وَالْغنيمَة، فخاف الْمُسلمُونَ ارتجاع الْغَنَائِم لم يحل لَهُم ذبح الْحَيَوَان، وإتلافه لغير مأكله.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَهُم أَن يذبحوا مَا لم يُمكنهُم إِخْرَاجه من دَار الْحَرْب، وَأَن يحرقوه بعد الذّبْح بالنَّار ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن دِينَار عَن صُهَيْب عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُم - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قتل عصفوراً فَمَا فَوْقهَا بِغَيْر حَقّهَا سَأَلَهُ الله عز وَجل - عَن قَتله قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا حَقّهَا؟ قَالَ: أَن يذبحها، فيأكلها، وَلَا يقطع رَأسهَا، فَيَرْمِي بهَا ".

(5/43)


قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَنهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن المصبورة ".
وَفِي حَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ - نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تصبر الْبَهَائِم، أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيح.
وَفِي وَصِيَّة أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - لما بعث الجيوش أَن قَالَ: " وَلَا يعقرن شَاة، وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لمأكله ".
وَقيل لِمعَاذ - رَضِي الله عَنهُ -: " إِن الرّوم يَأْخُذُونَ مَا حسر من خَيْلنَا فيستعجلونها، ويقاتلون عَلَيْهَا، فنعقر مَا حسر من خَيْلنَا "، قَالَ: " لَا، لَيْسُوا بِأَهْل أَن ينتفعوا مِنْكُم، إِنَّمَا هم غَدا رقيقكم، أَو أهل ذمتكم ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وبلغنا أَن أَبَا أُمَامَة - رَضِي الله عَنهُ - أوصى ابْنه أَن لَا يعقرن جسداً ".
وَنهى عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحمَه الله - عَن عقر الدَّابَّة إِذا هِيَ قَامَت.
وَحَدِيث جَعْفَر، وعقره فرسه - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ أَبُو دَاوُد:

(5/44)


هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي، وَقد جَاءَ فِيهِ: " نهى كثير من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " لَا أعلمهُ مِمَّا يثبت عِنْد الْإِفْرَاد، وَلَا أعلمهُ مَشْهُورا عِنْد عوام أهل الْعلم بالمغازي ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " الْحفاظ يتوقون مَا ينْفَرد بِهِ ابْن إِسْحَاق، وَإِن صَحَّ، فَلَعَلَّ جعفراً - رَضِي الله عَنهُ - لم يبلغهُ النَّهْي "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (313)
:
وَالْغنيمَة لمن شهد الْوَقْعَة، أَو كَانَ ردأ لَهُم، فَأَما من لم يحضرها، وَلم يكن ردأ لَهُم فَلَا حق لَهُ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الْغَنِيمَة لكل من دخل دَار الْحَرْب قبل قسمتهَا ".
روى طَارق بن شهَاب الأحمس قَالَ: " غزت بَنو عُطَارِد مَاء الْبَصْرَة "، فَذكر قصَّة، وَقَالَ فِيهَا: " فَكتب فِي ذَلِك إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَكتب أَن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة ".

(5/45)


وروى أَبُو دَاوُد أخبرنَا سعيد، حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ أَن عَنْبَسَة بن سعيد أخبرهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - يحدث سعيد بن الْعَاصِ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث أبان بن سعيد على سَرِيَّة من الْمَدِينَة قبل نجد، فَقدم أبان بن سعيد وَأَصْحَابه على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخييبر بعد أَن فتحهَا، وَإِن حزم خيلهم لِيف، فَقَالَ أبان: " اقْسمْ لنا يَا رَسُول الله "، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: " فَقلت لَا تقسم لَهُم يَا رَسُول الله، فَقَالَ أبان: " أَنْت بهَا يَا وبر، تحدد علينا من رَأس ضال "، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اجْلِسْ يَا أبان، وَلم يقسم لَهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ البُخَارِيّ: " وَيذكر عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ "، فَذكر هَذَا الحَدِيث.
وَعِنْده فِي الصَّحِيح عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قصَّة هجرتهم، وَقَالَ: " فِي بضع وَخمسين رجلا من قومِي "، إِمَّا قَالَ اثْنَيْنِ وَخمسين، أَو ثَلَاثَة وَخمسين، وَنحن ثَلَاثَة إخْوَة: أَبُو مُوسَى، وَأَبُو رهم، وَأَبُو بردة، فأخرجتنا سَفِينَتنَا إِلَى النَّجَاشِيّ بِأَرْض الْحَبَشَة، وَعِنْده جَعْفَر بن أبي طَالب وَأَصْحَابه، فأقبلنا جَمِيعًا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين

(5/46)


افْتتح خَيْبَر، فَأَسْهم لنا، أَو قَالَ: فأعطانا مِنْهَا، وَمَا قسم لأحد غَابَ عَن فتح خَيْبَر مِنْهَا شَيْء إِلَّا لمن شهد الْوَقْعَة، إِلَّا لجَعْفَر وَأَصْحَاب السَّفِينَة، قسم لَهُم، وَقَالَ: لكم الْهِجْرَة مرَّتَيْنِ: هاجرتم إِلَى النَّجَاشِيّ، وهاجرتم إِلَيّ ".
وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (314)
:
وَيقتل الشُّيُوخ والرهبان فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يقتلُون ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لما فرغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حنين بعث أَبَا عَامر على جَيش أَوْطَاس، فلقي دُرَيْد بن الصمَّة، فَقتل دُرَيْد، وَهزمَ الله تَعَالَى أَصْحَابه ". وَذكر بَاقِي مَا فِي الحَدِيث، وَفِي آخِره " فَلَمَّا رجعت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(5/47)


دخلت عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيت على سَرِير مرمل، وَعَلِيهِ فرَاش، وَقد أثر رمال السرير بِظهْر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجنبيه، فَأَخْبَرته خبرنَا، وَخبر أبي عَامر ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين، واستبقوا شرخهم ".
وَعَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " انْطَلقُوا بِسم الله وَبِاللَّهِ، وعَلى مِلَّة رَسُول الله، وَلَا تقتلُوا شَيخا فانياً، وَلَا طفْلا، وَلَا صَغِيرا، وَلَا امْرَأَة، وَلَا تغلوا، وضموا غنائمكم، وَأَصْلحُوا وأحسنوا، إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ ".
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا بعث جيوشه قَالَ: " اخْرُجُوا بِسم الله تقاتلون فِي سَبِيل الله من كفر بِاللَّه، لَا تغدروا، وَلَا تمثلوا، وَلَا تغلوا، وَلَا تقتلُوا وليداً، وَلَا أَصْحَاب الصوامع ".

(5/48)


وَفِي وَصِيَّة أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - يزِيد بن أبي سُفْيَان لما بَعثه إِلَى الشَّام فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن صَالح بن كيسَان: " وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قد حبسوا أنفسهم فِي هَذِه الصوامع فاتركوهم، وَمَا حبسوا لَهُ أنفسهم، وستجدون أَقْوَامًا قد اتخذ الشَّيْطَان على رؤوسهم مقاعد - يَعْنِي الشمامسة - فاضربوا تِلْكَ الْأَعْنَاق، وَلَا تقتلُوا كَبِيرا، هرماً، وَلَا امْرَأَة، وَلَا وليداً، وَلَا تخربوا عمراناً، وَلَا تقطعوا شَجَرَة إِلَّا لنفع، وَلَا تعقرن بَهِيمَة إِلَّا لنفع، وَلَا تحرقن نخلا، وَلَا تعرقنه، وَلَا تغدر، وَلَا تمثل، وَلَا تجبن، وَلَا تغلل ".
قَالَ ابْن إِسْحَاق: " حَدثنِي مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير، فَقَالَ لي: " هَل تَدْرِي لم فرق أَبُو بكر، فَأمر بقتل الشماسة، وَنهى عَن قتل الرهبان؟ فَقلت: لَا أرَاهُ إِلَّا لحبس هَؤُلَاءِ أنفسهم، فَقَالَ: أجل، وَلَكِن الشمامسة يلقون الْقِتَال فيقاتلون، وَإِن الرهبان رَأْيهمْ أَن لَا يقاتلوا "، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (315)
:
وأمان العَبْد الْمُسلم جَائِز، قَاتل أَو لم يُقَاتل. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ:

(5/49)


" إِذا لم يَأْذَن لَهُ سَيّده فِي الْقِتَال لم يَصح أَمَانه ".
رُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا يجير على الْمُسلمين أَدْنَاهُم، وَيرد على الْمُسلمين أَقْصَاهُم.
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا العَبْد لَا يعْطى من الْغَنِيمَة شَيْئا، وَيُعْطى من جزئي الْمَتَاع، وأمانه جَائِز، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (316)
:
وَإِذا زنى مُسلم فِي دَار الْحَرْب لزمَه الْحَد، وَكَذَلِكَ إِذا سرق فِيهَا مَال مُسلم لزمَه الْقطع. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَا يلْزمه الْحَد ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن بسر بن أبي أَرْطَأَة مَرْفُوعا لَا تقطع الْأَيْدِي فِي السّفر، إِسْنَاده شَامي، وَكَانَ يحيى بن معِين يَقُول: " أهل الْمَدِينَة يُنكرُونَ أَن يكون بسر بن أَرْطَأَة سمع من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَحَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أقِيمُوا الْحُدُود فِي الْحَضَر وَالسّفر، وعَلى الْقَرِيب والبعيد، وَلَا تبالوا فِي الله لومة لائم "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل من حَدِيث مَكْحُول عَن عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ، وَالله أعلم.

(5/50)


(مَسْأَلَة) (317)
:
وَلَا يملك الْمُشْركُونَ مَا أحرزه الْمُسلمُونَ من أَمْوَالهم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يملكُونَ ".
عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن قوما أَغَارُوا، فَأَصَابُوا امْرَأَة من الْأَنْصَار وناقة للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ انفلتت الْمَرْأَة، فركبت النَّاقة، فَأَتَت الْمَدِينَة، فَعرفت نَاقَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَت: " إِنِّي نذرت إِن أنجاني الله عَلَيْهَا لأنحرنها، فمنعوها أَن تنحرها حَتَّى يذكرُوا ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: بئْسَمَا جزيتهَا أَن أنجاك الله عَلَيْهَا، لَا نذر فِي مَعْصِيّة الله، وَلَا فِيمَا لَا يملك ابْن آدم "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند البُخَارِيّ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " ذهب فرس لَهُ، فَأَخذه الْعَدو، فَظهر عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ فَرد عَلَيْهِ، فِي زمن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأبق عبد لَهُ فلحق بالروم، فَظهر عَلَيْهِ

(5/51)


الْمُسلمُونَ، فَرده عَلَيْهِ خَالِد بن الْوَلِيد، يَعْنِي بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَعند أبي دَاوُد عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن غُلَاما لِابْنِ عمر أبق إِلَى الْعَدو، فَظهر عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ، فَرده رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى ابْن عمر، وَلم يقسم.
استدلوا بِمَا روى مسلمة بن عَليّ عَن عبد الْملك بن ميسرَة عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " وجد رجل من الْمُسلمين بَعِيرًا لَهُ فِي الْمغنم قد أَصَابَهُ الْمُشْركُونَ، فَأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن وجدته فِي الْمغنم فَخذه، وَإِن وجدته قد قسم فَأَنت أَحَق بِهِ بِالثّمن إِن أردته، تَابعه الْحسن بن عمَارَة عَن عبد الْملك بِمَعْنَاهُ، وَالْحسن بن عمَارَة مَتْرُوك الحَدِيث، ومسلمة بن عَليّ الْخُشَنِي ضَعِيف الحَدِيث، قَالَ ابْن معِين: " لَيْسَ بِشَيْء ".
وَرَوَاهُ الْحسن بن عَطاء عَن عبد الْملك.
وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن أبي فَرْوَة من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا من وجد مَاله فِي الْفَيْء، قبل أَن يقسم فَهُوَ لَهُ، وَمن وجده بعد مَا قسم، فَلَيْسَ لَهُ شَيْء. وَإِسْحَاق قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: " لَا تحل الْكِتَابَة عَنهُ ".

(5/52)


وَرَوَاهُ ياسين بن معَاذ من أدْرك مَاله فَذكر مَعْنَاهُ، وَقَالَ فِي آخِره: " فَهُوَ أَحَق بِهِ بِالثّمن "، وَيَاسِين ضَعِيف.
وَرُوِيَ عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - من قَوْله نَحْو مَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقبيصَة لم يدْرك عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (318)
:

(5/53)


(فارغة)

(5/54)


وَمَكَّة فتحت صلحا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " فتحت عنْوَة ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن، وَمن أغلق عَلَيْهِ دَاره فَهُوَ آمن، وَمن دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن ". قَالَ: " فافترق النَّاس إِلَى دُورهمْ، وَإِلَى الْمَسْجِد ".
وَعِنْده عَن وهب قَالَ: " سَأَلت جَابِرا، هَل غنموا يَوْم الْفَتْح شَيْئا؟ قَالَ: لَا ".

(5/55)


وَعِنْده - وَهُوَ مخرج فِي كتاب مُسلم - عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما دخل مَكَّة سرح الزبير بن الْعَوام، وَأَبا عُبَيْدَة بن الْجراح، وخَالِد بن الْوَلِيد على الْخَيل، وَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَة، اهتف بالأنصار، قَالَ: اسلكوا هَذَا الطَّرِيق، فَلَا يشرفن لكم أحد إِلَّا أمنتموه، فَنَادَى مُنَاد لَا قُرَيْش بعد الْيَوْم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من دخل دَارا فَهُوَ آمن، وَمن ألْقى السِّلَاح فَهُوَ آمن، وَعمد صَنَادِيد قُرَيْش، فَدَخَلُوا الْكَعْبَة، فغص بهم، وَطَاف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصلى خلف الْمقَام، ثمَّ أَخذ بجنبتي الْبَاب، فَخَرجُوا، فَبَايعُوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْإِسْلَام "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (319)
:
وَمن سبي مِنْهُم من الْحَرَائِر فقد رقت، وَبَانَتْ من الزَّوْج، كَانَ مَعهَا، أَو لم يكن. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا سبيا مَعًا بقيا على النِّكَاح ".
وَدَلِيلنَا مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث يَوْم حنين جَيْشًا إِلَى أَوْطَاس، فَلَقوا عدوا، فقاتلوهم، وظهروا عَلَيْهِم، فَأَصَابُوا لَهُم سَبَايَا، فَكَأَن أُنَاسًا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تحرجوا من غشيانهم من أجل أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين،

(5/56)


فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} ، أَي: فهن لَهُم حَلَال إِذا انْقَضتْ عدتهن ".
وَقد روينَا فِيمَا تقدم (عَن الوداك) عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا حَائِل حَتَّى تحيض حَيْضَة.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن صاعد عَن الغامدي عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن مُسلم عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، أَو حَائِل حَتَّى تحيض ".
قَالَ لنا ابْن صاعد: " وَمَا قَالَ لنا فِي هَذَا الْإِسْنَاد أحد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - إِلَّا الغامدي "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (320)
:
والتفريق بَين الْأمة وَوَلدهَا قبل سنّ التَّمْيِيز فِي الْملك بِالْبيعِ وَالْقِسْمَة بَاطِل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِذا فرق بَينهمَا فِي

(5/57)


البيع كره، وَصَحَّ البيع ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه فرق بَين جَارِيَة وَوَلدهَا، فَنَهَاهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، ورد البيع، وَالله أعلم.

(5/58)


(كتاب الْجِزْيَة)

وَمن كتاب الْجِزْيَة:
(مَسْأَلَة) (321)
:
وَلَا تقبل الْجِزْيَة من أهل الْأَوْثَان، وَإِنَّمَا تقبل مِمَّن لَهُ كتاب، أَو شُبْهَة كتاب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " تُؤْخَذ من أهل الْأَوْثَان ". وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} . وَقَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} .
وَاسْتثنى أهل الْكتاب إِذا أعْطوا الْجِزْيَة، فَقَالَ فِي آيتها: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ}
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله الحَدِيث.

(5/59)


وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن بجالة بن عَبدة كتب كتابا لجزئ بن مُعَاوِيَة، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: " وَلم يكن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس حَتَّى شهد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذهَا من مجوس هجر ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن سُفْيَان عَن أبي سعيد بن المرباز عَن نصر بن عَاصِم فَذكر قصَّة فِيهَا عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنا أعلم النَّاس بالمجوس، كَانَ لَهُم علم يعلمونه، وَكتاب يدرسونه، وَإِن ملكهم سكر، فَوَقع على ابْنَته، أَو أُخْته، فَاطلع عَلَيْهِ بعض أهل مَمْلَكَته، فَلَمَّا صَحا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَد، فَامْتنعَ مِنْهُم، فَدَعَا أهل مَمْلَكَته، فَقَالَ: " تعلمُونَ دينا خير من دين آدم، قد كَانَ آدم ينْكح بنيه من بَنَاته، فَأَنا على دين آدم مَا يرغب بكم عَن دينه، فَبَايعُوهُ وقاتلوا الَّذين خالفوهم حَتَّى قتلوهم فَأَصْبحُوا، وَقد أسرى على كِتَابهمْ، فَرفع من بَين أظهرهم، وَذهب الْعلم والآي من صُدُورهمْ، قَالَ: " وهم أهل كتاب، وَقد أَخذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَبُو بكر، وَعمر - رَضِي الله عَنْهُم - مِنْهُم الْجِزْيَة ".
فَأَما حَدِيث بُرَيْدَة - رَضِي الله عَنهُ - فِي صَحِيح مُسلم قَالَ: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا بعث أَمِيرا على سَرِيَّة، أَو جَيش أوصاه بتقوى الله، وَقَالَ: " إِذا لقِيت عَدوك من الْمُشْركين، فادعهم إِلَى

(5/60)


إِحْدَى ثَلَاث خِصَال، أَو خلال فأيتهن أجابوك إِلَيْهَا فاقبل " ... الحَدِيث، وَفِيه: " فَإِن هم أَبَوا فادعهم إِلَى إِعْطَاء الْجِزْيَة، فَإِن أجابوك فاقبل مِنْهُم، وكف عَنْهُم ".
قَالَ أَصْحَابنَا: " هَذَا ورد فِي أهل الْكتاب (فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَاتل كفار قُرَيْش بِنَفسِهِ، وَيُقَاتل أهل الْكتاب) بِنَفسِهِ وبأصحابه، وَمَا بلغنَا أَنه دَعَا كفار قُرَيْش إِلَى إِعْطَاء الْجِزْيَة "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (322)
:
وَأَقل الْجِزْيَة دِينَار، والغني وَالْفَقِير فِيهِ سَوَاء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " هِيَ على ثَلَاث مَرَاتِب على الْفَقِير دِينَار، وعَلى الْمُتَوَسّط دِينَارَانِ، وعَلى الْغَنِيّ أَرْبَعَة دَنَانِير ".
وروى فِي ذَلِك خبر مُرْسل عَن إِبْرَاهِيم عَن مَسْرُوق قَالَا: " قَالَ معَاذ: بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْيمن، فَأمرنِي أَن آخذ من كل أَرْبَعِينَ بقرة ثنية، وَمن كل ثَلَاثِينَ (تبيعاً) ، أَو تبيعة، وَمن

(5/61)


كل حالم دِينَار أَو عدله معافر ".
وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله: " سَأَلت مُحَمَّد بن خَالِد، وَعبد الله بن عَمْرو بن مُسلم - وعدداً من عُلَمَاء أهل الْيمن، فكلهم حكى لي عَن عدد مضوا، كلهم ثِقَة - أَن صلح النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لأهل ذمَّة الْيمن على دِينَار كل سنة ".
وروى مَالك عَن نَافِع عَن سَالم مولى عمر أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - ضرب الْجِزْيَة على أهل الذَّهَب أَرْبَعَة دَنَانِير، وعَلى أهل الْوَرق أَرْبَعِينَ درهما، وَمَعَ ذَلِك أرزاق الْمُسلمين، وضيافة ثَلَاثَة أَيَّام، وَالله أعلم.

(5/62)


(مَسْأَلَة) (323)
:
وَمن دخل من أهل الْحَرْب دَار الْإِسْلَام للتِّجَارَة فللإمام أَن يضع عَلَيْهِ شَيْئا يَأْخُذهُ من أَمْوَال تِجَارَته على مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاده. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن كَانُوا هم يعشرُونَ أَمْوَال الْمُسلمين إِذا دخلُوا دَارهم أَخذ الإِمَام مِنْهُم ذَلِك، وَإِن كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ شَيْئا فَلَا يَأْخُذ مِنْهُم شَيْئا ". وَالله أعلم.

(5/63)


(كتاب الصَّيْد والذبائح)

وَمن كتاب الصَّيْد والذبائح:
(مَسْأَلَة) (324)
:
وَالْكَلب الْمعلم إِذا أكل مِمَّا اصطاد شَيْئا فَلَا يحرمه فِي أحدة الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " يحرمه "، وَهُوَ القَوْل الآخر.
وَجه قَوْلنَا: " لَا يحرمه " من طَرِيق الْخَبَر مَا روى أَبُو دَاوُد عَن أبي ثَعْلَبَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صيد الْكَلْب: " إِذا أرْسلت كلبك، وَذكرت اسْم الله عَلَيْهِ، فَكل وَإِن أكل مِنْهُ، وكل مَا ردَّتْ يدك ".
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن أَعْرَابِيًا - يُقَال

(5/64)


لَهُ: أَبُو ثَعْلَبَة - قَالَ: " يَا رَسُول الله، إنّ لي كلاباً مكلبة، فأفتني فِي صيدها، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن كَانَ لَك كلاب مكلبة، فَكل مَا أمسكن عَلَيْك، قَالَ: وَإِن أكل مِنْهُ، قَالَ: وَإِن أكل مِنْهُ ".
وَقَالَ مَالك: " حَدثنِي من سمع نَافِعًا يَقُول: قَالَ عبد الله - رَضِي الله عَنهُ -: وَإِن أكل (أَو لم يَأْكُل) ".
وَعَن مَالك أَنه بلغه أَن سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - سُئِلَ عَن الْكَلْب الْمعلم إِذا أَخذ ثمَّ أكل، فَقَالَ سعد: وَإِن لم يبقَ إِلَّا بضعَة وَاحِدَة. كَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: " إِذا أكل فَكل ".
وَعَن ابْن أبي ذِئْب عَن بكر بن عبيد الله عَن رجل - يُقَال لَهُ حميد بن مَالك - قَالَ: " سَأَلت سعيداً "، فَذكره بِمَعْنَاهُ.
وَوجه قَوْلنَا يحرم من طَرِيق الْخَبَر مَا روى الشّعبِيّ عَن عدي بن حَاتِم - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْكَلْب، فَقَالَ: " إِذا أرْسلت كلبك، فَذكرت اسْم الله فَكل، وَإِن أكل مِنْهُ فَلَا تَأْكُل؛

(5/65)


فَإِنَّهُ إِنَّمَا أمسك على نَفسه "، اتفقَا على صِحَّته بِهَذَا اللَّفْظ أَو بِمَعْنَاهُ.
وَعِنْدَهُمَا عَنهُ أَيْضا سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (عَن الْكَلْب) قلت: إِنَّا قوم نصيد بِهَذِهِ الْكلاب، فَقَالَ: إِذا أرْسلت كلابك المعلمة فَذكرت اسْم الله عَلَيْهَا، فَكل مِمَّا أمسكن عَلَيْك وَإِن قتلن، إِلَّا أَن يَأْكُل الْكَلْب، فَإِن أكل فَلَا تَأْكُل، فَإِنِّي أَخَاف أَن يكون إِنَّمَا أمسك على نَفسه، وَإِن خالطها كلاب من غَيرهَا فَلَا تَأْكُل ".
وَعند أبي دَاوُد عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا علمت من كلب أَو باز، ثمَّ أَرْسلتهُ، وَذكرت اسْم الله عَلَيْهِ فَكل مِمَّا أمسك عَلَيْك، قلت: وَإِن قتل قَالَ: إِذا قَتله وَلم يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا؛ فَإِنَّمَا أمْسكهُ عَلَيْك "، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " إِذا أكل الْكَلْب من الصَّيْد فَلَا تَأْكُل "، وَالله أعلم.

(5/66)


(مَسْأَلَة) (325)
:
لَو ذبح مُسلم وَلم يسم حلت ذَبِيحَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن ترك التَّسْمِيَة عمدا لم تحل ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - (أَن قوما قَالُوا: " يَا رَسُول الله، إنّ قوما يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أذكروا اسْم الله أم لَا؟ " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سموا الله عَلَيْهِ وكلوا "، كَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أبي أَشْعَث عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: " وَتَابعه الدَّرَاورْدِي عَن هِشَام، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو خَالِد الْأَحْمَر، ومحاضر، ومسلمة بن قعنب، وَيُونُس، وحاتم، وَعبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان، وَأُسَامَة بن حَفْص عَن هِشَام ".
وَرَوَاهُ مَالك وَحَمَّاد عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَلم يذكرَا عَائِشَة، وَهُوَ الْمَحْفُوظ من حَدِيث مَالك مُرْسل.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: وَقد أخبرنَا أَبُو عبد الله، وَأَبُو بكر، وَعبيد بن مُحَمَّد قَالُوا: أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب، حَدِيثا يحيى بن أبي طَالب، أخبرنَا عبد الْوَهَّاب، أخبرنَا مَالك بن أنس عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(5/67)


فَقَالُوا: " يَا رَسُول الله إنّ أُنَاسًا من أهل الْبَادِيَة يأتوننا بأجبان وَإِنَّا لَا نَدْرِي أسموا الله عَلَيْهَا؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سموا عَلَيْهَا، ثمَّ كلوا ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " كَذَا وجدته فِي كتابي فِي الثَّانِي من الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْفَوَائِد الْكَبِير ".
وَرُوِيَ عَن أبي العشراء الدَّارمِيّ - واسْمه أُسَامَة بن مَالك بن فهطم، وَقَالَ بَعضهم: عُطَارِد بن برز - عَن أَبِيه أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، أما يكون الذَّكَاة إِلَّا فِي الْحلق واللبة؟ فَقَالَ: " لَو طعنت فِي فَخذهَا لأجزأ عَنْك "، وَهَذَا ورد فِي المتوحش والمتردي، وَلم يشْتَرط التَّسْمِيَة.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا: قَالَ: " جَاءَت الْيَهُود إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: تَأْكُل مِمَّا قتلنَا، وَلَا تَأْكُل مِمَّا قتل الله فَأنْزل الله -

(5/68)


عز وجلّ - {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} الْآيَة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عدي بن حَاتِم - رَضِي الله عَنهُ - سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن المعراض، فَقَالَ: " إِذا أصبت بحده، وَذكرت اسْم الله فَكل، وَإِذا أصبت بعرضه فَإِنَّهُ وقيذ، فَلَا تَأْكُل، قلت: يَا رَسُول الله، أرسل كَلْبِي وَأَجد مَعَه كَلْبا آخر قد أَخذ، لَا أَدْرِي أَيهمَا أَخذ؟ قَالَ: فَلَا تَأْكُل، فَإِنَّمَا سميت على كلبك، وَلم تسم على غَيره ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا اصطاد كلبك المكلب، فَكل مِمَّا أمسك عَلَيْك، وَاذْكُر اسْم الله، وَأما مَا اصطاد كلبك الَّذِي لَيْسَ بمكلب، فأدركت ذَكَاته، فَكل مِنْهُ، وَمَا لم تدْرك ذَكَاته، فَلَا تَأْكُل مِنْهُ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (326)
:
وَإِذا رمى بِسَهْم إِلَى صيد، وَأرْسل كَلْبا على صيد فغابا عَنهُ، ثمَّ وجده مقتولاً لم يحل أكله على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَحل فِي القَوْل الثَّانِي، وَإِن لم يكن مقتفياً أَثَره. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن

(5/69)


كَانَ يقفو أَثَره حل أكله، وَإِن لم يكن مقتفياً أَثَره تَابعا لَهُ إِلَى أَن وجده لم يحل أكله اسْتِحْسَانًا ".
رُوِيَ عَن ابْن جُبَير عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - قلت: " يَا رَسُول الله، أرمي الصَّيْد، فأجده من الْغَد فِيهِ سهمي؟ قَالَ: إِذا وجدت فِيهِ سهمك، وَعلمت أَنه قَتله، وَلم تره فِيهِ أثر سبع فكله ".
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن أَبِيه أنّ أَعْرَابِيًا أَتَى إِلَى عبد الله بن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَقَالَ: " إِنِّي أرمي الصَّيْد، فأصمي وأنمي "، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: " كل مَا أصميت، ودع مَا أنميت، والإصماء أَن يقبضهُ، والإنماء أَن يسْتَقلّ بسهمه حَتَّى يغيب عَنهُ، فَوَجَدَهُ بعد ذَلِك بِيَوْم، أَو نَحْو ذَلِك ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: لَا أَدْرِي هَذَا التَّفْسِير من قَول من.
وَقد روى هَذَا الحَدِيث عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن الحكم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل

(5/70)


مَا أصميت، ودع مَا أنميت "، إِلَّا أَن عُثْمَان الْوَقَّاصِ ضَعِيف الحَدِيث، فَلَا يحْتَج بروايته، وَالْمَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوف.
وروى سُفْيَان عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ: " إِذا غَابَ عَن مصارعه فَلَا تَأْكُله ".
وَعند أبي دَاوُد حَدثنَا الْحُسَيْن حَدثنَا عبد الْأَعْلَى حَدثنَا دَاوُد عَن عَامر عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، أَحَدنَا يَرْمِي الصَّيْد، فيقتفي أَثَره الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة، ثمَّ يجده مَيتا وَفِيه سَهْمه، أيأكل؟ قَالَ: نعم إِن شَاءَ، أَو قَالَ: يَأْكُل إِن شَاءَ ".
قَالَ البُخَارِيّ: " وَقَالَ عبد الْأَعْلَى عَن دَاوُد فَذكره ".
وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عدي - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَإِن رميت بسهمك، فاذكر اسْم الله، وَإِن غَابَ عَنْك يَوْمًا، فَلم تَجِد فِيهِ إِلَّا أثر سهمك فَكل إِن شِئْت، وَإِن وجدته غريقاً فِي المَاء فَلَا تَأْكُل ".
قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذا أصَاب السهْم مَقْتَله بمرأى مِنْهُ، ثمَّ غَابَ عَنهُ، وَذَلِكَ يحل أكله.
وَقد رَوَاهُ عباد بن عباد عَن عَاصِم عَن الشّعبِيّ أنّ عدي بن حَاتِم

(5/71)


- رَضِي الله عَنهُ -: " سَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أرمي بسهمي فأصيب، فَلَا اقدر عَلَيْهِ إلاّ بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ "، قَالَ: " إِن قدرت عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِهِ أثر، وَلَا خدش إِلَّا رميتك فَكل، (وَإِن وجدت بِهِ أثرا غير رميتك فَلَا تَأْكُل "، أَو قَالَ: " فَلَا تطعمه ".
وَعند مُسلم عَن أبي ثَعْلَبَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا رميت الصَّيْد فَأَدْرَكته بعد ثَلَاث لَيَال، وسهمك فِيهِ فَكل) مَا لم ينتن ".
(مَسْأَلَة) (327)
:
وَإِذا ضرب الصَّيْد فَقَطعه قطعتين أكل، وَإِن كَانَت إِحْدَى القطعتين أقل من الْأُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِن أبان مِنْهُ الرَّأْس أكل الْجَمِيع، وَإِن أبان مِنْهُ يدا أَو رجلا فَلَا يُؤْكَل المبان مِنْهُ، وَيَأْكُل الَّذِي فِيهِ الرَّأْس ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا أَبَا ثَعْلَبَة، كل مَا ردَّتْ عَلَيْك قوسُك وكلبُك الْمعلم ويدُك فكُلْ، ذكيّ وَغير ذكي ".

(5/72)


وَمَا رُوِيَ عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: " قدم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة وَالنَّاس يحتون أسنام الْإِبِل ويقطعون أليات الْغنم، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا قطع من الْبَهِيمَة، وَهِي حَيَّة فَهُوَ ميتَة ". فَنحْن نقُول بِهِ، والخلال لم يَقع فِيهِ. وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (328)
:
وَلَا تقع الذَّكَاة بِالسِّنِّ وَالظفر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " تقع بهما الذَّكَاة إِذا كَانَا منفصلين ".
دليلنا مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ: عَن رَافع بن خديج - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا نلقى الْعَدو غَدا، وَلَيْسَ مَعنا مدى، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَرِنْ أَو أَعْجِلْ، مَا

(5/73)


أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَكُلُوا (مَا لم يكن) سنّ أَو ظفر، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَن ذَلِك، أما السن فَعظم، وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة " ... الحَدِيث.
واتفقا على صِحَة حَدِيث رَافع بن خديج، وَأَنه قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّا نرجو أَو نخشى أَن نلقى الْعَدو، وَلَيْسَ مَعنا مدى أفنذبح بالقصب؟ " فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أنهر الدَّم، وَذكر اسْم الله فَكُلُوا إِلَّا السن وَالظفر ". وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (329)
:
وَيجوز أكل السّمك الطافي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
وَلنَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْر هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ، والحل ميتَته.

(5/74)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ - غزونا وأميرنا أَبُو عُبَيْدَة، فجعنا جوعا شَدِيدا، فَألْقى الْبَحْر حوتاً لم نرَ مثله، فأكلنا مِنْهُ نصف شهر.
وَفِي رِوَايَة: " فال أَبُو عُبَيْدَة - رَضِي الله عَنهُ -: كلوا، فَلَمَّا قدمنَا ذكرنَا ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: رزق أخرجه الله، أطعمونا إِن كَانَ مَعكُمْ، فَأَتَاهُ بعضو فَأَكله ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنْهُم - عَنهُ قَالَ: " كلِ السمكةَ الطافية ".
وَرُوِيَ عَن زيد بن أسلم عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " السّمك ذكي، وَالْجَرَاد ذكي كُله ".

(5/75)


وَرُوِيَ أَيْضا فِي حل الطافية عَن أبي أَيُّوب وَأبي طَلْحَة، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ: الْجَرَاد وَالْحِيتَان، والكبد وَالطحَال ". وَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ: " أحل لنا، أَو حرم علينا " كَانَ ذَلِك مُسْندًا؛ إِذْ لَيْسَ أحد يُؤْخَذ عَنهُ ذَلِك إِلَّا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقد قيل عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رِوَايَة ضَعِيفَة عَن زيد بن أسلم روى ذَلِك بِمَعْنَاهُ الشَّافِعِي عَن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعبد الرَّحْمَن بن زيد مَتْرُوك الحَدِيث.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي أويس عَن عبد الرَّحْمَن، وَأُسَامَة، وَعبد الله بن زيد بن أسلم عَن أَبِيهِم مُسْندًا أَيْضا.
وروى أَبُو أَحْمد الزبيرِي عَن الثَّوْريّ عَن أبي الزبير عَن جَابر -

(5/76)


رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " إِذا طفا السّمك على المَاء (فَلَا تَأْكُله) ، وَإِذا جزر عَنهُ الْبَحْر فكله، وَمَا كَانَ على حافتيه فكله ".
قَالَ سُلَيْمَان بن أَحْمد: " لم يرفع هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان إِلَّا أَبُو أَحْمد "، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يسْندهُ عَن الثَّوْريّ غير أبي أَحْمد، وَخَالفهُ وَكِيع، والعدوي، وَعبد الرَّزَّاق، مؤئل، وَأَبُو عَاصِم، وَغَيرهم عَن الثَّوْريّ، فَرَوَوْه مَوْقُوفا وَهُوَ الصَّوَاب ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَعبيد الله بن عمر، وَابْن جريج، وَزُهَيْر، وَحَمَّاد بن سَلمَة، وَغَيرهم عَن أبي الزبير مَوْقُوفا.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي ذِئْب، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن أبي الزبير مَرْفُوعا، وَلَا يَصح رَفعه، عَن يحيى بن سليم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة مَعْنَاهُ، وَوَقفه غَيره عَن إِسْمَاعِيل وَهُوَ الصَّوَاب.
وَرَوَاهُ يحيى بن أبي أنيسَة عَن أبي الزبير مَوْقُوفا، وَيحيى مَتْرُوك الحَدِيث.
وَرُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا. قَالَ عَليّ بن عمر: " تفرد بِهِ عَن وهب، وَعبد الْعَزِيز ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ ".

(5/77)


وَرُوِيَ عَن بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن أبي الزبير عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " ودعوا مَا طفا "، وَبَقِيَّة فِيهِ نظر، ثمَّ يُعَارضهُ حَدِيثه يرْوى عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " كل مَا طفا على الْبَحْر ". وَالله اعْلَم.

(5/78)


(كتاب الضَّحَايَا)

من كتاب الضَّحَايَا:
(مَسْأَلَة) (330)
:
الْأُضْحِية غير وَاجِبَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " هِيَ وَاجِبَة على المقيمين ".
لنا حَدِيث أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا دخل الْعشْر، فَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي فَلَا يمس من شعره، وَلَا بشره شَيْئا "، أخرج مَعْنَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلَاث هن عليّ فَرَائض، وهنّ عَلَيْكُم تطوع: النَّحْر، وَالْوتر، وركعتا الْفجْر ".

(5/79)


وَعَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلّى للنَّاس يَوْم النَّحْر، فَلَمَّا فرغ من خطبَته وَصلَاته دَعَا بكبش فذبحه هُوَ بِنَفسِهِ، وَقَالَ: " بِسم الله وَالله أكبر، اللهمّ عني وَعَمن لم يضح من أمّتي ".
وَعَن أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: " إِنِّي لأترك الْأَضْحَى، وَإِنِّي مُوسر كَرَاهَة أَن يرى جيراني وَأهل أَنه عَليّ حتم ".
وَعَن أبي سريحَة قَالَ: " أدْركْت أَبَا بكر وَعمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَكَانَا لي جارين، وَكَانَا لَا يضحيان ".
وَعَن حُذَيْفَة بن أسيد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لقد رَأَيْت أَبَا بكر وَعمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - يحجان وَمَا يضحيان - أَرَادَ أَن يستنّ بهما - ثمَّ أتيتكم فحملتموني على الجفا بَعْدَمَا فقهت السّنة ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " لم تكْتب الْأَضْحَى عَلَيْكُم، فَمن شَاءَ فليضح ".

(5/80)


وَعَن عِكْرِمَة أنّ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ إِذا حضر الْأَضْحَى أعْطى مولى لَهُ دِرْهَمَيْنِ، " اشْتَرِ بهما لَحْمًا، وَأخْبر النَّاس أَنه أضحى ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن يزِيد، وَعَن حميد بن بشر عَن عبد الله بن عون عَن عَامر بن أبي رَملَة قَالَ: " أَنبأَنَا مخْنَف بن سليم قَالَ: " وَنحن وقُوف مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إنّ على أهل كل بَيت فِي كل عَام أضْحِية وعتيرة، أَتَدْرُونَ مَا العتيرة؟ هَذِه الَّتِي يَقُول النَّاس الرجبية ".
وَرُوِيَ عَن (عبد الله) بن شُرَيْح عَن عبد الله الْقِتْبَانِي عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَرْفُوعا: " من وجد سَعَة فَلم يذبح فَلَا يقربن مصلانا "، تَابعه زيد بن الْحباب عَن الْقِتْبَانِي.
وَرَوَاهُ جَعْفَر بن ربيعَة وَغَيره عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج عَن أبي

(5/81)


هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - مَوْقُوفا، وَهُوَ الصَّوَاب.
وَرَوَاهُ يحيى (بن سعيد الْعَطَّار عَن الْقِتْبَانِي مَرْفُوعا: " من قدر على سَعَة فَلم يضح ... "، وَيحيى دمشقي ضَعِيف، وَالله أعلم) .
(مَسْأَلَة) (331)
:
وَلَا وَقت للذبح يَوْم الْأَضْحَى إِلَّا فِي قدر صَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذَلِكَ حِين حلت الصَّلَاة، وَقدر خطبتين خفيفتين إِذا كَانَ هَذَا فقد حلّ الذّبْح لكل أحد حَيْثُ كَانَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يعْتَبر فعل الصَّلَاة ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تذبحوا إِلَّا مُسِنَّة إِلَّا أَن يعسر عَلَيْكُم، فتذبحوا جَذَعَة من الضَّأْن ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الْبَراء - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنّ أول مَا نبدأ بِهِ فِي يَوْمنَا هَذَا أَن نصلي، ثمَّ ترجع،

(5/82)


فننحر، فَمن فعل ذَلِك فقد أصَاب سنتنا، وَمن نحر قبل الصَّلَاة فَإِنَّمَا هُوَ لحم قدم لأَهله، لَيْسَ من النّسك فِي شَيْء ".
وَعند البُخَارِيّ عَن جُنْدُب بن سُفْيَان البَجلِيّ شهِدت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم النَّحْر يَقُول: " من ذبح قبل أَن يُصَلِّي فليعد مَكَانهَا، وَمن لم يذبح فليذبح ".
وَعند مُسلم عَنهُ شهِدت الْأَضْحَى مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَقَامَ رجل فَقَالَ: إِن نَاسا ذَبَحُوا قبل الصَّلَاة) فَقَالَ: " من ذبح مِنْكُم قبل الصَّلَاة فليعد ذَبِيحَته، وَمن لَا فلذبح على اسْم الله "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (332)
:
وَإِذا قطع الْحُلْقُوم والمرئ فقد حل لَهُ، وَإِن لم يقطع الودجين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ قطع الثَّلَاث من الْأَرْبَع من الْحُلْقُوم والمريء والودجين ".
لنا مَا اتفقَا على صِحَّته عَن رَافع بن خديج - رَضِي الله عَنهُ - قُلْنَا: " يَا رَسُول الله، إِنَّا لاقو الْعَدو غَدا، وَلَيْسَ مَعنا مدى، قَالَ:

(5/83)


مَا أنهر الدَّم، وَذكر اسْم الله فَكل، لَيْسَ السن وَالظفر ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " الذَّكَاة فِي الْحلق واللبة، وَلَا تعجلوا الْأَنْفس أَن تزهق "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (333)
:
ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه، إِذا وجد مَيتا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يحل إِلَّا بالذكاة كالأم ".
عِنْد أبي دَاوُد عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه ".
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْجَنِين، فَقَالَ: كلوه إِن شِئْتُم ".
وَفِي رِوَايَة: قُلْنَا: " يَا رَسُول الله، نَنْحَر النَّاقة، ونذبح الْبَقَرَة وَالشَّاة فنجد فِي بَطنهَا الْجَنِين، أنلقيه أم نأكله؟ " قَالَ: " كلوه إِن شِئْتُم، فَإِن ذَكَاته ذَكَاة أمه ".

(5/84)


وروى مَالك عَن نَافِع أنّ عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - كَانَ يَقُول: " إِذا نحرت النَّاقة فذكاة مَا فِي بَطنهَا بذكاتها إِذا كَانَ قد تمّ خلقه، وَتمّ شعره، فَإِذا خرج من بَطنهَا - يَعْنِي حَيا - ذبح حَتَّى يخرج الدَّم من جَوْفه ".
وَكَذَا رَوَاهُ مَالك عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط عَن سعيد بن الْمسيب أَنه كَانَ يَقُول: " ذَكَاة مَا فِي بطن الذَّبِيحَة فِي ذَكَاة أمه، إِذا كَانَ قد نبت شعره، وتّم خلقه ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا فِي الْجَنِين: " ذَكَاته ذَكَاة أمه، أشعر أَو لم يشْعر "، وَمَا مضى أصح مِنْهُ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (334)
:
وَلحم الضبع والثعلب حَلَال يُؤْكَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يُؤْكَل ".
رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمَارَة قلت لجَابِر: " آكل الضبع؟ "، قَالَ: " نعم "، قلت: " أصيد هِيَ؟ "، قَالَ: " نعم "، قلت:

(5/85)


" أسمعت ذَلِك من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ " قَالَ: " نعم " قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: " سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: " هُوَ حَدِيث صَحِيح ".
وَعَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الضبع صيد، فَإِذا أَصَابَهُ الْمحرم فَفِيهِ جَزَاء كَبْش مسن ويؤكل ". قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " هَذَا الحَدِيث صَحِيح ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع ".
(وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن كل ذِي نَاب من السبَاع) ، وكل ذِي مخلب من الطير.

(5/86)


وروى ابْن عدي بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - النَّهْي عَن الضَّب والضبع، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (335)
:
وَأكل الضَّب مُبَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: إِنَّه مَكْرُوه ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَن خَالِدا بن الْوَلِيد دخل مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيت مَيْمُونَة زوج النَّبِي ّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأتي بضب محنوذ فَأَهوى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَده، فَقَالَ بعض النسْوَة اللَّاتِي فِي بَيت مَيْمُونَة زوج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخبروا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا يُرِيد أَن يَأْكُل، فَقَالُوا: هُوَ ضَب، فَرفع يَده، فَقلت: أحرام هُوَ؟ قَالَ: لَا وَلكنه لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافُه قَالَ: فاجتررته، فأكلته وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينظر "، وَعند مُسلم " فَلم ينهني ".
وَعِنْدَهُمَا عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ نَاس من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيهم سعد، فَذَهَبُوا يَأْكُلُون من لحم، فنادتهم امْرَأَة من بعض أَزوَاج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه لحم ضَب فأمسكوا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كلوا وأطعموا فَإِنَّهُ حَلَال " أَو قَالَ: " لَا بَأْس بِهِ، وَلكنه لَيْسَ من طَعَام قومِي ".

(5/87)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَهْدَت أم جُنَيْد خَالَة ابْن عَبَّاس إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقطا وَسمنًا وأضبا، فَأكل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الأقط وَالسمن، وَترك الأضب تقذراً، وَأكل على مائدة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَو كَانَ حَرَامًا مَا أكل على مائدته.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الضَّب، فَقَالَ: " لست بآكله، وَلَا محرمه ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي سعيد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، إِنَّا بِأَرْض مضبة، فَمَا تَأْمُرنَا، أَو فَمَا تفتينا؟ قَالَ: " ذكر لي أنّ أمة من بني إِسْرَائِيل مسخت، فَلم يَأْمر، وَلم ينْه "، قَالَ أَبُو سعيد: " فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك قَالَ عمر: إنّ الله لينفع بِهِ غير وَاحِد، وَإنَّهُ لطعام عَامَّة هَذِه الرعاء، وَلَو كَانَ عِنْدِي لطعمته، إِنَّمَا عافه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وروى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ضَمْضَم عَن شُرَيْح عَن أبي رَاشد عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن أكل لحم الضَّب "، وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم،

(5/88)


وَلَا بِعَارِض بِهَذِهِ الرِّوَايَة رِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (336)
:
لحم الْفرس مَأْكُول مُبَاح من غير كَرَاهِيَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله: " إِنَّه مَكْرُوه فِي رِوَايَة، وَحرَام فِي رِوَايَة ".
دليلنا مَا فِي الصَّحِيح عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعند مُسلم أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى يَوْم خَيْبَر عَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَأذن فِي لُحُوم الْخَيل ".
وَفِي صَحِيح مُسلم أكلنَا زمن خَيْبَر الْخَيل وحمر الْوَحْش، وَنهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْحمار الأهلي.
وَعِنْده عَن أَسمَاء بنت أبي بكر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَت: " أكلنَا لحم فرس على عهد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَعند البُخَارِيّ عَنْهَا قَالَت: " نحرنا فرسا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأكلناه ".

(5/89)


وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود أنّه أكل لحم الْفرس، وروينا عَن الْحسن وَغَيره.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن بَقِيَّة عَن ثَوْر بن يزِيد عَن صَالح بن يحيى بن الْمِقْدَام. ابْن معدي كرب عَن أَبِيه عَن جده عَن خَالِد - رَضِي الله عَنهُ - " أَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن أكل لُحُوم الْخَيل ".
كَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن عمر الواقداني عَن ثَوْر إِلَّا أَنه قَالَ: " نهى يَوْم خَيْبَر عَن أكل لُحُوم الْخَيل ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " حَدثنَا أَبُو سهل قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن هَارُون يَقُول: لَا يعرف صَالح بن يحيى، وَلَا أَخُوهُ إِلَّا بجده، وَهَذَا ضَعِيف.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله -: " وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن هَارُون الْبَلْخِي عَن ثَوْر عَن يحيى بن الْمِقْدَام عَن أَبِيه عَن خَالِد "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا إِسْنَاد مُضْطَرب "، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: " لَا يَصح هَذَا؛ لِأَن خَالِدا أسلم بعد فتح خَيْبَر ".

(5/90)


وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد آخر عَن الْعِرْبَاض - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى يَوْم خَيْبَر عَن كل ذِي نَاب من السبَاع، وَعَن كل ذِي مخلب من الطير، وَعَن الْمُجثمَة، وَعَن لُحُوم الْخَيل، وَعَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَأَن تُوطأ الحبالى حَتَّى يَضعن مَا فِي بطونهن "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (337)
:
لَا يجوز بيع الزَّيْت النَّجس. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يجوز ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن مَيْمُونَة - رَضِي الله عَنْهَا - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن وَمَاتَتْ فِيهِ، فَقَالَ: " ألقوها وَمَا حولهَا، وكلوه ".

(5/91)


وَعند أبي دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذا وَقعت الْفَأْرَة فِي السّمن، فَإِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا فِي السّمن الْمَائِع والودك قَالَ: " فانتفعوا بِهِ، وَلَا تأكلوه ".
وَعَن أبي مُوسَى - رَضِي الله عَنهُ - فِي الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، فَقَالَ: " بيعوا وبينوا، وَلَا تَبِيعُوا من مُسلم ".
وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " استصبحوا بِهِ، وادهنوا بِهِ أدمكم "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (338)
:
وَمن اضطرّ إِلَى الْميتَة حل لَهُ أَن يتَنَاوَل مِنْهَا مِقْدَار الشِّبَع فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْمُزنِيّ وَأَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يحل لَهُ مِنْهَا إِلَّا قدر مَا يسد الرمق ".
رُوِيَ عَن جَابر بن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أنّ رجلا كَانَت لَهُ

(5/92)


نَاقَة بِالْحرَّةِ، فَدَفعهَا إِلَى رجل، وَقد كَانَت مَرضت، فَلَمَّا أَرَادَت أَن تَمُوت، قَالَت لَهُ امْرَأَته: لَو نحرتها، فأكلنا مِنْهَا، فَأبى وأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: أعندكم مَا يغنيكم قَالَ: لَا قَالَ: فكلوها، وَكَانَت قد مَاتَت قَالَ: فأكلنا من ودكها ولحمها وشحمها نَحوا من عشْرين يَوْمًا، ثمَّ لَقِي صَاحبهَا، فَقَالَ لَهُ: أَلا كنت نحرتها، قَالَ: إِنِّي كنت استحييت مِنْك ".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شريك عَن سماك عَن جَابر.
رُوِيَ عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رجلا قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنَّا نَكُون بِالْأَرْضِ فتصيبنا بهَا المخمصة، فَمَتَى تحل لنا الْميتَة؟ فَقَالَ: مَا لم تصطبحوا، أَو تغتبقوا، أَو تحتبئوا بهَا بقلا، فشأنكم بهَا "، رَوَاهُ أَبُو عبيد عَن مُحَمَّد بن كثير عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن حسان بن عَطِيَّة عَنهُ، وَالله أعلم.

(5/93)


(فارغة)

(5/94)


(كتاب السَّبق وَالرَّمْي)

من كتاب السَّبق وَالرَّمْي:
(مَسْأَلَة) (339)
:
والمسابقة جَائِزَة على شَرط المَال على التَّفْصِيل الَّذِي ذكره فِي الْمَذْهَب. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا غير جَائِزَة على شَرط المَال بِحَال ".
روى الشَّافِعِي عَن ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع بن أبي نَافِع عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا سبق إِلَّا فِي نصل أَو حافر أَو خف ".

(5/95)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَابق بَين الْخَيل الَّتِي قد أضمرت من الحفياء، وَكَانَ أمدها ثنية الْوَدَاع، وسابق بَين الْخَيل الَّتِي لم تضمر من الثَّنية إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق (وأنّ عبد الله بن عمر فِيمَن سَابق بهَا) .
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " من أَدخل فرسا بَين فرسين وَلَا يَأْمَن أَن يسْبق فَلَيْسَ بقمار، وَمن أَدخل فرسا بَين فرسين وَقد أَمن أَن يسْبق فَهُوَ قمار "، قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ".
وَرُوِيَ عَن أبي الْوَلِيد قَالَ: " أرسل الْحَاكِم بن أَيُّوب الْخَيل يَوْمًا، فَقُلْنَا: لَو أَتَيْنَا أنس بن مَالك، فأتيناه فَسَأَلْنَاهُ أَكُنْتُم تراهنون على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ فَقَالَ: نعم، لقد رَاهن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فرس لَهُ يُقَال لَهَا سبخَة - فَجَاءَت سَابِقَة، فهش لذَلِك أعجبه ".

(5/96)


وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدِهِ عَن أبي الْوَلِيد لمازة بن زبار فَذكر قصَّة، وَقَالَ: " قُلْنَا: يَا أَبَا حَمْزَة، أَكُنْتُم تراهنون، أَو كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالَ: نعم، وَالله لقد رَاهن على فرس لَهُ يُقَال لَهَا سبخَة، فَجَاءَت سَابِقَة، فبهش لذَلِك وَأَعْجَبهُ "، وَالله أعلم.

(5/97)


(فارغة)

(5/98)


(كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور)

وَمن كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور:
(مَسْأَلَة) (340)
:
وَلَا كَفَّارَة على من حلف باليهودية، أَو بالنصرانية، أَو بِالْبَرَاءَةِ من الله، أَو من الْإِسْلَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْكَفَّارَة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ثَابت بن الضَّحَّاك - رَضِي الله عَنهُ - عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من حلف بِملَّة غير الْإِسْلَام كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمن قتل نَفسه بِشَيْء عذب بِهِ يَوْم الْقِيَامَة فِي نَار جَهَنَّم، وَلعن الْمُؤمن كقتله، وَمن رمى مُؤمنا بِكفْر فَهُوَ كقتله ".

(5/99)


وَرُوِيَ عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من حلف بِاللات والعزى فَلْيقل: لَا إِلَه إلاّ الله "، وَلم ينْسبهُ إِلَى الْكفْر، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (341)
:
وَالْكَفَّارَة وَاجِبَة فِي يَمِين الْغمُوس. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا كَفَّارَة ".
قَالَ الله - عزّ وجلّ: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن

(5/100)


يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَة.
وَعند أبي دَاوُد عَن عَطاء اللَّغْو فِي الْيَمين، قَالَ: " قَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هُوَ كَلَام الرجل فِي بَيته: كلا وَالله، بل وَالله ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " لَغْو الْيَمين قَول الْإِنْسَان: لَا وَالله، وبلى وَالله "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه عَنْهَا فِي هَذِه الْآيَة قَالَت: " هُوَ قَول الرجل: لَا وَالله، وبلى وَالله ".
وَرُوِيَ عَن عَبْثَر عَن لَيْث عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن

(5/101)


عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْأَيْمَان أَرْبَعَة: يمينان يكفران، ويمينان لَا يكفران، الرجل يحلف وَالله لَا يفعل كَذَا وَكَذَا فيفعل، وَالرجل يَقُول: وَالله أفعل فَلَا يفعل، وَأما اليمينان اللَّتَان لَا يكفران فَإِن الرجل يحلف مَا فعلت كَذَا وَكَذَا، وَقد فعله، وَالرجل يحلف لقد فعلت كَذَا وَكَذَا، وَلم يَفْعَله ".
وَخَالفهُ سُفْيَان فَرَوَاهُ عَن لَيْث - هُوَ ابْن أبي سليم - عَن زِيَاد بن كُلَيْب عَن إِبْرَاهِيم من قَوْله، وَلَيْث وَحَمَّاد غير مُحْتَج بهما فِي الصَّحِيح.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن فراس عَن الشّعبِيّ (عَن عبد الله بن عَمْرو - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي ّ فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا الْكَبَائِر؟ قَالَ: الْإِشْرَاك بِاللَّه، قَالَ: ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثمَّ الْيَمين الْغمُوس، قَالَ: قلت لعامر: يَعْنِي الشّعبِيّ) - مَا الْيَمين الْغمُوس؟ قَالَ: الَّذِي يقتطع مَال امْرِئ مُسلم بِيَمِين وَهُوَ فِيهَا كَاذِب "، والمحتج بِهَذَا اللَّفْظ وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الطَّالِب الْبَيِّنَة، فَلم تكن لَهُ بَيِّنَة، فاستحلف الْمَطْلُوب، فَحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، فَقَالَ

(5/102)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بلَى قد فعلت، وَلَكِن غفر لَك بإخلاص قَول لَا إِلَه إلاّ الله ".
وروى أَبُو حنيفَة عَن يحيى بن أبي كثير عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَ شَيْء أطيع الله فِيهِ أعجل ثَوابًا من صلَة الرَّحِم، وَلَيْسَ شَيْء أعجل عقَابا من الْبَغي وَقَطِيعَة الرَّحِم وَالْيَمِين الْفَاجِرَة تدع الديار بَلَاقِع ". وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (342)
:
وَكَفَّارَة الْيَمين قبل الْحِنْث جَائِزَة وَاقعَة موقعها. وَقَالَ أَبُو

(5/103)


حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا تُجزئه ".
وَدَلِيلنَا من الْخَبَر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نفر من الْأَشْعَرِيين أستحمله فَقَالَ: وَالله لَا أحملكم "، فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: " فأتينا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكرنَا ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: مَا أَنا حملتكم، بل الله حملكم، إِنِّي وَالله - إِن شَاءَ الله - لَا أَحْلف على يَمِين فَأرى خيرا مِنْهَا إِلَّا كفرت عَن يَمِيني، وأتيت الَّذِي هُوَ خير ".
وَعند مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من حلف على يَمِين، فَرَأى خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه وليفعل ".
وَعِنْده عَن عدي بن حَاتِم - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا حلف أحدكُم على يَمِين، فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفرها، وليأتِ الَّذِي هُوَ خير ".
وَعِنْدَهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا عبد الرَّحْمَن، لَا تسْأَل الْإِمَارَة؛ فَإنَّك إِن أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة وكلت إِلَيْهَا، وَإِن أعطيتهَا عَن غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا، وَإِذا

(5/104)


حَلَفت على يَمِين فَرَأَيْت غَيرهَا خيرا مِنْهَا فَكفر عَن يَمِينك، وائتِ الَّذِي هُوَ خير ".
وَعند مُسلم عَنهُ أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " يَا عبد الرَّحْمَن، إِذا حَلَفت على يَمِين، فَرَأَيْت غَيرهَا خيرا مِنْهَا فَكفر عَن يَمِينك، ثمَّ ائتِ الَّذِي هُوَ خير ".
وَعند البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَ كَانَ أَبُو بكر إِذا حلف لَا يَحْنَث، حَتَّى نزلت الْكَفَّارَة، قَالَت: " فَقَالَ أَبُو بكر: لَا أَحْلف على يَمِين فَأرى خيرا مِنْهَا إِلَّا كفّرت عَن يَمِيني، وأتيت الَّذِي هُوَ خير ".
وَرُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّه كَانَ رُبمَا كفر يَمِينه قبل أَن يَحْنَث، وَرُبمَا كفر بَعْدَمَا يَحْنَث ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: أَحَادِيث أبي مُوسَى، وعدي، وَأبي هُرَيْرَة وَأَظنهُ قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن روى حَدِيث كل وَاحِد مِنْهُم مَا دلّ على الْحِنْث قبل الْكَفَّارَة، وَبَعضهَا مَا دلّ على الْكَفَّارَة قبل الْحِنْث، وَأَكْثَرهم قَالُوا: " فليكفر يَمِينه، وليأت الَّذِي هُوَ خير "، وَالله أعلم.

(5/105)


(مَسْأَلَة) (343)
:
وَلَو حلف: " ليقضينه حَقه إِلَى حِين " فَلَيْسَ بِمَعْلُوم؛ لِأَنَّهُ يَقع على مُدَّة الدُّنْيَا وَيَوْم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " الْحِين سِتَّة أشهر ".
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " الْحِين قد يكون غدْوَة وَعَشِيَّة ".

(5/106)


وَعَن قَتَادَة فِي قَوْله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} قَالَ: " بعد الْمَوْت "، وَقَالَ: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِين] } ثَلَاثَة أَيَّام، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} ، قَالَ: " كل سِتَّة أشهر ".
وَعَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ: " نرى الْحِين شَهْرَيْن ".
وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: " سِتَّة أشهر "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (344)
:
وَإِذا حلف لَا يَأْكُل خبْزًا بأدم، فَأَكله مَعَ التَّمْر حنث. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " لَا يَحْنَث ".
رُوِيَ عَن يُوسُف بن عبد الله بن سَلام - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " رَأَيْت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذ كسرة من خبز شعير، فَوضع عَلَيْهَا تَمْرَة، وَقَالَ: هَذِه أدام هَذِه فَأكلهَا ".

(5/107)


وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب السّنَن بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنه لم يقل: " فَأكلهَا ". وَالله أعلم.
(مسالة) (345)
:
وَلَو حلف ليضربن عَبده مائَة سَوط، فجمعها فَضَربهُ بِحَيْثُ يمسهُ الْجَمِيع بر فِي يَمِينه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يبر ".
وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة، قَالَ الله - عزّ وجلّ: {وخُذْ بِيَدِكَ ضَغْثاً فَاضْرِبْ وَلاَ تَحْنُثْ} وَضرب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأثكال النّخل فِي الزِّنَا.
وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف عَن أَبِيه قَالَ: " أَخذ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مقْعدا زنا، فَضَربهُ بأثكال النّخل ".
وَعند أبي دَاوُد عَنهُ عَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْأَنْصَار أَنه اشْتَكَى رجل مِنْهُم حَتَّى أضنى، فَذكر قصَّة فِي زِنَاهُ، قَالَ: " فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يَأْخُذُوا لَهُ مائَة شِمْرَاخ، فَيَضْرِبُونَهُ بهَا ضَرْبَة وَاحِدَة "، وَالله أعلم.

(5/108)


(مَسْأَلَة) (346)
:
وَإِن قَالَ: " إِن كلمت فلَانا فَمَالِي فِي سَبِيل الله، أَو صَدَقَة، أَو لله عَليّ أَن أحج، وَمَا أشبه ذَلِك " فَعَلَيهِ كَفَّارَة يَمِين فِي ظَاهر الْمَذْهَب، وَقد قيل: " إِنَّه بَينهمَا يُخَيّر، وكل وَاحِد مِنْهُمَا كَاف مكفر ". وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " عَلَيْهِ الْوَفَاء بِمَا قَالَ ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن عقبَة بن عَامر - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة يَمِين ".
وَعند أبي دَاوُد عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كَفَّارَة يَمِين، وَمن نذر نذرا لَا يطيقه فكفارته كَفَّارَة يَمِين ".
وَعِنْده عَن ابْن الْمسيب أَن أَخَوَيْنِ من الْأَنْصَار كَانَ بَينهمَا مِيرَاث، فَسَأَلَ أَحدهمَا صَاحبه الْقِسْمَة، (فَقَالَ " إِن عدت تَسْأَلنِي الْقِسْمَة) فَكل مَالِي فِي رتاج الْكَعْبَة "، فَقَالَ لَهُ عمر - رَضِي الله

(5/109)


عَنهُ: " إنّ الْكَعْبَة غنية عَن مَالك؛ كفر عَن يَمِينك، وكلم أَخَاك، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " لَا يَمِين عَلَيْك، وَلَا نذر فِي مَعْصِيّة الرب، وَلَا فِي قطيعة الرَّحِم، وَلَا فِيمَا لَا تملك ". وروى الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدِهِ عَن أبي رَافع أنّ مولاته أَرَادَت أَن تفرق بَينه وَبَين امْرَأَته، فَقَالَت: " هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّة، وَهِي يَوْمًا نَصْرَانِيَّة، وكل مَمْلُوك لَهَا حر، وكل مَال لَهَا فِي سَبِيل الله، وَعَلَيْهَا الْمَشْي إِلَى بَيت الله إِن لم تفرق بَينهمَا "، فَسَأَلت عَائِشَة، وَابْن عمر، وَابْن عَبَّاس، وَحَفْصَة، وَأم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهُم، فكلهم قَالَ لَهَا: " أَتُرِيدِينَ أَن تكون مثل هاروت وماروت، وأمروها أَن تكفر يَمِينهَا، وتخلي بَينهمَا ".
وَرُوِيَ عَن عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تذر فِي مَعْصِيّة الله، وكفارته كَفَّارَة يَمِين " وَالله أعلم.

(5/110)


(مَسْأَلَة) (347)
:
وَلَو قَالَ: " إِن شفا الله مريضي فَللَّه عليَّ أَن أنحر وَلَدي " لم ينْعَقد نَذره. وَقد حكى لي الْفَقِيه أَبُو الْفَتْح - رَحمَه الله - عَن الرّبيع أنّه حكى هَذِه الْمَسْأَلَة، ثمَّ قَالَ: " وَفِيه قَول آخر: إِنَّه (يلْزمه) كَفَّارَة يَمِين ". قَالَ الْفَقِيه: " وَقد رضيه صَاحب التَّقْرِيب ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " والْآثَار تدل على ذَلِك ". وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد - رحمهمَا الله -: " يلْزمه ذبح شَاة ".

(5/111)


وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن طَلْحَة عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه، وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ "، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَن أبي عَاصِم وَأبي نعيم عَن مَالك بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد عَن أبي أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن حصن عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا وَفَاء لنذر فِي مَعْصِيّة الله، وَلَا وَفَاء لنذر فِيمَا لَا يملك العَبْد، أَو قَالَ: ابْن آدم "، رَوَاهُ (البُخَارِيّ وَمُسلم) فِي الصَّحِيح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ.
وروى مَالك عَن يحيى بن سعيد قَالَ: " سَمِعت الْقَاسِم بن مُحَمَّد يَقُول: أَنْت امْرَأَة إِلَى عبد الله بن عَبَّاس، فَقَالَت: إِنِّي نذرت أَن أنحر ابْني، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تنحري ابْنك، وكفري عَن يَمِينك، فَقَالَ شيخ عَنهُ ابْن عَبَّاس جَالس، وَكَيف يكون فِي هَذَا كَفَّارَة؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِن الله - عزّ وَجل - يَقُول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسائِهِمْ} ، ثمَّ جعل فِيهِ من الْكَفَّارَة مَا قد رَأَيْت ".

(5/112)


وروينا فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - أَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نذر فِي مَعْصِيّة الله، وكفارته كَفَّارَة يَمِين "، وَهُوَ مُوَافق لفتوى ابْن عَبَّاس.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّه قَالَ لرجل نذر أَن ينْحَر نَفسه، وهمّ يفعل ذَلِك وَيحل: " لقد أردْت أَن تحل ثَلَاث خِصَال: أَن تحل بَلَدا حَرَامًا، وَأَن تقطع رحما حَرَامًا نَفسك أقرب الْأَرْحَام إِلَيْك، وَأَن تسفك دَمًا حَرَامًا، أتجد مائَة من الْإِبِل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَاذْهَبْ فانحر فِي كل عَام ثَلَاثًا لَا يفْسد اللَّحْم ".
وروى سُفْيَان عَن عبد الْملك بن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رجلا أَتَاهُ فَقَالَ: " إِنِّي نذرت أَن أنحر نَفسِي "، فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وَأمره بكبش، فَسئلَ عَطاء أَيْن يذبح الْكَبْش؟ قَالَ: " بِمَكَّة "، وَالله أعلم.

(5/113)


مَسْأَلَة (348)

(5/114)


وَمن نذر أَن يمشي إِلَى بَيت الله الْحَرَام لزمَه إِن قدر على الْمَشْي فِي أحد الْقَوْلَيْنِ، وَإِن لم يقدر ركب وأهرق دَمًا احْتِيَاطًا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ أَن يركب، وَإِن قدر على الْمَشْي ويهريق دَمًا ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى رجلا يهادي بَين ابنيه، فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: " نذر أَن يمشي، فَقَالَ: إنّ الله - عزّ وجلّ - لَغَنِيّ عَن تَعْذِيب هَذَا نَفسه، وَأمره أَن يركب ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن عقبَة بن عَامر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نذرت أُخْتِي أَن تمشي إِلَى بَيت الله، فأمرتني أَن أستفتي لَهَا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فاستفتيت النَّبِي ّ، فَقَالَ: لتمش ولتركب ".

(5/115)


وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أنّ أُخْت عقبَة ابْن عَامر - رَضِي الله عَنْهُمَا - نذرت أَن تمشي إِلَى الْبَيْت، فَأمرهَا النبيّ أَن تركب وتهدي هَديا ".
وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن - رَضِي الله عَنهُ - فليهد هَديا وليركب، رَوَاهُ الْحسن عَنهُ فِي حَدِيث عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ: " فَإِذا نذر أحدكُم أَن يحجّ مَاشِيا فليهد هَديا وليركب ". وَفِي هَذَا نظر، فالمحدثون يَقُولُونَ: " الْحسن لم يسمع من عمرَان ". فَهُوَ مُرْسل.
وَرُوِيَ عَن جَعْفَر بن عون عَن يحيى بن سعيد عَن عبيد الله بن زحر عَن أبي سعيد الرعيني عَن عبد الله بن مَالك عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " نذرت أُخْتِي أَن تحج مَاشِيَة غير مختمرة قَالَ: فَذكرت لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مر أختك، فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثَلَاثَة أَيَّام "، وَتَابعه يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَذكر سَماع كل وَاحِد من الروَاة عَن

(5/116)


صَاحبه إِلَى عقبَة. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن جريج قَالَ: " كتب إِلَى يحيى بن سعيد فَذكره ".
وروى ابْن وهب عَن مَالك، وَعبد الله بن عمر عَن عُرْوَة بن أذينة قَالَ: " خرجت مَعَ جدة لي عَلَيْهَا مشي حَتَّى إِذا كُنَّا بِبَعْض الطَّرِيق عجزت، فَأرْسلت مولاة لَهَا إِلَى عبد الله بن عمر تسأله، فَخرجت مَعهَا، فَسَأَلت ابْن عمر فَقَالَ: مرها لتركب، ثمَّ لتمشي من حَيْثُ عجزت ".
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك بِنَحْوِهِ، وَقَالَ: " عَلَيْهَا مشي إِلَى بَيت الله الْحَرَام حَتَّى إِذا كَانَت بِبَعْض الطَّرِيق عجزت، فَسَأَلت عبد الله ابْن عمر ".
وروى ابْن وهب عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ عَن عبد الله بن عَبَّاس مثل قَول ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " وينحر بَدَنَة ".
وَعَن ابْن وهب عَن يزِيد بن هَارُون عَن إِسْمَاعِيل عَن عَامر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سُئِلَ عَن رجل نذر أَن يمشي إِلَى الْكَعْبَة، فَمشى

(5/117)


نصف الطَّرِيق ثمَّ ركب، قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: إِذا كَانَ عَام قَابل فليركب مَا مَشى، وَيَمْشي مَا ركب، وينحر بَدَنَة "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (349)
:
لَو نذر الْمَشْي إِلَى مَسْجِد الْمَدِينَة، أَو بَيت الْمُقَدّس لزمَه الْوَفَاء بِمَا نذر فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يلْزمه ".
لنا حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ، بلغ بِهِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تشدوا الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْمَسْجِد الْحَرَام، ومسجدي هَذَا، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ عَن طلق بن حبيب أنّ فرعة قَالَ لِابْنِ عمر: إِنِّي نذرت أَن أخرج إِلَى بَيت الْمُقَدّس، قَالَ: " إِنَّمَا تشد الرّحال إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، وَالْمَسْجِد الْحَرَام، وَمَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَهَذَا من ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - اسْتِدْلَال بالْخبر فِي انْعِقَاد

(5/118)


تنذر بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ، كَمَا لَو نذر الْخُرُوج إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رجلا قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت زمَان الْفَتْح إِن فتح الله عَلَيْك أَن أُصَلِّي فِي بَيت الْمُقَدّس "، قَالَ: " صلّ هَهُنَا "، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَأْنك إِذن ".
وَرُوِيَ نَحوه عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالله أعلم.

(5/119)


(فارغة)

(5/120)


(كتاب القَاضِي)

وَمن كتاب القَاضِي:
(مَسْأَلَة) (350)
:

(5/121)


(فارغة)

(5/122)


يكره الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يكره " فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ.
قَالَ الله - عزّ وجلّ -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ}
رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من سمع رجلا ينشد ضَالَّة فِي الْمَسْجِد فَلْيقل: لَا ردهَا الله عَلَيْك؛ فَإِن الْمَسَاجِد لم تبن لهَذَا ".

(5/123)


وَرَوَاهُ ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " إِنَّمَا بنيت الْمَسَاجِد لما بنيت لَهُ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى الْمَسْجِد فَبَال فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ أَصْحَاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَه، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزرموه "، فَلَمَّا فرغ دَعَا بِهِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إنّ هَذِه الْمَسَاجِد لم تتَّخذ لهَذَا الْخَلَاء وَالْبَوْل والقذر، إِنَّمَا تتَّخذ لقِرَاءَة الْقُرْآن وَلذكر الله، ثمَّ أَمر بعض أَصْحَابه بذنوب أَو بِدَلْو من مَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ".
رُوِيَ عَن مَكْحُول عَن أبي الدَّرْدَاء عَن وَاثِلَة، وَعَن أبي أُمَامَة كلهم يَقُول: " سمعنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ (على الْمِنْبَر) يَقُول: " جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ وَخُصُومَاتكُمْ وَرفع أَصْوَاتكُم، وسل سُيُوفكُمْ وَإِقَامَة حُدُودكُمْ، واعمروها فِي الْجمع، وَاتَّخذُوا على أَبْوَاب مَسَاجِدكُمْ مطاهر "، وَالله أعلم.

(5/124)


(مَسْأَلَة) (351)
:

(5/125)


وَلَا يجوز الحكم بالتقليد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " يجوز ". وَهَذَا بِخِلَاف الْكتاب والسنّة.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ} ، وَقَالَ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} ، وَقَالَ: {وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقٌونَ} ، وَقَالَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ؛ فَمَا ذكر الحكم فِي مَوضِع إِلَّا وقرنه بِالْعلمِ.
وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد "، فقرنه بِالِاجْتِهَادِ.
وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عَن أبي عون الثَّقَفِيّ قَالَ: " سَمِعت الْحَارِث بن عمر يحدث عَن أَصْحَاب معَاذ من أهل حمص

(5/126)


قَالَ: وَقَالَ مرّة عَن معَاذ أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ لَهُ: " كَيفَ تقضي إِذا عرض لَك قَضَاء؟ " قَالَ: " أَقْْضِي بِكِتَاب الله، قَالَ: فَإِن لم تَجدهُ فِي كتاب الله؟ " قَالَ: " أَقْْضِي بِسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، قَالَ: " فَإِن لم تَجدهُ فِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أجتهد رَأْيِي وَلَا آلو "، قَالَ: " فَضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما يرضى رَسُول الله "، تَابعه يحيى بن سعيد الْقطَّان الإِمَام عَن شُعْبَة، وَقَالَ: عَن نَاس من أَصْحَاب معَاذ عَن معَاذ.
وروى أَبُو دَاوُد السّخْتِيَانِيّ عَن عَمْرو بن عون عَن شريك عَن سماك عَن حسن عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْيمن قَاضِيا، فَقلت: يَا رَسُول الله، ترسلني وَأَنا حَدِيث السن، وَلَا علم لي بِالْقضَاءِ، فَقَالَ: إنّ الله - جلّ ثَنَاؤُهُ - سيهدي قَلْبك، وَيثبت لسَانك، فَإِذا جلس بَين يَديك الخصمان فَلَا تقضين حَتَّى تسمع من الآخر كَمَا سَمِعت من الأول، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يتَبَيَّن لَك الْقَضَاء، قَالَ: فَمَا زلت قَاضِيا، وَمَا شَككت فِي قَضَاء بعد ". وَلَو جَازَ الحكم بالتقليد لأخبره بذلك، وإحالته إِيَّاه على اجْتِهَاده دون تَقْلِيد غَيره

(5/127)


فِيمَا أشكل عَلَيْهِ دَلِيل على امْتنَاع جَوَاز الحكم بالتقليد وَالله أعلم.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَمْرو بن الْعَاصِ أنّه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر ".
وَعَن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم: " هَكَذَا حَدثنِي أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْقُضَاة ثَلَاثَة، وَاحِد فِي الْجنَّة، وَاثْنَانِ فِي النَّار، فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق فَقضى بِهِ، وَرجل عرف الْحق وجار فِي الحكم، وَرجل قضى للنَّاس على جهل فهما فِي النَّار ".
وَرُوِيَ عَن مُعَاوِيَة بن صَالح عَن أَشْيَاخهم أنّ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - رأى رجلا فَقيل: " هَذَا قَاضِي كَذَا وَكَذَا "، قَالَ: " هَذَا "، قَالُوا: " نعم "، قَالَ: " كَيفَ تقضي؟ " قَالَ: " أَقْْضِي بِمَا أعلم، وأسأل عَمَّا جهلت "، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنْت قَاض "، وَالله أعلم.

(5/128)


(مَسْأَلَة) (352)
:
وَلَا يجوز أَن يكون الْفَاسِق أَو الْمَرْأَة قَاضِيا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - " يجوز ".
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن الْحسن عَن أبي بكرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لقد نَفَعَنِي الله بِكَلِمَة سَمعتهَا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد مَا كدت أَن ألحق بأصحاب الْجمل وأقاتل مَعَهم، قَالَ: بلغ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنّ أهل فَارس قد ملكوا عَلَيْهِم بنت كسْرَى، فَقَالَ: لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عمر - وَهُوَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ - عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - وَهَذَا لفظ ابْن عمر - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا معشر النِّسَاء، أكثرن الاسْتِغْفَار، فَإِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار، فَقَالَت امْرَأَة مِنْهُنَّ، وَمَا لنا يَا رَسُول الله أَكثر أهل النَّار، قَالَ: تكثرن اللَّعْن، وتكفرن العشير، وَمَا من ناقصات عقل وَدين أغلب لذِي اللب مِنْكُن، قَالَت: يَا رَسُول الله، وَمَا نُقْصَان الْعقل وَالدّين؟ قَالَ: أما نُقْصَان الْعقل فشهادة امْرَأتَيْنِ تعدل شَهَادَة رجل، فَهَذَا من نُقْصَان

(5/129)


الْعقل، وتمكث اللَّيَالِي لَا تصلي وتفطر فِي رَمَضَان، فَهَذَا نُقْصَان الدّين "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (353)
:

(5/130)


(فارغة)

(5/131)


وَالْقَضَاء على الْغَائِب جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن هنداً قَالَت للنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح، أعليّ جنَاح أَن آخذ من مَاله؟ قَالَ: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ ".
وَحَدِيث أبي قلَابَة عِنْد عمر بن عبد الْعَزِيز فِي شَأْن الْقسَامَة، وَقَالَ: " حَدثنَا أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ "، وَذكر حَدِيث (الْقَوْم من عكل) وعرينة فِي صَحِيح مُسلم، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا، وَقَالَ:

(5/132)


" عَن أبي قلَابَة بِحَدِيث العرينيين، وَحَدِيث عمر فِي أسيفع جُهَيْنَة "، وَقد سبق فِي كتاب الْحَج ذكره.
وَأما حَدِيث عَليّ الَّذِي تقدّم فِي مَسْأَلَة الحكم بالتقليد فَإِنَّمَا ورد فِي الْخَصْمَيْنِ الْحَاضِرين، وكلامنا لم يَقع فِي ذَلِك.
(مَسْأَلَة) (354)
:

(5/133)


(فارغة)

(5/134)


(فارغة)

(5/135)


(فارغة)

(5/136)


وللحاكم أَن يحكم بِعِلْمِهِ فِي ظَاهر الْمَذْهَب إِلَّا فِي الْحُدُود، سَوَاء أحَاط علمه بذلك قبل أَن ولي الْقَضَاء أَو بعده، وَسَوَاء أحَاط علمه بِهِ فِي بلد ولَايَته، أَو فِي غير بلد ولَايَته، وَقد قيل: " إِنَّه فِي الْحُدُود بمثابته "، وَفِيه قَول آخر: " إِنَّه لَا يحكم بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُود وَلَا فِي غَيره ".
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَهُ أَن يحكم بِعِلْمِهِ فِي غير الْحُدُود إِذا علمه فِي ولَايَته وبلد ولَايَته ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلب خصم عِنْد بَابهَا، فَخرج عَلَيْهِم فَقَالَ: إِنَّكُم تختصمون إِلَيّ، وَإِنَّمَا أَنا بشر، وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أعلم بحجته من بعض، فأقضي لَهُ بِمَا أسمع وَأَظنهُ صَادِقا، فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حقّ أَخِيه فَإِنَّهَا قِطْعَة من النَّار، فليأخذها أَو ليذرها ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الْأَشْعَث بن قيس قَالَ: كَانَ بيني وَبَين رجل خُصُومَة فِي بِئْر فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " شَاهِدَاك أَو

(5/137)


يَمِينه "، فَقلت: إنّه إِذا يحلف وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من حلف على يَمِين ليستحقّ بهَا مَالا هُوَ فِيهَا فَاجر لَقِي الله تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان، فَأنْزل الله تَعَالَى تَصْدِيق ذَلِك، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إِلَى آخر الْآيَة.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن زيد بن أَرقم - لما قَالَ عبد الله بن أبي: {لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُوا} ، وَقَالَ أَيْضا: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} أخْبرت بذلك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلامتني الْأَنْصَار، وَحلف عبد الله بن أبي مَا قَالَ ذَلِك، فرجعنا إِلَى الْمنزل، فَنمت (فدعاني) رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَيْته، فَقَالَ: " إنّ الله صدقك وعذرك، وَنزل {هُمُ الَّذِينَ يَقُولونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُوا} الْآيَة ".
واتفقا على حَدِيث جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - فِي هَذَا الْبَاب، وَفِيه: فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْكَافِر الْمُنَافِق "، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَعه، لَا يتحدث النَّاس أنّ مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه ".

(5/138)


وَحَدِيث اللّعان قد ذَكرْنَاهُ فِي كِتَابه.
وَرُوِيَ عَن عمَارَة بن خُزَيْمَة أنّ عَمه أخبرهُ - وَكَانَ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ فرسا من رجل من الْأَعْرَاب، واستتبعه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ليَقْضِ ثمن فرسه، فأسرع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) الْمَشْي وَأَبْطَأ الْأَعرَابِي، فَطَفِقَ رجال يعترضون الْأَعرَابِي ويساومونه الْفرس، وَلَا يَشْعُرُونَ أَن رَسُول الله قد ابْتَاعَ حَتَّى زَاد بَعضهم الْأَعرَابِي فِي السّوم، فَلَمَّا زادوا نَادَى الْأَعرَابِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن كنت مبتاعاً هَذَا الْفرس فابتعه وَإِلَّا بِعته "، فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين سمع نِدَاء الْأَعرَابِي حَتَّى أَتَى الْأَعرَابِي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَو لَيْسَ قد ابتعت مِنْك؟ " قَالَ: " لَا، وَالله مَا بعتكه "، قَالَ: " بلَى ابتعته مِنْك "، فَطَفِقَ النَّاس يلوذون برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبالأعرابي، وهما يتراجعان، فَطَفِقَ الْأَعرَابِي يَقُول: " هَلُمَّ شَهِيدا أَنِّي بَايَعْتُك "، فَقَالَ خُزَيْمَة: " أَنا أشهد أَنَّك بايعته، فَأقبل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على خُزَيْمَة، فَقَالَ: " بِمَ تشهد؟ " فَقَالَ: " بتصديقك "، فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهَادَة خُزَيْمَة بِشَهَادَة رجلَيْنِ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أنّ فَاطِمَة بنت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرْسلت إِلَى أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - تسأله

(5/139)


مِيرَاثهَا من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وفدك وَمَا بَقِي من خمس خَيْبَر، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - إنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة، إِنَّمَا يَأْكُل آل مُحَمَّد فِي هَذَا المَال، فَإِنِّي وَالله لَا أغير شَيْئا من صَدَقَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن حَالهَا الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولأعملن فِيهَا بِمَا عمل بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، وَذكر بَاقِي الحَدِيث، وَالله أعلم.

(5/140)


(كتاب الشَّهَادَات)

وَمن كتاب الشَّهَادَات:
(مَسْأَلَة) (355)
:
وَلَا يحِيل حكم الْحَاكِم الْأُمُور عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " مَا للْحَاكِم إنشاؤه من الْعُقُود (وحله) نفذ ظَاهرا وَبَاطنا ".
وَفِي هَذَا حِيلَة لمن عشق امْرَأَة رجل، وأتى بِشَاهِدين يَشْهَدَانِ أنّ زَوجهَا طَلقهَا ثَلَاثًا، وَأَنه تزوج بهَا فَحكم الْحَاكِم بِالتَّفْرِيقِ بَينهَا وَبَين

(5/141)


الأول، وَحكم بِأَنَّهَا زَوْجَة الآخر، ثمَّ بانا شَاهِدي زور، فتطيب لَهُ أَن يَطَأهَا، وَلَا سَبِيل للْأولِ عَلَيْهَا.
فَأجَاز مثل هَذَا الخداع بَين الْمُسلمين، وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لكل غادر لِوَاء يَوْم الْقِيَامَة يعرف بِهِ "، وَقَالَ: " وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل ". وَقَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل ". وَقَالَ: " من فعل فِي أمرنَا مَا لَا يجوز فَهُوَ رد ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ، وأنكم تختصمون إليّ، فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَلحن بحجته من بعض، فأقضي لَهُ على نَحْو مَا أسمع مِنْهُ، فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حق أَخِيه، فَلَا يَأْخُذ مِنْهُ، فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " كَانَ عتبَة بن أبي وَقاص عهد إِلَى أَخِيه سعد بن أبي وَقاص - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن يقبض إِلَيْهِ ابْن وليدة زَمعَة، فَأقبل بِهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأقبل مَعَه عبد بن زَمعَة، فَقَالَ سعد: يَا رَسُول الله، هَذَا ابْن أخي عهد إِلَيّ أنّه ابْنه، قَالَ عبد: يَا رَسُول الله: هَذَا أخي ابْن زَمعَة، وَولد على فرَاشه، فَنظر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى ابْن وليدة زَمعَة، فَإِذا هُوَ أشبه النَّاس

(5/142)


بِعتبَة بن أبي وَقاص، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة من أجل أَنه ولد على فرَاش أَبِيه "، وَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة بنت زَمعَة؛ لما رأى من شبهه بِعتبَة ابْن أبي وَقاص، وَسَوْدَة بنت زَمعَة زوج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أحدث فِي أمرنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد ".
(وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من فعل فِي أمرنَا مَا لَا يجوز فَهُوَ رد ".
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن سُلَيْمَان النعماني حَدثنَا عبد الله بن عبد الصَّمد بن أبي خِدَاش حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا عبيد الله ابْن أبي حميد عَن أبي الْمليح الْهُذلِيّ قَالَ: " كتب عمر - رَضِي الله عَنهُ - أما بعد:

(5/143)


فَإِن الْقَضَاء فَرِيضَة محكمَة، وَسنة متبعة، فَافْهَم إِذا أدلي إِلَيْك (بِحجَّة وأنفذ الْحق إِذا وضح) ، فَإِنَّهُ لَا ينفع تكلم بِحَق لَا نَفاذ لَهُ، وآس بَين النَّاس فِي وَجهك ومجلسك وعدلك؛ حَتَّى لَا ييأس الضَّعِيف من عدلك، وَلَا يطْمع الشريف فِي حيفك، الْبَيِّنَة على من ادّعى، وَالْيَمِين على من أنكر، وَالصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا من أحل حَرَامًا، أَو حرّم حَلَالا، لَا يمنعك قَضَاء قَضيته بالْأَمْس، راجعت فِيهِ نَفسك، وهديت فِيهِ لرشدك، أَن تراجع الْحق، فَإِن الْحق قديم، ومراجعة الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل، الْفَهم الْفَهم فِيمَا يلجلج فِي صدرك مِمَّا لم يبلغك فِي الْكتاب أَو السنّة، اعرف الْأَمْثَال والأشباه، ثمَّ قس الْأُمُور عِنْد ذَلِك، فاعمد إِلَى أحبها إِلَى الله وأشبهها

(5/144)


بِالْحَقِّ فِيمَا ترى، اجْعَل للْمُدَّعِي بيّنة أمداً يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِن أحضر بيّنته أخذت بِحقِّهِ، وَإِلَّا وجهت الْقَضَاء عَلَيْهِ، فَإِن ذَلِك أجلى للعمى، وأبلغ فِي الْعذر، الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم على بعض إِلَّا (مجلوداً فِي حد، أَو مجرباً فِي شَهَادَة زور، أَو ظنيناً فِي وَلَاء، أَو قرَابَة) ، إنّ الله تولى مِنْكُم السرائر وَدَرَأَ عَنْكُم - (يَعْنِي الْحُدُود) - إلاّ بِالْبَيِّنَاتِ و (الْأَيْمَان) ، وَإِيَّاك والقلق والضجر، والتأذي بِالنَّاسِ، والتنكر للخصوم فِي مَوَاطِن الحقّ الَّتِي يُوجب الله بهَا الْأجر، وَيحسن بهَا الذخر، فَإِنَّهُ من يصلح نيّته فِيمَا بَينه وَبَين الله وَلَو على نَفسه يكفه الله مَا بَينه وَبَين النَّاس، وَمن تزين النَّاس بِمَا يعلم الله مِنْهُ غير ذَلِك يشنه الله، فَمَا ظَنك بِثَوَاب عِنْد الله فِي عَاجل رزقه وخزائن رَحمته، وَالسَّلَام عَلَيْك ".

(5/145)


وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن إِدْرِيس الأودي عَن سعيد بن أبي بردة وَأخرج الْكتاب، فَقَالَ: " هَذَا كتاب عمر - رَضِي الله عَنهُ - بِمَعْنَاهُ أَو قريب " مِنْهُ، وَالله أعلم.

(5/146)


(مَسْأَلَة) (356)
:
وَشَهَادَة الْوَاحِدَة غير مَقْبُولَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّهَا مَقْبُولَة على الْولادَة ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " يَا معشر النِّسَاء تصدقن، وأكثرن من الاسْتِغْفَار، فَإِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار، فَقَالَت امْرَأَة مِنْهُنَّ جزلة: وَمَا لنا يَا رَسُول الله أَكثر أهل النَّار؟ قَالَ: تكثرن اللَّعْن، وتكفرن العشير، مَا رَأَيْت من ناقصات عقل وَدين، أغلب لذِي لب مِنْكُن؟ قَالَ: يَا رَسُول الله، وَمَا نُقْصَان الْعقل وَالدّين؟ قَالَ: أما نُقْصَان الْعقل فشهادة امْرَأتَيْنِ تعدل شَهَادَة رجل، فَهَذَا نُقْصَان الْعقل، وتمكث اللَّيَالِي مَا تصلي، وتفطر فِي رَمَضَان، فَهَذَا نُقْصَان الدّين ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَطاء أَنه قَالَ: " لَا تجوز شَهَادَة النِّسَاء لَا رجل مَعَهُنَّ فِي أَمر النِّسَاء أقل من أَربع عدُول ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك عَن أبي عبد الرَّحْمَن المدايني عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ - " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجَاز شَهَادَة الْقَابِلَة "، قَالَ عَليّ بن

(5/147)


عمر: " أَبُو عبد الرَّحْمَن المدايني رجل مَجْهُول ".
وروى جَابر الْجعْفِيّ عَن عبد الله بن يحيى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " شَهَادَة الْقَابِلَة جَائِزَة على الاستهلال "، كَذَا رَوَاهُ أبان بن ثَعْلَب عَن جَابر ".
وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن جَابر بن عبد الله بن يحيى: " أنّ عليا - رَضِي الله عَنهُ - أجَاز شَهَادَة الْقَابِلَة وَحدهَا فِي الاستهلال "، وَجَابِر الْجعْفِيّ مَتْرُوك الحَدِيث - قد سبق ذكري لَهُ - وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (357)
:
وَشَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف مَقْبُولَة إِذا تَابَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا تقبل ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

(5/148)


وَرُوِيَ عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ ".
وَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - لأبي بكرَة: " تب تقبل شهادتك ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن عُيَيْنَة قَالَ: " سَمِعت الزُّهْرِيّ يَقُول: زعم أهل الْعرَاق أنّ شَهَادَة الْقَاذِف لَا تجوز، فَأشْهد لأخبرني سعيد بن الْمسيب أنّ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ لأبي بكرَة: تب تقبل شهادتك، أَو إِن تبت قبلت شهادتك ".
قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " وَأَخْبرنِي من أَثِق بِهِ من أهل الْمَدِينَة عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب أنّ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - لما جلد الثَّلَاثَة استتابهم، فَرجع اثْنَان، فَقبل شَهَادَتهمَا، وأبى أَبُو بكرَة أَن يرجع فَرد شَهَادَته ".
وَرُوِيَ عَن آدم بن فائد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " قَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تجوز شَهَادَة خائن، وَلَا خَائِنَة، وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام، وَلَا محدودة، وَلَا ذِي غمر على أَخِيه "، رَوَاهُ

(5/149)


الْمثنى بن الصَّباح عَن عَمْرو، وَقَالَ فِيهِ: " وَلَا مَوْقُوف على حد "، وَرَوَاهُ سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن عَمْرو وَلم يذكر المحدودة فِي مثل هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ ثِقَة من جملَة من روى هَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو فَلَا يلْزمنَا قبُول خلاف من خَالفه. وَرَوَاهُ يزِيد الْقرشِي عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا ترفعه.
وَرَوَاهُ عبد الْأَعْلَى بن مُحَمَّد عَن يحيى بن سعيد عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيزِيد ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ، وَيحيى بن سعيد هَذَا هُوَ الْفَارِسِي مَتْرُوك، وَعبد الْأَعْلَى ضَعِيف، قَالَ ذَلِك الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (358)
:
وَشَهَادَة الْكَافِر عندنَا مَرْدُودَة فِي جَمِيع الْأَحْوَال. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " شَهَادَة أهل الذِّمَّة فِيمَا بَينهم مَقْبُولَة ".

(5/150)


قَالَ الله تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبَعَ دَينَكُمْ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
وَقَالَ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} .
وَقَالَ تَعَالَى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} ، وَاسم الْفَاسِق يتَنَاوَل الْكَافِر وَغَيره بِدلَالَة قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} ، وَقَوله تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} الْآيَة.
وروى الدوري عَن شَاذان قَالَ " كنت عِنْد سُفْيَان الثَّوْريّ فَسمِعت شَيخا يحدث عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا

(5/151)


يتوارث أهل ملتين شَتَّى، وَلَا تجوز شَهَادَة مِلَّة على مِلَّة إِلَّا مِلَّة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنَّهَا تجوز على غَيرهم ". قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن شَاذان: " فَسَأَلت عَن هَذَا الشَّيْخ بعد أَصْحَابنَا فَزعم أنّه عمر بن رَاشد الْحَنَفِيّ، تَابعه الْحسن بن مُوسَى عَن عمر بن رَاشد، وَرَوَاهُ عَليّ بن الْجَعْدِي عَن عمر بن رَاشد إِلَّا أَنه قَالَ: " وحدثه عَن أبي هُرَيْرَة أَحْسبهُ ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " خرج رجل من بني جهم مَعَ تَمِيم الدَّارِيّ وعدي بن بداء، فَمَاتَ السَّهْمِي بِأَرْض لَيْسَ بهَا مُسلم، فَلَمَّا قدمُوا بِتركَتِهِ فقدوا جَاما من فضَّة مخوصاً من ذهب) فَأَحْلفهُمَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ وجد الْجَام بِمَكَّة، (فَقَالَا: اشْتَرَيْنَاهُ من تَمِيم وعدي) ، فَقَامَ رجلَانِ من أَوْلِيَاء السَّهْمِي، فَحَلفا لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا، وأنّ الْجَام لصَاحِبِهِمْ،

(5/152)


قَالَ: وَفِيهِمْ نزلت هَذِه الْآيَة {يَأَيُّهاَ الَّذَينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} .
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ قَالَ: " توفّي رجل من خثعم فَلم يشْهد مَوته إلاّ رجلَانِ نصرانيان، فأشهدهما على وَصيته، فَلَمَّا قدما الْكُوفَة حلفهما أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي مَسْجِد الْكُوفَة بعد الْعَصْر بِاللَّه مَا خَانا، وَلَا كتما، وَلَا بَدَلا، وَأَن هَذِه وَصيته، فَأجَاز شَهَادَتهمَا "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (359)
:

(5/153)


(فارغة)

(5/154)


وَيجوز الْقَضَاء بِشَاهِد وَيَمِين فِي الْأَمْوَال وَمَا يجْرِي مجْراهَا.

(5/155)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
دليلنا مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن نمير عَن زيد بن الْحباب عَن سيف بن سُلَيْمَان عَن قيس بن سعد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " إنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِشَاهِد وَيَمِين ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله - رَحمَه الله تَعَالَى -: " وَقد تعرض لهَذَا الحَدِيث بعض الْمُخَالفين مِمَّن لَيْسَ من صناعته معرفَة الصَّحِيح من السقيم، وَاحْتج فِيهِ بِمَا رُوِيَ عَن يحيى بن معِين سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس يَقُول: سَمِعت الْعَبَّاس الدوري يَقُول قَالَ يحيى بن معِين: حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قضى بِشَاهِد وَيَمِين " لَيْسَ بِمَحْفُوظ ".
قَالَ أَبُو عبد الله - رَحمَه الله تَعَالَى -: فَنَقُول - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق -: إنّ شَيخنَا أَبَا زَكَرِيَّا - رَضِي الله عَنهُ - لم يُطلق هَذَا القَوْل على حَدِيث سيف بن سُلَيْمَان عَن قيس بن سعد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس، وَإِنَّمَا أَرَادَ الحَدِيث الْخَطَأ الَّذِي رُوِيَ عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس، أَو الحَدِيث الَّذِي تفرّد بِهِ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي يحيى،

(5/156)


فَأَما حَدِيث سيف بن سُلَيْمَان فَلَيْسَ فِي إِسْنَاده من يجرح، وَلم نعلم لَهُ أَيْضا عِلّة نعلل بِهِ الحَدِيث، وَالْإِمَام أَبُو زَكَرِيَّا - رَحمَه الله تَعَالَى - أعرف بِهَذَا الشَّأْن من أَن يظنّ بِهِ أَن يوهن حَدِيثا يرويهِ الثِّقَات الْأَثْبَات ".
وَعلل الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث بأنّه (لَا يعلم قيسا يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار بِشَيْء) ، وَلَيْسَ مَا لَا يُعلمهُ الطَّحَاوِيّ لَا يُعلمهُ غَيره.
وَقد أخبرنَا الْحسن بن أبي عبد الله الْفَارِسِي أخبرنَا أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن أبي حَامِد الْعدْل أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مخلد الدوري حَدثنَا يحيى بن مُسلم بن عبد الله الرَّازِيّ حَدثنَا وهب بن جرير حَدثنَا أبي قَالَ: " سَمِعت قيس ابْن سعد يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ رجلا وقصته نَاقَته وَهُوَ محرم فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اغسلوه بِمَاء وَسدر، وَلَا تخمروا رَأسه؛ فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ يُلَبِّي ". وَلَا يبعد أَن يكون لَهُ عَن عَمْرو غير هَذَا، وَلَيْسَ من شَرط قبُول الْأَخْبَار كَثْرَة رِوَايَة الرَّاوِي عَمَّن روى عَنهُ، وَإِذا روى الثِّقَة عَمَّن لَا يُنكر سَمَاعه مِنْهُ حَدِيثا وَاحِدًا ... وَجب قبُوله، وَإِن لم يرو عَنهُ غَيره، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.

(5/157)


وَقد روى هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن مُسلم الطايفي عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
وَرَوَاهُ كَذَلِك عَنهُ أَبُو حُذَيْفَة، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب السّنَن من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن مُحَمَّد بن مُسلم بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ، وَخَالَفَهُمَا خَالِد بن يزِيد الْعمريّ (عَن مُحَمَّد بن مُسلم، فَرَوَاهُ عَنهُ عَن عَمْرو عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس) ، وَتَابعه على ذَلِك عبد الله بن مُحَمَّد بن ربيعَة العدامي، وعصام بن يُوسُف الْبَلْخِي، وخَالِد والعدامي وعصام لَيْسُوا بأقوياء.
وَعبد الرَّزَّاق ثِقَة حجَّة، وَتَابعه (مُحَمَّد بن مُسلم فَرَوَاهُ عَنهُ عَن عَمْرو عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس وَتَابعه) أَبُو خَليفَة فروياه كَمَا ذكرنَا، فَلَا يعلله رِوَايَة من لَا يُبَالِي بِهِ، وَرُوِيَ بِإِسْنَاد واهٍ عَن عَمْرو عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ، فَسمِعت الْحَاكِم أَبَا عبد الله - رَحمَه الله - يَقُول: " إنّ هَذَا الْخلاف لَا يُعلل هَذَا الحَدِيث من أوجه مِنْهَا:
- إنّ عَمْرو بن دِينَار قد سمع من ابْن عَبَّاس، فَلَا يُنكر أَن يسمع حَدِيثا مِنْهُ وَمن أَصْحَابه.

(5/158)


- وَأَيْضًا فَإِن سيف بن سُلَيْمَان ثِقَة مَأْمُون، وَقد حكم مُسلم بن الْحجَّاج - رَحمَه الله - لروايته بِالصِّحَّةِ، فَلَا يُقَابل بِمثل الْعمريّ والعذرمي والبلخي وَالْحكم لروايته بِالصِّحَّةِ، وَالله أعلم ".
روى الشَّافِعِي عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد "، قَالَ عبد الْعَزِيز: " فَذكرت ذَلِك لسهيل قَالَ: " أَخْبرنِي ربيعَة - وَهُوَ عِنْدِي ثِقَة - أَنِّي حدثته إِيَّاه، وَلَا أحفظه "، قَالَ عبد الْعَزِيز: " وَقد أصَاب سهيلاً عِلّة أذهبت بعض عقله وَنسي بعض حَدِيثه، وَكَانَ سُهَيْل يحدث عَن ربيعَة عَنهُ عَن أَبِيه ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن دَاوُد الإسْكَنْدراني: حَدثنَا زِيَاد بن يُونُس حَدثنِي سُلَيْمَان بن بِلَال عَن ربيعَة بِهَذَا الحَدِيث، قَالَ سُلَيْمَان: " فَلَقِيت سهيلاً فَسَأَلته عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: مَا أعرفهُ، فَقلت لَهُ:

(5/159)


إنّ ربيعَة أَخْبِرِينِي بِهِ عَنْك، قَالَ: فَإِن كَانَ ربيعَة أخْبرك عني فَحدث بِهِ عَن ربيعَة عني ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله - رَحمَه الله -: " هَذَا الحَدِيث عندنَا مَحْفُوظ من حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح؛ إِذْ حفظ عَنهُ إِمَام حَافظ متقن مثل ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، وَقد يحدث الْمُحدث الثبت بِالْحَدِيثِ ثمَّ ينساه، وَقد روينَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن العامري، وَمُحَمّد بن زيد الْمَكِّيّ عَن سُهَيْل بن أبي صَالح مثل رِوَايَة ربيعَة عَنهُ ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن الْمُبَارك عَن الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد ".
وَعَن عبد الله بن نَافِع عَن الْمُغيرَة بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: " فَحَدثني مُحَمَّد بن يَعْقُوب أخبرنَا أَبُو الجهم حَدثنَا أَحْمد بن أبي الْحوَاري قَالَ: " سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول: مُحَمَّد بن مبارك رجل أهل الشَّام بعد أبي مسْهر لقد حفظ الْإِسْنَاد ".

(5/160)


قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " فَقلت لَهُ - يَعْنِي بعض من ناظره - روى الثَّقَفِيّ - وَهُوَ ثِقَة - عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد ".
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا يُوسُف بن يَعْقُوب حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ فَذكره بِإِسْنَادِهِ نَحوه.
أخبرنَا الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن رزمونة حَدثنَا أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن مُحَمَّد بن غَالب النسوي حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي، فَذكره بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه سَوَاء، وَزَاد قَالَ أبي: " وَقضى بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بالعراق "، قَالَ لنا أَبُو عبد الله - رَحمَه الله -: " عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ - كَمَا ذكره الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى - لَا يحْتَج بحَديثه ".
وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن حميد الْأسود الْمَكِّيّ، وَعبد الله بن عمر بن حَفْص الْعمريّ، وَهِشَام بن سعد الْمدنِي، وسابق بن عبد الله الرقي، وَإِبْرَاهِيم بن أبي حَيَّة، وَغَيرهم عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر. وَرُوِيَ عَن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُم - " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِشَاهِد وَيَمِين "، كَذَا

(5/161)


روى عَن الثَّوْريّ، وَعَن ابْن جرير وَغَيره عَن جَعْفَر.
وروى عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنْهُم - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِشَهَادَة رجل وَاحِد مَعَ يَمِين صَاحب الْحق، وَقضى بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بالعراق.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حُسَيْن بن زيد عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، وخَالِد بن أبي كَرِيمَة

(5/162)


عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، وَكَأَنَّهُ رَوَاهُ مرّة مُتَّصِلا وَمرَّة مُرْسلا، وَالله أعلم.
وروى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا أَحْمد بن عَبده حَدثنَا عمار بن شُعَيْب بن عبد الله بن الزَّبِيب الْعَنْبَري حَدثنَا أبي، قَالَ: " سَمِعت جدي الزَّبِيب يَقُول: بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بني العنبر، فَأَخَذُوهُمْ بركبة من نَاحيَة الطَّائِف، فاستاقوهم إِلَى نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فركبت فسبقتهم إِلَى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: السَّلَام عَلَيْك يَا نَبِي الله وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، أَتَانَا جندك فأخذونا، وَقد كُنَّا أسلمنَا، وخضرمنا آذان النِّعم، فَلَمَّا قدم بالعنبر قَالَ لي نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَل لكم بَيِّنَة على أَنكُمْ أسلمتم قبل أَن تؤخذوا فِي هَذِه الْأَيَّام؟ قلت: نعم، قَالَ من بينتك؟ قلت: سَمُرَة رجل من بني العنبر، وَرجل آخر سَمَّاهُ لَهُ، (فَشهد الرجل وأبى سَمُرَة أَن يشْهد، فَقَالَ نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قد أَبى أَن يشْهد لَك، فتحلف مَعَ

(5/163)


شاهدك الآخر؟ قلت: نعم) ، فاستحلفني فَحَلَفت بِاللَّه لقد أسلمنَا يَوْم كَذَا وَكَذَا، وخضرمنا آذان النعم، فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اذْهَبُوا فقاسموهم أَنْصَاف الْأَمْوَال، وَلَا تمسوا ذَرَارِيهمْ، لَوْلَا أنّ الله - عزّ وجلّ - لَا يحب ضَلَالَة الْعَمَل مَا ذريناكم عقَالًا، قَالَ الزَّبِيب: فدعتني أُمِّي، فَقَالَت: هَذَا الرجل أَخذ زريبتي، فَانْصَرَفت إِلَى نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي - فَأَخْبَرته، فَقَالَ لي: احبسه، فَأَخَذته بتلابيبه وَقمت مَعَه مَكَانا، ثمَّ نظر إِلَيْنَا نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قَائِمين، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ بأسيرك؟ فأرسلته من يَدي، فَقَامَ نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) ، فَقَالَ للرجل: رد على هَذَا زريبة أمه الَّتِي أخذت مِنْهَا، فَقَالَ: يَا نَبِي الله، إِنَّهَا خرجت من يَدي، فاختلع نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سيف الرجل فأعطانيه، وَقَالَ للرجل: اذْهَبْ فزده آصعاً من طَعَام، قَالَ: فزادني آصعاً من شعير ".
وَرُوِيَ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس حَدثنِي أبي عَن ربيعَة عَن سعيد بن عَمْرو بن شُرَحْبِيل - يَعْنِي ابْن سعيد بن سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ - عَن أَبِيه عَن جده " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد فِي الْحُقُوق ".

(5/164)


وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن أبي عبيد الدَّرَاورْدِي، وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن سعيد بن عَمْرو بن شُرَحْبِيل بن سعيد ابْن سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ ثمَّ السَّاعِدِيّ عَن أَبِيه عَن جده - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " وجد فِي كتاب سعد أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد ".
(وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن ربيعَة عَن إِسْمَاعِيل بن عَمْرو بن قيس بن سعد بن عبَادَة عَن أَبِيه أنّهم وجدوا فِي كتاب سعد أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد) .
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله أخبرنَا مُسلم بن خَالِد حَدثنِي جَعْفَر بن مُحَمَّد قَالَ: " سَمِعت الحكم بن عتبَة يسْأَل أبي، وَقد وضع يَده على جِدَار الْقَبْر ليقوم، أقضى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد؟ قَالَ: نعم، وَقضى بِهِ عَليّ بَين أظْهركُم "، قَالَ مُسلم: " قَالَ جَعْفَر: فِي الدّين ".
وَرُوِيَ عَن كُلْثُوم بن زِيَاد قَالَ: " أدْركْت سُلَيْمَان بن حبيب وَالزهْرِيّ يقضيان بذلك "، قَالَ كُلْثُوم: " وَكَانَ أَبُو ثَابت بن سُلَيْمَان بن

(5/165)


حبيب قَاضِي الْمَدِينَة ثَلَاثِينَ سنة، يقْضِي بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد ".
وَعَن حَمَّاد بن خَالِد الْخياط عَن ابْن أبي ذيب عَن الزُّهْرِيّ فِي الْيَمين مَعَ الشَّاهِد قَالَ: " أول من صنعه مُعَاوِيَة "، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَن الزُّهْرِيّ وَالَّذِي رُوِيَ من إِنْكَاره فَنحْن لَا نعرفه.
وروى مَالك عَن أبي الزِّنَاد أنّ عمر بن عبد الْعَزِيز كتب إِلَى أبي عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن الْخطاب - وَهُوَ عَامل لَهُ على الْكُوفَة - أَن اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد.
وَقَالَ البُخَارِيّ - رَحمَه الله - فِي كِتَابه: " قَالَ لي قُتَيْبَة حَدثنَا سُفْيَان بن شبْرمَة قَالَ: كلمني أَبُو الزِّنَاد فِي شَهَادَة الشَّاهِد وَيَمِين الْمُدَّعِي فَقلت: قَالَ الله - عزّ وجلّ -: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} . (قلت: إِذا كَانَ يَكْتَفِي بِشَهَادَة شَاهد وَيَمِين الْمُدَّعِي فَمَا يحْتَاج أَن تذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى مَا كَانَ يصنع بِذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى؟) ، فَأَشَارَ البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة إِلَى قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَاهِدَاك أَو يَمِينه ".
أخبرنَا أَبُو عَمْرو الأديب أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو بكر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم

(5/166)


الْإِسْمَاعِيلِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى - عِنْد ذكر البُخَارِيّ هَذِه الْحِكَايَة لَيْسَ فِيمَا ذكره ابْن شبْرمَة معنى.
فَإِن قَالَ: " الْحَاجة إِلَى إذكار إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى إِذا شهدتا، فَإِذا لم تَكُونَا قَامَت مقامهما يَمِين الطَّالِب الَّتِي لَو انْفَرَدت مِمَّن هِيَ عَلَيْهِ حلت مَحل الْبَيِّنَة فِي الْأَدَاء أَو الْإِبْرَاء فَحلت هَهُنَا مَحل الْمَرْأَتَيْنِ فِي الِاسْتِحْقَاق بهما مُضَافَة للشَّاهِد الْوَاحِد، وَلَو وَجب إِسْقَاط الْبَيِّنَة الثَّابِتَة فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين؛ لما ذكر ابْن شبْرمَة لسقط الشَّاهِد، والمرأتان لقَوْل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَاهِدَاك أَو يَمِينه "، فنقله عَن الشَّاهِدين إِلَى يَمِين خَصمه بِلَا ذكر رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَالله أعلم.

(5/167)


(مَسْأَلَة) (360)
:
وتؤكد الْيَمين بِالْمَكَانِ وَالزَّمَان. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَا تؤكد بالمساجد ".
روى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن مَالك عَن هِشَام بن هَاشم بن عتبَة بن أبي وَقاص عَن عبد الله بن نسطاس عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من حلف على منبري هَذَا بِيَمِين آثمة تبوأ مَقْعَده من النَّار ".
وَعَن مَالك - رَحمَه الله - عَن دَاوُد بن الْحصين أنّه سمع أَبَا غطفان بن طريف المري قَالَ: " اخْتصم زيد بن ثَابت وَابْن مُطِيع إِلَى مَرْوَان بن الحكم فِي دَار، فَقضى بِالْيَمِينِ على زيد بن ثَابت على الْمِنْبَر، فَقَالَ زيد: أَحْلف لَهُ مَكَاني، قَالَ لَهُ مَرْوَان: وَالله إِلَّا عِنْد مقاطع الْحُقُوق، فَجعل زيد يحلف أَن (حَقه لحق) ، ويأبى أَن يحلف على الْمِنْبَر، فَجعل مَرْوَان يعجب من ذَلِك "، قَالَ مَالك: " كره زيد - رَضِي الله عَنهُ - صَبر الْيَمين ".

(5/168)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم: رجل حلف على سلْعَته لقد أعطي بهَا أَكثر مِمَّا أعطي وَهُوَ كَاذِب، وَرجل حلف على يَمِين كَاذِبَة بعد الْعَصْر؛ ليقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم، وَرجل منع فضل مَاء، فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ: الْيَوْم أمنعك فضلي كَمَا منعت فضل مَا لم تعْمل يداك ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن عبد الله بن مُؤَمل عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: " كتبت إِلَى ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - من الطَّائِف فِي جاريتين ضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى وَلَا شَاهد عَلَيْهِمَا، فَكتب إِلَى أَن أحبسهما بعد الْعَصْر، ثمَّ أَقرَأ عَلَيْهِمَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فَفعلت فَاعْترفت "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (361)
:

(5/169)


(فارغة)

(5/170)


(فارغة)

(5/171)


وَالْيَمِين ترد على الْمُدَّعِي بنكول الْمُدَّعِي عَلَيْهِ، وَلَا يحكم بِمُجَرَّد النّكُول. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يحكم بِالنّكُولِ "، وَلَا ترد الْيَمين على الْمُدَّعِي ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن بشر بن يسَار عَن سهل بن أبي حيثمة قَالَ: " انْطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مَسْعُود بن زيد إِلَى خَيْبَر - وَهِي يومئذٍ صلح - فتفرقا فِي حوائجهما، فَأتى محيصة على عبد الله بن سهل، وَهُوَ يشحط فِي دَمه قَتِيلا فدفنه، ثمَّ قدم الْمَدِينَة، فَانْطَلق عبد الرَّحْمَن بن سهل ومحيصة وحويصة ابْنا مَسْعُود إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذهب عبد الرَّحْمَن يتَكَلَّم فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كبر الْكبر، وَهُوَ أحدث الْقَوْم، فَسكت فتكلما، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:

(5/172)


" أتحلفون خمسين يَمِينا وتستحقون دم قاتلكم أَو صَاحبكُم؟ " فَقَالُوا: " يَا رَسُول الله كَيفَ نحلف وَلم نشْهد وَلم نَر؟ " قَالَ: " فتبرئكم يهود بِخَمْسِينَ "، فَقَالُوا: " يَا رَسُول الله كَيفَ نَأْخُذ يَمِين قوم كفار؟ " قَالَ: فعقله رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروى مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عَمْرو النَّاقِد عَن سُفْيَان عَن يحيى بن سعيد بشير بن يسَار عَن سهل بن أبي حيثمة فَذكر هَذِه الْقِصَّة، قَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أفتبرئكم يهود بِخَمْسِينَ يَمِينا؟ يحلفُونَ أَنهم لم يقتلوه "، " وَكَيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون؟ "، قَالَ: " فَيقسم مِنْكُم خَمْسُونَ أَنهم قَتَلُوهُ "، قَالُوا: " كَيفَ نقسم على مَا لم نره؟ " قَالَ: " فوداه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عِنْده "، كَذَا رَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد، فَيبْدَأ بقوله: " فتبرئكم يهود "، وَالْجَمَاعَة عَن يحيى بن سعيد بدؤوا بقوله: " تحلفون خمسين يَمِينا " للأنصاريين كَمَا سبق ذكرنَا لَهُ، وَالله أعلم.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، والثقفي عَن يحيى بن سعيد عَن بشير بن يسَار عَن سهل بن أبي حيثمة - رَضِي الله عَنهُ - أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَدَأَ بالأنصاريين، فَلَمَّا لم يحلفوا رد الْأَيْمَان على الْيَهُود.
قَالَ: " وَأخْبرنَا مَالك عَن يحيى بن بشير بن يسَار - رَضِي الله عَنهُ

(5/173)


- عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمثلِهِ "، كَذَا يرويهِ الإِمَام الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن عُيَيْنَة، وَهُوَ الصَّوَاب، وَحَدِيث اللّعان دَلِيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَقد سبق ذكره فِي كتاب اللّعان.
وَرُوِيَ عَن اللَّيْث بن سعد عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد الْيَمين على طَالب الْحق.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا مَالك بن أنس عَن ابْن شهَاب عَن سُلَيْمَان بن يسَار أنّ رجلا من بني سعد بن لَيْث أجْرى فرسا، فوطئ على إِصْبَع رجل من جُهَيْنَة (فَنزل فِيهَا) فَمَاتَ، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - للَّذين ادّعى عَلَيْهِم: " تحلفون خمسين يَمِينا مَا مَاتَ مِنْهَا "، فَأَبَوا وتحرجوا من الْأَيْمَان، فَقَالَ للآخرين: " احلفوا أَنْتُم " فَأَبَوا.
وروى إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى وَغَيره عَن حُسَيْن بن عبد الله بن ضميرَة عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْمُدعى

(5/174)


عَلَيْهِ أولى بِالْيَمِينِ، فَإِن نكل أَحْلف صَاحب الْحق وَأخذ "، وَلَيْسَ هَذَا بمعتمد.
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي عوَانَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عَلْقَمَة بن وَائِل عَن أَبِيه قَالَ: " كنت عِنْد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَتَاهُ خصمان، فَقَالَ أَحدهمَا - وَهُوَ ابْن الْقَيْس بن عَابس الْكِنْدِيّ، وخصمه ربيعَة -: يَا رَسُول الله: إنّ هَذَا أجر على أرضي فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ: هِيَ أرضي أزرعها، فَقَالَ: لَك بَيِّنَة، قَالَ: لَا، قَالَ: لَك يَمِينه، قَالَ: إنّه لَيْسَ يُبَالِي مَا حلف عَلَيْهِ، قَالَ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إِلَّا ذَلِك، قَالَ: فَلَمَّا ذهب ليحلف، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أما إِنَّه إِن حلف على مَاله ظلما لَقِي الله تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو الْأَحْوَص عَن سماك بن حَرْب عَن عَلْقَمَة بن وَائِل قَالَ فِيهِ: " فَقَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للحضرمي: أَلَك بَيِّنَة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فلك يَمِينه، قَالَ: فَقَالَ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إِلَّا ذَلِك ".

(5/175)


وَفِي حَدِيث الْأَشْعَث بن قيس قَالَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَاهِدَاك أَو يَمِينه "، كَمَا سبق ذكرنَا لَهُ. وَلَيْسَ فِيهِ: " لَيْسَ لَك إِلَّا ذَلِك "، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيث وَائِل، وَقَالَ فِيهِ: " أَلَك بَيِّنَة؟ وَلم يقل: " شَاهِدَاك " فافهمه.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَو يعْطى النَّاس بدعاواهم لادّعى أنَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ، وَلَكِن الْيَمين على الْمُدعى (عَلَيْهِ) ".
وروى الدَّارَقُطْنِيّ: أخبرنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا عَمْرو بن أبي سَلمَة عَن زُهَيْر بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا ادّعت الْمَرْأَة طَلَاق زَوجهَا، فَجَاءَت على ذَلِك بِشَاهِد عدل (اسْتحْلف زَوجهَا فَإِن) حلف بطلت شَهَادَة الشَّاهِد، وَإِن نكل فنكوله بِمَنْزِلَة شَاهد آخر، وَجَاز طَلَاقه ". وَالله أعلم.
(362) :
وَشَهَادَة الْعَدو على الْعَدو غير مَقْبُولَة. وَحكي عَن أبي

(5/176)


حنيفَة - رَحمَه الله - أنّه قَالَ: " هِيَ مَقْبُولَة ".
روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أنّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ردّ شَهَادَة والخائنة، وَذي الْغمر على أَخِيه، وردّ شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت، وأجازها لغَيرهم.
وَعنهُ قَالَ: " قَالَ: رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة، وَلَا ذِي غمر على أَخِيه "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (363)
:
وَإِذا شهد الشُّهُود بِمُوجب قتل، فَقتل الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِم، ثمَّ رجعُوا عَن الشَّهَادَة، وَقَالُوا: " تعمدنا " وَجب عَلَيْهِم الْقصاص. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا قصاص عَلَيْهِم ".
روى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي روق حَدثنَا أَحْمد بن روح حَدثنَا سُفْيَان عَن مطرف عَن الشّعبِيّ قَالَ: " جَاءَ رجلَانِ بِرَجُل إِلَى عَليّ رَضِي الله

(5/177)


عَنهُ، فشهدا عَلَيْهِ بِالسَّرقَةِ فَقَطعه، ثمَّ جَاءَا بآخر بعد ذَلِك، فَقَالَا: هُوَ هَذَا، غلطنا بِالْأولِ، فَلم يقبل شَهَادَتهمَا على الآخر، وغرمهما دِيَة الأول، وَقَالَ: " لَو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما "، تَابعه سُفْيَان بن سعيد الثَّوْريّ عَن مطرف - وَهُوَ صَحِيح - عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَلَا نَعْرِف أحدا خَالفه من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (364)
:
وحد الزِّنَا لَا يُقَام على الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِشُهُود الزوايا، وَهُوَ أَن يشْهد كل وَاحِد مِنْهُم أَنه زنى بهَا فِي زَاوِيَة أُخْرَى من زَوَايَا الْبَيْت.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يُقَام عَلَيْهِ الْحَد اسْتِحْسَانًا ". وَالله أعلم.

(5/178)


(كتاب الدَّعْوَى)

من كتاب الدَّعْوَى.
(مَسْأَلَة) (365)
:
الْبَيِّنَتَانِ إِذا تَعَارَضَتَا وَالشَّيْء فِي يَد ثَالِث لم يقسم بَينهمَا فِي أحد الْأَقْوَال: وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يقسم بَينهمَا ".
روى عَن شبعة عَن قَتَادَة عَن سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن جده: " أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين، فَقضى بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث همام عَن قَتَادَة بِمَعْنى إِسْنَاده: " أَن رجلَيْنِ ادّعَيَا بَعِيرًا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبعث كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين، فَقَسمهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ ".

(5/179)


(خالفهما سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة فِي مَتنه، فَقَالَ فِيهِ: " اخْتصم رجلَانِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعير لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فقضي بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ ".
وَرُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن حجاج بن الْمنْهَال حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة فِي مَتنه، فَقَالَ فِيهِ: " اخْتصم رجلَانِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعير لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فقضي بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا نِصْفَيْنِ ". رَوَاهُ سعيد بن بشر عَن قَتَادَة بِسَنَدِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن حجاج بن الْمنْهَال: حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن خلاس عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا فِي مَتَاع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اسْتهمَا) على الْيَمين (مَا كَانَ أحبّا ذَلِك أَو كرها) ". كَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
فَأَما حَدِيث سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى فمقال فِيهِ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن مَتنه مُخْتَلف فِيهِ، كَمَا سبق ذكرنَا لَهُ، والْحَدِيث حَدِيث وَاحِد.

(5/180)


وَالْآخر: أَن فِيهِ إرْسَالًا؛ يُقَال: " إِن أَبَا بردة لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أبي مُوسَى، رَضِي الله عَنهُ "، قَالَ حَمَّاد بن سَلمَة: " قَالَ سماك بن حَرْب أَنا حدثت أَبَا بردة بِهَذَا الحَدِيث "؛ ولهذه الْعلَّة لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ - رحمهمَا الله تَعَالَى - فِي الصَّحِيح "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (366)
:
وَيرجع فِي تَمْيِيز الْأَنْسَاب إِذا اشتبهت إِلَى قَول الْقَافة. وَقَالَ أَبُو حنفية - رَحمَه الله -: " لَا يرجع إِلَى الْقَافة، وَلَكِن يلْحق بِجَمِيعِ من ادَّعَاهُ ".
فَفِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " دخل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمًا مَسْرُورا، وأسارير وَجهه تبرق، فَقَالَ: ألم تسمعي مَا قَالَ مجزز المدلجي؟ وَرَأى زيدا وَأُسَامَة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض ".
وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل عَلَيْهَا وَهُوَ مسرور تبرق أسارير وَجهه، فَقَالَ: " ألم تسمعي مَا قَالَ مجزز المدلجي، وَرَأى أُسَامَة وزيداً نائمين، وَقد خرجت أقدامهما "، فَذكر مثله، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.

(5/181)


وَأخرجه مُسلم عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - بِمَعْنَاهُ من حَدِيث ابْن شهَاب، وَفِيه: " وَكَانَ مجزز قائفاً ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَكَانَ أُسَامَة أسود، وَكَانَ زيد أَبيض ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا أنس بن عِيَاض عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب أَن رجلَيْنِ تداعيا ولدا، فَدَعَا لَهُ عمر الْقَافة فَقَالُوا: " قد اشْتَركَا فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: وَآل أَيهمَا شِئْت "، قَالَ أخبرنَا مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن عمر - (رَضِي الله عَنهُ - مثل مَعْنَاهُ.
وروى ابْن بكير عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن عمر) بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يليط أَوْلَاد الْجَاهِلِيَّة مِمَّن دعاهم فِي الْإِسْلَام، قَالَ سُلَيْمَان: " فَأتى رجلَانِ كِلَاهُمَا يَدعِي ولد امْرَأَة، فَدَعَا عمر - رَضِي الله عَنهُ - قائفاً، فَنظر إِلَيْهِمَا، فَقَالَ الْقَائِف: " لقد اشْتَركَا فِيهِ، فَضَربهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ - بِالدرةِ، (وَقَالَ: مَا يدْريك؟) ، ثمَّ قَالَ للْمَرْأَة: أَخْبِرِينِي خبرك، فَقَالَت: كَانَ هَذَا لأحد الرجلَيْن يَأْتِيهَا، وَهِي فِي إبل لأَهْلهَا، فَلَا يفارقها حَتَّى يظنّ أَن قد اسْتمرّ بهَا حملا، ثمَّ انْصَرف عَنْهَا، فأهريقت دَمًا، ثمَّ خلف هَذَا - يَعْنِي الآخر - فَلَا أَدْرِي من أَيهمَا

(5/182)


هُوَ، فَكبر الْقَائِف، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - للغلام: وَال أَيهمَا شِئْت ".
وَعَن مَالك عَن يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عبد الله بن أُميَّة أَن امْرَأَة هلك عَنْهَا زَوجهَا، فاعتدت أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، ثمَّ تزوجت حِين حلّت، فَمَكثت عِنْد زَوجهَا أَرْبَعَة أشهر (وَنصفا) ، ثمَّ ولدت ولدا تَاما، فجَاء زَوجهَا إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، فَذكر لَهُ ذَلِك، فَدَعَا عمر - رَضِي الله عَنهُ - نسْوَة من نسَاء الْجَاهِلِيَّة قدماء، فسألهن عَن ذَلِك، فَقَالَت امْرَأَة مِنْهُنَّ: " أَنا أخْبرك عَن هَذِه الْمَرْأَة، هلك عَنْهَا زَوجهَا حِين حملت، فأهريقت عَلَيْهِ الدِّمَاء، فَحُشَّ وَلَدهَا فِي بَطنهَا، فَلَمَّا أَصَابَهَا زَوجهَا الَّذِي نكحت، وَأصَاب الولدَ الماءُ تحرّك الْوَلَد فِي بَطنهَا وَكبر "، فصدقها عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَفرق بَينهمَا، وَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: " أما إِنَّه لم يبلغنِي عنكما إِلَّا خير، وَألْحق الْوَلَد بِالْأولِ ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - عَن ابْن علية عَن حميد عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَنه شكّ فِي ابْن لَهُ، فَدَعَا لَهُ الْقَافة.

(5/183)


فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ الصَّادِق المصدوق: أَن أحدكُم يجمع خلقه فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ يكون علقَة مثل ذَلِك، ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك، ثمَّ يبْعَث الله الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح، ثمَّ يُؤمر بِأَرْبَع كَلِمَات، يكْتب رزقه وَعَمله وأجله وشقي هُوَ أم سعيد، فوالذي لَا إِلَه غَيره، إِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فيختم لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة فيدخلها. وَإِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فيختم لَهُ بِعَمَل أهل النَّار فيدخلها ".
وروى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا يحيى عَن الْأَجْلَح عَن الشّعبِيّ عَن عبد الله بن الْجَلِيل عَن زيد بن الأرقم - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كنت جَالِسا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فجَاء رجل من الْيمن، فَقَالَ: إِن ثَلَاث نفر من أهل الْيمن أَتَوا عليا يختصمون إِلَيْهِ فِي ولد، وَقد وَقَعُوا على امْرَأَة فِي طهر وَاحِد، فَقَالَ لاثْنَيْنِ: طيبا بِالْوَلَدِ لهَذَا (فغلبا) ، ثمَّ قَالَ لاثْنَيْنِ: طيبا بِالْوَلَدِ لهَذَا (فغلبا) ، ثمَّ قَالَ لاثْنَيْنِ: طيبا بِالْوَلَدِ لهَذَا فغلبا. ثمَّ قَالَ: أَنْتُم شُرَكَاء متشاكسون، إِنِّي مقرع بَيْنكُم، فَمن قرع فَلهُ الْوَلَد، وَعَلِيهِ لصاحبيه ثلثا الدِّيَة، فأقرع بَينهم، فَجعله لمن قرع، فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَدَت أَضْرَاسه أَو نَوَاجِذه ".

(5/184)


وَرَوَاهُ سَلمَة بن كهيل عَن الشّعبِيّ عَن الْخَلِيل، أَو ابْن الْخَلِيل قَالَ: " أَتَى عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - فِي امْرَأَة ولدت من ثَلَاث " بِمَعْنَاهُ، وَلم يذكر الْيمن، وَلَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا قَوْله: " طيبا ".
وَرُوِيَ عَن قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب أَن رجلَيْنِ اشْتَركَا فِي طهر امْرَأَة، فَحملت مِنْهُمَا (فَولدت ولدا) ، فارتفعا إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَدَعَا ثَلَاثَة من الْقَافة، فدعوا بِتُرَاب، فوطئ فِيهِ الرّجلَانِ والغلام، ثمَّ قَالَ لأَحَدهمَا: " انْظُر "، فَنظر، فَاسْتقْبل واستعرض واستدبر، فَقَالَ: " أسر أم أعلن؟ " فَقَالَ: " بل أسر "، فَقَالَ: " لقد أَخذ الشّبَه مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَمَا أَدْرِي من أَيهمَا هُوَ " وَذكروا عَن الآخرين بِمَعْنى ذَلِك، فَقَالَ عمر: " إِنَّا نقوف الْآثَار " ثَلَاثًا يَقُولهَا، وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - قائفاً، فَجعله لَهما يرثانه ويرثهما، فَقَالَ سعيد: " أَتَدْرِي من عصبته؟ " قلت: " لَا "، قَالَ: " الْبَاقِي مِنْهُمَا ".
وَرُوِيَ عَن سماك عَن أنَاس من أهل الْمَدِينَة أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - قضى فِي نخاسين وَقع أَحدهمَا على جَارِيَة، ثمَّ بَاعهَا من آخر فَوَقع عَلَيْهَا، فَولدت، فَقَالَت: " لَا أَدْرِي من أَيهمَا هُوَ؟ " فقضي بَينهمَا يرثهما ويرثانه، وَالَّذِي يبْقى مِنْهُمَا، هُوَ منزلَة أَبِيه، وَالله أعلم.

(5/185)


(فارغة)

(5/186)


(كتاب الْعتْق وَالْوَلَاء وَالْمُدبر وَالْكِتَابَة)

وَمن كتاب الْعتْق وَالْوَلَاء وَالْمُدبر والكابة.
(مَسْأَلَة) (367)
:
إِذا أعتق من عَبده جُزْءا عتق كُله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " هُوَ بِالْخِيَارِ بَين أَن يعْتق بَاقِيَة وَبَين أَن يستسعى ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا عِنْد أبي دَاوُد من حَدِيث قَتَادَة عَن أبي الْمليح عَن أَبِيه أَن رجلا أعتق شقيصاً لَهُ من غُلَام، فَذكر ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " لَيْسَ لله شريك، فَأجَاز النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عتقه "، وَالله أعلم.

(5/187)


(مَسْأَلَة) (368)
:
وَإِذا أعتق أحد الشَّرِيكَيْنِ نصِيبه - وَهُوَ مُوسر - سرى إِلَى شَرِيكه وَضمن لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " شَرِيكه هُوَ بِالْخِيَارِ بَين أَن يعتقهُ، أَو يكاتبه، أَو يستسعيه، أَو يغرم قيمَة نصِيبه وشريكه ".
دليلنا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل، فَأعْطِي شركاؤه حصصهم، وَعتق عَلَيْهِ العَبْد، وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أعتق شركا لَهُ فِي مَمْلُوك فَعَلَيهِ عتقه كُله إِن كَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمنه، وَإِن لم يكن لَهُ مَال عتق مِنْهُ مَا عتق ".
وَعند البُخَارِيّ أَيْضا قَالَ: " وَرَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب ".
وَأخرجه مُسلم مُسْندًا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أعتق شِقْصا لَهُ فِي مَمْلُوك، فَكَانَ للَّذي يعْتق مِنْهُمَا نصِيبه مبلغ ثمنه من عتق كلّه ".
وَرَوَاهُ أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن

(5/188)


النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أعتق نَصِيبا لَهُ فِي مَمْلُوك، أَو شركا من عبد فَكَانَ لَهُ من المَال مَا يبلغ قيمَة بَقِيَّة العَبْد فقد عتق "، قَالَ نَافِع: " وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق ". قَالَ أَيُّوب: " لَا أَدْرِي أَشَيْء قَالَه نَافِع، أَو هُوَ فِي الحَدِيث؟ ".
وَفِي رِوَايَة بِمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنه قَالَ: " فَهُوَ عَتيق " بدل قَوْله: " فقد عتق "، أخرج البُخَارِيّ الأول، وَمُسلم الثَّانِي فِي الصَّحِيح. وَهَذَا شكّ وَقع لأيوب) ، وَقد حفظه عبيد الله بن عمر، وَمَالك بن أنس، وَجَرِير بن حَازِم عَن نَافِع فِي الحَدِيث، (وَمَالك وَعبيد الله أثبت فِي) نَافِع من أَيُّوب.
(وَكَذَلِكَ قَالَ جرير بن حَازِم عَن نَافِع) كَمَا قَالَا، أخرجه مُسلم من حَدِيثه عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أعتق نَصِيبا لَهُ فِي عبد، فَكَانَ لَهُ من المَال قدر مَا يبلغ قِيمَته قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل، وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق ".
وَعند البُخَارِيّ من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر

(5/189)


- رَضِي الله عَنْهُمَا - كَانَ يُفْتِي فِي العَبْد أَو الْأمة يكون بَين شُرَكَاء فَيعتق أحدهم نصِيبه مِنْهُ يَقُول: " قد وَجب عَلَيْهِ عتقه كُله إِذا كَانَ لَهُ من المَال مَا يبلغ يقوم من مَاله قيمَة الْعدْل، وَيدْفَع إِلَى الشُّرَكَاء، أنصباؤهم، ويخلي سَبِيل الْمُعْتق "، يخبر ذَلِك ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
واتفقا على حَدِيث سَالم عَن أَبِيه - يبلغ بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا كَانَ العَبْد بَين اثْنَيْنِ، فَأعتق أَحدهمَا نصِيبه، فَإِن كَانَ مُوسِرًا تقوم عَلَيْهِ قيمَة، وَلَا وكس، وَلَا شطط، ثمَّ يعْتق ".
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فِي الْمَمْلُوك بَين الرجلَيْن، فَيعتق أَحدهمَا نصِيبه، قَالَ: " يضمن ".
وَعِنْده أَيْضا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) من أعتق شقيصاً من مَمْلُوك فَهُوَ حر من مَاله.
وَرُوِيَ عَن الْحسن بن عمَارَة عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنْهُم - قَالَ: " كَانَ رجلَانِ من جُهَيْنَة بَينهمَا غُلَام، فَأعتق أَحدهمَا، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فضمنه إِيَّاه، وَكَانَ لَهُ قَرِيبا من مِائَتي شَاة، فَبَاعَهَا فَأَعْطَاهَا صَاحبه ". تفرد بِهِ

(5/190)


الْحسن بن عمَارَة، وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن ابْن أبي ليلى عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي مجلز عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير بن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أعتق شِقْصا أَو نَصِيبا فِي مَمْلُوك فخلاصة عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال، وَإِلَّا قوم عَلَيْهِ واستسعى بِهِ غير مشقوق عَلَيْهِ ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ جرير بن حَازِم، وَأَبَان بن يزِيد الْقطَّان، ومُوسَى بن خلف الْعَمى عَن قَتَادَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَذكروا فِيهِ السّعَايَة.
وَرَوَاهُ عبد الله بن يزِيد الْمقري - وَهُوَ ثِقَة - عَن همام عَن قَتَادَة فَجعل ذكر السّعَايَة من قَول قَتَادَة، وَلم يدرجه فِي الحَدِيث، وَذكره عَنهُ أَن رجلا أعتق شِقْصا لَهُ فِي مَمْلُوكه، فغرمه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَقِيَّة ثمنه، قَالَ: " وَكَانَ قَتَادَة يَقُول: إِن لم يكن لَهُ مَال استسعى العَبْد ".

(5/191)


قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: " أَحَادِيث همام عَن قَتَادَة أصح من حَدِيث غَيره؛ لِأَنَّهُ كتبهَا إملاء ". وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: " سَمِعت يحيى بن سعيد يَقُول: شُعْبَة أعلم النَّاس بِحَدِيث قَتَادَة مَا سمع مِنْهُ وَمَا لم يسمع، وَهِشَام أحفظ وَسَعِيد أكبر ".
وروى الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: " كَانَ ثَلَاثُونَ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُونَ: إِذا أعتق الرجل العَبْد بَينه وَبَين الرجل فَهُوَ ضَامِن إِن كَانَ مُوسِرًا، وَإِن كَانَ مُعسرا سعى بِالْعَبدِ صَاحبه فِي نصف قِيمَته غير مشقوق عَلَيْهِ ". وَهَذَا لَا يَصح، وراوية الْحجَّاج، وَلَا يعرف بِهِ، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (369)
:
من أعتق سِتَّة أعبد لَهُ فِي مرض مَوته، وَلَا مَال لَهُ غَيرهم أَقرع بَينهم، فَيحكم بِعِتْق اثْنَيْنِ، ورق أَرْبَعَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يعْتق من كل وَاحِد ثلثه وَلَا يقرع ".
وَدَلِيلنَا مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن الْحصين أَن رجلا من الْأَنْصَار أوصى عِنْد مَوته، فَأعتق سِتَّة مماليك لَيْسَ لَهُ مَال غَيرهم، أَو قَالَ أعتق عِنْد مَوته سِتَّة مماليك لَهُ، وَلَيْسَ

(5/192)


لَهُ شَيْء غَيرهم، فَبلغ ذَلِك النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ فِيهِ قولا شَدِيدا، ثمَّ دعاهم فجزأهم ثَلَاثَة أَجزَاء، فأقرع بَينهم، فَأعتق اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة.
وَعِنْده أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رجلا كَانَ لَهُ سِتَّة أعبد، وَلم يكن لَهُ مَال غَيرهم، فَأعْتقهُمْ عِنْد مَوته، فَرفع ذَلِك إِلَى النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فكره ذَلِك، ثمَّ جزأهم، فأقرع بَينهم، فَأعتق اثْنَيْنِ، وأرق أَرْبَعَة.
وَرُوِيَ من حَدِيث الْحسن عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رجلا من الْأَنْصَار أعتق سِتَّة أعبد لَهُ عِنْد الْمَوْت، فأقرع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهم، فَأعتق ثلثهم، وأرق ثلثيهم، وَقَالَ: " لَو علمنَا مَا صلينَا عَلَيْهِ، أَو مَا دفن فِي مقابرنا "، حَدِيث ابْن سِيرِين، وَأبي الْمُهلب عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو مُتَّصِل، حكم مُسلم وَغَيره من أَئِمَّة أهل الحَدِيث بِصِحَّتِهِ.
فَأَما حَدِيث الْحسن عَن عمرَان بن حُصَيْن فالمحدثون يَقُولُونَ: " إِنَّه مُرْسل، الْحسن لم يسمع من عمرَان "، وَالله أعلم.
وروى الشَّافِعِي عَن عبد الْمجِيد عَن ابْن جريج قَالَ: " أَخْبرنِي قيس بن سعد أَنه سمع مَكْحُولًا يَقُول: سَمِعت سعيد بن الْمسيب يَقُول: أعتقت امْرَأَة أَو رجل سِتَّة أعبد لَهَا، وَلم يكن لَهَا مَال غَيرهم، فَأتي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك، فأقرع بَينهم، فَأعتق ثلثهم ". قَالَ الشَّافِعِي

(5/193)


- رَحمَه الله -: " كَانَ ذَلِك فِي مرض الْمُعْتق الَّذِي مَاتَ فِيهِ ".
وروى مَالك عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن أَن رجلا فِي زمن أبان بن عُثْمَان أعتق رَقِيقا لَهُ جَمِيعًا، فَأمر أبان بذلك الرَّقِيق، فقسموا ثَلَاثًا ثمَّ أسْهم على أَيهمْ يخرج سهم الْمَيِّت فيعتقهم، فَخرج سهم الْمَيِّت على أحد الأثلاث، فعتقوا، وَقَالَ مَالك: " وَذَلِكَ أحسن مَا سَمِعت ".
وَرُوِيَ عَن أبي قلَابَة، أَن رجلا من بني عذرة أعتق مَمْلُوكا لَهُ عِنْد مَوته، وَلَيْسَ لَهُ مَال غَيره، فَأعتق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثلثه، وَأمر أَن يسْعَى فِي الثُّلثَيْنِ، وَهَذَا مُرْسل، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (370)
:
وَلَا يعْتق عَلَيْهِ أَخُوهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " يعْتق ". ووافقنا فِي بني الْأَعْمَام أَنهم يعتقون عَلَيْهِ بِحَق الْملك.
فبناء الْمَسْأَلَة لنا على الْمعَانِي.
وَرُبمَا اسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سعد بن مرْجَانَة صَاحب عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيّمَا امْرِئ مُسلم أعتق امْرَءًا مُسلما استنقذ الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا من النَّار ".

(5/194)


وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر ".
يُقَال فِي هَذَا الحَدِيث من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن حَمَّاد بن سَلمَة تفرد بِهِ هَكَذَا، وَخَالفهُ سعيد بن أبي عرُوبَة، فَرَوَاهُ عَن قَتَادَة عَن الْحسن من قَوْله: " عَن قَتَادَة عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَا: " حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقَالَ مُوسَى فِي مَوضِع آخر: " عَن سَمُرَة فِيمَا يحْسب حَمَّاد قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر ".
وَقَالَ أَبُو عِيسَى: " سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَلم يعرفهُ عَن الْحسن عَن سَمُرَة إِلَّا من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة ".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " والْحَدِيث تفرد بِهِ حَمَّاد بن سَلمَة وَخَالفهُ غَيره، ثمَّ شكّ هُوَ أَيْضا فِيهِ، فَالصَّوَاب لمن راقب فِي

(5/195)


دينه أَن يتَوَقَّف فِيهِ، وَلَا يحْتَج بِهِ ".
وَالْوَجْه الآخر: إِن أَكثر الْمُحدثين يُنكرُونَ سَماع الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب غير حَدِيث الْعَقِيقَة وَيَقُولُونَ: إِنَّه كتاب، وَالله أعلم.
وروى ضَمرَة بن ربيعَة عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر ". لَو كَانَ هَذَا الحَدِيث عَن سعيد الثَّوْريّ عَن عبد الله بن دِينَار عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - صَحِيحا لَكَانَ كالأخذ بِالْيَدِ، وَلما خَفِي على الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَاب سُفْيَان الَّذين هُوَ حفاظ حَدِيثه، لكنه تفرد بِهِ ضَمرَة بن ربيعَة عَن سُفْيَان، وضمرة غير مُحْتَج بِهِ.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر ضَعِيف، أخبرنَا أَبُو الفوارس الْحسن بن أَحْمد أبي الفوارس حَدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن سهل حَدثنَا مُحَمَّد بن صَالح الْكلابِي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَقْدِسِي حَدثنَا

(5/196)


مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر ".
وروى الْعَرْزَمِي عَن أبي النَّضر عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: " جَاءَ رجل - يُقَال لَهُ صَالح - بأَخيه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُرِيد أَن أعتق أخي هَذَا، فَقَالَ: إِن الله أعْتقهُ حِين ملكته ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " الْعَرْزَمِي تَركه ابْن الْمُبَارك، وَيحيى الْقطَّان، وَابْن مهْدي، وَأَبُو النَّضر هُوَ مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ مَتْرُوك أَيْضا، وَهُوَ الْقَائِل: " كَمَا حدثت عَن أبي صَالح كذب ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " الْعَرْزَمِي والكلبي وَأَبُو صَالح بِأَذَان ضعفاء لَا يحل الِاحْتِجَاج بروايتهم، وَقد سبق ذكرنَا لَهُم "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (371)
:
وَلَا وَلَاء بِغَيْر جِهَة الْإِعْتَاق، وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -:

(5/197)


" إِذا أسلم على يَدَيْهِ وأولاه ثَبت وَلَاؤُه، يَرِثهُ وَيعْقل عَنهُ، إِلَّا أَن يكون لَهُ وَارِث ".
وَدَلِيلنَا من الْخَبَر مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق ".
وَعِنْده أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قَوْله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: " كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِين قدمُوا الْمَدِينَة يَرث المُهَاجر الْأنْصَارِيّ، دون ذِي رَحمَه للأخوّة الَّتِي آخى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهم، فَلَمَّا نزلت الْآيَة {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ} قَالَ: " نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} {من النَّصْر والرفادة والنصيحة، ويوصي لَهُ، وَقد ذهب الْمِيرَاث} ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: " حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن إِسْحَاق عَن دَاوُد بن الْحصين قَالَ: كنت أَقرَأ على أم سعد بنت الرّبيع، وَكَانَت يتيمة فِي حجر أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ فَقَرَأت {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ} فَقَالَ: " لَا تقْرَأ (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ

(5/198)


أَيْمَانُكُمْ} ، إِنَّمَا نزلت فِي أبي بكر وَابْنه عبد الرَّحْمَن حِين أَبى الْإِسْلَام، فَحلف أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَلا يورثه، فَلَمَّا أسلم أمره نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يؤتيه نصِيبه "، زَاد فِي رِوَايَة غير أَحْمد " فَمَا أسلم حَتَّى حمل على الْإِسْلَام بِالسَّيْفِ ".
وَرُوِيَ عَن تَمِيم الدَّارِيّ قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الرجل يسلم على يَدي الرجل ثمَّ يَمُوت، وَلَيْسَ لَهُ وَارِث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هُوَ أولى النَّاس بمحياه ومماته ".
وروى مُعَاوِيَة بن يحيى الصَّدَفِي عَن الْقَاسِم الشَّامي عَن أبي أُمَامَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أسلم على يَدَيْهِ رجل فَلهُ وَلَاؤُه "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " الصَّدَفِي ضَعِيف ".
وَقَالَ الدَّارمِيّ: " قلت ليحيى بن معِين: مُعَاوِيَة بن يحيى الصَّدَفِي قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مصرف عَن مُعَاوِيَة بن إِسْحَاق

(5/199)


قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِن فلَانا أسلم على يَدي، قَالَ هُوَ مَوْلَاك، فَإِذا مت فأوص لَهُ "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (372)
:
وَبيع الْمُدبر جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " لَا يجوز ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر بن عبد الله دبر رجل من الْأَنْصَار عبدا لَهُ لم يكن لَهُ مَال غَيره، فَبَاعَهُ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ جَابر: " اشْتَرَاهُ ابْن النحام عبدا قبطياً مَاتَ عَام (أول فِي إِمَارَة ابْن الزبير) ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن عَمْرو بن دِينَار عَنهُ أَن رجلا من الْأَنْصَار أعتق غُلَاما لَهُ عَن دبر، وَلم يكن لَهُ مَال غَيره، فَبلغ ذَلِك النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " من يَشْتَرِيهِ مني؟ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله بثمان مائَة دِرْهَم، فَدَفعهَا إِلَيْهِ، قَالَ: سَمِعت جَابر بن

(5/200)


عبد الله يَقُول: عبدا قبطياً مَاتَ عَام أول ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَن عَطاء عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا أعتق غُلَاما لَهُ عَن دبر، فَاحْتَاجَ فَأَخذه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " من يَشْتَرِيهِ مني؟ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ نعيم بن عبد الله بثمان مائَة دِرْهَم فَدفع إِلَيْهِ ثمنه ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ أَن رجلا من الْأَنْصَار أعتق غُلَاما عَن دبر، وَكَانَ مُحْتَاجا، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدَعَاهُ فَقَالَ: " أعتقت غلامك؟ " فَقَالَ: " نعم " فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْت أحْوج إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: " من يَشْتَرِيهِ؟ "، فَقَالَ نعيم بن عبد الله: " أَنا "، فَاشْتَرَاهُ، فَأخذ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمنه، فَدفعهُ إِلَى صَاحبه.
وَعند مُسلم أَيْضا عَنهُ قَالَ: " اعْتِقْ رجل من بني عذرة عبدا لَهُ عَن دبر، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " أَلَك مَال غَيره؟ "، فَقَالَ: " لَا "، فَقَالَ: " من يشتره مني؟ "، فَاشْتَرَاهُ نعيم بن النحام الْعَدوي بثمان مائَة دِرْهَم، فجَاء بهَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدَفعهَا إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: " ابدأ بِنَفْسِك، فَتصدق عَلَيْهَا، فَإِن فضل شَيْء فلأهلك، فَإِن فضل عَن أهلك شَيْء فلذي قرابتك، فَإِن فضل عَن ذِي قرابتك فَهَكَذَا وَهَكَذَا يَقُول، فَبين يَديك، وَعَن

(5/201)


يَمِينك، وَعَن شمالك ".
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار، وَعَن أبي الزبير سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول: " دبر رجل منا غُلَاما لَهُ، لَيْسَ لَهُ مَال غَيره، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من يَشْتَرِيهِ؟ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن النحام، قَالَ عَمْرو: سَمِعت جَابِرا يَقُول: عبدا قبطياً مَاتَ عَام أول فِي أَمارَة ابْن الزبير، زَاد أَبُو الزبير يُقَال لَهُ: يَعْقُوب ".
وروى الدَّارَقُطْنِيّ أخبرنَا أَبُو عَمْرو يُوسُف بن يَعْقُوب حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَزِيز الْمُقَوّم حَدثنَا سَالم بن قُتَيْبَة حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبيع الْمُدبر ".
وروى أَبُو أَحْمد بن عدي الْحَافِظ حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف بن عَاصِم حَدثنَا يُوسُف بن مُوسَى حَدثنَا جرير عَن عبد الْغفار بن الْقَاسِم عَن أبي جَعْفَر قَالَ: " ذكر عِنْده الَّذِي كَانَ عَطاء وطاووس يَقُولُونَ عَن جَابر بن عبد الله فِي الَّذِي أعْتقهُ مَوْلَاهُ فِي عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ

(5/202)


أعْتقهُ عَن دبر فَأمر أَن يَبِيعهُ وَيَقْضِي دينه، فَبَاعَهُ بثمان مائَة دِرْهَم "، قَالَ أَبُو جَعْفَر: " شهِدت هَذَا الحَدِيث من جَابر، فَقَالَ: إِنَّمَا يَأْذَن فِي بيع خدمته ".
قَالَ ابْن عدي: " حَدثنَا مُحَمَّد بن خلف حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس الْقرشِي، قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: أَبُو مَرْيَم الْحَنَفِيّ اسْمه عبد الْغفار بن الْقَاسِم، وَكَانَ يضع الحَدِيث ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله - أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْحَافِظ أخبرنَا عبد الصَّمد بن عَليّ بن مكرم حَدثنَا أسلم بن سهل الوَاسِطِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن أبان حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان عَن عُثْمَان بن عُمَيْر عَن عُمَيْر أخبرنَا عَطاء بن أبي رَبَاح حَدثنَا جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (بَاعَ مُدبرا، فَأتيت أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ، فَقلت لَهُ: إِن عَطاء بن أبي رَبَاح حَدثنَا عَن جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) بَاعَ خدمَة الْمُدبر ". كَذَا رُوِيَ عَن عبد الْغفار بن الْقَاسِم عَن أبي جَعْفَر عَن جَابر وَهُوَ وهم، وَأَبُو شيبَة ضَعِيف الحَدِيث، قد سبق ذكري لَهُ، وَعبد الْغفار أَيْضا ضَعِيف قَالَه لي أَبُو عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ بن عمر الْحَافِظ، وَالصَّوَاب عَن أبي جَعْفَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، أخبرناه أَبُو

(5/203)


عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ أخبرنَا عَليّ بن عمر الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا يزِيد بن هَارُون حَدثنَا عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن أبي جَعْفَر قَالَ: " بَاعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خدمَة الْمُدبر ". قَالَ أَبُو بكر: " لم أجد فِيهِ حَدِيثا غير هَذَا، وَأَبُو جَعْفَر وَإِن كَانَ من الثِّقَات فَإِن حَدِيثه مُرْسل ".
أَخْبرنِي أَبُو عبد الرَّحْمَن أخبرنَا عَليّ بن عمر حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد بن صاعد حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، قَالَ: " سَمِعت يحيى بن سعيد يَقُول: أَخْبرنِي أَبُو عمْرَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن حَارِثَة - وَهُوَ أَبُو الرِّجَال - عَن عمْرَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَصَابَهَا مرض، وَإِن بعض بني أَخِيهَا ذكرُوا شكواها لرجل من الزط يتطبب، وَأَنه قَالَ لَهُم: إِنَّكُم لتذكرون امْرَأَة مسحورة، سحرتها جَارِيَة لَهَا فِي حجر الْجَارِيَة الْآن صبي قد بَال فِي حجرها، فَذكرُوا ذَلِك لعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَقَالَت: ادعوا لي فُلَانَة لجارية لَهَا، فَقَالُوا فِي حجرها فلَان صبي لَهُم، قد بَال فِي حجرها، فَقَالَت: ايتوني بهَا، فَقَالَت: سحرتيني؟ قَالَت: نعم، قَالَت: لمه؟ قَالَت: أردْت أَن أعتق، وَكَانَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أعتقتها عَن دبر مِنْهَا، فَقَالَت: إِن لله عَليّ أَن لَا تعتقين أبدا، انْظُرُوا أَسْوَأ الْعَرَب ملكة، فبيعوها مِنْهُم، واشترت بِثمنِهَا جَارِيَة فأعتقتها ".

(5/204)


قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: " جَابر بن عبد الله، وَعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَابْن الْمُنْكَدر، وَغَيرهم يَبِيعهُ بِالْمَدِينَةِ، وَعَطَاء، وَطَاوُس، وَمُجاهد، وَغَيرهم من المكيين، وعندك بالعراق من يَبِيعهُ، يَعْنِي الْمُدبر ".
وروى عُبَيْدَة بن حسان عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُدبر لَا يُبَاع، وَلَا يُوهب، وَهُوَ حر من الثُّلُث ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يسْندهُ غير عُبَيْدَة بن حسان وَهُوَ ضَعِيف، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ابْن عمر مَوْقُوف من قَوْله "، حَدثنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه كره بيع الْمُدبر. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا هُوَ الصَّحِيح مَوْقُوف وَمَا قبله لَا يثبت مَرْفُوعا. وَرُوَاته ضعفاء "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (373)
: وَلَا تجوز الْكِتَابَة على أقل من نجمين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة -

(5/205)


رَحمَه الله -: " تصح حَالَة ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرا} {النُّور: 33} .
وَالْكِتَابَة من الْكتب، وَمَا لم يكن مُؤَجّلا فَلَا معنى للكتب، وَلَو جَازَ غير مُؤَجل لم يكن لتسميته بِالْكِتَابَةِ معنى، فتسميته بِالْكِتَابَةِ دَلِيل شَرط الْأَجَل فِيهِ.
وَقد نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْغرَر، وَلَيْسَ الْغرَر بِأَكْثَرَ من بيع مَاله بِمَالِه، لَكِن الله تَعَالَى جوزه بِهَذِهِ الْآيَة، ووردت الْأَخْبَار والْآثَار بذلك، وَلم يسمع أَن أحدا من السّلف كَاتب عَبده كِتَابَة حَالَة، وَإِنَّمَا كاتبوهم بِذكر الْأَجَل فِيهِ، فَصَارَ إِجْمَاعهم على ذَلِك بَيَانا لِلْآيَةِ، فَلَا يجوز حَالا، وَالله أعلم.
وروى الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أخبرنَا مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " جَاءَتْنِي بَرِيرَة، فَقَالَت: إِنِّي كاتبت أَهلِي على تسع أَوَاقٍ فِي كل عَام (أُوقِيَّة فأعينيني) "، وَذكر الحَدِيث عَنهُ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، (اتفقنا على

(5/206)


صِحَّته، وَالله أعلم) .
(مَسْأَلَة) (374)
:
وَلَا يعْتق الْمكَاتب مَا لم يقل سَيّده فِي عقد كِتَابَته، فَإِذا أدّيت إِلَيّ فَأَنت حر. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يعْتق بأَدَاء نُجُوم الْكِتَابَة، وَإِن لم يقل إِن أدّيت ".
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ أَخْبرنِي أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن الْحسن القَاضِي بهمذان حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن حَدثنَا عَفَّان بن مُسلم حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَاصِم بن سُلَيْمَان، وَعلي بن زيد عَن عُثْمَان النَّهْدِيّ عَن سلمَان، قَالَ: " كاتبت أَهلِي على أَن أغرس لَهُم خَمْسمِائَة فسيلة، فَإِذا علقت فَأَنا حر، فَأتيت النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: اغرس، وَاشْترط لَهُم، فَإِذا أردْت أَن تغرس فَآذِنِّي، فآذنته فجَاء، فَجعل يغْرس إِلَّا وَاحِدَة غرستها بيَدي، فعلقن جَمِيعًا إِلَّا الْوَاحِدَة "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (375)
:
وَإِذا مَاتَ الْمكَاتب، وَقد بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من مَال الْكِتَابَة، مَاتَ

(5/207)


رَقِيقا، وانفسخت كِتَابَته بِمَوْتِهِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا خلف وَفَاء بِمَال كِتَابَته أدّى عَنهُ، وَعتق حكما قبل مَوته (بِغَيْر فصل) ". أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا يحيى بن أبي طَالب أخبرنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ عَن زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم ".
وبإسناده إِلَى يزِيد أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عبد الله أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: " كَانَ زيد - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم من مُكَاتبَته ".
وبإسناده إِلَى يزِيد حَدثنَا ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن معبد الْجُهَنِيّ عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم ".
وبإسناده عَن قَتَادَة قَالَ: " قَالَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -: إِذا مَاتَ الْمكَاتب وَترك مَالا فَهُوَ لمواليه، وَلَيْسَ لوَرثَته شَيْء ".

(5/208)


وبإسناده أخبرنَا يزِيد أخبرنَا مُحَمَّد بن سَالم عَن الشّعبِيّ قَالَ: " كَانَ زيد بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول -: الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم، لَا يَرث وَلَا يُورث ".
وَكَانَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول: " إِذا مَاتَ الْمكَاتب وَترك مَالا قسم مَا ترك على مَا أدّى، وعَلى مَا بَقِي، فَمَا أصَاب مَا أدّى فللورثة، وَمَا بَقِي فلمواليه ".
وَكَانَ عبد الله يَقُول: " يُؤَدِّي إِلَى موَالِيه مَا بَقِي عَلَيْهِ من مُكَاتبَته، ولورثته مَا بَقِي.
أخبرنَا أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي، وَأَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان قَالَ: " أخبرنَا إِسْمَاعِيل الصفار حَدثنَا سَعْدَان بن نصر حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة

(5/209)


مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير عَن عَمْرو بن مَيْمُون بن مهْرَان عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَ: " اسْتَأْذَنت عَلَيْهَا، فَقَالَت: من هَذَا؟ فَقلت سُلَيْمَان، قَالَت: كم بَقِي عَلَيْك من مُكَاتَبَتك؟ قَالَ: قلت: عشرَة أَوَاقٍ، قَالَت: ادخل فَإنَّك عبد مَا بَقِي عَلَيْك دِرْهَم "، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (376)
:
وإيتاء الْمكَاتب بعض مَال الْكِتَابَة، أَو الْحَط لبَعض مَال الْكِتَابَة وَاجِب على السَّيِّد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله -: " إِنَّه غير وَاجِب ".

(5/210)


وَدَلِيلنَا قَوْله عز وَجل: {وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِيءَاتَاكُمْ} .
أخبرنَا الإِمَام أَبُو طَاهِر الزيَادي أخبرنَا أَبُو بكر الْقطَّان حَدثنَا أَبُو الْأَزْهَر حَدثنَا روح حَدثنَا ابْن جريج، وَهِشَام بن أبي عبد الله قَالَا

(5/211)


" أخبرنَا عَطاء بن السَّائِب عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي قَوْله: {وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِيءَاتَاكُمْ} . قَالَ: " ربع الْكِتَابَة "، وَرُوِيَ بِمَعْنَاهُ مَرْفُوعا.
وَأخْبرنَا أَبُو طَاهِر أخبرنَا أَبُو بكر الْقطَّان حَدثنَا أَبُو الْأَزْهَر حَدثنَا روح حَدثنَا حَمَّاد عَن الْجريرِي عَن أبي بصرة عَن أبي سعيد مولى آل أسيد أَنه كَاتب مولى لَهُ على ألف دِرْهَم (ومائتي دِرْهَم) ، قَالَ: " فَأَتَيْته بمكاتبتي، فَرد عَليّ مِائَتي دِرْهَم ".
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا أَحْمد بن عبد الْجَبَّار حَدثنَا وَكِيع عَن أبي شبيب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - كَاتب عبدا لَهُ يكنى بِأبي أُميَّة فَجَاءَهُ بنجمه حِين حل، فَقَالَ: " اذْهَبْ واستعن بِهِ فِي مُكَاتَبَتك "، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَو تركته حَتَّى يكون آخر نجم، قَالَ: " إِنِّي أَخَاف أَن لَا أدْرك ذَلِك، ثمَّ قَرَأَ {وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِيءَاتَاكُمْ} . قَالَ عِكْرِمَة: " فَكَانَ أول نجم أُدي فِي الْإِسْلَام ".
أخبرنَا أَبُو عبد الله حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس حَدثنَا يحيى بن أبي طَالب أخبرنَا يزِيد بن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن

(5/212)


عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يُؤَدِّي الْمكَاتب بِحِصَّة مَا أدّى دِيَة حر، وَمَا بَقِي دِيَة عبد ".
وَبِه عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا أصَاب الْمكَاتب حدا أَو مِيرَاثا ورث بِحِسَاب مَا أعتق مِنْهُ، وأقيم عَلَيْهِ الْحَد بِحِسَاب مَا عتق مِنْهُ ".
أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن الْفضل الْقطَّان أخبرنَا أَبُو سُهَيْل بن زِيَاد حَدثنَا إِسْحَاق بن الْحسن حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا وهيب حَدثنَا أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يُؤَدِّي الْمكَاتب بِقدر مَا أدّى "، رِوَايَة عِكْرِمَة عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - مُرْسل، وَالله تَعَالَى أعلم.
تمّ الْكتاب، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد، وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ، وَسلم.

(5/213)


(فارغة)

(5/214)


الخاتمة

الْحَمد لله الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات، أَحْمَده - سُبْحَانَهُ - حمد الشَّاكِرِينَ، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ولي الصَّالِحين، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْأمين، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ.
أما بعد ...
فقد احتوى هَذَا الْكتاب الْقيم على مِائَتَيْنِ وَثَلَاث وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَة فِي الْقسم الأول وعَلى (376) ثَلَاثمِائَة وست وَسبعين مَسْأَلَة فِي هَذَا الْقسم، وَكلهَا منحصرة فِيمَا للإمامين أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، أَو أَحدهمَا قَول فِي الْمسَائِل الخلافية بَينهمَا، وَهِي عُمْدَة الْخلاف بَين المذهبين، ونحوي جلّ الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِيهَا بَين الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَكَذَلِكَ كثيرا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الإمامان أَحْمد وَمَالك مَعَ الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة، أَو أَحدهمَا، أَو مَا اخْتلف فِيهِ مَالك وَأحمد، رحم الله الْجَمِيع.
وَلَقَد استخلصت من خلال تحقيقي لهَذَا الْقسم النتائج التالية:
1 - سَعَة أفق الشَّرِيعَة الإسلامية وشمولها لمختلف الأفهام، حَيْثُ إِن الْخلاف ناجم عَن ذَلِك، وَعَن ثُبُوت الدَّلِيل وَفهم الدّلَالَة مِنْهُ، وَهَذِه الشَّرِيعَة صَالِحَة لكل زمَان وَمَكَان، فقد أَتَت بسعادة البشرية، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء لَا حكم لَهُ فِي الشَّرْع قطّ، وَلَكِن تخْتَلف الْقُدْرَة عَن الْعلمَاء فِي استنباط الْأَحْكَام وإيضاحها للنَّاس.
2 - أَن هَذَا الْخلاف لم يكن فِي يَوْم من الْأَيَّام سَببا للعداوة والبغضاء بَين الْأَئِمَّة المعتبرين؛ لِأَن قصدهم الْحق والتقريب إِلَى الله

(5/215)


تَعَالَى ببيانه للنَّاس والصدع بِهِ. وَقد كَانَ هَذَا الْخلاف علما لَهُ أُصُوله وقواعده، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة يدرسون أَسبَابه ويلتمسون الْأَعْذَار لمن خالفهم فِي حكم مَسْأَلَة؛ لعلمهم أَن كل مُجْتَهد اتَّقى الله مَا اسْتَطَاعَ، فَهُوَ مُطِيع لله سُبْحَانَهُ، لَيْسَ بآثم، وَلَا مَذْمُوم، الْمُصِيب مِنْهُم وَاحِد وَله أَجْرَانِ، والمخطئ لَهُ أجر، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر "، مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - يعلمُونَ أَن الْمُصِيب وَاحِد. قَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية: " قَالَ ابْن مَسْعُود لما سُئِلَ عَن مَسْأَلَة: أَقُول فِيهَا برأيي، فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان، وَالله وَرَسُوله بريئان مِنْهُ ".
قَالَ ابْن تَيْمِية: " وَلَا يُمكن لوَاحِد أَن يُحِيط بِجَمِيعِ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَا وَلَا يَدعِي ذَلِك. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن أَبَا بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ الَّذِي لَا يُفَارق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حضرا وَلَا سفرا سَأَلَ عَن مِيرَاث الْجدّة فَأخْبرهُ الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَمُحَمّد بن مسلمة بِقَضَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَكَذَلِكَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - خفيت عَلَيْهِ أَحْكَام، مِنْهَا حكم الْمَجُوس فِي الْجِزْيَة حَتَّى أخبرهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سنوا بهم سنة أهل الْكتاب ".
وَكَذَلِكَ عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - لم يكن يعلم أَن المتوفي عَنْهَا زَوجهَا تَعْتَد فِي بَيت الْمَوْت، حَتَّى أخْبرته الفريعة بنت مَالك بذلك.

(5/216)


وَأفْتى عَليّ، وَزيد، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - بِأَن المفوضة إِذا مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا فَلَا مهر لَهَا، وَلم يبلغهم حَدِيث بروع بنت واشق.
وَلَيْسَ تدوين كتب السّنة دَلِيلا على انحصار حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا، ثمَّ لَو فرض فَلَيْسَ كل مَا فِي الْكتب يُعلمهُ عَالم، بل الَّذين كَانُوا قبل جمع هَذِه الدَّوَاوِين أعلم بِالسنةِ من الْمُتَأَخِّرين؛ لِأَن كثيرا مِمَّا بَلغهُمْ وَصَحَّ عِنْدهم قد لَا يبلغنَا إِلَّا عَن مَجْهُول، أَو بِإِسْنَاد مُنْقَطع، أَو لَا يبلغنَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَت دواوينهم فِي صُدُورهمْ الَّتِي تحوي أَضْعَاف مَا فِي الدَّوَاوِين ... " اه.
وَقد بلغ من شدَّة اعتناء الْعلمَاء بِالْخِلَافِ أَن بَعضهم ذكر أَن خلاف الصَّحَابَة لَا ينسخه إِجْمَاع يحصل بعده.
وصنفت المصنفات الْكَثِيرَة فِي علم الْخلاف، فَمِنْهَا رِسَالَة " رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام " لِابْنِ تَيْمِية، رَحمَه الله، وَكتاب صِحَة أصُول مَذْهَب أهل الْمَدِينَة لِابْنِ تَيْمِية، قَالَ عَنْهَا: " وَالْمَقْصُود هُنَا أَن عمل أهل الْمَدِينَة الَّذِي يجْرِي النَّقْل حجَّة بِاتِّفَاق الْمُسلمين، كَمَا قَالَ مَالك لأبي يُوسُف - لما سَأَلَهُ عَن الصَّاع وَالْمدّ وَأمر أهل الْمَدِينَة بإحضار صيعانهم وَذكروا لَهُ أَن إسنادها عَن أسلافهم -: " أَتَرَى هَؤُلَاءِ - يَا أَبَا يُوسُف - يكذبُون؟ " قَالَ: " لَا وَالله، مَا يكذبُون "، قَالَ: " فَأَنا حررت هَذِه الصيعان فَوَجَدتهَا خَمْسَة أَرْطَال وَثلثا بأرطالكم، يَا أهل الْعرَاق " فَقَالَ: " رجعت إِلَى قَوْلك، يَا أَبَا عبد الله، وَلَو رأى صاحبى مَا رَأَيْت لرجع كَمَا رجعت ".

(5/217)


وَمِنْهَا كتاب " الْإِنْصَاف " للبطليوسي، وَفِيه قَالَ: " إِن الْخلاف عرض لأهل ملتنا - أهل السّنة وَالْجَمَاعَة - من ثَمَانِيَة أوجه، كل ضرب من الْخلاف متولد مِنْهَا متفرع عَنْهَا. الأول مِنْهَا: اشْتِرَاك الْأَلْفَاظ والمعاني، وَالثَّانِي: الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، وَالثَّالِث: الْإِفْرَاد والتركيب، وَالرَّابِع: الْخُصُوص والعموم، وَالْخَامِس، الرِّوَايَة وَالنَّقْل، وَالسَّادِس: الِاجْتِهَاد فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَالسَّابِع: النَّاسِخ والمنسوخ، وَالثَّامِن: الْإِبَاحَة والتوسع ".
وَمِنْهَا كتاب " الْكَوْكَب الدُّرِّي فِيمَا يتَخَرَّج على الْأُصُول النحوية من الْفُرُوع الْفِقْهِيَّة، لجمال الدّين الأسنوي، وَقد ذكر فِيهِ أَن علم الْحَلَال وَالْحرَام مستمد من علم أصُول الْفِقْه والعربية؛ لِأَن أدلته عَرَبِيَّة فَيتَوَقَّف فهم تِلْكَ الْأَدِلَّة على فهمها.
وَمِنْهَا كتاب " الِاتِّبَاع " للْقَاضِي ابْن أبي الْعِزّ الْحَنَفِيّ، بَين فِيهِ وجوب اتِّبَاع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَن التعصب والتقليد قد يكون من عوامل الِاخْتِلَاف عِنْد بعض النَّاس.
وَمِنْهَا " أَسبَاب اخْتِلَاف الْفُقَهَاء " للدكتور عبد المحسن التركي، وَذكر فِيهِ من أَسبَاب اخْتِلَاف الْفُقَهَاء الْقِرَاءَة الشاذة. وَمِنْهَا " الْخلاف بَين الْعلمَاء وموقفنا مِنْهُ " للشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح العثيمين، وَبَين فِيهِ أَن الْخلاف بَين الْأمة لم يكن فِي أصُول دينهَا ومصادره الْأَصْلِيَّة، وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَشْيَاء لَا تمس وحدة الْمُسلمين الْحَقِيقِيَّة، وَهُوَ أَمر لَا بُد أَن يكون.

(5/218)


وثمت كتب اعتنت بِذكر الْمسَائِل الخلافية بَين الْعلمَاء مُقَارنَة بَين أَقْوَالهم وحججهم، فَكَانَت ثروة مباركة، وَمِنْهَا الإفصاح لِابْنِ هُبَيْرَة، وَالْمُغني لِابْنِ قدامَة، والخلافيات للبيهقي، أصل هَذَا الْمُخْتَصر، وَشرح الْمُهَذّب للنووي، والاستذكار لمذاهب فُقَهَاء الْأَمْصَار وعلماء الأقطار لِابْنِ عبد الْبر، ومجموع فتاوي ابْن تَيْمِية، وَغَيرهَا كثير.
لقد كَانَ الْعلمَاء السَّابِقُونَ - رَحِمهم الله تَعَالَى - يعْرفُونَ لأهل الْعلم فَضلهمْ، ويعذرونهم فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ، ويلتمسون الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة للْأَحْكَام ودلالتها، وكل مِنْهُم يرجع إِلَى كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يَقُولُونَ على الله - سُبْحَانَهُ - بِلَا علم، فَكَانَ مِنْهُم مُجْتَهد لَهُ مَأْخَذ شَرْعِي فِيمَا يَعْتَقِدهُ، وَلَا يحل لأحد أَن يتَصَدَّى للْفَتْوَى إِلَّا أَن يكون بَصيرًا بِخِلَاف الْعلمَاء، وَقد تحققت فِيهِ شُرُوط الْفَتْوَى، مِنْهَا الْأَمَانَة وَالتَّقوى وَالْعلم وَالْعَدَالَة. وَقد كَانَ السّلف يتدافعون الْفَتْوَى من شدَّة الْوَرع، رَحِمهم الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة.
وَالْيَوْم تَجِد جمَاعَة من الْبشر لَا خلاق لَهُم يتعرضون لعلماء الْمُسلمين ودعاتهم بالذم ويسعرون نَار الْبغضَاء فِي قُلُوب الغافلين من الْمُسلمين لعلمائهم ودعاتهم؛ ليحققوا مآربهم الدُّنْيَوِيَّة فِي إِثْبَات أنفسهم، وإظهارهم بمظهر الْعلم، {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ... .} {فاطر: 8} . فَهَؤُلَاءِ حسابهم عِنْد الله عسير؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
3 - أَن هَذَا الْكتاب الْقيم يمثل حَقِيقَة هَامة، وَهِي أَن بضَاعَة

(5/219)


الْأَئِمَّة الْفُقَهَاء من الحَدِيث صَحِيحَة غزيرة؛ لِأَن الْفِقْه الإسلامي يعْتَمد على الْكتاب وَالسّنة، وَمَا فهمه صحابة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رضوَان الله عَلَيْهِم؛ لأَنهم أعلم بالتنزيل، ثمَّ مَا قَرَّرَهُ عُلَمَاء الْأمة من التَّابِعين وَمن تَبِعَهُمْ من سلف صَالح الْمُؤمنِينَ، يحملهُ من كل خلف عدوله، ينفون عَنهُ تَحْرِيف الْجَاهِلين وَتَأْويل المبطلين وتنطع الهالكين، وَهَذَا الْكتاب يمثل أنموذجاً صَادِقا لهَذِهِ الْحَقِيقَة.
4 - أَن الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ - رَحمَه الله - إِمَام بارز فِي الحَدِيث وَالْفِقْه، شَافِعِيّ الْمَذْهَب، بل من أَئِمَّة الْمَذْهَب، وَله اختيارات يخْتَلف فِيهَا مَعَ إِمَام الْمَذْهَب الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى - ويستقل فِيهَا بِرَأْيهِ الَّذِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده.
5 - يَتَّصِف الْبَيْهَقِيّ بالمنهجية العلمية، فَهُوَ يذكر أَدِلَّة خَصمه وَيرد عَلَيْهَا، وَرُبمَا تَركهَا فِي بعض المواطن، وَلَعَلَّ عذره أَنَّهَا تعليلات عقلية، مثل مَسْأَلَة 244، ص 273 ج 4، وَإِن كَانَ - رَحمَه الله - من المتساهلين فِي الرِّجَال، كَمَا قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ، فَهُوَ يحْتَج بِحَدِيث رَوَاهُ ضَعِيف مثل ابْن لَهِيعَة أَو الْحجَّاج بن أَرْطَأَة، وَيَردهُ إِن ورد عِنْد الْمُخَالف، مثل مَسْأَلَة 244 ص 373 ج 4، وَمَسْأَلَة 247 ص 284 ج 4، وَمَسْأَلَة 255 ص 300 ج 4، وَمَسْأَلَة 277 ص 374 ج 4، وَمَسْأَلَة 269 ص 346 ج 4.
6 - أَن سَنَد الْبَيْهَقِيّ يَتَّصِف بالعلو، فَهُوَ يروي الحَدِيث وَهُوَ إِمَام يروي عَن أَئِمَّة تقدّمت وفاتهم وَتقدم سَمَاعه عَنْهُم بِإِسْنَاد مُتَّصِل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو الصَّحَابِيّ؛ رَضِي الله عَنهُ.
7 - أَن هَذَا الْكتاب ذُو قيمَة علمية كَبِيرَة، حَيْثُ إِنَّه يخْتَص بالمسائل الخلافية بَين الْإِمَامَيْنِ، فَهُوَ يخْتَلف عَن الْمسَائِل الْمُخْتَلف

(5/220)


فِيهَا بَين المذهبين، وَلذَلِك لم يذكر الْمسَائِل الَّتِي لَيْسَ للإمامين أَو أَحدهمَا قَول فِيهَا، مثل سَرقَة الْمُصحف، فَهَذِهِ مَسْأَلَة اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فِيهَا على قَوْلَيْنِ:
القَوْل الأول: إِنَّه لَا يقطع بِسَرِقَة الْمُصحف، وَبِهَذَا قَالَ الأحناف، وَبَعض الْحَنَابِلَة.
القَوْل الثَّانِي: إِنَّه يجب الْقطع بِسَرِقَة الْمُصحف، وَبِه قَالَ الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْحَنَابِلَة، وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة.
وَحجَّة الْقَائِلين بِالْقطعِ عُمُوم أَدِلَّة قطع السَّارِق، وَحجَّة الْقَائِلين بِعَدَمِ الْقطع أَن الْآخِذ يتَأَوَّل فِي أَخذه الْقِرَاءَة وَالنَّظَر فِيهِ فَلَا يقطع لذَلِك، وَأَن الْمُصحف لَا مَالِيَّة لَهُ؛ لِأَن الْمُعْتَبر تِلَاوَته، وَأَن الْمَقْصُود من الْمُصحف كَلَام الله - عز وَجل - وَهُوَ مِمَّا لَا يجوز أَخذ الْعِوَض عَنهُ، فَلَا يقطع بسرقته.
8 - أَن الْمُخْتَصر تحلى بالأمانة العلمية، حَيْثُ كَانَ اختصاره جيدا، فقد قرب الْكتاب بَين يَدي الْقَارئ وَأبقى كَلَام الْبَيْهَقِيّ فِي رجال الحَدِيث، وَحذف بعض الْأَسَانِيد المكررة، وَاقْتصر على مَوضِع

(5/221)


الشَّاهِد من الْأَحَادِيث الطَّوِيلَة، وأحال على بعض الْأَحَادِيث المكررة فِي أصل الْكتاب وَلم يكررها كثيرا، رَحمَه الله تَعَالَى.
9 - أَن الْمُخْتَصر من الْعلمَاء المعروفين، وَمن أهل الشان فِي الْفِقْه والْحَدِيث، قَالَ الذَّهَبِيّ: " عني بِهَذَا الشَّأْن، ثمَّ أقبل على تَقْيِيد الْأَلْفَاظ، وَفهم الْمُتُون ومذاهب الْعلمَاء ". وعده السخاوي مِمَّن يعْتد بقوله فِي الرِّجَال، وَقد ظَهرت خبرته فِي هَذَا الْمُخْتَصر، كَمَا فِي مَسْأَلَة 272 ص 347 ج 4، وَمَسْأَلَة 109 ص 346 ج 3.
وَبعد ...
فَهَذَا جهد الْمقل، وحسبي أَنِّي بذلت جهداً وحرصت على إِظْهَار هَذَا السّفر النفيس. وأشكر الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وأحمده على جزيل إنعامه، وأشكره على توفيقه وامتنانه.
وأسأل الله - جلت قدرته - أَن يَرْزُقنِي الْإِخْلَاص فِي القَوْل وَالْعَمَل، وَأَن يَجْعَل هَذَا الْعَمَل خَالِصا لوجهه الْكَرِيم.
وَصلى الله وَسلم على نَبينَا مُحَمَّد بن عبد الله، وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ. وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين.

(5/222)