مختصر خلافيات البيهقي

كتاب الْفَرَائِض

رُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أرْحم أمتِي بأمتي أَبُو بكر، وأشدهم فِي دين الله عمر، وأصدقهم حَيَاء عُثْمَان، وأعلمهم بالحلال وَالْحرَام معَاذ بن جبل، وأعلمهم بِمَا أنزل الله عَليّ أبي بن كَعْب، وأفرضهم زيد بن ثَابت، وَأمين هَذِه الْأمة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح " وَالله الْمُوفق.
مَسْأَلَة (159)

ذَوُو الْأَرْحَام لَا يَرِثُونَ إِرْث ذَوي النّسَب. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: (إِنَّهُم يَرِثُونَ) .

(4/5)


قَالَ الله عز وَجل: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، الْآيَات فِي الْمِيرَاث.
وَقَالَ: {يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} إِلَى آخر الْآيَة.
وَاتفقَ البُخَارِيّ وَمُسلم على صِحَة مَا رُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: عادني رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر فِي بني سَلمَة، فوجدني لَا أَعقل، فَدَعَا بِمَاء، فَتَوَضَّأ، فرش عَليّ مِنْهُ، فَأَفَقْت، فَقلت: كَيفَ أصنع فِي مَالِي يَا رَسُول الله؟ فَنزلت: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
وَفِي رِوَايَة عِنْدهمَا أَيْضا عَنهُ: " دخل عَليّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا مَرِيض، فَتَوَضَّأ، ونضح 0 عَليّ من وضوئِهِ، فَقلت: يَا رَسُول الله إِنَّمَا يَرِثنِي كَلَالَة، فَكيف الْمِيرَاث؟ فَنزلت اية الْفَرْض ".
فجابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن كَيْفيَّة الْمِيرَاث، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَات فِيهِ، وَبَين حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم فَلَا

(4/6)


يُزَاد عَلَيْهِ، وَلم يذكر الْخَال، وَغَيره من ذَوي الْأَرْحَام، فَلَا يَرِثُونَ، لقَوْل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه ". وَلَا نجد لَهُم فِي الْكتاب الْعَزِيز حَقًا مَذْكُورا.
وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ كتب كتابا فِي شَأْن الْعمة؛ ليسأل عَنْهَا ويستخبر، ثمَّ محاه بِالْمَاءِ، وَقَالَ: " لَو رضيك الله لأقرك، وَإنَّهُ كَانَ يَقُول للعمة تورث، وَلَا تَرث ".
وَرُوِيَ عَنهُ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَذْكُور فِي آخر هَذِه الْمَسْأَلَة، وَمَا روينَا هَهُنَا رِوَايَة الْمَدَنِيين، وهم أعرف بمذهبه من غير أهل بَلَده.
وَرُوِيَ أَن شريحا قضى بميراث أم ولد أخي شُرَيْح بن الْحَارِث لِابْنِ ابْنَتهَا دون شُرَيْح بن الْحَارِث، وَقَالَ: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} فَأخْبر ابْن الزبير

(4/7)


بذلك، فَكتب إِلَيْهِ، " أَن ميسرَة بن يزِيد ذكر لي كَذَا وَكَذَا، وَأَنَّك قلت عِنْد ذَلِك: {وأؤلوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} وَإِنَّمَا كَانَت تِلْكَ الْآيَة فِي شَأْن الْعصبَة، كَانَ الرجل يعاقد الرجل، فَيَقُول: ترثني، وأرثك، فَلَمَّا نزلت ترك ذَاك "، فَأبى شُرَيْح أَن يرد قَضَاءَهُ، وَقَالَ: " فَإِنَّهُ إِنَّمَا أعْتقهَا حسان بَطنهَا ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا {وَالَّذين عقدت أَيْمَانكُم فأتوهم نصِيبهم} ، كَانَ الرجل يحالف الرجل لَيْسَ بَينهمَا نسب، فيرث أَحدهمَا الآخر، فنسخ ذَلِك الْأَفْعَال، فَقَالَ: {وأؤلوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} .
وَعنهُ أَيْضا: {وَالَّذين ءامنوا وَهَاجرُوا} ، {وَالَّذين ءامنوا وَلم يهاجروا} كَانَ الْأَعرَابِي لَا يَرث المُهَاجر، وَلَا يَرِثهُ المُهَاجر، فنسخها {وأؤلوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} .

(4/8)


وَإِلَى هَذَا ذهب الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ: (فَنزل قَوْله: {وأؤلوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} على معنى مَا فرض الله، وَسن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَا مُطلقًا هَكَذَا، أَلا ترى أَن الزَّوْج يَرث أَكثر مِمَّا يَرث ذَوُو الْأَرْحَام، وَلَا رحم لَهُ؟ أَولا ترى أَن ابْن الْعم الْبعيد يَرث المَال كُله، وَلَا يَرث الْخَال، وَالْخَال أقرب رحما مِنْهُ؟) .
وَذكر أَيْضا تَوْرِيث الموَالِي دون ذَوي الْأَرْحَام، وَلَا رحم لَهُم، قَالَ: (فَإِنَّمَا مَعْنَاهَا على مَا وصفت لَك من أَنَّهَا على مَا فرض الله، وَسن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) .
وَمَا رُوِيَ عَن الْمِقْدَام الْكِنْدِيّ رَضِي الله عَنهُ، عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث فِيهِ (وَالْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ، يَرث مَاله، وَيعْقل عَنهُ) فَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، رَوَاهُ رَاشد بن سعد، وَأَبُو عَامر عبد الله بن لحي الْهَوْزَنِي وهما مِمَّن لم يحْتَج بهما الشَّيْخَانِ، رحمهمَا الله، وَهُوَ حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ، رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَإِسْنَاده ضَعِيف، غير مُحْتَج بِهِ، وَكَانَ يحيى بن معِين يبطل هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: (لَيْسَ فِيهِ حَدِيث قوي) .

(4/9)


قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَإِن صَحَّ حَدِيث الْمِقْدَام فَإِنَّمَا ورث فِيهِ خالا يعقل عَنهُ، وَالْخَال الَّذِي يعقل عَنهُ هُوَ أَن يكون ابْن عَم لَهُ، أَو معتقا، أَو سُلْطَانا، فَأَما الْخَال الَّذِي يورثونه بالرحم فَإِنَّهُ لَا يعقل عَنهُ فَكَذَلِك لَا يَرِثهُ، وَالله أعلم ".
وَرُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بن الْحَارِث بن عَيَّاش بن أبي ربيعَة عَن حَكِيم (بن حَكِيم) بن عباد بن حنيف عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف، فَذكر حَدِيثا فِيهِ " فَكتب عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُول: الله وَرَسُوله مولى من لَا مولى لَهُ، وَالْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ " وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، وَحَكِيم بن حَكِيم غير مُحْتَج بهما فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن مُسلم عَن طَاوس عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: (الله وَرَسُوله مولى من لَا مولى لَهُ، وَالْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ) رَفعه (وهم، وَالصَّوَاب مَوْقُوف، كَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن

(4/10)


ابْن جريج مَوْقُوفا، وَكَانَ) أَحْمد بن حَنْبَل، وَيحيى بن معِين يَقُولَانِ: (عَمْرو بن مُسلم صَاحب طَاوس لَيْسَ بِالْقَوِيّ) .
وَرُوِيَ عَن ابْن طَاوس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا.
وَرُوِيَ عَن شريك عَن لَيْث عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (ورث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخَال) .
وَفِي رِوَايَة (الْخَال وَارِث) .
وَشريك غير مُحْتَج بِهِ، وَلَيْث بن أبي سليم ضَعِيف فِي الحَدِيث، قد سبق ذكره، وَلم يرو هَذَا الحَدِيث من وَجه يَصح، وَقد رُوِيَ بِخِلَافِهِ مُرْسلا عَن عَطاء بن يسَار عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن جَعْفَر الْمدنِي عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: (أقبل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على حمَار، فَلَقِيَهُ رجل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، رجل ترك عمته وخالته، لَا وَارِث لَهُ غَيرهمَا، قَالَ: فَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ: اللَّهُمَّ رجل ترك عمته وخالته، لَا وَارِث لَهُ غَيرهمَا، ثمَّ قَالَ: أَيْن السَّائِل؟ قَالَ هَا أَنا، قَالَ: لَا مِيرَاث لَهما) ، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: (هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد فَإِن عبد الله بن جَعْفَر لَيْسَ مِمَّن يتْرك حَدِيثه، وَله شَاهد،

(4/11)


وَذكر حَدِيثا عَن الْحَارِث بن عبد الله عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَعْنَاهُ ".
وَعَن عَطاء بن يسَار عَن أَبى سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ كَذَلِك.
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن الزُّهْرِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْعمة بِمَنْزِلَة الْأَب إِذا لم يكن بَينهمَا أَب، وَالْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم إِذا لم يكن بَينهمَا أم " وَعَن قيس بن الرّبيع عَن عَيَّاش بن عَمْرو عَن عبد الله بن شَدَّاد، قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْخَالَة وَالِدَة "، مرسلان، وإسنادهما ضَعِيف.
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن عقبَة عَن

(4/12)


مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان عَن عَمه وَاسع بن حبَان رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه سَأَلَ عَاصِم بن عدي عَن ثَابت بن الدحداح - وَتُوفِّي -: هَل تعلمُونَ لَهُ نسبا، فِيكُم؟ فَقَالُوا: لَا، إِنَّمَا هُوَ أَنِّي، قَالَ: فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بميراثه لِابْنِ أُخْته " هَذَا مُنْقَطع.
وَقد أجَاب الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي الْقَدِيم، فَقَالَ: ثَابت بن الدحداح قتل يَوْم أحد قبل أَن تنزل الْفَرَائِض " قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " قَتله يَوْم أحد فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب فِي قصَّة ذكرهَا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَإِنَّمَا نزلت آيَة الْفَرَائِض فِيمَا يثبت أَصْحَابنَا فِي بَنَات مَحْمُود بن مسلمة، وَقتل يَوْم خَيْبَر، وَقد قيل: نزلت بعد أحد فِي بَنَات سعد بن الرّبيع، وَهَذَا كُله بعد أَمر

(4/13)


ثَابت بن الدحداح، وَقد ذكرنَا أَسَانِيد مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي كتاب السّنَن.
وَفِي سُؤال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن وَارثه، (وجوابهم لَهُ) دلَالَة على أَنه لم يكن لَهُ وَارِث، وَأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا دفع الْمِيرَاث لِابْنِ أُخْته على طَرِيق الْمصلحَة.
كَمَا رُوِيَ عَن بُرَيْدَة رَضِي الله عَنهُ وَغَيره " أَن رجلا توفّي من خُزَاعَة، فَأتي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بميراثه، فَقَالَ: انْظُرُوا هَل من وَارِث فالتمسوه، فَلم يَجدوا لَهُ وَارِثا، فَأخْبر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادفعوه إِلَى أكبر خُزَاعَة ".
وَهَذَا إِنَّمَا دَفعه إِلَيْهِ على طَرِيق الْمصلحَة، لَا بالتوريث، فَكَذَلِك فِي قصَّة ابْن الدحداح إِن كَانَ صَحِيحا، وَالله أعلم.
وَلَا حجَّة لَهُم فِي حَدِيث سعد بن أبي وَقاص بقوله: " وَلَا يَرِثنِي إِلَّا ابْنة لي "، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن يتَصَدَّق بِأَكْثَرَ مَاله، إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ابْنة وَاحِدَة، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَن ابْنَته تَرث جَمِيع مَاله، فقد كَانَ لسعد بَنو أعمام من بني زهرَة يَرِثُونَ بَقِيَّة مَاله بِالْإِجْمَاع، فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على جَوَاز رده على الْبِنْت.

(4/14)


وتوريث ذَوي الْأَرْحَام خلاف فِي الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم وَمن قَالَ بتوريثهم قدموهم على الموَالِي، إِلَّا فِي رِوَايَة ضَعِيفَة عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
والعراقيون يقدمُونَ الموَالِي على ذَوي الْأَرْحَام، وَلَيْسَ لَهُم أثر صَحِيح فِي ذَلِك. وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ عَن خَارِجَة بن زيد قَالَ: " رَأَيْت أبي يَجْعَل فضول المَال فِي بَيت المَال، وَلَا يرد على وَارِث شَيْئا ".
وَعَن سُوَيْد بن غَفلَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " أَنه سُئِلَ عَن امْرَأَة تركت زَوجهَا وَأمّهَا، فَجعل لزَوجهَا النّصْف، ولأمها الثُّلُث، ثمَّ رد مَا بَقِي على أمهَا.
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يرد على كل وَارِث الْفضل بِحِصَّة مَا يُورث غير " الْمَرْأَة وَالزَّوْج ".

(4/15)


وَعَن مَسْرُوق قَالَ: " أُتِي عبد الله فِي إخْوَة لأم وَأم، فَأعْطى الْإِخْوَة من الْأُم الثُّلُث، وَأعْطى الْأُم سَائِر المَال، وَقَالَ: الْأُم عصبَة
من لَا عصبَة لَهُ. وَكَانَ لَا يرد على الْإِخْوَة لأم مَعَ أم، وَلَا على ابْنة ابْن مَعَ بنت الصلب، وَلَا على أُخْت لأَب مَعَ أُخْت لأَب وَأم، وَلَا على امْرَأَة، وَلَا على جدة، وَلَا على زوج ".
وَعَن جَابر بن زيد " أَن امْرَأَة هَلَكت / وَلم يعلم لَهَا وَارِث، وَلَا عصبَة، وَلها زوج، فَقضى عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن لزَوجهَا مَالهَا ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " أُتِي زِيَاد فِي رجل ترك عمته وخالته، قَالَ: هَل تَدْرُونَ كَيفَ قضى عمر فِيهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: وَالله إِنِّي لأعْلم النَّاس بِقَضَاء عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِيهَا، جعل الْعمة بِمَنْزِلَة الْأَخ، وَالْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُخْت، فَأعْطى الْعمة الثُّلثَيْنِ، وَالْخَالَة الثُّلُث ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحسن، وَجَابِر بن زيد، وَبكر بن عبد الله الْمُزنِيّ: " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ جعل للعمة الثُّلثَيْنِ، وللخالة الثُّلُث ".

(4/16)


وَقد روينَا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف هَذَا فِي رِوَايَة الْمَدَنِيين عَنهُ، وَهِي أصح، فهم أهل بلدته، وَأعرف بقضاياه من غَيرهم.
وَرُوِيَ عَن مَسْرُوق عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم، والعمة بِمَنْزِلَة الْأَب، وَابْنَة الْأَخ بِمَنْزِلَة الْأَخ، وكل ذِي رحم بِمَنْزِلَة الرَّحِم الَّذِي يَلِيهِ إِذا لم يكن وَارِث ذُو قرَابَة ".
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا بلغه عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: " كَانَ عمر وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا يورثان الْأَرْحَام دون الموَالِي "، قَالَ: " وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَشَّدهم فِي ذَلِك "، قَالَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى: " وَلَيْسوا يَقُولُونَ بِهَذَا إِذا لم يكن أهل فَرَائض مُسَمَّاة، وَلَا عصبَة ورثنا الموَالِي ".
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن حَيَّان الْجعْفِيّ، قَالَ: " كنت عِنْد سُوَيْد بن غَفلَة، فَأتي فِي ابْنة، وَامْرَأَة، وَمولى، فَقَالَ: كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يُعْطي الِابْنَة النّصْف، وَالْمَرْأَة الثّمن، وَيرد مَا بَقِي على الْبِنْت ".
فَهَذِهِ رِوَايَة مَوْصُولَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف مَا قَالُوا، وَإِنَّمَا رُوِيَ مثل مَذْهَبهم عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ من رِوَايَة قطر،

(4/17)


وَالْحسن بن عمَارَة عَن الحكم بن عُيَيْنَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مُنْقَطِعًا. وَعَن مُحَمَّد بن سَالم عَن الشّعبِيّ مُنْقَطِعًا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ. وَعَن سَلمَة بن كهيل قَالَ: " رَأَيْت الْمَرْأَة الَّتِي ورثهَا عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَأعْطى الْبِنْت النّصْف، والموالي النّصْف "، وَهَذِه الْمَرْأَة مَجْهُولَة.
وَالرِّوَايَة الموصولة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك. وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ بزعمهم أعرف بِمذهب عَليّ، وَعبد الله رَضِي الله عَنهُ من غَيره، وَقد روى عَنْهُمَا تقديمهما الرَّد، وتوريث ذَوي الْأَرْحَام على الموَالِي.
والعراقيون يخالفونهما فِي ذَلِك، ويخالفون زيدا وَعمر بن الْخطاب رَضِي رَضِي الله عَنْهُمَا فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن - عمر رَضِي الله عَنْهُمَا - وَهِي

(4/18)


رِوَايَة الْمَدَنِيين. وَالله أعلم. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ أعلم بِالصَّوَابِ، لَا إِلَه إِلَّا هُوَ.
مَسْأَلَة (160) :

وَلَا يَرث من قبل الْأَب إِلَّا جدة وَاحِدَة على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَهِي أم الْأَب، وأمهاتها. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " تَرث أم أَب لأَب أَيْضا، وَهُوَ القَوْل الآخر، وَهُوَ الصَّحِيح ".
روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُثْمَان بن إِسْحَاق عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب قَالَ: " جَاءَت الْجدّة إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ تسأله مِيرَاثهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: مَا لَك فِي كتاب الله شَيْء، وَمَا علمت لَك فِي سنة نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا، فارجعي، حَتَّى أسأَل النَّاس، فَسَأَلَ النَّاس، فَقَالَ لَهُ الْمُغيرَة بن

(4/19)


شُعْبَة: حضرت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهَا السُّدس، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: هَل مَعَك غَيْرك؟ فَقَامَ مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ مثل مَا قَالَ الْمُغيرَة، فأنفذ لَهَا أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ جَاءَت الْجدّة الْأُخْرَى إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - تسأله (مِيرَاثهَا) ، فَقَالَ: مَا لَك فِي كتاب الله شَيْء، وَمَا كَانَ الْقَضَاء الَّذِي قضي بِهِ إِلَّا لغيرك، وَمَا أَنا فِي الْفَرَائِض بزائد شَيْئا، وَلَكِن هُوَ ذَلِك السُّدس، فَإِن اجتمعتما فِيهِ فَهُوَ بَيْنكُمَا، وأيتكما خلت فَهُوَ لَهَا ".
وروى مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: " أَتَت الجدتان إِلَى أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - فَأَرَادَ أَن يَجْعَل السُّدس للَّتِي من قبل الْأُم، فَقَالَ لَهُ رجل / من الْأَنْصَار: أما أَنَّك لتترك الَّتِي لَو ماتتا، وَهُوَ حَيّ كَانَ إِيَّاهَا يَرث، فَجعل أَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - السُّدس بَينهمَا "، تَابعه سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد، وَقَالَ فِيهِ: " فَقل لَهُ عبد الرَّحْمَن بن سهل بن حَارِثَة - وَقد كَانَ شهد بَدْرًا وَقَالَ مرّة رجل من بني حَارِثَة -: يَا أَبَا بكر، يَا خَليفَة رَسُول الله، أَعْطَيْت الَّتِي لَو أَنَّهَا مَاتَت لم يَرِثهَا، فَجعله بَينهمَا ".

(4/20)


فَمن قَالَ بالْقَوْل الأول زعم أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا ورث جدتين، وَكَذَلِكَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَا يُورث أَكثر مِنْهُمَا.
وروى مَالك عَن عبد الله " أَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام كَانَ لَا يفْرض إِلَّا لجدتين ".
وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: " لَا نعلمهُ ورث فِي الْإِسْلَام إِلَّا جدتين "، وَهَذَا قَول ربيعَة أَيْضا.
وَرُوِيَ عَن سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا: " أَنْتُم الَّذين تفرضون لثلاث جدات "، كَأَنَّهُ يُنكر ذَلِك.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " ورث حَوَّاء من بَينهَا "، وَإِسْنَاده لَيْسَ بذلك.
قَالَ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي رَحمَه الله تَعَالَى: " جَاءَت

(4/21)


الْأَخْبَار عَن جمَاعَة من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَمَاعَة من التَّابِعين رَضِي الله عَنْهُم أَنهم ورثوا ثَلَاث جدات، مَعَ الحَدِيث الْمُنْقَطع الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَنه ورث ثَلَاث جدات، وَلَا نعلم عَن أحد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خلاف ذَلِك، إِلَّا مَا روينَا عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ مِمَّا لَا يثبت عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ إِسْنَاده ".
وَهَذَا الحَدِيث الْمُنْقَطع رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم، وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد، وفسراه بأنهن ثِنْتَيْنِ من قبل الْأَب، وَوَاحِدَة من قبل الْأُم.
وَرُوِيَ أَيْضا عَن الْحسن " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورث ثَلَاث جدات ".
وَعَن مُحَمَّد فِي الْجدَّات الْأَرْبَع " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ اطمعهن السُّدس ".
وَرَوَاهُ خَارِجَة بن زيد بن ثَابت عَن أَبِيه " أَنه كَانَ يُورث ثَلَاث جدات إِذا استوين ثِنْتَيْنِ من قبل الْأَب، وَوَاحِدَة من قبل الْأُم ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " كَانَ عَليّ، وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا يعطيان الْجدّة، أَو اثْنَتَيْنِ، أَو الثَّلَاث السُّدس، لَا ينقصن مِنْهُ، وَلَا يزدن عَلَيْهِ إِذا كَانَت قراباتهن إِلَى الْمَيِّت سَوَاء، فَإِن كَانَت إِحْدَاهُنَّ أقرب فالسدس

(4/22)


لَهَا دونهن ".
وَكَانَ عبد الله يُشْرك بَين أقربهن وأبعدهن فِي السُّدس.
وَعنهُ " أَن زيد بن ثَابت وعليا رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا يورثان ثَلَاث جدات: ثِنْتَيْنِ من قبل الْأَب، وَوَاحِدَة من قبل الْأُم ".
وَعَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " تَرث الْجدَّات الْأَرْبَع جمع "، وَهُوَ قَول مَسْرُوق، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَالشعْبِيّ، وَغَيرهم من التَّابِعين، رَضِي الله عَنْهُم.
مَسْأَلَة (161) :

الْقُرْبَى من قبل الْأُم تحجب البعدى من قبل الْأَب، والقربى من قبل الْأَب لَا تحجب البعدى من جِهَة الْأُم فِي الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَهُوَ أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله عَنهُ.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْقُرْبَى من الْجدَّات تحجب البعدى سَوَاء كَانَ من قبل الْأَب، أَو من قبل الْأُم ".

(4/23)


رُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا اجْتمعت جدتان، فبينهما السُّدس، وَإِذا كَانَت الَّتِي من قبل الْأُم أقرب من الْأُخْرَى فالسدس لَهَا، وَإِذا كَانَت الَّتِي من قبل الْأَب أقرب فَهُوَ بَينهم ". وَبِمَعْنَاهُ رُوِيَ عَن خَارِجَة بن زيد عَن أَبِيه.
وَعَن عَمْرو بن وهيب عَن أَبِيه عَن زيد أَنه كَانَ يَقُول: " إِذا كَانَت الْجدّة من قبل الْأُم أقعد من الْجدّة من قبل الْأَب، فَهِيَ أَحَق بالسدس، فَإِذا كَانَت الْجدّة من الْأَب أقعد، (أشركت بَينهمَا) وَبَين جدة الْأُم ".
قيل: وَكَيف صَارَت الْجدّة مَعَ الْأُم بِهَذِهِ الْمنزلَة؟ قَالَ: لِأَن الْجدَّات إِنَّمَا أطعمن السُّدس من قبل سدس الْأُم.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ " أَن عليا وزيدا كَانَا يورثان الْقُرْبَى من الْجدَّات ".
وَفِي رِوَايَة: " كَانَ عَليّ وَزيد يورثان من الْجدَّات الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب ".
وَعَن الشّعبِيّ " فِي رجل ترك جدتيه: أم أَبِيه، وَأم أمه، وَجدّة الْأَب، قَالَ عَليّ وَزيد: لأم الْأُم السُّدس، وَكَانَا يَقُولَانِ: السُّدس لأَقْرَب الْجدَّات ".
وَقَالَ عبد الله: " السُّدس بَينهمَا سَوَاء، فَإِن كَانَت أم الْأُم،

(4/24)


وجدتي الْأَب أشرك بَينهُنَّ فِي السُّدس، إِذا كَانَتَا الجدتين من قبل الْأَب نسبتهما سَوَاء، فَإِن كَانَت إِحْدَاهمَا أقرب من الْأُخْرَى أشرك بَين الدُّنْيَا، وَأم الْأُم، وَسَقَطت القصوى ".
فَمن قَالَ بتوريث الْقُرْبَى من الْجدَّات دون البعدى سَوَاء كَانَت الْقُرْبَى من قبل الْأُم والبعدى من قبل الْأَب، أَو البعدى من قبل الْأَب، والقربى من قبل الْأُم، احْتج بِرِوَايَة الشّعبِيّ عَن عَليّ وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَذِه رِوَايَة مُطلقَة، وَرِوَايَة الْمَدَنِيين عَن زيد مفسرة، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالطلقة، مَا فسره أهل الْمَدِينَة عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (162) :

وَالإِخْوَة وَالْأَخَوَات للْأَب وَالأُم، وَللْأَب يقاسمون الْجد مَا دَامَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من الثُّلُث، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْجد أولى بِالْمِيرَاثِ مِنْهُم.
رُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله، وَسَعِيد بن الْمسيب وَقبيصَة قَالُوا: " قضى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَن الْجد يقاسم الْإِخْوَة للْأَب وَالأُم، وَالإِخْوَة للْأَب مَا كَانَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من ثلث المَال، وَإِن كثرت الْإِخْوَة أعطَاهُ الثُّلُث، وَكَانَ للإخوة مَا بَقِي {فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، وَقضى أَن بني الْأَب وَالأُم هم أولى

(4/25)


بذلك من بني الْأَب: ذكرهم، وَنِسَاؤُهُمْ، غير أَن بني الْأَب يقاسمون بالجد لبني الْأَب وَالأُم، ثمَّ يردون عَلَيْهِم، وَلَا يكون لبني الْأَب شَيْء مَعَ بني الْأَب وَالأُم، وَبَنُو الْأَب يردون على بَنَات الْأَب وَالأُم، وَإِن بَقِي شَيْء بعد فَرَائض بَنَات الْأَب وَالأُم فَهُوَ للإخوة للْأَب {فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
وَرُوِيَ عَن سعيد بن سُلَيْمَان بن زيد بن ثَابت عَن أَبِيه عَن جده " أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ اسْتَأْذن عَليّ يَوْمًا، فَأذن لَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَو أرْسلت إِلَيّ جئْتُك، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: إِنَّمَا الْحَاجة لي، إِنِّي جئْتُك لتنظر فِي أَمر الْجد، فَقَالَ زيد رَضِي الله عَنهُ: لَا وَالله، مَا تَقول فِيهِ، فَقَالَ عمر: لَيْسَ هُوَ بِوَحْي حَتَّى تزيد فِيهِ، وتنقص مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ شَيْء ترَاهُ، فَإِن رَأَيْته واقفني تَبعته، وَإِلَّا لم يكن عَلَيْك فِيهِ شَيْء، فَأبى زيد، فَخرج مغضبا، ثمَّ أَتَاهُ مرّة أُخْرَى، فَلم يزل بِهِ حَتَّى قَالَ: فسأكتب لَك فِيهِ، فَكَتبهُ فِي قِطْعَة قتب، وَضرب لَهُ مثلا إِنَّمَا مثله مثل شَجَرَة تنْبت على سَاق وَاحِد، فَخرج فِيهَا غُصْن، ثمَّ خرج فِي غُصْن غُصْن آخر، والساق يسْقِي الْغُصْن، فَإِن قطعت الْغُصْن الأول رَجَعَ المَاء إِلَى الْغُصْن، وَإِن قطعت الثَّانِي رَجَعَ المَاء إِلَى الأول فَأتي بِهِ، فَخَطب النَّاس عمر رَضِي الله عَنهُ ثمَّ قَرَأَ قِطْعَة القتب عَلَيْهِم، ثمَّ قَالَ: إِن زيد بن ثَابت قد قَالَ

(4/26)


فِي الْجد قولا، وَقد أمضيته، قَالَ: وَكَانَ أول جد كَانَ، فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ المَال كُله، مَال ابْن ابْنه دون إخْوَته، فَقَسمهُ بعد ذَلِك عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " كَانَ رَأْي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن يجعلا الْجد أولى من الْأَخ ".
وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يكره الْكَلَام فِيهِ، فَلَمَّا صَار عمر رَضِي الله عَنهُ جدا، قَالَ: هَذَا أَمر قد وَقع لَا بُد للنَّاس من مَعْرفَته، فَأرْسل إِلَى زيد، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَا تجْعَل شَجَرَة نَبتَت، فانشعب مِنْهَا غُصْن، فانشعب فِي الْغُصْن غُصْن فَمَا يَجْعَل الْغُصْن الأول أولى من الْغُصْن الثَّانِي، وَقد خرج الْغُصْن من الْغُصْن، قَالَ: فَأرْسل إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ كَمَا قَالَ زيد إِلَّا أَنه جعله سَبِيلا سَالَ، فانشعب مِنْهُ شُعْبَة، ثمَّ انشعبت مِنْهُ شعبتان، فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو أَن هَذِه الشعبة الْوُسْطَى رَجَعَ أَلَيْسَ إِلَى الشعبتين جَمِيعًا؟ فَقَامَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَخَطب النَّاس، فَذكر الحَدِيث بِمَعْنى مَا مضى ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: أول جد ورث فِي الْإِسْلَام عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، مَاتَ ابْن فلَان بن عمر، فَأَرَادَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن يَأْخُذ المَال دون إخْوَته، فَقَالَ لَهُ عَليّ وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا لَيْسَ لَك ذَلِك، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: لَوْلَا أَن رأيكما اجْتمع لم أر أَن يكون

(4/27)


ابْني، وَلَا أكون أَبَاهُ، هَذَا مُرْسل جيد ".
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد قَالَ: " أَخذ / أَبُو الزِّنَاد هَذِه الرسَالَة من خَارِجَة بن زيد بن ثَابت، وَمن كَبِير آل زيد:
" بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، لعبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ (من زيد بن ثَابت ... .) فَذكر الرسَالَة بِطُولِهَا، وفيهَا: " لقد كنت كلمت أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن الْجد وَالإِخْوَة من الْأَب كلَاما شَدِيدا، وَأَنا يَوْمئِذٍ أَحسب أَن الْإِخْوَة أقرب حَقًا فِي أخيهم من الْجد، وَيرى يَوْمئِذٍ هُوَ أَن الْجد أقرب من الْإِخْوَة "، فَذكر محاورتهما فِي ذَلِك، ثمَّ اجْتِمَاعهمَا على قسْمَة المَال بَينهم على التَّرْتِيب الَّذِي نَقَلْنَاهُ فِي كتاب السّنَن.
ثمَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يُشْرك بَين الْجد، وَالإِخْوَة، وَالْأَخَوَات لأَب وَأم، أَو لأَب، وَكَيْفِيَّة تشريكهم بَينهم مَذْكُور فِي كتاب السّنَن.
استدلوا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " جعله الَّذِي قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَو كنت متخذا خَلِيلًا لاتخذته يَعْنِي أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ - جعل الْجد أَبَا "، أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.

(4/28)


وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ " أَن أَبَا بكر، وَابْن عَبَّاس، وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، كَانُوا يجْعَلُونَ الْجد أَبَا يَرث مَا يَرث، ويحجب مَا يحجب ".
وَعَن طَاوس " أَن عُثْمَان، وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَانَا يجعلان الْجد أَبَا " وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (163) :

وَمَال الْمُرْتَد إِذا مَاتَ على ردته، أَو قتل فَيْء للْمُسلمين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " مَا كَانَ لَهُ قبل ردته فَهُوَ لوَرثَته الْمُسلمين ".
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أُسَامَة بن زيد رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر، وَلَا الْكَافِر الْمُسلم ". وَهُوَ عِنْد مُسلم أَيْضا بِمَعْنَاهُ.
وَعند أبي دَاوُد عَن يزِيد بن الْبَراء عَن أَبِيه قَالَ: " لقِيت عمي وَمَعَهُ راية، فَقلت: أَيْن تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رجل نكح امْرَأَة أَبِيه، فَأمرنِي أَن أضْرب عُنُقه، وآخذ مَاله ". وَالْمرَاد بِهَذَا

(4/29)


النِّكَاح الْوَطْء، وَقد رُوِيَ " إِلَى رجل عرس بِامْرَأَة أَبِيه ".
وَقد حمل بعض أَصْحَابنَا على أَنه نَكَحَهَا مُعْتَقدًا الْإِبَاحَة، فَصَارَ بِهِ مُرْتَدا، أوجب قَتله، وَأخذ مَاله، فبالإجماع لَا يُؤْخَذ مَاله بِمُجَرَّد الزِّنَا دون اعْتِقَاد إِبَاحَته.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَقد رُوِيَ أَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى ابْن عَبَّاس، وَزيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُمَا يسألهما عَن مِيرَاث الْمُرْتَد، فَقَالَا: لبيت المَال "، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى " يعنيان أَنه فَيْء ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ " أَنه أُتِي بمستورد الْعجلِيّ، وَقد ارْتَدَّ، فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام، فَأبى، قَالَ: " فَقتله، وَجعل مِيرَاثه بَين ورثته الْمُسلمين ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله -: " يزْعم بعض أهل الحَدِيث مِنْكُم أَنه غلط، وَأَن الْحفاظ لم يحفظوا عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، " فقسم مَاله

(4/30)


بَين ورثته الْمُسلمين "، وَيخَاف أَن يكون الَّذِي أَرَادَ هَذَا غلط ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " قد رَوَاهُ الشّعبِيّ، وَعبد الْملك بن عُمَيْر عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ دون ذكر المَال، وَبَلغنِي عَن أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ فِي مَا رَوَاهُ عَنهُ أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن هَانِئ، أَنه ضعف الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن مِيرَاث الْمُرْتَد لوَرثَته من الْمُسلمين ".
ثمَّ قد جعله الشَّافِعِي رَحمَه الله لخصمه ثَابتا، وَاعْتذر فِي تَركه قَوْله بِظَاهِر قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر ".
كَمَا تركُوا بِهِ قَول معَاذ، وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا، وَغَيرهمَا فِي تَوْرِيث الْمُسلم من الْيَهُودِيّ - يَعْنِي أَنهم مَعنا - لم يخصوا خبر أُسَامَة بقول معَاذ وَغَيره، فَكَذَلِك وَجب أَن لَا يخصوه بقول عَليّ رَضِي الله عَنهُ حَتَّى يحملوا الْخَبَر على الْكَافِر الْحَرْبِيّ دون الْمُرْتَد، كَمَا لم يحملوه على الْكَافِر الْحَرْبِيّ دون الذِّمِّيّ بقول معَاذ رَضِي الله عَنهُ وَغَيره.
وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن الحكم " أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قضى فِي مِيرَاث الْمُرْتَد أَنه لأَهله من الْمُسلمين "، وَهَذَا مُنْقَطع، وَالْحجاج غير مُحْتَج بِهِ.
وَرَوَاهُ شريك عَن الْمُغيرَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ أَيْضا

(4/31)


مُنْقَطع.
وَعَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله " أَنه جعل مِيرَاث الْمُرْتَد لوَرثَته من الْمُسلمين "، وَهَذَا أَيْضا مُنْقَطع، الْقَاسِم لم يدْرك جده.
ثمَّ قد رُوِيَ عَن زيد بن ثَابت، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا نَحْو مَذْهَبنَا، وقولهما يُوَافق حَدِيث أُسَامَة بن زيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَهُوَ أولى. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (164) :

وَالإِخْوَة وَالْأَخَوَات للْأَب وَالأُم يشاركون الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات للْأُم فِي ثلثهم فِي مَسْأَلَة المشركة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهُم لَا يشاركونهم ".
رُوِيَ عَن وهب بن مُنَبّه عَن مَسْعُود بن الحكم الثَّقَفِيّ، قَالَ: " أُتِي عمر ابْن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي امْرَأَة تركت زَوجهَا وَأمّهَا، وإخوتها لأمها، وإخوتها لأَبِيهَا (وَأمّهَا) ، فشرك بَين الْإِخْوَة للْأُم، وَبَين الْإِخْوَة للْأُم وَالْأَب بِالثُّلثِ، فَقَالَ لَهُ رجل: إِنَّك لم تشرك بَينهم عَام أول كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: تِلْكَ على مَا قضينا يَوْمئِذٍ، وَهَذِه على

(4/32)


مَا قضينا الْيَوْم ". قَالَ عبد الرَّزَّاق: " قَالَ الثَّوْريّ: لَو لم أستفد فِي سفرتي هَذِه غير هَذَا الحَدِيث لظَنَنْت أَنِّي قد اسْتَفَدْت فِيهِ خيرا "، وَكَذَلِكَ قَالَه ابْن عُيَيْنَة عَن معمر.
وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان: " هَذَا خطأ؛ إِنَّمَا هُوَ الحكم بن مَسْعُود، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ البُخَارِيّ.
وَرُوِيَ عَن قَتَادَة عَن ابْن الْمسيب " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أشرك بَين الْإِخْوَة من الْأَب وَالأُم، وَبَين الْإِخْوَة من الْأُم فِي الثُّلُث ".
وَرُوِيَ عَن وهب عَن زيد بن ثَابت فِي المشركة، قَالَ: " هبوا أباهم كَانَ حمارا مَا زادهم الْأَب إِلَّا قربا، وأشرك بَينهم فِي الثُّلُث ".
و (عَن أبي مجلز) أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ (شرك بَين الْإِخْوَة من الْأُم، وَالإِخْوَة من الْأَب وَالأُم فِي الثُّلُث، وَأَن عليا رَضِي الله عَنهُ لم يُشْرك بَينهم ".
وَعَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر، وَعبد الله، وَزيد، رَضِي الله عَنْهُم، أَنهم قَالُوا: " للزَّوْج النّصْف، وَللْأُمّ السُّدس، وأشركوا بَين الْإِخْوَة من الْأَب وَالأُم، وَالإِخْوَة من الْأُم فِي الثُّلُث،

(4/33)


وَقَالُوا: مَا زادهم الْأَب إِلَّا قربا ".
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: " قَالَ عمر، وَعبد الله، فَذكر بِمَعْنَاهُ وَزَاد ذكرهم، وأنثاهم فِيهِ سَوَاء.
وَقَالَ عَليّ، وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا: " هم عصبَة إِن فضل شَيْء كَانَ لَهُم، وَإِن لم يفضل لم يكن لَهُم شَيْء ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " الْمَشْهُور عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يُشْرك. وَالصَّحِيح عَن زيد رَضِي الله عَنهُ أَنه شرك. وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِيهِ عَن عبد الله، فَقيل عَنهُ أَنه لم يُشْرك، وَقيل: إِنَّه شرك. وَهَذَا فِي رِوَايَة الشّعبِيّ، وَإِبْرَاهِيم عَنهُ - وهما أعرف بمذهبه من غَيرهمَا - فَيحْتَمل أَن تكون فِي الِابْتِدَاء لم يُشْرك، ثمَّ رَجَعَ إِلَى التَّشْرِيك، كَمَا روينَا عَن عمر، رَضِي الله عَنْهُم. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (165) :

وَإِذا مَاتَ ولد الْمُلَاعنَة، وَلَا وَارِث لَهُ إِلَّا عصبَة أمه، فَمَاله لبيت مَال الْمُسلمين. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " مَاله لعصبة أمه بالتعصب فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ".

(4/34)


فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر "، فَجعل مَا فضل لعصبة الْمُتَوفَّى دون عصبَة أمه، وَولد الْمُلَاعنَة لَا عصبَة لَهُ من قبل أَبِيه، فالمسلمون لَهُ عصبَة.
وَعِنْدَهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث قَالَ فِيهِ: " فليؤثر بِمَالِه عصبته من كَانَ ".
وَفِي رِوَايَة: " وَأَيكُمْ مَا ترك مَالا فَإلَى الْعصبَة من كَانَ ".
وَعند البُخَارِيّ حَدِيث المتلاعنين عَن سهل بن سعد فِيهِ: " وَكَانَت حَامِلا، فَأنْكر حملهَا، فَكَانَ ابْنهَا يدعى إِلَيْهَا، ثمَّ جرت السّنة فِي الْمِيرَاث أَن يَرِثهَا، وترث مِنْهُ مَا فرض الله وَعز وَجل لَهَا "، وَفِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة على أَنه لَا يرد على أمه، وَلَا على إخْوَته لأمه مَا فضل عَن فريضتهم.
استدلوا بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن وَاثِلَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَرْأَة تحرز ثَلَاث مَوَارِيث: عتيقها، ولقطتها، وَوَلدهَا الَّذِي لاعنت

(4/35)


عَلَيْهِ " رِوَايَة عَمْرو بن روبة التغلبي، وَلم يحْتَج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَلَا لَهُ ذكر فِي كتابهما، فَالله اعْلَم، وَقد قَالَ البُخَارِيّ: " عَمْرو بن روبة فِيهِ نظر ".
وروى أَيْضا مَكْحُول قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِيرَاث ابْن الْمُلَاعنَة لأمه، ولورثتها من بعْدهَا "، وَهَذَا مُرْسل، وَرَوَاهُ من حَدِيث عِيسَى بن مُوسَى أبي مُحَمَّد الْقرشِي، وَفِيه نظر، وَلم يثبت من عَدَالَته مَا يُوجب قبُول خَبره عَن الْعَلَاء عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده.

(4/36)


وَرُوِيَ عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، قَالَ: " حَدثنِي عبد الله بن عبيد الْأنْصَارِيّ، قَالَ: كتبت إِلَى أَخ لي من بني رُزَيْق لمن قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِولد الْمُلَاعنَة، قَالَ: قضى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأمه، قَالَ: هِيَ بِمَنْزِلَة أَبِيه وَأمه ".
وَقيل: " عَن دَاوُد عَن عبد الله عَن رجل من أهل الشَّام "، وَكِلَاهُمَا مُنْقَطع، لَا تقوم الْحجَّة بمثلهما، ثمَّ حمله الْأُسْتَاذ أَبُو الْوَلِيد يرحمه الله على مَا لَو كَانَت أمه مولاة بعتاقه، فَيكون مواليها عصبتها، وعصبة ابْنهَا.
وَيحْتَمل أَن يكون ابْن الْمُلَاعنَة مَمْلُوكا ملكته أمه بعد أَن صَارَت حرَّة، فَعتق عَلَيْهَا، فَتكون مولاة، فترث مَا بَقِي بِالْوَلَاءِ إِن كَانَت حَيَّة، ويرثه عصبتها إِن كَانَت ميتَة بِالْوَلَاءِ.
وَرُوِيَ جعلهَا عصبَة عَن عَليّ وَعبد الله، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَرُوِيَ بِخِلَافِهِ عَن عَليّ وَزيد، رَضِي الله عَنْهُمَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " فَالرِّوَايَة فِيهِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مُخْتَلفَة، وَقَوله مَعَ زيد بن ثَابت أشبه بِمَا ذكرنَا من السّنة، وَنحن إِنَّمَا نَأْخُذ بقول زيد بن ثَابت لما روينَاهُ من حَدِيث سهل بن سعد

(4/37)


السَّاعِدِيّ فِي ابْن المتلاعنين أَن السّنة جرت أَنه يَرِثهَا، وترث مِنْهُ مَا فرض الله لَهَا (وَالله تَعَالَى إِنَّمَا فرض) لَهَا الثُّلُث، أَو السُّدس، فَلَا تجوز الزِّيَادَة على ذَلِك، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق ".
وروى مَالك " أَنه بلغه عَن عُرْوَة بن الزبير، وَسليمَان بن يسَار أَنَّهُمَا سئلا عَن ولد الْمُلَاعنَة، وَولد الزِّنَا من يَرِثهُ؟ فَقَالَا: تَرثه أمه حَقّهَا، وَإِخْوَته من أمه حُقُوقهم، وَيَرِث مَا بَقِي من مَاله موَالِي أمه إِن كَانَت مولاة، وَإِن كَانَت عَرَبِيَّة ورثت حَقّهَا، وَورث إخْوَته من أمه حُقُوقهم، وَورث مَا بَقِي من مَاله الْمُسلمُونَ، قَالَ مَالك: وَذَلِكَ الْأَمر عندنَا، وَالَّذِي أدْركْت عَلَيْهِ أهل الْعلم ببلدنا " وَالله أعلم.

(4/38)


كتاب الْوَصَايَا

مَسْأَلَة (166) :

إِذا أوصى لِذَوي قرَابَته دخل فِيهِ من كَانَ فصيلته مِمَّن يَقع عَلَيْهِ اسْم الْقَرَابَة، من بني الْأَعْمَام وَغَيرهم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يخْتَص بهَا كل ذِي رحم محرم من قرَابَته ".
لنا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين أنزل الله تَعَالَى: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} ، قَالَ: يَا معشر قُرَيْش، اشْتَروا أَنفسكُم من الله، لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا بني عبد منَاف، لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب، لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، يَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سليني مَا شِئْت، لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، فَثَبت

(4/39)


بذلك دُخُولهمْ فِي الِاسْم، فَوَجَبَ أَن يشاركوهم فِي الِاسْتِحْقَاق بِالِاسْمِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر أَبَا طَلْحَة أَن يَجْعَل الأَرْض الَّتِي جعلهَا لله فِي قرَابَته فَقَسمهَا بَين حسان بن ثَابت، وَأبي بن كَعْب ". من حَدِيث أنس بن مَالك، قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَبَلغنِي عَن الْأنْصَارِيّ مُحَمَّد بن عبيد الله، قَالَ: أَبُو طَلْحَة يزِيد بن سهل بن الْأسود بن حرَام بن عَمْرو بن زيد بن مَنَاة بن عدي بن عَمْرو بن مَالك بن النجار، وَحسان بن ثَابت بن الْمُنْذر بن حرَام يَجْتَمِعَانِ إِلَى حرَام، وَهُوَ الْأَب الثَّالِث، وَأبي بن كَعْب بن قيس بن عتِيك بن زيد بن مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن مَالك النجار فعمرو يجمع حسانا، وَأَبا طَلْحَة، وأبيا. قَالَ الْأنْصَارِيّ بَين أبي، وَأبي طَلْحَة

(4/40)


سِتَّة آبَاء، فَيثبت بِهَذَا وَمَا قبله دُخُول بني الْأَعْمَام فِي الْأَقْرَبين. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (167) :

الْوَصِيَّة للْقَاتِل جَائِزَة فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْوَصِيَّة للْقَاتِل غير جَائِزَة ".
قَالَ الله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين} ، وَلم يفرق بَين الْقَاتِل وَغَيره.
وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الثُّلُث، وَالثلث كثير "، وَلم يفرق بَين أَن يُوصي بِهِ لقاتله، أَو غَيره.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ /: " مَا حق امْرِئ مُسلم لَهُ شَيْء يُوصي فِيهِ، يبيت لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّة مَكْتُوبَة عِنْده ".
وروى مُبشر بن عبيد بِسَنَد لَهُ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا:

(4/41)


" لَيْسَ لقَاتل وَصِيَّة ". قَالَ عَليّ بن عمر: " مُبشر مَتْرُوك يضع الحَدِيث ". وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: " أَحَادِيثه أَحَادِيث مَوْضُوعَة كذب ". وَقَالَ البُخَارِيّ: " مُبشر مُنكر الحَدِيث "، وَنسبه أَبُو حَاتِم إِلَى وضع الحَدِيث. نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان والحرمان، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (168) :

إِذا أوصى لجيرانه، فحد الْجوَار عِنْد الشَّافِعِي أَرْبَعُونَ دَارا من جَمِيع الجوانب، يصرف إِلَيْهِم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " الْجَار الملاصق ". وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: " أهل الْبَلَد "، وَقَالَ مُحَمَّد: " أهل الْمحلة ".
رُوِيَ بِإِسْنَاد - فِيهِ ضعف - عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوْصَانِي جِبْرِيل بالجار إِلَى أَرْبَعِينَ دَارا، عشرَة من هَهُنَا، وَعشرَة من هَهُنَا، وَعشرَة من هَهُنَا، وَعشرَة من هَهُنَا "، وَإِنَّمَا يعرف من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا: " أَرْبَعِينَ دَارا جَار "، قيل لِابْنِ شهَاب، " وَكَيف أَرْبَعِينَ دَارا "؟ قَالَ: " أَرْبَعِينَ عَن يَمِينه، وَعَن يسَاره، وَخَلفه، وَبَين يَدَيْهِ "، وَهُوَ فِي مَرَاسِيل أبي دَاوُد. وَالله أعلم.

(4/42)


مَسْأَلَة (169) :

تصح وَصِيَّة الْمُرَاهق على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَهُوَ قَول مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تصح " وَهُوَ القَوْل الآخر.
روى مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر عَن أَبِيه أَن عَمْرو بن سليم الزرقي أخبرهُ أَنه قيل لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: إِن هَهُنَا غُلَاما يفاعا لم يَحْتَلِم فِي عنسان، ووارثه بِالشَّام، وَهُوَ ذُو مَال، وَلَيْسَ لَهُ هَهُنَا إِلَّا ابْنة عَم لَهُ، فَقَالَ عمر بن الْخطاب: " فليوص لَهَا "، فأوصى لَهَا بِمَال. يُقَال لَهُ بيرجم، قَالَ عَمْرو بن سليم فَبعث ذَلِك من المَال ثَلَاثِينَ ألفا، وَابْنَة عَمه الَّتِي أوصى لَهَا هِيَ أم عَمْرو بن سليم.
فعلق الشَّافِعِي رَحمَه الله جَوَاز وَصِيَّة الْغُلَام وتدبيره، على ثُبُوت الْخَبَر فِيهَا عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، وَالْخَبَر مُنْقَطع عَمْرو بن سليم لم يدْرك عمر بن الْخطاب، رَضِي الله نه) غير أَنه ذكر فِي الْخَبَر انتساب عَمْرو إِلَى الْمُوصى لَهَا، فَيكون أعرف

(4/43)


بالقصة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (170) :

وَإِذا قَالَ: أوصيت لفُلَان بِسَهْم من مَالِي " لم يقتدر ذَلِك بِشَيْء، وَالْخيَار إِلَى الْوَرَثَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يدْفع إِلَيْهِ سهم أقلهم إِلَّا أَن يزِيد على السُّدس، فَيكون لَهُ السُّدس ". وَقَالَ أَبُو يُوسُف، وَمُحَمّد رحمهمَا الله: " مَا لم يزدْ على الثُّلُث ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (171) :

وَوَصِيَّة من لَا وَارِث لَهُ بِعَيْنِه، فِيمَا زَاد على الثُّلُث سَاقِطَة، غير قَابِلَة للإجازة على أحد المذهبين. وَفِيه وَجه آخر أَن الإِمَام لَو أجازها جَازَت. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا جَائِزَة ".
لنا حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنهُ " الثُّلُث، وَالثلث كثير ".

(4/44)


وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " إِن الله أَعْطَاكُم ثلث أَمْوَالكُم، عِنْد وفاتكم زِيَادَة فِي أَعمالكُم ".
وَله شَاهد عَن معَاذ مَرْفُوعا: " إِن الله قد تصدق عَلَيْكُم بِثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي حسناتكم، ليجعلها لكم زَكَاة فِي أَعمالكُم ".
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا سُئِلَ عَن الْوَصِيَّة، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: " الثُّلُث، وسط من المَال، لَا بخس، وَلَا شطط ".
وَرُوِيَ عَن عبد الله، رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ " أَيّمَا رجل توفّي، وَلَيْسَت لَهُ عصبَة، فَإِن مَاله وَصِيَّة كُله ". وَقَالَ: إِنَّمَا بَدَأَ بشأن الْوَصِيَّة من أجل سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنهُ، وَالله أعلم.

(4/45)


كتاب قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة

من كتاب (قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة) .
مسالة (172) :

السَّلب للْقَاتِل دون شَرط الإِمَام. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن ذَلِك بِشَرْط الإِمَام ".
وَدَلِيلنَا حَدِيث أبي قَتَادَة فِي قَتله الرجل يَوْم حنين، وَأخذ غَيره سلبه، وَقَول أبي بكر رَضِي الله عَنهُ: " لَا هَا الله إِذن لَا نعمد إِلَى أَسد من أَسد الله يُقَاتل عَن الله عز وَجل، وَعَن رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فيعطيك سلبه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صدق فأعطه إِيَّاه "، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف من الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا فِي قصَّة قتل أبي جهل، ثمَّ قَالَ: " وَقضى بسلبه لِمعَاذ بن عَمْرو ".

(4/46)


قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " إِنَّمَا قضى بسلبه لأَحَدهمَا دون الآخر؛ لِأَنَّهُ علم أَن أَحدهمَا أثخنه،، وَالْآخر أجهز عَلَيْهِ، فَقضى بسلبه لمن أخنه، وَالله أعلم.
على أَن غنيمَة بدر كَانَت للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِدلَالَة قَوْله عز وَجل: {يسئلونك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعْطي مِنْهَا من رأى، ثمَّ نزلت قسْمَة الْغَنِيمَة، وأحكامها بعد ذَلِك.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِي الله عَنهُ قصَّة الرجل الْعين، وَقَتله إِيَّاه، فَسَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن صَاحبه، فَقيل: ابْن الْأَكْوَع، قَالَ: " لَهُ سلبه أجمع ".
والقصة عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا عَنهُ، وَقَالَ فِيهَا: " ثمَّ قَتله "، قَالَ " فنفله رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سلبه ".
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه ".
وَفِي رِوَايَة قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم حنين: " من تفرد بِدَم رجل فَلهُ سلبه، فجَاء أَبُو طَلْحَة بسلب أحد وَعشْرين رجلا ".

(4/47)


وَحَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم فِي صَحِيح مُسلم عَن صَفْوَان بن عَمْرو عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير عَن أَبِيه عَن عَوْف يُؤَكد هَذَا ويقويه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَكَانَ مَعْرُوفا فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا بَين أَصْحَابه أَن السَّلب يكون للْقَاتِل فِي كل غَزْوَة غَزَاهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد بدر، وَذكر قصَّة عَن حَاطِب بن أبي بلتعه فِي قتل عتبَة بن أبي وَقاص، وَأَخذه سلبه بِأَمْر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وقصة صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب، رَضِي الله عَنْهَا، وقتلها الْيَهُودِيّ، وَقَوْلها لحسان: " اسلبه، فاستلبه، وَأَنه لم يَمْنعنِي أَن أستلبه إِلَّا أَنه رجل ".
وقصة قتل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ عَمْرو بن ود، ثمَّ أقبل عَليّ رَضِي الله عَنهُ نَحْو رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَجهه يَتَهَلَّل، فَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: " هلا استلبته درعه؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ للْعَرَب درع خير مِنْهَا، فَقَالَ: ضَربته، فاتقاني بسواده، فَاسْتَحْيَيْت ابْن عمي أَن أستلبه ".

(4/48)


وقصة قتل خَالِد بن الْوَلِيد هُرْمُز، فنقله أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ سلبه، فبلغت قلنسوته مائَة ألف دِرْهَم.
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " بارز الْبَراء مرزبان الرادة، فَقتله، فَنزل، فَأخذ منطقته وسواريه، فقوما بِثَلَاثِينَ ألفا، فَذكر ذَلِك لعمر، رَضِي الله عَنهُ، فَأتي أَبَا طَلْحَة، فَقَالَ: إِنَّا لَا نُخَمِّسُ سلبا، وَإِن سلب الْبَراء قد بِيعَتْ مَالا، وَلَا أَرَانِي إِلَّا خَامِسَة ".
وَفِي رِوَايَة عَنهُ أَن الْبَراء قتل رجلا من فَارس، فَبلغ سلبه أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم، فَكتب عمر أَن يُخَمّس سلبه، ثمَّ يدْفع سائره كُله إِلَى الْبَراء.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَرُوِيَ أَن بشر بن عَلْقَمَة، قَالَ: " بارزت رجلا يَوْم الْقَادِسِيَّة، فَبلغ اثْنَي عشر ألفا، فنفلنيه سعد ". رَوَاهُ الثَّوْريّ، وَابْن عُيَيْنَة عَن الْأسود بن قيس (عَن) بشر بن عَلْقَمَة، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن ابْن عُيَيْنَة.
وَفِي الصَّحِيح عِنْد مُسلم منع خَالِد بن الْوَلِيد رجلا من الْمُسلمين سلب رجل من الْعَدو قَتله، وَأَن عَوْف بن مَالك أخبر بذلك

(4/49)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا خَالِد، مَا مَنعك أَن تعطيه سلبه؟ قَالَ: استكثرته يَا رَسُول الله، قَالَ: ادفعه "، وَقَالَ فِيهِ: " إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن يُخَمّس السَّلب ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " السَّلب من النَّفْل، وَالنَّفْل من الْخمس "، وَهَذَا مَذْهَب لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " إِذا ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأبي هُوَ وَأمي شَيْء لم يجز تَركه "، قَالَ: " وَلم يسْتَثْن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَلِيل السَّلب، وَلَا كَثِيره ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (173) :

والأراضي المغنومة مقسومة بَين الْغَانِمين، لَيْسَ للْإِمَام أَن يردهَا على الْمُشْركين. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الإِمَام بِالْخِيَارِ بَين أَن يقسمها، أَو يردهَا عَلَيْهِم بِضَرْب الْخراج عَلَيْهَا ".
وَهَذَا خلاف كتاب الله عز وَجل، وَسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ الله عز وَجل: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شئ فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة.

(4/50)


وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة.
وَقسم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَر بَين أَصْحَابه، فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أسلم، أَنه سمع عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَن أترك آخر النَّاس ببانا لَيْسَ لَهُم شَيْء مَا فتحت عَليّ قَرْيَة إِلَّا قسمتهَا، كَمَا قسم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَر، وَلَكِن أتركها لَهُم خزانَة.
وَعِنْده أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ افتتحنا خَيْبَر، فَلم نغنم ذَهَبا، وَلَا فضَّة، إِنَّمَا غنمنا الْإِبِل، وَالْبَقر، وَالْمَتَاع، والحوائط ".
والحوائط الَّتِي قسمهَا (رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) بَين الْغَانِمين، هِيَ مَا فتحهَا عنْوَة، دون مَا فتح صلحا بِدَلِيل مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ وَغَيره، قَالُوا: " بقيت بَقِيَّة من أهل خَيْبَر يحصوا، فسألوا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يحقن دِمَاءَهُمْ، ويسيرهم فَفعل، فَسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذَلِك، وَكَانَت لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَالِصَة؛ لِأَنَّهُ لم يوجف عَلَيْهَا بخيل، وَلَا ركاب ".
وَعمر رَضِي الله عَنهُ حِين رأى وقف السوَاد استطاب أنفس الْغَانِمين، كَمَا استطاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنفس الْغَانِمين بحنين فِي رد

(4/51)


النِّسَاء، والذراري، وَإِن الحكم اللَّازِم فِي الْأَرَاضِي المغنومة مَا ذكرنَا.
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيّمَا قَرْيَة أتيتموها، فأقمتم فِيهَا، فسهمكم فِيهَا، وَأَيّمَا قَرْيَة عَصَتْ الله وَرَسُوله، فَإِن خمسها لله وَلِرَسُولِهِ، ثمَّ هِيَ لكم "، رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن رَافع وَغَيره عَن عبد الرَّزَّاق وَقَالَ: " سهمك فِيهَا ".
فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ مَا يكون فَيْئا، فَيكون فِيهِ حَقهم من سهم الْمصَالح، ثمَّ ذكر مَا فتح عنْوَة، وَجعل مَا زَاد على الْخمس للغانمين، فَقَالَ: " ثمَّ هِيَ لكم "، وَلم يفرق بَين الْأَرَاضِي وَغَيرهَا، وَالله تَعَالَى اعْلَم.
مَسْأَلَة (174) :

إِذا شَرط الإِمَام قبل الْقِتَال، من أَخذ شَيْئا فَهُوَ لَهُ، فَمن أَخذ شَيْئا يكون غنيمَة. وَفِيه قَول آخر: " إِنَّه جَائِز "، وَهُوَ قَول ابي حنيفَة، رَحمَه الله.

(4/52)


رُوِيَ عَن ابْن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن سُلَيْمَان الْأَشْدَق عَن مَكْحُول عَن أبي أُمَامَة عَن عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله عَنْهُم: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين التقى النَّاس ببدر نفل كل امْرِئ مَا أصَاب ". وَذكر بَاقِي الحَدِيث فِي اخْتلَافهمْ، ونزول الْآيَة فِي الْأَنْفَال.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: " وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي شَرط النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يُخَالف حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، فَقيل عَنهُ: قَالَ النَّبِي - يَعْنِي يَوْم بدر - من فعل كَذَا، أَو كَذَا فَلهُ كَذَا وَكَذَا ". وَقيل عَنهُ: " من قتل قَتِيلا فَلهُ كَذَا وَكَذَا، وَمن أسر أَسِيرًا فَلهُ كَذَا وَكَذَا "، وَمن أَتَى مَكَان كَذَا وَكَذَا فَلهُ كَذَا وَكَذَا ".
وَهَذَا لَا يدل على أَنه جعل لَهُ جَمِيع مَا أَخذه، وَإِنَّمَا يدل على أَنه يُعْطِيهِ شَيْئا على طَرِيق النَّفْل، ثمَّ قد بَين عبَادَة، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم، أَن ذَلِك كَانَ قبل نزُول الْآيَة فِي قسْمَة الْغَنِيمَة، وَأَن الْأَمر بعد نُزُولهَا صَار إِلَيْهِ.

(4/53)


وَكَذَا فِيمَا رُوِيَ عَن زِيَاد بن علاقَة عَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنهُ: " لما قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة بعثنَا فِي ركب "، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: " قَالَ: وَكَانَ الْفَيْء إِذْ ذَاك من أَخذ شَيْئا فَهُوَ لَهُ "، ثمَّ ذكر الحَدِيث فِي بَعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِم (عبد الله) بن جحش قَالَ: وَكَانَ أول أَمِير أَمر فِي الْإِسْلَام ".
(وَفِي هَذَا أَيْضا دلَالَة على أَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْإِسْلَام قبل وقْعَة بدر، ونزول الْآيَة فِي الْغَنَائِم كَانَ بعد وقْعَة بدر، فَصَارَ الْأَمر إِلَى مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة، ثمَّ سيره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ذَلِك فِي مغازيه وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (175) :

وَللْإِمَام أَن يمن على الْبَالِغين من الأسرى، وَأَن يفاديهم بأسرى الْمُسلمين. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك ".
وَهَذَا أَيْضا خلاف الْكتاب وَالسّنة.

(4/54)


قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب حَتَّى إِذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا} .
رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " يُوشك أَن ينزل عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِ السَّلَام، إِمَامًا مهديا، وَحكما عادلا، فَيقْتل الْخِنْزِير، وَيكسر الصَّلِيب، وَيَضَع الْجِزْيَة، وتضع الْحَرْب أَوزَارهَا ".
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: " حَتَّى تضع الْحَرْب اوزارها - يَعْنِي نزُول عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام ". وَعنهُ قَالَ: " فَيسلم كل يَهُودِيّ، وَنَصْرَانِي، وَصَاحب مِلَّة، وتأمن الشَّاة الذِّئْب، وَلَا تقْرض فَأْرَة جرابا ". وَتذهب الْعَدَاوَة من الْأَشْيَاء كلهَا، وَذَلِكَ ظُهُور الْإِسْلَام على الدّين كُله.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خيلا قبل نجد، فَجَاءَت بِرَجُل من بني حنيفَة، يُقَال لَهُ ثُمَامَة بن أَثَال، فربطوه بِسَارِيَة من سواري الْمَسْجِد، فَخرج إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟ قَالَ: عِنْدِي - يَا مُحَمَّد -

(4/55)


خير: إِن تقتل تقتل ذَا دم، وَإِن تنعم تنعم على شَاكر، وَإِن كنت تُرِيدُ المَال فسل، تعط مِنْهُ مَا شِئْت ". وَذكر بَاقِي الحَدِيث فِي تَكْرِير هَذَا القَوْل، وَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِطْلَاقِهِ، ثمَّ إِسْلَامه.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن جُبَير بن مطعم رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لأسرى بدر: " لَو كَانَ مطعم حَيا ثمَّ كلمني فِي هَؤُلَاءِ النتنى لخليتهم لَهُ ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أنس رَضِي الله عَنهُ " أَن ثَمَانِينَ رجلا من أهل مَكَّة هَبَطُوا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه من جبال التَّنْعِيم عِنْد صَلَاة الْفجْر، ليقتلوهم، فَأَخذهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأعْتقهُمْ، فَأنْزل الله. جلّ ثَنَاؤُهُ -: {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة (من بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم} } ، إِلَى آخر الْآيَة.
وَفِيه أَيْضا عَن عمرَان، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " أسر أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا من بني عقيل، وَكَانَت ثَقِيف قد أسرت رجلَيْنِ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَفَدَاهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرجلَيْنِ اللَّذين أسرتهمَا ثَقِيف ".

(4/56)


وَفِيه أَيْضا حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة الَّتِي نفله إِيَّاهَا أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ استوهبها مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَبعث بهَا إِلَى أهل مَكَّة، ففادى بهَا أَسِيرًا كَانَ فِي أَيْديهم.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ " فِي الرجل الَّذِي اخْتَرَطَ سيف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ نَائِم، فَاسْتَيْقَظَ، وَهُوَ فِي يَده صَلتا، فَقَالَ: من يمنعك مني؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الله، فَشَام السَّيْف فَجَلَسَ، فَلم يُعَاقِبهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد فعل ذَلِك ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عُبَيْدَة عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الاسارى يَوْم بدر: إِن شِئْتُم قَتَلْتُمُوهُمْ، وَإِن شِئْتُم فَادَيْتُمُوهُمْ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ، وَاسْتشْهدَ مِنْكُم بِعدَّتِهِمْ ".
وَعَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: " وَكَانَ مِمَّن ترك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أُسَارَى بدر بعد فدَاء الْمطلب بن حنْطَب المَخْزُومِي، وَكَانَ مُحْتَاجا فَلم يفاد، فَمن عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَبُو عزة عمر بن عبد الله

(4/57)


الجُمَحِي، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بَنَاتِي، فرحمه، فَمن عَلَيْهِ، وصفي بن عَابِد المَخْزُومِي ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (176) :

الْمُسْتَحبّ أَن يقسم الْغَنَائِم فِي دَار الْحَرْب، مَا لم يكن عذر يمْنَع من ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يكره ذَلِك ".
رُوِيَ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم غَنَائِم بدر بشعب من شعاب الصَّفْرَاء، قريب من بدر، وَقسم غَنَائِم بني المصطلق على مِيَاههمْ، وَغَنَائِم هوَازن فِي دِيَارهمْ، وَغَنَائِم خَيْبَر بِخَيْبَر "، وَذَلِكَ فِي مغازي ابْن إِسْحَاق مَذْكُور، روينَاهُ فِي كتاب السّنَن.
وَقد أعَاد الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى هَذِه الْمَسْأَلَة فِي كتاب السّير، وسنستقصي بَيَانهَا هُنَالك، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالله أعلم.

(4/58)


مَسْأَلَة (177) :

للفارس ثَلَاثَة أسْهم: سَهْمَان لفرسه، وَسَهْم لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " للفارس سَهْمَان: سهم لَهُ وَسَهْم لفرسه ".
وَدَلِيلنَا مَا عِنْد مُسلم فِي الصَّحِيح عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنه قسم للْفرس سَهْمَيْنِ، وللراجل سهم ".
وَعند البُخَارِيّ عَنهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: " قسم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم خَيْبَر للفارس سَهْمَيْنِ، وللرجل سَهْما "، قَالَ فسره نَافِع، فَقَالَ: " إِذا كَانَ مَعَ الرجل فرس فَلهُ ثَلَاثَة أسْهم، إِن لم يكن لَهُ فرس فَلهُ سهم ".
وَعند أبي دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن أبي مُعَاوِيَة عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا بِنَحْوِ حَدِيث " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسْهم للرجل ولفرسه ثَلَاثَة أسْهم: سَهْما لَهُ، وسهمين لفرسه ". فقد شفى أَبُو مُعَاوِيَة بروايته هَذِه عَن عبيد الله، وَهُوَ حَافظ، ثِقَة، حجَّة.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ الإِمَام عَنهُ، وَقد وهم بعض الروَاة لهَذَا الحَدِيث، فروه بِخِلَاف هَذِه الرِّوَايَة الصَّحِيحَة.

(4/59)


رَوَاهُ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا أَحْمد بن مَنْصُور، حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، وَابْن نمير قَالَا: " حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسْهم للرجل ولفرسه ثلَاثه أسْهم، سَهْما لَهُ، وسهمين لفرسه "، جعل للفارس سَهْمَيْنِ، وللراجل سَهْما ".
قَالَ الرَّمَادِي: " كَذَا يَقُول ابْن نمير: قَالَ لنا النَّيْسَابُورِي: هَذَا عِنْدِي وهم من ابْن أبي شيبَة، أَو من الرَّمَادِي، لِأَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَعبد الرَّحْمَن بن بشر وَغَيرهمَا رَوَوْهُ عَن ابْن نمير خلاف هَذَا ".
قَالَ: " وَرَوَاهُ ابْن كَرَامَة وَغَيره عَن أبي أُسَامَة خلاف هَذَا، وروى كَذَلِك عَن نعيم بن حَمَّاد عَن ابْن الْمُبَارك عَن عبيد الله، قَالَ

(4/60)


النَّيْسَابُورِي: " لَعَلَّ الْوَهم من نعيم؛ لِأَن ابْن الْمُبَارك من اثْبتْ النَّاس ".
وَرَوَاهُ حجاج بن منهال وَغَيره عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عبيد الله كَذَلِك، وَخَالفهُم النَّضر بن مُحَمَّد اليمامي عَن حَمَّاد، فَقَالَ: " أسْهم للفارس سَهْما وللفرس سَهْمَيْنِ ".
وَرَوَاهُ كَذَلِك أَيْضا يُونُس بن بكير عَن عبيد الله (بن عَمْرو بن حُصَيْن) عَن نَافِع " للفارس سَهْمَيْنِ، وللراجل سمهما " وَتَابعه ابْن وهب، وَابْن أبي مَرْيَم، وخَالِد بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله الْعمريّ.

(4/61)


وَرَوَاهُ القعْنبِي عَنهُ بِالشَّكِّ فِي الْفَارِس، أَو الْفرس، والعمري كثير الْوَهم غير مُحْتَج بِهِ، وَكَانَ يحيى بن سعيد الْقطَّان لَا يحدث عَنهُ.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " كَأَنَّهُ سمع نَافِعًا يَقُول: للْفرس سَهْمَيْنِ، وللراجل سَهْما، فَقَالَ للفارس سَهْمَيْنِ، وللراجل سهم، وَلَيْسَ يشك، أحد من أهل الْعلم فِي تقدمه عبيد الله على أَخِيه فِي الْحِفْظ ".
وَرُوِيَ عَن يُونُس بن بكير عَن عبد الرَّحْمَن بن أَمِين عَن نَافِع عَنهُ، وَقَالَ: " للفارس سَهْمَيْنِ، وللراجل سَهْما "، وَعبد الرَّحْمَن لَيْسَ بِشَيْء، غير مُحْتَج بِهِ، وَيُونُس بن بكير رُبمَا يهم فِي الشَّيْء.

(4/62)


قَالُوا: " إِن خَيْبَر قسمت على ثَمَانِيَة عشر سَهْما على أهل الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ الْجَيْش ألفا وَخمْس مائَة، مِنْهُم ثَلَاث مائَة فَارس، فَأعْطى الْفَارِس سَهْمَيْنِ، والراجل سَهْما ".
وذكروه فِيمَا روى مجمع بن يَعْقُوب عَن أَبِيه عَن عَمه عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن عَمه مجمع بن جَارِيَة. قيل هَذِه الرِّوَايَة لَا تعَارض بهَا الرِّوَايَات الثَّابِتَة الصَّحِيحَة بِمَا قدمنَا ذكره عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَذَلِكَ لِأَن مجمع بن يَعْقُوب بن مجمع بن يزِيد غير مُحْتَج بِهِ، وَلَا بِأَبِيهِ، ثمَّ فِيهِ نظر.
من وَجه آخر، وَهُوَ مَا صَحَّ عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم عَن جَابر، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كُنَّا يَوْم الْحُدَيْبِيَة ألفا وَأَرْبَعمِائَة "، وَرُوِيَ " أَربع

(4/63)


عشرَة مائَة ". وعَلى ذَلِك أهل الْمَغَازِي، وَأَنه قسم يَوْم خَيْبَر لمائتي فَارس.
وَعند أبي دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن عبد الله بن يزِيد عَن المَسْعُودِيّ عَن أبي عمْرَة عَن أَبِيه، قَالَ: " أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَة نفر، ومعنا فرس، فَأعْطى كل إِنْسَان منا سَهْما، وَأعْطى الْفرس سَهْمَيْنِ ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن أبي حَازِم مولى أبي رهم عَن أبي رهم، قَالَ: " حضرت انا وَأخي حنينا، ومعنا فرسَان، فَأَسْهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لنا أَرْبَعَة أسْهم: لي ولأخي سَهْمَيْنِ، فبعنا سهمينا من حنين ببكرين ".
وَرُوِيَ بأسانيد أخر عَنهُ انه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطاهما سِتَّة أسْهم: أَرْبَعَة لفرسيهما، وسهمان لَهما. وَرُوِيَ فِي الثَّلَاثَة الأسهم للْفرس وَصَاحبه عَن عمر وَعلي، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَالله أعلم.

(4/64)


مَسْأَلَة (178) :

وَسَهْم ذَوي الْقُرْبَى ثَابت لبني هَاشم، وَبني عبد الْمطلب، على غناهم وفقرهم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّمَا يُعْطون بالفقر ".
وَهَذَا خلاف الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ ولذى الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} .
وَقَالَ: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ ولذى الْقُرْبَى} الْآيَة.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن جُبَير بن مطعم، قَالَ: " مشيت أَنا وَعُثْمَان بن عَفَّان إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله أَعْطَيْت بني عبد الْمطلب وَتَرَكتنَا، وَإِنَّمَا نَحن وهم بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّمَا بَنو هَاشم، وَبَنُو عبد الْمطلب شَيْء وَاحِد، وَلم يقسم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبني عبد شمس، وَلَا لبني عبد نَوْفَل ".
وروى هَذَا الحَدِيث بَعضهم، فأدرج فِيهِ " أَن ابا بكر لم يكن يُعْطي قربى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعطيهم، وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يعطيهم مِنْهُ، وَعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بعده ". وَرَوَاهُ

(4/65)


غَيره، فميز ذَلِك عَن الحَدِيث، وَجعله من قَول الزُّهْرِيّ، فَصَارَت الرِّوَايَة لَهُم بذلك مُنْقَطِعَة، وَنحن نروي عَنْهُمَا مَوْصُولا غير مُنْقَطع مثل مَذْهَبنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمَا رُوِيَ فِي صَحِيح مُسلم من مسَائِل نجدة الحروري لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَجَوَابه، وَفِيه " سَأَلت عَن ذِي الْقُرْبَى من هم، فزعمنا أَنا نَحن هم، فَأبى ذَلِك علينا قَومنَا ".
فقد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله (فِيهِ: " يجوز أَن يكون ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ) عَنى بقوله: وَأبي ذَلِك علينا قَومنَا غير أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَأَهله ".
وَعند أبي دَاوُد أَن نجدة حِين حج فِي فتْنَة ابْن الزبير أرسل إِلَى ابْن عَبَّاس يسْأَله عَن سهم ذِي الْقُرْبَى، وَيَقُول: لمن ترَاهُ؟ قَالَ ابْن

(4/66)


عَبَّاس: " لقربى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قسمه لَهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ عرض علينا من ذَلِك عرضا رَأَيْنَاهُ دون حَقنا، فرددناه عَلَيْهِ، وأبينا أَن نقبله ".
وَعِنْده أَيْضا عَن ابْن أبي ليلى، قَالَ: " سَمِعت عليا رَضِي الله عَنهُ يَقُول: اجْتمعت أَنا وَالْعَبَّاس، وَفَاطِمَة، وَزيد بن حَارِثَة عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن رَأَيْت توليني حَقنا من هَذَا الْخمس فِي كتاب الله، فأقسمه حياتك حَتَّى لَا يُنَازعنِي أحد بعْدك، فافعل، قَالَ: فَفعل ذَلِك، قَالَ: فقسمته حَيَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ ولانية أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ، حَتَّى كَانَت آخر سنة من سني عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَإِنَّهُ أَتَاهُ مَال كثير، فعزل حَقنا، ثمَّ أرسل إِلَيّ، فَقلت: بِنَا عَنهُ الْعَام غنى، وبالمسلمين إِلَيْهِ حَاجَة، فاردده عَلَيْهِم، فَرده عَلَيْهِم، ثمَّ لم يدعني إِلَيْهِ أحد بعد عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَلَقِيت الْعَبَّاس بَعْدَمَا خرجت من عِنْد عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ: يَا عَليّ: حرمتنا الْغَدَاة شَيْئا لَا يرد علينا أبدا ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " فِي هَذَا دلَالَة على أَن أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا أقرا عليا، رَضِي الله عَنهُ، على مَا ولاه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قسْمَة سهم ذِي الْقُرْبَى بَينهم.
وَيدل على اسْتِحْقَاق ذَوي الْقُرْبَى هَذَا السهْم بِنَصّ كتاب الله

(4/67)


لَهُم مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " عَن عبد الله ابْن بُرَيْدَة " عَن بُرَيْدَة قَالَ: " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا رَضِي الله عَنهُ إِلَى خَالِد بن الْوَلِيد لقبض الْخمس، فَأخذ مِنْهُ جَارِيَة، فَأصْبح وَرَأسه يقطر، قَالَ خَالِد لبريدة: ترى مَا يصنع هَذَا؟ قَالَ: وَكنت أبْغض عليا، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا بُرَيْدَة، أتبغض عليا؟ قَالَ: قلت: نعم، قَالَ: فَأَحبهُ، فَإِن لَهُ فِي الْخمس أَكثر من ذَلِك ".
فَفِي هَذَا دلَالَة على صِحَة مَا روينَا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي تَوْلِيَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه حَقهم من الْخمس، وَفِيه دلَالَة على أَن الله تَعَالَى جعل لَهُم هَذَا السهْم على جِهَة الِاسْتِحْقَاق، وَكَانَ ذَلِك موكولا إِلَى رَأْي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يُعْطِيهِ من شَاءَ من قرَابَته، ثمَّ سقط (حكمه بِمَوْتِهِ مَا سقط) حكم سهم الصفي، (كَمَا ذهب) إِلَيْهِ بعض من يُسَوِّي الْأَخْبَار على مذْهبه وَلما اسْتحلَّ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَخذ جَارِيَة مِنْهُ، والوقوع عَلَيْهَا، وَلما عذره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك وَلما احْتج لَهُ بَان لَهُ فِي الْخمس أَكثر من ذَلِك، وَالْعجب أَن هَذَا الْقَائِل اسْتدلَّ، فَقَالَ: " لَو كَانَ هَذَا السهْم لَهُم على جِهَة الِاسْتِحْقَاق مَا جَازَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يُعْطي بَعْضًا دون بعض، وَلم يفكر فِي نَفسه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا بعث مُبينًا لأمته مَا أَرَادَ الله تَعَالَى بكتابه عَاما، أَو خَاصّا، وَلَيْسَ هَذَا أول عُمُوم ورد فِي الْكتاب، فَبين رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه خَاص دون عَام، ثمَّ لم يقْتَصر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هَذَا الحكم على مُجَرّد الْبَيَان، حَتَّى ذكر علته،

(4/68)


فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا روينَا عَنهُ فِي الْأَخْبَار الثَّابِتَة أَنهم لم يفارقوه فِي جَاهِلِيَّة، وَلَا إِسْلَام ". وَقد أعْطى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمِيع من أخبر عَن الله تَعَالَى أَنهم مرادون بِذِي الْقُرْبَى، وهم بَنو هَاشم، وَبَنُو عبد الْمطلب، لَا نعلم حرم مِنْهُم أحدا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَقد نقلنا فِي الْمَبْسُوط من كَلَام الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى الْقَدِيم والجديد تشبيهه قَول من زعم أَن هَذَا السهْم سقط بِمَوْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَا حجَّة، بقول من زعم أَن فرض الزَّكَاة رفع بِرَفْع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يكون جَوَابا عَن جَمِيع أسئلتهم، من أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَإِن شَاءَ الله تَعَالَى ". وَالله أعلم.
مسالة (197) :

وَفِي سهم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد وَفَاته قَولَانِ:
أَحدهمَا: إِنَّه مَرْدُود على الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي الْآيَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: " إِنَّه يصرف فِي الْمصَالح. وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله مذهبا لنَفسِهِ.
رُوِيَ عَن عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " أَخذ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم خَيْبَر وبرة من جنب بعير، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، أَنه لَا يحل لي مِمَّا افاء الله عَلَيْكُم قدر هَذِه إِلَّا الْخمس، وَالْخمس مَرْدُود عَلَيْكُم ".

(4/69)


وروى الْوَلِيد بن جَمِيع عَن أبي الطُّفَيْل، قَالَ: " جَاءَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَت: يَا خَليفَة رَسُول الله، أَنْت ورثت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أم أَهله، قَالَ: لَا، بل أَهله، قَالَت: فَمَا بَال الْخمس؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: إِذا أطْعم الله نَبيا طعمه، ثمَّ قَبضه، كَانَت للَّذي يَلِي بعده، فَلَمَّا وليت رَأَيْت أَن أرده على الْمُسلمين، قَالَت: أَنْت وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم، ثمَّ رجعت ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " هَكَذَا رَوَاهُ الْوَلِيد بن جَمِيع، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَإِنَّمَا احْتج أَبُو بكر بِمَا رَوَاهُ وَغَيره عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة "، فَإِن كَانَ حفظ هَذَا اللَّفْظ الْوَلِيد فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ أَن ولَايَته إِلَى الَّذِي يَلِي الْأَمر بعده ". وَالله اعْلَم.

(4/70)


كتاب قسم الصَّدقَات

وَمن كتاب قسم الصَّدقَات:
مَسْأَلَة (180) :

وَلَا تحل الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لمن لَهُ كسب بِقدر كِفَايَته. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا تحل لَهُ ".
وَدَلِيلنَا مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ، وَلَا لذِي مرّة قوي ".
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مثله، وَقَالَ: " وَلَا لذِي مرّة سوي ".
وَرُوِيَ عَن عبيد الله بن عدي بن الْخِيَار عَن رجلَيْنِ، قَالَا: أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يقسم نعم الصَّدَقَة، فَسَأَلْنَاهُ، فَصَعدَ فِينَا الْبَصَر،

(4/71)


وَصوب فَقَالَ: (مَا شئتما، فَلَا حق) فِيهَا (لَغَنِيّ، وَلَا) لقوي مكتسب ".
وَفِي رِوَايَة قَالَ: " أَخْبرنِي رجلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع، وَقَالَ: فرآنا جلدين، فَقَالَ: إِن شئتما "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (181) :

لَا يجوز صرف شَيْء من الصَّدقَات الْوَاجِبَة إِلَى الْكفَّار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يجوز صرف صَدَقَة الْفطر وَالْكَفَّارَات إِلَى فُقَرَاء أهل الذِّمَّة ".
لنا حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي وَصِيَّة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ رَضِي الله عَنهُ لما بَعثه إِلَى الْيمن، وفيهَا: " فَإِذا صلوا فَأخْبرهُم أَن الله تَعَالَى قد افْترض عَلَيْهِم زَكَاة فِي أَمْوَالهم، تُؤْخَذ من غنيهم، فَترد على فقيرهم، فَإِذا أقرُّوا بذلك، فَخذ مِنْهُم، وتوق كرائم أَمْوَالهم "، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح، فَأخْبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الصَّدَقَة الْوَاجِبَة عَلَيْهِم مَرْدُودَة على فقرائهم، فَخص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُسلمين من الْفُقَرَاء بذلك.
وَرُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الْحسن وَقَتَادَة عَن الزُّهْرِيّ أَنهم كَانُوا

(4/72)


يَقُولُونَ: " لَا يطعم الْكَافِر من الْكَفَّارَات شَيْئا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (182) :

يجوز للرجل أَن يتَوَلَّى دفع صَدَقَة الْأَمْوَال الظَّاهِرَة، وتفريقها بِنَفسِهِ فِي قَوْله الْجَدِيد. وَقَالَ فِي الْقَدِيم: " لَا يجوز ". وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله.
قَالَ الله عز وَجل: {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هى وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} .
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا غُلَام بني عبد الْمطلب، فَقَالَ: وَعَلَيْك، قَالَ: إِنِّي رجل من أخوالك، من ولد بني سعد بن بكر، وَإِنِّي رَسُول قومِي إِلَيْك ووافدهم "، فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: " فَإنَّا قد وجدنَا فِي كتابك، وأمرتنا رسلك أَن نَأْخُذ من حَوَاشِي أَمْوَالنَا، فنضعه فِي فقرائنا، وأنشدك الله، أهوَ أَمرك بذلك؟ فَقَالَ: نعم ".

(4/73)


قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " هَذِه اللَّفْظَة إِن كَانَت مَحْفُوظَة دلّت على جَوَاز تَفْرِيق رب المَال زَكَاة مَاله بِنَفسِهِ. وَحَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ فِي هَذِه الْقِصَّة " آللَّهُ أَمرك أَن تَأْخُذ هَذِه الصَّدَقَة من أغنيائنا، فتقسمها على فقرائنا " إِسْنَاده أصح، وَهُوَ دَلِيل القَوْل الثَّانِي، وَهُوَ الْقَدِيم، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (183) :

وَيُعْطى سهم الغارمين لمن تحمل حمالَة مَعَ غناهُ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَا يعْطى إِلَّا بفقره وَحَاجته ".
رُوِيَ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، وَالثَّوْري عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تحل صَدَقَة لَغَنِيّ إِلَّا لخمسة: لعامل عَلَيْهَا، أَو مِسْكين تصدق عَلَيْهِ مِنْهُ، فأهداها لَغَنِيّ، أَو لرجل اشْتَرَاهَا بِمَالِه، أَو غَارِم، أَو غاز فِي سَبِيل الله عز وَجل "، وَرُوِيَ عَنهُ عَن معمر عَن زيد بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَرَوَاهُ القعْنبِي عَن مَالك عَن زيد عَن عَطاء، أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تحل الصَّدَقَة إِلَّا لخمسة "، فَذكر الحَدِيث مُرْسلا، وَتَابعه ابْن عُيَيْنَة عَن زيد مُرْسلا. وأسنده معمر، وَهُوَ ثِقَة، حجَّة، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة.

(4/74)


وَفِي صَحِيح مُسلم عَن قبيصَة بن مُخَارق الْهِلَالِي قَالَ: " تحملت حمالَة فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أقِم يَا قبيصَة، حَتَّى تَأْتِينَا الصَّدَقَة، فنأمر لَك بهَا، ثمَّ قَالَ:: يَا قبيصَة، إِن الْمَسْأَلَة لَا تحل إِلَّا لأحد ثَلَاثَة: رجل تحمل حمالَة فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيبهَا، ثمَّ يمسك، وَرجل أَصَابَته جَائِحَة، فاجتاحت مَاله، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيب قواما من عَيْش - اَوْ قَالَ: سدادا من عَيْش - وَرجل أَصَابَته فاقة، حَتَّى يَقُول ثَلَاثَة من ذَوي الحجى من قومه قد أَصَابَت فلَانا الْفَاقَة، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيب قواما من عَيْش، أَو سدادا من عَيْش، ثمَّ يمسك، وَمَا سواهن من الْمَسْأَلَة، - يَا قبيصَة - سحت، يأكلها صَاحبهَا سحتا "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (184) :

وَلَا يجوز صرف الصَّدقَات إِلَى صنف وَاحِد من جملَة الْأَصْنَاف الثَّمَانِية مَعَ وجودهم. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِن ذَلِك جَائِز ".
وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} الْآيَة
روى أَبُو دَاوُد عَن زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي، قَالَ: " أتيت

(4/75)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعته "، فَذكر حَدِيثا طَويلا، " فَأَتَاهُ رجل، فَقَالَ: أَعْطِنِي من الصَّدَقَة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن الله عز وَجل لم يرض بِحكم نَبِي، وَلَا غَيره فِي الصَّدقَات، حَتَّى يحكم فِيهَا هُوَ، فجزأها ثَمَانِيَة أَجزَاء، فَإِن كنت من تِلْكَ الْأَجْزَاء أَعطيتك حَقك ".
وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن منهال عَن زر عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ مثل مَذْهَبهم، وَالْحجاج غير مُحْتَج بِهِ. وَالله اعْلَم.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن: " فَإِذا صلوا فَأخْبرهُم أَن الله قد افْترض عَلَيْهِم زَكَاة فِي أَمْوَالهم تُؤْخَذ من غنيهم، فَترد على فقيرهم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " يشبه أَن يكون الْمَقْصُود من هَذَا الْخَبَر تَفْرِقَة الصَّدقَات فِي الْموضع الَّذِي تُؤْخَذ فِيهِ دون نقلهَا إِلَى غَيره، وَاقْتصر على ذكر صنف وَاحِد من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة، وَالْمرَاد بِهِ جَمِيعهم ".
وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالفقراء، أهل الْحَاجة، وَأكْثر أهل الصَّدقَات أهل حَاجَة بمعان مُخْتَلفَة ".
استدلوا بِمَا روى الْحسن بن عمَارَة عَن وَاصل، وَحَكِيم عَن سُفْيَان، قَالَ: " أُتِي عمر رَضِي الله عَنهُ بِصَدقَة زَكَاة، فَأَعْطَاهَا أهل بَيت كَمَا هِيَ ".

(4/76)


وَعَن الحكم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ، وَعَن منهال عَن زر عَن حُذَيْفَة انهما لم يَكُونَا يريان بِهَذَا بَأْسا.
وَرَوَاهُ لَيْث بن أبي سليم عَن عَطاء عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَالْحسن بن عمَارَة مَتْرُوك، وَلَيْث بن ابي سليم لَيْسَ بِقَوي، وَعَطَاء عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مُرْسل.
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا رَوَاهُ يُوسُف بن يَعْقُوب عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن وهيب عَن عَطاء عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهَذَا الْإِسْنَاد صَحِيح، غير أَنه قد خُولِفَ فِيهِ، فَرَوَاهُ الثَّوْريّ، وَحَمَّاد بن سَلمَة، وَيحيى بن عُثْمَان عَن عَطاء عَن سعيد من قَوْله: " وروى لنا عِكْرِمَة من قَوْله "، وَاحْتج بِالْآيَةِ الَّتِي احْتج بهَا الشَّافِعِي، رَحمَه الله.
وروى أَبُو أَحْمد بن عدي - بِسَنَدِهِ - عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، قَالَ: " قَالَ شُعْبَة: أَلا تعْجبُونَ من جرير بن حَازِم، هَذَا الْمَجْنُون أَتَانِي

(4/77)


هُوَ، وَحَمَّاد بن زيد، فكلماني أَن أكف عَن الْحسن بن عمَارَة، أما أكف عَن ذكره، لَا وَالله لَا اكف عَن ذكره، أما وَالله سَأَلت الحكم عَن الصَّدَقَة تجْعَل فِي صنف وَاحِد مِمَّا سمى الله، فَقَالَ: لَا بَأْس، قلت: مِمَّن سَمِعت؟ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم يَقُوله ".
وَهَذَا الْحسن يحدث عَن الحكم عَن يحيى بن الجرار عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَعَن الحكم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعَن الحكم عَن حُذَيْفَة، قَالَ: لَا بَأْس أَن يَجْعَل الرجل صدقته فِي صنف وَاحِد "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (185) :

الْفَقِير الْمَذْكُور فِي آيَة الصَّدقَات أمس حَاجَة من الْمِسْكِين الْمَذْكُور فِيهَا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " بل الْمِسْكِين أمس حَاجَة من الْفَقِير ".
وَدَلِيلنَا قَول الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} الْآيَة، فَقدم ذكر الْفُقَرَاء على الْمَسَاكِين، وَمن عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا إِذا ذكرت صنفين قد اجْتمعَا فِي صفة بدأت بأهمهما أمرا، وأشدهما حَالا.

(4/78)


وَقَول الله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا} الْآيَة.
وَقَالَ الله عز وَجل: {أما السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين يعْملُونَ فِي الْبَحْر} الْآيَة.
وَوجه الدَّلِيل مِنْهُ أَن من حصر عَن الضَّرْب فِي الأَرْض لفقره أَشد حَالا مِمَّن لم تحبسه المسكنة عَن الضَّرْب فِي الْبَحْر، وَله أَيْضا ملك السَّفِينَة.
وَمن الْخَبَر حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَ الْمِسْكِين بِهَذَا الطّواف الَّذِي يطوف على النَّاس، فَتَردهُ اللُّقْمَة وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَة وَالتَّمْرَتَانِ، قَالُوا: فَمن الْمِسْكِين يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الَّذِي لَا يجد غنى يُغْنِيه، وَلَا يفْطن لَهُ، فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ، وَلَا يسْأَل النَّاس شَيْئا "، لفظ حَدِيث مُسلم، وَعند البُخَارِيّ " وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس ".
وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ وَالله أعلم " لَيْسَ الْمِسْكِين بِهَذَا الطّواف " يَعْنِي: لَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْفَقِير الَّذِي لَا شَيْء لَهُ، وَلَا يجد بدا من السُّؤَال حَتَّى يحصل لَهُ لقْمَة، أَو لقمتان، وَإِنَّمَا الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد مَا يُغْنِيه، يَعْنِي تَمام مَا يَكْفِيهِ وَله مِقْدَار مَا يتعفف بِهِ عَن السُّؤَال، فيكتفي بِهِ، وَلَا يسْأَل، وَلَا يفْطن لَهُ؛ فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ بِمَا يَكْفِيهِ.
وَأما من يتعفف وَلَيْسَ لَهُ بعض الْكِفَايَة كَانَ قَاتل نَفسه، فَلَا

(4/79)


يسْتَحق هَذَا الثَّنَاء، بل هُوَ ملوم، فَدلَّ أَن المُرَاد مِنْهُ مَا ذكرنَا.
وَفِي هَذَا الْإِيضَاح، وسوق جَمِيع الْخَبَر على وَجهه جَوَاب عَن احتجاج أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْمِسْكِين أمس حَاجَة من الْفَقِير، حَيْثُ إِنَّه نفى المتكفف أَن يكون مِسْكينا، وَجعل الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد مَا يُغْنِيه، أَي: لَا يجد شَيْئا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من رِوَايَة أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَ الْمِسْكِين الَّذِي ترده التمرة وَالتَّمْرَتَانِ، واللقمة وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِين الَّذِي يتعفف، اقرؤوا إِن شِئْتُم {لَا يسئلون النَّاس إلحافا} . وَمن يتعفف، وَلَيْسَ لَهُ بعض كِفَايَة كَانَ قَاتل نَفسه، كَمَا ذكرنَا.
قيل: دلّ على أَن الْمِسْكِين هُوَ الَّذِي لَهُ بعض الْغنى، وَلَا يكون لَهُ تَمام مَا يُغْنِيه، وَالْفَقِير: من لَا مَال لَهُ، وَلَا حِرْفَة تقع مِنْهُ موقعا، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ تعوذ من الْفقر ".
وَرُوِيَ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انه كَانَ يَقُول: " اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا، وتوفني

(4/80)


مِسْكينا، واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين ". قَالَ أَصْحَابنَا: " فقد استعاذ من الْفقر، وَسَأَلَ المسكنة، وَقد كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعض الْكِفَايَة، فَدلَّ على أَن الْمِسْكِين من لَهُ بعض الْكِفَايَة ".
استدلوا بقوله جلّ جَلَاله: {أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة (16) } ، قَالُوا: " وَصفه بِشدَّة الْحَال، والالتزاق بِالتُّرَابِ من الْبُؤْس والفاقة "، قُلْنَا: " لم يقْتَصر فِيهِ على اسْم الْمِسْكِين، حَتَّى قرنه بِمَا دلّ على شدَّة حَاجته "، وَنحن لَا ننكر وُقُوع اسْم أَحدهمَا على الآخر بِقَرِينَة، فاستدلوا بِمَا اسْتدلَّ بِهِ أَبُو عبيد من الحَدِيث، وَمَا سبق من تَفْسِيره جَوَاب عَنهُ.
وَاحْتج القتيبي فِي الْفَقِير بِأَنَّهُ أوسع حَالا من الْمِسْكِين بقول الشَّاعِر:
(أما الْفَقِير الَّذِي كَانَت حلوبته ... وفْق الْعِيَال فَلم يتْرك لَهُ الدَّهْر من سبد)

وَقَالُوا: " الْفَقِير الَّذِي لَهُ حلوبة يحلبها، وَهِي قدر قوته، وقوت عِيَاله، والمسكين: لَا شَيْء لَهُ ".

(4/81)


وَجَوَابه أَن نقُول: أما الْبَيْت فحجة عَلَيْكُم، لِأَن مَعْنَاهُ أَن الَّذِي كَانَت حلوبته وفْق قوت عِيَاله لَهُ قبل الْفقر، وَقد صَار بِحَيْثُ لَا سبد لَهُ وَلَا لبد، ثمَّ نقُول: اخْتلف أهل الْمعرفَة فِيهِ، فَمنهمْ من قَالَ مَا ذكرْتُمْ مستدلين بِمَا نقلتم وَبِغَيْرِهِ، وَمِنْهُم من جعل الْفَقِير أَشد حَالا من الْمِسْكِين، لما ذكرنَا من الْأَدِلَّة ولأمثالها.
وَقد ذكر أَبُو مَنْصُور الْأَزْهَرِي رَحمَه الله تَعَالَى اخْتِلَاف أهل اللُّغَة فِيهِ، واحتجاج كل فريق مِنْهُم لما ذهب إِلَيْهِ بحجته، ثمَّ قَالَ: " وَالَّذِي عِنْدِي فيهمَا أَن الْفَقِير والمسكين يجمعهما الْحَاجة، وَإِن كَانَ لَهما مَا يتقوتانه، إِمَّا لِكَثْرَة الْعِيَال أَو قلَّة مَا بأيديهما، وَالْفَقِير أشدهما حَالا؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الْفقر، وَهُوَ كسر الفقار، وَهُوَ فعيل بِمَعْنى مفعول، فَكَأَن الْفَقِير لَا يَنْفَكّ عَن زَمَانه أقعدته عَن التَّصَرُّف مَعَ حَاجته، وَبهَا سمي فَقِيرا؛ لِأَن غَايَة الْحَاجة أَن لَا يكون لَهُ مَال، وَلَا يكون لَهُ سوى الْجَوَارِح مكتسبا، وَالْعرب تَقول للداهية الشَّدِيدَة: فاقرة، وَجَمعهَا فواقر، وَهِي الَّتِي تكسر الفقار، قَالَ الله تَعَالَى: {تظن أَن يفعل بهَا فاقرة (25) } .
وَذكر الْأَهْوَازِي فِي (شرح) احتجاج من جعل الْفَقِير أمس حَاجَة بقوله عز وَجل: {أما السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين يعْملُونَ فِي الْبَحْر} ، سماهم مَسَاكِين، وَلَهُم سفينة لَهَا قيمَة، قَالَ: " وأنشدني (أَحْمد بن يحيى قَالَ) : أَنْشدني ابْن الْأَعرَابِي:

(4/82)


(هَل لَك فِي أجر عَظِيم تؤجره ... تغيث مِسْكينا قَلِيلا عسكره)

(عشر شِيَاه سَمعه وبصره ... قد حدث النَّفس بِمصْر يمصره)

(يخَاف أَن يلقاه نسر فينسره ... )

قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: عسكره: جمَاعَة مَاله، فَسمى نَفسه مِسْكينا، وَله بلغَة، وَهِي الشياه الْعشْر "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (186) :

وَلَا يجوز نقل صَدَقَة بلد إِلَى بلد آخر مَعَ وجود / أَهلهَا على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه جَائِز ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن، وَمِنْه: " فَإِذا فعلوا فَأخْبرهُم أَن الله قد فرض عَلَيْهِم زَكَاة، تُؤْخَذ من أغنيائهم، فَترد على فقرائهم. وَعِنْدَهُمَا فِي رِوَايَة: " فَأخْبرهُم أَن عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم، فَترد على فقرائهم ".
وَعند أبي دَاوُد حَدثنَا نصر بن عَليّ، أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن عَطاء

(4/83)


مولى عمرَان بن حُصَيْن (عَن أَبِيه أَن زيادا، أَو بعض الْأُمَرَاء " بعث عمرَان بن حُصَيْن) على الصَّدَقَة، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ لعمران: أَيْن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ووضعناها حَيْثُ كُنَّا نضعها على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
استدلوا بِحَدِيث عدي بن حَاتِم، وَقَوله عمر رَضِي الله عَنهُ، وَقَول لَهُ فِيهِ: " وَإِن أول صَدَقَة بيضت وَجه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ووجوه أَصْحَابه صَدَقَة طَيء جِئْت بهَا "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي عوَانَة عَن الْمُغيرَة عَن عَامر عَن الشّعبِيّ عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن هشيم بن مجَالد عَن الشّعبِيّ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنه قَالَ: " وَإِن أول صَدَقَة بيضت وُجُوه أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَقَة طَيء، جِئْت بهَا إِلَى أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، فَقلت: أما إِنِّي أتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعام أول، كَمَا أَتَيْتُك بهَا ".

(4/84)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ حَدِيث فِي فضل بني تَمِيم، فِيهِ: " وَجَاءَت صَدَقَاتهمْ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَذِه صدقَات قَومنَا ".
وإتيان عدي بن حَاتِم، والزبرقان بن بدر، وَغَيرهمَا بالصدقات إِلَى الْمَدِينَة مَحْمُول على مَا فضل عَن أَهَالِيهمْ فِي مَوضِع الصَّدَقَة، وَيحْتَمل أَن يكون من حَولهمْ لم يسلمُوا بعد، أَو ارْتَدُّوا فِي زمَان أبي بكر، وَكَانَت الْمَدِينَة أقرب دَارا، أَو نسبا إِلَى الْيمن من طَيء وَمُضر. وَيحْتَمل أَن يكون أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَمر بردهَا بعد وصولها إِلَيْهِ إِلَى أَرْبَابهَا، حَيْثُ نقل مِنْهَا، والحكاية حِكَايَة الْحَال، وكل مُحْتَمل، وَالله أعلم.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عُيَيْنَة عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن طَاوس، قَالَ: " قَالَ معَاذ بِالْيمن: ائْتُونِي بخميس، أَو لبيس، آخذه مِنْكُم مَكَان الصَّدَقَة، فَإِنَّهُ أَهْون عَلَيْكُم، وَخير للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ "، كَذَا قَالَ. وَخَالفهُ من هُوَ أوثق مِنْهُ عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوس، فَقَالَ: " قَالَ معَاذ بِالْيمن: ائْتُونِي بِعرْض ثِيَاب آخذه مِنْكُم مَكَان الذّرة

(4/85)


وَالشعِير ".
قَالَ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " حَدِيث طَاوس عَن معَاذ إِن كَانَ مُرْسلا فَلَا حجَّة فِيهِ ". وَقد قَالَ فِيهِ بَعضهم: " من الْجِزْيَة " مَكَان " الصَّدَقَة ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَهَذَا الْأَلْيَق بمعاذ، رَضِي الله عَنهُ وَالْأَشْبَه بِمَا أمره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ من أَخذ الْجِنْس فِي الصَّدقَات، وَأخذ الدِّينَار، أَو عدله معافر ثِيَاب الْيمن فِي الْجِزْيَة، وَأَن يرد الصَّدقَات على فقرائهم، لَا أَن ينقلها إِلَى الْمُهَاجِرين بِالْمَدِينَةِ الَّذين أَكْثَرهم أهل فَيْء، لَا أهل صَدَقَة "، وَالله أعلم.
فَإِن قيل: كَيفَ يجوز حمله على الْجِزْيَة وَقد روينَا أَنه قَالَ: " آخذه مِنْكُم مَكَان الذّرة وَالشعِير "، وَفِي رِوَايَة مَكَان الصَّدَقَة قُلْنَا: أما قَوْله: " مَكَان الصَّدَقَة "، فَلم يحفظه ابْن ميسرَة، وَخَالفهُ من هُوَ أحفظ مِنْهُ، وَإِن ثَبت فَمَحْمُول على معنى مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم باسم الصَّدَقَة، كبني تغلب، فَإِنَّهُم كَانُوا يُعْطون الْجِزْيَة باسم الصَّدقَات.
وَأما قَوْله: " مَكَان الذّرة وَالشعِير " فَلَعَلَّ معَاذًا رَضِي الله عَنهُ لَو

(4/86)


أعسروا بِالدَّنَانِيرِ أَخذ مِنْهُم الشّعير وَالْحِنْطَة، لِأَنَّهُ أَكثر مَا عِنْدهم، وَإِذا جَازَ أَن يتْرك الدِّينَار لعرض، وَهُوَ الْمعَافِرِي فَلَعَلَّهُ جَازَ عِنْده أَن يَأْخُذ مِنْهُم طَعَاما فِي الْجِزْيَة، ثمَّ يَقُول: الثِّيَاب خير للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ، وأهون عَلَيْكُم؛ لِأَنَّهُ لَا مُؤنَة كَبِيرَة فِي حمل الثِّيَاب إِلَى الْمَدِينَة، وَالثيَاب بهَا أغْلى مِنْهَا بِالْيمن "، والحكاية حِكَايَة حَال.
يُوضح مَا ذكرنَا أَن رِوَايَة حديثنا وحديثكم عَن معَاذ بن جبل من حَدِيث طَاوس، وَلَو ثَبت عَن معَاذ لطاووس أَنه قضى فِي نقل الصَّدقَات نَحْو مذهبكم لما خَالفه طَاوس، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَمَعْلُوم من مَذْهَب طَاوس رَحمَه الله تَعَالَى أَنه كَانَ لَا يُجِيز بيع الصَّدقَات، وَيحلف أَنه لَا يحل، لَا قبل الْقَبْض، وَلَا بعده.
وَلَو صَحَّ مَا رويتم عَن معَاذ رَضِي الله عَنهُ من أَخذه الثِّيَاب بدل الْحِنْطَة وَالشعِير فِي الصَّدَقَة كَانَ بيع الصَّدَقَة قبل أَن يقبض، ثمَّ قد روينَا قَضَاء معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ فِي الْعشْر وَالصَّدَََقَة من طَرِيق (مطرف بن مَازِن، والاعتماد لنا على مَا سبق من الْأَدِلَّة، وَالله أعلم.
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مطرف بن مَازِن عَن معمر عَن عبد الله ابْن طَاوس عَن أَبِيه أَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قضى: " أَيّمَا رجل انْتقل من مخلاف عشيرته إِلَى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته إِلَى مخلاف عشيرته إِلَى غير مخلاف عشيرته معشره وصدقته إِلَى مخلاف عشيرته "، فتعارضا، على أَن الْحَدِيثين

(4/87)


منقطعان، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " طَاوس لم يدْرك معَاذًا، رَضِي الله عَنهُ ".
(استدلوا) أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يحمل على إبل كَثِيرَة إِلَى الشَّام وَالْعراق.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قلت: لَيست من نعم الصَّدَقَة، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يحمل على مَا يحْتَمل، وَأكْثر فَرَائض الْإِبِل، لَا تحمل أحدا.
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أخبرنَا بعض أَصْحَابنَا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن مَالك الدَّار عَن يحيى بن عبد الله بن مَالك عَن أَبِيه، أَنه سَأَلَهُ أرايت الْإِبِل الَّتِي كَانَ يحمل عَلَيْهَا عمر رَضِي الله عَنهُ الْغُزَاة، وَعُثْمَان بعده، قَالَ: أَخْبرنِي أَنَّهَا إبل الْجِزْيَة الَّتِي كَانَ يبْعَث بهَا مُعَاوِيَة، وَعَمْرو، رَضِي الله عَنْهُمَا، قلت: وَمِمَّنْ كَانَ يُؤْخَذ؟ قَالَ: من جِزْيَة أهل الذِّمَّة، وَيُؤْخَذ من صدقَات بني تغلب فَرَائض على وجوهها، فتبعث، فيبتاع بهَا إبل جله، فيبعث بهَا إِلَى

(4/88)


عمر، رَضِي الله عَنهُ فَيحمل عَلَيْهَا ".
وَالَّذِي يُوضح أَنَّهَا من الْجِزْيَة كَانَ يحمل عَلَيْهَا عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا لَا غير إِنْفَاذ عبد الْملك بن مَرْوَان مِنْهُ إِلَى أهل الْمَدِينَة ألف ألف دِرْهَم من الصَّدَقَة الْمَأْخُوذَة من الْيَمَامَة لما تَأَخّر عَنْهُم حَقهم من الْجِزْيَة، وامتناعهم عَن الْقبُول. وَقَالُوا: " أتطعمنا أوساخ النَّاس، وَمَا لَا يصلح لنا؟ وَكَانَ أَوَّلهمْ سعيد بن الْمسيب، وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، وخارجة بن زيد، وَابْن عتبَة، وَقد ذَكرْنَاهُ بِتَمَامِهِ فِي كتاب الْمعرفَة.
وَفِيه بَيَان أَيْضا أَن مَا بَعثه معَاذ وَغَيره إِلَى الْمَدِينَة كَانَ من الْجِزْيَة، فَإِن استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، أَنه كَانَ يُؤْتى بنعم من نعم الصَّدَقَة، فَهُوَ مَحْمُول على أَنه إِنَّمَا أُتِي بهَا من أَطْرَاف الْمَدِينَة، ولعلهم استغنوا، فنقلها إِلَى أقرب النَّاس بهم دَارا ونسبا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (187) :

وللفقير أَن يَأْخُذ من الزَّكَاة مَا يقوم بكفايته على الدَّوَام، وَإِن زَاد على مِائَتي دِرْهَم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " الْغنى مِائَتَا دِرْهَم،

(4/89)


أَو قيمتهَا ".
دليلنا فِي الْمَسْأَلَة الحَدِيث الصَّحِيح عَن قبيصَة بن مُخَارق رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا تحل الصَّدَقَة إِلَّا لأحد ثَلَاثَة فَذكر الرجل الَّذِي يحمل حمالَة، وَرجل أَصَابَته جَائِحَة، فاجتاحت مَاله، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة، حَتَّى يُصِيب قواما من عَيْش، أَو قَالَ: سدادا من عَيْش، ثمَّ يمسك، وَمَا سواهن من الْمَسْأَلَة - يَا قبيصَة - سحت "، وَقد تقدم قبل.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَهَذَا فِي رجل عرف بالغني، فأصابته جَائِحَة، فَلَا يعْطى حَتَّى يشْتَهر بِأَن قد أَصَابَته مَا يَدعِي من الْجَائِحَة والفاقة، ثمَّ لم يُوَقت فِيمَا يعْطى قدر النّصاب، وَأحل لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُعْطي مَا يقوم بكفايته، وَتَكون سدا لِحَاجَتِهِ ".
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى فرض على الْأَغْنِيَاء فِي أَمْوَالهم بِقدر مَا يَكْفِي فقراءهم ".
وَرُوِيَ عَن عبد الله قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من سَأَلَ وَله مَا يُغْنِيه جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة خموش، أَو خدوش، أَو كدوح فِي وَجهه، فَقيل: يَا رَسُول الله، وَمَا الْغنى؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب ".

(4/90)


وَهَذَا الحَدِيث إِن ثَبت دلّ على أَن الِاعْتِبَار فِي قدر مَا يعْطى بِمَا يقوم بكفايته، وَيكون فِيهِ - عَادَة - سَوَاء من نقص عَن قدر النّصاب، أَو زَاد عَلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الْمَعْنى مَا روينَا عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن رجل من بني أَسد أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من سَأَلَ مِنْكُم، وَله أُوقِيَّة، أَو عدلها فقد سَأَلَ إلحافا ".
وروينا عَن سهل بن حنظلية عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قيل: " مَا الْغَنِيّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي مَعَه الْمَسْأَلَة؟ قَالَ: أَن يكون لَهُ شبع يَوْم وَلَيْلَة ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " وَلَيْسَ شَيْء من هَذِه الْأَحَادِيث يخْتَلف، وَكَأن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم مَا يُغني كل وَاحِد مِنْهُم، فَجعل غناهُ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَن النَّاس يَخْتَلِفُونَ فِي قدر كفايتهم، فَمنهمْ من يُغْنِيه خَمْسُونَ درهما، لَا يُغْنِيه أقل، (وَمِنْهُم من يُغْنِيه أَرْبَعُونَ درهما، لَا يُغْنِيه أقل مِنْهَا، وَمِنْهُم من لَهُ كسب يدر عَلَيْهِ كل يَوْم مَا يغديه ويعشيه، وَلَا عِيَال لَهُ،

(4/91)


فَهُوَ مستغن بِهِ، فَإِن لم تقع لَهُ الْكِفَايَة إِلَّا بألوف أعطي قدر أقل الْكِفَايَة بِدَلِيل حَدِيث قبيصَة بن مُخَارق، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (188) :

يجوز للْمَرْأَة أَن تصرف زَكَاتهَا إِلَى زَوجهَا إِذا كَانَ مُحْتَاجا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يجوز ".
لنا حَدِيث زَيْنَب امْرَأَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم فِي سؤالها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَك أجر الصَّدَقَة، وَأجر الصِّلَة، مخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (189) :

إِذا دفع رب المَال الصَّدَقَة إِلَى من ظَاهره الْفقر، ثمَّ بَان أَنه كَانَ غَنِيا لَزِمته الْإِعَادَة، فِي أصح الْقَوْلَيْنِ. وَفِيه قَول آخر: " إِنَّه لَا إِعَادَة عَلَيْهِ ". وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.
روى عَن عبيد الله بن عدي بن الْخِيَار عَن رجلَيْنِ قَالَا: " أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يقسم نعم الصَّدَقَة، فَسَأَلْنَاهُ، فَصَعدَ فِينَا الْبَصَر،

(4/92)


وَصوب، وَقَالَ: مَا شئتما، وَلَا حق فِيهَا لَغَنِيّ، وَلَا لقوي مكتسب ".
والْحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ " لَا تصلح الصَّدَقَة لَغَنِيّ، وَلَا لذِي مرّة سوي ".
وَلَهُم حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذكر رجلا قَالَ: لأتصدقن، اللَّيْلَة بِصَدقَة فَخرج، فَوضع صدقته فِي يَد غَنِي " الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: " فَقيل لَهُ: أما صدقتك فقد قبلت، وَلَعَلَّ الْغَنِيّ يعْتَبر، فينفق مِمَّا أعطَاهُ الله عز وَجل "، مخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَحَدِيث معن بن يزِيد " كَانَ أبي خرج بِدَنَانِير يتَصَدَّق بهَا، فوضعها عِنْد رجل فِي الْمَسْجِد، فَجئْت فأخذتها، فَأَتَيْته، فَقَالَ: وَالله مَا إياك أردْت بهَا، فَخَاصَمته إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: لَك مَا نَوَيْت يَا يزِيد، وَلَك يَا معن مَا أخذت "، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
ومعن كَانَ مستغنيا بِأَبِيهِ، و (كَانَ) حِين أعطي من صَدَقَة أَبِيه بِجَهَالَة، ثمَّ بَان ذَلِك وَقعت موقعها.

(4/93)


وَمن قَالَ بِالْأولِ أجَاب عَن هَذَا، فَقَالَ: هَذِه حِكَايَة حَال، فَيحْتَمل أَن تكون وَارِدَة فِي صَدَقَة التَّطَوُّع دون الْفَرْض، وَقد روينَا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَيْسَ لولد، وَلَا لوالد حق فِي صَدَقَة مَفْرُوضَة، وروينا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَا دلّ على ذَلِك، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (190) :

يجوز للْإِمَام أَن يسم بنعم الْجِزْيَة وإبل الصَّدَقَة. ويحكى عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه كره ذَلِك.
لنا حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: " دخلت على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأخي، ليحنكه، فرأيته يسم شَاة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا عَنهُ، قَالَ: " رَأَيْت فِي يَد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الميسم، وَهُوَ يسم إبل الصَّدَقَة ".
وَعند مُسلم فِي الصَّحِيح عَن ناعم أبي عبد الله مولى أم سَلمَة، أَنه سمع ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول: " رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمارا مَوْسُوم الْوَجْه، فَأنْكر ذَلِك، قَالَ: فوَاللَّه لَا أُسَمِّهِ إِلَّا بأقصى شَيْء من

(4/94)


الْوَجْه، فَأمر بِحِمَار لَهُ، فكوى فِي جَاعِرَتَيْهِ فَهُوَ أول من كوى الْجَاعِرَتَيْنِ ".
وَلَيْسَ فِيهِ من الْقَائِل وَهُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَبَيَانه فِي رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الْملك عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَالله أعلم.

(4/95)


(صفحة فارغة)

(4/96)


كتاب النِّكَاح

ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة رحمهمَا الله تَعَالَى من كتاب النِّكَاح:
مَسْأَلَة (191) :

الْمَرْأَة لَا تلِي عقد النِّكَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " انها تلِي عقد النِّكَاح على نَفسهَا، وعَلى غَيرهَا ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث معقل بن يسَار رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ، قَالَ: " كَانَت لي أُخْت فَخطبت إِلَيّ، فَكنت أمنعها النَّاس فَأَتَانِي ابْن عَم لي فَخَطَبَهَا فأنكحتها إِيَّاه فاصطحبا مَا شَاءَ الله، ثمَّ طَلقهَا طَلَاقا يملك الرّجْعَة، ثمَّ تَركهَا حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا، فَلَمَّا خطبت إِلَيّ أَتَانِي فَخَطَبَهَا مَعَ الْخطاب، فَقلت: منعتها النَّاس وآثرتك، ثمَّ طَلقتهَا طَلَاقا تملك الرّجْعَة، ثمَّ تركتهَا حَتَّى

(4/97)


انْقَضتْ عدتهَا، فَلَمَّا خطبت إِلَيّ أتيتني مَعَ الْخطاب! لَا أزَوجك أبدا، فَأنْزل الله عز وَجل: {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} فكفرت عَن يَمِيني، وأنكحتها إِيَّاه ".
وروى إِسْرَائِيل بن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن أَبِيه قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
كَذَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي الإِمَام، ووكيع، وَيحيى بن آدم، وهَاشِم بن الْقَاسِم، وَعبيد الله بن مُوسَى، وَعبد الله بن رَجَاء عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس، وَهُوَ ثِقَة مُتَّفق على عَدَالَته، وَقد حكمُوا لحديثه هَذَا بِالصِّحَّةِ:
عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يَقُول: " كَانَ

(4/98)


إِسْرَائِيل يحفظ حَدِيث أبي إِسْحَاق، كَمَا يحفظ الْحَمد ".
وَعَن أبي مُوسَى: كَانَ عبد الرَّحْمَن يثبت حَدِيث إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، يَعْنِي فِي النِّكَاح بِغَيْر ولي.
وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم: سَمِعت عَليّ بن الْمَدِينِيّ يَقُول: حَدِيث إِسْرَائِيل صَحِيح فِي " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
هَذَا، وَقد تَابع إِسْرَائِيل على رِوَايَته مَوْصُولا عَن أبي إِسْحَاق يُونُس بن أبي إِسْحَاق، وَزُهَيْر، وَأَبُو عوَانَة، وَشريك، وَقيس بن الرّبيع، وَغَيرهم.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق الإِمَام: " سَأَلت مُحَمَّد بن يحيى عَن هَذَا الْبَاب، فَقَالَ: حَدِيث إِسْرَائِيل صَحِيح عِنْدِي، فَقلت (لَهُ: وَرَوَاهُ) شُعْبَة، وَالثَّوْري عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالَ: نعم، هَكَذَا روياه، وَلَكنهُمْ كَانُوا يحدثُونَ الحَدِيث فيرسلونه، فَإِذا قيل لَهُم: عَمَّن؟ فيسندونه ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَقد أسنداه فِي رِوَايَة النُّعْمَان بن عبد السَّلَام، وَغَيره عَنْهُمَا، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: " النُّعْمَان بن

(4/99)


عبد السَّلَام ثِقَة مَأْمُون ".
وَقد روى عَن يُونُس بن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ أَبُو عبد الله الْحَافِظ: لَا أعلم خلافًا بَين أَئِمَّة هَذَا الْعلم فِي عَدَالَة يُونُس بن أبي إِسْحَاق، وَأَن سَمَاعه من أبي بردة مَعَ أَبِيه صَحِيح، ثمَّ لم يخْتَلف عَن يُونُس فِي وصل هَذَا الْإِسْنَاد؛ فَفِيهِ الدَّلِيل الْوَاضِح أَن الْخلاف الَّذِي وَقع على أَبِيه فِيهِ من جِهَة أَصْحَابه، لَا من جِهَة أبي إِسْحَاق ". وَالله أعلم.
وَقد أوردهُ أَبُو دَاوُد فِي السّنَن من حَدِيث يُونُس، وَفِي بعض النّسخ: " قَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ يُونُس بن أبي كثير ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ متابع لأبي إِسْحَاق فِي الْوَصْل، وَلَا أرَاهُ مَحْفُوظًا، فقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر الإِمَام، وَأَبُو الْعَبَّاس السراج،

(4/100)


فَقَالَا: " عَن أَحْمد بن منيع عَن أبي عُبَيْدَة عَن يُونُس بن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَقد وصل هَذَا الحَدِيث عَن أبي بردة نَفسه أَبُو حُصَيْن عُثْمَان بن عَاصِم الثَّقَفِيّ.
وَرُوِيَ عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج أَن سُلَيْمَان بن مُوسَى أخبرهُ أَن ابْن شهَاب أخبرهُ أَن عُرْوَة بن الزبير أخبرهُ أَن عَائِشَة

(4/101)


رَضِي الله عَنْهَا أخْبرته، قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن مواليها فنكاحها بَاطِل، فنكاحها بَاطِل فنكاحها بَاطِل، وَلها الْمهْر بِمَا أَصَابَهَا، فَإِن اشتجروا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ ".
تَابعه أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد على ذكر سَماع ابْن جريج من سُلَيْمَان وَسَمَاع سُلَيْمَان من الزُّهْرِيّ.
وَرَوَاهُ حجاج بن مُحَمَّد، وَيحيى بن أَيُّوب عَن ابْن جريج، إِلَّا انهما قَالَا: " أَيّمَا / امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا "، وَكَذَا قَالَه عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، وَمُسلم (بن خَالِد) .

(4/102)


رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن جريج بِالْإِسْنَادِ عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا (فنكاحها بَاطِل) ثَلَاثًا ".
وَرَوَاهُ ابْن وهب عَن ابْن جريج، وَقَالَ فِيهِ: " لَا تنْكح امْرَأَة بِغَيْر أَمر وَليهَا فَإِن نكحت فنكاحها بَاطِل، ثَلَاث مَرَّات، فَإِن أَصَابَهَا فلهَا مهر مثلهَا بِمَا أصَاب مِنْهَا، فَإِن اشتجروا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ ".
رُوِيَ عَن أبي حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ: " سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل وَذكر عِنْده أَن ابْن عَلَيْهِ يذكر حَدِيث ابْن جريج: (لَا نِكَاح إِلَّا بولِي) ، قَالَ ابْن جريج: فَلَقِيت الزُّهْرِيّ فَسَأَلته عَنهُ فَلم يعرفهُ، وَأثْنى على سُلَيْمَان بن مُوسَى، فَقَالَ أَحْمد: إِن ابْن جريج لَهُ كتب مدونة، وَلَيْسَ هَذَا من كتبه "، يَعْنِي حِكَايَة ابْن علية عَن ابْن جريج.
وَرُوِيَ عَن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد: سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول فِي

(4/103)


حَدِيث: (لَا نِكَاح إِلَّا بولِي) الَّذِي يرويهِ ابْن جريج، فَقلت لَهُ: " إِن ابْن علية يَقُول: قَالَ ابْن جريج: فَسَأَلت عَنهُ الزُّهْرِيّ فَقَالَ: لست احفظه "، قَالَ يحيى بن معِين: " لَيْسَ يَقُول هَذَا إِلَّا ابْن علية، وَإِنَّمَا عرض ابْن علية كتب ابْن جريج على عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد فأصلحها لَهُ "، فَقلت ليحيى: " مَا كنت أَظن أَن (عبد الْمجِيد) هَكَذَا! " فَقَالَ: " كَانَ أعلم النَّاس بِحَدِيث ابْن جريج، وَلَكِن لم يبْذل نَفسه للْحَدِيث ".
سُلَيْمَان بن مُوسَى ثِقَة، وَقد احْتج بِهِ مُسلم فِي الصَّحِيح، وَقد رَوَاهُ - كَمَا تقدم - فَوَجَبَ قبُوله، كَيفَ وَقد تَابع على ذَلِك جَعْفَر بن ربيعَة عَن الزُّهْرِيّ.
وَرَوَاهُ الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن الزُّهْرِيّ.
وَله شَاهد غَرِيب تفرد بِهِ بكر بن الشرود الصَّنْعَانِيّ عَن سُفْيَان

(4/104)


الثَّوْريّ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَادِي عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
وَرُوِيَ عَن الْحسن بن سُفْيَان: حَدثنَا مُسلم الحرمي حَدثنَا مخلد بن حُسَيْن عَن هِشَام بن حسان عَن ابْن سِيرِين عَن

(4/105)


أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزوج الْمَرْأَة المراة، وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا، إِن البغية الَّتِي تزوج نَفسهَا ". قَالَ الْحسن: " وَسَأَلت يحيى بن معِين عَن رِوَايَة مخلد عَن هِشَام، فَقَالَ: ثِقَة. فَذكرت لَهُ هَذَا الحَدِيث، قَالَ: نعم، قد كَانَ عندنَا شيخ يرفعهُ عَن مخلد، تَابعه عبد السَّلَام بن حَرْب، وَمُحَمّد بن مَرْوَان الْعقيلِيّ عَن هِشَام مَرْفُوعا، وَكَذَلِكَ رَفعه الْمُغيرَة بن مُوسَى، وَغَيره.
وَرُوِيَ عَن أبي عَامر الخزاز عَن ابْن سِيرِين مَرْفُوعا.

(4/106)


روى الشَّافِعِي عَن مُسلم، وَسَعِيد عَن ابْن جريج عَن عِكْرِمَة بن خَالِد قَالَ: " سَمِعت فِي الطَّرِيق رفْقَة فيهم امْرَأَة ثيب، فَوَلَّتْ رجلا مِنْهُم أمرهَا، فَزَوجهَا رجلا، فجلد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ الناكح، والمنكح، ورد نِكَاحهَا ".
وَرَوَاهُ الزَّعْفَرَانِي عَن الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم عَن ابْن جريج عَن عبد الحميد بن جُبَير عَن عِكْرِمَة، وَهُوَ أصح.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ روح بن عبَادَة عَن ابْن جريج.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبد الرَّحْمَن بن معبد بن عُمَيْر " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ رد نِكَاح امْرَأَة نكحت بِغَيْر ولي ".
وَعَن مَالك رَحمَه الله أَنه بلغه أَن ابْن الْمسيب كَانَ يَقُول: " قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: " لَا تنْكح الْمَرْأَة إِلَّا بِإِذن وَليهَا، أَو ذِي الرَّأْي من أَهلهَا، أَو السُّلْطَان ".

(4/107)


ورويناه مَوْصُولا عَن ابْن الْمسيب فِي كتاب السّنَن.
وَرُوِيَ عَن أبي رَافع أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا يجوز نِكَاح إِلَّا بولِي، أَو إِذْنه، وَلَا يجوز (أَن يشْهد إِلَّا كَمَا) أَمركُم الله ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد صَحِيح - وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد - عَن سُوَيْد بن مقرن عَن عَليّ، رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل، لَا نِكَاح إِلَّا بِإِذن ولي ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ قَالَ: " قَالَ عَليّ، وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا: لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، مَا كَانَ أحد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشد فِي النِّكَاح بِغَيْر ولي من عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يضْرب فِيهِ ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُسلم (عَن ابْن خَيْثَم) عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد، وشاهدي عدل ".
وَرُوِيَ عَن شَيبَان عَن قَتَادَة عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: (قد علمنَا مَا

(4/108)


فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم} . قَالَ: " الَّذِي فرض عَلَيْهِم أَن لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدين وَمهر "، قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " لم يحدث بِهِ عَن شَيبَان غير سُورَة بن حَكِيم، وَسورَة صَدُوق ".
وَرُوِيَ عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ (قَالَ) : " كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْمَرْأَة الَّتِي تزوج نَفسهَا هِيَ الزَّانِيَة ".
وَعَن الْقَاسِم عَن أَبِيه كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تخْطب إِلَيْهَا الْمَرْأَة من أَهلهَا، فَإِذا بقيت عقدَة النِّكَاح قَالَت لبَعض أَهلهَا: " زوج، فَإِن الْمَرْأَة لَا تلِي عقد النِّكَاح ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن النِّكَاح كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة على أَرْبَعَة أنحاء " ... الحَدِيث بِطُولِهِ.
وروى مَالك بن سُلَيْمَان الْهَرَوِيّ حَدِيثا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي النِّكَاح رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَيْمُونَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَمَالك بن سُلَيْمَان مَتْرُوك.

(4/109)


وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " البغايا اللَّاتِي يزوجن أَنْفسهنَّ، يَعْنِي بِغَيْر ولي، وَلَا يجوز نِكَاح إِلَّا بولِي، وشاهدين، وَمهر مِمَّا قل أَو كثر ".
وَعَن أبي الزِّنَاد قَالَ: " كَانَ من أدْركْت من فقهائنا الَّذين ينتهى إِلَى قَوْلهم - مِنْهُم سعيد بن الْمسيب، وَعُرْوَة بن الزبير، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، وخارجة بن زيد، وَعبيد الله بن عبد الله، وَسليمَان بن يسَار، فِي مشيخة جلة سواهُم من نظرائهم، أهل فقه وَفضل - كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا تعقد امْرَأَة عقد نِكَاح فِي نَفسهَا، وَلَا فِي غَيرهَا ".
وَرُوِيَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: أخبرنَا مُسلم، وَعبد الْمجِيد عَن ابْن جريج قَالَ: " قَالَ عَمْرو بن دِينَار: نكحت امْرَأَة من بني بكر بن

(4/110)


كنَانَة، فَكتب عَلْقَمَة إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله إِذْ هُوَ وَال بِالْمَدِينَةِ: إِنِّي وَليهَا، وَإِنَّهَا نكحت بِغَيْر أَمْرِي، فَرده عمر، وَقد أَصَابَهَا ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا، وإذنها فِي صماتها ".
إِنَّمَا جعلهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَق بِنَفسِهَا فِي الْإِذْن، حَتَّى لَا تكره على النِّكَاح، وَهِي مُخَالفَة للبكر؛ بِدَلِيل مَا عِنْده فِي الصَّحِيح أَيْضا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لتستأمر النِّسَاء فِي أبضعهن "، قَالَت: " قلت: يَا رَسُول الله إنَّهُنَّ يستحيين، قَالَ: الأيم أَحَق بِنَفسِهَا، وَالْبكْر تستأمر، وسكاتها إِقْرَارهَا ".
وَرُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ (أجَاز نِكَاح امْرَأَة زوجتها أمهَا، وأبوها غَائِب. وَقد روينَا عَنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه) قَالَ " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ". فَإِن صَحَّ هَذَا فَكَأَن السُّلْطَان زَوجهَا بِمَسْأَلَة أمهَا، وأبوها

(4/111)


غَائِب، وَذَلِكَ جَائِز عندنَا.
وَرُوِيَ ابْن لَهِيعَة عَن عبد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " إِذا كَانَ الْوَلِيّ قصارا فَوَلَّتْ رجلا فَأَنْكحهَا فنكاحها جَائِز ". وَابْن لَهِيعَة لَا يحْتَج بِهِ.
وَرُوِيَ مَالك عَن عبد الرَّحْمَن (بن الْقَاسِم) عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا زوجت حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن من الْمُنْذر بن الزبير، وَعبد الرَّحْمَن غَائِب بِالشَّام، فَلَمَّا قدم عبد الرَّحْمَن قَالَ: " (مثلي يصنع هَذَا بِهِ) ، ويفتات عَلَيْهِ! " فكلمت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْمُنْذر بن الزبير، فَقَالَ الْمُنْذر: " فَإِن ذَلِك بيد عبد الرَّحْمَن "، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: " مَا كنت لأرد أمرا

(4/112)


قضيتيه "، فقرت حَفْصَة عِنْد الْمُنْذر، وَلم يكن ذَلِك طَلَاقا ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (192) :

للْأَب ان يُزَوّج ابْنَته الْبَالِغ دون رِضَاهَا إِذا كَانَت بكرا، كَمَا (لَهُ ذَلِك إِذا) كَانَت صَغِيرَة، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِك إِذا كَانَت ثَيِّبًا، صَغِيرَة كَانَت أَو بَالغا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك " بَالِغَة، وَله ذَلِك " إِذا كَانَت بكرا إِذا كَانَت ثَيِّبًا صَغِيرَة ".
فعندنا الِاعْتِبَار فِيهِ بالبكارة والتثييب، وَعِنْده الِاعْتِبَار بالصغر وَالْبُلُوغ.
فِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا، وإذنها صماتها ".
وَرَوَاهُ بَعضهم فَقَالَ: " وَالْبكْر تستأذن أَبوهَا "، قَالَ أَبُو دَاوُد: " (أَبوهَا: لَيْسَ بِمَحْفُوظ ".

(4/113)


وروى أَبُو دَاوُد) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ للْوَلِيّ مَعَ الثّيّب أَمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إِقْرَارهَا. رُوَاته ثِقَات.
وَفِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل على أَن المُرَاد بالبكر الَّتِي تستأذن الْيَتِيمَة يُزَوّجهَا غير الْأَب وَالْجد، بعد بُلُوغهَا بِإِذْنِهَا، ويقنع مِنْهَا بِالسُّكُوتِ حِينَئِذٍ فِي الْإِذْن فِي ظَاهر الْمَذْهَب.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تنْكح الثّيّب حَتَّى تستأمر، وَلَا الْبكر حَتَّى تستأذن ". قيل: يَا رَسُول الله، كَيفَ إِذْنهَا؟ قَالَ: " إِذا سكتت فَهُوَ رِضَاهَا ".
وَالْمرَاد فِيهِ بالبكر الْيَتِيمَة بِدَلِيل رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تستأمر الْيَتِيمَة فِي نَفسهَا، فَإِن سكتت فَهُوَ إِذْنهَا، وَإِن أَبَت فَلَا جَوَاز عَلَيْهَا ".
وَرُوِيَ عَن أبي بردة عَن أَبِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَتِيمَة بِنَحْوِ مَعْنَاهُ.

(4/114)


وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن خنساء بنت خدام رَضِي الله عَنْهَا " أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي بنت، فَكرِهت ذَلِك، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرد نِكَاحهَا ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تستأمر النِّسَاء فِي أبضاعهن "، فَقيل: " إِن الْبكر تستحيي " قَالَ: " إِذْنهَا سكُوتهَا "، أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيح من حَدِيث ابْن جريج، وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَنهُ، وَقَالَ فِيهِ: " تستأمر الْيَتِيمَة ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " تزَوجنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا ابْنة سبع، وَبنى بِي وَأَنا ابْنة تسع ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَلَو كَانَت إِذا بلغت أَحَق بِنَفسِهَا أشبه أَن لَا يجوز ذَلِك عَلَيْهَا قبل بُلُوغهَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَوْلُود يقتل أَبوهُ يحبس قَاتله حَتَّى يبلغ، فيقيد، أَو يعْفُو ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن جرير (عَن أَيُّوب) عَن عِكْرِمَة عَن ابْن

(4/115)


عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن جَارِيَة بكرا أَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكرت لَهُ أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي كارهة، فَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
يُقَال: إِن هَذَا الْخَبَر فِي الأَصْل مُرْسل، وكل من ذكر فِي الْإِسْنَاد ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فقد وهم، قَالُوا: وَهَذَا مِمَّا أَخطَأ فِيهِ جرير على أَيُّوب، وَالْمَحْفُوظ: عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة مُرْسلا.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب مُرْسلا، وَقَالَ: " هَذَا رَوَاهُ النَّاس مُرْسلا مَعْرُوفا ".
وَرُوِيَ من وَجه آخر عبد الْملك الذمارِي: حَدثنَا سُفْيَان عَن هِشَام عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد نِكَاح بكر وثيب أنكحهما أَبوهُمَا وهما كارهتان ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " هَذَا وهم، وَالصَّوَاب: عَن يحيى عَن المُهَاجر عَن عِكْرِمَة، مُرْسل: وهم فِيهِ الذمارِي على الثَّوْريّ، وَلَيْسَ بِقَوي (مُتَّصِل) ".

(4/116)


وَهُوَ فِي جَامع الثَّوْريّ كَمَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، مُرْسلا. (وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَامَّة أَصْحَابه عَنهُ) ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم (عَن هِشَام) مُرْسلا، (قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظ) .
وَرُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ " أَن رجلا زوج ابْنَته - وَهِي بكر - من غير أمرهَا، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَفرق بَينهمَا ".
يُقَال: إِن هَذَا وهم، وَالصَّوَاب: عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مرّة عَن عَطاء عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا، كَذَا رَوَاهُ عبد الله بن الْمُبَارك الإِمَام، وَعِيسَى بن يُونُس، وَغَيرهمَا عَن الْأَوْزَاعِيّ.
قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " لم يسمعهُ الْأَوْزَاعِيّ من عَطاء، والْحَدِيث فِي الأَصْل مُرْسل لعطاء، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الثِّقَات عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مرّة عَن عَطاء عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " الصَّحِيح مُرْسل، وَقَول شُعَيْب وهم؛ حَدثنَا دعْلج حَدثنَا الْخضر بن دَاوُد حَدثنَا الْأَثْرَم قَالَ: " ذكرت لأبي عبد الله يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل، رَحمَه الله حَدِيث شُعَيْب بن إِسْحَاق عَن

(4/117)


الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء (عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: حدّثنَاهُ أَبُو الْمُغيرَة عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء) مُرْسلا، مثل هَذَا عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ كالمنكر أَن يكون ".
وروى عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ حَدِيثا مَرْفُوعا فِي رد نِكَاح امْرَأتَيْنِ بكر وثيب زَوجهمَا أَبوهُمَا بكره مِنْهُمَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن رجلا زوج ابْنَته بكرا وكرهت ذَلِك، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرد نِكَاحهَا ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لَا يثبت هَذَا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع، (وَالصَّوَاب حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن عمر بن حُسَيْن "، يَعْنِي عَن نَافِع) حَدِيث ابْنة عُثْمَان بن مَظْعُون، وَهُوَ مخرج بعد هَذَا، وَارِد

(4/118)


فِي الْوَلِيّ غير الْأَب وَالْجد.
وروى سعيد بن إِسْرَائِيل الْقطعِي بِإِسْنَاد لَهُ عَن خنساء بنت خذام رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " أنكحني أبي وَأَنا كارهة، وَأَنا بكر، فشكوت ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَا تنكحها وَهِي كارهة ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " عِنْدِي أَن هَذَا وهم من الْقطعِي، أَو غَيره، وَالصَّوَاب: عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عبد الرَّحْمَن، وَمجمع ابْني يزِيد بن جَارِيَة عَن خنساء بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ "، ثمَّ ذكر حَدِيث مَالك عَنهُ، الْمخْرج فِي صَحِيح البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: " هَذَا هُوَ الصَّوَاب ".
وَالله أعلم.

(4/119)


مَسْأَلَة (193)

- لم يذكرهَا الإِمَام - النِّكَاح لَا يقف على الْإِجَازَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه يقف على الْإِجَازَة ".
وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى بِحَدِيث خنساء رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَ: " وَفِي تَركه أَن يَقُول لخنساء: " إِلَّا أَن تشائي أَن تجيزي مَا فعل أَبوك " دلَالَة أَنَّهَا لَو أجازته مَا جَازَ " وَقد سبق ذكرنَا لَهُ.
وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا أَيْضا بِحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تنْكح امْرَأَة بِغَيْر أَمر وَليهَا، فَإِن نكحت فنكاحها بَاطِل "، وَقد سبق ذكرنَا لَهُ أَيْضا.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا نكح العَبْد بِغَيْر إِذن مَوْلَاهُ فنكاحه بَاطِل ".
وَرُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذا تزوج العَبْد بِغَيْر إِذن سَيّده كَانَ عاهرا ".

(4/120)


وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُرْوَة عَن أم حَبِيبَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تَحت عبيد الله بن جحش، فَمَاتَ بِالْحَبَشَةِ، فَزَوجهَا النَّجَاشِيّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَمْهَرهَا عَنهُ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، وَبعث بهَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ شُرَحْبِيل بن حَسَنَة ... ".
قَالُوا: " كَانَ مَوْقُوفا على قبُول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قُلْنَا: بل كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث عَمْرو بن أُميَّة وَكيلا لقبُول العقد، رُوِيَ ذَلِك عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن

(4/121)


الْحُسَيْن.
وَأما مَا رُوِيَ عَن ابْن بُرَيْدَة: " جَاءَت فتاة إِلَى عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَت: إِن أبي زَوجنِي ابْن أَخِيه، ليرْفَع خسيسته، وَإِنِّي كرهت ذَلِك، فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: اقعدي حَتَّى يَأْتِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاذكري ذَلِك لَهُ، فجَاء نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَأرْسل إِلَى أَبِيهَا، فَلَمَّا جَاءَ أَبوهَا جعل أمرهَا إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَن الْأَمر قد جعل إِلَيْهَا قَالَت: إِنِّي قد أجزت مَا صنع وَالِدي، وَإِنَّمَا أردْت أَن أعلم هَل للنِّسَاء من الْأَمر شَيْء أم لَا "، فَهُوَ مُرْسل؛ ابْن بُرَيْدَة لم يسمع من عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ.

(4/122)


ثمَّ نقُول: إِن ثَبت هَذَا كَانَ العقد منعقدا، ولكنت كَانَ لَهَا ولَايَة الْفَسْخ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (194) :

وَلَا يَصح النِّكَاح بِشَهَادَة فاسقين، وَلَا شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يَصح "، وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة.
قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذا بلغن أَجلهنَّ فأمسكوهن بِمَعْرُوف أَو فارقوهن بِمَعْرُوف واشهدوا ذَوي عدل مِنْكُم وَأقِيمُوا الشَّهَادَة لله} .
رُوِيَ عَن ابْن جريج عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا وشاهدي عدل فنكاحها بَاطِل " ... الحَدِيث.
وَفِي رِوَايَة قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " تَابعه - يَعْنِي سُلَيْمَان بن عمر - عبد الرَّحْمَن بن يُونُس

(4/123)


عَن عِيسَى بن يُونُس ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سعيد بن خَالِد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان، وَيزِيد بن سِنَان، ونوح بن دراج، وَعبد الله بن حَكِيم، عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالُوا فِيهِ: " وشاهدي عدل ".
(وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل، فَمن تزوج بِغَيْر إِذن ولي فقد بَطل نِكَاحه "، وَالصَّحِيح: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَوْقُوفا، وَقد أخرجناه فِي مَوْضِعه فِي الْمَسْأَلَة بعْدهَا.

(4/124)


وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل ".
وَرُوِيَ عَن الْحسن أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يحل نِكَاح إِلَّا بولِي، وصداق، وشاهدي عدل ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " هَذَا وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا دون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِن أَكثر أهل الْعلم يَقُول بِهِ، ونقول: الْفرق بَين النِّكَاح والسفاح: الشُّهُود. وَهُوَ ثَابت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيره من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرَوَاهُ عبد الله بن مُحَرر عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن عمرَان بن الْحصين رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل، وَابْن مُحَرر مَتْرُوك.

(4/125)


وَرُوِيَ عَن الْمُغيرَة بن مُوسَى عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وخاطب وشاهدي عدل ".
قَالَ ابْن عدي: " الْمُغيرَة بن مُوسَى فِي نَفسه ثِقَة ".
وَرُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب، وَالْحسن أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل " إِسْنَاده صَحِيح، وَابْن الْمسيب رَحمَه الله راوية عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ ابْن عمر يسْأَله عَن شَأْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن منْدَل عَن أبي النَّضر عَن الْحسن قَالَ:

(4/126)


قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشهود ".
قَالُوا: " رجل وَامْرَأَتَانِ شُهُود "، وَهَذَا لَا يَصح، ومندل بن عَليّ ضَعِيف.
وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن عَطاء عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أجَاز رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاح "، وَهَذَا لَا يثبت، وَالْحجاج بن أَرْطَأَة لَا يحْتَج بِهِ، وَهُوَ مُرْسل؛ عَطاء لم يسمع من عمر رَضِي الله عَنهُ شَيْئا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (195) :

الْفَاسِق الْمُعْلن لَا يكون وليا فِي التَّزْوِيج فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يكون وليا، وَيصِح تَزْوِيجه ".
روى الطَّبَرَانِيّ عَن أَحْمد بن الْقَاسِم عَن القواريري عَن

(4/127)


الْحَرْبِيّ، وَعَن بشر، وَابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن ابْن خثيم عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بِإِذن ولي مرشد، أَو سُلْطَان ".
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَن ابْن حَنْبَل وَمُحَمّد بن عَبدُوس السراج عَن القواريري، قَالَ الطَّبَرَانِيّ: " لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان مَرْفُوعا إِلَّا بشر، وَابْن مهْدي، وَالْحَرْبِيّ، تفرد بِهِ القواريري ": (عبيد الله) بن عمر القواريري ثِقَة، مُتَّفق على عَدَالَته، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن معَاذ بن الْمثنى عَن القواريري عَن عبد الله بن دَاوُد عَن سُفْيَان.
وَرَوَاهُ عدي بن الْفضل عَن ابْن خثيم عَن سعيد بن جُبَير عَن

(4/128)


ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وشاهدي عدل، فَإِن أنْكحهَا ولي مسخوط عَلَيْهِ فنكاحها بَاطِل ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُسلم بن خَالِد، وَسَعِيد بن سَالم عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم عَن سعيد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا نِكَاح إِلَّا بشاهدي عدل، وَولي مرشد "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (196) :

وَلَا يُزَوّج الْبكر الصَّغِيرَة إِلَّا أَبوهَا، أَو جدها، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يُزَوّجهَا الْأَخ، وَابْن الْأَخ، وَالْعم وَابْن الْعم، وَمن هُوَ ولي تَزْوِيجهَا بعد بُلُوغهَا "، وَكَذَا عِنْده الثّيّب الصَّغِيرَة، وَعِنْدنَا

(4/129)


لَا يُزَوّجهَا وَاحِد مِنْهُم قبل بُلُوغهَا إِلَّا الْأَب، وَلَا غَيره.
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا ".
وَقَوله: " تستأمر الْيَتِيمَة فِي نَفسهَا ".
وَقَوله: " لَا تنْكح الثّيّب حَتَّى تستأمر، وَلَا الْبكر حَتَّى تستأذن ". وكل ذَلِك قد ذَكرْنَاهُ، فأغنى عَن إِعَادَته.
وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن إِسْحَاق، حَدثنِي عمر بن حُسَيْن مولى آل حَاطِب عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: " توفّي عُثْمَان بن مَظْعُون، وَترك ابْنة لَهُ من خَوْلَة بنت حَكِيم بن أُميَّة، وَأوصى إِلَى أَخِيه قدامَة بن مَظْعُون، وهما خالاي، فَخطبت إِلَى قدامَة ابْنة عُثْمَان، فزوجنيها، فَدخل الْمُغيرَة إِلَى أمهَا فأرغبها فِي المَال، فحطت إِلَيْهِ، وحطت الْجَارِيَة إِلَى هوى أمهَا حَتَّى ارْتَفع أَمرهم إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ قدامَة: " يَا رَسُول الله، ابْنة أخي، وَأوصى

(4/130)


بهَا إِلَيّ، فزوجتها ابْن عمر، وَلم أقصر بالصلاح والكفاءة، وَلكنهَا امْرَأَة، وَأَنَّهَا حطت إِلَى هوى أمهَا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هِيَ يتيمة، وَلَا تنْكح إِلَّا بأذنها، فانتزعت مني وَالله بَعْدَمَا ملكتها، فزوجوها الْمُغيرَة ". تَابعه ابْن أبي ذِئْب عَن عمر بن حُسَيْن مُخْتَصرا، ورويناه بِإِسْنَادِهِ فِي السّنَن الْكُبْرَى.
وَلنَا أَيْضا حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث أبي بردة عَن أَبِيه رَضِي الله عَنْهُم قَالَا: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تستأمر الْيَتِيمَة فِي نَفسهَا " الحَدِيث، وَقد رويناهما بإسنادهما فِي مَسْأَلَة " إِجْبَار الْبكر " قبل هَذَا، فَشرط إِذْنهَا، وَأمر أَن تستأمر، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى قبل بُلُوغهَا، فَدلَّ على أَنه يجب لَهُ انْتِظَار بُلُوغهَا بإنكاحها.
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " إِذا بلغ النِّسَاء نَص الْحَقَائِق فالعصبة أولى "، فَجعل رَضِي الله عَنهُ الْعصبَة أولى بِالتَّزْوِيجِ عِنْد بُلُوغهَا، فَدلَّ على أَنه لَيْسَ لَهُم ذَلِك قبله.
قَالَ أَبُو عبيد: " بَعضهم يَقُول: " الحقاق، وَهُوَ من المحاقة - يَعْنِي الْمُخَاصمَة - أَن تحاق الْأُم الْعصبَة فِيهِنَّ، فَهِيَ نَص الحقاق، إِنَّمَا هُوَ الْإِدْرَاك، لِأَنَّهُ مُنْتَهى الصغر، فَإِذا بلغ النِّسَاء ذَلِك فالعصبة أولى بِالْمَرْأَةِ من أمهَا إِذا كَانُوا محرما، وبتزويجها أَيْضا إِن أَرَادوا ". قَالَ: " وَهَذَا يبين لَك أَن الْعصبَة، والأولياء غير الْآبَاء لَيْسَ لَهُم أَن يزوجوا

(4/131)


الْيَتِيمَة حَتَّى تدْرك، وَلَو كَانَ لَهُم ذَلِك لم ينتظروا بهَا نَص الحقاق ". قَالَ: " وَمن رَوَاهُ نَص الْحَقَائِق فَإِنَّمَا جمع حَقِيقَة ".
استدلوا بِحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي تَفْسِير قَول الله عز وَجل: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} الْمخْرج فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عُرْوَة عَنْهَا.
(قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " الْقَصْد من هَذِه الْآيَة، وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا) النَّهْي عَن نِكَاحهنَّ دون إِكْمَال صداقهن، ثمَّ مَتى ينكحهن وَمن ينكحهن فَهُوَ مُسْتَفَاد من مَوضِع آخر، وَلَيْسَ فِي الْآيَة نَص على تزويجهن قبل الْبلُوغ.
استدلوا أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن عمَارَة بنت حَمْزَة بن عبد الْمطلب كَانَت بِمَكَّة، فَلَمَّا قدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَعْنِي فِي عمْرَة الْقَضِيَّة خرج بهَا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تزَوجهَا "، فَقَالَ: " ابْنة أخي من الرضَاعَة "، فَزَوجهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلمَة بن أبي سَلمَة، فَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " هَل

(4/132)


جزيت سَلمَة ".
قُلْنَا: هَذَا إِسْنَاد فِيهِ ضعف، ثمَّ إِن صَحَّ فَإِنَّمَا زَوجهَا بِمَالِه من عُمُوم الْولَايَة، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم، يُوضح صِحَة مَا ذكرنَا أَن الْعَبَّاس رَضِي اله عَنهُ وَهُوَ أقرب إِلَيْهَا نسبا من حَيْثُ الْقَرَابَة والتعصيب، وَلم يوله تَزْوِيجهَا، فَدلَّ أَنه إِن فعل إِنَّمَا فعل لما ذكرنَا؛ على أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث، إِنَّهَا كَانَت صَغِيرَة، فتثبتوا ذَلِك حَتَّى يكون لكم فِيهِ حجَّة "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (197) :

وَإِذا كَانَ ولي الْمَرْأَة ابْن عَمها، فَأَرَادَ أَن يتَزَوَّج بهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَن يتَوَلَّى طرفِي العقد بِنَفسِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يجوز ".
لنا حَدِيث الْمُغيرَة بن مُوسَى عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وخاطب، وشاهدي عدل ".
رَوَاهُ بَعضهم من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا أَيْضا: " لَا يحل نِكَاح إِلَّا بأَرْبعَة: ولي، ومنكح، وخاطب، وشاهدين " بِإِسْنَاد ضَعِيف.

(4/133)


وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من قَوْله: " لَا نِكَاح إِلَّا بأَرْبعَة، ولي، وشاهدين، وخاطب ".
وَرَوَاهُ مُعَاوِيَة بن هِشَام عَن سُفْيَان عَن أبي يحيى عَن رجل يُقَال لَهُ الحكم بن هِشَام عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " ادنى مَا يكون فِي النِّكَاح أَرْبَعَة: الَّذِي تزوج، وَالَّذِي يُزَوّج، وشاهدان ". وَله شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن قَتَادَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَإِن لم يُدْرِكهُ قَتَادَة، روينَاهُ فِي السّنَن الْكُبْرَى.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر أَن الْمُغيرَة أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة هُوَ وَليهَا، فَجعل أمرهَا إِلَى رجل الْمُغيرَة أولى بهَا مِنْهُ، فَزَوجهُ. قُلْنَا: " هَذَا مُرْسل، وَإِن صَحَّ فَفِيهِ كالدلالة على أَن الْوَلِيّ لَا يتَوَلَّى طرفِي العقد بِنَفسِهِ "، وَالله أعلم.

(4/134)


مَسْأَلَة (198) :

وَلَا يُزَوّج الابْن أمه بِحَق الْبُنُوَّة، وَلَا يكون وليا لَهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يُزَوّجهَا ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على الْمعَانِي.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن ابْن عمر ابْن أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أَصَابَته مُصِيبَة فَلْيقل: {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} ، اللَّهُمَّ عنْدك أحتسب مصيبتي، فأجرني فِيهَا، وأبدلني بهَا خيرا مِنْهَا، قلت فِي نَفسِي: وَمن خير من أبي سَلمَة! ثمَّ قلتهَا، فَلَمَّا انْقَضتْ عدتهَا بعث إِلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يخطبها عَلَيْهِ، فَقَالَت لابنها: يَا عمر، قُم، فزوج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَزَوجهُ ".
قَالَ أَصْحَابنَا: " نِكَاح النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجوز خلْوَة عَن الْوَلِيّ، وَعمر بن أبي سَلمَة، كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت صَغِيرا، وَلَا يكون للصغار ولَايَة، أَو كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا يَجْعَل ولايتها إِلَيْهِ، فَزَوجهَا مِنْهُ هَذَا، وَعمر بن أبي سَلمَة كَانَ ابْن عَمها من الْبعد، وَكَانَ عصبَة لَهَا؛

(4/135)


وَذَلِكَ لِأَن أم سَلمَة هِنْد بنت أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر ابْن مَخْزُوم ". (وَسَلَمَة بن عبد الله بن عبد الْأسد بن هِلَال بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم) .
وَذكر أَبُو نصر الكلاباذي الْحَافِظ رَحمَه الله تَعَالَى أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزوج أم سَلمَة بعد وقْعَة بدر، وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توفّي، وَعمر بن أبي سَلمَة ابْن تسع سِنِين، وَمَات فِي خلَافَة عبد الْملك بن مَرْوَان، رَضِي الله عَنهُ ".
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا طَلْحَة خطب أم سليم، فَقَالَت: " يَا أَبَا طَلْحَة أَلَسْت تعلم أَن الرجل الَّذِي تعبد خَشَبَة تنْبت من الأَرْض ينجرها حبشِي بني فلَان؟ إِن أَنْت أسلمت لم أرد مِنْك من الصَدَاق غَيره، فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، قَالَت: يَا أنس، زوج أَبَا طَلْحَة "، وَأنس ابْنهَا وعصبتها، فَإِنَّهُ أنس بن مَالك بن النَّضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حرَام ". وَأم سليم هِيَ ابْنة ملْحَان بن خَالِد بن زيد بن حرَام، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (199) :

وَلَا يُزَوّج الْأَب ابْنَته الصَّغِيرَة من عبد، وَلَا مَجْنُون، وَلَا من بِهِ أحد الْعُيُوب الْأَرْبَعَة، وَلَا غير كُفْء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله:

(4/136)


" لَهُ أَن يُزَوّجهَا من هَؤُلَاءِ كلهم ".
لنا مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تخَيرُوا لنُطَفِكُمْ، وَأنْكحُوا الْأَكفاء، وَأنْكحُوا إِلَيْهِم "، وَالله اعْلَم.

مَسْأَلَة (200) :

وَلَا يعْقد النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة، وَالْبيع، وَمَا أشبههما من أَلْفَاظ عُقُود التَّمْلِيك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " ينْعَقد ".
لنا من الْكتاب الْعَزِيز قَول الله عز وَجل: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن اراد النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} .
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فأبان - جلّ ثَنَاؤُهُ - أَن الْهِبَة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دون الْمُؤمنِينَ، على أَن لَا يجوز نِكَاح إِلَّا باسم النِّكَاح، أَو التَّزْوِيج ".
وَفِي صَحِيح مُسلم حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة حجَّة الْوَدَاع عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَاتَّقُوا الله فِي النِّسَاء، فَإِنَّكُم

(4/137)


أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله ". وَفِيه الدَّلِيل على أَن الْفرج لَا يستباح إِلَّا بِكَلِمَة الله: النِّكَاح، أَو التَّزْوِيج، وهما اللَّذَان قد ورد بهما الْقُرْآن.
استدلوا بِحَدِيث سهل بن سعد، رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة الَّتِي جَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَوهبت نَفسهَا لَهُ، الْمُتَّفق على صِحَّته.
وَفِيه فِي رِوَايَة قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن، وَعبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ للرجل الَّذِي زوجه بهَا: " اذْهَبْ، فقد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن "، (أَخْرجَاهُ عَنهُ، وَأَخْرَجَا الحَدِيث من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن أبي حَازِم، وَفِيه قَالَ: " اذْهَبْ فقد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن ".
وَرَوَاهُ فُضَيْل بن سُلَيْمَان عَن أبي حَازِم، فَقَالَ: " اذْهَبْ فقد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن ".

(4/138)


وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي عَن أبي حَازِم، قَالَ: " فقد زَوجتك على مَا عنْدك من الْقُرْآن ".
وَرَوَاهُ زَائِدَة عَن أبي حَاتِم، قَالَ: " انْطلق، فقد زوجتكها بِمَا تعلمهَا من الْقُرْآن ".
وَلم ينْقل فِي هَذَا الحَدِيث ثِقَة عَن أبي حَازِم عَن سهل رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قد ملكتكها " إِلَّا ويروي عَن ذَلِك الثِّقَة من وَجه آخر " قد ملكتها " بكاف وَاحِد، وَالله أعلم.
وبالإجماع لَا ينْعَقد النِّكَاح بقوله: " ملكتها "، فَدلَّ أَن قَوْله: " ملكتها " أَو " ملكتكها " إِن كَانَ مَحْفُوظًا صدر بعد لفظ التَّزْوِيج خَبرا عَن ملكه بضعهَا بِالتَّزْوِيجِ، على أَن رِوَايَة الْجُمْهُور التَّزْوِيج أَو الْإِنْكَاح، وَالْجَمَاعَة أولى بِالْحِفْظِ من الْوَاحِد، وَالله تَعَالَى أعلم.
مَسْأَلَة (201) :

وَالزِّنَا لَا يحرم الْحَلَال، وَلَا يُوقع تَحْرِيم الْمُصَاهَرَة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه يُوقع تَحْرِيم الْمُصَاهَرَة ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على كتاب الله تَعَالَى، والمعاني، وَقد صَحَّ ذَلِك عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَا يَصح عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، خلاف قَوْله، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنهُ، وَعَن

(4/139)


ابْن الْمسيب، وَيحيى بن يعمر، وَعُرْوَة بن الزبير، وَمُجاهد، وَالْحسن، وَالزهْرِيّ. وَرُوِيَ ذَلِك عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وَجه لَيْسَ بساقط، عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يحرم الْحَرَام الْحَلَال ". وَله شَاهد من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا بِمثلِهِ.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا ينظر الله عز وَجل إِلَى رجل إِلَى رجل نظر إِلَى فرج امْرَأَة وابنتها "، قَالَ عَليّ: مَوْقُوف، فِيهِ لَيْث وَحَمَّاد ضعيفان، ثمَّ يَقُول: " هُوَ مَحْمُول على مَا إِذا جَمعهمَا نِكَاحه، أَو زِنَاهُ ".
وَاسْتشْهدَ بَعضهم بِمَا حكى الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى أَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: " مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة مَلْعُون من نظر إِلَى فرج امْرَأَة وابنتها "، (ثمَّ أجَاب الشَّافِعِي: رَحمَه الله فَقَالَ: " لَا أدفَع هَذَا؛ وأصغر ذَنبا من الزَّانِي بِالْمَرْأَةِ وابنتها) ، (وَالْمَرْأَة بِلَا ابْنة) مَلْعُون، قد لعنت الْوَاصِلَة، والموصولة، والمختنية، وَالزِّنَا أعظم من هَذَا كُله، وَلَو كنت حرمته لقَوْله: " مَلْعُون " لزمك مَكَان هَذَا فِي آكل الرِّبَا وموكله وَأَنت لَا تمنع من الرِّبَا إِذا اشْترى بِمَا يحل، وَلَا إِذا اختنى قبرا أَن يحل حفر غَيره، يَعْنِي لغَرَض مُبَاح، (وَلَا أَن) يحْفر مختن مَا نبشه

(4/140)


مرّة إِذا ذهب الْمَيِّت بالبلى، فَقل هَهُنَا أَيْضا: " الْحَرَام لَا يمْنَع الْحَلَال ".
وروى جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: " مَا اجْتمع الْحَرَام والحلال إِلَّا غلب الْحَرَام الْحَلَال ". وَجَابِر ضَعِيف، لَا يحْتَج بِهِ، ثمَّ هُوَ معَارض بِحَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا يحرم الْحَرَام الْحَلَال ".
وَرُوِيَ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن ابْن هَانِئ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذا نظر الرجل إِلَى فرج الْمَرْأَة حرمت عَلَيْهِ أمهَا وابنتها ".
وَرِوَايَته فِي مَوضِع آخر عَن أم هَانِئ، وَهَذَا مُنْقَطع بَين الْحجَّاج وَأم هَانِئ، أَو بَين (ابْن هاني) ، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْحجاج لَا يقبل مِنْهُ مَا يتفرد بِهِ مِمَّا يسْندهُ، فَكيف يقبل مِنْهُ مَا يُرْسِلهُ! وَالله أعلم.

(4/141)


مَسْأَلَة (202) :

وَمن وجد طول حرَّة لم يجز لَهُ نِكَاح أمة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يجوز ".
وَهَذَا خلاف ظَاهر الْقُرْآن، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِك لمن خشى الْعَنَت مِنْكُم وَأَن تصبروا خير لكم وَالله غَفُور رَحِيم} ، فأباح نِكَاح الْأمة بِشَرْطَيْنِ: بِعَدَمِ الطول، وخشية الْعَنَت، فَلَا يُبَاح حَتَّى يُوجد الشرطان جَمِيعًا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة قَالَ: " يَقُول: من لم يكن لَهُ سَعَة أَن ينْكح الْحَرَائِر فَلْيَنْكِح من إِمَاء الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ لمن خشِي الْعَنَت، وَهُوَ الْفُجُور، فَلَيْسَ لأحد من الْأَحْرَار أَن ينْكح إِلَّا أَن لَا يقدر على حرَّة، وَهُوَ يخْشَى الْعَنَت، وَأَن تصبروا عَن نِكَاح الْإِمَاء فَهُوَ خير لكم ".
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " الطول الْغنى إِذا لم يجد مَا ينْكح بِهِ الْحرَّة تزوج أمة، وَأَن تصبروا خير لكم "، قَالَ عَن نِكَاح الْإِمَاء.

(4/142)


وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " من ملك ثَلَاثمِائَة دِرْهَم وَجب عَلَيْهِ الْحَج، وَحرم عَلَيْهِ نِكَاح الْإِمَاء ".
وَعَن جَابر بن عبد الله، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " من وجد صدَاق حرَّة فَلَا ينْكح أمة ".
وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء قَالَ: " لَا يصلح نِكَاح الْإِمَاء الْيَوْم؛ لِأَنَّهُ يجد طولا إِلَى حرَّة ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ قَالَ: " هِيَ بِمَنْزِلَة الْميتَة يضْطَر إِلَيْهَا، فَإِذا أَغْنَاك الله عَنْهَا فاستغنه ".
وَعَن طَاوُوس قَالَ: " لَا يحل للْحرّ أَن ينْكح الْأمة، وَهُوَ يجد طولا لحرة ".
وَقد روينَا أَيْضا عَن الْحسن نَحْو مَذْهَبنَا فِي كتاب السّنَن.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَلَا يجوز عندنَا للْمُسلمِ نِكَاح أمة كِتَابِيَّة بِحَال؛ لِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي إِبَاحَة نِكَاح الْإِمَاء أَن يكن مؤمنات، وَالْإِيمَان شَرط ثَالِث، فَأَما نسَاء أهل الْكتاب فداخلات فِي عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} غير خارجات

(4/143)


مِنْهُ بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} ، فالمحصنات هَهُنَا الْحَرَائِر، وَبِه قَالَ مُجَاهِد، فَقَالَ: " لَا يصلح نِكَاح إِمَاء أهل الْكتاب، لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} ، وَكَذَا قَالَ الْحسن، وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَاد عَن فُقَهَاء التَّابِعين من أهل الْمَدِينَة، وَعند أبي حنيفَة يجوز ذَلِك، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (203) :

وَإِذا أسلم، وَتَحْته أَكثر من أَربع، نكحهن فِي عقد وَاحِد فَلهُ أَن يخْتَار مِنْهُنَّ أَرْبعا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " بَطل نِكَاحهنَّ جَمِيعًا ".
وَإِذا تزوج بِهن فِي عُقُود مُتَفَرِّقَة فعندنا يخْتَار مِنْهُنَّ أَرْبعا. وَعند أبي حنيفَة رَحمَه الله ثَبت نِكَاح أَربع من الْأَوَائِل، وَبَطل نِكَاح من نكحهن بعدهن.
وَدَلِيلنَا مَا رُوِيَ عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه أَن غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ أسلم، وَعِنْده عشر نسْوَة، فَقَالَ لَهُ

(4/144)


النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمسك أَرْبعا، وَفَارق سائرهن "، رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله، عَن الثِّقَة، قَالَ الرّبيع: " أَحْسبهُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَنهُ ".
وَرُوِيَ عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَنهُ، وتابعهما على رِوَايَته عَن معمر من الْبَصرِيين يزِيد بن زُرَيْع، وَمُحَمّد بن جَعْفَر غنْدر، وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة من الْأَئِمَّة الْحفاظ (من أهل الْبَصْرَة) ". وَقد حكم الإِمَام مُسلم بن الْحجَّاج رَحمَه الله تَعَالَى أَن هَذَا الحَدِيث مِمَّا رَوَاهُ معمر بِالْبَصْرَةِ هَكَذَا، وَقَالَ: " فَإِن رَوَاهُ عَنهُ ثِقَة خَارج الْبَصرِيين حكمنَا لَهُ بِالصِّحَّةِ "، أَو قَالَ: " صَار الحَدِيث حَدِيثا، وَإِلَّا فالإرسال أولى، فَوَجَدنَا سُفْيَان بن سعيد الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمحَاربي، وَعِيسَى بن

(4/145)


يُونُس، وثلاثتهم كوفيون حدثونا بِهِ عَن معمر مُتَّصِلا ".
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن يحيى بن أبي كثير، وَهُوَ يماني، عَن الْفضل بن مُوسَى، وَهُوَ خراساني عَن معمر مُتَّصِلا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصح الحَدِيث بذلك ".
وَقد رُوِيَ عَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع وَسَالم عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مُتَّصِلا، رَوَاهُ عَنهُ سرار بن مجشر، قَالَ أَبُو عَليّ الْحَافِظ: " تفرد بِهِ سرار، وَهُوَ بَصرِي ثِقَة "، قَالَ أَبُو عبد الله: " رُوَاة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات، تقوم الْحجَّة بروايتهم ".
وَعند أبي دَاوُد عَن فَيْرُوز الديلمي قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله إِنِّي أسلمت، وتحتي أختَان، قَالَ: طلق أَيَّتهمَا شِئْت ".

(4/146)


وَذهب الطَّحَاوِيّ إِلَى أَن التَّخْيِير إِنَّمَا كَانَ؛ لِأَن عقودهم كَانَت فِي الْوَقْت الَّذِي يجوز الْجمع من أَكثر من أَرْبَعَة نسْوَة، قَالَ: " وعقود الْمُشْركين الْآن كلهَا بعد وُرُود الشَّرْع بِالتَّحْرِيمِ "، قُلْنَا: هَذَا فرار من الحَدِيث، وقولكم ينْتَقض بالولي، وَالشُّهُود، والخلو من الْعدة؛ فَإِن جَمِيع ذَلِك وَجب بِالشَّرْعِ، وعقود الْمُشْركين قد تَخْلُو من هَذِه الْأَشْيَاء الْآن بعد وُجُوبهَا، وَلَا يحكم ببطلانها إِذا أَسْلمُوا، ثمَّ نقُول لم يبلغنَا إِبَاحَة الْجمع بَين أَكثر من أَربع نسْوَة ثَابِتَة فِي ابْتِدَاء شرعنا، ثمَّ لَو كَانَت فَلم يبلغنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استفسر واستفصل حَال عقودهم كَانَت قبل التَّحْرِيم أَو بعده "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (204) :

وَإِذا أسلم أَحدهمَا بعد الدُّخُول توقف النِّكَاح على انْقِضَاء الْعدة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا اخْتلف بَينهمَا الدّين وَالدَّار انْقَطع النِّكَاح بَينهمَا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فَإِن قَالَ قَائِل مَا دلّ على ذَلِك؟ قيل لَهُ: أسلم أَبُو سُفْيَان بن حَرْب رَضِي الله عَنهُ بمر الظهْرَان، وَهِي دَار

(4/147)


خُزَاعَة، وخزاعة مُسلمُونَ قبل الْفَتْح فِي دَار الْإِسْلَام، وَرجع إِلَى مَكَّة، وَهِنْد بنت عتبَة مُقِيمَة (على غير الْإِسْلَام، وَأخذت بلحيته، وَقَالَت: اقْتُلُوا الشَّيْخ الضال، ثمَّ أسلمت هِنْد بعد إِسْلَام أبي سُفْيَان بأيام كَثِيرَة، وَقد كَانَت كَافِرَة مُقِيمَة) بدار لَيست بدار الْإِسْلَام يَوْمئِذٍ، وَزوجهَا مُسلم فِي دَار الْإِسْلَام، وَهِي فِي دَار الْحَرْب، ثمَّ صَارَت مَكَّة دَار الْإِسْلَام، وَأَبُو سُفْيَان بهَا مُسلم، وَهِنْد كَافِرَة، ثمَّ أسلمت قبل انْقِضَاء الْعدة، وَاسْتقر على النِّكَاح؛ لِأَن عدتهَا لم تنقض حَتَّى أسلمت.
وَكَانَ كَذَلِك حَكِيم بن حزَام وإسلامه، وَأسْلمت امْرَأَة صَفْوَان بن أُميَّة، وَامْرَأَة عِكْرِمَة بن أبي جهل بِمَكَّة، وَصَارَت دارهما دَار الْإِسْلَام، وَظهر حكم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّة، وهرب عِكْرِمَة إِلَى الْيمن، وَهِي دَار حَرْب، وَصَفوَان يُرِيد الْيمن، وَهِي دَار حَرْب، ثمَّ رَجَعَ

(4/148)


صَفْوَان إِلَى مَكَّة، وَهِي دَار الْإِسْلَام، وَشهد حنينا، وَهُوَ كَافِر، ثمَّ أسلم، فاستقرت عِنْده امْرَأَته بِالنِّكَاحِ الأول، وَذَلِكَ أَنه لم تنقض، يَعْنِي عدتهما، فَقلت لَهُ: " مَا وصفت لَك أَمر مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم بالمغازي من أَمر صَفْوَان، وَحَكِيم، وَابْن صَفْوَان، وَعِكْرِمَة ".
وَقد حفظ أهل الْمَغَازِي أَن امْرَأَة من الْأَنْصَار كَانَت عِنْد رجل بِمَكَّة، فَأسْلمت، ثمَّ هَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة، فَقدم زَوجهَا، وَهِي فِي الْعدة، فاستقرا على النِّكَاح.
جَمِيع مَا ذكره رَحمَه الله من أمرخزاعة وَأمر أبي سُفْيَان، وَحَكِيم مَذْكُور فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب أَن صَفْوَان بن أُميَّة هرب من الْإِسْلَام، ثمَّ جَاءَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشهد حنينا، والطائف مُشْركًا، وَامْرَأَته مسلمة، واستقرا على النِّكَاح، يَعْنِي حِين أسلم صَفْوَان. (قَالَ ابْن شهَاب: " وَكَانَ بَين إِسْلَام صَفْوَان) وَامْرَأَته نَحوا من شهر ".
وروى مَالك رَحمَه الله عَنهُ أَن أم حَكِيم بنت الْحَارِث بن هِشَام، وَكَانَت تَحت عِكْرِمَة بن أبي جهل، فَأسْلمت يَوْم الْفَتْح بِمَكَّة، وهرب زَوجهَا عِكْرِمَة من الْإِسْلَام حَتَّى قدم الْيمن، فارتحلت أم حَكِيم حَتَّى قدمت عَلَيْهِ بِالْيمن، ودعته إِلَى الْإِسْلَام، فَأسلم، وَقدم على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفَتْح، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وثب إِلَيْهِ فَرحا، وَمَا عَلَيْهِ رِدَاؤُهُ حَتَّى بَايعه، فثبتا على نِكَاحهمَا ذَلِك.

(4/149)


وَعنهُ قَالَ: " لم يبلغنِي أَن امْرَأَة هَاجَرت إِلَى الله وَرَسُوله، وَزوجهَا كَافِر مُقيم بدار الْكفْر، إِلَّا فرقت هجرتهَا بَينهَا وَبَين زَوجهَا إِلَّا أَن يقدم زَوجهَا مُهَاجرا قبل أَن تَنْقَضِي عدتهَا، وَأَنه لم يبلغنَا أَن امْرَأَة فرق بَينهَا وَبَين زَوجهَا إِذا قدم، وَهِي فِي عدتهَا ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ رَحمَه الله عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ الْمُشْركُونَ على منزلتين من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْمُؤمنِينَ، (كَانُوا مُشْركي) أهل حَرْب يقاتلهم، ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لَا يقاتلهم، وَلَا يقاتلونه، فَكَانَ إِذا هَاجَرت امْرَأَة من الْحَرْب لم تخْطب حَتَّى تحيض وتطهر، فَإِذا طهرت حل لَهَا النِّكَاح، فَإِن هَاجر زَوجهَا قبل أَن تنْكح ردَّتْ إِلَيْهِ "، وَهَذَا يدل على أَن الدَّار لم يُمكن أَن تفرق بَينهمَا.
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " رد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَيْنَب ابْنَته على أبي الْعَاصِ بن الرّبيع بِالنِّكَاحِ الأول، وَلم يحدث شَيْئا بعد سِتّ سِنِين ".

(4/150)


فَدلَّ هَذَا على أَن اخْتِلَاف الدَّار لَا يضر قبل انْقِضَاء الْعدة، وَلَا معنى لقَوْل من أنكرهُ، واستبعد بَقَاء الْعدة سِتّ سِنِين، وَذَلِكَ لِأَن ابْتِدَاء مُدَّة عدتهَا لم يكن من وَقت إسْلَامهَا وهجرتها، وَلَكِن من وَقت / نزُول آيَة التَّحْرِيم المسلمات على الْمُشْركين، وَهُوَ بعد صلح الْحُدَيْبِيَة، ثمَّ (لم يلبث) أَبُو الْعَاصِ بعد ذَلِك إِلَّا يَسِيرا حَتَّى أَخذه أَبُو بَصِير، أَو غَيره، وأجارته زَيْنَب، ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة، ورد مَا كَانَ عِنْده من الودائع، وَأظْهر إِسْلَامه، فَلم يكن بَين توقف نِكَاحهَا على انْقِضَاء الْعدة وَبَين إِسْلَامه إِلَّا الْيَسِير.
وَأما مَا روى حجاج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد ابْنَته إِلَى أبي الْعَاصِ بِمهْر جَدِيد، وَنِكَاح جَدِيد، فقد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَحمَه الله: " هَذَا لَا يثبت، وحجاج لَا يحْتَج بِهِ، وَالصَّوَاب حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَبَلغنِي عَن أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ: سَأَلت عَنهُ البُخَارِيّ فَقَالَ: حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الْبَاب أصح من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه، وَبَيَان هَذَا كُله مَرْوِيّ فِي كتاب الْمعرفَة ".
وَحكى أَبُو عبيد عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان أَن حجاج يَعْنِي ابْن أَرْطَأَة - لم يسمع من عَمْرو بن شُعَيْب، وَأَنه من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله العورني عَن عَمْرو، فَهَذَا وَجه لَا يعبأ بِهِ أحد يدْرِي مَا الحَدِيث.

(4/151)


وَالَّذِي ذكره بعض أكابرهم فِي الْجمع بَين حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس فِي رد ابْنَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أبي الْعَاصِ بِأَن قَالَ علم عبد الله بن عَمْرو بِتَحْرِيم الله - جلّ جَلَاله - رُجُوع الْمُؤْمِنَات إِلَى الْكفَّار، فَلم يكن ذَلِك عِنْده أَلا بِنِكَاح جَدِيد.
أما ابْن عَبَّاس فَلم يعلم بِتَحْرِيم الله الْمُؤْمِنَات إِلَى الْكفَّار حِين علم برد زَيْنَب على أبي الْعَاصِ، رضوَان الله عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: ردهَا بِالنِّكَاحِ الأول؛ لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده بَينهمَا فسخ نِكَاح، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجمع صَحِيح، وَمَا هُوَ إِلَّا سوء ظن بالصحابة، رَضِي الله عَنْهُم، حَيْثُ نسبهم إِلَى أَنهم، يتجاوزون فِي رِوَايَة الحَدِيث على مَا وَقع لَهُم من غير سَماع.
ثمَّ يَقُول أما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَلم يُثبتهُ الْحفاظ على مَا قدمنَا ذكره، وَلَو كَانَ ثَبت فالظن بِهِ رَضِي الله عَنهُ أَنه لَا يروي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عقد نِكَاح لم يحضرهُ، وَلم يُثبتهُ بِشُهُود
من يَثِق بِهِ، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لَا يَقُول ردهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الأول، وَلم يحدث شَيْئا لَا بعد إحاطة الْعلم بِهِ بِنَفسِهِ، أَو عَن من يَثِق بِهِ بكيفية الرَّد، وَكَيف يشْتَبه على مثله نزُول الْآيَة قبل رد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْنَته على أبي الْعَاصِ. وَإِن اشْتبهَ ذَلِك عَلَيْهِ فِي وَقت نُزُولهَا، أفيشتبه ذَلِك عَلَيْهِ حَيْثُ روى هَذَا الْخَبَر بعد وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقد علم منَازِل الْقُرْآن وتأويله؟ هَذَا بعيد، لَا يجوز حمله عَلَيْهِ، وَالله أعلم.

(4/152)


مَسْأَلَة (205) :

(4/153)


نِكَاح الشّغَار بَاطِل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه جَائِز ".
دليلنا حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الشّغَار، والشغار أَن يُزَوّج الرجل ابْنَته على أَن يُزَوجهُ ابْنَته، وَلَيْسَ بَينهمَا صدَاق ".
وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن جَابر، وَعَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُمَا.

(4/154)


وَعند أبي دَاوُد عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز أَن الْعَبَّاس بن عبد الله بن الْعَبَّاس أنكح عبد الرَّحْمَن بن الحكم ابْنَته، وأنكحه عبد الرَّحْمَن ابْنَته، وَكَانَا جعلا صَدَاقا، فَكتب مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَرْوَان يَأْمُرهُ بِالتَّفْرِيقِ بَينهمَا، وَقَالَ فِي كِتَابه: " هَذَا الشّغَار الَّذِي نهى عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد رُوَاته ثِقَات، عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا شغار فِي الْإِسْلَام "، وَهُوَ غَرِيب بِهَذَا الْإِسْنَاد.
وَرُوِيَ فِي حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فِي حَدِيث وَائِل بن حجر، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (206) :

والمنكوحة ترد بالعيوب الْخَمْسَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة

(4/155)


رَحمَه الله: " لَا ترد ".
وَدَلِيلنَا مَا روى مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: " قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: أَيّمَا رجل نكح امْرَأَة، وَبهَا جُنُون، أَو جذام، أَو برص، فمسها، فلهَا صَدَاقهَا، وَذَلِكَ لزَوجهَا غرم على وَليهَا ".
وَرُوِيَ عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: " أَربع لَا يجزن فِي بيع، وَلَا نِكَاح: الْمَجْنُونَة، والمجذومة، والبرصاء، والعفلاء "، رُوَاته ثِقَات، وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله إِنَّمَا ذكره من قَول أبي الشعْثَاء جَابر بن زيد، وَهُوَ صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، وَلَا يَصح عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم خلاف ذَلِك.
فَإِن تعلقوا بِمَا رُوِيَ عَن مُسلم بن جُنَادَة عَن وَكِيع عَن ابْن أبي خَالِد عَن عَامر قَالَ: " قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: أَيّمَا رجل تزوج امْرَأَة مَجْنُونَة، أَو جذماء، أَو بهَا برص، أَو بهَا قرن فَهِيَ امْرَأَته إِن

(4/156)


شَاءَ أمسك، وَإِن شَاءَ طلق "، قُلْنَا: هَذَا مُخْتَصر، وَرَوَاهُ غَيره عَن وَكِيع إِذا لم يدْخل بهَا فرق بَينهمَا ".
وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي الْجَامِع عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا تزوج الْمَرْأَة فَوجدَ بهَا جنونا أَو برصا، أَو جذاما، أَو قرنا فَدخل بهَا فَهِيَ امْرَأَته إِن شَاءَ أمسك، وَإِن شَاءَ طلق "، فَكَأَنَّهُ أبطل خِيَاره بِالدُّخُولِ بعد الْعلم بعيبها، وَفِيه دَلِيل على أَنه إِن لم يدْخل بهَا وَاخْتَارَ الْفَسْخ كَانَ لَهُ ذَلِك؛ لشرطه فِي امْتنَاع خِيَار الْفَسْخ وجود مَا يدل على رِضَاهُ بذلك من دُخُول، أَو غَيره، وَالله أعلم.
وَالَّذِي يدل على صِحَة مَا ذكرنَا من حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا روى أَبُو حَامِد الشاركي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزيَادي عَن عَفَّان عَن همام عَن قَتَادَة عَن خلاس أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَا يُجِيز جنونا، وَلَا برصاء، وَلَا جذاما، وَلَا عفلاء، قَالَ: " وَأخْبرنَا يحيى بن أبي طَالب عَن مُعلى عَن حَمَّاد عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا تزوج الرجل الْمَجْنُونَة، والمجذومة، والعفلاء فَإِن لم يكن دخل بهَا، فرق بَينهمَا، وَإِن دخل بهَا حازت عَلَيْهِ ".

(4/157)


وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن الزبير عَن أَبِيه، قَالَ " كَانَ فِي وَفد ثَقِيف مجذوم، فَأرْسل إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنا قد بايعناك فَارْجِع "، أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَأخرجه البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا عدوى، وَلَا هَامة، وَلَا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الْأسد "، أَو قَالَ: " من الْأسود ".
فَأمر فِي هذَيْن الْحَدِيثين بالتباعد من المجذوم.
وَقَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُورد ممرض على مصح ".
وَفِي ذَلِك دلَالَة على أَن قَوْله: " لَا عدوى " أَرَادَ بِهِ على الْوَجْه

(4/158)


الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة من إِضَافَة الْفِعْل إِلَى غير الله تَعَالَى، أَلا ترَاهُ حِين عورض بالمخالطة قَالَ: " فَمن أعدى الأول؟ "، ثمَّ قد تكون المخالطة سَببا للعدوى بِإِذن الله عز وَجل.
وَإِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا فَفِي نِكَاح من بِهِ أحد هَذِه الْعُيُوب ضَرَر كَبِير، وَلَا يكون مَعَ الْجُنُون تأدية حق، وَالنِّكَاح للألفة، وَالْعشرَة، وَهَذِه الْعُيُوب مَانِعَة من الْمَقْصُود بِالنِّكَاحِ، فَثَبت الْخِيَار بوجودها، أَو وجود بَعْضهَا.
وَرُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذ بيد مجذوم، فوضعها فِي قَصْعَة، فَقَالَ: " كل بِسم الله، وتوكلا عَلَيْهِ ". فَفِيهِ بَيَان توهم لُحُوق ضَرَر بمخالطته، لكنه احتمله ثِقَة بِاللَّه، وتوكلا عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
مَسْأَلته (207) :

وَإِذا أعتقت الْأمة تَحت حر فَلَا خِيَار لَهَا فِي فسخ النِّكَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَهَا خِيَار الْفَسْخ ".
فِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا اشترت بَرِيرَة من أنَاس من الْأَنْصَار، واشترطوا الْوَلَاء، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْوَلَاء لمن ولي النِّعْمَة، وَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ زَوجهَا عبدا ".

(4/159)


وَعِنْده أَيْضا عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا، فَخَيرهَا رَسُول الله
. وَلَو كَانَ حرا، مَا خَيرهَا.
وَعند أبي دَاوُد عَنْهَا أَن بَرِيرَة عتقت، وَهِي عِنْد مغيث عبد لآل أبي أَحْمد، فَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَو كَانَ حرا مَا خَيرهَا، وَقَالَ: " إِن قربك فَلَا خِيَار لَك ".
وَرُوِيَ حَدِيث بَرِيرَة عَن الْأسود عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَفِيه: " وخيرت من زَوجهَا "، قَالَ: " وَكَانَ زَوجهَا حرا ".
أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح دون هَذِه اللَّفْظَة: " وَكَانَ زَوجهَا حرا ".
وَيُقَال: إِن هَذِه اللَّفْظَة لَيست من قَول عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، إِنَّمَا من قَول الْأسود بن يزِيد، فقد صَحَّ عَنْهَا، وَثَبت من حَدِيث عُرْوَة وَهُوَ ابْن أُخْتهَا - وَمن حَدِيث الْقَاسِم - هُوَ ابْن أَخِيهَا - وَغَيرهمَا أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا حِين عتقت، وروايتهما مَعَ غَيرهمَا أولى لقربهما مِنْهَا وسماعهما شفاها دَاخل السّتْر، وَلِأَن أَبَا عوَانَة، وَجَرِير بن عبد الحميد - وهما ثقتان - رويا هَذَا الحَدِيث عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَبينا أَن هَذِه اللَّفْظَة من قَول

(4/160)


الْأسود، فَقَالَا فِيهِ: " قَالَ الْأسود "، وَذَلِكَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ، وَقَالَ البُخَارِيّ: " قَول الْأسود مُنْقَطع، وَقَول ابْن عَبَّاس: " رَأَيْته عبدا " أصح ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَقد رُوِيَ عَن أبي حُذَيْفَة عَن الثَّوْريّ عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا حِين أعتقت ". " وَرَوَاهُ ابْن أبي بكير عَن أبي جَعْفَر عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا نَحوه ".
فقد تقابلت الرِّوَايَة عَن الثَّوْريّ، وَالْأَعْمَش بِحَدِيث الْأسود، وَقد بقيت لنا رِوَايَة الْقَاسِم، وَعُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَعَ قربهما مِنْهَا، وأنهما من أهل الْحجاز.
وَرُوِيَ عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه كَانَ لَهَا غُلَام، وَجَارِيَة زوج، فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " يَا رَسُول الله إِنِّي أُرِيد أَن أعتقهما، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن أعتقتهما فابدئي بِالرجلِ قبل الْمَرْأَة "، يشبه أَن يكون إِنَّمَا أَرَادَ بالبداءة

(4/161)


بِالرجلِ؛ لِئَلَّا يكون لَهَا الْخِيَار إِذا عتقت، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب، وَسليمَان بن يسَار، وَالْحسن، وَعِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالُوا: " لَا خِيَار لَهَا على الْحر ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا تخير إِذا أعتقت إِلَّا أَن يكون زَوجهَا عبدا "، وَالله أعلم.

(4/162)


كتاب الصَدَاق

وَمن كتاب الصَدَاق
مَسْأَلَة (208) :

أقل الْمهْر لَا يتَقَدَّر بِالْعشرَةِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه مُقَدّر بِالْعشرَةِ ".
لنا حَدِيث انس رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِه أثر صفرَة، فَسَأَلَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأخْبرهُ أَنه تزوج امْرَأَة من الْأَنْصَار، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كم سقت إِلَيْهَا؟ "، قَالَ: " زنة نواة من ذهب "، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أولم وَلَو بِشَاة ".
قَالَ أَبُو عبيد: " قَوْله نواة يَعْنِي خَمْسَة دَرَاهِم تسمى نواة ذهب، كَمَا تسمى الْأَرْبَعُونَ أُوقِيَّة، وكما تسمى الْعشْرُونَ نشا "، قَالَ أَبُو عبيد: " حَدَّثَنِيهِ يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد قَالَ: " الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ، والنش عشرُون، والنواة خَمْسَة ".

(4/163)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث سهل بن سعد فِي الْمَرْأَة الَّتِي وهبت نَفسهَا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَوجهَا من الرجل الَّذِي خطبهَا مِنْهُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن "، بعد ان قَالَ لَهُ: " التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد "؛ لتصدقها إِيَّاه ".
وَعند أبي دَاوُد عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من أعْطى فِي صدَاق امْرَأَة ملْء كفيه سويقا، أَو تَمرا فقد اسْتحلَّ ".
فَإِن اعْترض معترض بِأَن هَذَا ورد فِي نِكَاح الْمُتْعَة، وَهُوَ مَنْسُوخ بِدَلِيل حَدِيث جَابر فِي صَحِيح مُسلم " كُنَّا نستمتع بالقبضة من التَّمْر والدقيق الْأَيَّام على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي بكر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى نَهَانَا عمر رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن عَمْرو بن حُرَيْث "، فقد مَضَت الدّلَالَة عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه حرم نِكَاح الْمُتْعَة بعد الرُّخْصَة، وَالْفَسْخ إِنَّمَا ورد بِإِبْطَال الْأَجَل، لَا قدر مَا كَانُوا ينْكحُونَ بِهِ من الصَدَاق، وَالله أعلم.

(4/164)


وَفِيه أَخْبَار أخر تركناها للمعارضة.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " هَذَا شَيْء خالفتم فِيهِ السّنة، وَالْعَمَل، والْآثَار بِالْمَدِينَةِ، وَلم يقلهُ أحد قبلكُمْ بِالْمَدِينَةِ علمناه، عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " فِي ثَلَاث قبضات زبيب مهر ". وَسَعِيد بن الْمسيب يَقُول: " لَو أصدقهَا سَوْطًا فَمَا فَوْقهَا جَازَ ". وَرَبِيعَة يُجِيز النِّكَاح على نصف دِرْهَم وَأَقل "، وَذكر بَاقِي الْحِكَايَة.
وَرُوِيَ عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: لَو أَن رجلا تزوج امْرَأَة على سواك لَكَانَ ذَلِك مهْرا ".
استدلوا بِمَا روى مُبشر بن عبيد عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن عَطاء، وَعَمْرو بن جَابر رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " لَا تنْكِحُوا النِّسَاء إِلَّا الْأَكفاء، وَلَا يزوجهن إِلَّا الْأَوْلِيَاء، وَلَا مهر دون عشرَة دَرَاهِم "، هَذَا حَدِيث مُنكر، مُبشر بن عبيد مِمَّن أَجمعُوا على ترك حَدِيثه، وَالْحجاج بن أَرْطَأَة أَيْضا لَا يحْتَج بِهِ.
قَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي: " هَذَا الحَدِيث مَعَ اخْتِلَاف أَلْفَاظه فِي

(4/165)


الْمُتُون، دون اخْتِلَاف إِسْنَاده بَاطِل كُله، لَا يرويهِ غير مُبشر بن عبيد. قَالَ احْمَد بن حَنْبَل: " مُبشر بن عبيد يضع الحَدِيث ".
ثمَّ هُوَ مُقَابل بِمَا هُوَ أصح مِنْهُ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَأَلنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن صدَاق النِّسَاء، فَقَالَ: هُوَ مَا اصْطلحَ عَلَيْهِ أهلوهم ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى دَاوُد بن يزِيد الأودي عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " لَا صدَاق دون عشرَة دَرَاهِم "، دَاوُد بن يزِيد ضَعِيف فِي الحَدِيث، وَهَذَا مِمَّا أنكر عَلَيْهِ، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: " لقن غياث بن إِبْرَاهِيم دَاوُد بن يزِيد الأودي عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " لَا

(4/166)


يكون مهر أقل من عشرَة دَرَاهِم "، فَصَارَ حَدِيثا، قَالَ ابْن معِين: " غياث كَذَّاب، لَيْسَ بِثِقَة، وَلَا مَأْمُون، دَاوُد الأودي لَيْسَ بِشَيْء "، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَيْضا بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن الضَّحَّاك عَنهُ، وَالضَّحَّاك لم يُدْرِكهُ، فَهُوَ مَعَ ضعفه مُنْقَطع.
وَرُوِيَ عَن الْحسن بن دِينَار عَن عبد الله الداناج عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا مهر أقل من خَمْسَة دَرَاهِم "، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، الْحسن بن دِينَار ضَعِيف الحَدِيث، قد سبق ذكره. وَقد رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك كُله، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الصَدَاق مَا ترْضى بِهِ الزَّوْجَات "، وَهَذَا مَعَ إرْسَاله أمثل هَذِه الرِّوَايَات عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب قَالَ: " زَوجنِي

(4/167)


سعيد بن الْمسيب ابْنَته بِصَدَاق دِرْهَمَيْنِ، لَيْسَ لَهَا صدَاق غَيره "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (209) :

وَيجوز أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْخَيْر، وَذَلِكَ مثل تَعْلِيم الْقُرْآن، وَأَن يَجْعَل مهْرا، وَكَذَلِكَ يجوز أَخذ الْأُجْرَة على الْأَذَان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " غير جَائِز ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي الَّذِي رقى السَّلِيم بِأم الْكتاب على شَاءَ، فَأتى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن احق مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجرا كتاب الله عز وَجل ".

(4/168)


وَحَدِيث سهل بن سعد رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة الَّتِي زَوجهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرجل على مَا مَعَه من الْقُرْآن فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَفِي رِوَايَة عِنْد مُسلم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " انْطلق فقد زوجتكها بِمَا تعلمهَا من الْقُرْآن ".
وَفِي أُخْرَى عِنْد أبي دَاوُد بعض حَدِيث سهل عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ وَفِيه فَقَالَ " مَا تحفظ من الْقُرْآن؟ " قَالَ: " سُورَة الْبَقَرَة، وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَ: " قُم، فعلمها عشْرين آيَة، وَهِي امْرَأَتك ".
استدلوا بِمَا روى عتبَة بن السكن عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن ابْن أبي طَلْحَة عَن زِيَادَة بن سَخْبَرَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن امْرَأَة أَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: " يَا رَسُول الله، رأ فِي رَأْيك " الحَدِيث، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قد أنكحتكها على أَن تقرئها وتعلمها، فَإِذا رزقك الله عوضهَا، فَتَزَوجهَا الرجل على ذَلِك "، قَالَ الدراقطني: " تفرد بِهِ عتبَة، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث "، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " عتبَة بن السكن مَنْسُوب إِلَى وضع الحَدِيث، وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث بِشَيْء ".
وروري عَن مُغيرَة بن زِيَاد عَن عبَادَة عَن الْأسود بن ثَعْلَبَة عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " علمت نَاسا من أهل الصّفة الْكِتَابَة وَالْقُرْآن، فأهدى إِلَيّ رجل مِنْهُم قوسا، فَقلت: لَيست بِمَال، وأرمي عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، لَآتِيَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلأسألنه، فَأَتَيْته، فَقلت: يَا رَسُول الله، رجل أهْدى إِلَيّ قوسا مِمَّن كنت أعلمهُ الْكتاب

(4/169)


وَالْقُرْآن، وَلَيْسَت بِمَال، وأرمي عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، قَالَ: إِن كنت تحب أَن تطوق طوقا من نَار فاقبلها "، مُغيرَة بن زِيَاد تكلمُوا فِيهِ، وَلَيْسَ بمحتج بِهِ فِي الصَّحِيح.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ نَحوه، وَالْأول أتم فَقلت: " مَا ترى فِيهَا يَا رَسُول الله؟ " فَقَالَ: " جَمْرَة بَين كفيك، تقلد بهَا، أَو تعلقهَا ".
ثمَّ هَذَا مَتْرُوك الظَّاهِر فَلَيْسَ فِيهِ أَنه علمه بِشَرْط الْأُجْرَة، وَمن علم غَيره الْقُرْآن، فأهدى المتعلم لَهُ شَيْئا جَازَ لَهُ قبُوله بِالْإِجْمَاع، على أَن ابْن الْمَدِينِيّ ضعفه، فَإِن صَحَّ فَيُشبه أَن يكون مَنْسُوخا بِمَا روينَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَأبي سعيد رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن أَحَق مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجرا كتاب الله عز وَجل "؛ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من أَوَاخِر من حمل الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَذَا أَبُو سعيد، رَضِي الله عَنهُ.
وَمِمَّا يدل على جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن مَا رُوِيَ عَن وَكِيع عَن صَدَقَة بن مُوسَى عَن الْوَضِين بن عَطاء قَالَ: " ثَلَاثَة

(4/170)


معلمين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ يعلمُونَ الصّبيان، وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يرْزق كل وَاحِد مِنْهُم خَمْسَة عشر درهما كل شهر ".
وَعَن خلف بن هِشَام عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى بعض عماله أَن أعْط النَّاس على تَعْلِيم الْقُرْآن.
وَرُوِيَ عَن أَبى الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: " من أَخذ على تَعْلِيم الْقُرْآن قوسا قَلّدهُ الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة قوسا من نَار "، قَالَ الدَّارمِيّ: " قَالَ دُحَيْم حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فِي هَذَا لَيْسَ لَهُ

(4/171)


أصل ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " ثمَّ إِن صَحَّ شَيْء من هَذَا الْجِنْس فَهُوَ مَحْمُول عندنَا على مَا لَو تعين عَلَيْهِ تَعْلِيمه بِأَن لَا يجد المتعلم غَيره ".
وَرُوِيَ عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، اجْعَلنِي إِمَام قومِي، قَالَ: أَنْت إمَامهمْ، واقتد بأضعفهم، وَاتخذ مُؤذنًا لَا يَأْخُذ على أَذَانه أجرا ".
وَهَذَا هُوَ الأولى أَن لَا يتَّخذ مُؤذنًا يَأْخُذ على أَذَانه أجرا إِذا وجد من يتَطَوَّع بِهِ، فَإِن لم يجد فَيجوز. قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قد رزقهم - يَعْنِي المؤذنين - إِمَام هدى عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ ". وَاحْتج الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْخَيْر بِحَدِيث التَّزْوِيج على تَعْلِيم الْقُرْآن.
وروى أَبُو عصمَة عَن يُونُس عَن الْحسن عَن شُعْبَة كلهم يحدثونه عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ: " وَنهى عَن التَّعْلِيم بِالْأَجْرِ، وَنهى عَن الْأَذَان بِالْأَجْرِ، وَنهى عَن الْإِمَامَة بِالْأُجْرَةِ "، وَهَذَا مُنْقَطع،

(4/172)


وَأَبُو عصمَة مَتْرُوك.
قَالَ البُخَارِيّ رَحمَه الله فِي التَّرْجَمَة: " وَقَالَ الحكم: لم أسمع أحدا كره أجر الْمعلم "، قَالَ: " وَلم ير ابْن سِيرِين بِأَجْر الْمعلم بَأْسا ".
وروينا عَن عَطاء، وَأبي قلَابَة أَنَّهُمَا كَانَا لَا يريان بتعليم الغلمان بِالْأَجْرِ بَأْسا.
وَعَن الْحسن قَالَ: " إِذا قَاطع، وَلم يعدل كتب من الظلمَة ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لم يكن لِأُنَاس من أُسَارَى بدر فدَاء، فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فداءهم أَن يعملوا أَوْلَاد الْأَنْصَار الْكِتَابَة، قَالَ: فجَاء غُلَام من الْأَنْصَار يبكي (يَوْمًا إِلَى أَبِيه) فَقَالَ لَهُ ابوه: مَا شَأْنك؟ قَالَ: ضَرَبَنِي معلمي، قَالَ: الْخَبيث يطْلب بدحل بدر، وَالله لَا تأتينه أبدا "، وَهَذَا يعلم الْخَيْر، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (210) :

وَإِن مَاتَ زوج المفوضة قبل فرض مهرهَا، وَالدُّخُول بهَا لم

(4/173)


يجب لَهَا مهر الْمثل مَعَ الْمِيرَاث فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَهَا مهر الْمثل وَالْمِيرَاث ".
دليلنا مَا روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع أَن ابْنة عبد الله بن عمر وَأمّهَا بنت زيد بن الْخطاب كَانَت (تَحت ابْن) لِعبيد الله بن عمر فَمَاتَ، وَلم يدْخل بهَا، وَلم يسم لَهَا صَدَاقا، فابتغت أمهَا صَدَاقا، فَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " لَيْسَ لَهَا صدَاق، وَلَو كَانَ لَهَا صدَاق لم نمنعكموه، وَلم نظلمها "، فَأَبت أَن تقبل ذَلِك، فَجعلُوا بَينهم زيد بن ثَابت، فَقضى أَن لَا صدَاق لَهَا، وَلها الْمِيرَاث.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عبد خير عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الرجل يتَزَوَّج الْمَرْأَة، ثمَّ يَمُوت، وَلم يدْخل بهَا وَلم يفْرض لَهَا صَدَاقا: " إِن لَهَا الْمِيرَاث وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلَا صدَاق لَهَا ".
وروى سُفْيَان الثورى عَن عبد الْملك بن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مثل ذَلِك.

(4/174)


وَدَلِيل القَوْل الثَّانِي مَا عِنْد أبي دَاوُد عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ فِي رجل تزوج امْرَأَة، فَمَاتَ عَنْهَا، وَلم يدْخل بهَا، وَلم يفْرض لَهَا، فَقَالَ: " لَهَا الصَدَاق كَامِلا، وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث "، فَقَالَ معقل بن سِنَان: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِي بروع بنت واشق ".
وَرُوِيَ عَن عَلْقَمَة، قَالَ: " أَتَى عبد الله فِي امْرَأَة توفّي عَنْهَا زَوجهَا "، وَلم يفْرض لَهَا صَدَاقا وَلم يدْخل بهَا، فترددوا إِلَيْهِ، وَلم يزَالُوا بِهِ، حَتَّى قَالَ: " إِنِّي سأقول برأيي: لَهَا صدَاق نسائها، لَا وكس، وَلَا شطط، وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث "، فَقَامَ معقل بن سِنَان، فَشهد أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِي بروع بنت واشق الأشجعية بِمثل مَا قضيت، ففرح عبد الله "، إِسْنَاده صَحِيح، وَرُوَاته ثِقَات، وَمَعْقِل بن سِنَان صَحَابِيّ مَعْرُوف، وَقد قيل فِي هَذَا الحَدِيث: " معقل بن يسَار "، و " ابْن سِنَان "، أصح، وَقيل ذَلِك عَن نَاس من أَشْجَع.

(4/175)


قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأبي وَأمي، أَنه قضى فِي بروع بنت واشق، ونكحت بِغَيْر مهر، فَمَاتَ زَوجهَا، فَقضى لَهَا بِمهْر نسائها، وَقضى لَهَا بِالْمِيرَاثِ، فَإِن كَانَ يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ أولى الْأُمُور بِنَا، وَلَا حجَّة فِي قَول أحد دون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا فِي الْقيَاس، وَلَا فِي شَيْء فِي قَوْله إِلَّا طَاعَة الله بِالتَّسْلِيمِ لَهُ، وَإِن كَانَ لَا يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لم يكن لأحد أَن يثبت عَنهُ مَا لم يثبت، وَلم احفظه من وَجه يثبت مثله، وَهُوَ مرّة يُقَال: عَن معقل بن يسَار، (وَمرَّة عَن معقل بن سِنَان) وَمرَّة عَن بعض أَشْجَع لَا يُسمى ".
وَقَالَ رَحمَه الله: " أَن صَحَّ حَدِيث بروع بنت واشق قلت بِهِ ".
قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " لَو حضرت الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى لقمت إِلَيْهِ على رُؤُوس أَصْحَابه، وَقلت: قد صَحَّ الحَدِيث فَقل بِهِ، قَالَ: (فالشافعي رَحمَه الله) إِنَّمَا قَالَ: لَو صَحَّ الحَدِيث؛ لِأَن هَذِه الرِّوَايَة وَإِن كَانَت صَحِيحَة فَإِن الْفَتْوَى لعبد الله بن مَسْعُود، وَسَنَد الحَدِيث لنفر من أَشْجَع ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَشَيخنَا أَبُو عبد الله إِنَّمَا حكم بِصِحَّة الحَدِيث؛ لِأَن الثِّقَة قد سمى فِيهِ رجلا من الصَّحَابَة، وَهُوَ معقل بن سِنَان الْأَشْجَعِيّ، وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي تَسْمِيَة من روى قصَّة

(4/176)


بروع بنت واشق عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يوهن الحَدِيث؛ فَإِن أَسَانِيد هَذِه الرِّوَايَات صَحِيحَة، وَفِي بَعْضهَا إِن جمَاعَة من أَشْجَع شهدُوا بذلك، فبعضهم سمى هَذَا، وَبَعْضهمْ سمى آخر، وَكلهمْ ثِقَة، وَلَوْلَا الثِّقَة بِمن رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما كَانَ عبد الله يفرح بروايته "، وَالله أعلم.
مسأله (211) :

وَالَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الْأَب، على قَوْله فِي الْقَدِيم، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " هُوَ الزَّوْج ".
فَوجه قَوْله الْقَدِيم من طَرِيق الْأَثر مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الَّذِي ذكر الله {أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} قَالَ: " ذَلِك أَبوهَا ".
وَعَن الْحسن، قَالَ: " هُوَ الْوَلِيّ ".
وَعَن عَلْقَمَة: " الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الْوَلِيّ ".
وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ: " إِن كَانَت الْمَرْأَة مالكة أمرهَا فَهِيَ تَعْفُو، وَإِن

(4/177)


كَانَت بكرا فَالَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح أَبوهَا يعْفُو ".
وَعَن مَالك قَالَ: " قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه: {إِلَّا أَن يعفون} الْآيَة، فهن النِّسَاء اللَّاتِي قد دخل بِهن، قَالَ: {أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} ، وَهُوَ الْأَب فِي ابْنَته الْبكر، أَو السَّيِّد فِي أمته، قَالَ: وَذَلِكَ الَّذِي سَمِعت، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَمر عندنَا ".
وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الْوَلِيّ ".
وَوجه قَوْله فِي الْجَدِيد من طَرِيق الْأَثر مَا رُوِيَ عَن شُرَيْح قَالَ: " سَأَلَني عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَن الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح، قَالَ: قلت: هُوَ الْوَلِيّ، قَالَ: لَا بل هُوَ الزَّوْج ".
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من طَرِيق فِيهِ عَليّ بن زيد، وَالرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة عَنهُ أصح؛ فَإِن عَليّ بن زيد غير مُحْتَج بِهِ.
وَرُوِيَ عَن أبي سَلمَة رَضِي الله عَنهُ أَن جُبَير بن مطعم تزوج امْرَأَة من بني نظر، فَسمى لَهَا صَدَاقهَا، ثمَّ طَلقهَا من قبل أَن يدْخل بهَا، فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة {إِلَّا أَن يعفون أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} ، قَالَ: " أَنا أَحَق بِالْعَفو مِنْهَا، فَسلم إِلَيْهَا صَدَاقهَا ".

(4/178)


وَتَابعه مُحَمَّد بن جُبَير عَن أَبِيه، وَعَن ابْن الْمسيب قَالَ: " الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الزَّوْج ".
وَعَن الْمُغيرَة عَن الشّعبِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يعفون} الْآيَة. قَالَ: " يَعْنِي الْمَرْأَة، وَالَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الزَّوْج "، قَالَ: " وَهُوَ قَول شُرَيْح ".
وَعَن ابْن سِيرِين قَالَ: " الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الزَّوْج ".
وَعَن سعيد بن جُبَير مثله.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: " {إِلَّا أَن تَعْفُو} الْمَرْأَة، فتدع نصف صَدَاقهَا، أَو يعْفُو الزَّوْج، فيكمل لَهَا صَدَاقهَا ". وَرُوِيَ ذَلِك عَن طَاوس، وَنَافِع بن جُبَير، وَمُجاهد، وَمُحَمّد بن كَعْب.
وروى ابْن لَهِيعَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ولي عقدَة النِّكَاح الزَّوْج "، وَابْن لَهِيعَة ضَعِيف، لَا يحْتَج بِهِ، وَالله أعلم.

(4/179)


مَسْأَلَة (212) :

وَالْخلْوَة الخالية عَن الْوَطْء لَا تقرر الْمهْر، وَلَا توجب الْعدة على أصح الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وصاحباه رَحِمهم الله: " إِنَّهَا تقرر الْمهْر، وتوجب الْعدة ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على الْكتاب والمعاني، قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم} .
وَقَالَ جلّ جَلَاله، وَتَعَالَى علاؤه وشأنه: {يَا أَيهَا الَّذين ءامنوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن من قبل ان تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها} والمسيس الْجِمَاع.
روى الثِّقَات عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " اللَّمْس، والمس، والمباشرة جماع، وَلَكِن الله عز وَجل يكني بِمَا شَاءَ عَمَّا شَاءَ ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " نصف الصَدَاق، وَإِن جلس بَين رِجْلَيْهَا "، فِيهِ انْقِطَاع بَينهمَا.
وَعنهُ عَن شُرَيْح أَن رجلا تزوج امْرَأَة، وأغلق عَلَيْهَا الْبَاب، وأرخى السّتْر، ثمَّ طَلقهَا، وَلم يَمَسهَا، فَقضى لَهَا شُرَيْح بِنصْف الصَدَاق.

(4/180)


استدلوا بِمَا روى عبد الله بن صَالح الْعجلِيّ بِسَنَد لَهُ - عَن ابْن لَهِيعَة عَن مُحَمَّد بن ثَوْبَان أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من كشف امْرَأَة فَنظر إِلَى عورتها، فقد وَجب الصَدَاق "، زَاد ابْن لَهِيعَة: " دخل بهَا، أَو لم يدْخل ". وَابْن صَالح، وَابْن لَهِيعَة لَا يحْتَج بحديثهما، فَإِن سلم مِنْهُمَا فَهُوَ مُرْسل.
وروى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن ابْن سعيد عَن ابْن الْمسيب أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قضى فِي الْمَرْأَة يَتَزَوَّجهَا الرجل أَنه إِذا أرخيت الستور فقد وَجب الصَدَاق.
(وَعنهُ عَن الزُّهْرِيّ أَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا دخل الرجل بامرأته، فأرخيت عَلَيْهِمَا الستور فقد وَجب

(4/181)


الصَدَاق ".
قَالَ الشَّافِعِي: " لَيْسَ إرخاء الستور يُوجب الصَدَاق عِنْدِي؛ لقَوْل الله عز وَجل: {إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتوهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ} ، فَلَا يُوجب الصَدَاق إِلَّا بالمسيس "، قَالَ: " وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس ".
وَظَاهر مَا رُوِيَ عَن زيد رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يُوجِبهُ بِنَفس الْخلْوَة، وَلَكِن إِذا ادَّعَت الْمَسِيس؛ فقد رُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَنهُ فِي الرجل يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ فَيَقُول: لم أَمسهَا، فَتَقول: قد مسني قَالَ: القَوْل قَوْلهَا ".
وَرُوِيَ عَن عمر، وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا: " إِذا أغلق بَابا، وأرخى سترا فقد وَجب الصَدَاق كَامِلا، وَعَلَيْهَا الْعدة ". وَرُوِيَ عَن زُرَارَة بن أوفى قَالَ: " قَضَاء الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين أَنه من أغلق بَابا، وأرخي سترا فقد وَجب الصَدَاق

(4/182)


وَالْعدة، هَذَا مُرْسل زُرَارَة (بن أوفى) لم يدركهم "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (213) :

(4/183)


(صفحة فارغه)

(4/184)


وللتي طَلقهَا زَوجهَا بعد الدُّخُول بهَا الْمُتْعَة على أحد الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَا مُتْعَة لَهَا ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ} الْآيَة، فَعم، وَلم يخص.

(4/185)


روى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: " لكل مُطلقَة مُتْعَة إِلَّا الَّتِي فرض لَهَا الصَدَاق، وَلم يدْخل بهَا، فحسبها نصف الْمهْر ".
وروى مَالك عَن نَافِع أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول: " لكل مُطلقَة مُتْعَة إِلَّا الَّتِي تطلق، وَقد فرض لَهَا صدَاق، وَلم يَمَسهَا، فحسبها نصف مَا فرض لَهَا ".
وَعنهُ عَن ابْن شهَاب أَنه كَانَ يَقُول: " لكل مُطلقَة مُتْعَة ".
وَرُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لما طلق حَفْص بن الْمُغيرَة امْرَأَته فَاطِمَة أَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ لزَوجهَا: مَتعهَا، قَالَ: لَا أجد مَا أمتعها، قَالَ: فَإِنَّهُ لَا بُد من الْمَتَاع، قَالَ: مَتعهَا، وَلَو نصف صَاع من تمر "، وَفَاطِمَة هَذِه هِيَ بنت قيس، وقصتها مَشْهُورَة فِي

(4/186)


الْعدة دَالَّة على أَنَّهَا كَانَت مَدْخُولا بهَا، وَالله أعلم.
وَرُوِيَ عَن سُوَيْد بن غَفلَة قصَّة طَلَاق الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ الخثعمية، وفيهَا: " فَبعث إِلَيْهَا الْحسن بِبَقِيَّة من صَدَاقهَا، وبمتعة عشْرين ألف دِرْهَم، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُول، وَرَأَتْ المَال، قَالَت: مَتَاع قَلِيل من خَلِيل مفارق ".
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " لكل مُطلقَة مُتْعَة، {وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ} ".
وروري عَن حميد الْأَعْرَج، وَابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: " لكل مُطلقَة مُتْعَة إِلَّا الَّتِي تطلق قبل أَن يدْخل بهَا، وَقد فرض لَهَا، فَلَا مُتْعَة لَهَا إِلَّا نصف صَدَاقهَا "، وَالله أعلم.

(4/187)


(صفحه فارغة)

(4/188)


كتاب الْقسم

وَمن كتاب الْقسم:
مَسْأَلَة (214) :

وَيُقِيم الزَّوْج فِي ابْتِدَاء الزفاف عِنْد الْبكر سبعا، وَعند الثّيّب ثَلَاثًا، ثمَّ لَا يقْضِي قدره لسَائِر نِسَائِهِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه يقْضِي ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا (سبعا، وَإِذا تزوج الثّيّب على الْبكر أَقَامَ عِنْدهَا) ثَلَاثًا "، قَالَ خَالِد: " وَلَو قلت: إِنَّه رَفعه لصدقت ".
وَعِنْده مُسلم عَن أم سَلمَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما تزوج أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: لَيْسَ بك على أهلك هوان، إِن شِئْت سبعت لَك، وَإِن سبعت لَك سبعت لنسائي ".

(4/189)


وَعِنْده أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين تزوج أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا، واصبحت عِنْده قَالَ: " أما لَيْسَ بك على أهلك هوان، إِن شِئْت سبعت عنْدك، وسبعت عِنْدهن وَإِن شِئْت ثلثت عنْدك، وَدرت، فَقَالَت: ثلث ".
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: للبكر سبع، وللثيب ثَلَاث ".
وَذَلِكَ إِضَافَة إِلَيْهَا بلام التَّمْلِيك، وَفصل بَين الْبكر وَالثَّيِّب. فَلَو كَانَ يقْضِي كَمَا زَعَمُوا لم يكن ذَلِك لَهَا، وَلَا للْفرق بَين الْبكر وَالثَّيِّب معنى، وَلما اخْتَارَتْ أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا حَقّهَا حَيْثُ قَالَت: " ثلث "، (ولكان) قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي التَّثْلِيث كَقَوْلِه فِي التسبيع. (فَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التسبيع) : " ثمَّ سبعت عِنْدهن "، وَقَالَ فِي التَّثْلِيث: " ثمَّ ردَّتْ "، واختارت هِيَ التَّثْلِيث علمنَا أَن التَّثْلِيث حَقّهَا من غير قَضَاء للبواقي. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (215) :

وَلَيْسَ للزَّوْج أَن يخرج بِوَاحِدَة من نِسَائِهِ إِلَى سَفَره بِغَيْر الْقرعَة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَهُ أَن يخرج بِمن شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْر

(4/190)


قرعَة ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا أَرَادَ سفرا اقرع بَين نِسَائِهِ، وأيتهن خرج سهمها خرج بهَا ". وَالله أعلم.

(4/191)


(صفحه فارغة)

(4/192)


كتاب الْخلْع

وَمن كتاب الْخلْع:
مَسْأَلَة (216) :

الْخلْع فسخ على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه طَلَاق بَائِن ".
روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي امْرَأَة طَلقهَا زَوجهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، ثمَّ اخْتلعت مِنْهُ أيتزوجها؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: " ذكر الله الطَّلَاق فِي أول الْآيَة وَآخِرهَا، وَالْخلْع بَين ذَلِك، فَلَيْسَ الْخلْع بِطَلَاق، ينْكِحهَا "، وروى الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بِمَعْنَاهُ.
وَعَن سُفْيَان عَن عَمْرو عَن عِكْرِمَة قَالَ: " كل شَيْء اجازه المَال، (فَلَيْسَ بِطَلَاق) ".
وَرُوِيَ عَن لَيْث عَن طَاوُوس أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا جمع بَين رجل وَامْرَأَته بعد طَلْقَتَيْنِ وخلع.

(4/193)


وَأما القَوْل الثَّانِي فروى إِبْرَاهِيم بن يزِيد الْمَكِّيّ عَن دَاوُد عَن ابْن الْمسيب قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخلْع تَطْلِيقَة "، هَذَا مُنْقَطع، وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد لَيْسَ بِقَوي.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن جهمان مولى الأسلميين عَن أم بكرَة الأسْلَمِيَّة أَنَّهَا اخْتلعت من زَوجهَا عبد الله بن أسيد، ثمَّ أَتَيَا عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: " هِيَ تَطْلِيقَة إِلَّا أَن تكون سميت شَيْئا، فَهُوَ على مَا سميت ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَلَا أعرف جهمان، وَلَا أم بكرَة بِشَيْء يثبت بِهِ خبرهما، وَلَا يردهُ ".

(4/194)


قَالَ أَبُو دَاوُد: " قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ الْخلْع تطليقه، قَالَ: لَا يَصح، فَقَالَ: مَا أَدْرِي جهمان، لَا أعرفهُ ".
قَالَ ابْن الْمُنْذر: " وَرُوِيَ عَن عُثْمَان، وَعلي، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم الْخلْع تطليقه بَائِنَة، وَحَدِيث عَليّ، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا فِي إسنادهما مقَال، وَلَيْسَ فِي الْبَاب أصح من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا " يُرِيد رَحمَه الله حَدِيث طَاوُوس ".
وروى عباد بن كثير عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل الْخلْع تطليقه بَائِنَة ".
وَعباد لَا يحْتَج بِهِ، وَكَيف يَصح هَذَا، وَمذهب عِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس خِلَافه؟ وَإِن يثبت فَأَرَادَ بِهِ إِذا نوى طَلَاقا أَو ذكره، وَالْقَصْد مِنْهُ قطع الرّجْعَة. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (217) :

المختلعة لَا يلْحقهَا الطَّلَاق. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يلْحقهَا صَرِيح الطَّلَاق دون كنايته ".

(4/195)


قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله " لم يَقع على المختلعة طَلَاق؛ لِأَنَّهَا لَيست بِزَوْجَة، وَلَا فِي مَعَاني الْأزْوَاج "، وَاحْتج بِانْقِطَاع الرّجْعَة، وَالْإِيلَاء، وَالظِّهَار، وَاللّعان، وَالْمِيرَاث بَين الزَّوْجَيْنِ، وَفِي مَوضِع آخر أَنه لَو مَاتَ لم تنْتَقل إِلَى عدَّة الْوَفَاة.
قَالَ: " أخبرنَا مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْمُخْتَلفَة يطلقهَا زَوجهَا، قَالَا: " لَا يلْزمهَا طَلَاق؛ لِأَنَّهُ طلق مَا لَا يملك ".
كَذَلِك رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا سئلا عَن امْرَأَة اخْتلعت، ثمَّ طَلقهَا زَوجهَا فِي الْعدة، قَالَا: " طلق مَا لم يملك "، فَهَذَا عَنْهُمَا صَحِيح، وَلَا يَصح عَن أحد من الصَّحَابَة خِلَافه.
استدلوا بِمَا روى الْفرج بن فضَالة بِسَنَدِهِ عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " للمختلعة طَلَاق مَا كَانَت فِي الْعدة "، وَهَذَا عَن أبي الدَّرْدَاء مَوْقُوف وَضَعِيف؛ فَإِن الْفرج بن فضَالة لَيْسَ بِقَوي.

(4/196)


وَرُوِيَ عَن أبي سَلمَة، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمَا قَالَا: " إِذا خالعت، ثمَّ طَلقهَا لزمَه مَا دَامَت فِي مَجْلِسه ".
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " يجْرِي الطَّلَاق على الَّتِي تَفْتَدِي من زَوجهَا مَا كَانَت فِي الْعدة "، وَهَذَا بَاطِل؛ فَإِنَّهُ عَن رجل مَجْهُول عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم، وَهُوَ غير مُحْتَج بِهِ، وَلم يدْرك ابْن مَسْعُود، وَلَا قاربه، فَهُوَ مُنْقَطع، وَضَعِيف، ومجهول، وَإِسْنَاده إِلَى عِيسَى الْعَسْقَلَانِي مظلم. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (218) :

عقد الطَّلَاق قبل عقد النِّكَاح لَا ينْعَقد بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ. وَقَالَ

(4/197)


الْعِرَاقِيُّونَ: " انْعَقَد، وَوَقع فِيهِ ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا طَلَاق من قبل نِكَاح ".
وَرُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: لَا طَلَاق لمن لَا يملك، وَلَا عتاق لمن لم يملك ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ " رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا طَلَاق إِلَّا بعد نِكَاح ". قَالَ ابْن صاعد: " هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا أعرف لَهُ عِلّة ".
وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن أبي بكر الصّديق، وَعلي بن أبي طَالب، وَابْن عَبَّاس، ومعاذ، وَزيد، وَأبي سعيد، وَعمْرَان، وَأبي مُوسَى، وَأبي هُرَيْرَة، والمسور، وَعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَأَصَح حَدِيث فِيهِ وأشهره حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده الَّذِي تقدم ذكره،

(4/198)


وَحَدِيث حَمَّاد بن خَالِد عَن هِشَام بن سعد عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَه البُخَارِيّ.
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " مَا قَالَهَا ابْن مَسْعُود، و (إِن يكن) قَالَهَا فزلة من عَالم فِي الرجل يَقُول: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين ءامنوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن} ، وَلم يقل: إِذا طلّقْتُم الْمُؤْمِنَات، ثمَّ نكحتموهن ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ".
وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن ابْن الْمسيب، وَأبي سَلمَة وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، وَعبيد الله بن عتبَة، وطاووس، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، ووهب بن مُنَبّه، وَعلي بن الْحُسَيْن، وَالْحسن، وَعِكْرِمَة، وَابْن جُبَير، وَأبي الشعْثَاء، وَنَافِع بن جُبَير، والقرطبي، وَمُجاهد.

(4/199)


وَهَذَا يدل على أَن عوام أهل الْعلم من الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ ذَهَبُوا إِلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وفهموا من الْأَخْبَار مَا فهمناه من أَن الطَّلَاق وَالْعتاق قبل الْملك لَا يعْمل بعد وُقُوع الْملك، وَأَن الَّذِي حمل من خَالَفنَا الْخَبَر عَلَيْهِ من عدم وُقُوعه قبل الْملك، ووقوعه بعده لَا معنى لَهُ، فَكل أحد يعلم أَن الطَّلَاق وَالْعتاق قبل الْملك لَا يَقع، وَإِنَّمَا قصد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَذَا النَّفْي عدم وُقُوعه بعد الْملك، حَتَّى يُفِيد الْخَبَر. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

(4/200)


كتاب الطَّلَاق وَالرَّجْعَة وَالْإِيلَاء

وَمن كتاب الطَّلَاق وَالرَّجْعَة وَالْإِيلَاء.
مَسْأَلَة (219) :

السّنة والبدعة فِي وَقت الطَّلَاق دون عدده. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " فِي وقته وعدده ".
لنا حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ طلقت امْرَأَتي، وَهِي حَائِض، قَالَ: " فَذكر ذَلِك عمر رَضِي الله عَنهُ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَقَالَ: ليراجعها، فَإِذا طهرت فَلْيُطَلِّقهَا "، قَالَ يَعْنِي ابْن سِيرِين: " فَقلت لَهُ يَعْنِي ابْن عمر يحْتَسب بهَا؟ قَالَ فَمه؟ ".
وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا من حَدِيث يُونُس بن جُبَير عَن ابْن عمر بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " فَقلت لِابْنِ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: فاحتسب بهَا؟ قَالَ: فَمَا يمنعهُ، أَرَأَيْت إِن عجز واستحمق؟ ".

(4/201)


وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي الزبير، قَالَ: " سَمِعت عبد الرَّحْمَن ابْن أَيمن يسْأَل عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رجل طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَقَالَ: إِن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض فَسَأَلَ عمر رَضِي الله عَنهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، فَقَالَ: مره فَلْيُرَاجِعهَا، فَإِذا طهرت فَلْيُطَلِّقهَا، أَو يمسك، قَالَ: " وَقَرَأَ {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لقبل عدتهن} ". وَكَانَ مُجَاهِد يقْرؤهَا هَكَذَا.

(4/202)


وَعِنْدَهُمَا أَيْضا عَنهُ انه طلق امْرَأَته، وَهِي حَائِض، فَذكر ذَلِك عمر لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتغيظ فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ليراجعها، ثمَّ يمْسِكهَا، حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض فَتطهر، فَإِن بدا لَهُ أَن يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا طَاهِرا قبل أَن يَمَسهَا، فَتلك الْعدة، كَمَا أَمر الله عز وَجل ".
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عِنْدهمَا عَن نَافِع عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَزَاد " فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تطلق لَهَا النِّسَاء "، وَكَانَ ابْن عمر إِذا سُئِلَ عَن ذَلِك قَالَ لأَحَدهم: " إِن كنت طَلقتهَا ثَلَاثًا فقد حرمت عَلَيْك حَتَّى تنْكح زوجا غَيْرك، وعصيت الله فِيمَا أَمرك من طَلَاق امْرَأَتك ".
وَفِي أُخْرَى عِنْد مُسلم أَن ابْن عمر طلق امْرَأَته تَطْلِيقَتَيْنِ، وَهِي حَائِض، فَذكره.
قَالَ: " وَكَانَ ابْن عمر إِذا سُئِلَ عَن الرجل يُطلق امْرَأَته، وَهِي حَائِض، يَقُول: أما أَنْت طَلقتهَا وَاحِدَة، أَو ثِنْتَيْنِ فَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أَن يُرَاجِعهَا، ثمَّ يُمْهِلهَا حَتَّى تحيض حَيْضَة أُخْرَى، ثمَّ يُمْهِلهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ يطلقهَا قبل أَن يَمَسهَا. وَأما أَنْت طَلقتهَا ثَلَاثًا فقد

(4/203)


عصيت الله فِيمَا أَمرك بِهِ من طَلَاق امْرَأَتك، وَبَانَتْ مِنْك ".
وَأكْثر الرِّوَايَات عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أَن يُرَاجِعهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ إِن شَاءَ طلق، وَإِن شَاءَ أمسك. فَإِن كَانَت الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن سَالم ثمَّ عَن نَافِع، وَابْن دِينَار فِي أمره بِأَن يُرَاجِعهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر مَحْفُوظَة.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " هَذَا يحْتَمل أَن يكون إِنَّمَا أَرَادَ بذلك الِاسْتِبْرَاء أَن يكون يَسْتَبْرِئهَا بعد الْحَيْضَة الَّتِي طَلقهَا فِيهَا بطهر تَامّ، ثمَّ حيض تَامّ؛ ليَكُون تطليقها، وَهِي تعلم عدتهَا: آلحمل هِيَ، أم الْحيض، وليكون تطليقها بعد علمه بِحمْل، وَهُوَ غير جَاهِل مَا يصنع، أَو يرغب، فَيمسك للْحَمْل، وليكون إِن كَانَت سَأَلت الطَّلَاق غير حَامِل أَن يكف عَنهُ حَامِلا ".
وَرَوَاهُ عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن الْحسن عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِيه زِيَادَة، وَاخْتِلَاف لفظ، وَعَطَاء تكلمُوا فِيهِ، وَالْحسن قيل: إِنَّه لم يسمع من ابْن عمر.

(4/204)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث عُوَيْمِر الْعجْلَاني حِين لَاعن امْرَأَته، وَقَالَ: " فَطلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يَأْمُرهُ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَفِيهِمَا أَيْضا حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا جَاءَت امْرَأَة رِفَاعَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: " إِنِّي كنت عِنْد رِفَاعَة، فطلقني، فَبت طَلَاقي " الحَدِيث.
وَفِيهِمَا أَيْضا عَنْهَا أَن رجلا طلق امْرَأَته، فَتزوّجت، فَطلقهَا قبل أَن يَمَسهَا، فَسئلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتحل للْأولِ؟ قَالَ: " لَا حَتَّى يَذُوق عسيلتها، كَمَا ذاق الأول ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت قيس قَالَت: " يَا رَسُول الله، زَوجي طَلقنِي ثَلَاثًا " الحَدِيث، فقد ذكر عِنْده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَلَاق الثَّلَاث، وَأخْبر بِمن فعله، فَلم يُنكر ذَلِك، وَلَو كَانَ مَحْظُورًا لبينه بِصَرِيح، أَو نبه عَلَيْهِ بتعريض؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث مُبينًا، فَلَمَّا لم يفعل ثَبت بذلك أَنه مُبَاح، وَلَيْسَ بِحرَام.

(4/205)


وَقد رُوِيَ أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ طلق امْرَأَته الْبَتَّةَ، وَهُوَ مَرِيض، فَورثَهَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مِنْهُ بعد انْقِضَاء عدتهَا، فقد فعله مثل عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَبلغ ذَلِك عُثْمَان، واشتهر بَين الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَلم ينْقل عَن أحد مِنْهُم أَنه أنكرهُ، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي توريثها مِنْهُ. وَزَاد بَعضهم فِي هَذِه الرِّوَايَة، قَالَ عبد الرَّحْمَن: " مَا فَرَرْت من كتاب الله ".
وَقد استفتي ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عمر، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم فِي مسَائِل، وَأَجَابُوا عَنْهَا، وفيهَا ذكر الثَّلَاث، فَلم يعيبوا ذَلِك.
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ للَّذي زعم أَنه طلق امْرَأَته ألفا: " إِنَّمَا يَكْفِيك من ذَلِك ثَلَاث، وضربه بِالدرةِ ".
وَمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لرجل قَالَ لَهُ إِنَّه طلق امْرَأَته ثَلَاثًا: " عصيت رَبك، وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتك، وَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن فِي قبل عدتهن} ، فَيحْتَمل أَنه إِنَّمَا سُئِلَ عَمَّن طلق امْرَأَته، وَهِي

(4/206)


حَائِض "، فقد رُوِيَ عَنهُ بِخِلَافِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن عمرَان بن حُصَيْن، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " طَلَاق السّنة أَن يطلقهَا طَاهِرا من غير جماع ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (220) :

لم يذكرهَا، وَإِذا قَالَ لامْرَأَته الْمَدْخُول بهَا: " أَنْت بتة، أَو بتلة، أَو خلية، أَو بَريَّة، أَو بَائِن، أَو حرَام "، وَأَرَادَ بِهِ الطَّلَاق، كَانَ رَجْعِيًا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " تكون بَائِنا ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن عَمه مُحَمَّد بن عَليّ بن شَافِع عَن عبد الله بن عَليّ بن السَّائِب عَن نَافِع بن عجير بن عبد يزِيد أَن

(4/207)


ركَانَة بن عبد يزِيد طلق امْرَأَته سهيمة المزنية الْبَتَّةَ، ثمَّ أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنِّي طلقت امْرَأَتي سهيمة الْبَتَّةَ، وَوَاللَّه مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة "، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لركانة: " وَالله مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة؟ " فَقَالَ ركَانَة: " وَالله مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة "، فَردهَا إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَطلقهَا الثَّانِيَة فِي زمَان عمر، وَالثَّالِثَة فِي زمَان عُثْمَان، رَضِي الله عَنْهُم.
وَعند أبي دَاوُد (عَن مُحَمَّد بن يُونُس عَن عبد الله بن الزبير عَن الشَّافِعِي) بِنَحْوِهِ ".
وروى سُفْيَان عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول فِي الخلية، والبرية، والبتة، والبائنة: " وَاحِدَة،

(4/208)


وَهُوَ أَحَق بهَا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (221) :

وَإِذا قَالَ: " أَنْت بَائِن "، وَنوى بِهِ طَلْقَتَيْنِ وقعتا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " تقع وَاحِدَة ".
دليلنا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى ". وَحَدِيث ركَانَة الَّذِي تقدم.
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلَاث جدهن جد، وهزلهن جد: النِّكَاح، وَالطَّلَاق، وَالرَّجْعَة "، وَهَذَا قد نوى طَلْقَتَيْنِ، فَلَا يلغى أَحدهمَا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (222) :

لم يذكرهَا، وَإِذا قَالَ لَهَا: " اخْتَارِي نَفسك "، وَنوى بِهِ طَلْقَة،

(4/209)


فَاخْتَارَتْ نَفسهَا، ونوت بِهِ طَلْقَة، وَقعت طَلْقَة رَجْعِيَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " طَلْقَة بَائِنَة ".
رُوِيَ عَن عمر، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: " إِذا خَيرهَا، فَاخْتَارَتْ نَفسهَا فَهِيَ وَاحِدَة، وَهُوَ أَحَق بهَا، فَإِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء ". وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مثله.
وَعَن خَارِجَة عَن أَبِيه زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة أَنه كَانَ يَجْعَلهَا ثَلَاثًا، عَن إِبْرَاهِيم عَن زيد.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن سعيد بن سُلَيْمَان بن زيد عَن خَارِجَة بن زيد أَنه كَانَ جَالِسا عِنْد زيد فَأتى مُحَمَّد بن أبي عَتيق، وَعَيناهُ تدمعان، فَقَالَ لَهُ: " مَا شَأْنك؟ " فَقَالَ: " ملكت امْرَأَتي أمرهَا، ففارقتني "، فَقَالَ لَهُ زيد: " مَا حملك على ذَلِك؟ "، فَقَالَ لَهُ: " الْقدر "، فَقَالَ لَهُ زيد: " ارتجعها إِن شِئْت، فَإِنَّمَا هِيَ وَاحِدَة، وَأَنت أملك بهَا ".

(4/210)


وَعنهُ عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول: " إِذا ملك الرجل امْرَأَته فالقضاء مَا قَضَت إِلَّا أَن يناكرها الرجل، فَيَقُول: لم أرد إِلَّا تطليقه وَاحِدَة، فَيحلف على ذَلِك، وَيكون أملك بهَا مَا دَامَت فِي عدتهَا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ مَا يُوَافق قَوْلنَا، وَهُوَ مُوَافقَة السّنة الثَّابِتَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " خيرنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاخترناه، فَلم يكن ذَلِك طَلَاقا.
وَرُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: " دخلت أَنا وَأَبُو السّفر على أبي جَعْفَر، فَسَأَلته عَن التَّخْيِير: عَن رجل خير امْرَأَته فَاخْتَارَتْ نَفسهَا. قَالَ: فَلَيْسَتْ بِشَيْء، قُلْنَا: فَإِن أُنَاسًا يروون عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فتطليقة، وَزوجهَا أَحَق برجعتها، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فتطليقة بَائِنَة، وَهِي أملك بِنَفسِهَا، قَالَ: هَذَا وجدوه فِي الصُّحُف ".
وَرُوِيَ عَن مَسْرُوق عَن عبد الله أَنه قَالَ: " إِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته

(4/211)


استفلحي بِأَمْرك، أَو أَمرك لَك، أَو وَهبهَا لأَهْلهَا، فَهِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة ".
وَرُوِيَ عَن مَسْرُوق: " إِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته: استفلحي أَمرك، أَو اخْتَارِي، أَو وَهبهَا لأَهْلهَا، فَهِيَ وَاحِدَة بَائِنَة ". قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: " وَسَأَلت سُفْيَان، فَقَالَ: هُوَ عَن مَسْرُوق، يَعْنِي أَنه لم يقل: عَن عبد الله ".
(وَقد رُوِيَ عَن شريك عَن أبي حُصَيْن فِي الْهِبَة، فقبلوها، فَهِيَ تَطْلِيقَة، وَهُوَ أَحَق بهَا) ".
وَرُوِيَ عَن عمر، وَعبد الله، وَزيد فِيمَن جعل أَمر امْرَأَته بِيَدِهَا، فَطلقت نَفسهَا ثَلَاثًا، أَنَّهَا وَاحِدَة، وَهُوَ أَحَق بهَا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (223) :

وَقَول الرجل لامْرَأَته: " أَنْت عَليّ حرَام "، صَرِيح فِي التَّحْرِيم،

(4/212)


على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَالْكَفَّارَة فِيهِ تجب بِنَفس اللَّفْظ، كَمَا لَو نوى بِهِ التَّحْرِيم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه يَمِين بِلَفْظِهِ دون الْإِرَادَة، وَالْكَفَّارَة فِيهِ تجب بِالْحلف فِيهَا ".
قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} الْآيَتَيْنِ.
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله عز وَجل: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} أَمر الله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْمُؤمنِينَ إِذا حرمُوا شَيْئا مِمَّا أحل الله تَعَالَى أَن يكفروا عَن أَيْمَانهم بإطعام عشرَة مَسَاكِين، أَو كسوتهم، أَو تَحْرِير رَقَبَة، وَلَيْسَ فِي ذَلِك الطَّلَاق ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ قَالَ " إِذا حرم الرجل عَلَيْهِ امْرَأَته فَهِيَ يَمِين يكفرهَا، وَقَالَ: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} ".
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَالله أعلم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حرم على نَفسه جَارِيَته، فَنزل {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} ، فَأخْبر أَنَّهَا لَا تحرم عَلَيْهِ بذلك، وَأمر بكفارة الْيَمين، دون شَرط الْحلف.
فعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " فَهِيَ يَمِين يكفرهَا "،

(4/213)


أَي هِيَ كاليمين فِي امْتنَاع وُقُوع تَحْرِيم الْفرج بذلك، وَفِي وجوب الْكَفَّارَة، (لَا أَن) الْكَفَّارَة تجب فِيهَا بِالْحلف؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لبينه، وَيدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ. وَهَكَذَا معنى قَول غَيره: " إِنَّهَا يَمِين يكفرهَا "، وَالله أعلم.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة، وَالَّتِي تَلِيهَا لم اخْرُج فِيهَا جَمِيع مَا نقل إِلَيّ عَن الصَّحَابَة وَالسَّلَف الصَّالِحين رَضِي الله عَنْهُم لكثرته، وهأنا أستخير الله تَعَالَى فِيهِ لاختيار أقرب الْأَقْوَال فِيهَا إِلَى الصَّوَاب، وَالله الْمُوفق لذَلِك برحمته.
رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " فِي الْحَرَام يَمِين ".
وَعَن ابْن عمر، وَزيد فِيمَن قَالَ لامْرَأَته: " أَنْت عَليّ حرَام "، قَالَا: " كَفَّارَة يَمِين "، وَالله أعلم.
وَعَن عَامر فِي الرجل يَجْعَل امْرَأَته عَلَيْهِ حَرَامًا، قَالَ: " يَقُولُونَ: إِن عليا جعلهَا ثَلَاثًا ".

(4/214)


قَالَ عَامر: " مَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ هَذَا، إِنَّمَا قَالَ: لَا أحلهَا، وَلَا أحرمهَا عَلَيْهِ "، وَالله أعلم.
مسالة (224) :

وَإِذا حرم على نَفسه الطَّعَام وَالشرَاب لم يلْزمه كَفَّارَة. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يلْزمه كَفَّارَة الْيَمين ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة لنا على سَبَب نزُول آيَة التَّحْرِيم، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَروِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت لَهُ أمة يَطَؤُهَا، فَلم تزل بِهِ حَفْصَة حَتَّى جعلهَا على نَفسه حَرَامًا، فَأنْزل الله عز وَجل هَذِه الْآيَة: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك} الْآيَة، قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح "، فالآية فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين نزلت فِي تَحْرِيم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَارِيَة الْقبْطِيَّة،

(4/215)


فَكَانَ ذَلِك تَحْرِيم فرج، فقاس عَلَيْهِ الشَّافِعِي تَحْرِيم الرجل عَلَيْهِ فرج امْرَأَته فِي تعلق الْكَفَّارَة بِهِ.
فَأَما الطَّعَام فَإِنَّهُ يُفَارق تَحْرِيم الْفرج، فَلم يتَعَلَّق بِتَحْرِيمِهِ وجوب الْكَفَّارَة، على أَن مَسْرُوق بن الأجدع ذهب إِلَى أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آلى وَحرم، فوجوب الْكَفَّارَة تعلق بالإيلاء، لَا بِالتَّحْرِيمِ. وَرُوِيَ ذَلِك عَنهُ عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، والمرسل أصح.
وَإِلَى مثل ذَلِك ذهب قَتَادَة، وَهُوَ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لحفصة: " اسكتي، فوَاللَّه لَا أقربها، وَهِي عَليّ حرَام ".
وَكَذَلِكَ قَالَ زيد بن أسلم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حرم أم إِبْرَاهِيم، قَالَ: " أَنْت عَليّ حرَام، وَالله لَا أمسك، فَأنْزل الله عز وَجل فِي ذَلِك مَا أنزل ".
وَأما حَدِيث عَائِشَة فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يمْكث عِنْد زَيْنَب، وَيشْرب عِنْدهَا عسلا الحَدِيث، وَفِيه قَالَ: " شربت عسلا

(4/216)


عِنْد زَيْنَب، وَلنْ أَعُود لَهُ، فَنزلت: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك ... إِلَى ... إِن تَتُوبَا إِلَى الله} لعَائِشَة وَحَفْصَة (وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا " لقَوْله: " بل شربت عسلا ".
وَفِي رِوَايَة لهَذَا الحَدِيث عِنْد البُخَارِيّ قَالَ: " وَلنْ أَعُود لَهُ، وَقد حَلَفت، فَلَا تُخْبِرِي بذلك أحدا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشرب من شراب عِنْد سَوْدَة من الْعَسَل، فَدخل على عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَقَالَت: إِنِّي أجد مِنْك ريحًا، (ثمَّ دخل على حَفْصَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَقَالَت: إِنِّي أجد مِنْك ريحًا "، فَقَالَ: إِنِّي أرَاهُ من شراب شربته عِنْد سَوْدَة، وَالله لَا أشربه، فَنزلت هَذِه الْآيَة (يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك (، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَإِن كَانَ يُخَالف الأول فِي اسْم من كَانَ يشرب عِنْدهَا، فَفِيهِ زِيَادَة مَحْفُوظَة، وَهِي قَوْله: " وَالله لَا أشْرب "، فَحلف بقوله: " وَالله "، فَلذَلِك تعلّقت بِهِ الْكَفَّارَة، إِن كَانَت الْآيَة نزلت فِيهِ، وَالله أعلم.

(4/217)


وَرُوِيَ عَن مَسْرُوق قَالَ: " أُتِي عبد الله بضرع، فَقَالَ للْقَوْم: ادْنُوا، فَأخذُوا يطعمونه، فَكَانَ رجل مِنْهُم نَاحيَة، فَقَالَ عبد الله: ادن، فَقَالَ: إِنِّي لَا أريده، فَقَالَ: لم؟ ، قَالَ: لِأَنِّي حرمت الضَّرع، فَقَالَ عبد الله: هَذَا من خطوَات الشَّيْطَان، فَقَالَ عبد الله: {يَا أَيهَا الَّذين ءامنوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} ، ادن، فَكل، وَكفر عَن يَمِينك؛ فَإِن هَذَا من خطوَات الشَّيْطَان. قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " لَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة إِيجَاب الْكَفَّارَة بِالتَّحْرِيمِ، وَيُشبه أَن يكون الرجل حرمه على نَفسه، وَحلف أَن لَا يعود إِلَى أكله، فَلذَلِك أمره ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بِالْكَفَّارَةِ، أَلا ترَاهُ قَالَ: وَكفر عَن يَمِينك، فعلق وجوب الْكَفَّارَة بِالْيَمِينِ، لَا بِالتَّحْرِيمِ "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (225) :

وَلَا يَقع طَلَاق الْمُكْره إِلَّا أَن يُرِيد وُقُوعه. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه وَاقع ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ وتقدست أسماؤه: {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} ، وللكفر أَحْكَام، فَلَمَّا وضع الله تَعَالَى عَنهُ سَقَطت أَحْكَام الْإِكْرَاه عَن

(4/218)


القَوْل كُله؛ لِأَن الْأَعْظَم إِذا سقط عَن النَّاس سقط مَا هُوَ أَصْغَر مِنْهُ "، وَبسط الْكَلَام فِي بَيَان الْإِكْرَاه، ثمَّ قَالَ: " فَإِذا خَافَ هَذَا سقط عَنهُ حكم مَا أكره عَلَيْهِ من قَول مَا كَانَ القَوْل "، فَذكر البيع، وَالنِّكَاح، وَالطَّلَاق، وَالْعتاق، وَالْإِقْرَار.
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تجَاوز الله عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ "، قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح ".
وَرُوِيَ عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " غن الله تجَاوز عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ".
وَفِي رِوَايَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وضع عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ "، قَالَ أَبُو عبد الله: " تفرد بِهِ الْوَلِيد بن مُسلم عَن مَالك، وَهُوَ غَرِيب، صَحِيح ".
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا طَلَاق،

(4/219)


وَلَا عتاق فِي إغلاق "، قَالَ الْخطابِيّ: " معنى الإغلاق الْإِكْرَاه ".
وروى مَالك عَن ثَابت بن الْأَحْنَف أَنه تزوج أم ولد لعبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب قَالَ: " فدعاني عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، فَجِئْته فَدخلت عَلَيْهِ، فَإِذا بسياط مَوْضُوعَة، (وَإِذا قيدان) من حَدِيد، (وعبدان) لَهُ قد أجلسهما، فَقَالَ: " طَلقهَا، وَإِلَّا - وَالَّذِي يحلف بِهِ - فعلت بك كَذَا وَكَذَا " فَقلت: " هِيَ الطَّلَاق ألفا "، قَالَ: " فَخرجت من عِنْده، فأدركت عبد الله بن عمر بطرِيق مَكَّة، فَأَخْبَرته بِالَّذِي كَانَ من شأني، فتغيظ عبد الله، وَقَالَ: " لَيْسَ ذَلِك بِطَلَاق، وَإِنَّهَا لم تحرم عَلَيْك، فَارْجِع إِلَى أهلك "، قَالَ: " فَلم تقر نَفسِي حَتَّى أتيت عبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِمَكَّة، فَأَخْبَرته بِالَّذِي كَانَ من شأني، وَالَّذِي قَالَ لي عبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ لي عبد الله بن الزبير: " لم تحرم عَلَيْك،

(4/220)


فَارْجِع إِلَى أهلك "، قَالَ: " وَكتب إِلَى جَابر بن الْأسود الزُّهْرِيّ، وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة يؤمئذ، فَأمره أَن يُعَاقب عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، وَأَن يخلي بيني وَبَين أَهلِي ".
وَرُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لم يجز طَلَاق الْمُكْره.
وَعَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء، وَعبد الله بن عبيد أَنَّهُمَا ألغيا طَلَاق الْمُكْره.
وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن اللَّيْث عَن عَطاء وَطَاوُس قَالَا: " طَلَاق المستكره لَيْسَ بِشَيْء ".
وَعَن سماك عَن الْحسن قَالَ: " لَيْسَ بِشَيْء ". ورويناه عَن جَابر بن زيد، وَعِكْرِمَة، وَعمر بن عبد الْعَزِيز.
وَرُوِيَ عَن الْحسن عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " طَلَاق

(4/221)


الْمُكْره لَيْسَ بِطَلَاق ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى عَطاء بن عجلَان عَن عِكْرِمَة بن خَالِد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " كل الطَّلَاق جَائِز إِلَّا طَلَاق الْمَعْتُوه، والمغلوب على عقله "، تفرد بِهِ عَطاء، وَعِكْرِمَة بن خَالِد لم يدْرك أَبَا هُرَيْرَة، وَقد روى عَنهُ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَكَيف مَا رَوَاهُ فَهُوَ مَتْرُوك مَنْسُوب إِلَى الْوَضع، يَعْنِي عَطاء بن عجلَان، وَقد روينَاهُ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ لَا يُجِيز طَلَاق الْمُكْره.
وَإِنَّمَا الرِّوَايَة فِيهِ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ. وَقد روينَا فِيهِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه لَا يَقع، فَيحْتَمل أَنه رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ طَلَاق الْمَعْتُوه وَمن فِي مَعْنَاهُ.
وَرُوِيَ عَن عبد الْملك بن قدامَة عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن

(4/222)


حَاطِب الجُمَحِي عَن أَبِيه أَن رجلا تدلى يشتار عسلا فِي زمَان عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَته، فوقفت على الْحَبل، فَحَلَفت لتقطعنه، أَو لتطلقني ثَلَاثًا، فَذكرهَا الله وَالْإِسْلَام، فَأَبت إِلَّا ذَلِك، فَطلقهَا ثَلَاثًا، فَلَمَّا ظهر أَتَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَذكر لَهُ مَا كَانَ مِنْهَا إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: " ارْجع إِلَى أهلك، فَلَيْسَ هَذَا بِطَلَاق "، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ.
وَرَوَاهُ (أَبُو عبيد) عَن قدامَة بِهَذِهِ الْقِصَّة، قَالَ: " فَرفع إِلَى عمر، رَضِي الله عَنهُ، فَأَبَانَهَا مِنْهُ " ثمَّ قَالَ أَبُو عبيد: " وَقد رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ بِخِلَافِهِ ". قَالَ: " ويروى عَن عَليّ، وَابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَابْن الزبير، وَعَطَاء، وَعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر رَضِي الله عَنْهُم أَنهم كَانُوا يرَوْنَ طَلَاقه غير جَائِز "، وَكَأن أَبَا عبيد تنبه لخطأ وَقع فِي رِوَايَته فَقَالَ ذَلِك، والْحَدِيث مُنْقَطع.

(4/223)


وَلَا حجَّة لَهُم فِيمَا استدلوا بِهِ من حَدِيث حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَابْنه رَضِي الله عَنْهُمَا حِين أَخذ عَلَيْهِمَا الْمُشْركُونَ عهد الله أَن ينصرفا إِلَى الْمَدِينَة، وَلَا يقاتلا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلَيْسَ فِيهِ أَن الْمُشْركين أكرهوهما على الْيَمين والعهد، (وَكَانَ) هَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام قبل ثُبُوت الْأَحْكَام، وَالْيَوْم فَلَو حلف على ترك قتال الْمُشْركين، فَإنَّا نأمره بِأَن يَحْنَث نَفسه، وَيُقَاتل الْمُشْركين، فَإِن قِتَالهمْ خير مِمَّا حلف عَلَيْهِ من تَركه.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاث جدهن جد، وهزهن جد: الطَّلَاق، وَالنِّكَاح، وَالرَّجْعَة، قُلْنَا: " هَذَا لَيْسَ من الْإِكْرَاه فِي شَيْء؛ لِأَن الْمُكْره لَيْسَ بجاد، وَلَا هازل "، وَالله أعلم.
مسالة (226) :

(4/224)


(صفحه فارغة)

(4/225)


(صفحه فارغة)

(4/226)


وَطَلَاق السَّكْرَان لَا يَقع على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا القَوْل الَّذِي تفرد الْمُزنِيّ رَحمَه الله بنقله واختياره. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا كَانَ يُمَيّز بَين الْأَجْنَبِيّ وَامْرَأَته يَقع طَلَاقه ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن بُرَيْدَة رَضِي الله عَنهُ حَدِيث مَاعِز: أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فيمَ أطهرك؟ " فَقَالَ: " من الزِّنَا "، فَسَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أبه جُنُون؟ فَأخْبر أَنه لَيْسَ بمجنون، فَقَالَ: " أشربت خمرًا؟ " فَقَامَ رجل فاستنكهه فَلم يجد مِنْهُ ريح خمر ".
قَالَ أَصْحَابنَا: " إِنَّمَا سَأَلَهُ عَن شربه الْخمر لكَي يبطل إِقْرَاره بِالزِّنَا إِن كَانَ سكرانا، وَإِذا كَانَ إِقْرَاره بِالزِّنَا سَاقِطا كَانَ طَلَاقه هدرا ".

(4/227)


ودوي عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا طَلَاق للسكران، وَلَا للمعتوه ".
وَعَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: " قرئَ علينا كتاب عمر بن عبد الْعَزِيز بِالْمَدِينَةِ يذكر فِيهِ السّنة، فَذكر فِيمَا يذكر: وَأَن طَلَاق السَّكْرَان لَيْسَ بجائز ".
وَعنهُ قَالَ: " سَمِعت أبان بن عُثْمَان وَهُوَ أَمِير علينا بِالْمَدِينَةِ سُئِلَ عَن طَلَاق السَّكْرَان فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْء ".
وَعَن رَجَاء بن حَيْوَة: " قَرَأَ علينا عبد الْملك بن مَرْوَان كتاب مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِي اله عَنْهُمَا فِيهِ السّنَن: أَن كل وَاحِد طلق امْرَأَته جَائِز أَلا الْمَجْنُون ".

(4/228)


رُوِيَ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز إِنَّمَا ذهب إِلَى ذَلِك لِأَن أبان بن عُثْمَان أخبرهُ عَن أَبِيه أَنه قَالَه.
وَاسْتَدَلُّوا بقول عَليّ لعمر حِين استشارهم فِي الْخمر يرى أَن يجلده ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ إِذا شرب سكر، وَإِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، أَو كَمَا قَالَ، رَوَاهُ مَالك عَن ثَوْر بن يزِيد.
قَالُوا: " فقد جعل لقذفه حكم ". قَالَ أَصْحَابنَا: " هَذَا دليلنا؛ لِأَنَّهُ جعل قَوْله هذيانا، وَإِنَّمَا جلده ثَمَانِينَ للشُّرْب، لَا للقذف؛ إِذْ لَو كَانَ للقذف لأضاف إِلَيْهِ حد الشّرْب، وَقَوله رَضِي الله عَنهُ يدل على أَنه للشُّرْب ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ قَالَ: " مَا من رجل أَقمت عَلَيْهِ حدا فَمَاتَ

(4/229)


فأجده فِي نَفسِي إِلَّا الْخمر؛ فَإِنَّهُ إِن مَاتَ وديته؛ لِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد فِي الْخمر بِالْجَرِيدِ وَالنعال ثمَّ جلد أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ ودنا النَّاس (من الرِّيف والقرى) فَقَالَ: " إِن النَّاس قد دنوا من الرِّيف فَمَا ترَوْنَ فِي حد الْخمر؟ " فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ: " أرى أَن تجعلها كأخف الْحُدُود "، (فجلد فِيهِ ثَمَانِينَ)
".
وَقَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلَاث جدهن جد، وهزلهن جد "، وَمن زَالَ عقله بسكر أَو غَيره لم يكن لَهُ جد، وَلَا هزل، فَلَا يَقع طَلَاقه، كَالْمَجْنُونِ.
وَكَذَلِكَ قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " كل الطَّلَاق جَائِز إِلَّا طَلَاق

(4/230)


الْمَعْتُوه "، وَهَذَا لَا يُخَالف قَول عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ؛ فالمعتوه إِنَّمَا لم يَقع طَلَاقه لزوَال عقله، والسكران فِي مَعْنَاهُ.
وَهَكَذَا الْجَواب عَمَّا رُوِيَ عَن كتاب مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " إِن طَلَاق السَّكْرَان يَقع، فزوال عقله كَانَ بِمَعْصِيَة، فَلم يكن سَببا مَانِعا من وُقُوع طَلَاقه ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (227) :

والمبتوتة فِي مرض الْمَوْت لَا تَرث على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا تَرث ".
رُوِيَ عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: " سَأَلت عبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنهُ عَن رجل يُطلق امْرَأَته فِي مَرضه فيبتها، قَالَ: أما عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فيورثها، وَأما أَنا فَلَا أرى أَن أورثها ببينونته إِيَّاهَا ".
وَفِي رِوَايَة عَنهُ: " أطلق عبد الرَّحْمَن بن عَوْف تماضر بنت الإصبغ الْكَلْبِيَّة فبتها، ثمَّ مَاتَ وَهِي فِي عدتهَا، فَورثَهَا عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَأما أَنا فَلَا أرى أَن تَرث مبتوتة ".

(4/231)


وَعبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنهُ قد عاصر الصَّحَابَة الْمُتَقَدِّمين، وَصَارَ من فقهائهم، وَالرِّوَايَة عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مُخْتَلفَة.
فَروِيَ عَنهُ أَنه ورثهَا فِي الْعدة، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه ورثهَا بعد انْقِضَاء الْعدة وهم لَا يَقُولُونَ بِهِ. رَوَاهُ مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف، وَقَالَ: " وَكَانَ أعلمهم بذلك ".
وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَرُوِيَ عَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَيْضا " أَنه ورث أم حَكِيم بنت قارظ بن عبد الله بن مكمل بعد مَا (حلت) ".
وروى مَالك عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن: " بَلغنِي أَن امْرَأَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف سَأَلته أَن يطلقهَا، فَقَالَ لَهَا: إِذا حِضْت ثمَّ طهرت فآذنيني فَلم تَحض حَتَّى مرض عبد الرَّحْمَن، فَلَمَّا طهرت آذنته، فَطلقهَا الْبَتَّةَ، أَو تَطْلِيقَة لم يكن بَقِي لَهُ عَلَيْهَا من الطَّلَاق غَيرهَا، وَعبد الرَّحْمَن يَوْمئِذٍ مَرِيض، فَورثَهَا عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ بعد انْقِضَاء عدتهَا ".
وَهَذَا يُؤَكد مَا مضى لنا، وَفِيه أَنَّهَا سَأَلت الطَّلَاق، وَعِنْدهم إِذا سَأَلته لم تَرث، فقد خالفوا عُثْمَان فِي هَذِه الْقَضِيَّة. وَنحن وَإِن قُلْنَا بتوريث المبتوتة فَلَا نخالفه فِي توريثها بعد انْقِضَاء الْعدة.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَالَّذِي أخْتَار إِن ورثت بعد مُضِيّ الْعدة

(4/232)


أَن تَرث مَا لم تزوج، فَإِن تزوجت فَلَا تَرثه؛ فترث زَوْجَيْنِ، وَتَكون كالتاركة لحقها بِالتَّزْوِيجِ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " حَيْثُ لَا تَرث المبتوتة أتبع فِي ذَلِك من الصَّحَابَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَعبد الله بن الزبير. وَفِي القَوْل الآخر أخْتَار أَن ورثت مِنْهُ (أَن تَرث) مَا لم تتَزَوَّج "، وَتبع فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَمَا رُوِيَ عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ فِي توريثها بعد انْقِضَاء الْعدة مَا لم تتَزَوَّج.
والعراقيون قد خالفوا الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَقَالَ غَيرهم يَعْنِي غير الصَّحَابَة من أهل الْحجاز، (وهم الْعِرَاقِيُّونَ) تَرثه مَا لم تنقض الْعدة ".
وَرَوَاهُ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بِإِسْنَاد لَا يثبت مثله عِنْد أهل الحَدِيث، رُوِيَ عَن الْمُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر: " تَرثه فِي الْعدة، وَلَا يَرِثهَا ". وَهَذَا مُنْقَطع، وَلم يسمعهُ مُغيرَة من إِبْرَاهِيم. ,
إِنَّمَا رَوَاهُ عُبَيْدَة الضَّبِّيّ، وَالرِّوَايَة عَنهُ فِيهِ مُخْتَلفَة، مَعَ أَنه

(4/233)


غير مُحْتَج بِهِ عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ. قَالَ يحيى بن سعيد: " كَانَ ثِقَة، يرْوى حَدِيث الْمُغيرَة عَن عُبَيْدَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر فِي الَّذِي يُطلق امْرَأَته وَهُوَ مَرِيض، وَكَانَ هشيم يَقُول: " ذكر عُبَيْدَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر "، قَالَ يحيى بن سعيد: " فَسَأَلت عُبَيْدَة عَنهُ فحدثنا عَن إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ أَن ابْن هُبَيْرَة كتب إِلَى شُرَيْح، وَلَيْسَ عَن عمر ".
وَفِي رِوَايَة عَن مُغيرَة عَنهُ عَن إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ فِي هَذَا الْكتاب يَعْنِي عُرْوَة الْبَارِقي، وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كتب إِلَى شُرَيْح بِخمْس جَاءَ بِهن، يَعْنِي عُرْوَة: " وَإِذا طلق الرجل امْرَأَته ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيض تَرثه مَا دَامَت فِي عدتهَا ".
فَالرِّوَايَة لهَذَا الحَدِيث كَمَا ترى.
وَأما حَدِيث أَشْعَث عَن الشّعبِيّ " أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ طلق امْرَأَته وَهُوَ مَحْصُور ثَلَاثًا، فَورثَهَا عَليّ، رَضِي الله عَنهُ "، فَإِنَّهُ مُنْقَطع، وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة؛ فعثمان رَضِي الله عَنهُ طَلقهَا ثَلَاثًا وَهُوَ صَحِيح، وكلامنا فِيمَن طلق فِي مرض مَوته. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (228) :

وَإِذا طلق امْرَأَته طَلْقَة أَو طَلْقَتَيْنِ ثمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بعد مَا (أَصَابَت

(4/234)


زوجا) . عَادَتْ بِمَا بَقِي من عدد الطَّلَاق. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " عَادَتْ إِلَيْهِ بِالثلَاثِ ".
دليلنا من طَرِيق الْأَثر مَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَأَلت عمر رَضِي الله عَنهُ عَن رجل من أهل الْبَحْرين طلق امْرَأَته تَطْلِيقَة أَو ثِنْتَيْنِ، فنكحت زوجا، ثمَّ مَاتَ عَنْهَا أَو طَلقهَا فَرَجَعت إِلَى الأول على كم هِيَ عِنْده؟ قَالَ: هِيَ عِنْده على مَا بَقِي ".
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد وَعبيد الله وَسليمَان بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ بِمَعْنَاهُ.
وروى شُعْبَة عَن الحكم عَن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَنه سمع عليا

(4/235)


رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " هِيَ على مَا بَقِي "، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَنهُ، رَضِي الله عَنهُ.
وَالَّذِي روى عبد الْأَعْلَى عَن ابْن الحنيفة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك لَا يَصح، فَأهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يضعفون رِوَايَة عبد الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيّ عَن ابْن الْحَنَفِيَّة.
وَرُوِيَ عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا يهدم الثَّلَاث ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم: " يهدم النِّكَاح الطَّلَاق ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " رَجَعَ الطَّلَاق جَدِيدا ".

(4/236)


وَمن قُلْنَا بقوله أَكثر عددا، وأكبر سنا، وَفِيهِمْ إِمَامًا هدى عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا فمتابعتهم أولى.
وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنْهُم، ثمَّ قَالَ: " رُوِيَ ذَلِك عَن زيد، ومعاذ، وَعبد الله بن عَمْرو، رَضِي الله عَنْهُم، وَبِه قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَالْحسن الْبَصْرِيّ ... ".
مَسْأَلَة (229) :

وَاعْتِبَار عدد الطَّلَاق برق الزَّوْج وحريته، وَاعْتِبَار قدر الْعدة برق الْمَرْأَة وحريتها. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " برق الزَّوْجَة وحريتها فيهمَا جَمِيعًا ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن

(4/237)


مولى آل طَلْحَة عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عتبَة عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " ينْكح العَبْد امْرَأتَيْنِ، وَيُطلق تَطْلِيقَتَيْنِ ".
وَعَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن نفيعا، مكَاتبا لأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو عبد مكَاتب تَحْتَهُ امْرَأَة حرَّة فَطلقهَا اثْنَتَيْنِ، ثمَّ أَرَادَ أَن يُرَاجِعهَا فَأمره أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يَأْتِي عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ يسْأَله عَن ذَلِك، فَذهب إِلَيْهِ فَلَقِيَهُ عِنْد الدرج آخِذا بيد زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلَهُمَا فابتدراه جَمِيعًا

(4/238)


فَقَالَا: " حرمت عَلَيْك، حرمت عَلَيْك ".
وَعَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بذلك فِي نفيع مكَاتب لأم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وَعَن مَالك عَن عبد ربه بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن زيد بن ثَابت فِي نفيع أَيْضا.
وَرُوِيَ عَن زيد: " الطَّلَاق بِالرِّجَالِ، وَالْعدة بِالنسَاء ".
وَعَن عَطاء عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الطَّلَاق - أرَاهُ قَالَ - بِالرِّجَالِ، وَالْعدة بِالنسَاء ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن مظَاهر بن أسلم عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد

(4/239)


عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَرْفُوعا: " تطلق الْأمة تَطْلِيقَتَيْنِ، وقرؤها حيضتين. . ".
هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ مظَاهر بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ أَبُو دَاوُد: " مظَاهر رجل مَجْهُول، وَالْأَمر على غير هَذَا، وَهَذَا مُنكر ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " حَدثنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: سَمِعت أَبَا عَاصِم يَقُول: لَيْسَ بِالْبَصْرَةِ حَدِيث أنكر، يَعْنِي من حَدِيث مظَاهر هَذَا، قَالَ النَّيْسَابُورِي: وَالصَّحِيح عَن الْقَاسِم خلاف هَذَا ".
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد أَوْهَى من هَذَا عَن عمر بن شبيب الْمسلي عَن

(4/240)


عبد الله بن عِيسَى عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا: " طَلَاق الْأمة ثِنْتَانِ، وعدتها حيضتان ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " تفرد بِهِ عمر بن شبيب مَرْفُوعا، وَكَانَ ضَعِيفا، وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ سَالم وَنَافِع من قَوْله "، يَعْنِي أَيهمَا رق نقض الطَّلَاق برقه، كَذَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه (مَوْقُوفا) . وَرَوَاهُ عبد الله، وَاللَّيْث، وَابْن جريج، وَغَيرهم عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا (مَوْقُوفا) .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " مُنكر غير ثَابت من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن عَطِيَّة ضَعِيف، وَسَالم وَنَافِع أصح رِوَايَة.
وَالْآخر: أَن عمر بن شبيب ضَعِيف لَا يحْتَج بروايته، وَالله أعلم ".
وَقَالَ ابْن معِين: " عمر بن شبيب لم يكن بِشَيْء، وَقد رَأَيْته ".

(4/241)


ثمَّ يُعَارضهُ حَدِيث: " إِنَّمَا الطَّلَاق بيد من أَخذ بالساق "، رُوِيَ عَن عصمَة بن مَالك الخطمي مَرْفُوعا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَيْضا مَرْفُوعا: " أَلا إِنَّمَا يملك الطَّلَاق من أَخذ بالساق ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس نَحْو مَذْهَبنَا ومذهبهم. وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا مَا لَا يَقُول بِهِ أحد من الْفُقَهَاء فِي مَمْلُوك كَانَت تَحْتَهُ مَمْلُوكَة فَطلقهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، ثمَّ أعتقا بعد ذَلِك، هَل يصلح لَهُ أَن يخطبها؟ قَالَ: " نعم ". فِي إِسْنَاده مَجْهُول. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (230) :

والرجعية مُحرمَة الْوَطْء، وَإِذا وَطئهَا فالرجعة لَا تحصل بِالْوَطْءِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا مُبَاح الْوَطْء، وَإِذا وَطئهَا حصلت

(4/242)


الرّجْعَة بذلك ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه طلق امْرَأَته وَهِي فِي مسكن حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا وَكَانَت طَرِيقه إِلَى الْمَسْجِد، وَكَانَ يسْلك الطَّرِيق الآخر من أدبار الْبيُوت كَرَاهِيَة أَن يسْتَأْذن عَلَيْهَا حَتَّى (رَاجعهَا) .
وروى عبيد الله عَن نَافِع قَالَ: " طلق ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا امْرَأَته صَفِيَّة بنت أبي عبيد تَطْلِيقَة أَو تَطْلِيقَتَيْنِ، فَكَانَ لَا يدْخل عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذن، فَلَمَّا رَاجعهَا أشهد على رَجعتهَا، وَدخل عَلَيْهَا ".
ورويناه عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، (و) عَمْرو بن دِينَار قَالَا: " لَا يحل لَهُ مِنْهَا شَيْء مَا لم يُرَاجِعهَا ".
وَالله أعلم.

(4/243)


مَسْأَلَة (231) :

وبمضي مُدَّة الْإِيلَاء لَا يَقع الطَّلَاق، لَكِن يُوقف حَتَّى يفِيء أَو يُطلق. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " تقع طَلْقَة بَائِنَة ".
دليلنا من طَرِيق الْأَثر مَا روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ: " أدْركْت بضعَة عشر من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلهم يَقُول: يُوقف الْمولي ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فَأَقل بضعَة عشر أَن يَكُونُوا ثَلَاثَة عشر، وَهُوَ يَقُول: من الْأَنْصَار ".
وَرُوِيَ عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه قَالَ: " سَأَلت اثْنَي

(4/244)


عشر من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الرجل يولي، قَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء حَتَّى تمْضِي أَرْبَعَة أشهر فَيُوقف، فَإِن فَاء، وَإِلَّا طلق ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن مسعر عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن طَاوُوس " أَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُوقف الْمولي ".
روى الْقَاسِم بن مُحَمَّد " أَن عُثْمَان (بن عَفَّان) رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَا يرى الْإِيلَاء شَيْئا، وَإِن مَضَت الْأَرْبَعَة الْأَشْهر، حَتَّى يُوقف ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ

(4/245)


عَن الشّعبِيّ عَن عَمْرو بن سَلمَة قَالَ: " شهِدت عليا رَضِي الله عَنهُ أوقف الْمولي ".
وَعَن مَالك عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُوقف الْمولي.
وَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " يُوقف بعد الْأَرْبَعَة فإمَّا أَن يفِيء، وَإِمَّا أَن يُطلق ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: " كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِذا ذكر لَهَا الرجل يحلف أَن لَا يَأْتِي امْرَأَته فيدعها خَمْسَة أشهر لَا ترى ذَلِك شَيْئا حَتَّى يُوقف، وَتقول: كَيفَ قَالَ الله عز وَجل: {فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا " إِذا آلى الرجل من امْرَأَته لم يَقع عَلَيْهَا طَلَاق وَإِن مَضَت أَرْبَعَة أشهر حَتَّى يُوقف، (فإمَّا أَن يُطلق، وَإِمَّا أَن يفِيء) ".
وَرُوِيَ إيقافه عِنْد انْقِضَاء الْعدة، فإمَّا أَن يُطلق وَإِمَّا أَن يفِيء عَن

(4/246)


أبي ذَر، وَأبي الدَّرْدَاء، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَرُوِيَ عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن أبي سَلمَة عَن عُثْمَان، وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا: " إِذا مَضَت الْأَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة ". وَقد روينَا عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنْهَا خلاف هَذَا، وَهُوَ أصح، فعطاء الْخُرَاسَانِي رُبمَا يهم فِي الشَّيْء.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن النَّيْسَابُورِي عَن الْمَيْمُونِيّ: " ذكرت لِأَحْمَد بن حَنْبَل حَدِيث عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن أبي سَلمَة عَن عُثْمَان، قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ، رُوِيَ عَن عُثْمَان خِلَافه، قيل لَهُ: من رَوَاهُ؟ قَالَ: حبيب بن أبي ثَابت عَن طَاوُوس عَن عُثْمَان: يُوقف ".
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: " الْإِيلَاء تَطْلِيقَة بَائِنَة، ثمَّ تَعْتَد بعد ذَلِك (بِثَلَاثَة) قُرُوء ".
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة ".
وَرُوِيَ عَنهُ كَمَا قُلْنَا. وَقد رجح الشَّافِعِي رَحمَه الله قَوْله فِي

(4/247)


الْوَقْف بعد انْقِضَاء أَرْبَعَة أشهر بِأَن أَكثر الصَّحَابَة قَالُوا بوقف الْمولي، فَقَوْلهم أولى من قَول وَاحِد أَو اثْنَيْنِ. وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي الْإِيلَاء: {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر فَإِن فاءو فَإِن الله غَفُور رَحِيم (226) وَإِن عزموا الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم (227) } ، قَالَ: " فَظَاهر كتاب الله عز وَجل يدل على أَن لَهُ أَرْبَعَة أشهر، وَمن وَكَانَت لَهُ أَرْبَعَة أشهر أَََجَلًا لَهُ فَلَا سَبِيل عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى تَنْقَضِي، كَمَا لَو أجلتني لم يكن لَك أَخذ حَقك مني حَتَّى تَنْقَضِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهر، وَدلّ على أَن عَلَيْهِ إِذا مَضَت الْأَرْبَعَة أشهر وَاحِدًا من حكمين: إِمَّا أَن يفِيء، وَإِمَّا أَن يُطلق. فَقُلْنَا بِهَذَا، وَقُلْنَا: لَا يلْزمه طَلَاق بِمُضِيِّ أَرْبَعَة أشهر، حَتَّى يحدث فيئة أَو طَلَاقا ".
قَالَ: " والفيئة الْجِمَاع من عذر، وَقد (بَيناهُ) ".
وَقَالَ: " أَنْتُم تخالفون ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْإِيلَاء؛ فَإِن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول: الْمولي الَّذِي يحلف: لَا يقرب امْرَأَته أبدا. . "، يَعْنِي: وَأَنْتُم تَقولُونَ: إِذا حلف: لَا يقرب امْرَأَته أَرْبَعَة أشهر يكون موليا.
وَالله أعلم.

(4/248)


كتاب الظِّهَار

من كتاب الظِّهَار:
مَسْأَلَة (232) :

لَو ظَاهر من أَربع نسْوَة بِكَلِمَة وَاحِدَة يَكْفِيهِ كَفَّارَة وَاحِدَة على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " عَلَيْهِ فِي كل وَاحِدَة كَفَّارَة ".
رُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس عَن عمر رَضِي الله عَنْهُم فِي رجل ظَاهر من أَربع نسْوَة قَالَ: " كَفَّارَة وَاحِدَة ".
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ صَحِيح عَنهُ. وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير، وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن. وَالله أعلم.

(4/249)


مَسْأَلَة (233) :

إِذا أمْسكهَا سَاعَة يُمكنهُ فِيهَا طَلاقهَا بعد كلمة الظِّهَار فقد حصل عَائِدًا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْعود هُوَ الْعَزْم على الْوَطْء ".
فِي رِوَايَة فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن الله تجَاوز لأمتي مَا لم تعْمل أَو تَتَكَلَّم بِهِ مِمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا ". وَهَذَا دَلِيل على أَن لَا اعْتِبَار بالعزم على الْوَطْء.
وَذكر حَدِيث خُوَيْلَة وَأَوْس، واستفتائها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن أبي

(4/250)


حَمْزَة الثمالِي عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقَالَ: " وَأَبُو حَمْزَة ثَابت بن أبي صَفِيَّة لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث ".
وَفِيه أَنه لما ظَاهر مِنْهَا قَالَ لَهَا: " مَا أَرَاك إِلَّا قد حرمت عَليّ "، قَالَت لَهُ مثل ذَلِك، قَالَ: " فانطلقي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاسأليه ... " الحَدِيث.
وَذكر حَدِيثا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا ظَاهر من امْرَأَته، فَرَأى خلْخَالهَا فِي الْقَمَر فَأَعْجَبتهُ، فَوَقع عَلَيْهَا، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: " فقد كَانَ ذَلِك "، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمسك حَتَّى تكفر ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ. وَالله أعلم.

(4/251)


مَسْأَلَة (234) :

واعتاق الْكَافِر فِي كَفَّارَة الظِّهَار غير جَائِز. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " يجوز إِعْتَاق الذِّمِّيّ ".
قَالَ الله تَعَالَى فِي كَفَّارَة الظِّهَار: {فَتَحْرِير رَقَبَة} ، وَقَالَ فِي كَفَّارَة الْقَتْل: {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} ، فحملنا الْمُطلق على الْمُقَيد.
رُوِيَ عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك عَن هِلَال بن أُسَامَة عَن عَطاء بن يسَار عَن مُعَاوِيَة بن الحكم قَالَ: " أتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَقلت: يَا رَسُول الله) ، أَن جَارِيَة لي كَانَت ترعى غنما لي، ففقدت شَاة من الْغنم فسألتها عَنْهَا فَقَالَت: أكلهَا الذِّئْب، فأسفت عَلَيْهَا، وَكنت من بني آدم، فلطمت وَجههَا، وَعلي رَقَبَة، أفأعتقها؟ فَقَالَ لَهَا

(4/252)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيْن الله؟ فَقَالَت: فِي السَّمَاء، فَقَالَ: من أَنا؟ فَقَالَت: أَنْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة ".
كَذَا أَتَى بِهِ يحيى بن يحيى من هَذَا الرِّوَايَة عَنهُ مجودا، وَالنَّاس يَرْوُونَهُ عَن مَالك وَيَقُولُونَ فِيهِ: " عَمْرو بن الحكم "، وَالصَّوَاب: " مُعَاوِيَة بن الحكم ".
فَفِيهِ دلَالَة على أَن الرَّقَبَة الَّتِي تجب فِي الْكَفَّارَة تكون مُؤمنَة، حَيْثُ قَالَ: " وَعلي رَقَبَة "، وَلم يستفسر مِنْهُ سَبَب وُجُوبهَا عَلَيْهِ، وَلم يَأْذَن لَهُ فِي عتقهَا إِلَّا بعد أَن علم أَنَّهَا مُؤمنَة.
وَقَوْلها: " فِي السَّمَاء "؛ لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الْأَوْثَان آلِهَة فِي الأَرْض، فَلَمَّا قَالَت: " فِي السَّمَاء " عرف أَنَّهَا بريئة من الْأَوْثَان مُؤمنَة بِاللَّه الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه، لَا أَنه مَحْصُور فِي جِهَة، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا.

(4/253)


(صفحه فارغة) ... ... ... ... ... ... ... ... . .

(4/254)


(صفحه فارغة) ... ... ... ... ... ... ... ... . .

(4/255)


وَقد رُوِيَ من وَجه آخر عَن الشريد بن سُوَيْد قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي أوصت أَن أعتق عَنْهَا رَقَبَة (مُؤمنَة) ، وَأَن عِنْدِي جَارِيَة سَوْدَاء نوبية، فَقَالَ: ادْع بهَا، فَقَالَ: من رَبك؟ قَالَت: الله، قَالَ: فَمن أَنا؟ قَالَت: رَسُول الله، قَالَ: أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (235) :

وَلَو دفع طَعَام سِتِّينَ مِسْكينا إِلَى مِسْكين وَاحِد لم يجزه ذَلِك. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِذا دَفعه إِلَيْهِ فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجزَأَهُ ".

(4/256)


وَذكر حَدِيثا عَن سَلمَة بن صَخْر الْأنْصَارِيّ فِي أَنه ظَاهر من امْرَأَته، وَذكر قصَّة فِيهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " فأطعم وسْقا من تمر بَين سِتِّينَ مِسْكينا ".
وَالله أعلم

مَسْأَلَة (236) :

وَقدر مَا يُؤَدِّي الْوَاحِد من الْمَسَاكِين من طَعَام الْكَفَّارَة مد. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " نصف صَاع من بر، أَو صَاع من شعير أَو تمر ".
روى الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، هَلَكت، قَالَ: وَيحك! وَمَا ذَاك؟ قَالَ: وَقعت على أَهلِي فِي يَوْم من شهر رَمَضَان ... " فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: " فَأتي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعرق فِيهِ تمر خَمْسَة عشر صَاعا، قَالَ: خُذْهُ فَتصدق بِهِ ".
كَذَا رَوَاهُ شَيخنَا عَن الشَّيْخ أبي الْوَلِيد الْفَقِيه عَن الْحسن بن

(4/257)


سُفْيَان وَرَوَاهُ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْحسن بن سُفْيَان، وَجعل التَّقْدِير من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب.
وَقد رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم عَن الهقل، وَغَيرهمَا عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَلم يذكرُوا عَمْرو بن شُعَيْب، وَذكروا هَذَا التَّقْدِير. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ غير وَاحِد عَن الزُّهْرِيّ. وَذكره عَن مَنْصُور، وَعَن هِشَام بن سعد عَنهُ. وَفِي رِوَايَة: هِشَام أَبُو سَلمَة. وَالصَّوَاب حميد، وفيهَا: " بعرق فِيهِ تمر قدر خَمْسَة عشر صَاعا ".
وَعند أبي دَاوُد عَن سُلَيْمَان بن يسَار (عَن) سَلمَة بن صَخْر (قَالَ ابْن الْعَلَاء) البياضي فِي مظاهرته من امْرَأَته، قَالَ: " فَأتي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَمْر فَأعْطَاهُ إِيَّاه، وَهُوَ قريب من خَمْسَة عشر صَاعا، قَالَ: تصدق بِهَذَا ".
وَرُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ إِذا كفر يَمِينه أطْعم عشرَة مَسَاكِين، لكل مِسْكين مد، وَهُوَ بِالْمدِّ الأول.
وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لكل مِسْكين مد، وَمَعَهُ إدامه ".
وَرُوِيَ عَن أبي سَلمَة عَن زيد قَالَ فِي كَفَّارَة الْيَمين قَالَ: " مد

(4/258)


(من حِنْطَة) لكل مِسْكين ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن خُوَيْلَة بنت مَالك بن ثَعْلَبَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " ظَاهر مني زَوجي ... " الحَدِيث، قَالَ: " فَإِنِّي سأعينه بعرق من تمر "، قَالَت: " يَا رَسُول الله، وَإِنِّي أعينه بعرق آخر "، قَالَ: " قد أَحْسَنت، اذهبي فأطعمي بهَا عَنهُ سِتِّينَ مِسْكينا، وارجعي إِلَى ابْن عمك "، قَالَ: " والعرق سِتُّونَ صَاعا ".
وَرَوَاهُ بِإِسْنَاد آخر نَحوه، إِلَّا أَنه قَالَ: " والعرق مَكِيل يسع ثَلَاثِينَ صَاعا ".
وَرُوِيَ أَيْضا بِإِسْنَاد آخر عَن أَوْس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطَاهُ خَمْسَة عشر صَاعا من شعير إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا ".
وَهَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ، فَتَارَة يَقُول: " سِتُّونَ صَاعا "، وَتارَة يَقُول: " ثَلَاثُونَ صَاعا "، وَتارَة: " خَمْسَة عشر صَاعا "، وأسانيدها لَيست بالقوية، وَلَا تقاوم حَدِيث المجامع فِي شهر رَمَضَان فِي الصِّحَّة، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالأخذ بالأصح اولى.
هَذَا، وَقد روينَا فِي حَدِيث (ابْن صَخْر) : " خَمْسَة عشر

(4/259)


صَاعا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (237) :

وَإِذا دفع إِلَى من ظَنّه فَقِيرا ثمَّ بَان أَنه كَانَ غَنِيا لم يُجزئهُ ذَلِك على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّه يُجزئهُ ".
وَهَذِه الْمَسْأَلَة موضعهَا فِي كتاب قسم الصَّدقَات، ذَكرنَاهَا هُنَالك أتم. واستدللنا بالمعمومات الَّتِي وَردت فِي أَن الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لَا تحل لَغَنِيّ، وَلَا لمكتسب.
وَلَهُم بِحَدِيث معن بن يزِيد رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ، وَهُوَ حِكَايَة حَال يحْتَمل أَن تكون فِي صَدَقَة التَّطَوُّع.
وَالله أعلم.

(4/260)


كتاب اللّعان

من كتاب اللّعان:
مَسْأَلَة (238) :

مُوجب قذف الزَّوْج لزوجته المحصنة الْحَد، وَله دَرْء الْحَد عَن نَفسه بِاللّعانِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " مُوجبَة اللّعان ".
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشريك بن سَحْمَاء، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَة (وَإِلَّا) حد فِي ظهرك ". . وَذكر بَاقِي الحَدِيث

(4/261)


فِي نزُول الْآيَة ولعانهما.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (239) :

وللذمي، وَالْعَبْد، والمحدود فِي الْقَذْف أَن يُلَاعن على قذف امْرَأَته. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " لَيْسَ لَهُم ذَلِك ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} الْآيَة.
وَسَماهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمِينا، فَقَالَ: " لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن ". وَقَالَ لهِلَال بن أُميَّة رَضِي الله عَنهُ: " احْلِف بِاللَّه "، وَلَا فرق بَين الْحر وَالْعَبْد، وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ فِي الْيَمين.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: " أَرْبَعَة لَيْسَ بَينهم لعان، لَيْسَ بَين الْحر وَالْأمة لعان، (وَلَيْسَ بَين الْحرَّة وَالْعَبْد لعان) ، وَلَيْسَ بَين الْمُسلم واليهودية لعان، وَلَيْسَ بَين الْمُسلم والنصرانية لعان ".

(4/262)


قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " عُثْمَان هُوَ الوقاصي، مَتْرُوك الحَدِيث ".
تَابعه عُثْمَان بن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن عَمْرو، وعمار بن مطر عَن حَمَّاد بن عَمْرو عَن زيد بن رفيع عَن عَمْرو بن شُعَيْب هَكَذَا مَرْفُوعا، وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة كلهم ضعفاء، لَا يجوز الِاحْتِجَاج برواياتهم.
وَقد رَوَاهُ ابْن جريج، وَالْأَوْزَاعِيّ وهما إمامان عَن عَمْرو بن شُعَيْب (عَن أَبِيه) عَن جده مَوْقُوفا، إِلَّا أَن رَاوِيه عَنْهُمَا عمر بن

(4/263)


هَارُون، وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف. وَفِي صِحَّته عَن ابْن عَمْرو من قَوْله نظر أَيْضا.
وَرَوَاهُ يحيى بن أبي أنيسَة عَن أَبِيه عَن جده، وَيحيى ضَعِيف أَيْضا.
وَقد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب فِي اللّعان إِنَّه لَا يثبت عَن عَمْرو بن شُعَيْب، فَأَشَارَ إِلَى ضعف كل من رَوَاهُ عَن عَمْرو، كَمَا بَينا، وسمينا من رَوَاهُ من الضُّعَفَاء. ثمَّ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَعَمْرو بن شُعَيْب قد روى لنا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحكاما توَافق أقاويلنا وتخالف أقاويلكم، يَرْوِيهَا عَنهُ الثِّقَات، ويسندها إِلَى النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فرددتموها علينا، ورددتم رِوَايَته، ونسبتموه إِلَى الْغَلَط، فَأنْتم محجوجون؛ إِن كَانَ مِمَّا يثبت حَدِيثه بأحاديثه الَّتِي وَافَقْنَاهَا، وخالفتمونا، فِي نَحْو ثَلَاثِينَ حكما عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالفتم أَكْثَرهَا فَأنْتم غير منصفين إِن احتججتم بروايته، وَهُوَ مِمَّن لَا يثبت رِوَايَته ".
قَالَ: " وَلما ذكر الله تَعَالَى اللّعان على كل زوج جَازَ طَلَاقه وَلَزِمَه الْفَرْض، وَكَذَلِكَ زَوْجَة لَزِمَهَا الْفَرْض ".

(4/264)


وَرُوِيَ عَن الْحسن قَالَ: " يُلَاعن كل زوج ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى يحيى بن صَالح الإيلي عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا عتاب بن أسيد، إِنِّي قد بَعَثْتُك إِلَى أهل مَكَّة ... "، فَذكر الحَدِيث، فِيهِ: " أَرْبَعَة لَيْسَ بَينهم ملاعنة: الْيَهُودِيَّة، والنصرانية تَحت الْمُسلم، وَالْعَبْد عِنْد الْحرَّة، وَالْحر عِنْد الْأمة ".
وَهَذَا الْإِسْنَاد بِهَذَا الحَدِيث بَاطِل، وَيحيى الإيلي (أَحَادِيثه) غير مَحْفُوظَة، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة) (240) :

والفرقة تقع بِلعان الزَّوْج دون تَفْرِيق القَاضِي، وَالتَّحْرِيم الْوَاقِع بِهِ لَا يرْتَفع بتكذيب الزَّوْج الْملَاعن نَفسه. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْفرْقَة لَا تقع إِلَّا بلعانها وتفريق القَاضِي، وَإِذا كذب الْملَاعن نَفسه ارْتَفع التَّحْرِيم الْوَاقِع بِاللّعانِ ".

(4/265)


فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ حَدِيث عُوَيْمِر الْعجْلَاني وَامْرَأَته وملاعنتهما، وَفِيه أَنه قَالَ لما فرغا: " كذبت عَلَيْهَا يَا رَسُول الله، إِن أَمْسَكتهَا "، فَطلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يَأْمُرهُ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ ابْن شهَاب: " فَكَانَت تِلْكَ سنة المتلاعنين "، كَذَا فِي رِوَايَة مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ فِي قصَّة المتلاعنين قَالَ: " فَتَلَاعَنا، فَفرق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا، وَقَالَ: لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا ".
وَعَن أبي دَاوُد: " حَدثنَا أَحْمد بن عمر حَدثنَا ابْن وهب عَن عِيَاض بن عبد الله وَغَيره عَن ابْن شهَاب عَن سهل بن سعد فِي المتلاعنين قَالَ: " فَطلقهَا "، قَالَ سهل: " حضرت هَذَا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمضت السّنة بعده فِي المتلاعنين "، قَالَ: " أَن يفرق بَينهمَا، ثمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " فرق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين المتلاعنين فَقَالَ: حسابكما على الله عز وَجل أَحَدكُمَا كَاذِب لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا. قَالَ: يَا رَسُول الله، مَالِي؟ قَالَ: لَا مَال لَك، إِن كنت صدقت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا استحللت من فرجهَا، وَإِن

(4/266)


كنت كذبت عَلَيْهَا فَذَاك أبعد لَك مِنْهَا ".
وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَن مُحَمَّد بن يزِيد عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " المتلاعنان إِذا تفَرقا لَا يَجْتَمِعَانِ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَإِذا أكمل الزَّوْج الشَّهَادَة والالتعان فقد زَالَ فرَاش امْرَأَته، وَلَا تحل لَهُ أبدا بِحَال، وَإِن أكذب نَفسه لم تعد إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا قلت هَذَا لِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوَلَد للْفراش "، وَكَانَت فراشا فَلم يجز أَن يَنْفِي الْوَلَد عَن الْفراش إِلَّا بِأَن يَزُول الْفراش، فَلَا يكون فراشا أبدا ".
قَالَ: " وَكَانَ معقولا فِي حكم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا ألحق الْوَلَد بِأُمِّهِ أَنه نَفَاهُ عَن أَبِيه، وَإِن نَفْيه عَن أَبِيه بِيَمِينِهِ والتعانه، لَا بِيَمِين أمه على كذبه يَنْفِيه. وَلما قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا " استدللنا على أَن المتلاعنين لَا يتناكحان أبدا، إِذْ لم يقل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِلَّا أَن تكذب نَفسك، أَو تفعل كَذَا "، كَمَا قَالَ الله عز وَجل فِي الْمُطلق الثَّالِثَة: {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} ، وَبسط الْكَلَام فِيهِ.

(4/267)


وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن رجلا لَاعن امْرَأَته فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وانتفى من وَلَدهَا، فَفرق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا، وَألْحق الْوَلَد بِالْأُمِّ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " يحْتَمل طَلَاقه ثَلَاثًا يَعْنِي فِي حَدِيث سهل أَن يكون بِمَا وجد فِي نَفسه بِعِلْمِهِ بصدقه وكذبها، وجرأتها على الْيَمين، طَلقهَا ثَلَاثًا جَاهِلا بِأَن اللّعان فرقه، فَكَانَ كمن طلق من طلق عَلَيْهِ بِغَيْر طَلَاقه، وَكَمن شَرط الْعهْدَة فِي البيع، وَالضَّمان فِي السّلف، وَهُوَ يلْزمه ". وَزَاد ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه فرق بَين المتلاعنين، وتفريق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير فرقة الزَّوْج، إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيق حكم ".
رُوِيَ عَن عَليّ، وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: " مَضَت السّنة بَين المتلاعنين أَن لَا يجتمعا أبدا ".
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ فِي المتلاعنين إِذا تلاعنا قَالَ: " يفرق بَينهمَا، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أبدا ".
وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " إِذا أكذب نَفسه بعد اللّعان ضرب الْحَد، وألزق بِهِ الْوَلَد، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أبدا ".
وَالله أعلم.

(4/268)


مَسْأَلَة (241) :

وَإِذا التعن الزَّوْج وأبت الْمَرْأَة أَن تلتعن فَإِنَّهَا تحد حد الزِّنَا وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " تحبس حَتَّى تلتعن ".
دليلنا قَول الله عز وَجل: {ويدرؤا عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه} ... الْآيَة.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَالْعَذَاب الْحَد ".
وَالَّذِي يدل على صِحَة قَوْله مَا روينَا فِي حَدِيث عباد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي المتلاعينين، وَهَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي خرجناها فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَالَّتِي قبلهَا مستعملة فِي مسَائِل أخر من كتاب اللّعان، فاقتصرت على رِوَايَتهَا، دون ذكر تراجمها، طلبا للاختصار، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
مَسْأَلَة (242) :

شَهَادَة الزَّوْج لَا تقبل على امْرَأَته بِالزِّنَا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا مَقْبُولَة ".
روى سعيد عَن قَتَادَة عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي أَرْبَعَة شهدُوا على امْرَأَة بِالزِّنَا أحدهم زَوجهَا قَالَ: " يُلَاعن الزَّوْج وَيحد الثَّلَاثَة ".

(4/269)


قَالَ يحيى بن سعيد: " هَذَا من صَحِيح حَدِيث سعيد، وَمن عَتيق حَدِيثه ".
مَسْأَلَة (243) :

وَنسب ولد الْأمة لَاحق إِذا أقرّ بِوَطْئِهَا دون الدعْوَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يلْحق نسبه إِلَّا بِالْإِقْرَارِ ".
رُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه لما ولد إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مَارِيَة، جَارِيَته كَاد يَقع فِي نفس النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُ، حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: " السَّلَام عَلَيْك (يَا أَبَا إِبْرَاهِيم) ".
فِي هَذَا إِن يثبت دلَالَة على ثُبُوت النّسَب بفراش الْأمة.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوَلَد للْفراش، وللعاهر الْحجر ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " اخْتصم سعد وَعبد بن زَمعَة رَضِي الله عَنْهُمَا فِي غُلَام، فَقَالَ سعد: هَذَا، يَا رَسُول الله، ابْن أخي عتبَة، عهد إِلَيّ أَنه ابْنه، انْظُر إِلَى شبهه! وَقَالَ عبد بن زَمعَة: أخي، يَا رَسُول الله، ولد على فرَاش أبي، وَمن وليدته. فَنظر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى شبهه فَرَأى شبها بَينا بِعتبَة، فَقَالَ: هُوَ لَك يَا عبد، الْوَلَد للْفراش، وللعاهر الْحجر، احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة بنت زَمعَة،

(4/270)


قَالَت: فَلم ير سَوْدَة قطّ ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " مَا بَال رجال يطؤون ولائدهم، ثمَّ يعزلونهن! لَا تَأتِينِي وليدة يعْتَرف سَيِّدهَا أَن قد ألم بهَا إِلَّا ألحقت بِهِ وَلَدهَا، فاعزلوا بعد أَو اتْرُكُوا ".
وَعَن مَالك عَن نَافِع عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فِي إرْسَال الولائد يوطأن بِمثل معنى حَدِيث ابْن شهَاب.
وَلَهُم مَا روى الرّبيع قَالَ: " قلت للشَّافِعِيّ: فَهَل خالفك فِي هَذَا غَيرنَا؟ قَالَ: نعم، بعض المشرقيين. قلت: فَمَا كَانَ حجتهم؟ قَالَ: كَانَ حجتهم أَن قَالُوا: انْتَفَى عمر رَضِي الله عَنهُ من ولد جَارِيَة لَهُ، (وانتفى زيد رَضِي الله عَنهُ من ولد جَارِيَة لَهُ، وانتفى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من ولد جَارِيَة لَهُ) . قلت: فَمَا كَانَ حجتك عَلَيْهِم؟ قَالَ: فَأَما عمر رَضِي الله عَنهُ فَروِيَ أَنه أنكر حمل جَارِيَة أقرَّت بالمكروه. وَأما زيد بن ثَابت، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُمَا أنكرا (إِن كَانَا فعلا) ولد جاريتين عرفا أَن لَيْسَ مِنْهُمَا، فحلال لَهما، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهما فِي الْأمة، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لزوج الْحرَّة إِذا علم أَنَّهَا حبلت من زنا أَن يدْفع وَلَدهَا، وَلَا يلْحق بِنَفسِهِ من لَيْسَ مِنْهُ. وَإِنَّمَا قلت هَذَا

(4/271)


فِيمَا بَينه وَبَين الله، كَمَا تعلم الْمَرْأَة أَن زَوجهَا طَلقهَا ثَلَاثًا، فَلَا يَنْبَغِي لَهَا إِلَّا الِامْتِنَاع مِنْهُ بجهدها، وعَلى الإِمَام أَن يحلفهُ، ثمَّ يردهَا، فَالْحكم غير مَا بَين العَبْد وَبَين الله، عز وَجل ".
ذكرنَا هَذِه الْمَسْأَلَة بِتَمَامِهَا فِي كتاب الْإِقْرَار. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (244) :

وَإِذا غَابَ الرجل عَن امْرَأَته فبلغتها وَفَاته فاعتدت، ثمَّ نكحت فَولدت أَوْلَادًا، ثمَّ قدم فرق بَينهَا وَبَين زَوجهَا الآخر، وَألْحق الْوَلَد بِالْآخرِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " الْوَلَد يلْحق بِالْأولِ ".
وَدَلِيلنَا مَا رُوِيَ عَن عمرَان بن كثير النَّخعِيّ أَن عبيد الله بن الْحر تزوج جَارِيَة من قومه يُقَال لَهَا الدَّرْدَاء زَوجهَا إِيَّاه أَبوهَا، فَانْطَلق عبيد الله فلحق بِمُعَاوِيَة فَأطَال الْغَيْبَة عَن أَهله، وَمَات أَبُو

(4/272)


الْجَارِيَة فَزَوجهَا أَهلهَا من رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ عِكْرِمَة، فَبلغ ذَلِك عبيد الله فَقدم فخاصمهم إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَرد عَلَيْهِ الْمَرْأَة، وَكَانَت حَامِلا من عِكْرِمَة، فوضعها على يَدي عدل، فَقَالَت الْمَرْأَة لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " أَنا أَحَق بِمَالي أَو عبيد الله بن الْحر؟ " قَالَ: " بل أَنْت أَحَق بذلك "، قَالَت: " فاشهد أَن كل مَا كَانَ لي على عِكْرِمَة من شَيْء من صَدَاقي فَهُوَ لَهُ ". فَلَمَّا وضعت مَا فِي بَطنهَا ردهَا إِلَى عبيد الله، وَألْحق الْوَلَد بِأَبِيهِ.
وَالله أعلم.

(4/273)


كتاب الْعدَد

من كتاب الْعدَد:
مَسْأَلَة (245) :

الْأَقْرَاء الْمُحْتَسب بهَا هِيَ الْأَطْهَار. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: " إِنَّهَا الْحيض ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض على عهد رَسُول الله فَسَأَلَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مره فَلْيُرَاجِعهَا، ثمَّ ليمسكها حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر، ثمَّ إِن شَاءَ أمسك بعد، وَإِن شَاءَ طلق قبل أَن يمس، فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تطلق لَهَا النِّسَاء ".

(4/274)


وَقد روينَا (هـ) فِي كتاب الطَّلَاق من حَدِيث أبي الزبير عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " وَقَرَأَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لقبل عدتهن} ... ".
(قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " فَأخْبر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلّ ثَنَاؤُهُ أَن الْعدة الطُّهْر دون الْحيض، وَقَرَأَ: فطلقوهن لقبل عدتهن "، وَهُوَ أَن تطلق طَاهِرا: لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تسْتَقْبل عدتهَا، وَلَو طلقت حَائِضًا لم (تكن مُسْتَقْبلَة) عدتهَا إِلَّا بعد الْحيض ".
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ رَحمَه الله تَعَالَى " قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تطلق لَهَا النِّسَاء "، أَي: فِيهَا، كَقَوْلِهِم: كتبت هَذَا الْكتاب لخمس خلون من الشَّهْر، أَي: فِي وَقت خلا فِيهِ من

(4/275)


الشَّهْر خمس لَيَال. وَإِذا كَانَ وَقت الطَّلَاق الطُّهْر ثَبت أَنه مَحل الْعدة ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " وَاللِّسَان يدل على هَذَا؛ لِأَن الْقُرْء اسْم وضع لِمَعْنى، فَلَمَّا كَانَ الْحيض دَمًا يرخيه الرَّحِم فَيخرج، وَالطُّهْر دَمًا يحتبس فَلَا يخرج كَانَ مَعْرُوفا من لِسَان الْعَرَب أَن الْقُرْء الْحَبْس، تَقول الْعَرَب: هُوَ يقري المَاء فِي حَوْضه، وَفِي سقائه. وَتقول الْعَرَب: يقري الطَّعَام فِي شدقه، يَعْنِي يحبس الطَّعَام فِي شدقه ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا انتفلت حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن حِين دخلت فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة. قَالَ ابْن شهَاب: " فَذكرت ذَلِك لعمرة بنت عبد الرَّحْمَن، قَالَت: (صدق عُرْوَة، وَقد جادلها فِي ذَلِك نَاس، وَقَالُوا: إِن الله عز وَجل يَقُول: {ثَلَاثَة قُرُوء} ، فَقَالَت) عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: صَدقْتُمْ، وَهل تَدْرُونَ مَا الْأَقْرَاء؟ الْأَقْرَاء الْأَطْهَار ".

(4/276)


وَعَن مَالك رَحمَه الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن يَقُول: مَا أدْركْت أحدا من فقهائنا إِلَّا وَهُوَ يَقُول هَذَا، يُرِيد: الَّذِي قَالَت عَائِشَة ".
وَعَن مَالك عَن نَافِع، وَزيد بن أسلم عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن الْأَحْوَص هلك بِالشَّام حِين دخلت امْرَأَته فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، وَقد كَانَ طَلقهَا، فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُمَا يسْأَله عَن ذَلِك، فَكتب إِلَيْهِ زيد رَضِي الله عَنهُ أَنَّهَا إِذا دخلت فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة فقد بَرِئت مِنْهُ وبرىء مِنْهَا، وَلَا تَرثه، وَلَا يَرِثهَا ".
وَعنهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " إِذا طلق الرجل امْرَأَته فَدخلت فِي الدَّم " ... فَذكر مثله سَوَاء.
وَرُوِيَ عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ: " إِذا دخلت فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة فَلَا رَجْعَة لَهُ عَلَيْهَا ".
وَنقل مَالك نَحْو مَذْهَب زيد، وَابْن عمر، وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، وَسَالم بن عبد الله، وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، وَسليمَان بن يسَار، وَابْن شهَاب، وَقَالَ: " وَذَلِكَ الَّذِي أدْركْت عَلَيْهِ أهل الْعلم ببلدنا، رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ ".
وروى أَبُو دَاوُد عَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا

(4/277)


سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فشكت إِلَيْهِ الدَّم، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا ذَلِك عرق، فانظري، إِذا أَتَى قرؤك فَلَا تصلي، فَإِذا مر قرؤك فتطهري، ثمَّ صلي مَا بَين الْقُرْء إِلَى الْقُرْء ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَرَوَاهُ قَتَادَة عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أم سَلمَة أَن أم حَبِيبَة بنت جحش استحيضت، فَأمرهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها "، وَهَذَا وهم من ابْن عُيَيْنَة، لَيْسَ هَذَا فِي حَدِيث الْحفاظ عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ أَبُو دَاوُد: " لم يسمع قَتَادَة عَن عُرْوَة شَيْئا "، وَذكر رِوَايَات فِي مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَحَاضَة، فَقَالَ: " وَرَوَاهُ ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَشَيْء من هَذِه الرِّوَايَات بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ غير مخرج فِي الصَّحِيح؛ لِأَن بَعْضهَا مَرَاسِيل، وَبَعضهَا وهم فِيهِ بعض الروَاة. وَالصَّحِيح حَدِيث عرَاك بن مَالك عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لأم حَبِيبَة: " امكثي قدر مَا كَانَت تحبسك حيضتك، ثمَّ اغْتَسِلِي ". وَقد تَابعه على ذَلِك جمَاعَة، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْأَقْرَاء. وَرَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح، وَهَكَذَا فِي سَائِر الرِّوَايَات الصَّحِيحَة، لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا أَنه عبر بِالْأَقْرَاءِ عَن الْحيض. وَالَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِك خَارج الصَّحِيح فَإِنَّمَا هُوَ من جِهَة الروَاة، عبر كل وَاحِد

(4/278)


مِنْهُم عَنهُ بِمَا وَقع لَهُ ".
ثمَّ قَالَ: " قد قَالَ أَبُو عبيد: " يُقَال: قد أَقرَأت الْمَرْأَة: إِذا دنا حَيْضهَا، وأقرأت الْمَرْأَة: إِذا دنا طهرهَا، زعم ذَلِك أَبُو عُبَيْدَة، والأصمعي، وَغَيرهمَا ". قَالَ: " وَقد ذكر ذَلِك الْأَعْشَى فِي شعر يمدح بِهِ رجلا غزا غَزْوَة غنم فِيهَا وظفر، فَقَالَ:
(مورثة عزا وَفِي الْحَيّ رفْعَة ... لما ضَاعَ فِيهَا من قُرُوء نسائكا)

فَمَعْنَى الْقُرْء هَا هُنَا الْأَطْهَار؛ لِأَنَّهُ ضيع أطهارهن فِي غَزَوَاته، وآثرها عَلَيْهِنَّ، وشغل بهَا عَنْهُن ".
فَذهب أَبُو عبيد إِلَى أَن اسْم الْقُرْء وَاقع عَلَيْهِمَا. وَكَأَنَّهُ فِي الطُّهْر أظهر؛ لما ذكر الشَّافِعِي رَحمَه الله من حكم الِاشْتِقَاق، وَلِأَن

(4/279)


الاحتساب بِالطُّهْرِ فِي الْعدة أسبق إِلَى وجودهَا مِمَّا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْأَقْرَاء، فَوَجَبَ أَن يحكم بِانْقِضَاء عدتهَا، فَمن زعم أَنه يجب عَلَيْهَا الزِّيَادَة على مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم ثَلَاثَة أَقراء فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى دَلِيل.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب أَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا طلق الرجل امْرَأَته فَهُوَ أَحَق برجعتها حَتَّى تَغْتَسِل من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، فِي الْوَاحِدَة والاثنتين ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عمر، وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَن الْحسن عَنْهُمَا، وَعَن أبي مُوسَى، رَضِي الله عَنْهُم، وَالْحسن لم يسمع مِنْهُم.
وَرُوِيَ فِي ثَلَاثَة قُرُوء عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " ثَلَاث حيض ".
وروى عِيسَى الْخياط وَهُوَ ضَعِيف حَدِيثا مُنْكرا لم يقبله مِنْهُ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، عَن الشّعبِيّ عَن ثَلَاثَة عشر من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنهم قَالُوا: " هُوَ أَحَق بهَا مَا لم تَغْتَسِل من الْحَيْضَة الثَّالِثَة ".
وَذهب الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي الْقَدِيم إِلَى أَن الْعِرَاقِيّين خالفوا الْإِجْمَاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؛ لِأَن الَّذين قَالُوا إِن الْأَقْرَاء الْحيض زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَبرأ حَتَّى تَغْتَسِل من الْحَيْضَة الثَّالِثَة وَيحل لَهَا الصَّلَاة، وهم

(4/280)


يَقُولُونَ: إِذا فرطت فِي الْغسْل حَتَّى يذهب وَقت الصَّلَاة فقد حلت، وَهِي لم تَغْتَسِل وَلم يحل لَهَا الصَّلَاة، وَبسط الْكَلَام فِيهِ، إِلَى أَن قَالَ: " وَلَا يعدو أَن يكون الْأَقْرَاء الْأَطْهَار كَمَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَالنِّسَاء بِهَذَا أعلم؛ لِأَنَّهُ فِيهِنَّ، لَا فِي الرِّجَال، أَبُو يكون الْحيض، فَإِذا جَاءَت بِثَلَاث حيض حلت، وَلَا نجد فِي كتاب الله تَعَالَى للْغسْل معنى يدل عَلَيْهِ، ولستم تَقولُونَ بِوَاحِد من الْقَوْلَيْنِ.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (246) :

وعدة من تبَاعد حَيْضهَا تَنْقَضِي بِالْأَشْهرِ قبل بُلُوغ سنّ الْإِيَاس، على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تَنْقَضِي مَا لم تبلغ سنّ الْإِيَاس "، وَهُوَ القَوْل الآخر، وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
فَوجه قَوْله الأول مَا رُوِيَ عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد، وَزيد بن عبد الله عَن ابْن الْمسيب عَن عمر رَضِي الله عَنهُ: " أَيّمَا امْرَأَة طلقت فَحَاضَت حَيْضَة أَو حيضتين، ثمَّ رفعتها حَيْضَة فَإِنَّهَا تنْتَظر تِسْعَة أشهر، فَإِن بَان حمل فَذَاك، وَإِلَّا اعْتدت بعد التِّسْعَة ثَلَاث أشهر، ثمَّ حلت ".
وَوجه قَوْله فِي الصَّحِيح من طَرِيق الْأَثر مَا رُوِيَ عَن مَالك عَن

(4/281)


مُحَمَّد بن يحيى بن حَيَّان أَنه كَانَ عِنْد (جده) هاشمية وأنصارية، فَطلق الْأَنْصَارِيَّة، وَهِي ترْضع، فمرت بهَا سنة، ثمَّ هلك، وَلم تَحض، فَقَالَت: " (أرثه) ، لم أحض "، فاختصموا إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَقضى للأنصارية بِالْمِيرَاثِ، فلامت الهاشمية عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ: " هَذَا عمل ابْن عمك. هُوَ أَشَارَ علينا بِهَذَا، يَعْنِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ.
رَوَاهُ بِنَحْوِ مِنْهُ ابْن بكير عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن حَيَّان.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سعيد بن سَالم عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي بكر أَن رجلا من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ حبَان بن منقذ طلق امْرَأَته وَهُوَ صَحِيح، وَهِي ترْضع ابْنَته، فَمَكثت سَبْعَة عشر شهرا لَا تحيض، يمْنَعهَا الرَّضَاع أَن تحيض، ثمَّ مرض حبَان بعد أَن طَلقهَا بسبعة أشهر أَو ثَمَانِيَة، فَقيل لَهُ: " إِن امْرَأَتك تُرِيدُ أَن تَرث "، فَقَالَ لأَهله: " احْمِلُونِي إِلَى عُثْمَان "، فَحَمَلُوهُ، فَذكر لَهُ شَأْن امْرَأَته، وَعِنْده عَليّ بن أبي طَالب، وَزيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ لَهما عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ: " مَا تربان؟ " فَقَالَا: " نرى أَنَّهَا تَرثه إِن مَاتَ، ويرثها إِن مَاتَت؛ فَإِنَّهَا لَيست من الْقَوَاعِد اللَّاتِي قد يئسن من الْمَحِيض، وَلَيْسَت من الْأَبْكَار اللآتي لم يبلغن الْمَحِيض، ثمَّ هِيَ على عدَّة حَيْضَتهَا مَا كَانَ من قَلِيل أَو كثير ". فَرجع حبَان إِلَى أَهله، وَأخذ

(4/282)


ابْنَته، فَلَمَّا فقدت الرَّضَاع حَاضَت حَيْضَة، ثمَّ حَاضَت حَيْضَة أُخْرَى، ثمَّ توفّي حبَان قبل أَن تحيض الثَّالِثَة، فاعتدت عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا، وورثته ".
وَهَذَا إِنَّمَا ورد فِيمَن تَأَخّر حَيْضهَا بِعَارِض، فَهِيَ تنْتَظر رُؤْيَة الدَّم، وَلَا تنْتَقل إِلَى الْأَشْهر بِلَا خلاف.
وروى سُفْيَان عَن حَمَّاد وَالْأَعْمَش، وَمَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة بن قيس أَنه طلق امْرَأَته تَطْلِيقَة وتطليقتين، ثمَّ حَاضَت حَيْضَة أَو حيضتين، ثمَّ ارْتَفع حَيْضهَا سَبْعَة عشر شهرا أَو ثَمَانِيَة، ثمَّ مَاتَت، فجَاء إِلَى ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: " حبس الله عَلَيْك مِيرَاثهَا، فورثه مِنْهَا ".
وَالله أعلم

مَسْأَلَة (247) :

وَالْحَامِل تحيض على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تحيض ".
روى عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ: حَدثنَا عَمْرو بن مُحَمَّد

(4/283)


حَدثنَا أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى التَّيْمِيّ حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كنت قَاعِدَة أغزل، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخصف نَعله، فَجعل جَبينه يعرق، وَجعل عرقه يتَوَلَّد نورا، فبهت، فَنظر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: (مَا بالك) يَا عَائِشَة؟ بهت؟ قلت: جعل جبينك يعرق، وَجعل عرقك يتَوَلَّد نورا، وَلَو رآك أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ لعلم أَنَّك أَحَق بِشعرِهِ، قَالَ: وَمَا يَقُول أَبُو كَبِير؟ قلت يَقُول:
(ومبرا من كل غبر حَيْضَة ... وَفَسَاد مَوْضِعه وداء مغيل)

(وَإِذا نظرة إِلَى أسرة وَجهه ... برقتْ كبرق الْعَارِض المتهلل)

قَالَت: فَقَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقبل بَين عَيْني، وَقَالَ: جَزَاك الله، يَا

(4/284)


عَائِشَة، خيرا، مَا سررت مني كسروري بك ".
فَفِي هَذَا الْخَبَر كالدلالة على أَن ابْتِدَاء الْحمل قد يكون على حَال الْحيض، وَأَن الْحيض وَالْحمل يجوز اجْتِمَاعهمَا، حَيْثُ قَالَ: ومبرأ من كل غبر حَيْضَة ... ... ... ... . .
وَلم يُنكر النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلم يقل: إِن " غبر " هَذَا لَا يكون.
وَرُوِيَ عَن اللَّيْث عَن بكر بن عبد الله عَن أم عَلْقَمَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا زوج النَّبِي أَنَّهَا سُئِلت عَن الْحَامِل ترى الدَّم أَتُصَلِّي؟ فَقَالَت: لَا تصلي حَتَّى يذهب عَنْهَا (الدَّم) ".
وَرُوِيَ عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " إِذا رَأَتْ الْحَامِل الدَّم تكف عَن الصَّلَاة ".
وَعنهُ قَالَ: " لَا يخْتَلف عندنَا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي أَن الْحَامِل إِذا رَأَتْ الدَّم أَنَّهَا تمسك عَن الصَّلَاة حَتَّى تطهر "، قَوْله: " عندنَا "، أَي عِنْد أهل الْمَدِينَة، كَذَا قَالَ.

(4/285)


وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بِخِلَافِهِ، احْتَجُّوا (بِأَنَّهَا) قَالَت: " أَن الحبلى لَا تحيض "، وأمرتها بِالْغسْلِ وَالصَّلَاة، كَذَا رَوَاهُ مطر بن طهْمَان، وَسليمَان بن مُوسَى عَن عَطاء عَنْهَا.
وَقد ضعف أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ عَن عَطاء، ذكر ابْن عدي عَن أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث همام عَن مطر عَن عَطاء عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " الْحَامِل لَا تحيض "، قَالَ: " كَانَ يحيى يَعْنِي الْقطَّان يضعف ابْن أبي ليلى، ومطر عَن عَطاء ".
وروى عَن إِسْحَاق الْحَنْظَلِي: قَالَ لي أَحْمد بن حَنْبَل: " مَا تَقول فِي الْحَامِل ترى الدَّم؟ " فَقلت: " تصلي "، واحتججت بِخَبَر عَطاء عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا. قَالَ: فَقَالَ لي: " أَيْن أَنْت عَن خبر الْمَدَنِيين، خبر أم عَلْقَمَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا؟ فَإِنَّهُ أصح "، قَالَ: " فَرَجَعت إِلَى قَول أَحْمد ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَأما رِوَايَة سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن عَطاء فَإِن مُحَمَّد بن رَاشد ينْفَرد بهَا عَن سُلَيْمَان، وَمُحَمّد بن رَاشد ضَعِيف ".
وَرَوَاهُ ابْن جريج من عَطاء عَن قَوْله فِي الْحَامِل ترى الدَّم، قَالَ: " هِيَ بِمَنْزِلَة الْمُسْتَحَاضَة ".
وَرُوِيَ عَن حجاج عَن عَطاء قَالَ: " إِذا رَأَتْ الْحَامِل الدَّم فَإِنَّهَا تتوضأ، وَتصلي، وَلَا تَغْتَسِل.

(4/286)


قَالَ أَبُو بكر بن إِسْحَاق: " فَدلَّ هَذَا على وَهن خبر عَطاء الْمُتَقَدّم فِي الْغسْل؛ لِأَن الْخَبَر لَو كَانَ عِنْده صَحِيحا لما خَالفه " يَعْنِي فِي الْغسْل "
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (248) :

وَتعْتَد الْأمة الصَّغِيرَة والآيسة بشهرين على أصح الْقَوْلَيْنِ، أَو بِثَلَاثَة أشهر على القَوْل الثَّانِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " تَعْتَد بِشَهْر وَنصف ".
رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " عدَّة الْأمة إِذا لم تَحض شَهْرَان كعدتها إِذا حَاضَت (حيضتان)
. ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله: أخبرنَا سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن مولى طَلْحَة عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عتبَة عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " ينْكح العَبْد امْرَأتَيْنِ، وَيُطلق تَطْلِيقَتَيْنِ، وَتعْتَد الْأمة حيضتين، فَإِن لم تكن تحيض فشهرين، أَو شهرا وَنصفا ". قَالَ سُفْيَان وَكَانَ ثِقَة: " وَرووا عَن الْحسن عَن

(4/287)


عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " عدَّة الْأمة حيضتان، فَإِن لم تكن تحيض فشهر وَنصف ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (249) :

وَله فِي سُكْنى المتوفي عَنْهَا زَوجهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن لَا سُكْنى لَهَا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، رَحمَه الله. وَالثَّانِي: أَن لَهَا السُّكْنَى.
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن سعد بن إِسْحَاق بن كَعْب بن عجْرَة عَن عمته زَيْنَب بنت كَعْب أَن الفريعة بنت مَالك رَضِي الله عَنْهَا أخْبرتهَا أَنَّهَا جَاءَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تسأله أَن ترجع

(4/288)


إِلَى أَهلهَا فِي بني خدرة: " فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أرجع إِلَى أَهلِي؛ فَإِن زَوجي لم يتركني فِي مسكن يملكهُ، قَالَت: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نعم، فَانْصَرَفت، حَتَّى إِذا كنت فِي الْحُجْرَة، أَو فِي الْمَسْجِد دَعَاني، أَو أَمر بِي فَدُعِيت إِلَيْهِ، قَالَ: فَكيف قلت؟ : فَرددت عَلَيْهِ الْقِصَّة؛ فَقَالَ: امكثي فِي بَيْتك حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله. قَالَت: فاعتددت فِيهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا. فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أرسل إِلَيّ فَسَأَلَنِي عَن ذَلِك، فَأَخْبَرته فَاتبعهُ، وَقضى بِهِ ".
وَرُوِيَ عَن يحيى بن سعيد عَن سعد بن إِبْرَاهِيم بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَة أَلْفَاظ: وَقَالَت: " لم يدع لي نَفَقَة، وَلَا مَالا، وَلَيْسَ الْمسكن لي ". قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد من الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ".
وَقَالَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، مَحْفُوظ، وهما اثْنَان، سعد بن إِسْحَاق، وَهُوَ أشهرهما، وَإِسْحَاق بن سعد بن كَعْب. وَقد روى عَنْهُمَا جَمِيعًا يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، فقد ارْتَفَعت عَنْهُمَا الْجَهَالَة ".

(4/289)


وروى ابْن بكير عَن مَالك عَن حميد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن سعيد بن الْمسيب أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كَانَ يرد الْمُتَوفَّى عَنْهُن أَزوَاجهنَّ من الْبَيْدَاء، يمنعهن من الْحَج ".
وَعنهُ عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا تبيت الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا، وَلَا المبتوتة إِلَّا فِي بَيتهَا ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " نسخت هَذِه، عدتهَا فِي أَهلهَا، فَتعْتَد حَيْثُ شَاءَت، لقَوْل الله عز وَجل: {غير إِخْرَاج} . . ".
وَعِنْده أَيْضا عَن عَطاء: قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " نسخت هَذِه الْآيَة عدتهَا عِنْد أَهلهَا، فَتعْتَد حَيْثُ شَاءَت، وَهُوَ قَول الله تبَارك وَتَعَالَى: {غير إِخْرَاج} ، قَالَ عَطاء: " إِن شَاءَت اعْتدت عِنْد أَهلهَا، وسكنت فِي وصيتها، وَإِن شَاءَت خرجت، لقَوْل الله تَعَالَى: {فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن} "، قَالَ عَطاء: " ثمَّ جَاءَ الْمِيرَاث فنسخ مِنْهُ السُّكْنَى، تَعْتَد حَيْثُ شَاءَت، وَلَا سُكْنى لَهَا ".

(4/290)


وَرُوِيَ عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يَصح، روى عَن مَحْبُوب بن مُحرز التَّمِيمِي عَن أبي مَالك النَّخعِيّ عَن عَطاء عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " أَمر الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا أَن تَعْتَد فِي غير بَيتهَا إِن شَاءَت ".
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " لم يسْندهُ غير أبي مَالك النَّخعِيّ، وَهُوَ ضَعِيف، ومحبوب هَذَا ضَعِيف أَيْضا ".
وَعند البُخَارِيّ عَن مُجَاهِد: " وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} : قَالَ: كَانَت هَذِه الْعدة تَعْتَد عِنْد أهل زَوجهَا، وَاجِب ذَلِك عَلَيْهَا، قَالَ: فَأنْزل الله عز وَجل {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف وَالله عَزِيز حَكِيم} ، قَالَ: جعل الله عز وَجل

(4/291)


لَهَا سَبْعَة أشهر وَعشْرين لَيْلَة وَصِيَّة، إِن شَاءَت سكنت فِي وصيتها، وَإِن شَاءَت خرجت، وَهُوَ قَول الله تَعَالَى: {غير إِخْرَاج فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن} ، فالعدة كَمَا هِيَ، وَاجِب (ة) عَلَيْهَا، زعم ذَلِك مُجَاهِد، وَقَالَ عَطاء: عَن ابْن عَبَّاس ... . . " الحَدِيث.
وروى عَن الشّعبِيّ قَالَ: " نقل عَليّ رَضِي الله عَنهُ أم كُلْثُوم بعد قتل عمر رَضِي الله عَنهُ لسبع لَيَال ". وَرَوَاهُ سُفْيَان فِي جَامعه، وَقَالَ: " لِأَنَّهَا كَانَت فِي دَار الْإِمَارَة ".
وَرُوِيَ عَن عَطاء أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أحجت بأختها فِي عدتهَا ". وَعَن سُفْيَان عَن ابْن الْقَاسِم عَن أَبِيه قَالَ: " كَانَت الْفِتْنَة وخوفها، يَعْنِي: حِين أحجت أُخْتهَا فِي عدتهَا ".
وَالله أعلم.

(4/292)


مَسْأَلَة (250) :

وَلَا إحداد على المبتوتة فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " عَلَيْهَا أَن تحد ".
رُوِيَ عَن أم عَطِيَّة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تحد الْمَرْأَة فَوق ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا على زَوجهَا، فَإِنَّهَا تحد عَلَيْهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا ".
فخض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا بِأَنَّهَا تحد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (251) :

وعَلى الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا الْإِحْدَاد، وَإِن كَانَت ذِمِّيَّة أَو صَغِيرَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا إحداد عَلَيْهِمَا ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم حَبِيبَة رَضِي الله عَنْهَا: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت فَوق ثَلَاث لَيَال إِلَّا على زوج أَرْبَعَة أشهرا وَعشرا ".

(4/293)


وَعَن زَيْنَب بنت جحش رَضِي الله عَنْهَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمثلِهِ سَوَاء.
وَالصَّغِيرَة دَاخِلَة فِيهِ؛ لِأَنَّهَا مُؤمنَة بِاللَّه تَعَالَى وباليوم الآخر.
وَرُوِيَ عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَا تلبس المعصفر من الثِّيَاب وَلَا الممشق وَلَا الْحلِيّ، وَلَا تختضب وَلَا تكتحل " وَلَيْسَ فِيهِ تَفْصِيل بَين مسلمة، وذمية، وصغيرة.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَا تكتحل، وَلَا تتطيب، وَلَا تختضب، وَلَا تلبس ثوبا مصبوغا إِلَّا الْبرد الْقصب، وَلَا تبت عَن بَيت زَوجهَا، وَلَكِن تزور بِالنَّهَارِ ".

(4/294)


وَهُوَ على إِطْلَاقه من غير تَخْصِيص. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (252) :

والعدتان من رجلَيْنِ لَا يتداخلان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يتداخلان ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب، وَسليمَان بن يسَار أَن طليحة كَانَت تَحت رشيد الثَّقَفِيّ فَطلقهَا الْبَتَّةَ، فنكحت فِي عدتهَا، فضربها عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَضرب زَوجهَا بالمخفقة ضربات وَفرق بَينهمَا، ثمَّ قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت فِي عدتهَا فَإِن كَانَ زَوجهَا الَّذِي تزَوجهَا لم يدْخل بهَا فرق بَينهمَا، ثمَّ اعْتدت بَقِيَّة عدتهَا من زَوجهَا الأول، (وَكَانَ خاطبا من الْخطاب، وَإِن كَانَ دخل بهَا فرق بَينهمَا، ثمَّ اعْتدت بَقِيَّة عدتهَا من زَوجهَا الأول) ثمَّ اعْتدت من الآخر، ثمَّ لم ينْكِحهَا أبدا "، قَالَ

(4/295)


سعيد: " وَلها مهرهَا بِمَا اسْتحلَّ مِنْهَا ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: وَكَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول: " صَدَاقهَا فِي بَيت المَال، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ، وَقَالَ: " لَهَا صَدَاقهَا "، وَكَانَ يَقُول: " لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا "، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ. قَالَه مَسْرُوق، وَغَيره. وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ.
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن (يحيى) بن حسان عَن عَطاء بن السَّائِب عَن زَاذَان عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قضى فِي الَّتِي تزوج فِي عدتهَا أَنه يفرق بَينهمَا، وَلها الصَدَاق بِمَا اسْتحلَّ من فرجهَا، وتكمل مَا أفسدت من عدَّة الأول، وَتعْتَد من الآخر. تَابعه

(4/296)


ابْن جريج عَن عَطاء عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ.
وَرَوَاهُ الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَجعل لَهَا الصَدَاق بِمَا اسْتحلَّ من فرجهَا، وَقَالَ: " إِذا انْقَضتْ عدتهَا فَإِن شَاءَت تزوجته فعلت ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (253) :

لم يذكرهَا، وَأكْثر مُدَّة الْحمل أَربع سِنِين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " سنتَانِ ".

(4/297)


رُوِيَ عَن الْمُبَارك بن مُجَاهِد قَالَ: " مَشْهُور عندنَا امْرَأَة مُحَمَّد بن عجلَان تحمل وتضع فِي أَربع سِنِين، وَكَانَت تسمى حاملة الْفِيل ".
وَعَن الْوَلِيد بن مُسلم: قلت لمَالِك بن أنس رَحمَه الله تَعَالَى: " أَي حَدِيث عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " لَا تزيد الْمَرْأَة فِي حملهَا على سنيتن قدر ظلّ المغزل "، فَقَالَ: " سُبْحَانَ الله {من يَقُول (بِهَذَا) } هَذِه جارتنا امْرَأَة مُحَمَّد بن عجلَان امْرَأَة صدق، وَزوجهَا رجل صدق، حملت ثَلَاث أبطن فِي اثْنَتَيْ عشرَة سنة، تحمل كل بطن أَربع سِنِين ".
وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود: " تربص أَربع سِنِين " يشبه أَن يكون إِنَّمَا قَالَه لبَقَاء الْحمل أَربع سِنِين.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (254) :

لم يذكرهَا، وَامْرَأَة الْمَفْقُود لَا تَعْتَد، وَلَا تنْكح أبدا، حَتَّى يَأْتِيهَا يَقِين وَفَاته. وَحكي عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه قَالَ: " إِذا بلغ مائَة وَعشْرين سنة وَجب على امْرَأَته الْعدة، وَفرق بَينهمَا ".

(4/298)


رُوِيَ عَن عباد بن عبد الله الْأَسدي عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود: " إِنَّهَا لَا تتَزَوَّج ". رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن يحيى بن حسان عَن أبي عوَانَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن الْمنْهَال بن عَمْرو عَن عباد بِهِ، قَالَ: " وَأخْبرنَا يحيى عَن هِشَام بن بشير (عَن أبي عوَانَة) عَن سيار ابي الحكم عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود إِذا قدم، وَقد تزوجت امْرَأَته: " هِيَ امْرَأَته إِن شَاءَ طلق، وَإِن شَاءَ أمسك ".
وروى سوار بن مُصعب الْكُوفِي وَلَيْسَ بِثِقَة عَن مُحَمَّد بن شُرَحْبِيل عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة مَرْفُوعا: " امْرَأَة الْمَفْقُود امْرَأَته حَتَّى يَأْتِيهَا الْبَيَان ".
وَالله أعلم.

(4/299)


مَسْأَلَة (255) :

وَأم الْوَلَد إِذا مَاتَ سَيِّدهَا، أَو أعتقت تستبرأ بِحَيْضَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " بِثَلَاث حيض ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ فِي أم الْوَلَد يتوفى عَنْهَا سَيِّدهَا قَالَ: " تَعْتَد بِحَيْضَة ".
وَقد روينَاهُ عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه عَنْهُم.
وَمَا رُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن رَجَاء بن حَيْوَة عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا تلبسوا علينا سنة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أم الْوَلَد إِذا توفّي عَنْهَا سَيِّدهَا عدتهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرا "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ قبيصَة لم يسمع من عَمْرو، وَالصَّوَاب: " لَا تلبسوا علينا ... " مَوْقُوفا ".

(4/300)


ثمَّ يعارضهم بِمَا رُوِيَ عَن مطر الْوراق عَن رَجَاء بن حَيْوَة عَن قبيصَة عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَا تلبسوا علينا سنة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عدَّة أم الْوَلَد حَيْضَة ".
وَرُوِيَ عَن سُوَيْد عَن عبد الْعَزِيز وَهُوَ غير قوي عَن سعيد عَن عَطاء: أَن مَارِيَة رَضِي الله عَنْهَا اعْتدت بِثَلَاث حيض "، وَهُوَ مُرْسل، وسُويد غير قوي. وَالله أعلم.
وَرِوَايَة الْجَمَاعَة عَن عَطاء مذْهبه، دون الرِّوَايَة.
وَرُوِيَ بِإِسْنَاد فِيهِ ضعف عَن نَافِع قَالَ: " سُئِلَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن عدَّة أم الْوَلَد، فَقَالَ: حَيْضَة، فَقَالَ رجل: إِن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول بِثَلَاثَة قُرُوء، فَقَالَ: عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ خيرنا وَأَعْلَمنَا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (256) :

وتزويج الْأمة الَّتِي يَطَؤُهَا لَا يَصح إِلَّا بِأَن يَسْتَبْرِئهَا بِحَيْضَة. وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه قَالَ: " يَصح ".

(4/301)


عِنْد أبي دَاوُد عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ رَفعه أَنه قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس: " لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا ذَات غير حمل حَتَّى تحيض حَيْضَة ".
وَرُوِيَ عَن رويفع بن ثَابت الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يحل لأحد يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، أَو من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر (فَلَا يسْقِي مَاءَهُ ولد غَيره ".
وَفِي رِوَايَة: " لَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) أَن يسْقِي مَاءَهُ زرع غَيره، وَلَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يَقع على امْرَأَة من السَّبي حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا ". وَالله أعلم.

(4/302)


كتاب الرَّضَاع

وَمن كتاب الرَّضَاع:
مَسْأَلَة (257) :

لَا يحرم اقل من خمس رَضعَات. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " الرضعة الْوَاحِدَة تحرم ".
دليلنا مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ فِيمَا أنزل من الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات يحرمن، ثمَّ نسخن بِخمْس مَعْلُومَات، فَتوفي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهن مِمَّا يقْرَأ من الْقُرْآن ".
وَعِنْده أَيْضا عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تحرم المصة، وَلَا المصتان "، وَزَاد فِي رِوَايَة: " من الرضَاعَة ". وَقَالَ فِي أُخْرَى: " لَا تحرم الإملاجة، وَلَا الإملاجتان "، عَن أم الْفضل رَضِي الله عَنْهَا عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.

(4/303)


وعنها عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تحرم المصة، وَلَا المصتان، أَو الرضعة، أَو الرضعتان ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَن أَبَا حُذَيْفَة بن عتبَة كَانَ قد تبنى سالما، وأنكحه بنت أَخِيه، وَهُوَ مولى لامْرَأَة من الْأَنْصَار، كَمَا تبنى رَسُول الله زيدا، فَجَاءَت سهلة بنت سُهَيْل رَضِي الله عَنْهَا امْرَأَة أبي حُذَيْفَة فَقَالَت: " يَا رَسُول الله، إِنَّا كُنَّا نرى سالما ولدا، وَقد يأوي معي، وَمَعَ أبي حُذَيْفَة فِي بَيت وَاحِد، ويراني فضلا، وَقد انْزِلْ الله فيهم مَا قد علمت، فَكيف ترى فِيهِ؟ " فَقَالَ لَهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارضعيه "، فأرضعته خمس رَضعَات، فَكَانَ بِمَنْزِلَة وَلَدهَا من الرضَاعَة. فبذلك كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تامر بَنَات أخواتها، وَبَنَات إخوتها أَن يرضعن من أحبت عَائِشَة أَن يَرَاهَا وَيدخل عَلَيْهَا وَإِن كَانَ كَبِيرا خمس رَضعَات، ثمَّ يدْخل عَلَيْهَا. وأبت ذَلِك أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا وَسَائِر أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقلن لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَمَا نَدْرِي لَعَلَّهَا كَانَت رخصَة من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسالم دون النَّاس ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّمَا الرضَاعَة من

(4/304)


المجاعة ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: " لَا رضَاع إِلَّا مَا شدّ الْعظم وَأنْبت اللَّحْم ". وَفِي رِوَايَة مَرْفُوعا بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " أنشز الْعظم ".
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن الزبير، وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُم مَرْفُوعا: " لَا رضَاع إِلَّا مَا فتق الأمعاء ". وَالصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوف.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " قَلِيل الرضَاعَة وكثيرها يحرم فِي المهد ". قَالَ ابْن شهَاب: " يَقُول: لَا رضَاع بعد حَوْلَيْنِ

(4/305)


كَامِلين ". رُوَاته ثِقَات.
وَرُوِيَ (بِإِسْنَاد) صَحِيح عَن عَمْرو بن دِينَار أَنه سمع ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا سَأَلَهُ رجل: أتحرم رضعة ورضعتان؟ فَقَالَ: " مَا نعلم الْأُخْت من الرضَاعَة إِلَّا حَرَامًا "، فَقَالَ الرجل: " إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يُرِيد ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا زعم أَنه لَا تحرم رضعة "، فَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: " قَضَاء الله خير من قضائك وَقَضَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ ".
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن عَليّ، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: " يحرم من الرضَاعَة قَلِيله وَكَثِيره ".
إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ، فَإِن لم يرو مُتَّصِلا بِإِسْنَاد آخر فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، فَروِيَ عَن قَتَادَة قَالَ: " كتبنَا إِلَى إِبْرَاهِيم فِي الرَّضَاع، فَكتب إِلَيْنَا أَن شريحا حدث أَن عليا، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: يحرم من الرَّضَاع قَلِيله وَكَثِيره ". قَالَ: " وَكَانَ فِي كِتَابه أَن أَبَا الشعْثَاء الْمحَاربي حدث أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: لَا تحرم الْخَطفَة، (وَلَا) الخطفتان ".
وَهَذَا أَيْضا مُنْقَطع؛ فَإِنَّهُ كتاب، وَأَيْضًا (فَإِن) إِبْرَاهِيم يَقُول: " حَدِيث شُرَيْح "، وَهُوَ إرْسَال.

(4/306)


وَرَوَاهُ ابْن لَهِيعَة عَن أبي الزبير عَن جَابر، وَابْن لَهِيعَة لَا يحْتَج بِهِ.
وَأما حَدِيث الدَّاجِن الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا أكلت الصَّحِيفَة الَّتِي فِيهَا آيَة الرَّجْم ورضاعة الْكَبِير عشرا يرْوى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَإِنَّهُ إِخْبَار عَن أَمر رفع، دون تَعْلِيق حكم بِهِ.
وَقد كَانَت آيَة الرَّجْم مَعْلُومَة عِنْد الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَعَلمُوا نسخ تلاوتها دون حكمهَا، وَذَلِكَ حِين رَاجع عمر رَضِي الله عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كتبهَا، فَلم يَأْذَن لَهُ فِيهَا.
وَأما رضاعة الْكَبِير فهى عِنْد (غير) عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا

(4/307)


مَنْسُوخَة، أَو كَانَت رخصَة لسالم وَحده، فَلذَلِك لم يثبتوها.
وَأما رضاعته عشرا فقد أخْبرت أَنَّهَا صَارَت مَنْسُوخَة بِخمْس يحرمن، فَكَانَ نسخ تلاوتها وَحكمهَا مَعْلُوما عِنْد الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم؛ لأجل ذَلِك لم يثبتوها، لَا لأجل أكل الدَّاجِن صحيفتها، وَهَذَا وَاضح بَين بِحَمْد الله تَعَالَى وَمِنْه.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد أَن حَفْصَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا أرْسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إِلَى أُخْتهَا فَاطِمَة بنت عمر ترْضِعه عشر رَضعَات ليدْخل عَلَيْهَا، وَهُوَ صَغِير يرضع، فَفعلت، فَكَانَ يدْخل عَلَيْهَا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (258) :

لَا رضَاع بعد الْحَوْلَيْنِ، خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله حَيْثُ قدر مُدَّة الرَّضَاع بِثَلَاثِينَ شهرا.
دليلنا قَول الله عز وَجل: {وفصاله فِي عَاميْنِ} ، وَقَالَ جلّ جَلَاله: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} ، وَمَا رُوِيَ

(4/308)


عَن عمر رَضِي الله عَنهُ: " لَا رضَاع إِلَّا فِي الْحَوْلَيْنِ فِي الصغر ".
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَرُوِيَ التَّحْدِيد بالحولين عَن ابْن الْمسيب، وَعُرْوَة، وَالشعْبِيّ، رَضِي الله عَنْهُم، وَالله تَعَالَى أعلم.

(4/309)


(صفحه فارغة)

(4/310)


كتاب النَّفَقَات

وَمن كتاب النَّفَقَات:
مَسْأَلَة (259) :

وَنَفَقَة الصَّغِيرَة تجب على زَوجهَا فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تجب ".
رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حث على الصَّدَقَة، فجَاء رجل فَقَالَ: " عِنْدِي دِينَار "، قَالَ: " أنفقهُ على نَفسك "، قَالَ: " عِنْدِي آخر "، قَالَ: " أنفقهُ على ولدك "، قَالَ: " عِنْدِي آخر "، قَالَ: " أنفقهُ على زَوجتك "، قَالَ: " عِنْدِي آخر "، قَالَ: " أنفقهُ على خادمك "، قَالَ: " عِنْدِي آخر "، قَالَ: " أَنْت أبْصر "، رُوَاته ثِقَات.
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (260) :

والإعسار بِنَفَقَة الزَّوْجَة يُوجب لَهَا خِيَار الْفَسْخ للنِّكَاح. وَقَالَ

(4/311)


أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَيْسَ خِيَار الْفَسْخ بذلك ".
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى، وَالْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى، وابدأ بِمن تعول "، قَالَ: " وَمن أعول؟ يَا رَسُول الله "، قَالَ: " امْرَأَتك، تَقول: أَطْعمنِي وَإِلَّا فارقني، خادمك، يَقُول: أَطْعمنِي واستعملني، ولدك، يَقُول: إِلَى من تتركني "، وَفِي رِوَايَة جعل آخِره من قَول أبي هُرَيْرَة. أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد قَالَ: " سَأَلت سعيد بن الْمسيب عَن الرجل لَا يجد مَا ينْفق على امْرَأَته "، قَالَ: " يفرق بَينهمَا "، (قلت: " سنة؟ "، قَالَ: " سنة ".
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا فِي الرجل لَا يجد مَا ينْفق على امْرَأَته، قَالَ: " يفرق بَينهمَا ") .

(4/312)


وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُسلم بن خَالِد عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد فِي رجال غَابُوا عَن نِسَائِهِم يَأْمُرهُم أَن يأخذوهم بِأَن ينفقوا أَو يطلقوا فَإِن طلقوا بعثوا بِنَفَقَة مَا حبسوا. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (261) :

وَلَا نَفَقَة للمبتوته الْحَائِل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَهَا النَّفَقَة ".
قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ} ، فدلت على أَن النَّفَقَة للحامل دون غَيرهَا.
وَفِي صَحِيح مُسلم حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس، وَفِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " لَا نَفَقَة لَك، إِلَّا أَن تَكُونِي حَامِلا ".

(4/313)


وَالَّذِي أنكر عَلَيْهَا هُوَ ترك السُّكْنَى، لَا النَّفَقَة، فقد رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " قلت: يَا رَسُول الله، زَوجي طَلقنِي ثَلَاثًا، فَأَخَاف أَن يقتحم عَليّ "، فَيحْتَمل أَنه إِنَّمَا نقلهَا لذَلِك.
يُؤَكد ذَلِك مَا جَاءَ عِنْد أبي دَاوُد عَن عُرْوَة قَالَ: " لقد عابت ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَشد الْعَيْب يَعْنِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس وَقَالَت: إِن فَاطِمَة كَانَت بمَكَان وَحش، فخيف على ناحيتها، فَلذَلِك أرخص لَهَا رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمسيب أَنه إِنَّمَا نقلهَا أَنَّهَا استطالت على أحمائها بلسانها.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن الْقَاسِم، وَسليمَان أَن يحيى بن سعيد بن الْعَاصِ طلق ابْنة عبد الرَّحْمَن بن الحكم أَلْبَتَّة، فأنقلها عبد الرَّحْمَن، فَأرْسلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى مَرْوَان وَهُوَ امير الْمَدِينَة فَقَالَت: " اتَّقِ الله يَا مَرْوَان، واردد (الْمَرْأَة) إِلَى بَيتهَا "، فَقَالَ مَرْوَان فِي حَدِيث سُلَيْمَان: " إِن عبد الرَّحْمَن غلبني "، وَقَالَ فِي حَدِيث الْقَاسِم: " أَو مَا بلغك شَأْن فَاطِمَة؟ " فَقَالَت عَائِشَة: " لَا عَلَيْك أَن لَا

(4/314)


يذكر من شَأْن فَاطِمَة "، فَقَالَ: " إِن كَانَ إِنَّمَا بك الشَّرّ فحسبك مَا بَين هذَيْن من الشَّرّ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَذكر مناظرة جرت بَينه وَبَين بعض النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَذكر حَدِيث فَاطِمَة قَالَ: فَقَالَ: " إِنَّكُم تركْتُم حَدِيث فَاطِمَة، هِيَ قَالَت: قَالَ لي (النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) : لَا سُكْنى لَك وَلَا نَفَقَة " , فَقلت لَهُ: " مَا تركنَا من حَدِيث فَاطِمَة حرفا، وَلَو كَانَ مَا حدثتم عَنْهَا كَمَا حدثتم كَانَ على مَا قُلْنَا، وعَلى خلاف مَا قُلْتُمْ "، قَالَ: " وَكَيف قلت؟ " قلت: " أما حديثنا (فَصَحِيح) على وَجهه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا نَفَقَة لَك عَلَيْهِم، وأمرها أَن تَعْتَد فِي بَيت ابْن أم مَكْتُوم، وَلَو كَانَ فِي حَدِيثهَا إحلاله لَهَا أَن تَعْتَد حَيْثُ شَاءَت لم يحظر عَلَيْهَا أَن تَعْتَد حَيْثُ شَاءَت ".
قَالَ: " كَيفَ أخرجوها من بَيت زَوجهَا وأمرها أَن تَعْتَد فِي بَيت غَيره؟ " قلت: " لعِلَّة لم تذكرها فَاطِمَة، كَأَنَّهَا استحيت من ذكرهَا، وَقد ذكرهَا غَيرهَا ". قَالَ: " وَمَا هِيَ؟ " قلت: " كَانَ فِي لسانها ذرب، فاستطالت على أحمائها "، استطالت: تفاحشت.
قَالَ: " فَهَل من دَلِيل على مَا قلت؟ " قلت: " نعم، فِي الْخَبَر عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَيره من أهل الْعلم ". قَالَ: " فاذكرها ". قلت: " قَالَ الله عز وَجل: {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ} الْآيَة، وَأخْبرنَا عبد الْعَزِيز

(4/315)


الدَّرَاورْدِي عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَول الله عز وَجل: {وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} قَالَ: " أَن تبذو على أهل زَوجهَا، فَإِذا بذت فقد حل إخْرَاجهَا ".
فَقَالَ: " هَذَا تَأْوِيل، وَقد يحْتَمل مَا قَالَ، وَيحْتَمل غَيره، أَن تكون الْفَاحِشَة خُرُوجهَا، وَأَن تكون الْفَاحِشَة أَن تخرج للحد ". قلت: " فَإِذا احتملت الْآيَة مَا وصفت فَأَي الْمعَانِي أولى بهَا؟ " قَالَ: " معنى مَا وافقته السّنة ". فَقلت: " فقد ذكرت فِي ذَلِك السّنة فِي فَاطِمَة ".
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن حبلة عَن أبي أَحْمد الزبيرِي عَن

(4/316)


عمار بن زُرَيْق عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود: " أَتَت فَاطِمَة بنت قيس رَضِي الله عَنْهَا عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي حفظت أم لَا ".
وَرَوَاهُ يحيى بن آدم، وَغَيره عَن (عمار) ، وَلم يذكر فِيهِ: " وَسنة نَبينَا ".

(4/317)


وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَلم يذكر فِيهِ: " وَسنة نَبينَا "، وَإِنَّمَا ذكره الزبيرِي عَن عمار، وَحَمَّاد بن إِبْرَاهِيم، وَالْحسن بن عمَارَة عَن ابْن كهيل عَن عبد الله بن الْخَلِيل عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَيحيى بن آدم أحفظ من أبي أَحْمد وَأثبت مِنْهُ، وَقد تَابعه قبيصَة بن عقبَة، وَغَيره.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " وَأما ابْن عمَارَة فمتروك، وَأَشْعَث بن سوار ضَعِيف، وَرِوَايَة الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم أصح؛ لِأَنَّهُ أثبت، وأحفظ من أَشْعَث، وَالله أعلم ".
رُوِيَ عَن أبي دَاوُد قَالَ: " سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل، رَحمَه الله، وَذكر لَهُ قَول عمر رَضِي الله عَنهُ: " لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا "،

(4/318)


قلت: يَصح هَذَا عَن عمر؟ قَالَ: لَا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْقَدِيم: " قَالَ قَائِل فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ اتهمَ حَدِيث فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا وَقَالَ: لَا نَدع كتاب رَبنَا لقَوْل امْرَأَة،، قُلْنَا: لَا نَعْرِف أَن عمر رَضِي الله عَنهُ اتهمها، وَمَا كَانَ فِي حَدِيثهَا مَا يتهم لَهُ، مَا حدثت إِلَّا بِمَا لَا تحب، وَهِي امْرَأَة من الْمُهَاجِرين، لَهَا شرف وعقل وَفضل، وَلَو رد شَيْء من حَدِيثهَا كَانَ إِنَّمَا يرد مِنْهُ أَنه أمرهَا بِالْخرُوجِ من بَيت زَوجهَا، فَلم تذكر هِيَ: لم أمرت بذلك، وَإِنَّمَا أمرت بِهِ لِأَنَّهَا استطالت على أحمائها، فَأمرت بالتحول عَنْهُم للشر بَينهَا وَبينهمْ، وَلم تُؤمر أَن تَعْتَد فِي بَيت ابْن أم مَكْتُوم؛ لِأَن من حق الزَّوْج أَن يحصن لَهُ حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة، فَلَمَّا جَاءَ عذر حصنت فِي غير بَيته، فكأنهم أَحبُّوا لَهَا ذكر السَّبَب الَّذِي لَهُ أخرجت؛ لِئَلَّا يذهب ذَاهِب إِلَى (أَن) النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى أَن تَعْتَد المبتوتة حَيْثُ شَاءَت فِي غير بَيت زَوجهَا ".
ثمَّ سَاق الْكَلَام، إِلَى أَن قَالَ: " وَمَا يعلم فِي كتاب الله ذكر نَفَقَة، إِنَّمَا فِي كتاب الله (ذكر) السُّكْنَى ". ثمَّ ذكر حَدِيث ابْن الْمسيب، وَقَول مَرْوَان لعَائِشَة، وَقد تقدم.
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن عبد الْمجِيد عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَيْسَ للمتوفى عَنْهَا زَوجهَا نَفَقَة، حسبها الْمِيرَاث ".
وَبِه عَنهُ: " نَفَقَة الْمُطلقَة مَا لم تحرم، فَإِذا حرمت فمتاع

(4/319)


بِالْمَعْرُوفِ ".
وَرُوِيَ عَنهُ مَرْفُوعا: " الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفقَة ". وَعنهُ فِي الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا: " لَا نَفَقَة لَهَا ". وَكِلَاهُمَا خطأ.
وَرُوِيَ عَن عَطاء أَنه ذهب أَن لَا نَفَقَة للمبتوتة إِلَّا الْحَامِل.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن لَا نَفَقَة للمطلقة ثَلَاثًا، وَأَن لَا نَفَقَة للحامل المتوفي عَنْهَا زَوجهَا، وَأَن أَبَا الزبير كَانَ يقْضِي بِخِلَافِهِ فِي المتوفي عَنْهَا، ثمَّ عَاد إِلَى قَوْله حِين بلغه.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَا تنْتَقل، وَهِي فِي ذَلِك لَا نَفَقَة لَهَا ". وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (262) :

وَيُخَير الْوَلَد بَين أَبَوَيْهِ إِذا بلغ سبع سِنِين أَو ثَمَان. وَقَالَ أَبُو

(4/320)


حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يُخَيّر أصلا ".
وَحكى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن بعض النَّاس أَنهم قَالُوا: " الْأُم أَحَق بالغلام حَتَّى يَأْكُل وَحده ويلبس وَحده، ثمَّ الْأَب أَحَق بِهِ، ثمَّ الْأُم أَحَق بالجارية حَتَّى تحيض ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ بَيَان أَنَّهَا كَانَت مُطلقَة، وَأَنه اخْتَار أمه.
وَعند أبي دَاوُد عَن رَافع بن سِنَان رَضِي الله عَنهُ أَنه أسلم، وأبت امْرَأَته أَن تسلم، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: " ابْنَتي، وَهِي فطيم "، وَقَالَ رَافع: " ابْنَتي "، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرافع: " اقعد نَاحيَة "، وَقَالَ لامْرَأَته: " أقعدي نَاحيَة "، وأقعد الصبية بَينهمَا، ثمَّ قَالَ: " ادعواها "، فمالت الصبية إِلَى أمهَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ اهدها "، فمالت إِلَى أَبِيهَا، فَأَخذهَا.
قَالَ أَبُو عبد الله: " هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ".
وَفِي هَذَا إِثْبَات التَّخْيِير بَين الْأَبَوَيْنِ، وَإِن كَانَ أَحدهمَا غير مُسلم، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو سعيد الْإِصْطَخْرِي من أَصْحَابنَا. وَقد ألزمهم الشَّافِعِي

(4/321)


رَحمَه الله روايتهم هَذَا الحَدِيث فِي التَّخْيِير لإنكارهم التَّخْيِير أصلا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَنْت أَحَق بِهِ مَا لم تنكحي "، فَجَعلهَا أَحَق بِهِ مَا لم تنْكح، وَلم يعْتَبر مَا اعتبروه.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان بِسَنَدِهِ أَن عمر خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه.
وَعنهُ عَن يُونُس بن عبد الله عَن عمَارَة الْجرْمِي قَالَ: " خيرني عَليّ رَضِي الله عَنهُ بَين أُمِّي وَعمي، ثمَّ قَالَ لأخ لي أَصْغَر مني: وَهَذَا أَيْضا لَو قد بلغ مبلغ هَذَا لخيرته ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قَالَ إِبْرَاهِيم: عَن يُونُس عَن عمَارَة عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ فِي الحَدِيث: " وَكنت ابْن سبع أَو ثَمَان سِنِين ".
وَالله أعلم.

(4/322)


كتاب الْجراح

ذكر مَا اخْتلف فِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة رحمهمَا الله من كتاب الْجراح مِمَّا ورد فِيهِ خبر أَو أثر.
مَسْأَلَة (263) :

لَا يقتل الْمُسلم بالذمي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يقتل ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن أبي جُحَيْفَة قَالَ: " " قلت لعَلي رَضِي الله عَنهُ: هَل عنْدكُمْ من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْء سوى الْقُرْآن؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة، إِلَّا أَن يُعْطي الله عبدا فهما فِي كِتَابه، أَو مَا فِي الصَّحِيفَة، قلت: وَمَا فِي الصَّحِيفَة؟ قَالَ: الْعقل، وفكاك الْأَسير، وَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر ".
عَن قيس بن عباد قَالَ: " انْطَلَقت أَنا وَالْأَشْتَر إِلَى عَليّ

(4/323)


رَضِي الله عَنهُ فَقُلْنَا: هَل عهد إِلَيْك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عهدا لم يعهده إِلَى النَّاس (عَامَّة) ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا مَا فِي كتابي هَذَا، فَأخْرج كتابا، فَإِذا فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، وهم يَد على من سواهُم، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم، أَلا لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ... . الحَدِيث ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " يشبه أَن يكون لما أعلمهم أَنه لَا قَود بَينهم وَبَين الْكفَّار أعلمهم أَن دِمَاء أهل الْعَهْد مُحرمَة عَلَيْهِم، فَقَالَ: لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر، وَلَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده ".
احْتج أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ رحمنا الله وإياه على صِحَة مَا تأولوا عَلَيْهِ الْخَبَر من أَن المُرَاد بِهِ: لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر حَرْبِيّ، وَلَا يقتل بِهِ ذُو عهد بِأَن رَاوِيه عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ أعلم بتأويله، وَقد أَشَارَ الْمُهَاجِرُونَ على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بقتل عبيد الله بن عمر حِين قتل الهرمزان وجهينة، وهما ذميان، وَكَانَ فيهم عَليّ،

(4/324)


رَضِي الله عَنهُ، فَثَبت بزعم هَذَا أَن معنى الْخَبَر مَا ذكره.
وَهَذَا سَاقِط من أوجه:
أَحدهَا: أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ فِي هَذَا الْبَاب أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أَشَارَ بذلك، فإدخاله فِي جملَة من أَشَارَ بِهِ على عُثْمَان دون رِوَايَة مَوْصُولَة محَال.
وَالثَّانِي: أَن فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَنه قتل ابْنة لأبي لؤلؤة صَغِيرَة كَانَت تَدعِي الْإِسْلَام، وَإِذا وَجب الْقَتْل بِوَاحِد من قتلاه وَجب أَن يشيروا عَلَيْهِ بِالْقصاصِ.
الثَّالِث: أَن الهرمزان (وَإِن) أقرّ بِالْإِسْلَامِ حَالَة مَسّه السَّيْف فِي الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فَكَانَ قد أسلم قبل ذَلِك، وَهُوَ مَعْرُوف مَشْهُور بَين أهل الْمَغَازِي، وَإِنَّمَا قَالَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله " حِين مَسّه السَّيْف تَعَجبا، أَو تبعيدا لما اتهمه بِهِ عبيد الله.
وَمن الدَّلِيل على إِسْلَامه قبل ذَلِك، وَذكر أَسَانِيد فِي إِسْلَامه، وَأَن عمر رَضِي الله عَنهُ فرض لَهُ، عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ وَغَيره، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن الثَّقَفِيّ عَن حميد عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ.

(4/325)


وَلَو اقْتصر هَذَا الشَّيْخ على مَا احْتج بِهِ مشايخه لم يَقع لَهُ هَذَا الْخَطَأ الْفَاحِش، لكنه يعرف ويخطئ، وَلَا يستوحش من رد الْأَخْبَار الصَّحِيحَة ومعارضتها بأمثال هَذَا، وَالله الْمُسْتَعَان.
ورويناه فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، وَمَعْقِل بن يسَار، وَعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَحَدِيث عمرَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَذكر رجلا: " لَو قتلت مُؤمنا بِكَافِر لقتلته " ".
وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن عبيد الله بن عبد الْمجِيد عَن ابْن وهب عَن مَالك عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن عمْرَة

(4/326)


عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " وجد فِي قَائِم سيف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كِتَابَانِ "، فَذكر أَحدهمَا، قَالَ: " وَفِي الآخر: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم لَا يقتل مُسلم بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ".
وَذكرنَا فِيهِ ابْن وهب، هُوَ عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن وهب، وَمَالك هُوَ ابْن أبي الرِّجَال. وَأَبُو الرِّجَال هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ، الَّذِي روى عَنهُ ابْنه مَالك.
وَحَدِيث معقل رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده، والمسلمون يَد على من سواهُم، وتتكافأ دِمَاؤُهُمْ ".
وَحَدِيث عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " خطب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفَتْح "، فَذكر الْخطْبَة، فِيهَا: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ فِي كَلَام غَيره، من غير ذكر خطْبَة، وَفِيه: " وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ".
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله حَدِيثا مُرْسلا عَن عَطاء وطاووس

(4/327)


احسبه قَالَ: وَمُجاهد وَالْحسن أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْم الْفَتْح: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر "، وَقَالَ: " وَهَذَا عَام عِنْد أهل الْمَغَازِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تكلم بِهِ فِي خطبَته يَوْم الْفَتْح ".
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْندًا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، وَحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى عمار بن مطر عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأَسْلَمِيّ عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل مُسلما بمعاهد، وَقَالَ: " أَنا أكْرم من وفى بِذِمَّتِهِ ".
أَخطَأ عمار فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: فِي قَوْله: " عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن "، وَإِنَّمَا يرويهِ إِبْرَاهِيم عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عبد الرَّحْمَن.
وَالْآخر: فِي ذكر ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِيهِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بِهَذَا الْإِسْنَاد مُرْسلا. دون ذكر ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ فِيهِ.
وَهُوَ غير مستبدع من عمار بن مطر الرهاوي، فقد كَانَ

(4/328)


يقلب الْأَسَانِيد، وَيسْرق الْأَحَادِيث، حَتَّى كثر ذَلِك فِي رِوَايَته، وَسقط عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ.
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُحَمَّد بن الْحسن عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي أَن رجلا من الْمُسلمين قتل رجلا من أهل الذِّمَّة فَرفع ذَلِك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَنا أَحَق من أوفى بِذِمَّتِهِ ". ثمَّ أَمر بِهِ فَقتل.
كَذَا رَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن سَلام، وَغَيره عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي يحيى مُرْسلا. وَرَوَاهُ الثَّوْريّ، وَغَيره عَن ربيعَة عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا. قَالَ أَبُو عبيد: " بَلغنِي عَن ابْن أبي يحيى أَنه قَالَ: مَا حَدِيث ربيعَة بِهَذَا الحَدِيث فَالْحَدِيث يَدُور عَلَيْهِ، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث لَا يحل الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ، وَابْن الْبَيْلَمَانِي تكلمُوا فِيهِ، وَقد قيل: إِنَّه قريب من ابْنه مُحَمَّد فِي الضعْف ".
قَالَ صَالح بن مُحَمَّد الْحَافِظ: " عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد

(4/329)


الْبَيْلَمَانِي حَدِيثه مُنكر، روى عَن ربيعَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل مُسلما بمعاهد، وَهُوَ مُرْسل مُنكر ".
وَقَالَ (ابْن الْمَدِينِيّ: " حَدِيث ") ابْن الْبَيْلَمَانِي أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل (مُسلما بمعاهد) إِنَّمَا يَدُور على ابْن أبي يحيى، لَيْسَ لَهُ وَجه حجاج، وَإِنَّمَا أَخذه عَنهُ ".
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " ابْن الْبَيْلَمَانِي لَا تقوم بِهِ حجَّة إِذا وصل، فَكيف بِمَا يُرْسِلهُ! وَالله أعلم ".
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قَالَ قَائِل: فقد روينَا من حَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل مُؤمنا بِكَافِر قُلْنَا: أفرايت لَو كُنَّا نَحن وَأَنت نثبت الْمُنْقَطع لحسن الظَّن بِمن روى، فَروِيَ حديثان أَحدهمَا

(4/330)


مُنْقَطع، وَالْآخر مُتَّصِل بِخِلَافِهِ، أَيهمَا كَانَ أولى بِنَا أَن نثبته؟ الَّذِي ثبتناه، وَقد عرفنَا من رَوَاهُ بِالصّدقِ؟ أَو الَّذِي ثبتناه بِالظَّنِّ؟ قَالَ: بل الَّذِي ثبتناه مُتَّصِلا.
قُلْنَا: فحديثنا مُتَّصِل، وَحَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي مُنْقَطع خطأ، وَإِنَّمَا روى ابْن الْبَيْلَمَانِي فِيمَا بَلغنِي أَن عَمْرو بن أُميَّة قتل كَافِرًا لَهُ عهد إِلَى مُدَّة، وَكَانَ الْمَقْتُول رَسُولا فَقتله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ "، فَلَو كَانَ ثَابتا كنت أَنْت قد خَالَفت الْحَدِيثين، حديثنا وَحَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي.
قَالَ: " وَالَّذِي قَتله عَمْرو بن أُميَّة قبل بني النظير، وَقبل الْفَتْح بِزَمَان، وخطبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر عَام الْفَتْح، فَلَو كَانَ كَمَا يَقُول كَانَ مَنْسُوخا. قَالَ: فَلم لم تقل بِهِ، وَتقول: هُوَ مَنْسُوخ؟ قلت هَذَا خطأ، قلت: عَاشَ عَمْرو بن أُميَّة بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دهرا، وَأَنت إِنَّمَا تَأْخُذ الْعلم من بعد، لَيْسَ لَك بِهِ مثل معرفَة أَصْحَابنَا، وَعَمْرو قتل اثْنَيْنِ وداهما النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يزدْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمرا على أَن قَالَ: " قتلت رجلَيْنِ لَهما مني عهد لأدينهما ".

(4/331)


وَرُوِيَ عَن أبي الْجنُوب الْأَسدي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أَمر بقتل مُسلم قتل ذِمِّيا. وَأَبُو الْجنُوب ضَعِيف، وَعلي رَضِي الله عَنهُ لَا يروي عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا ثمَّ يُخَالِفهُ.
وَرُوِيَ بِسَنَد ضَعِيف عَن الشّعبِيّ قَالَ: " قتل رجل من الْمُسلمين رجلا من أهل الْحيرَة نَصْرَانِيّا فَقتله بِهِ عمر، رَضِي الله عَنهُ ". وَهَذَا مَعَ ضعف رُوَاته مُنْقَطع.
وَرَوَاهُ النَّخعِيّ، وَزَاد فِيهِ: " فَكتب عمر رَضِي الله عَنهُ بعد ذَلِك: إِن كَانَ الرجل يقتل فَلَا تقتلوه "، فزادا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ أَن يرضيهم من الدِّيَة.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ أولى بِهِ، وَلَعَلَّه أَرَادَ أَن يخيفه بِالْقَتْلِ، وَلَا يقْتله، وَهُوَ مُنْقَطع ضَعِيف ".
وروى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا مُسلما قتل رجلا من أهل الذِّمَّة عمدا، وَرفع إِلَى (عمر) رَضِي الله عَنهُ فَلم يقْتله، وَغلظ عَلَيْهِ الدِّيَة ".

(4/332)


وَرُوِيَ أَنه أَرَادَ أَن يقْتَصّ فِي شجه فَقَالَ لَهُ زيد رَضِي الله عَنهُ: " أتقيد عَبدك من أَخِيك "، وَأَنه أَرَادَ قَتله بِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَة رَضِي الله عَنهُ: " لَيْسَ ذَلِك لَك، أَرَأَيْت لَو قتل عبدا لَهُ أَكنت قَاتله بِهِ؟ ".
وَرُوِيَ عَن ابْن شهَاب قَالَ: " كَانَ عُثْمَان، وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا لَا يقيدان الْمُشرك من الْمُسلم ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن أخبرنَا مُحَمَّد بن يزِيد أخبرنَا سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ أَن ابْن سَاس الخزامي قتل رجلا من أَنْبَاط الشَّام، فَرفع إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَأمر بقتْله، فَكَلمهُ الزبير، وناس من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ونهوه عَن قَتله، فَجعل دِيَته ألف دِينَار ".
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قلت: هَذَا من حَدِيث من يجهل، فَإِن كَانَ غير ثَابت فدع الِاحْتِجَاج بِهِ، وَإِن كَانَ ثَابتا فقد زعمت أَنه أَرَادَ قَتله، فَمَنعه أنَاس من أَصْحَاب رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَهَذَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وأناس من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مجمعون: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر، فَكيف خالفتهم ". وَالله أعلم.

(4/333)


مَسْأَلَة (264) :

لَا يقتل حر بِعَبْد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يقتل ".
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة على الْكتاب وَالنَّظَر، قَالَ الله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ} ، فَأدْخل فِيهِ لَام الْمعرفَة، فَوَجَبَ قصر الحكم عَلَيْهِ، وَنفي مَا عداهُ على طَريقَة أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول بفحوى الْكَلَام.
وَنَظِيره قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاء لمن أعتق "، أَي: لَا وَلَاء لمن لم يعْتق. وَكَذَلِكَ قَوْله: " الْحر بِالْحرِّ "، وَلَا يقتل بِالْعَبدِ. قَالَه لي الْأُسْتَاذ أَبُو طَاهِر الريادي.
وَرُوِيَ الثَّوْريّ عَن يُونُس عَن الْحسن قَالَ: " لَا يقتل الْحر بالمملوك ".
وَعَن ابْن جريج قَالَ: " لَا يقتل بِهِ "، رَوَاهُ مَالك عَن الزُّهْرِيّ.

(4/334)


وَرُوِيَ بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يقتل حر بِعَبْد "، وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر. وَالله أعلم
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " من السّنة أَن لَا يقتل مُسلم بِكَافِر، وَلَا حر بِعَبْد "، رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ، فَإِن سلم مِنْهُ فسائر رُوَاته ثِقَات.
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا لَا يقتلان الْحر بقتل العَبْد.
وَفِيمَا تقدم من قَول أبي عُبَيْدَة وَزيد لعمر رَضِي الله عَنْهُم وموافقته لَهما عَلَيْهِ، فَنزل قتل الْمُسلم بالذمي هُوَ يعرض أَن ينْقض الْعَهْد فَيلْحق بدار الْحَرْب فيسترق.
وَرُوِيَ عَن الحكم قَالَ: " قَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم: " إِذا قتل الْحر العَبْد مُتَعَمدا فَهُوَ قَود ".
قَالَ عَليّ بن عمر: " لَا تقوم بِهِ حجَّة؛ لِأَنَّهُ مُرْسل ".
وَمَا رُوِيَ عَن الْحسن عَن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " من قتل

(4/335)


عَبده قَتَلْنَاهُ، وَمن جدعه جدعناه، وَمن خصاه خصيناه " فمنسوخ إِجْمَاعًا.
وَقد روى أَبُو دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام عَن قَتَادَة عَن الْحسن قَالَ: " لَا يُقَاد الْحر بِالْعَبدِ "، فِيهِ دلَالَة على نسخ مَا رَوَاهُ (سَمُرَة) أَو ضعف الرِّوَايَة عَنهُ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (265) :

الْقصاص يجْرِي فِيمَا بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَبَين العبيد فِي النَّفس، وَفِيمَا دون النَّفس. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يجْرِي بَينهم الْقصاص فِيمَا دون النَّفس ".
لنا مَا قَالَ البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة، فَقَالَ: " وَيذكر عَن عمر رَضِي الله عَنهُ: تقاد الْمَرْأَة من الرجل فِي كل عمد يبلغ نفس فَمَا دونهَا من الْجراح "، قَالَ: " وَبِه قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز، وَإِبْرَاهِيم،

(4/336)


وَأَبُو الزِّنَاد عَن أَصْحَابه "، قَالَ: " وجرحت أُخْت الرّبيع إنْسَانا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْقصاص ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ فِيهِ عَن ابْن عَبَّاس، وَزيد بن ثَابت، رَضِي الله عَنْهُم، وَالرِّوَايَة من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة مِنْهُم.
ورويناه عَن الزُّهْرِيّ، وَغَيره، وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " الْقصاص بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْعمد "، وَعَن جَابر عَن الشّعبِيّ مثله.
وَأما مَا روى أَبُو دَاوُد عَن عمرَان رَضِي الله عَنهُ أَن غُلَاما لِأُنَاس فُقَرَاء قطع أذن غُلَام لِأُنَاس أَغْنِيَاء فَأتى أَهله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: " يَا رَسُول الله، إِنَّا أنَاس فُقَرَاء، فَلم يَجْعَل عَلَيْهِ شَيْئا "، فَإِن كَانَ المُرَاد بالغلام الْمَذْكُور فِيهِ الْمَمْلُوك فإجماع أهل الْعلم على أَن جِنَايَة العَبْد فِي رقبته تدل وَالله أعلم على أَن الْجِنَايَة كَانَت خطأ، وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا لم يَجْعَل عَلَيْهِ شَيْئا لِأَنَّهُ الْتزم أرش جِنَايَته، فَأعْطَاهُ من عِنْده مُتَبَرعا.
وَقد حمله الْخطابِيّ على أَن الْجَانِي كَانَ حرا، وَكَانَت الْجِنَايَة خطأ، وَكَانَت عَاقِلَته فُقَرَاء، فَلم يَجْعَل عَلَيْهِم شَيْئا، إِمَّا لفقرهم، وَإِمَّا لأَنهم لَا يعْقلُونَ الْجِنَايَة الْوَاقِعَة على العَبْد إِن كَانَ الْمَجْنِي عَلَيْهِ مَمْلُوكا، وَالله أعلم.

(4/337)


قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَقد يكون الْجَانِي غُلَاما حرا غير بَالغ، وَكَانَت الْجِنَايَة عمدا، فَلم يَجْعَل أَرْشهَا على عَاقِلَته، وَكَانَ فَقِيرا، فَلم يَجعله فِي الْحَال عَلَيْهِ، أَو رَآهُ على عَاقِلَته فَوَجَدَهُمْ فُقَرَاء فَلم يَجعله عَلَيْهِم لكَون جِنَايَته فِي حكم الْخَطَأ، وَلَا عَلَيْهِم لكَوْنهم فُقَرَاء، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (266) :

وَإِذا قطع اثْنَان يَد إِنْسَان دَفعه وَاحِدَة عمدا وَجب عَلَيْهِمَا الْقصاص. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يجب ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " عَن سُفْيَان عَن مطرف عَن الشّعبِيّ أَن رجلَيْنِ لقيا عليا رَضِي الله عَنهُ فشهدا على رجل أَنه سرق، فَقطع عَليّ رَضِي الله عَنهُ يَده ثمَّ اتياه بآخر فَقَالَا: " هَذَا الَّذِي سرق، وأخطأنا على الأول "، فَلم يجز شَهَادَتهمَا على الآخر، وغرمهما دِيَة الأول، وَقَالَ: " لَو أعلمكما تعمدتما لقطعتكما "، أخرجه البُخَارِيّ فِي تَرْجَمَة الْبَاب. وَالله تَعَالَى أعلم.

(4/338)


مَسْأَلَة (267) :

وَالْقَتْل بالخشب وَالْحجر الَّذِي يقتل مثله لَا محَالة قتل عمد مُوجب للْقصَاص. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله وَحده: " هُوَ شبه عمد لَا قصاص فِيهِ ".
وَدَلِيلنَا من طَرِيق الْخَبَر حَدِيث أنيس رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي شَأْن الْجَارِيَة الَّتِي رض يَهُودِيّ رَأسهَا بَين حجرين، فَأمر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يرض رَأسه.
وَرُوِيَ عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ: " بَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقسم شَيْئا أقبل رجل فأكب عَلَيْهِ، فطعنه بعرجون كَانَ مَعَه، فجرح الرجل، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تعال فاستقد "، فَقَالَ: " بل عَفَوْت يَا رَسُول الله ".
وَعَن زِيَاد بن علاقَة عَن مرداس بن عُرْوَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " رمى رجل من الْحَيّ أَخا لي فَقتله، ففر فوجدناه، فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأقاد مِنْهُ ".

(4/339)


وَفِي رِوَايَة عَنهُ قَالَ: " طردت إبل لأخي فاتبعهم فلحقهم، فَرَمَوْهُ بِحجر فَقَتَلُوهُ، فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأقادهم بِهِ ".
وَرُوِيَ عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من عرض عرضنَا لَهُ، وَمن حرق حرقناه، وَمن غرق غرقناه ".
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَا يضْرب أحدكُم أَخَاهُ (بآكلة لحم) ثمَّ يَقُول: " وَالله، مَا أردْت نَفسه، وَرب الْكَعْبَة، لأقيدن مِنْهَا، قَالَ أَبُو عبيد عَن الْحجَّاج: " آكِلَة اللَّحْم يَعْنِي عَصا محددة ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن جدعَان عَن الْقَاسِم بن ربيعَة عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن

(4/340)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلا إِن فِي قَتِيل الْعمد الْخَطَأ بِالسَّوْطِ والعصا مائَة من الْإِبِل مُغَلّظَة، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا ".
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَر أَن كل قَتِيل حصل بِالسَّوْطِ والعصا (يكون قتل عمد خطأ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن الْقَتْل بِالسَّوْطِ والعصا إِذا) كَانَ عمد خطأ تكون فِيهِ الدِّيَة الَّتِي ذكرهَا. وَقد يكون الْقَتْل بِالسَّوْطِ والعصا عمدا مَحْضا بإن يوالي عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ والعصا حَتَّى يَمُوت، فَهَذَا عمد مَحْض، لَيْسَ فِيهِ خطأ بِحَال.
وروى جَابر الْجَعْفَرِي عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " كل شَيْء خطأ إِلَّا السَّيْف، وَلكُل خطأ أرش ". وَعَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ أَيْضا مَرْفُوعا: " الْقود بِالسَّيْفِ، وَالْخَطَأ على الْعَاقِلَة "، وَرُوِيَ من طَرِيق ومداره عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّن لَا يحْتَج بِهِ، وَقد سبق ذكره.

(4/341)


وَرُوِيَ عَن قيس بن الرّبيع عَن النُّعْمَان رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " كل شَيْء سوى الْحَدِيد خطأ "، وَقيس ضَعِيف فِي الحَدِيث، لَيْسَ بِحجَّة.
وَرُبمَا استدلوا بِمَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ: فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " اقْتتلَتْ امْرَأَتَانِ من هُذَيْل، فرمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر فقتلتها وَمَا فِي بَطنهَا، فاختصموا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن دِيَة جَنِينهَا غرَّة عبدا أَو وليدة، وَقضى بدية الْمَرْأَة على عاقلتها ". وَذكر بَقِيَّته فِي قَول حمل ابْن النَّابِغَة، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا هَذَا من إخْوَان الْكُهَّان "؛ من أجل سجعه.
قُلْنَا: هَذَا الْقَتْل كَانَ خطأ، أَلا ترى أَنه جعل الدِّيَة على الْعَاقِلَة.
ثمَّ قد روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس عَن عمر رَضِي الله عَنْهُم أَنه سَأَلَ عَن قَضِيَّة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك، فَقَامَ حمل بن النَّابِغَة رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: " كنت بَين امْرَأتَيْنِ فَضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بمسطح فقتلتها

(4/342)


وجنينها، فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بغرة وَأَن تقتل ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (268) :

وَالْوَاجِب بقتل الْعمد الْقصاص أَو الدِّيَة، فَيُخَير بَينهمَا ولي الدَّم فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " الْقصاص وَحده، وَالدية تجب بِالصُّلْحِ بتراضيهما ".
قَالَ الله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} ... إِلَى قَوْله: {فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شئ فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان} .
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل الْقصاص، وَلم يكن فيهم الدِّيَة فَقَالَ الله عز وَجل لهَذِهِ الْأمة: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شئ} : قَالَ الْعَفو أَن يقبل الدِّيَة فِي الْعمد {فاتباع} ، {وَأَدَاء} {بِإِحْسَان} ، {ذَلِك تَخْفيف من ربكُم} مِمَّا كتب على من كَانَ قبلكُمْ، {فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} ... ".
وَفِي صَحِيح مُسلم وَالْبُخَارِيّ وَاللَّفْظ لمُسلم عَن أبي هُرَيْرَة

(4/343)


رَضِي الله عَنهُ خطْبَة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْفَتْح فِيهَا: " وَمن قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين إِمَّا أَن يُعْطي الدِّيَة، وَأما أَن يُقَاد أهل الْقَتِيل ".
وَعند البُخَارِيّ: " إِمَّا أَن يُؤَدِّي، وَأما أَن يُقَاد ".
وَرُوِيَ عَن عَلْقَمَة بن وَائِل الْحَضْرَمِيّ عَن أَبِيه قَالَ: " جِيءَ بالقاتل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَاءَ بِهِ ولي الْمَقْتُول فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أتعفو؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أتأخذ الدِّيَة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أتقتل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَاذْهَبْ، فَلَمَّا ذهب دَعَاهُ فَقَالَ: أما إِنَّك إِن عَفَوْت عَنهُ فَإِنَّهُ يبوء بإثمك وإثمه وإثم صَاحبك، فَعَفَا عَنهُ، فَأرْسلهُ، فرأيته وَهُوَ يجر نسعه ... ".
استدلوا بِحَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ قَالَ: " لطمت الرّبيع بنت النَّضر رَضِي الله عَنْهَا جَارِيَة فَكسرت ثنيتها، فطلبوا إِلَيْهِم الْعَفو (فَأَبَوا) وعرضوا الْأَرْش عَلَيْهِم فَأَبَوا، فَأتوا

(4/344)


النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأمر بِالْقصاصِ فَقَالَ أنس بن النَّضر رَضِي الله عَنهُ: يَا رَسُول الله، أتكسر ثنية الرّبيع؟ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ، لَا تكسر ثنيتها، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا أنس، كتاب الله الْقصاص، فَرضِي الْقَوْم فعفوا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن من عباد الله من لَو أقسم على الله لَأَبَره ".
وَهَذَا لَا يُخَالف مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي شُرَيْح الكعبي رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن الله حرم مَكَّة. . " فَذكر الحَدِيث، إِلَى أَن قَالَ: " من قتل قَتِيلا فأهله بَين خيرتين، إِن أَحبُّوا اقتادوا، وَإِن أَحبُّوا أخذُوا الْعقل "، تَابعه يحيى الْقطَّان وَجَمَاعَة عَن ابْن أبي ذِئْب.

(4/345)


وَرُوِيَ عَن أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: من أُصِيب بِدَم أَو خبل فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَين إِحْدَى ثَلَاث، فَإِن أَرَادَ الرَّابِعَة فَخُذُوا على يَدَيْهِ، بَين أَن يقْتَصّ أَو يعْفُو أَو يَأْخُذ الْعقل. فَإِن قبل من ذَلِك شَيْئا ثمَّ عدا بعد ذَلِك فَلهُ النَّار ".
وَذَاكَ لِأَن كتاب الله الْقصاص (إِلَّا أَن يعْفُو عَنهُ ولي الدَّم، وَلَيْسَ إِذا لم ينْقل فِي هَذَا الحَدِيث التَّخْيِير بَين الدِّيَة وَالْقصاص " يدل على أَنه لَا يُخَيّر.
وَقد بَين الشَّافِعِي رَحمَه الله ثُبُوت الْخِيَار بقوله عز وَجل: {فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ} ... الْآيَة؛ لِأَنَّهُ لَو لم يجب بِالْعَفو عَن الْقصاص مَال لم يكن للعافي شَيْء يتبعهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا على الْقَاتِل شَيْء يُؤَدِّيه بِإِحْسَان.
فَإِن قَالَ المحتج بِهَذَا الْخَبَر: " لم يقْض لَهُم بِالدِّيَةِ حِين عَفا الْقَوْم " قُلْنَا: هَذَا مِنْك غَفلَة؛ فَفِي الحَدِيث أَنهم عرضوا الْأَرْش عَلَيْهِم فَأَبَوا، ثمَّ قَالَ فِي الحَدِيث: وَرَضي الْقَوْم فعفوا، فَالظَّاهِر مِنْهُم أَنهم رَضوا بِأخذ الْأَرْش وعفوا عَن الْقصاص. ثمَّ هُوَ بَين فِي حَدِيث الْمُعْتَمِر عَن حمد عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: فرضوا بِأَرْش أَخَذُوهُ ".

(4/346)


وَفِي الحَدِيث الثَّابِت عَن ثَابت عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن أُخْت الرّبيع أم حَارِثَة رَضِي الله عَنْهُمَا جرحت إنْسَانا فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْقصاص "، وَفِيه قَالَ: " فَمَا زَالَت حَتَّى قبلوا الدِّيَة ".
وروى إِسْمَاعِيل بن مُسلم وَهُوَ ضَعِيف عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا قَالَ: " الْعمد قَود إِلَّا أَن يعْفُو ولي الْمَقْتُول ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (269) :

وعَلى شريك الْأَب الْقصاص فِي قتل الْوَلَد عمدا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّه لَا قصاص عَلَيْهِ ".
روى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن (يحيى عَن ابْن الْمسيب) أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قتل نَفرا خَمْسَة، أَو سَبْعَة بِرَجُل قَتَلُوهُ قتل غيلَة وَقَالَ: " لَو تمالأ عَلَيْهِ أهل صنعاء لقتلهم جَمِيعًا ".

(4/347)


فَبِهَذَا وَمَا يُشبههُ وَجب الْقصاص فِي قتل الْعمد على القاتلين من كَانُوا، فورد الدَّلِيل بتخصيص الْأَب بِسُقُوط الْقصاص عَنهُ وَبَقِي وُجُوبه على سَائِرهمْ. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (270) :

ولولي الدَّم الْقصاص بِمثل مَا قتل بِهِ والعدول عَنهُ إِلَى ضرب الرَّقَبَة إِن شَاءَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يقْتَصّ مِنْهُ إِلَّا بِضَرْب الرَّقَبَة ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر برض رَأس الْيَهُودِيّ الَّذِي رض رَأس الْجَارِيَة.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أنس رَضِي الله عَنهُ حَدِيث العكليين الَّذين

(4/348)


سمل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعينهم.
وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا سمل أعين أُولَئِكَ لأَنهم سملوا أعين الرُّعَاة.
وروى الثَّوْريّ عَن أَشْعَث عَن الشّعبِيّ قَالَ: " إِذا مثل بِهِ ثمَّ قَتله مثل بِهِ ثمَّ قتل ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن مبارك بن فضَالة عَن الْحسن عَن أبي بكرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا قَالَ: " لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ ". وَفِي رِوَايَة عَن الْحسن عَن النُّعْمَان بن بشير، رَضِي الله عَنهُ.
وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِالْقَوِيّ، ومبارك بن فضَالة غير مُحْتَج بِهِ، تَركه ابْن سعد، وَابْن مهْدي فَمن بعدهمَا.
وَرُوِيَ عَن جَابر الْجعْفِيّ من حَدِيث النُّعْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ: " إِلَّا بحديدة ".
وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن أَرقم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله

(4/349)


عَنهُ: " لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ "، وَمن حَدِيث عبد الله رَضِي الله عَنهُ: " لَا قَود إِلَّا بسلاح ".
قَالَ يحيى بن معِين: " سُلَيْمَان بن أَرقم أَبُو معَاذ لَيْسَ يُسَاوِي فلسًا ".
وَرَوَاهُ مُعلى بن هِلَال الطَّحَّان من حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " لَا قَود إِلَّا بحديدة ".
وَمعلى كذبه ابْن عُيَيْنَة وَغَيره، فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ.
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عِكْرِمَة أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أُتِي بِقوم (من الزَّنَادِقَة) فحرقهم، فَبلغ ذَلِك ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: " أما أَنا لَو كنت لقتلتهم؛ لقَوْل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تعذبوا بِعَذَاب الله ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ، وَزَاد: " فَبلغ ذَلِك عليا، فَقَالَ: " وَيْح أم ابْن عَبَّاس ".

(4/350)


وَنحن نقُول بِهَذَا الحَدِيث فِي قتل الْمُرْتَدين، فَأَما مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فَإِن كتاب الله الْقصاص، وَالْقصاص هُوَ أَن يفعل بالفاعل مثل مَا فعل، وَلم تقم دلَالَة على الْمَنْع بِعَيْنِه. وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (271) :

وَأما قطع مَا فِيهِ الْقصاص فللمقطوع طلب الْقصاص فِيهِ قبل الِانْدِمَال. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك ".
وَدَلِيلنَا قَول الله تَعَالَى: {والحرمات قصاص فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} .
رُوِيَ عَن يَعْقُوب بن حميد عَن عبد الله عَن يَعْقُوب بن عَطاء، وَابْن جريج، وَعُثْمَان بن الْأسود عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا جرح رجلا فَأَرَادَ أَن يستقيد مِنْهُ، فَنهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يمتثل من الْجَارِح حَتَّى يبرأ الْمَجْرُوح.

(4/351)


تفرد بِهِ هَكَذَا عبد الله بن عبد الله الْأمَوِي هَذَا. وَيَعْقُوب.
وَرُوِيَ عَن ابْن لَهِيعَة عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا " تقاس الْجِرَاحَات ثمَّ يستأنى بهَا سنة، ثمَّ يقْضى فِيهَا بِقدر مَا انْتَهَت إِلَيْهِ "، وَابْن لَهِيعَة ضَعِيف.
وَرَوَاهُ يزِيد بن عِيَاض عَن أبي الزبير فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: " يستأنى بالجراحات سنة "، وَيزِيد بن عِيَاض ضَعِيف مَتْرُوك.
وَرَوَاهُ يحيى بن أبي أنيسَة عَن أبي الزبير نَحوه: " سنة "، وَقد قَالَ أَخُوهُ زيد: " لَا تكْتبُوا عَن أخي؛ فَإِنَّهُ كَذَّاب "، وَقَالَ ابْن حَنْبَل: " إِنَّه مَتْرُوك الحَدِيث ".
وروى ابْنا أبي شيبَة عَن ابْن علية عَن أَيُّوب عَن عَمْرو بن دِينَار

(4/352)


عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا طعن رجلا بقرن فِي ركبته، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يستقيد، فَقيل لَهُ: " حَتَّى تَبرأ "، فَأبى وَعجل، فاستقاد، قَالَ: " فعنتت رجله، وبرئت رجل المستقاد مِنْهُ، فَأتى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ لَك شَيْء؛ أَنْت أَبيت ".
قَالَ أَبُو احْمَد بن عَبدُوس: " مَا جَاءَ بِهَذَا إِلَّا أَبُو بكر، وَعُثْمَان "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " أَخطَأ فِيهِ ابْنا أبي شيبَة، وَخَالَفَهُمَا أَحْمد بن حَنْبَل، وَغَيره فَرَوَوْه عَن ابْن علية مُرْسلا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَاب عَمْرو (عَنهُ، وَهُوَ الْمَحْفُوظ مُرْسلا ".
وَرُوِيَ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن عَمْرو بن دِينَار عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله.
وَعَن مُعْتَمر عَن أَيُّوب عَم عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبعدك الله! أَنْت عجلت ".
وروى مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن

(4/353)


أَبِيه عَن جده قَالَ: " نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يقص من الْمَجْرُوح حَتَّى يَنْتَهِي "، كَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن حمدَان عَن ابْن جريج، ذَكرْنَاهُ فِي السّنَن الْكَبِير.
وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: " وجأ رجل فَخذ رجل فجَاء إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، أقدني مِنْهُ "، قَالَ: " حَتَّى تَبرأ "، ثمَّ جَاءَ فَقَالَ: " أقدني، يَا رَسُول الله "، فأقاده، فجَاء بعد إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " شلت رجْلي "، قَالَ: " أخذت حَقك ".
وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (272) :

(4/354)


(صفحة فارغه)

(4/355)


لم يذكرهَا: وَقَاتل الْعمد إِذا التجأ إِلَى الْحرم جَازَ ان يسْتَوْفى مِنْهُ

(4/356)


الْقصاص فِي الْحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يضْطَر إِلَى الْخُرُوج مِنْهُ، وَلَا يسْتَوْفى فِي الْحرم ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله: " حَدثنَا أَبُو حنيفَة عَن سماك بن الْفضل حَدثنِي ابْن أبي ذِئْب عَن المَقْبُري عَن أبي شُرَيْح الكعبي رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَام الْفَتْح: " من قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين إِن أحب أَخذ الْعقل، وَإِن أحب فَلهُ الْقود ".
استدلوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي شُرَيْح الْعَدوي أَنه قَالَ لعَمْرو بن أسيد وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث إِلَى مَكَّة: " ائْذَنْ لي أَيهَا الْأَمِير (أحَدثك) قولا قَامَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغَد من يَوْم الْفَتْح، سمعته أذناي، ووعاه قلبِي، وأبصرته عَيْنَايَ حِين تكلم بِهِ، إِنَّه حمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن مَكَّة حرمهَا الله وَلم يحرمها النَّاس، فَلَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا، وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة ... " الحَدِيث، وَفِيه أَن عمرا قَالَ لَهُ: " أَنا أعلم بذلك مِنْك، يَا أَبَا شُرَيْح، إِن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا، وَلَا فَارًّا بِدَم، وَلَا فَارًّا بخربة ".
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده حَدِيثا فِيهَا: " فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَامَ خَطِيبًا وَهُوَ مُسْند ظَهره إِلَى الْكَعْبَة فَقَالَ: " إِن

(4/357)


أعدى النَّاس على الله تَعَالَى من عدا فِي الْحرم، وَمن قتل غير قَاتله، وَمن قتل بدحول الْجَاهِلِيَّة ".
أجَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله عَمَّا أوردوا فَقَالَ: " معنى ذَلِك وَالله أعلم أَنه لم يحلل ان ينصب عَلَيْهَا الْحَرْب حَتَّى تكون كَغَيْرِهَا، فَإِن قيل مَا دلّ على مَا وصفت؟ قيل: أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَمَا قتل عَاصِم بن ثَابت، وخبيب رَضِي الله عَنْهُمَا بقتل أبي سُفْيَان فِي دَاره بِمَكَّة غيلَة إِن قدر عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت مُحرمَة، فَدلَّ على أَنَّهَا لَا تمنع أحدا من شَيْء وَجب عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يمْنَع من أَن ينصب عَلَيْهَا الْحَرْب كَمَا ينصب على غَيرهَا ".
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " إِذا دخل الْحرم لم يؤو، وَلم يُبَايع، وَلم يسق، وَلم يُجَالس حَتَّى يخرج "، يَعْنِي الْقَاتِل.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " هَكَذَا ورد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهُوَ محجوج بِمَا ورد من الظَّوَاهِر فِي إِقَامَة الْحُدُود من غير اسْتثِْنَاء وَلَا تَخْصِيص. وَالله أعلم.

(4/358)


مَسْأَلَة (237) :

وَفِي السن السَّوْدَاء من أصل الْخلقَة مَا فِي الْبَيْضَاء. وَقَالَ (أَبُو حنيفَة) رَحمَه الله: " إِن فِيهَا حُكُومَة ".
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قضى فِي الْعين العوراء الْقَائِمَة إِذا خسفت، وَفِي السن السَّوْدَاء (إِذا انْكَسَرت) ، وَفِي الْيَد الشلاء إِذا قطعت ثلث دِيَتهَا ".
يحْتَمل أَن تكون إِذا اسودت وضعفت من جِنَايَة وَقعت عَلَيْهَا، أما إِذا كَانَت سَوْدَاء من أصل خلقتها فَفِيهَا مَا حكم بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقوله: " فِي كل سنّ خمس من الْإِبِل، وَلم يفرق بَين سَوْدَاء وبيضاء. وَالله أعلم.

(4/359)


(صفحة فارغه)

(4/360)


كتاب الدِّيات

من كتاب الدِّيات:
مَسْأَلَة (274) :

وَخمْس دِيَة الْخَطَأ والعمد بَنو اللَّبُون. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِن أحد أخماسها بَنو الْمَخَاض ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن الَّذِي قتل بِخَيْبَر، وَفِيه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وداه بِمِائَة من إبل الصَّدَقَة "، وَلَا مدْخل لبني الْمَخَاض فِي فَرَائض الصَّدقَات.
وَإِنَّمَا وداه بدية الْخَطَأ، حَيْثُ لم يثبت الْعمد، أَلا ترى أَن دِيَة

(4/361)


الْعمد بَعْضهَا يكون ثنايا، وَلَا مدْخل للثنايا فِي فَرَائض الصَّدقَات.
وَرُوِيَ عَن أبي عُبَيْدَة أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " دِيَة الْخَطَأ خَمْسَة أَخْمَاس: عشرُون حقة، وَعِشْرُونَ جدعة، وَعِشْرُونَ بَنَات مَخَاض، وَعِشْرُونَ بَنَات لبون، وَعِشْرُونَ بَنو لبون ذُكُور ". قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " هَذَا إِسْنَاد حسن، وَرُوَاته ثِقَات، وَقد رُوِيَ عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ نَحْو هَذَا ".
كَذَا رَوَاهُ، رَحمَه الله تَعَالَى، وَهُوَ الأوحد فِي عصره فِي هَذَا الشَّأْن، وَهُوَ واهم فِيهِ، والجواد رُبمَا يعثر؛ فَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ وَكِيع فِي مصنفاته عَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عبد الله، وَعَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله، وَقَالَ فِيهِ: " وَعِشْرُونَ بَنو مَخَاض "، وَلم يقل: " بَنو لبون ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثَّوْريّ فِي الْجَامِع عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْرَائِيل عَن إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله: " بَنو مَخَاض ".

(4/362)


وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يزِيد بن هَارُون عَن التَّيْمِيّ عَن أبي مجلز عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله: " خمس بَنو مَخَاض ".
والعجيب أَنِّي رايته فِي كتاب ابْن خُزَيْمَة وَهُوَ إِمَام فِي الْفِقْه والْحَدِيث عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عبد الله، وَعَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن (عبد الله: " عشرُون بَنو لبون "، وَعَن أبي عُبَيْدَة عَنهُ كَذَلِك. وَرَوَاهُ بعد حَدِيث خشف بن مَالك عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ) بِمثل حَدِيث خشف، وَفِيه: " عشرُون بَنو مَخَاض "، بدل " بني لبون "، ثمَّ قَالَ: " يزِيد عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ " (قَوْله بِمثلِهِ، لَا عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فوددنا أَن لَو كَانَ مَا روياه عَن ابْن مَسْعُود) من بني اللَّبُون كَمَا روياه غير ان مَذْهَب ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك مَشْهُور فِي بني الْمَخَاض، وَقد حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي الخلافيات عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَذَلِك. وَالله أعلم.
وَرُوِيَ بَنو اللَّبُون الذُّكُور عَن أبي الزِّنَاد عَن فُقَهَاء الْمَدِينَة: ابْن الْمسيب، وَعُرْوَة، وَالقَاسِم، وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، وخارجة بن زيد، وَعبيد الله بن عتبَة، وَسليمَان بن يسَار، فِي مشيخة

(4/363)


جلة سواهُم من نظرائهم.
وَرَوَاهُ مَالك عَن ابْن شهَاب، وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن.
استدلوا بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد عَن الْحجَّاج عَن زيد بن جُبَير عَن خشف بن مَالك الطَّائِي عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي دِيَة الْخَطَأ عشرُون حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة، (وَعِشْرُونَ ابْنة مَخَاض) ، وَعِشْرُونَ ابْنة لبون، وَعِشْرُونَ ابْن مَخَاض ذكر) . تَابعه عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن حجاج بن أَرْطَأَة.
وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث بِثَابِت، وَقد كفانا إمامنا أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ

(4/364)


مُؤنَة اسْتِخْرَاج علع هَذَا الحَدِيث، قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: " هَذَا حَدِيث ضَعِيف غير ثَابت عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ من وُجُوه: أَحدهَا ... . "، وَذكر مُخَالفَته لما رَوَاهُ عَن أبي عُبَيْدَة، وَأبي الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله أَن تكون تِلْكَ عِلّة؛ لما بَينه آنِفا من رِوَايَة الثَّوْريّ وَغَيره، وحكاية ابْن الْمُنْذر من مَذْهَب ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " وَهُوَ الْمُقدم الثِّقَة فِيمَا يحكيه من مَذَاهِب الْعلمَاء ".
قَالَ: وَزعم أَن الشَّافِعِي رَحمَه الله إِنَّمَا اخْتَار قَول أهل الْمَدِينَة فِي دِيَة الْخَطَأ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْده أقل مَا قيل فِي أسنانها، (فَلم يُوجب أكبر مِنْهَا، وَلم يبلغهُ قَول عبد الله رَضِي الله عَنهُ فِي بني الْمَخَاض، فَلذَلِك لم يرجع إِلَيْهِ، وَلَو بلغه لرجع إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله لِأَنَّهَا أقل من بني لبون، وَاسم الْإِبِل وَاقع " عَلَيْهَا، وَهُوَ قَول صَحَابِيّ، فاتباعه فِي ذَلِك أولى. وَالله أعلم.
وَهَذَا معنى قَوْله رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ: " وَمن يرغب عَن قَوْله اسْتدلَّ بِحَدِيث سهل بن أبي خثمة، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَذكرنَا وَجه الِاسْتِدْلَال مِنْهُ.
وَاسْتشْهدَ الدَّارَقُطْنِيّ على حَدِيث أبي عُبَيْدَة بِمَا رَوَاهُ من حَدِيث ابراهيم عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: " فَهَذِهِ الرِّوَايَة وَإِن كَانَ فِيهَا إرْسَال فإبراهيم هُوَ من أعلم النَّاس بِعَبْد الله بِرَأْيهِ وفتياه، وَقد أَخذ ذَلِك عَن أَخْوَاله: " عَن عَلْقَمَة، وَالْأسود وَعبد الرَّحْمَن ابْني يزِيد، وَغَيرهم من أكبر أَصْحَاب (عبد الله) ، وَهُوَ الْقَائِل: " إِذا قلت

(4/365)


لكم: قَالَ عبد الله فَهُوَ عَن جمَاعَة (من أَصْحَابه) ، وَإِذا سمعته من وَاحِد سميته لكم ".
وَوجه آخر وَهُوَ أَن الْخَبَر الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ ذكر بني الْمَخَاض لَا نعلمهُ رَوَاهُ إِلَّا خشف بن مَالك عَن ابْن مَسْعُود، وَهُوَ رجل مَجْهُول لم يرو عَنهُ إِلَّا زيد بن جُبَير بن حَرْمَلَة الْجُشَمِي، وَأهل الْعلم (بِالْحَدِيثِ) لَا يحتجون (بِمَا يتفرد بروايته) رجل غير مَعْرُوف، وَإِنَّمَا يثبت الْعلم عِنْدهم بالْخبر إِذا كَانَ رَاوِيه عدلا مَشْهُورا، أَو رجلا قد ارْتَفع عَنهُ اسْم الْجَهَالَة، وارتفاع اسْم الْجَهَالَة عَنهُ أَن يروي عَنهُ رجلَانِ فَصَاعِدا.
وَوجه آخر، وَهُوَ لَا نعلم أحدا رَوَاهُ عَن زيد الا حجاج بن أَرْطَأَة، وَالْحجاج رجل مَشْهُور بالتدليس، وَبِأَنَّهُ يحدث عَمَّن لم يلقه وَلم يسمع مِنْهُ، ترك الرِّوَايَة عَنهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَيحيى بن سعيد، وَعِيسَى بن يُونُس بعد أَن جالسوه وخبروه.
وَوجه آخر، وَهُوَ أَن جمَاعَة من الثِّقَات رووا هَذَا الحَدِيث عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهِ، فَرَوَاهُ عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن حجاج على اللَّفْظ الَّذِي ذكرنَا، وَوَافَقَهُ عبد الْوَاحِد بن زِيَاد.
وَخَالَفَهُمَا يحيى بن سعيد الْأمَوِي وَهُوَ من الثِّقَات فَرَوَاهُ عَن الْحجَّاج: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَطَأ أَخْمَاسًا: عشرُون جذاع، وَعِشْرُونَ بَنَات لبون، وَعِشْرُونَ بني لبون، وَعِشْرُونَ بَنَات مَخَاض،

(4/366)


وَعِشْرُونَ بني مَخَاض ذُكُورا "، فَجعل مَكَان الحقاق بني لبون.
وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن الْحجَّاج: " خمْسا جذاع، وخمسا حقاق، وخمسا بَنَات لبون، وخمسا بَنَات مَخَاض، وخمسا بني لبون ذُكُور ".
وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، وَحَفْص بن غياث وَعَمْرو بن هَاشم أَبُو مَالك الْجَنبي، وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن الْحجَّاج بِهَذَا الْإِسْنَاد قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاسًا "، لم يزِيدُوا على هَذَا.
وَرَوَاهُ يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن حجاج، وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ شُرَيْح بن يُونُس بموافقة عبد الرَّحِيم وَعبد الْوَاحِد. وَخَالفهُ أَبُو هِشَام الرِّفَاعِي فَرَوَاهُ عَنهُ بموافقة أبي مُعَاوِيَة وَمن تَابعه، (لم يُفَسِّرهَا) .
فَيُشبه أَن يكون الصَّحِيح ان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاسًا

(4/367)


لَيْسَ فِيهِ تَفْسِير الْأَخْمَاس لاتفاقهم على ذَلِك، وَكَثْرَة عَددهمْ وَكلهمْ ثِقَات، وَيُشبه أَن يكون الْحجَّاج رُبمَا كَانَ يُفَسر الْأَخْمَاس بِرَأْيهِ، فَتوهم السَّامع أَن ذَلِك من حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَيُقَوِّي هَذَا أَيْضا اخْتِلَاف عبد الْوَاحِد، وَعبد الرَّحِيم، والأموي عَنهُ.
وَوجه آخر، وَهُوَ أَنه قد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي دِيَة الْخَطَأ أقاويل مُخْتَلفَة لَا نعلم رُوِيَ عَن أحد مِنْهُم فِي ذَلِك ذكر بني الْمَخَاض إِلَّا فِي حَدِيث خشف هَذَا، فروى إِسْحَاق بن يحيى عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي دِيَة الْخَطَأ: " ثَلَاثِينَ حقة، وَثَلَاثِينَ جَذَعَة، وَعشْرين بَنَات لبون، وَعشْرين بني لبون ذُكُور "، وَهَذَا مُرْسل؛ إِسْحَاق لم يسمع من عبَادَة.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن رَاشد عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قتل خطأ فديته مائَة من الْإِبِل: وَثَلَاثُونَ بَنَات مَخَاض، وَثَلَاثُونَ بَنَات لبون، وَثَلَاثُونَ حقة، وَعِشْرُونَ بَنو لبون ذُكُور ". وَهَذَا أَيْضا فِيهِ مقَال من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن عَمْرو بن شُعَيْب لم يخبر فِيهِ بِسَمَاع أَبِيه من جده،
وَالثَّانِي: أَن مُحَمَّد بن رَاشد ضَعِيف.
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مثل مَا روى إِسْحَاق عَن عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ.

(4/368)


وَرُوِيَ عَن عُثْمَان، وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: " فِي دِيَة الْخَطَأ ثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ (بَنَات لبون، وَعِشْرُونَ بَنَات مَخَاض، وَعِشْرُونَ بَنو لبون ذُكُور ".
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: " الدِّيَة فِي الْخَطَأ أَربَاع: خمس وَعِشْرُونَ حقة، وَخمْس وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَخمْس وَعِشْرُونَ ابْنة لبون، وَخمْس وَعِشْرُونَ ابْنة مَخَاض ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: وَعلل الرِّوَايَات الثَّلَاث عَن عبد الله بِأَنَّهَا كلهَا مَرَاسِيل؛ فَأَما رِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن عبد الله فَلَا شكّ فِي انقطاعها، وَأما رِوَايَة أبي إِسْحَاق فَإِنَّهَا أَيْضا مُنْقَطِعَة؛ لِأَن أَبَا إِسْحَاق لم يسمع من عَلْقَمَة شَيْئا، وَأما رِوَايَة أبي عُبَيْدَة فَإِنَّهَا أَيْضا مُنْقَطِعَة، أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه شَيْئا.
رُوِيَ عَن عَمْرو بن مرّة: سَأَلت أَبَا عُبَيْدَة: " تحفظ من أَبِيك شَيْئا؟ " قَالَ: " لَا ". وَعَن شُعْبَة: " كنت عِنْد أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي فَقيل لَهُ: إِن شُعْبَة يَقُول: إِنَّك لم تسمع من عَلْقَمَة شَيْئا، قَالَ: صدق ".
وَقَالَ ابْن معِين: " أَبُو إِسْحَاق قد رأى عَلْقَمَة، وَلم يسمع مِنْهُ ".
وَالله أعلم.

(4/369)


مَسْأَلَة (275) :

ودية الْعمد وَعمد الْخَطَأ أَثلَاث: مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة، وَثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ جَذَعَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " أَربَاع بَنَات الْمَخَاض، وَبَنَات لبون، والحقاق، والجذاع ".
روى أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب يَوْم الْفَتْح بِمَكَّة، فَكبر ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده، صدق وعده، وَنصر عَبده، وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده " الحَدِيث، وَفِيه: " أَلا إِن دِيَة شبه الْخَطَأ شبه الْعمد مَا كَانَ بِالسَّوْطِ والعصا مائَة من الْإِبِل: مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بطونها أَوْلَادهَا ".
وَقَول زيد وَأبي مُوسَى مثل حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُجَاهِد قَالَ: " قضى عمر رَضِي الله عَنهُ فِي شبه الْعمد ثَلَاثِينَ حقة، وَثَلَاثِينَ جَذَعَة، وَأَرْبَعين خلفة مَا بَين ثنية إِلَى بازل عامها ".
وَعَن أبي عِيَاض عَن عُثْمَان بن عَفَّان (وَزيد بن ثَابت) رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمُغَلَّظَة أَرْبَعُونَ جَذَعَة خلفة، وَثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ بَنَات لبون كَذَا قَالَ عَن زيد.

(4/370)


وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ رَحمَه الله عَن زيد رَضِي الله عَنهُ فِي شبه الْعمد ثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ جَذَعَة، واربعون مَا بَين ثنية إِلَى بازل عامها كلهَا خلفة.
وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَأبي مُوسَى رَضِي الله عَنْهُمَا مثل قَول عمر رَضِي الله عَنهُ سَوَاء.
وَرُوِيَ عَن عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " شبه الْعمد أَثلَاثًا: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ جَذَعَة، وَأَرْبع وَثَلَاثُونَ ثنية إِلَى بازل عامها كلهَا خلفة ".
وَنقل الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ شبه الْعمد مثل قَوْلنَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن عبد الله، وَإِذا اخْتلف الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي ذَلِك هَذَا الِاخْتِلَاف فَقَوْل من يُوَافق قَوْله قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى. وَالله ولي التَّوْفِيق، وَهُوَ أعلم.
مَسْأَلَة (276) :

دِيَة قتل الْخَطَأ فِي الْحرم، وَالْأَشْهر الْحرم، وَلِذِي الرَّحِم الْمحرم

(4/371)


مُغَلّظَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " مُخَفّفَة ".
رُوِيَ عَن ابْن أبي نجيح عَن أَبِيه أَن امْرَأَة قتلت بِمَكَّة، فَقضى فِيهَا عمر بِسِتَّة آلَاف دِيَتهَا، وألفين تَغْلِيظًا للحرم، سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا طَاهِر الزيَادي يَقُول: " إِذا قُلْنَا الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أصلا الدِّيَة، فيتغلظان فِي الدِّيَة الْمُغَلَّظَة، فَيبلغ بهَا دِيَة وَثلث ".
وَاسْتدلَّ بِقَضَاء عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَجعله مَسْأَلَة خلاف بَيْننَا وَبَين أبي حنيفَة رَحمَه الله، فَسمِعت الْفَقِيه أَبَا الْفَتْح نَاصِر بن الْحسن أيده الله، وَمن حضر من الْفُقَهَاء يبحثون فِي ذَلِك يَقُولُونَ: " لم نسْمع بِهِ إِلَّا من الْأُسْتَاذ ".
وروى الشَّافِعِي (رَحمَه الله) عَن مَالك عَن يحيى عَن عَمْرو بن شُعَيْب " أَن رجلا " حذف ابْنه بِسيف، فَأصَاب سَاقه فبترها فَمَاتَ الْقِصَّة ... "، وفيهَا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَخذ ثَلَاثِينَ حقة، وَثَلَاثِينَ جَذَعَة، وَأَرْبَعين خلفة، ثمَّ قَالَ لِابْنِ أَخ الْمَقْتُول: " خُذْهَا؛ فَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ لقَاتل شَيْء ".
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قضى فِيمَن قتل فِي الْحرم، أَو فِي الشَّهْر الْحَرَام، أَو هُوَ محرم بِالدِّيَةِ وَثلث الدِّيَة.

(4/372)


روينَا فِيهِ عَن نَافِع عَن ابْن جُبَير أَنه قَالَ: " يُزَاد فِي دِيَة الْمَقْتُول فِي الشَّهْر الْحَرَام أَرْبَعَة آلَاف، وَفِي دِيَة الْمَقْتُول فِي الْحرم ".
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر بن زيد عَن عَطاء: فِي دِيَة الْمحرم وَالَّذِي يقتل فِي الْحرم دِيَة وَثلث.
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد، وَعَطَاء، وَابْن جُبَير فِي الَّذِي يقتل فِي الْحرم دِيَة وَثلث.
وَرُوِيَ عَن إِسْحَاق بن يحيى بن الْوَلِيد بن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِن فِي قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الدِّيَة بِمِائَة من الْإِبِل " فَذكر الحَدِيث، ثمَّ ذكر تَقْوِيم عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ الدِّيَة بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم، ثمَّ قَالَ: " وَيُزَاد ثلث الدِّيَة فِي الشَّهْر الْحَرَام "، وَفِيه انْقِطَاع بَين إِسْحَاق وَعبادَة وَلكنه إِذا انْضَمَّ إِلَى رِوَايَة مُجَاهِد عَن عمر فِيمَا اتفقَا عَلَيْهِ من التَّغْلِيظ بالشهر الْحَرَام تأكدت إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى وقويتا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (277) :

وَالْأَصْل فِي الدِّيَة الْإِبِل وَحدهَا وَلَا يجوز الْعُدُول عَنْهَا مَعَ وجودهَا إِلَى غَيرهَا على قَوْله فِي الْجَدِيد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة

(4/373)


رَحمَه الله: " الْإِبِل وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أصُول فِيهَا ".
ذكر أَحَادِيث فِي الدِّيات (لَيْسَ ذكر فِيهَا إِلَّا الْإِبِل) .
ثمَّ روى عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: " كَانَت الدِّيَة على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة بعير، لكل بعير أُوقِيَّة، فَذَلِك أَرْبَعَة آلَاف، فَلَمَّا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ غلت الْإِبِل، ورخصت الْوَرق، فَجعل عمر أوقيتين أوقيتين، فَلذَلِك ثَمَانِيَة آلَاف، ثمَّ لم تزل الْإِبِل تغلو وترخص الْوَرق حَتَّى جعلهَا اثْنَي عشر ألفا من الْوَرق وَألف دِينَار وَمن الْبَقر مِائَتي بقرة، وَمن الشَّاة ألفي شَاة ".
وَعنهُ عَن مَكْحُول وَعَطَاء، قَالُوا: " أدركنا النَّاس على أَن دِيَة الْحر الْمُسلم على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة من الْإِبِل، فقوم عمر رَضِي الله عَنهُ تِلْكَ الدِّيَة على أهل الْقرى ألف دِينَار أَو اثْنَي عشر الف دِرْهَم، ودية الْحرَّة الْمسلمَة إِذا كَانَت من أهل الْقرى خَمْسمِائَة دِينَار، أَو سِتَّة آلَاف دِرْهَم، لَا يُكَلف الْأَعرَابِي الذَّهَب وَالْوَرق ".
وَعَن الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مُسلم بن جريج عَن عَمْرو بن

(4/374)


شُعَيْب قَالَ: " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقيم الْإِبِل على أهل الْقرى أَرْبَعمِائَة دِينَار، أَو عدلها من الْوَرق، ويقسمها على أَثمَان الْإِبِل، فَإِذا غلت رفع فِي قيمتهَا، وَإِذا هَانَتْ نقص من ثمنهَا على أهل الْقرى الثّمن مَا كَانَ.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن رَاشد عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده مَوْصُولا.
وروى أَبُو دَاوُد عَن يحي بن حَكِيم عَن عبد الرَّحْمَن عَن حُسَيْن الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: " كَانَت قيمَة الدِّيَة على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَان مائَة دِينَار، ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم، ودية أهل الْكتاب يَوْمئِذٍ النّصْف من دِيَة الْمُسلمين، قَالَ: فَكَانَ كَذَلِك حَتَّى اسْتخْلف عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِن الْإِبِل قد غلت، قَالَ: ففرضها عمر رَضِي الله عَنهُ على أهل الذَّهَب ألف دِينَار، وعَلى أهل الْوَرق اثْنَي عشر ألفا، وعَلى أهل الْبَقر مِائَتي بقرة، وعَلى أهل الشَّاة ألفي شَاة، وعَلى أهل الْحلَل مِائَتي حلَّة، قَالَ: وَترك دِيَة أهل الذِّمَّة، لم يرفعها فِيمَا رفع من الدِّيَة ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " قَرَأت على سعيد بن يَعْقُوب حَدثنَا أَبُو ثَقيلَة حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: " ذكر عَطاء عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: فرض رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أهل الْإِبِل مائَة من الْإِبِل، وعَلى أهل الْبَقر مِائَتي بقرة، وعَلى أهل الشَّاة ألفي شَاة، وعَلى أهل الْحلَل مِائَتي حلَّة، وعَلى أهل الطَّعَام شَيْئا لَا أحفظه "، وَالله سُبْحَانَهُ الْمُوفق والملهم للصَّوَاب.

(4/375)


مَسْأَلَة (278) :

(4/376)


فَإِن جعلنَا الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أصلين فِي الدِّيَة على القَوْل الثَّانِي فقدره ألف دِينَار، أَو اثْنَا عشر ألف دِرْهَم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " عشرَة آلَاف دِرْهَم ".
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل الدِّيَة اثْنَي عشر ألفا.
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لِأَن أَجْلِس مَعَ قوم يذكرُونَ الله تَعَالَى بعد صَلَاة الصُّبْح إِلَى أَن تطلع الشَّمْس أحب إِلَيّ مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس) ، وَلِأَن أَجْلِس مَعَ قوم يذكرُونَ الله تَعَالَى بعد الْعَصْر إِلَى أَن تغيب الشَّمْس أحب إِلَيّ من أَن أعتق ثَمَانِيَة من ولد إِسْمَاعِيل لِأَن دِيَة كل رجل مِنْهُم اثْنَا عشر ألفا ".

(4/377)


وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بَيْنَمَا هِيَ مرّة تصلي إِذا بحية قريبَة مِنْهَا، قَالَ: " فَأمرت بهَا فقتلت، فَأتيت فِي منامها: أقتلت رجلا مُسلما جَاءَ يسمع الْقُرْآن؟ فديَة. قَالَ: فأخرجت دِيَته اثْنَي عشر ألف دِرْهَم ".
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِنِّي لأسبح كل يَوْم قدر ديتي اثْنَي عشر ألفا ".
وروينا فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا من أوجه عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قضى بِالدِّيَةِ على أهل الْوَرق اثْنَي عشر ألفا.
وَرُوِيَ عَن الْحسن أَن عليا رَضِي الله عَنْهُمَا قضى بِالدِّيَةِ اثْنَي عشر ألفا.
وَرُوِيَ عَن أبي الزِّنَاد قَالَ: " كَانَ من أدْركْت من فقهائنا الَّذين ينتهى إِلَى قَوْلهم، وعد ابْن الْمسيب، وَعُرْوَة، وَالقَاسِم، وَأَبا بكر، وخارجة، وَعبيد الله، وَسليمَان فِي مشيخة جلة سواهُم من نظرائهم، وَذكر أحكاما مِنْهَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الدِّيَة على أهل الذَّهَب ألف دِينَار، وعَلى أهل الْوَرق اثْنَا عشر ألف دِرْهَم، وعَلى أهل الْإِبِل مائَة بعير، وعَلى أهل الْبَقر مِائَتَا بقرة، وعَلى أهل الشَّاة ألفا شَاة ". وَفِي رِوَايَة: " ألف شَاة ".

(4/378)


قَالَ: " وَقد كَانُوا يَقُولُونَ: يكون على أهل الْحلَل مِائَتَا حلَّة ".
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: بلغنَا عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه فرض على أهل الذَّهَب ألف دِينَار، وعَلى أهل الْوَرق عشرَة آلَاف دِرْهَم، حَدثنَا بذلك أَبُو حنيفَة رَحمَه الله عَن الْهَيْثَم عَن الشّعبِيّ ".
قَالَ مُحَمَّد: " وَقَالَ أهل الْمَدِينَة أَن عمر رَضِي الله عَنهُ فرض الدِّيَة على أهل الْوَرق اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَنحن فِيمَا نظن أعلم بفريضة عمر حِين فرض الدِّيَة دَرَاهِم من أهل الْمَدِينَة؛ لِأَن الدَّرَاهِم على أهل الْعرَاق وَإِنَّمَا كَانَ يُؤَدِّي الدِّيَة دَرَاهِم أهل الْعرَاق، وَقد صدق أهل الْمَدِينَة أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فرض الدِّيَة اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَلكنه فَرضهَا اثْنَي عشر ألف دِرْهَم وزن سِتَّة؛ أخبرنَا الثَّوْريّ عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " كَانَت الدِّيَة الْإِبِل، فَجعلت الْإِبِل الصَّغِير وَالْكَبِير كل بعير مائَة وَعِشْرُونَ درهما وزن سِتَّة، فَذَلِك عشرَة آلَاف دِرْهَم ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " روى عَطاء وَمَكْحُول وَعَمْرو بن شُعَيْب، وَعدد من الحجازين أَن عمر رَضِي الله عَنهُ فرض الدِّيَة اثْنَي

(4/379)


عشر ألف دِرْهَم، وَلم أعلم بالحجاز أحدا خَالف فِيهِ، وَلَا عَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَمِمَّنْ قَالَ: الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَلَا أعلم أحدا بالحجاز خَالف فِي ذَلِك ".
وَقد رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قضى بِالدِّيَةِ اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَزعم أَنه نزل فِيهِ: {وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله} .
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فَقلت لمُحَمد: أفتقول: إِن الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم وزن سِتَّة؟ قَالَ: لَا، قلت: فَمن أَيْن زعمت؟ إِذْ كنت أعلم بِالدِّيَةِ فِيمَا زعمت من أهل الْحجاز؛ لِأَنَّك من أهل الْعرَاق، وَأَنَّك عَن عمر قبلتها؛ لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ قضى فِيهَا بِشَيْء لَا تقضي بِهِ، قَالَ: لم يَكُونُوا يحسبون، قلت: أفتروي شَيْئا تَجْعَلهُ أصلا فِي الحكم، وَأَنت تزْعم أَن من يروي عَنهُ لَا يعرف بِمَا قضى بِهِ؟ " وَبسط الْكَلَام فِي هَذَا، وَفِي الْجَواب عَمَّا احْتج بِهِ مُحَمَّد.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " فَادّعى على أهل الْحجاز أَنه أعلم بِالدِّيَةِ مِنْهُم، وَإِنَّمَا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قبل الدِّيَة من الْوَرق، وَلم يَجْعَل لَهُم أَنهم أعلم بِالدِّيَةِ مِنْهُ؛ إِذْ كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ مِنْهُم، فَمن الْحَاكِم مِنْهُ أولى بالمعرفة مِمَّن الدَّرَاهِم مِنْهُ؛ إِذْ كَانَ

(4/380)


الحكم إِنَّمَا وَقع، إِنَّمَا بالحاكم ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ (رَحمَه الله) : " رواياته عَن عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا مُنْقَطِعَة، وَالرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى مُنْقَطِعَة، إِلَّا أَن أهل الْحجاز أعرف بِمذهب عمر من غَيرهم، وَقد رويناها مَوْصُولَة فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (279) :

(4/381)


(صفحه فارغه)

(4/382)


(صفحه فارغه)

(4/383)


ودية الذِّمِّيّ ثلث دِيَة الْمُسلم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " مثل دِيَة الْمُسلم ".
روى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن فُضَيْل بن عِيَاض عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن ثَابت بن الْحداد عَن ابْن الْمسيب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قضى فِي دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ بأَرْبعَة آلَاف، وَفِي دِيَة الْمَجُوس

(4/384)


بثمان مائَة دِرْهَم، تَابعه قَتَادَة عَن ابْن الْمسيب.
وروى عَن ابْن عُيَيْنَة عَن صَدَقَة بن يسَار قَالَ: " أرسلنَا إِلَى سعيد بن الْمسيب نَسْأَلهُ عَن دِيَة الْمعَاهد، فَقَالَ: قضى فِيهِ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بأَرْبعَة آلَاف، قَالَ: قُلْنَا: فَمن قبله فحصبنا " قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله هم الَّذين سَأَلُوهُ آخرا " وَإِنَّمَا عَنى الشَّافِعِي بقوله هَذَا أَنه رُوِيَ عَنهُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا آخر مَا قضى بِهِ، فالأخذ بِهِ أولى.
وَرُوِيَ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا فِي دِيَة الْمَجُوس ثَمَانمِائَة دِرْهَم.
وَرُوِيَ عَن أبي صَالح كَاتب اللَّيْث عَن ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن أبي الْخَيْر عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا دِيَة الْمَجُوس ثَمَانمِائَة دِرْهَم، تفرد بِهِ أَبُو صَالح.

(4/385)


وروينا عَن أَيُّوب بن مُوسَى عَن ابْن شهَاب، وَمَكْحُول عَن عَطاء قَالُوا: " أدركنا النَّاس على أَن دِيَة الرجل الْمُسلم الْحر على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة من الْإِبِل ". وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن الدِّيَة كَانَت تخْتَلف حَيْثُ قيدوه بِالرجلِ الْمُسلم الْحر، وَلَو كَانَت دِيَة غَيره كديته لم يكن لتقييدهم فَائِدَة، وَالله أعلم.
وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن إِسْحَاق عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " دِيَة الْمعَاهد نصف دِيَة الْحر ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " يحْتَمل أَن يكون هَذَا إِخْبَارًا عَن دِيَة الْمعَاهد حِين كَانَت قيمَة دِيَة الْمُسلم (ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم، فَلَمَّا غلت الْإِبِل رفع أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر رَضِي الله عَنهُ قيمَة دِيَة الْمُسلم "، وَلم يرفع دِيَة الْمعَاهد فِيمَا رفع علما مِنْهُ بِأَنَّهَا فِي أهل الذِّمَّة تَوْقِيت.
وَالَّذِي يدل على هَذَا مَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض على كل مُسلم حر قتل رجلا من أهل الْكتاب أَرْبَعَة آلَاف.

(4/386)


ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم رَحمَه الله أحكاما رَوَاهَا عَمْرو بن شُعَيْب هم - يَعْنِي الْعِرَاقِيّين - لَا يَقُولُونَ بهَا، وَنحن نقُول بهَا، فَذكر مِنْهَا مَا رَوَاهُ فِي عقل أهل الْكتاب أَنه نصف عقل الْمُسلم، فَفِيهِ إِشَارَة أَنه كَانَ يَقُول بذلك، ثمَّ رغب عَنهُ، وَالله أعلم، لما ذكرنَا من الِاحْتِمَال، وَالله أعلم.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن الزُّهْرِيّ عَن عَليّ بن حُسَيْن عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن أُسَامَة بن زيد رَضِي الله عَنْهُمَا " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل دِيَة الْمعَاهد كدية الْمُسلم "، قَالَ عَليّ (بن عمر: " عُثْمَان هُوَ الوقاصي مَتْرُوك الحَدِيث ".
وَرُوِيَ عَن أبي سعد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " جعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَة الْعَامِرِيين دِيَة الْحر الْمُسلم، وَكَانَ لَهما عهد ". أَبُو سعد هَذَا سعيد بن الْمَرْزُبَان الْبَقَّال ضَعِيف الحَدِيث، وَلَيْسَ هَذَا بِثَابِت.
وروى أَبُو كرز عبد الله بن عبد الْملك الفِهري عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنه ودى ذِمِّيا دِيَة مُسلم ".

(4/387)


قَالَ عَليّ: " أَبُو كرز هَذَا مَتْرُوك الحَدِيث، وَلم يروه عَن نَافِع غَيره ".
وروى بركَة بن مُحَمَّد الْحلَبِي بِسَنَد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن الدِّيَة كَانَت على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي رَضِي الله عَنْهُم دِيَة الْمُسلم واليهودي وَالنَّصْرَانِيّ سَوَاء، فَلَمَّا اسْتخْلف مُعَاوِيَة صَار دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ على النّصْف من دِيَة الْمُسلم، فَلَمَّا اسْتخْلف عمر بن عبد الْعَزِيز رد الْأَمر إِلَى الْقَضَاء الأول. هَذَا بَاطِل بِهَذَا الْإِسْنَاد، فبركة بن مُحَمَّد كَذَّاب.
وروى الْحسن بن عمَارَة عَن الحكم عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " ودى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلَيْنِ من الْمُشْركين وَكَانَا مِنْهُ فِي عهد دِيَة الحرين الْمُسلمين ". وَابْن عمَارَة مَتْرُوك الحَدِيث لَا يحْتَج بِهِ.
وَرُوِيَ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " من كَانَ لَهُ عهد أَو ذمَّة فديته دِيَة مُسلم "، قُلْنَا: " هَذَا مُنْقَطع ".
وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ بقريب من معنى مَا روى بركَة بن مُحَمَّد،

(4/388)


ورده الشَّافِعِي (رَحمَه الله) بِكَوْنِهِ مُرْسلا، وَبِأَن الزُّهْرِيّ قَبِيح الْمَرَاسِيل، وَأَنا روينَا عَن عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا مَا هُوَ أصح مِنْهُ، وَالله أعلم.
قيل للشَّافِعِيّ (رَحمَه الله) : " سعيد بن الْمسيب عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مُنْقَطع " قَالَ: " إِنَّه يزْعم أَنه حفظ عَنهُ، ثمَّ تزعمونه أَنْتُم خَاصَّة وَهُوَ عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ غير مُنْقَطع ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَضِي الله عَنهُ: أَظُنهُ أَرَادَ مَا أخبرنَا، وَذكر إِسْنَادًا عَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة قَالَ: " قَالَ سعيد بن الْمسيب مِمَّن أَنْت؟ قلت: من مزينة قَالَ: إِنِّي لأذكر يَوْم نعى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ النُّعْمَان بن المقرن الْمُزنِيّ على الْمِنْبَر ". روينَا عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَن ابْن الْمسيب كَانَ يُسمى راوية عمر؛ لِأَنَّهُ كَانَ أحفظ النَّاس لأحكامه.
وَقَالَ مَالك: " بَلغنِي أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ يُرْسل إِلَى ابْن الْمسيب يسْأَله عَن بعض شَأْن عمر وَأمره، رَضِي الله عَنهُ " وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (280) :

وَقِيمَة العَبْد على الْقَاتِل، لَا تحملهَا الْعَاقِلَة فِي أحد

(4/389)


الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ ابو حنيفَة رَحمَه الله: " تحملهَا الْعَاقِلَة ".
رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ الْعمد وَالْعَبْد وَالصُّلْح وَالِاعْتِرَاف لَا تعقله الْعَاقِلَة.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ: " عقل العَبْد فِي ثمنه كجراح الْحر فِي دِيَته ".
قَالَ ابْن شهَاب: " وَكَانَ رجال سواهُ. يَقُولُونَ: يقوم سلْعَة (إِذا قوم سلْعَة كَانَ كَغَيْرِهِ من السّلع، لَا شَيْء على الْعَاقِلَة، وَإِذا كَانَ كَالْحرِّ فِي جراحه لَا يكون مثله فِي تحمل الْعَاقِلَة، وَإِذن لَا يُقَاس على الدِّيَة مَا يكون قيمَة كَسَائِر المتقومات) ، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (281) :

وَأَبُو الْقَاتِل وجده وَابْنه وَابْن ابْنه لَيْسُوا من جملَة الْعَاقِلَة الَّذين يتحملون الدِّيَة، وَكَذَلِكَ الْقَاتِل لَا يحمل شَيْئا من دِيَة قتيلة خطأ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِنَّهُم من جُمْلَتهمْ، وَعَلَيْهِم مَا على الْإِخْوَة وَغَيرهم ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جَنِين امْرَأَة من بني لحيان سقط مَيتا بغرة عبد أَو

(4/390)


وليدة. ثمَّ إِن الْمَرْأَة الَّتِي قضى عَلَيْهَا بالغرة توفيت، فَقضى رَسُول الله أَن مِيرَاثهَا لبنيها وَزوجهَا، وَأَن الْعقل على عصبتها ".
وَعند أبي دَاوُد عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن امْرَأتَيْنِ من هُذَيْل قتلت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، وَلكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا زوج وَولد، قَالَ: " فَجعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَة الْمَقْتُول على عَاقِلَة القاتلة، وبرأ زَوجهَا، قَالَ: فَقَالَ عَاقِلَة الْمَقْتُول مِيرَاثهَا لنا. قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا مِيرَاثهَا لزَوجهَا وَوَلدهَا ".
وَعند مُسلم عَن الْمُغيرَة أَن امْرَأَة قتلت ضَرَّتهَا بعمود منسطاطا، فَأتي فِيهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقضى فِيهِ على عاقلتها بِالدِّيَةِ، وَكَانَت حَامِلا فَقضى فِي الْجَنِين بغرة، فَقَالَ بعض عصبتها: أندي من لَا طعم " الحَدِيث.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَلم أعلم مُخَالفا فِي أَن الْعَاقِلَة الْعصبَة، وهم الْقَرَابَة من قبل الْأَب ".
قَالَ رَحمَه الله: " وَقد قضى عمر على عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا بِأَن يعقل عَن موَالِي صَفِيَّة، وَقضى للزبير بميراثهم؛ لِأَنَّهُ ابْنهَا ".
وروى أَبُو الزِّنَاد عَن فُقَهَاء التَّابِعين من أهل الْمَدِينَة ابْن الْمسيب وَغَيره كَانُوا يَقُولُونَ: " إِذا ولدت الْمَرْأَة فِي غير قَومهَا فبنوها يرثونها،

(4/391)


وقومها يعْقلُونَ عَنْهَا، ومولاها بِتِلْكَ الْمنزلَة "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (282) :

وَمن فِي الدِّيوَان وَمن لَيْسَ فِيهِ من الْعَاقِلَة سَوَاء فِي تحمل الْعقل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يخْتَص بحملها من فِي الدِّيوَان من الْعَاقِلَة) ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه: " قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْعَاقِلَة، وَلَا ديوَان حَتَّى كَانَ الدِّيوَان فِي زمَان عمر رَضِي الله عَنهُ حِين كثر المَال، وَقد مضى الحَدِيث فِي قَضَاء رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا أول من دون الدَّوَاوِين عمر، رَضِي الله عَنهُ.
مَسْأَلَة (283) :

والبداية فِي الْقسَامَة مَعَ اللوث بأيمان المدعين. وَقَالَ أَبُو

(4/392)


حنيفَة رَحمَه الله: " من قبل الْمُدعى عَلَيْهِم، لَا من قبل المدعين ".
لنا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سهل بن أبي حثْمَة رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث حويصة ومحيصة، وَفِيه: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُم حِين أنْكرت يهود قتل عبد الله بن سهل: تحلفون وتستحقون دم صَاحبكُم؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَيحلف يهود، قَالُوا: لَيْسُوا بمسلمين، فوداه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عِنْده ".
وَفِي رِوَايَة عِنْدهمَا عَنهُ، وَعَن رَافع بن خديج رَضِي الله عَنهُ الْقِصَّة فِي قَتله، قَالَ: " فتكلما فِي أَمر صَاحبهمَا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استحقوا صَاحبكُم، أَو قَالَ: قتيلكم بأيمان خمسين مِنْكُم، قَالُوا: أَمر لم نشهده، فَقَالَ: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين مِنْهُم، قَالُوا: قوم كفار، فوداه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قبله ".
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عِنْدهمَا أَيْضا عَن سهل رَضِي الله عَنهُ قَالَ يحيى: " وحسبته قَالَ: وَعَن رَافع أَنَّهُمَا قَالَا "، فَذكر قصَّة فِي قَتله إِلَى أَن قَالَ: " فَذكرُوا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مقتل عبد الله، فَقَالَ لَهُم: تحلفون خمسين يَمِينا فتستحقون صَاحبكُم أَو قاتلكم؟ قَالُوا: كَيفَ نحلف وَلم نشْهد؟ قَالَ: فتبرئكم الْيَهُود بِخَمْسِينَ يَمِينا، قَالُوا: وَكَيف نقبل أَيْمَان قوم كفار؟ فَلَمَّا رأى ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعْطى عقله ".

(4/393)


وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن ذكر الْخمسين يرجع إِلَى الْأَيْمَان، لَا إِلَى عدد الَّذين يحلفُونَ. وَهَكَذَا رِوَايَة الْجَمَاعَة عَن يحيى بن سعيد.
كَذَلِك رَوَاهُ بشر بن الْمفضل وَسليمَان بن بِلَال وَعبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن يحيى بن سعيد زَاد بَعضهم عَن عبد الْوَهَّاب: " وتستحقون دم قاتلكم ". وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد.
وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى فَلم يتقن إتقان هَؤُلَاءِ فِي الْبدَاءَة بأيمان الْأَنْصَار، وَالْجَمَاعَة بِالْحِفْظِ أولى؛ وَلذَلِك أحَال مُسلم رِوَايَة سُفْيَان على رِوَايَة الْجَمَاعَة وَلم يسق مَتنه، وَكَذَلِكَ لم يسق متن رِوَايَة سعيد بن عبيد الطَّائِي؛ لمُخَالفَته رِوَايَة يحيى، وَقَالَ: " إِنَّهَا غلط، وَيحيى احفظ مِنْهُ ".
وساقها البُخَارِيّ، وفيهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُم: " تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ على من قتل؟ قَالُوا: مَا لنا بَيِّنَة، قَالَ: فَيحلفُونَ لكم "، وَلم يسم أحدا مِنْهُم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَهَذَا يحْتَمل أَن لَا يُخَالف رِوَايَة يحيى، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَيِّنَةِ إِيمَان المدعين مَعَ اللوث، كَمَا فسره

(4/394)


يحيى بن سعيد، أَو طالبهم بِالْبَيِّنَةِ كَمَا فِي هَذِه الرِّوَايَة، فَلَمَّا لم يكن عِنْدهم بَيِّنَة عرض عَلَيْهِم الْأَيْمَان كَمَا فِي رِوَايَة يحيى بن سعيد، فَلَمَّا لم يحلفوا ردهَا على الْيَهُود كَمَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا وَالله أعلم يُؤَكد كَذَلِك مَا أخبرنَا ".
وَذكر خَبرا مُرْسلا عَن سُلَيْمَان بن يسَار فِيهِ: " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طالبهم بِالْبَيِّنَةِ، فَلم يكن لَهُم بَيِّنَة، فَقَالَ: استحقوا بِخَمْسِينَ قسَامَة "، وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب أَيْضا بِمَعْنى ذَلِك.
وروى ابْن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّحْمَن بن بجيد قَالَ: " وَالله مَا هَكَذَا كَانَ الشَّأْن، وَلَكِن سهلا أوهم مَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " احلفوا على مَا لَا علم لكم بِهِ ". وَلَيْسَ هَذَا القَوْل بمقبول من قَائِله؛ فَإِن سهلا قصّ الْقِصَّة من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وَتَابعه

(4/395)


على ذَلِك رَافع ابْن خديج. وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " لَا اعْلَم ابْن بجيد سمع من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وروى أَبُو دَاوُد خَبرا مُنْقَطِعًا عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة وَسليمَان بن يسَار، وَرِجَال من الْأَنْصَار أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ للْيَهُود وَبَدَأَ بهم: " يحلف مِنْكُم خَمْسُونَ رجلا، فَأَبَوا " وخولف فِيهِ.
فَرَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح عَنهُ عَنْهُمَا عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْأَنْصَار أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقرّ الْقسَامَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقضى بهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين نَاس من الْأَنْصَار فِي قَتِيل ادعوهُ على الْيَهُود. وَرُوِيَ بِأَلْفَاظ أخر، فَالرِّوَايَة عَنهُ مُخْتَلفَة مِنْهَا الْمُنْقَطع، والمجمل، والمفسر، وَحَدِيث سهل صَحِيح مُتَّصِل مُفَسّر،

(4/396)


فالأخذ بِهِ أولى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ رَحمَه الله أَن قَتِيلا بَين وَادعَة وشاكر، فقاسوا مَا بَين القريتين، فوجدوه أقرب إِلَى وَادعَة، فحلفهم عمر خمسين يَمِينا مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا علمنَا لَهُ قَاتلا، وغرمهم الدِّيَة.
وَفِي رِوَايَة أَن الْحَارِث بن الأزمع قَالَ: " لَا أَمْوَالنَا دفعت عَن أَيْمَاننَا، وَلَا أَيْمَاننَا دفعت عَن أَمْوَالنَا "، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: " كَذَلِك الْحق ". وَهَذَا مُرْسل، وَهُوَ الْمَحْفُوظ.
وَرُوِيَ عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق: " أَن قَتِيلا وجد بَين قريتين ... . "، ومجالد غير مُحْتَج بِهِ.

(4/397)


وَرُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث بن الأزمع قَالَ: " قتل قَتِيل بِالْيمن فذكروه "، وَلم يسْندهُ.
وَعنهُ أَن قَتِيلا وجد بَين وَادعَة وخيوان، قَالَ شُعْبَة: قلت لأبي إِسْحَاق: من حَدثَك؟ : قَالَ: " مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن الْحَارِث "، فَعَاد الحَدِيث إِلَى مجَالد ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " سَافَرت إِلَى خيوان ووادعة كَذَا وَكَذَا سفرة أسألهم عَن حكم عمر فِي الْقَتِيل، وأحكي لَهُم مَا رُوِيَ عَنهُ، فَقَالُوا: إِن هَذَا الشَّيْء مَا كَانَ ببلدنا "، قَالَ: " وَالْعرب أحفظ شَيْء لأمر كَانَ ".
وَرُوِيَ عَن عمر بن صبيح من حَدِيث ابْن الْمسيب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما حج غودر رجل من الْمُسلمين قَتِيلا ببني وَادعَة، فَذكر الْقِصَّة بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَة، وَفِيه: " أَنه أَخذ دِيَته دَنَانِير دِيَة وَثلث دِيَة ". قَالَ عَليّ: " عمر ابْن صبيح مَتْرُوك الحَدِيث ".
وروى أَبُو إِسْرَائِيل الْملَائي عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن أبي سعيد أَن قَتِيلا وجد بَين حيين، فَذكر الحَدِيث مَرْفُوعا مَعْنَاهُ أَن دِيَته ألقيت إِلَى أقربهما إِلَيْهِ بشبر، وعطية والملائي غير مُحْتَج بهما.

(4/398)


وروى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " وجد رجل من الْأَنْصَار قَتِيلا فِي دالية نَاس من الْيَهُود "، فَذكر الحَدِيث مَرْفُوعا مَعْنَاهُ أَن الدِّيَة جعلت عَلَيْهِم بعد يَمِين خمسين مِنْهُم، والكلبي مَتْرُوك، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (284) :

قتل الْعمد يُوجب الْكَفَّارَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يُوجب ".
رُوِيَ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نفر من بني سليم، فَقَالُوا: إِن صاحبا لنا أوجب، قَالَ: فليعتق رَقَبَة يقد الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ من النَّار ".
وَفِي رِوَايَة: " فِي صَاحب لنا قد أوجب النَّار بِالْقَتْلِ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (285) :

وَنَفس السحر لَيْسَ بِكفْر، وَلَا يقتل مَا لم يقتل سحره عمدا.

(4/399)


وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " نفس السحر كفر يقتل بِهِ، وَإِن لم يقتل ".
وَلنَا حَدِيث: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله " الحَدِيث
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِمَا عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يحل دم امْرِئ مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: الثّيّب الزَّانِي، وَالنَّفس بِالنَّفسِ، والتارك لدينِهِ المفارق للْجَمَاعَة ".
وَفِيهِمَا حَدِيث أُسَامَة رَضِي الله عَنهُ بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّة إِلَى الحرقات، (فغدروا بِنَا) ، فَهَرَبُوا، فَأَدْرَكنَا رجلا مِنْهُم، فَلَمَّا غشيناه قَالَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله، فضربناه حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَعرض فِي نَفسِي شَيْء من ذَلِك، فَذَكرته لرَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: من لَك ب " لَا إِلَه إِلَّا الله " يَوْم الْقِيَامَة؟ ! فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَة السِّلَاح وَالْقَتْل، قَالَ / أَفلا شققت عَن قلبه حَتَّى تعلم قَالَهَا من أجل ذَلِك أم لَا؟ من لَك ب " لَا إِلَه إِلَّا الله " يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُول، حَتَّى وددت أَنِّي لم أسلم إِلَّا يَوْمئِذٍ ".

(4/400)


وَفِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل على أَن السَّاحر لَا يقتل بِنَفس السحر، وَأَن تَوْبَته مَقْبُولَة خلافًا لما زَعَمُوا أَن تَوْبَته غير مَقْبُولَة.
وَمَا رُوِيَ عَن حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قتلت جَارِيَة لَهَا سحرتها، فَمَحْمُول على سَاحِرَة جمعت الْكفْر إِلَى سحرها وَهُوَ دَلِيل على قتل الْمُرْتَدَّة، وَالله أعلم.
(وَأما حَدِيث بجالة فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن كتاب عمر رَضِي الله عَنهُ اقْتُلُوا كل سَاحر وساحرة) ، (فَقَالَ) الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " وَأمر عمر رَضِي الله عَنهُ أَن يقتل السحار وَالله أعلم إِن كَانَ السحر كَمَا وَصفنَا شركا، وَكَذَلِكَ أَمر حَفْصَة، رَضِي الله عَنْهَا. وَأما بيع عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْجَارِيَة الَّتِي سحرتها، وَلم تَأمر بقتلها فَيُشبه أَن يكون لم تعرف مَا السحر فباعتها؛ لِأَن لَهَا بيعهَا عندنَا، وَإِن لم

(4/401)


تسحرها، وَلَو أقرَّت عِنْد عَائِشَة أَن السحر شرك مَا تركت قَتلهَا إِن لم تتب، أَو دفعتها إِلَى الإِمَام ليقتلها، إِن شَاءَ الله ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أحد هَذِه الْمعَانِي، وَهُوَ حَدِيثهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طب ... الحَدِيث "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (286) :

وَإِذا انهزم الْبَاغِي حَقِيقَة لم يجز اتِّبَاع مدبرهم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " إِن كَانَ لَهُم فِئَة يرجعُونَ إِلَيْهَا جَازَ اتِّبَاع مدبرهم ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: دخلت على مَرْوَان بن الحكم فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا أكْرم عَليّ من أَبِيك، مَا هُوَ إِلَّا أَن وليناه يَوْم الْجمل، فَنَادَى مناديه: لَا يقتل مُدبر، وَلَا يذفف على جريح ".

(4/402)


وروى عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " شهِدت صفّين، فَكَانُوا لَا يجيزون على جريح، وَلَا يقتلُون موليا، وَلَا يسلبون قَتِيلا "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (287) :

لَا يحل قتل أَسِير أهل الْبَغي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يحل مَا دَامَ لَهُم فِئَة يرجعُونَ إِلَيْهَا، روى فِي ذَلِك حَدِيثا مُسْندًا بِإِسْنَاد ضَعِيف.
رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا فِيمَن بغى من هَذِه الْأمة لَا يتبع مدبرهم، وَلَا يقتل أسيرهم، وَلَا يذفف على جريحهم.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي فَاخِتَة أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أُتِي بأسير يَوْم صفّين، فَقَالَ: " لَا تقتلني

(4/403)


صبرا "، فَقَالَ عَليّ: " إِنِّي لَا أَقْتلك صبرا، إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين "، فخلى سَبيله.
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: " وَالْحَرب يَوْم صفّين قَائِمَة، وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ يُقَاتل جادا فِي أَيَّامه كلهَا منتصفا أَو مستعليا، وَعلي رَضِي الله عَنهُ يَقُول لأسير من أَصْحَاب مُعَاوِيَة: لَا أَقْتلك صبرا، إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين، وَأَنت تَأمر بقتْله "، يَقُول ذَلِك للَّذي كَلمه فِي الْمَسْأَلَة وعنى بقوله " منتصفا أَو مستعليا " أَي يُسَاوِيه مرّة فِي الْغَلَبَة فِي الْحَرْب، ويعلوه أُخْرَى، وَقيل: منتصفا عِنْد نَفسه فِي طلب دم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ومستعليا عِنْد غَيره لما علم من بَرَاءَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ من قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا، وَالْأول أصح، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (288) :

وَيقتل الْمُرْتَد الْمصر على ردته، وَلَا يهمل أَكثر من أَن يناظر، ويكشف عَمَّا اشْتبهَ عَلَيْهِ على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يُمْهل ثَلَاثَة أَيَّام ".
فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ فِي بعث

(4/404)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه إِلَى الْيمن، وَفِيه: " ثمَّ أتبعه معَاذًا، رَضِي الله عَنهُ، فَلَمَّا قدم قَالَ لَهُ: " إنزل وَأُلْقِي لَهُ وسَادَة، فَإِذا عِنْده رجل موثق قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: " كَانَ يَهُودِيّا، فَأسلم ثمَّ رَاجع دينه دين السوء، فتهود قَالَ: لَا أَجْلِس حَتَّى يقتل قَضَاء الله وَرَسُوله، قَالَ: نعم، إجلس، ثَلَاث مَرَّات، فَأمر بِهِ فَقتل ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى: " وَاحْتج لقَوْله الْجَدِيد بالثابت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: كفر بعد إِيمَان "، وَلم يَأْمر بأناة ".
وَضعف رَحمَه الله تَعَالَى مَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: " الَّذِي رُوِيَ عَن عمر: " لَو حبستموه ثَلَاثًا " لَيْسَ بِثَابِت؛ لِأَنَّهُ لَا نعلمهُ مُتَّصِلا، وَإِن كَانَ ثَابتا كَانَ لم يَجْعَل على قَاتله قبل ثَلَاث شَيْئا، وَالله أعلم.

(4/405)


وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن الْعَلَاء عَن حَفْص عَن الشَّيْبَانِيّ عَن أبي بردة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " فَأتي أَبُو مُوسَى بِرَجُل ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام فَدَعَاهُ عشْرين لَيْلَة أَو قَرِيبا مِنْهَا، فجَاء معَاذ فَدَعَاهُ، فَأبى فَضرب عُنُقه ".
قَالَ أَبُو دَاوُد: " رَوَاهُ عبد الْملك بن عُمَيْر عَن أبي بردة رَضِي الله عَنهُ لم يذكر الاستتابة. وَرَوَاهُ ابْن فُضَيْل عَن الشَّيْبَانِيّ عَن سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ لم يذكر الاستتابة، حَدثنَا ابْن معَاذ حَدثنَا أبي حَدثنَا المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم بِهَذِهِ الصّفة، قَالَ: " فَلم ينزل حَتَّى ضرب عُنُقه وَمَا استتابه "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (289) :

الْمُرْتَدَّة تقتل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تقتل ".
لنا عُمُوم الْخَبَر الصَّحِيح " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا خبر فِي أعمى

(4/406)


كَانَت لَهُ أم ولد تَشْتُم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَتلهَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلا اشْهَدُوا أَن دَمهَا هدر ".
وَرُوِيَ أَن امْرَأَة سبت النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَتلهَا خَالِد بن الْوَلِيد.
وَقَالَ ابْن عمر، وَالزهْرِيّ، وَإِبْرَاهِيم: " تقتل الْمُرْتَدَّة ".
وَرُوِيَ من وَجه لَيْسَ بِالْقَوِيّ من حَدِيث ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر خبر مَرْفُوع فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ أَيْضا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَقد روى بَعضهم عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه قتل نسْوَة ارتددن عَن الْإِسْلَام، فَكيف لم تصر إِلَيْهِ. قَالَ ابْن وهب: قَالَ اللَّيْث: وَذَلِكَ الَّذِي سمعنَا وَهُوَ رَأْي، يَعْنِي فِي قتل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ مرتدة، قَالَ: " وَقَالَ لي مَالك مثل ذَلِك ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن امْرَأَة وجدت

(4/407)


فِي بعض مغازي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مقتولة، فَأنْكر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل النِّسَاء وَالصبيان ". وَهَذَا إِنَّمَا ورد فِي الْكَافِرَة الْأَصْلِيَّة.
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان عَن أبي حنيفَة عَن عَاصِم عَن أبي رزين عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمُرْتَدَّة قَالَ: " تحبس وَلَا تقتل ".
رُوِيَ عَن ابْن الْمَدِينِيّ عَن ابْن سعيد سَأَلت سُفْيَان عَن حَدِيث عَاصِم قَول ابْن عَبَّاس فِي الْمُرْتَدَّة فَأنكرهُ، وَقَالَ: " لَيْسَ من حَدِيثي ".
وَعَن ابْن حَنْبَل عَن ابْن مهْدي سَأَلت سُفْيَان عَن حَدِيث عَاصِم فِي الْمُرْتَدَّة، فَقَالَ: " قَالَ ابْن معِين: كَانَ الثَّوْريّ يعيب على أبي حنيفَة حَدِيثا كَانَ يرويهِ عَن عَاصِم عَن أبي رزين ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَقد حدث بِهِ سُفْيَان بِالْيمن، والْحَدِيث كَانَ يرويهِ أَبُو حنيفَة عَن عَاصِم عَن أبي رزين) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة إِذا ارْتَدَّت، فَقَالَ: " تحبس وَلَا تقتل ".
وَقد رَوَاهُ أَبُو مَالك النَّخعِيّ عَن عَاصِم بن أبي النجُود مثل رِوَايَة أبي حنيفَة عَنهُ إِلَّا أَنه ضَعِيف الحَدِيث.
وَرَوَاهُ عبد الله بن عِيسَى عَن عَفَّان عَن شُعْبَة عَن عَاصِم مَرْفُوعا مَوْصُولا: " لَا تقتل الْمَرْأَة إِذا ارْتَدَّت "، قَالَ عَليّ: " عبد الله كَذَّاب

(4/408)


يضع الحَدِيث، وَهَذَا لَا يَصح عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا رَوَاهُ شُعْبَة ".
وَرُوِيَ عَن جلاس عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ ": الْمُرْتَدَّة تستأنى وَلَا تقتل ". قَالَ لي شُعْبَة: " قَالَ لي أَيُّوب: لَا ترو عَن خلاس شَيْئا ". قَالَ عَليّ بن عمر: " خلاس عَن عَليّ لَا يحْتَج بِهِ لضَعْفه "، وَقد رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِخِلَافِهِ.
وروى ابْن عدي عَن عَليّ بن الْعَبَّاس عَن عمر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن حَفْص بن سُلَيْمَان عَن مُوسَى بن أبي كثير عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ " أَن امْرَأَة ارْتَدَّت على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي: فَلم تقتل "، ثمَّ قَالَ ابْن عدي: " هَذَا حَدِيث مُنكر بِهَذَا الْإِسْنَاد "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (290) :

قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " لَا يسبى للمرتدين ذُرِّيَّة امْتَنعُوا أَو لم يمتنعوا، أَو لَحِقُوا بدار الْحَرْب، أَو أَقَامُوا؛ لِأَن حُرْمَة الْإِسْلَام قد ثبتَتْ للذرية بِحكم الْإِسْلَام، وَلَا ذَنْب لَهُم فِي تَبْدِيل آبَائِهِم ".
وَحكى فِي رِوَايَة أبي عبد الرَّحْمَن الْبَغْدَادِيّ عَنهُ عَن بعض

(4/409)


الْعِرَاقِيّين أَن حكمهم حكم أهل الْأَوْثَان إِذا حَاربُوا وَلَحِقُوا بدار من دور الْمُشْركين.
وَذكر الشَّافِعِي رَحمَه الله احتجاجهم بِمَا فعل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي بني نَاجِية حِين قَاتلهم، والْحَدِيث كَمَا رُوِيَ أَنهم كَانُوا ثَلَاث فرق، فرقة قَالُوا: " كُنَّا نَصَارَى فأسلمنا فثبتنا على إسْلَامنَا، وَقَالَت الْأُخْرَى: " نَحن قوم كُنَّا نَصَارَى، يَعْنِي فثبتنا على نصرانيتنا "، وَقَالَت الْأُخْرَى: " نَحن كُنَّا نَصَارَى، فأسلمنا فرجعنا، فَلم نر دينا أفضل من ديننَا فتنصرنا "، فَقَالُوا لَهُم: " أَسْلمُوا " فَأَبَوا، فَقَالَ الْأَمِير لأَصْحَابه " إِذا مسحت رَأْسِي ثَلَاث مَرَّات فشدوا عَلَيْهِم " فَفَعَلُوا، فَقتلُوا الْمُقَاتلَة وَسبوا الذَّرَارِي، وَجِيء بِالذَّرَارِيِّ إِلَى عَليّ، رَضِي الله عَنهُ ".
أجَاب الشَّافِعِي عَنهُ فَقَالَ: " قَاتل من لم يزل على النَّصْرَانِيَّة وَمن ارْتَدَّ، فقد يجوز أَن يكون سبى من لم يكن ارْتَدَّ، وَقد كَانَت الرِّدَّة فِي عهد أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، فَلم يبلغنَا أَن أَبَا بكر خمس شَيْئا من ذَلِك، يَعْنِي الذَّرَارِي "، وَالله أعلم.

(4/410)


كتاب الْحُدُود

وَمن كتاب الْحُدُود.
مَسْأَلَة (291) :

(4/411)


الْإِسْلَام لَيْسَ بِشَرْط فِي وجوب الرَّجْم فِي الزِّنَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " هُوَ شَرط ".
دليلنا من الْخَبَر حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قصَّة

(4/412)


الْيَهُودِيّ واليهودية اللَّذين زَنَيَا، فَأمر بهما رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرُجِمَا، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيح.
وَعند مُسلم قصَّة أُخْرَى عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله عَنهُ فِي يَهُودِيّ زنى، وفيهَا فَأمر يَعْنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ فرجم.
وَعِنْده أَيْضا عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا رجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا من أسلم، ورجلا من الْيَهُود وَامْرَأَة.
وَرُوِيَ عَن جَابر بن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجم يَهُودِيّا وَيَهُودِيَّة.
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قصَّة لَهُم، وفيهَا: " وَقد أحصنا ".
وَكَذَلِكَ فِي قصَّة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ لِلْيَهُودِيَّةِ، وفيهَا: " قد أحصن ".
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " آيتان نسختا من هَذِه

(4/413)


السُّورَة - يَعْنِي الْمَائِدَة - آيَة القلائد، وَقَوله: {فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم} . قَالَ: " وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخَيّرا، ثمَّ نزلت: {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم} فَأمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يحكم بَينهم بِمَا فِي كتَابنَا ".
وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا حكم عَلَيْهِمَا بِالرَّجمِ بِحكم الْإِسْلَام، وَأَنه لم يَجْعَل الْإِسْلَام من شَرَائِط الْإِحْصَان خلاف قَول من زعم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا حكم عَلَيْهِم بحكمهم.
وروى عَن عفيف بن سَالم عَن الثَّوْريّ عَن ابْن عقبَة عَن نَافِع

(4/414)


عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا لَا يحصن الْمُشرك بِاللَّه شَيْئا، قَالَ عَليّ بن عمر: " وهم عفيف فِي رَفعه، وَالصَّوَاب أَنه مَوْقُوف ".
ثمَّ رَوَاهُ عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ مَوْقُوفا على ابْن عمر من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن ".
وَقَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي: " وَرُوِيَ عَن أَحْمد بن أبي نَافِع عَن معافى بن عمرَان عَن الثَّوْريّ، وَهُوَ مُنكر من حَدِيث الثَّوْريّ عَن مُوسَى بن عقبَة بِهَذَا الْإِسْنَاد ".
وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن عبيد الله عَن نَافِع مُسْندًا، وَيُقَال: " إِنَّه رَجَعَ عَنهُ ".
وَرُوِيَ من حَدِيث جُورِيَةُ عَن نَافِع مَوْقُوفا.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَصْحَاب نَافِع عَن نَافِع، وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِحْصَان العفائف فِي حد الْقَذْف دون الْإِحْصَان الَّذِي هُوَ من شَرَائِط الرَّجْم. فقد روى رجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْيَهُودِيين، وَهُوَ لَا يُخَالف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا روى عَنهُ.

(4/415)


وَرُوِيَ عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن عَليّ بن طَلْحَة عَن كَعْب بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَنه أَرَادَ أَن يتَزَوَّج يَهُودِيَّة أَو نَصْرَانِيَّة، فَسَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن ذَلِك فَنَهَاهُ، وَقَالَ: " إِنَّهَا لَا تحصنك "، قَالَ عَليّ: " أَبُو بكر بن أبي مَرْيَم ضَعِيف، وَعلي بن أبي طَلْحَة لم يدْرك كَعْبًا، وَرَوَاهُ بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن بعض مشائخه المجهولين ".
أخبرنَا أَبُو سبأ عتبَة بن تَمِيم عَن عَليّ عَن كَعْب. وروى إِبْرَاهِيم بن أبي حَيَّة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن الله عز وَجل أخر حد المماليك وَأهل الذِّمَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، فَإِن صَحَّ فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ مَا يجب لَهُم من الْحَد عَمَّن قذفهم، فبالإجماع يحد الْمَمْلُوك فِيمَا تجب بِهِ الْحُدُود، وَالله أعلم.
(مَسْأَلَة (292) :)

وَلَيْسَ على شُهُود الزِّنَا أَن يحضروا رجم الْمَشْهُود عَلَيْهِ، وَلَا

(4/416)


على الإِمَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " عَلَيْهِم أَن يحضروا، ويبتدئوا بِالرَّجمِ ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - برجم مَاعِز، وَلم يحضرهُ، وَأمر أنيسا أَن يَأْتِي امْرَأَة، فَإِن اعْترفت رجمهما "، وَلم يقل أعلمني لأحضرها، وَلم أعلمهُ أَمر برجم أحد، فحضره، وَلَو كَانَ حُضُور الإِمَام حَقًا حضر رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقد أَمر عمر رَضِي الله عَنهُ أَبَا وَاقد اللَّيْثِيّ أَن يَأْتِي امْرَأَة، فَإِن اعْترفت رَجمهَا، وَلم يقل أعلمني أحضرها. وَلَقَد أَمر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ برجم امْرَأَة، وَمَا حضرها ".
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ رَحمَه الله عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة امْرَأَة فجرت أَنه جلدهَا، ثمَّ رَجمهَا، وَأَنه قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نعى عَلَيْهَا وَلَدهَا، أَو كَانَ اعْتِرَاف، فالإمام أول من يرْجم، (ثمَّ النَّاس، فَإِن نعتها) الشُّهُود فالشهود أول من يرْجم، ثمَّ الإِمَام، ثمَّ النَّاس "، وَهَذَا قَول ذهب إِلَيْهِ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِيمَا رَوَاهُ الشّعبِيّ عَنهُ، وَيحْتَمل أَن يكون الشّعبِيّ أَخذه من الْحَارِث الْأَعْوَر، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا دلّ على أَن حُضُور الإِمَام لَيْسَ بِشَرْط، وَذكر أَنه

(4/417)


جلد مَعَ الرَّجْم، وَقد ذكرنَا أَن الْجلد على الثّيّب صَار مَنْسُوخا، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (293) :

وتجلد الْبكر وتنفى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا تنفى ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمر فِيمَن زنى، وَلم يحصن بجلد مائَة وتغريب عَام "، زَاد البُخَارِيّ قَالَ ابْن شهَاب: " وَأَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير أَن عمر رَضِي الله عَنهُ غرب، ثمَّ لم تزل تِلْكَ السّنة ".
وَعند البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ فِيمَن زنى، وَلم يحصن: " ينفى عَاما من الْمَدِينَة مَعَ إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ ".
قَالَ ابْن شهَاب: " وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَنْفِي من الْمَدِينَة إِلَى الْبَصْرَة، وَإِلَى خَيْبَر ".
وَعِنْدَهُمَا عَنْهُمَا قصَّة الرجلَيْن اللَّذين زنى ابْن أَحدهمَا بِامْرَأَة الآخر، وفيهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد الَّذِي زنى مائَة، وغربه عَاما ".

(4/418)


وَعند مُسلم عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالْبكْر جلد مائَة وَنفي سنة.
وروى مَالك عَن نَافِع عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أُتِي بِرَجُل وَقع على جَارِيَة بكر فأحبلها، وَلم يكن أحصن، فَأمر بِهِ أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ فجلد الْحَد، ثمَّ نفي إِلَى فدك.
وَرُوِيَ عَن ابْن إِدْرِيس عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضرب وَغرب، وَأَن أَبَا بكر ضرب وَغرب، وَأَن عمر ضرب وَغرب.
هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو كريب، وَمن تَابعه عَن عبد الله بن إِدْرِيس، وَرَوَاهُ غَيره، فَلم يذكر فِيهِ النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والتغريب عَنهُ صَحِيح فِي سَائِر الرِّوَايَات، وَعَن أبي بكر، وَعمر صَحِيح، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة وَغَيرهَا. وَرُوِيَ الْجلد والتغريب عَن عَليّ، وَعَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله عَنْهُمَا.

(4/419)


وَأما نفي المماليك فللشافعي رَحمَه الله فِيهِ قَولَانِ.
وَرُوِيَ عَن مَالك عَن نَافِع أَن عبدا كَانَ يقوم على رَقِيق الْخمس، وَأَنه استكره جَارِيَة من ذَلِك الرَّقِيق، فَوَقع بهَا، فجلده عمر، ونفاه، وَلم يجلد الوليدة؛ لِأَنَّهُ استكرهها، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأ عَنهُ، وَهَذَا وَإِن كَانَ مُرْسلا فنافع كَانَ مَشْهُورا بالرواية عَن الثِّقَات، وبالعناية بأخبار آل عمر. وَرَوَاهُ اللَّيْث عَن نَافِع عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد عَن عمر.
وروى ابْن الْمُنْذر صَاحب الخلافيات عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه جلد مَمْلُوكه فِي الزِّنَا، ونفاها إِلَى فدك. وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَفِي إِسْنَاده نظر.
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِي أم ولد بَغت: " تضرب، وَلَا نفي عَلَيْهَا ".

(4/420)


وَأَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " تضرب، وتنفى ".
وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِيهِ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَالَّذِي يخالفنا يحْتَج بمراسيل إِبْرَاهِيم عَن عبد الله.
وَأبي رَضِي الله عَنهُ حكم بِنَفْي البكرين، وَلم يفرق بَين الْحر والمملوك.
وَمن قَالَ بترك نفيهما احْتج بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن الْأمة إِذا زنت، وَلم تحصن، قَالَ: " إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ بيعوها وَلَو بضفير "، قَالَ ابْن شهَاب: " لَا أَدْرِي أبعد الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة ".
وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف قَالَ: " أَتَت امْرَأَة إِلَى النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهِي حُبْلَى، فَقَالَت: " إِن فلَانا أحبلها، فَأرْسل إِلَيْهِ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأتي بِهِ يحمل وَهُوَ ضَرِير مقْعد، فاعترف، فَضَربهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعثكول فِيهَا مائَة شِمْرَاخ الْحَد ضَرْبَة وَاحِدَة، وَكَانَ بكرا ". وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة عَن أَبِيه بِبَعْض مَعْنَاهُ مُخْتَصرا. وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة عَن أبي سعيد، وَالصَّوَاب مُرْسل. وَرُوِيَ عَنهُ عَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.

(4/421)


وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة عَن سعيد بن سعد بن عبَادَة فِي رجل مُخْدج ضَعِيف بِلَفْظ آخر فِيهِ " فَخُذُوا لَهُ عثْكَالًا فِيهِ مائَة شِمْرَاخ فَاضْرِبُوهُ وَاحِدَة ".
وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْأَحَادِيث حَيْثُ لم يذكر فِيهَا النَّفْي؛ فَإِن الْمَقْصُود من حَدِيث الْأمة أَمر السادات بِضَرْب الْإِمَاء فِي الزِّنَا، بِخِلَاف مَا يَقُولُونَ: " إِنَّه لَيْسَ لَهُم ضربهن فِي الْحَد "، وَأَن ذَلِك للْإِمَام، وَالْمَقْصُود بِالْحَدِيثِ الثَّانِي جَوَاز الِاقْتِصَار فِي حد المضرور فِي خلقته على ضربه بِمِائَة شِمْرَاخ ضَرْبَة وَاحِدَة خلاف مَا يَقُولُونَ. وكما لم يذكر النَّفْي فِي حَدِيث الْأمة لم يذكر أَيْضا عدد الْحَد، وَكِلَاهُمَا مُسْتَفَاد من غير هَذَا الحَدِيث، ونفيها لَا يمْنَع من بيعهَا منفية إِلَى مَوضِع مَعْرُوف، ثمَّ الحَدِيث ورد فِي الْأمة، وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي أحد قوليه: " إِنَّهَا لَا تنفى ".
وَحَدِيث المقعد إِنَّمَا سيق لبَيَان كَيْفيَّة ضربه، وَالنَّفْي مُسْتَفَاد من غَيره، وَمَا حُكيَ عَن الطَّحَاوِيّ أَنه قَالَ: " أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الِابْتِدَاء بجلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم، فاستدللنا بسكوته (عَن الْحَد فِي حَدِيث أنس على نسخ الْجلد، كَذَلِك استدللنا بسكوته) عَن النَّفْي فِي حَدِيث الْأمة على نسخ النَّفْي "، قُلْنَا تَركه فِي حَدِيث الْأمة ذكره لَا يدل على النّسخ لأمور:

(4/422)


أَحدهَا: أَن الْقَصْد من الحَدِيث الْإِذْن للسادات بجلد الأماء، أَلا ترَاهُ لم يذكر عدد الْحَد، كَمَا لم يذكر النَّفْي.
وَمِنْهَا: أَنه لَيْسَ فِي شَيْء من الْأَحَادِيث مَا يدل على أَن حَدِيث الْأمة كَانَ بعد حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي النَّفْي حَتَّى يكون نَاسِخا لَهُ، وَفِي حَدِيث أنيس أَنه أمره بِالرَّجمِ دون الْجلد، وَأَنه رَجمهَا وَلم يجلدها، وَكَانَ ذَلِك بعد حَدِيث الْجلد مَعَ الرَّجْم، فَدلَّ على نسخه.
وَمِنْهَا: أَنه يجوز أَن يعبر فِي الْكَلَام بِبَعْض الشَّيْء عَن جملَته، ويكتفى فِي بَاقِيَة بِمَا سبق مِنْهُ فِيهِ، وَلَا يجوز أَن يقْتَصر فِي الْعقل على بعض الشَّيْء إِلَّا بعد جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهِ. وأنيس لما اقْتصر على الرَّجْم علمنَا أَن الْجلد مَرْفُوع، واقتصار رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأمة على ذكر الْجلد يشبه أَن يكون اكْتفى بِمَا سبق مِنْهُ من ذكره، وَالله أعلم.
وَالْعجب أَن قَائِل هَذَا يَدعِي الْمعرفَة بالآثار، ثمَّ يَجْعَل تَركه القَوْل فِيمَا تقدم من الْأَخْبَار نفي الْبكر كتركنا جَمِيعًا القَوْل بِحَدِيث رَوَاهُ مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الوَاسِطِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رجلا قتل عَبده عمدا، فجلده النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة، ونفاه سنة، ومحى سَهْمه من الْمُسلمين، وَأمره أَن يعْتق رَقَبَة.
وَنحن لَا نَدْرِي لأي معنى تَركه، فَهُوَ يحْتَج بِمَا هُوَ أَضْعَف من

(4/423)


هَذَا الْإِسْنَاد فِيمَا يُوَافق هَوَاهُ. فَأَما نَحن فَإِنَّمَا تَرَكْنَاهُ لضعف إِسْنَاده، وَهَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ على إِسْمَاعِيل، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (294) :

إِذا أقرّ بِالزِّنَا مرّة وَاحِدَة حد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يحد حَتَّى يقر أَربع مَرَّات ".
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَزيد بن خَالِد رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " واغد يَا أنيس على امْرَأَة هَذَا، فَإِن اعْترفت فارجمها، فغدا عَلَيْهَا، فَاعْترفت، فَأمر بهَا رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فرجمت ".
وَعِنْدَهُمَا فِي الصَّحِيح أَيْضا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عمر رَضِي الله عَنْهُم " إِنِّي أَخَاف أَن يطول بِالنَّاسِ زمَان حَتَّى يَقُول الْقَائِل لَا نجد الرَّجْم فِي كتاب الله، فيضلوا بترك فَرِيضَة أنزلهَا الله، أَلا وَإِن الرَّجْم حق على من زنى، إِذا أحصن، إِذا قَامَت الْبَيِّنَة، أَو كَانَ الْحمل، أَو الِاعْتِرَاف ". وَهَذَا، وَمَا قبله يدل على أَن الْحَد يتَعَلَّق بالاعتراف دون الْعدَد.
وَأما حَدِيث مَاعِز، وَمَا فِي مَعْنَاهُ من إعراضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنهُ حَتَّى أقرّ أَربع مَرَّات فَلِأَنَّهُ لم يتَبَيَّن لَهُ صِحَة إِقْرَاره بِصَرِيح الزِّنَا، أَلا ترَاهُ استفسر مِنْهُ صَرِيح الزِّنَا بعد وجود الْعدَد فِي إِقْرَاره، وَحين فسر إِقْرَاره نظر هَل بِهِ جنَّة، أَو سكر، فَلَمَّا تبين لَهُ صِحَة إِقْرَاره أَمر برجمه، فَإِذا

(4/424)


تبين لغيره من الْأَئِمَّة صِحَة إِقْرَار الْمُعْتَرف بِالزِّنَا وَجب إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ مَا لم يرجع، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (295) :

واللواط كَالزِّنَا فِي الْأَقْوَال. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " يُعَزّر ".
روى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل، وَالْمَفْعُول بِهِ ".
وَعند أبي دَاوُد عَن ابْن جريج عَن ابْن جشم عَن سعيد بن جُبَير، وَمُجاهد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْبكر يُؤَاخذ على اللوطية، قَالَ: " يرْجم ".

(4/425)


وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: " من عمل عمل قوم لوط فارجموه ".
وَعَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا إِذا أَتَى الرجل الرجل فهما زانيان، وَإِذا أَتَت الْمَرْأَة الْمَرْأَة فهما زانيان.
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَوْقُوفا أَنه رجم لوطيا.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَبِهَذَا نَأْخُذ برجم اللوطي مُحصنا كَانَ، أَو غير مُحصن، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ ".
(وَقَالَ: " قَالَ سعيد بن الْمسيب: السّنة أَنه يرْجم اللوطي أحصن، أَو لم يحصن. وَعِكْرِمَة يرويهِ عَن ابْن عَبَّاس) رَضِي الله عَنْهُمَا. عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَعْنِي مَا تقدم.
وَرُوِيَ عَن ابْن الْمُنْكَدر، وَصَفوَان بن سليم قصَّة فِي شَأْن رجل ينْكح، كَمَا تنْكح الْمَرْأَة أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ جمع النَّاس، فَسَأَلَهُمْ عَن ذَلِك، فَكَانَ من أَشَّدهم قولا يَوْمئِذٍ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: " يرى أَن نحرقه بالنَّار، فَاجْتمع رَأْي أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أَن يحرقه بالنَّار.

(4/426)


وَكتب أَبُو بكر إِلَى خَالِد بن الْوَلِيد يَأْمُرهُ أَن يحرقه بالنَّار، وَهَذَا مُرْسل.
وَرُوِيَ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي غير هَذِه الْقِصَّة، قَالَ: " يرْجم، وَيحرق بالنَّار ".
وَيذكر عَن ابْن أبي ليلى عَن رجل من هَمدَان أَن عليا رجم رجلا مُحصنا فِي عمل قوم لوط، كَذَا ذكره الثَّوْريّ عَنهُ مُقَيّدا، وَهِشَام مُطلقًا.
وَرُوِيَ عَن عَطاء قَالَ: " شهِدت ابْن الزبير، وأتى بسبعة، أخذُوا فِي لواط، أَرْبَعَة مِنْهُم قد أحصنوا، فَأمر بالأربعة، فأخرجوا من الْمَسْجِد، فرضخوا بِالْحِجَارَةِ، وَأمر بِالثَّلَاثَةِ، فَضربُوا الْحُدُود، وَابْن عمر، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم فِي الْمَسْجِد ".
وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: " حد اللواطي حد الزَّانِي، إِن كَانَ مُحصنا رجم، وَإِلَّا جلد ". وَإِلَى هَذَا رَجَعَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا زعم الرّبيع.
وَأما إتْيَان الْبَهِيمَة فقد روى أَبُو دَاوُد عَن عِكْرِمَة عَن

(4/427)


ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من أَتَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ، واقتلوها مَعَه "، قَالَ: " قلت لَهُ: مَا شَأْن الْبَهِيمَة؟ قَالَ: " مَا أرَاهُ قَالَ ذَلِك إِلَّا أَنه كره أَن يُؤْكَل لَحمهَا، وَقد عمل بهَا ذَلِك الْعَمَل ".
استدلوا بِمَا روى أَبُو حنيفَة رَحمَه الله عَن عَاصِم عَن أبي رزين عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " لَيْسَ على من أَتَى بَهِيمَة حد ". وحديثنا قد رُوِيَ من أوجه عَن عِكْرِمَة، وَبَعْضهمْ لَا يقصر عَن عَاصِم فِي الْحِفْظ والإتقان. وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا أَيْضا.

(4/428)


وَرُوِيَ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجم رجلا أَتَى بَهِيمَة ".
ويرجح مَذْهَبنَا فِي اتيان الْبَهَائِم بقول الْحسن بن عَليّ، وَجَابِر بن زيد، وَالْحكم، وَالْحسن، وَعَطَاء، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (296) :

وَمن نكح ذَات محرم لَهُ، وَوَطئهَا عَالما حد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يحد ". وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة.
وَلنَا عُمُوم الْخَبَر فِي وجوب الْحَد على الزَّانِي مُطلقًا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من وَقع على ذَات محرم فَاقْتُلُوهُ ".
وَعَن أبي الجهم مولى الْبَراء (عَن الْبَراء) رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِنِّي لأَطُوف فِي تِلْكَ الْأَحْيَاء على إبل ضلت فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ جَاءَ ركب، أَو فوارس مَعَهم، فَجعل الْأَعْرَاب يلوذون بِي لمنزلتي

(4/429)


من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَانْتَهوا إِلَيْنَا، فاطافوا بقبة، فَاسْتَخْرَجُوا رجلا، فَضربُوا عُنُقه، فَسَأَلت عَن قصَّته، فَقيل: وجد يعرس بِامْرَأَة أَبِيه ".
إِسْنَاده صَحِيح، وَجَاء من يَدعِي تَسْوِيَة الْأَخْبَار على مذْهبه، وَحمل ذَلِك على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا بقتْله؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد استحله، فَصَارَ بِهِ مُرْتَدا، وَاحْتج بِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لقِيت عمي، وَمَعَهُ راية، فَقلت: أَيْن تُرِيدُ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رجل نكح امْرَأَة أَبِيه، فَأمرنِي أَن أضْرب عُنُقه، وآخذ مَاله ".
وَبِحَدِيث مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث جد مُعَاوِيَة إِلَى رجل عرس بِامْرَأَة أَبِيه أَن يضْرب عُنُقه، ويخمس مَاله. وَقَالَ فَدلَّ على انه كَانَ مُرْتَدا مُحَاربًا؛ لِأَن الْمُرْتَد الَّذِي لم يحارب لَا يُخَمّس مَاله، وَهَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ بِشَيْء مِنْهُ فِي الحَدِيث، لَا لاستحلال وَلَا الْمُحَاربَة، وَلَو جَازَ دَعْوَى الاستحلال فِي هَذَا لجَاز مثله فِي زنا من رجمه؛ لِأَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يسْتَحلُّونَ الزِّنَا.

(4/430)


وَفِي حَدِيث أبي الجهم عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ أَنهم أطافوا بقبة، فَاسْتَخْرَجُوا رجلا فَأَيْنَ الْمُحَاربَة، هَهُنَا؟
ثمَّ إِن كَانَ الْأَمر على مَا ذكره من الاستحلال فَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ فِي أَن مَال الْمُرْتَد لَا يكون لوَرثَته، وتخميسه لَا يُنَافِي ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي، رَحمَه الله، فَإِنَّهُ يُوجب الْخمس فِيمَا أوجف عَلَيْهِ فِي الْغَنِيمَة، وَفِيمَا لم يوجف عَلَيْهِ من أَمْوَال الْفَيْء - قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " الْخمس ثَابت لأَهله فِي كل مَا أَخذ من مُشْرك غنيمَة كَانَ، أَو فَيْئا ".
قَالَ: " والفيء مَا رده الله على أهل دينه من مَال من خَالف دينه، وَإِن فعله على غير وَجه الاستحلال، فَهُوَ حجتنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، أَن الْحَد وَاجِب عَلَيْهِ ".
استدلوا بِمَا روى يزِيد بن زِيَاد الشَّامي عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادرؤوا الْحُدُود مَا اسْتَطَعْتُم عَن الْمُسلمين فَإِن وجدْتُم للْمُسلمِ مخرجا فَخلوا سَبيله، فَإِن الإِمَام لِأَن يُخطئ فِي الْعَفو خير لَهُ من أَن يُخطئ فِي الْعقُوبَة ".

(4/431)


وَهَذَا الحَدِيث مَشْهُور بَين الْفُقَهَاء، وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَيزِيد هَذَا غير مُحْتَج بِهِ، وَقد تفرد بِهِ وَرَوَاهُ، وَكِيع عَن يزِيد مَوْقُوفا وروى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِسْنَاد شبه لَا شَيْء.
وَرُوِيَ عَن عبد الله، ومعاذ، وَعقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنْهُم مَوْقُوفا، كَمَا ذكرنَا إسنادها فِي السّنَن، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (297) :

وَيحد الرجل أمته إِذا زنت. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا أَن يكون سُلْطَانا ".
لنا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِذا زنت أمة أحدكُم فَتبين زنَاهَا (فليجلدها الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا، ثمَّ أَن زنت فليجلدها الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا، ثمَّ إِن زنت الثَّالِثَة، فَتبين زنَاهَا) فليبعها، وَلَو بِحَبل من شعر ".
وَعند مُسلم عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، قَالَ: " خطب عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، أقِيمُوا الْحَد على أرقائكم، من أحصن مِنْهُم، وَمن لم يحصن، فَإِن أمة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زنت، فَأمرنِي أَن أجلدها، فأتيتها، فَإِذا هِيَ حَدِيث عهد بالنفاس، فَخَشِيت إِن أَنا

(4/432)


جلدتها أَن تَمُوت، فَأتيت النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَخْبَرته، فَقَالَ: أَحْسَنت ".
وَرُوِيَ عَن أبي جميلَة عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقيما الْحُدُود على مَا ملكت أَيْمَانكُم "
وَعَن عبد خير عَنهُ قَالَ: " قَالَ " قَالَ رَسُول الله
: إِذا زنت إماؤكم، فأقيموا عَلَيْهِنَّ الْحُدُود، أحصن، أَو لم يحصن "
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وهم يخالفون هَذَا إِلَى غير فعل أحد عَلمته من أَصْحَاب النَّبِي، وَنحن نقُول بِهِ ".
أخبرنَا سُفْيَان عَن عَمْرو عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا بنت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حدت جَارِيَة لَهَا زنت ".
وَرُوِيَ عَن أبان قَالَ: " قلت لأنس رَضِي الله عَنهُ أجلد أمتِي إِذا زنت؟ قَالَ: نعم، قلت: لَا أرفعها إِلَى السُّلْطَان، قَالَ: أَنْت سلطانها ".

(4/433)


وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن نَافِع أَن عبدا لِابْنِ عمر سرق، وَهُوَ آبق، فَأرْسل بِهِ عبد الله إِلَى سعد بن الْعَاصِ، وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة؛ ليقطع يَده، فأبي أَن يقطع يَده، وَقَالَ: " لَا تقطع يَد الْآبِق إِذا سرق "، فَقَالَ لَهُ ابْن عمر: " فِي أَي كتاب الله وجدت هَذَا؟ "، فَأمر بِهِ ابْن عمر، فَقطعت يَده.
وَرُوِيَ عَن ابْن أبي ليلى أدْركْت بقايا الْأَنْصَار، وهم يضْربُونَ الوليدة من ولائدهم فِي مجَالِسهمْ إِذا زنت.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَأْمر بِهِ، وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ حد وليدته ".
وروى الْبَيْهَقِيّ ذَلِك بِإِسْنَادَيْنِ إِلَيْهِمَا.
وَعَن أبي الزِّنَاد عَن الْفُقَهَاء الَّذين ينتهى إِلَى قَوْلهم من أهل الْمَدِينَة كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُقيم شَيْئا من الْحُدُود دون السُّلْطَان إِلَّا أَن للرجل أَن يُقيم حد الزِّنَا على عَبده وَأمته ".
وَاسْتَدَلُّوا بِأَن قَالُوا: " روينَا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَا يشبه قَوْلنَا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أَو فِي أحد مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّة؟ قَالَ: لَا، قُلْنَا: فَلم يحْتَج بِهِ؟ وَلَيْسَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بِمَعْرُوف أَيْضا ".

(4/434)


قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " لم نجده عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي شَيْء من كتب الحَدِيث "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (298) :

وَيقطع السَّارِق فِي ربع دِينَار، أَو مَا قِيمَته ربع دِينَار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يقطع إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم، أَو دِينَار ".
دليلنا الْخَبَر الْمُتَّفق على صِحَّته عَن الزُّهْرِيّ عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
وَفِي رِوَايَة: " تقطع يَد السَّارِق فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
رَوَاهُ الشَّافِعِي رَحمَه الله من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ". وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاق الْحَنْظَلِي عَنهُ فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ من مُسْنده. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر عَن مُحَمَّد بن عبيد بن حسان عَن ابْن عُيَيْنَة. وَبِمَعْنَاهُ رِوَايَة الْحجَّاج بن منهال، والْحميدِي فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَرَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح عَن يحيى بن يحيى عَن ابْن عُيَيْنَة،

(4/435)


فَقَالَ فِيهِ: " إِن رَسُول الله كَانَ يقطع السَّارِق فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
فجَاء الطَّحَاوِيّ فَرَوَاهُ عَن مُوسَى بن عُيَيْنَة بِهَذَا اللَّفْظ، وَتعلق بِهِ، وَزعم أَنَّهَا رَضِي الله عَنْهَا أخْبرت عَمَّا قطع فِيهِ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك لِأَنَّهَا قومت مَا قطع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ، فَكَانَت قِيمَته عِنْدهَا ربع دِينَار، فَجعلت ذَلِك مِقْدَار مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقطع فِيهِ، وَقِيمَته عِنْد غَيرهَا أَكثر من ربع دِينَار ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " وَلَو كَانَ أصل الحَدِيث على هَذَا اللَّفْظ، فعائشة رَضِي الله عَنْهَا عِنْد أهل الْعلم بِحَالِهَا كَانَت أعلم بِاللَّه، وأفقه فِي دين الله، وأخوف من الله، وَأَشد إتقانا فِي الرِّوَايَة، أَن تقطع على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَنَّهُ كَانَ يقطع السَّارِق فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا فِيمَا لم تحط بِهِ علما، أَو تطلق مثل هَذَا التَّقْدِير فِيمَا تقومه بِالظَّنِّ والتخمين، ثمَّ تُفْتِي بذلك الْمُسلمين، نَحن لَا نظن بعائشة رَضِي الله عَنْهَا مثل هَذَا ".
وَالْبُخَارِيّ رَحمَه الله لم يخرج حَدِيث ابْن عُيَيْنَة هَذَا فِي الصَّحِيح، وَأَظنهُ إِنَّمَا تَركه لمُخَالفَته سَائِر الروَاة فِي لَفظه وَلَا ضطرابه فِيهِ، وَقد أخرجناه من حَدِيث يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ مَنْقُولًا عَن لفظ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.

(4/436)


فَرجع الطَّحَاوِيّ إِلَى تَرْجِيح رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة بِأَن قَالَ: " يُونُس بن يزِيد عنْدكُمْ لَا يُقَارب ابْن عُيَيْنَة "، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن ينظر فِي تواريخ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ ويبصر مدارج الروَاة ومنازلهم فِي الرِّوَايَة، ثمَّ يلْزمهُم مَا وقف عَلَيْهِ من أقاويلهم لَو قَالَ ابْن عُيَيْنَة لَا يُقَارب يُونُس فِي الزُّهْرِيّ لَكَانَ أقرب إِلَى أقاويل أهل الْعلم.
قَالَ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ رَحمَه الله: " سَمِعت يحيى بن معِين عَن أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، فَذكر مَالِكًا، وَيُونُس بن يزِيد، ومعمرا، وعقيلا، وَغَيرهم، وَذكر مَنَازِلهمْ، قلت: فَابْن عُيَيْنَة أحب، أَو معمر؟ فَقَالَ: معمر، فَقلت لَهُ: إِن بعض النَّاس يَقُولُونَ: سُفْيَان بن عُيَيْنَة أثبت النَّاس فِي الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَقُول: من سمع مِنْهُ، وَأي شَيْء كَانَ سُفْيَان؟ إِنَّمَا كَانَ غليم يَعْنِي أَيَّام الزُّهْرِيّ ".
قَالَ الدَّارمِيّ: " سَمِعت أَحْمد بن صَالح يَقُول: لَا يقدم فِي الزُّهْرِيّ على يُونُس أحد ".
قَالَ أَحْمد بن صَالح: " سَمِعت أَحَادِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، فَوجدت الحَدِيث الْوَاحِد رُبمَا سَمعه الزُّهْرِيّ مرَارًا، وَكَانَ الزُّهْرِيّ إِذا قدم أَيْلَة نزل على يُونُس بن يزِيد، وَإِذا سَار إِلَى الْمَدِينَة زامله يُونُس ".

(4/437)


وروى صَدَقَة بن الْمُنْتَصر عَن يُونُس قَالَ: " صَحِبت الزُّهْرِيّ أَربع عشرَة سنة ".
وَأما ابْن عُيَيْنَة فَإِنَّهُ قَالَ: " ولدت سنة سبع وَمِائَة، وجالست الزُّهْرِيّ وَأَنا ابْن سِتّ عشرَة وشهرين وَنصف، قدم علينا الزُّهْرِيّ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، وَخرج إِلَى الشَّام وَمَات ".
روى ذَلِك عَنهُ البُخَارِيّ عَن ابْن الْمَدِينِيّ، وَكَانَ الزُّهْرِيّ يَقُول: " مَا رَأَيْت عَالما بِالْعلمِ أَصْغَر مِنْهُ وَكَانَ يجلس على فَخذه ويحدثه، فكم بَين سَماع هَذَا، وَسَمَاع من صحب الزُّهْرِيّ أَربع عشرَة سنة؟ فَسَمعهُ يُبْدِي الحَدِيث، ويعيده، وينسبه، ويكرره ".
والعجيب أَن هَذَا الشَّيْخ أوهم من نظر فِي كِتَابه أَنه لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ غير ابْن عُيَيْنَة وَيُونُس. ثمَّ رَوَاهُ فِي آخر الْبَاب من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ، والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث إِبْرَاهِيم، وَسليمَان بِمَ كثير. وَعند مُسلم من حَدِيث معمر أَيْضا كلهم عَن الزُّهْرِيّ مَنْقُولًا عَن لفظ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا رَوَاهُ عَن يُونُس. وَكلهمْ حفاظ ثِقَات، وَفِي ذَلِك دلَالَة على أَن أصل الحَدِيث عَن لفظ رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي وَغَيره عَن ابْن عُيَيْنَة.
وَأما من رَوَاهُ عَنهُ عَن فعل رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيحْتَمل أَن يَكُونَا محفوظين بِأَن يقطع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ربع دِينَار، وَيَقُول: " الْقطع فِي ربع دِينَار

(4/438)


فَصَاعِدا "، فيؤديه ابْن عُيَيْنَة مرّة بِالْفِعْلِ دون القَوْل، وَمرَّة بالْقَوْل دون الْفِعْل.
هَذَا، وَقد رَوَاهُ سُلَيْمَان بن يسَار، وَأَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ أَيْضا عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل معنى رِوَايَة الْجَمَاعَة، وَكلهَا مخرج فِي الصَّحِيح، رِوَايَة سُلَيْمَان، وَأبي بكر عِنْد مُسلم، وَالْأُخْرَى عِنْد البُخَارِيّ، وأظنها لم تقع للطحاوي، وَلَو وَقعت لَهُ، فَمَا أَدْرِي بِمَا كَانَ يعللها، فَإِنَّهُ علل حَدِيث سُلَيْمَان بِأَن مخرمَة بن بكير بن الْأَشَج الَّذِي رَوَاهُ عَن أَبِيه عَن سُلَيْمَان لم يسمع من أَبِيه شَيْئا، وَاحْتج بِمَا حُكيَ عَنهُ من إِنْكَاره سَماع كتب أَبِيه.
وَقد رُوِيَ عَن ابْن أبي أويس قَالَ: " قَرَأت فِي كتاب مَالك بِخَط مَالك قُمْت إِلَى جنب مخرمَة فِي الرَّوْضَة، فَقلت لَهُ: " إِن النَّاس يَقُولُونَ: إِنَّك لم تسمع هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي تروي عَن أَبِيك، من أَبِيك، قَالَ: " وَرب هَذَا الْمِنْبَر والقبر لقد سَمعتهَا من أبي، وَكرر هَذَا القَوْل عَنهُ ثَلَاثًا "، وَقد اعْتَمدهُ مَالك فِي مَا أرْسلهُ فِي الْمُوَطَّأ عَن أَبِيه بكير، وَإِنَّمَا أَخذه عَن مخرمَة، وَاعْتَمدهُ مُسلم، وَأخرج أَحَادِيثه فِي الصَّحِيح، وَوَثَّقَهُ أَحْمد بن حَنْبَل، وَعلي بن الْمَدِينِيّ، وَعلل حَدِيث أبي بكر بن حزم بِأَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وَيحيى بن سعيد، وَعبد ربه بن سعيد، ورزين بن حَكِيم رووا هَذَا الحَدِيث عَن عمْرَة عَن عَائِشَة مَوْقُوفا، وَأخذ فِي كَلَام يُوهم أَن أَبَا بكر بن حزم ينْفَرد بِهَذَا

(4/439)


الحَدِيث، وَأَن الَّذين خالفوه أَكثر عددا، وَأَشد إتقانا وحفظا وَلم يعلم حَال أبي بكر بن حزم فِي علمه بِالْقضَاءِ، وَالسّنَن، واجتهاده فِي الْعِبَادَة.
رُوِيَ عَن مَالك أَنه قَالَ: " لم يكن عِنْد أحد بِالْمَدِينَةِ من علم الْقَضَاء مَا كَانَ عِنْد أبي بكر بن حزم، وَذكر أَن عمر بن عبد الْعَزِيز أمره أَن يكْتب لَهُ الْعلم من عِنْد عمْرَة وَالقَاسِم، وَذكر غَيره أَن سجدته كَانَت أخذت جَبهته، فَإِذا كَانَ عمر يعتمده فِي الْقَضَاء، وَفِي كِتَابَة الْعلم عَن عمْرَة، وَالقَاسِم، وَغَيرهمَا أَفلا نعتمده نَحن فِيمَا يروي عَنْهَا، وَقد تَابعه أحفظ النَّاس فِي دهره ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وتابعهما سُلَيْمَان بن يسَار، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ، وَغَيرهمَا عَن عمْرَة ".
وَقد رَوَاهُ مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " مَا طَال عَليّ، وَمَا نسيت الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، وَفِي ذَلِك مَا يُوهم الْإِشَارَة إِلَى الرّفْع.
وَرَوَاهُ ابْن أبي عرُوبَة عَن يحيى مَرْفُوعا، وأسنده أَيْضا أبان بن يزِيد عَن يحيى، وَبدل بن المحبر عَن شُعْبَة عَن يحيى، وَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تُفْتِي بذلك، وترويه عَن رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيقْتَصر الروَاة تَارَة على فتواها، وَمرَّة على رِوَايَتهَا.
وَأما رِوَايَة عبد الله بن أبي بكر فَإِنَّهُ روى عَن عمْرَة قصَّة المولاتين اللَّتَيْنِ خرجتا مَعَ عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَالْعَبْد الَّذِي سرق

(4/440)


مِنْهَا، وَأَنَّهَا أمرت بِهِ، فَقطعت يَده وَقَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، فروت قَضَاهَا وفتواها دون رِوَايَتهَا، وَفِي غَيره دون رِوَايَتهَا. فَلَا تعلل حَدِيث الْحفاظ بِمثل هَذَا.
وَقد رُوِيَ من حَدِيث يُونُس بن يزِيد عَن الزُّهْرِيّ عَن عمْرَة، وَعمرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروى همام عَن قَتَادَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: السَّارِق يقطع فِي ربع دِينَار "، رَوَاهُ عَنهُ أَبُو عمر الحوضي، وَتَابعه على رَفعه عَن همام عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، وَإِسْحَاق بن إِدْرِيس، وهدبة بن خَالِد فِي بعض الرِّوَايَات عَنهُ.
وَرُوِيَ مَوْقُوفا، وَهَذَا لَا يُخَالف رِوَايَة هشان بن عرُوبَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " لم يقطع سَارِق فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أقل من ثمن الْمِجَن جحفة، أَو ترس، وَكِلَاهُمَا ذُو ثمن ".
فهشام إِنَّمَا رَوَاهُ فِي رجل سرق قدحا، فَأتى بِهِ عمر بن عبد الْعَزِيز، فَقَالَ: " قَالَ أبي: إِنَّه لَا تقطع الْيَد فِي الشَّيْء التافه ".

(4/441)


وَقَالَ: " أَخْبَرتنِي عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه لم يكن تقطع الْيَد فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أدنى من ثمن مجن حجفة، أَو ترس ". رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح، ثمَّ قيمَة الْمِجَن غير مَذْكُورَة فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَقد ذكرتها عمْرَة عَن عَائِشَة فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن يزِيد بن حبيب عَن بكير الْأَشَج عَن ابْن يسَار عَن عمْرَة قَالَت: " قيل لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَا ثمن الْمِجَن؟ قَالَت: ربع دِينَار ".
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطع سَارِقا فِي مجن قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم ".
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث ابْن جريج عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة أَن نَافِعًا حَدثهُ أَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا حَدثهمْ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطع رجلا سرق ترسا من صفة النِّسَاء ثمنه ثَلَاثَة دَرَاهِم.
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " حَدِيث ابْن عمر مُوَافق لحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُم؛ لِأَن ثَلَاثَة دَرَاهِم فِي عهد النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمن بعده ربع دِينَار ".
وَاحْتج بِمَا تقدم عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَغَيره فِي تَقْوِيم الْإِبِل فِي الدِّيات بِأَلف دِينَار، أَو اثْنَي عشر ألف دِرْهَم.

(4/442)


وبقصة الأترجة رَوَاهَا عَن مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عَن أَبِيه عَن عمْرَة أَن سَارِقا سرق أترجة فِي عهد عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَأمر بهَا عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فقومت ثَلَاثَة دَرَاهِم من صرف اثْنَي عشر درهما بِدِينَار، فَقطع يَده، قَالَ مَالك: " وَهِي الأترجة الَّتِي يأكلها النَّاس ".
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قطع أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فِي شَيْء لَا يسرني أَنه لي بِثَلَاثَة دَرَاهِم.
وَرُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قطع فِي بَيْضَة من حَدِيد ثمن ربع دِينَار.
وروى فتواه بِهِ الشَّافِعِي عَن غير وَاحِد عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، وَأبي سعيد رَضِي الله عَنْهُمَا الْقطع فِي أَرْبَعَة دَرَاهِم فَصَاعِدا.

(4/443)


وروى أَبُو الزِّنَاد عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من التَّابِعين أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا قطع إِلَّا فِيمَا بلغت قِيمَته ربع دِينَار فَصَاعِدا ".
استدلوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن يَد السَّارِق لم تقطع فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فِي أدنى من ثمن جحفة، أَو ترس، وكل وَاحِد مِنْهُمَا يَوْمئِذٍ ذُو ثمن.
زَاد مُسلم وَأَن يَد السَّارِق لم تقطع فِي عهد رَسُول) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّيْء التافه.
وَرُوِيَ عَن أَحْمد بن خَالِد الْوَهْبِي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أَيُّوب بن مُوسَى عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ ثمن الْمِجَن فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقوم عشرَة دَرَاهِم ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن نمير عَن ابْن إِسْحَاق فَقَالَ: " قطع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَد رجل فِي مجن قِيمَته دِينَار، أَو عشرَة دَرَاهِم ". وَهَذِه حِكَايَة فعل لَا يدل على ترك الْقطع فِيمَا دون ذَلِك، ثمَّ قد خُولِفَ فِي هَذَا الْإِسْنَاد، فَرَوَاهُ النَّاس عَن عَطاء عَن أَيمن (قَالَ عَليّ بن عمر: " خَالفه مَنْصُور، فَرَوَاهُ عَن عَطاء عَن أَيمن) ، وأيمن لَا صُحْبَة لَهُ ".
رُوِيَ عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد، وَعَطَاء، أَو عَن عَطاء

(4/444)


عَن أَيمن الحبشي قَالَ: " لم يقطع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا فِي ثمن الْمِجَن، وَكَانَ ثمن الْمِجَن يَوْمئِذٍ دِينَارا ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن حميد الطَّوِيل، قَالَ: سَمِعت قَتَادَة يسْأَل أنس بن مَالك عَن الْقطع، فَقَالَ: حضرت أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ قطع سَارِقا فِي شَيْء مَا يسوى ثَلَاثَة دَرَاهِم، أَو مَا يسرني أَنه لي بِثَلَاثَة دَرَاهِم ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قلت لبَعض النَّاس هَذِه سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، قلت: " لَا يقطع الْيَد إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم، وَمَا حجتك فِي ذَلِك؟ " قَالَ: " قد روينَا عَن شريك عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن أَيمن عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبِيها بقولنَا "، قلت: " أتعرف أَيمن، أما أَيمن الَّذِي روى عَنهُ عَطاء فَرجل حدث، لَعَلَّه أَصْغَر من عَطاء، روى عَنهُ عَطاء حَدِيثا عَن ربيع ابْن امْرَأَة كَعْب عَن كَعْب يَعْنِي فِي الْوضُوء "، قَالَ الشَّافِعِي: " فَهَذَا مُنْقَطع ".
قَالَ: " فقد روينَا عَن شريك عَن مُجَاهِد عَن أَيمن ابْن أم أَيمن

(4/445)


أخي أُسَامَة لأمه "، لَا علم لَك بأصحابنا، أَيمن أَخُو أُسَامَة، قتل مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم حنين قبل مولد مُجَاهِد ".
قَالَ: " فقد روينَا عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطع فِي ثمن الْمِجَن، قَالَ عبد الله: " وَكَانَ ثمن الْمِجَن على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِينَارا ". قلت: " هَذَا رَأْي من عبد الله بن عَمْرو فِي رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب، والمجان قَدِيما وحديثا تبلغ ثَمَانِي عشرَة وَمِائَة ودرهمين، فَإِذا قطع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ربع دِينَار قطع فِي أَكثر مِنْهُ، وَأَنت تزْعم أَن عَمْرو بن شُعَيْب لَيْسَ مِمَّن تقبل رِوَايَته وَتقول غلط، فَكيف ترد رِوَايَته مرّة، ثمَّ تحتج بِهِ على أهل الْحِفْظ والصدق؟ ".
قَالَ " فقد روينَا قَوْلنَا عَن عَليّ "، قلت: " رَوَاهُ الزعافري عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَقد أخبرنَا أَصْحَاب جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، وَحَدِيث جَعْفَر عَن عَليّ أولى من أَن يثبت من حَدِيث الزعافري، فَقَالَ: " فقد روينَا عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: " لَا تقطع الْيَد إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم "، قُلْنَا: " فقد رُوِيَ الثَّوْريّ عَن

(4/446)


عِيسَى بن أبي عزة عَن الشّعبِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطع سَارِقا فِي خَمْسَة دَرَاهِم "، وَهَذَا أقرب أَن يكون صَحِيحا عَن عبد الله فِي حَدِيث المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم عَن عبد الله "، قَالَ: " وَكَيف لم يَأْخُذ بِهَذَا؟ " قُلْنَا: " هَذَا حَدِيث لَا يُخَالف حديثنا، إِذا قطع فِي ثَلَاثَة دَرَاهِم، قطع فِي خَمْسَة "، قَالَ: " فقد روينَا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يقطع فِي ثَمَانِيَة "، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " رِوَايَته عَن عمر غير صَحِيحَة، وَقد روى معمر عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا "، فَلم نر أَن نحتج بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِت، وَلَيْسَ لأحد مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّة، وعَلى الْمُسلمين اتِّبَاع أمره، فَلَا إِلَى حَدِيث صَحِيح ذهب من خَالَفنَا، وَلَا إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ من ترك الحَدِيث، وَاسْتعْمل ظَاهر الْقُرْآن ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " أما حَدِيث عمر الَّذِي احْتج بِهِ مُحَمَّد إِنَّمَا رَوَاهُ الثَّوْريّ عَن عَطِيَّة الثَّقَفِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن عمر، وَهُوَ مُرْسل ".

(4/447)


وَقد روى قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب عَن عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يقطع الْخمس إِلَّا فِي خمس ".
وَأما حَدِيث عَليّ فقد ذكرنَا بِإِسْنَاد أَطَم مِمَّا ذكره الشَّافِعِي رَحمَه الله، وأوهى عَن مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن عَاصِم عَن إِسْمَاعِيل بن اليسع عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن النزال عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَا يقطع الْيَد إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم، وَلَا يكون الْمهْر أقل من عشرَة دَرَاهِم "، جُوَيْبِر، وَإِسْمَاعِيل، وَابْن مراون لَيْسُوا بأقوياء، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء.
وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَرَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن ابْن مَسْعُود، وَخَالفهُ المَسْعُودِيّ فَرَوَاهُ عَن الْقَاسِم عَن ابْن مَسْعُود ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " وَالْأَصْل فِي نِصَاب السّرقَة عندنَا ربع دِينَار، فَكل من قومه بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة دَرَاهِم يحْتَمل أَن يكون قومه بذلك حِين تغير صرف الدِّينَار، فَكَانَت قِيمَته ربع دِينَار أَكثر من ثَلَاثَة دَرَاهِم، وعَلى هَذَا يحمل مَا رُوِيَ إِن صَحَّ حَتَّى لَا يتناقض "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (299) :

وَلَا فرق بَين الطَّعَام الرطب واليابس فِي وجوب الْقطع إِذا أَواه الجرين، وَبلغ قِيمَته ربع دِينَار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله:

(4/448)


" لَا تقطع فِي الْأَشْيَاء الرّطبَة ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعن الله السَّارِق يسرق الْحَبل فتقطع يَده، وَيسْرق الْبَيْضَة فتقطع يَده ".
وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن عبد الله بن عَمْرو أَن رجلا من مزينة أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، كَيفَ ترى فِي التَّمْر الْمُعَلق؟ قَالَ: " هُوَ وَمثله مَعَه، والنكال، وَلَيْسَ فِي شَيْء من التَّمْر الْمُعَلق قطع إِلَّا مَا آواه الجرين، فَمَا أَخذ من الجرين، فَبلغ ثمن الْمِجَن، فَفِيهِ الْقطع، وَمَا لم يبلغ ثمن الْمِجَن فَفِيهِ غَرَامَة مثلَيْهِ، وجلدات نكال ".
وَرُوِيَ عَن إِسْحَاق بن سعيد عَن أَبِيه قَالَ: " سُئِلَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ عَن سَارِق الثِّمَار، قَالَ: الْقطع من الثِّمَار فِيمَا أحرز الجرين، وَالْقطع من الْمَاشِيَة فِيمَا آوى المراح ".
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن رَافع بن خديج عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا قطع فِي ثَمَر، وَلَا كثر ".

(4/449)


قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث بعض النَّاس، وَقَالَ: فَمن هَهُنَا لَا يقطع فِي التَّمْر الرطب ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " التَّمْر اسْم جَامع (للرطب من التَّمْر) الزَّبِيب وَغَيره، أفسقط الْقطع عَمَّن سرق تَمرا فِي بَيت؟ وَإِنَّمَا أجَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين قَالَ: " لَا قطع فِي تمر، وَلَا كثر "، على مثل مَا سُئِلَ عَنهُ، وَكَانَ حيطان الْمَدِينَة لَيْسَ عَلَيْهَا حيطان، وَلِأَنَّهُ يَقُول: " فَإِذا آواه الجرين والمراح فَفِيهِ الْقطع "، وَاحْتج بِحَدِيث عُثْمَان فِي الأترجة، وَقد مضى، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (300) :

وَلَو وهبت مِنْهُ السّرقَة لم يدرء عَنهُ بذلك الْحَد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " سقط الْقطع ".
فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن قُريْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْن المخزومية الَّتِي سرقت، فَقَالُوا: " من يكلم فِيهَا رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالُوا: " وَمن يجتري عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَة بن زيد حب رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَكَلمهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا أهلك الَّذين من قبلكُمْ، أَنهم كَانُوا إِذا سرق فيهم الشريف تَرَكُوهُ، وَإِذا سرق فيهم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ

(4/450)


الْحَد، وأيم الله لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا، ثمَّ أَمر بِتِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي سرقت، فَقطعت يَدهَا ".
قد كَانَ طَلَبهمْ من الْمَسْرُوق مِنْهُ، وإرضاه بعوض أيسر لَو كَانَ الْقطع يسْقط بِالْهبةِ إِن شَاءَ الله، فَلَمَّا لم يَفْعَلُوا، وتشفعوا دلّ على أَنه لَا يسْقط بعد رَفعه إِلَى الإِمَام.
وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أقيلوا ذَوي الهيئات عثراتهم إِلَّا الْحُدُود ".
وروى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن صَفْوَان بن عبد الله بن صَفْوَان أَن صَفْوَان بن أُميَّة رَضِي الله عَنهُ قيل لَهُ: " من لم يُهَاجر هلك، فَقدم الْمَدِينَة، فَنَامَ فِي الْمَسْجِد، وتوسد رِدَاءَهُ، فجَاء سَارِق، فَأخذ رِدَاءَهُ، فَأخذ صَفْوَان السَّارِق، فجَاء بِهِ إِلَى رَسُول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأمره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تقطع يَده، فَقَالَ صَفْوَان: إِنِّي لم أرد هَذَا، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَلا قبل أَن تَأتِينِي بِهِ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث سماك بن حَرْب عَن حميد ابْن أُخْت صَفْوَان عَن صَفْوَان قَالَ: " كنت نَائِما فِي الْمَسْجِد على خميصة لي (ثمن ثَلَاثِينَ درهما) ، فجَاء رجل، فاختلسها مني، فَأخذ الرجل،

(4/451)


فَأتى بِهِ النَّبِي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأمر بِهِ ليقطع، فَأَتَيْته، فَقلت: (أتقطعه من أجل ثَلَاثِينَ درهما) ، أَنا أبيعه، وأنسئه، ثمنهَا، قَالَ: فَهَلا كَانَ هَذَا قبل أَن تَأتِينِي بِهِ ".
وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تعافوا الْحُدُود فِيمَا بَيْنكُم، فَمَا بَلغنِي من حد، فقد وَجب "، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (301) :

وَيقطع النباش إِذا أخرج من الْكَفَن، وَبَلغت قِيمَته نِصَابا.

(4/452)


وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " لِأَنَّهُ حرز مثله ". وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يقطع ".
روى أَبُو دَاوُد عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا أَبَا ذَر، قلت: لبيْك يَا رَسُول الله وَسَعْديك، قَالَ: كَيفَ أَنْت إِذا أصَاب النَّاس موت يكون الْبَيْت فِيهِ بالوصيف، يَعْنِي الْقَبْر؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم، أَو مَا خار الله لي وَرَسُوله، قَالَ: عَلَيْك بِالصبرِ، أَو قَالَ: تصبر "، قَالَ أَبُو دَاوُد: " قَالَ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان يقطع النباش؛ لِأَنَّهُ دخل على الْمَيِّت بَيته " وَرُوِيَ عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَمن نبش قطعناه ".
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " سَارِق أمواتنا كسارق أحيائنا ".
وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل: " قَالَ هِشَام: " حَدثنَا سُهَيْل قَالَ: شهِدت الزبير قطع نباشا ".

(4/453)


وروى عَن الشّعبِيّ قَالَ: " النباش سَارِق ". وَعَن الْحسن، وَإِبْرَاهِيم مثله.
وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز: " لعمري بِحَسب سَارِق الْأَمْوَات أَن يُعَاقب بِمَا يُعَاقب بِهِ سَارِق الْأَحْيَاء ".
وَعَن ابْن الْمسيب فِي أَن النباش يقطع، وَالله أعلم.
مَسْأَلَة (302) :

(4/454)


(صفحة فارغة)

(4/455)


وَإِذا سرق قطعت يَده، وَإِذا سرق الثَّانِيَة قطعت رجله الْيُسْرَى، فَإِذا سرق الثَّالِثَة قطعت يَده الْيُسْرَى، فَإِذا سرق الرَّابِعَة قطعت رجله الْيُمْنَى. وَقَالَ ابو حنيفَة رَحمَه الله: " لَا يقطع فِي الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة، بل يُعَزّر ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " اخبرني الثِّقَة من أَصْحَابنَا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن عَن

(4/456)


أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي السَّارِق: غن سرق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله ".
وَفِي رِوَايَة حَرْمَلَة، والمزني عَنهُ قَالَ: " أَخْبرنِي عبد الله بن نَافِع عَن مُحَمَّد بن أبي حميد عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله ".
وروى أَبُو دَاوُد فِي حَدِيث ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ جِيءَ بسارق إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " اقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا سرق، فَقَالَ: اقطعوه، فَقطع، وَذكر مثل ذَلِك إِلَى الرَّابِعَة، فَأتي بِهِ الْخَامِسَة، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فقتلناه ". وَالْقَتْل مَنْسُوخ، كَهُوَ فِي حد الشّرْب، وَالْقطع ثَابت.
وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة، قَالَ: " أُتِي بالسارق، وَقَالُوا: يَا رَسُول الله، هَذَا غُلَام لأيتام، وَالله مَا نعلم لَهُم مَالا غَيره، فَتَركه، وَذكر تَركه إِلَى الرَّابِعَة، ثمَّ أُتِي بِهِ

(4/457)


الْخَامِسَة، فَقطع يَده، ثمَّ اتي بِهِ السَّادِسَة، فَقطع رجله، ثمَّ أُتِي بِهِ السَّابِعَة، فَقطع يَده، ثمَّ اتي بِهِ الثَّامِنَة، فَقطع رجله "، وَهُوَ مُرْسل حسن، بِإِسْنَاد صَحِيح، أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم ير بُلُوغه فِي المرات الْأَرْبَع، أَو لم ير سَرقته بلغت مَا يُوجب الْقطع، ثمَّ رأى ذَلِك فِي المرات الْأُخَر، فَقطع، وَهَذَا مُرْسل يُقَوي الْمُرْسل قبله، وَيُقَوِّي قَول من وَافقه من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم.
وَرُوِيَ عَن معَاذ بن عبد الله الْجُهَنِيّ رَضِي الله عَنهُ صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من سرق فَاقْطَعُوا يَده ". الحَدِيث، بِنَحْوِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن مَالك عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه أَن رجلا من أهل الْيمن أقطع الْيَد وَالرجل قدم على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَشَكا إِلَيْهِ أَن عَامل الْيمن ظلمه، وَكَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل، فَيَقُول أَبُو بكر: " وَأَبِيك مَا ليلك، ليل سَارِق، ثمَّ إِنَّهُم افتقدوا حليا

(4/458)


لأسماء بنت عُمَيْس امْرَأَة أبي بكر، فَجعل الرجل يطوف مَعَهم، وَيَقُول: اللَّهُمَّ عَلَيْك بِمن بَيت أهل هَذَا الْبَيْت الصَّالح، فوجدوا الْحلِيّ عِنْد صائغ، وَأَن الأقطع جَاءَ بِهِ، واعترف الأقطع، أَو شهد عَلَيْهِ، فَأمر بِهِ أَبُو بكر فَقطعت يَده الْيُسْرَى، وَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لدعاؤه على نَفسه أَشد عَليّ من سَرقته ".
وَعَن الْقَاسِم أَن أَبَا بكر أَرَادَ أَن يقطع رجلا بعد الْيَد وَالرجل، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ " السّنة الْيَد "، يشبه أَن يكون أَرَادَ سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَعَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد أَن رجلا سرق مَقْطُوعَة يَده وَرجله، فَأَرَادَ أَبُو بكر أَن يقطع رجله، ويدع يَده، ينْتَفع بهَا، فَقَالَ عمر: " لَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، فَأمر بِهِ أَبُو بكر، فَقطعت يَده ".
وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا شهِدت عمر قطع يدا بعد يَد وَرجل.
استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن عَائِذ قَالَ: " أُتِي بِرَجُل

(4/459)


أقطع الْيَد وَالرجل، قد سرق فَأمر بِهِ عمر أَن يقطع رجله، فَقَالَ عَليّ: إِنَّمَا قَالَ الله عز وَجل: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} الْآيَة، فقد قطعت يَد هَذَا وَرجله، فَلَا يَنْبَغِي أَن يقطع رجله، فتدعه لَيْسَ لَهُ قَائِمَة يمشي عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَن تعزره، وَإِمَّا أَن تستودعه السجْن، قَالَ: فاستودعه السجْن ".
قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: " الرِّوَايَة الأولى عَن عمر أولى أَن تكون صَحِيحَة، وَكَيف يَصح هَذَا؟ وَقد أنكر فِي الرِّوَايَة الأولى قطع الرجل بعد الْيَد وَالرجل، وَأَشَارَ بِالْيَدِ. وَرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ مَوْصُولَة تشهد، وَكَذَلِكَ رِوَايَة صَفِيَّة.
وَأما مَا رَوَاهُ فِي ذَلِك عَن عبد الله بن سَلمَة عَن عَليّ فِي غير هَذِه الرِّوَايَة من تَضْمِينه السجْن فِي الثَّالِثَة فقد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " قد رويتم فِي الْقطع أَشْيَاء مستنكرة تَرَكْتُمُوهَا عَلَيْهِ: مِنْهَا أَنه قطع بطُون أنامل صبي وَمِنْهَا أَنه قطع الْقدَم من نصف الْقدَم، وَكلما رويتم عَن عَليّ فِي الْقطع غير ثَابت عندنَا عَنهُ "، وَبسط الْكَلَام فِيهِ، قَالَ: " وَقد روينَا مَا قُلْنَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر فِي دَار الْهِجْرَة، وَعمر يرَاهُ وَيُشِير بِهِ ".
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قطع أَيْضا، وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى، فَإِن عبد الله بن سَلمَة غير مُحْتَج بِهِ، وَالله أعلم.

(4/460)


أما مسالة اجْتِمَاع الْقطع مَعَ الْغرم فقد مَضَت فِي كتاب الْغَصْب (وَالله أعلم) .
مَسْأَلَة (303) :

وَآيَة الْمُحَاربين نزلت فِي الْمُسلمين، وترتيبه على مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِلَّا فِي موضِعين:
أَحدهمَا: أَنه قَالَ: " يقتل الردء "، وَعِنْدنَا لَا يقتل.
وَالْآخر: أَنه إِن جمع بَين أَخذ المَال وَالْقَتْل، قَالَ: " الإِمَام بِالْخِيَارِ بَين الْقطع وَالْقَتْل، أَو الصلب وَالْقَتْل "، وَعِنْدنَا قتلوا وصلبوا.
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " قَالَ

(4/461)


رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يحل دم رجل يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَنِّي رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثَة نفر: النَّفس بِالنَّفسِ، وَالثَّيِّب الزَّانِي، والتارك لدينِهِ، المفارق للْجَمَاعَة ". والردء لم يقتل، وَلم يزن، وَلم يكفر.

(4/462)


وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله عَن إِبْرَاهِيم عَن صَالح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قطاع الطَّرِيق: " إِذا قتلوا وَأخذُوا المَال قتلوا وصلبوا، وَإِذا قتلوا وَلم يَأْخُذُوا المَال قتلوا وَلم يصلبوا، وَإِذا أخذُوا المَال وَلم يقتلُوا قطعت أَيْديهم وأرجلهم من خلاف، وَإِذا أخافوا السَّبِيل، وَلم يَأْخُذُوا مَالا نفوا من الأَرْض ".
قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: " وَبِهَذَا نقُول، وَهُوَ مُوَافق معنى كتاب الله عز وَجل، وَذَلِكَ أَن الْحُدُود إِنَّمَا نزلت فِيمَن أسلم، فَأَما أهل الشّرك فَلَا حُدُود عَلَيْهِم إِلَّا الْقَتْل، أَو السَّبي، أَو الْجِزْيَة، وَاخْتِلَاف حدودهم باخْتلَاف أَحْوَالهم على مَا قَالَ ابْن عَبَّاس إِن شَاءَ الله، فَمن تَابَ قبل أَن يقدر عَلَيْهِ سقط حد الله، وَأخذ بِحُقُوق بني آدم، وَلَا يقطع من قطاع الطَّرِيق إِلَّا من أَخذ قيمَة ربع دِينَار فَصَاعِدا، قباسا على السّنة فِي السَّارِق ".
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن عبد الرَّزَّاق، وَإِبْرَاهِيم عَن دَاوُد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَّا انه لم يذكر الصلب مَعَ الْقَتْل، وَلَا إخافة السَّبِيل، وَقَالَ فِي أَخّرهُ: " فَإِن هرب، وأعجزهم فَذَلِك نَفْيه ".
وَرُوِيَ عَن عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " إِن أَخذ وَقد أصَاب المَال، وَلم يصب الدَّم قطعت يَده وَرجله من خلاف، وَإِن وجد، وَقد أصَاب الدَّم قتل وصلب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تمّ بِحَمْد الله

(4/463)