موسوعة الفقه الإسلامي

الباب التاسع
كتاب القواعد الشرعية
ويشتمل على ما يلي:
1 - أصول الفقه الإسلامي: ويشمل:
1 - فقه الأحكام الشرعية.
2 - فقه الأدلة الشرعية.
3 - فقه العزيمة والرخصة.
4 - فقه الإفتاء.

2 - القواعد الشرعية: وهي قسمان:
1 - القواعد الكبرى: وهي:
1 - الأمور بمقاصدها.
2 - اليقين لا يزول بالشك.
3 - لا ضرر ولا ضرار.
4 - المشقة تجلب التيسير.
5 - العادة محكّمة.
6 - الوسائل لها أحكام المقاصد.
7 - الله لا يأمر إلا بما فيه مصلحة، ولا ينهى إلا عن ما فيه مفسدة.
8 - الوجوب يتعلق بالاستطاعة.
9 - الأصل في الأشياء الإباحة.
10 - الإخلاص والمتابعة لازمان في كل عمل.
11 - العدل واجب، والفضل مسنون.
12 - إذا تزاحمت المصالح قدم الأعلى على الأدنى.

2 - القواعد الفرعية، وتشمل:
1 - قواعد العبادات.
2 - قواعد المعاملات.

(2/261)


1 - أصول الفقه الإسلامي
- الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية.
- أقسام الفقه:
الفقه في الدين ينقسم إلى قسمين:
الأول: فقه القلوب:
وهو العلم بالأحكام الشرعية العلمية بأدلتها التفصيلية كالعلم بالله، وأسمائه وصفاته، وأفعاله.
والعلم بأركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
والعلم بما يجب لله عز وجل من التوحيد والإيمان والعبادة والإخلاص واليقين، والخوف والرجاء، والتعظيم والمحبة، والإنابة والتوكل، ونحو ذلك مما يجب لله.
الثاني: فقه الجوارح:
وهو العلم بالأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية كالعلم بالأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين كالصلاة والزكاة، والصوم والحج، والأذكار والأدعية، والحدود والبيوع ونحو ذلك من العبادات والمعاملات.
والأول هو الأصل، والثاني تابع له، وكلاهما مطلوب، وأسعد الناس من رُزق هذا وهذا.

(2/263)


- منزلة الفقه في الدين:
الفقه في الدين من أفضل الأعمال، وأرفع المنازل، وأكمل المراتب؛ لأنه الموصل لسعادة الدنيا والآخرة.
1 - عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». متفق عليه (1).
2 - وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ». أخرجه البخاري (2).
- مصادر الفقه الإسلامي:
القرآن .. والسنة .. والإجماع .. والقياس.
فالإجماع: هو اتفاق علماء الأمة على حكم شرعي مبني على الكتاب والسنة.
والقياس: هو إلحاق فرع بأصل لعلة تجمع بينهما.
مثاله: تحريم المخدرات قياساً على تحريم الخمر لعلة الإسكار.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3116) , واللفظ له، ومسلم برقم (1037).
(2) أخرجه البخاري برقم (5027).

(2/264)


1 - فقه الأحكام الشرعية
- الحكم الشرعي: هو ما دل عليه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب فعل، أو ترك، أو تخيير، أو وضع.
- أقسام الأحكام الشرعية:
تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين:
أحكام تكليفية .. وأحكام وضعية.
الأول: الحكم التكليفي: وهو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين باللزوم أو التخيير.
- أقسام الحكم التكليفي:
ينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام هي:
الواجب .. والمستحب .. والمحرم .. والمكروه .. والمباح.
1 - الواجب: هو ما يثاب فاعله امتثالاً، ويستحق العقاب تاركه.
مثاله: الصلوات الخمس يثاب فاعلها، ويستحق العقاب تاركها.
- أقسام الواجب:
الواجب له ثلاثة أحوال:
الأول: واجب باعتبار الوقت، وهو قسمان:
1 - واجب موسع: وهو ما كان وقته متسعاً له ولغيره.
مثاله: أوقات الصلوات الخمس، فوقت الظهر أو العشاء يتسع لأداء الفرض،

(2/265)


ويبقى وقت طويل يمكن أن يصلى فيه صلوات ونوافل.
2 - واجب مضيق: وهو ما كان وقته لا يتسع لغيره من جنسه.
مثاله: صوم رمضان لا يتسع لغيره من الصيام، والحج لا يتسع لغيره من النسك ونحو ذلك.
الثاني: واجب باعتبار المكلف به، وهو قسمان:
1 - واجب معين: وهو ما طلب الله من المسلم فعله بعينه.
مثاله: الصلاة والصوم والحج ونحوها.
فهذه يجب على كل مسلم فعلها بعينها، ولا يجوز له أن يأتي ببدل عنها.
2 - واجب مخير: وهو ما طلب الله من المسلم فعله، وخيَّره في أنواعه.
مثاله: كفارة اليمين، فقد أوجب الله على من حنث في يمينه أن يكفر بخصلة من ثلاث وتبرأ ذمته، وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
الثالث: واجب باعتبار المكلف، وهو قسمان:
1 - واجب عيني: وهو ما طلب الله فعله من كل واحد من المكلفين بعينه.
مثاله: الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحوها.
فهذه يجب على كل مسلم بعينه أن يأتي بها.
2 - واجب كفائي: وهو ما طلب الله فعله من المسلمين عامة.
فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فإن لم يقم به أحد أثموا جميعاً.
مثاله: الأذان، والإفتاء، والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك.
2 - المستحب: وهو ما يثاب فاعله امتثالاً، ولا يعاقب تاركه.

(2/266)


مثاله: جميع أنواع التطوع من صلاة، وصيام، وصدقات، وأذكار ونحوها، ويسمى المندوب والمسنون والتطوع، وهو أنواع كثيرة:
منها ما هو مطلق .. ومنها ما هو مقيد .. ومنها ما هو مؤكد .. ومنها ما ليس بمؤكد .. ومنها ما له سبب .. ومنها ما ليس له سبب.
3 - المحرم: وهو ما يثاب تاركه، ويستحق العقاب فاعله.
مثاله: جميع الكبائر والمحرمات كالكفر والشرك، والزنا والربا، والظلم والبغي ونحو ذلك.
والمحرمات أنواع كثيرة بعضها أغلظ من بعض.
منها ما يتعلق بما بين العبد وربه .. ومنها ما يتعلق بما بين العبد ونفسه .. ومنها ما يتعلق بما بين العبد وغيره من الخلق.
4 - المكروه: وهو ما يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله.
مثاله: الطلاق لأدنى سبب.
5 - المباح: وهو ما خيَّر الله المسلم بين فعله وتركه.
مثاله: الأكل من أنواع الطيبات .. وصيد البر والبحر .. وأكل طعام أهل الكتاب .. ونكاح نسائهم.
وقد ينوي بفعل المباح الاستعانة به على طاعة الله فيؤجر.
وقد يتوصل بالمباح إلى الخير فيُلحق بالمأمورات.
وقد يتوصل بالمباح إلى الشر فيُلحق بالمنهيات.
الثاني: الحكم الوضعي: وهو خطاب الله القاضي بجعل الشيء سبباً لشيء، أو شرطاً له، أو مانعاً منه.

(2/267)


فالله عز وجل وضع أشياء، ونصبها أدلة على إثبات الأحكام أو نفيها.
فكل حكم يثبت بوجود سببه، وتوفر شرطه، وانتفاء مانعه، وينتفي بانتفاء سببه، أو تخلف شرطه، أو وجود مانعه.
- أصل الحكم الوضعي:
الحكم الوضعي موضوع من قِبَل الله عز وجل.
فهو سبحانه الذي جعل الوضوء شرطاً لصحة الصلاة، وجعل السرقة سبباً لقطع اليد، وجعل قتل الوارث لمورثه مانعاً من الإرث .. ونحو ذلك.
- أقسام الحكم الوضعي:
ينقسم الحكم الوضعي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: السبب: وهو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم.
مثاله: الوقت جعله الله سبباً لفعل الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب أداء الصلاة، وإذا لم يدخل الوقت لم تصح الصلاة، وشهود رمضان جعله الله سبباً للصيام وهكذا.
الثاني: الشرط: وهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود.
مثاله: الطهارة للصلاة جعلها الله شرطاً لصحة الصلاة، فإذا عدمت الطهارة لم تصح الصلاة، وإذا وجدت الطهارة لا يلزم من وجودها الصلاة.
الثالث: المانع: وهو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود.
مثاله: أن يقتل رجل ابنه عمداً، فإنه لا يُقتص منه؛ لأن المانع موجود وهو الأبوة التي جعلها الله مانعة من القصاص.
فسبب القصاص موجود، لكن منع منه مانع وهو الأبوة.

(2/268)


2 - فقه الأدلة الشرعية
- التكليف: هو خطاب الله للمكلف بأمر أو نهي.
فإن كان الخطاب جازماً فهو الواجب .. وإن كان غير جازم فهو المستحب .. وإن كان النهي جازماً فهو المحرم .. وإن كان غير جازم فهو المكروه.
- شروط المكلف:
البلوغ .. والعقل.
فالصغير قاصر عن معرفة الأحكام .. والمجنون مسلوب الإرادة، فكلاهما غير مكلف.
- أقسام أدلة الشرع:
الأدلة الشرعية التي تثبت بها الأحكام أربعة:
القرآن .. والسنة .. والإجماع .. والقياس.
1 - القرآن الكريم: كلام الله عز وجل، وقد تعبدنا الله بتلاوته، كما تعبدنا بتحكيمه في جميع الأمور على مستوى الأفراد والجماعات والدول.
فيجب على كل إنسان الإيمان به، والعمل بما فيه.
2 - السنة: هي كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة.
والسنة هي الدليل الثاني بعد القرآن الكريم.
فيجب الإيمان بمن جاء بها، واتباع ما جاء فيها، والعمل بما نُقل منها إلينا بطريق صحيح.
1 - قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ

(2/269)


لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء:65].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر:7].
- أحوال السنة مع القرآن:
للسنة النبوية مع القرآن الكريم ثلاث حالات:
الأولى: أن تكون السنة مؤكدة لحكم جاء في القرآن، فيكون هذا من توارد الأدلة على أمر واحد اهتماماً به.
مثاله: ما ورد في القرآن والسنة من الأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج، والجهاد، وصلة الأرحام، وحرمة الأنفس والأموال والأعراض ونحو ذلك.
الثانية: أن تكون السنة مبينة ومفصلة لما أُجمل في القرآن.
مثاله: أن الله عز وجل أمر في القرآن بالصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم جاءت السنة بتفصيل صفة الصلاة، ومقادير الزكاة، وصفة الصيام، وصفة الحج.
الثالثة: أن تكون السنة مبينة لحكم سكت عنه القرآن.
مثاله: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ونحو ذلك مما لم يرد في القرآن وورد في السنة.
3 - الإجماع: هو اتفاق علماء الأمة على حكم شرعي مستند إلى القرآن والسنة.
مثاله: إجماع علماء الأمة على فرضية الصلوات الخمس، وصوم رمضان
ونحو ذلك.

(2/270)


والإجماع حجة شرعية، يجب الأخذ بها، وتحرم مخالفتها.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء:115].
4 - القياس: هو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما.
فيلحق حكم واقعة لا نص فيها بواقعة ثبت حكمها بنص أو إجماع إذا اشتركا في العلة.
مثاله: قياس الإجارة ونحوها من العقود على البيع بالنهي عنها بعد نداء الجمعة الثاني، وذلك لاشتراك المقيس والمقيس عليه في العلة التي هي الانشغال عن خطبة وصلاة الجمعة.
وكذلك لو أوصى إنسان لآخر بثلث ماله بعد وفاته، ثم قتل الموصى له الموصي من أجل الحصول على المال، فيُحرم من المال قياساً على قتل الوارث مورِّثه، وذلك للعلة الجامعة بينهما، وهي استعجال الشيء قبل أوانه، فيعاقب بحرمانه.
فالقياس حجة شرعية يجب الأخذ بها ليتم إلحاق كل فرع جديد بأصله المنصوص عليه شرعاً.
والقياس هو العدل، وما يعرف به العدل وهو الميزان، الذي هو الجمع بين المسائل المتماثلة بحكم واحد، والتفريق بين المسائل المختلفة بأحكام مختلفة مناسبة لكل واحدة منها.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ (17)} [الشورى:17].

(2/271)


- أقسام الأحكام الشرعية:
تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين:
1 - ما لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، سواء اختلف الزمان، أو المكان، أو الاجتهاد كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة في الشرع، وأنصبة الورثة في الميراث ونحو ذلك.
2 - ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له نوعاً ومقداراً حسب الزمان والمكان كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها.
فالشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة.
- فقه أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله:
إذا حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمر أو نهى عنه، ثم فعل خلافه، فهو لبيان الجواز، لكنه يواظب على الأفضل منه.
ومثاله: حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوضوء ثلاثاً، وتوضأ مرة ومرتين.
وزجر عن الشرب قائماً، وشرب قائماً.
وطاف بالبيت ماشياً وراكباً.
ومشى حافياً ومنتعلاً.
فهذا وأمثاله كله لبيان الجواز.
لكنه - صلى الله عليه وسلم - واظب على الأفضل منه وهو الوضوء ثلاثاً .. والشرب جالساً .. والطواف ماشياً، والمشي منتعلاً.
والقول مقدم على الفعل؛ لأن الفعل مظنة الخصوصية، أما القول فهو قطعي
بالعموم.

(2/272)


3 - فقه العزيمة والرخصة
- العزيمة: هي الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض.
مثل وجوب الصلوات الخمس تامة في أوقاتها في الحضر.
ووجوب صوم رمضان في الحضر، وجواز البيع والإجارة، وتحريم الربا والزنا والغش ونحو ذلك.
- حكم العمل بالعزيمة:
العمل بالعزيمة واجب في جميع الأعمال والأحكام؛ لأنها الأصل، ولا يجوز تركها إلا إذا وُجِد معارض أقوى فيُعمل به، وهو ما يسمى بالرخصة.
- الرخصة: هي كل ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح.
والعزيمة والرخصة كل منهما ثابت بدليل شرعي، لكن العزيمة هي الأصل، والرخصة استثناء من الأصل لأعذار تبيح ذلك.
- أسباب الرخصة:
الرخصة في الشرع لها سبعة أسباب:
الأول: السفر: ومن رُخَصه:
قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والجمع بين الصلاتين، وجواز صلاة النافلة راكباً ولو لغير القبلة، والفطر في رمضان، والمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها.
الثاني: المرض: ومن رُخَصه:
جواز التيمم عند التضرر باستعمال الماء، والجمع بين الصلاتين، وصلاة

(2/273)


المريض حسب قدرته قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فإن لم يستطع أومأ برأسه.
الثالث: النسيان: ومن رُخَصه:
صحة صوم من أكل أو شرب ناسياً في النهار، وسقوط الإثم والفدية عمن فعل شيئاً من محظورات الإحرام ناسياً ونحو ذلك.
الرابع: الجهل: ومن رُخَصه:
جهل الكافر إذا أسلم ثم زنى، أو شرب الخمر جاهلاً بالحكم، فهذا يُدرأ عنه الحد؛ لجهله بالحكم.
الخامس: الإكراه: ومن رُخَصه:
العفو عمن تلفظ بكلمة الكفر مكرهاً مع اطمئنان القلب بالإيمان، وعدم وقوع الطلاق ممن أُكره عليه بغير حق.
السادس: المشقة والحرج: ومن رخصها:
جواز الصلاة مع وجود النجاسة اليسيرة المعفو عنها، وجواز مس المصحف للصغير والمحدث والحائض ونحو ذلك.
السابع: النقص: ومن رُخَصه:
عدم تكليف النساء ببعض ما يجب على الرجال كالجمعة والجماعة، وتحمّل الدية، والقتال في سبيل الله ونحو ذلك.
- أقسام الرخصة:
تنقسم الرخصة إلى ثلاثة أقسام:
1 - رخصة مندوبة: كالجمع بين الصلاتين إذا جدَّبه السفر، وفطر المريض

(2/274)


والمسافر في نهار رمضان ونحو ذلك.
2 - رخصة واجبة: كالتيمم للمريض العاجز، وصلاة المريض حسب قدرته، والأكل من الميتة للمضطر ونحو ذلك.
3 - رخصة مباحة: كإباحة الإجارة والسَّلَم سداً لحاجة الناس، ودفعاً للحرج عنهم.
- حكم الرخصة:
الرخصة نوعان:
1 - رخصة محمودة يحبها الله.
وهي الرخصة المستقرة التي نص عليها الشرع رحمة بالعباد، وتوسعة عليهم كأكل الميتة والدم ونحوهما للمضطر، وفطر المريض والمسافر في رمضان والجمع بين الصلاتين عند الحاجة، وصلاة المريض بحسب حاله، وكفطر الحامل والمرضع خوفاً على الولد، ونكاح الأَمة خوفاً من العَنَت ونحو ذلك.
2 - رخصة مذمومة شرعاً.
وهي رخص التأويلات واختلاف المذاهب التي مَنْ تتبعها تزندق كرخص الحيل في المعاملات، وإباحة المحرمات بتأويلات فاسدة، ونحو ذلك من الرخص الشاذة.
فهذه تتبعها حرام، يَرْجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص الشاذة، والتأويلات الفاسدة، وغشيان المحرمات، واقتراف الكبائر، وسخط الرب سبحانه.

(2/275)


- أحكام الرخص:
الرخصة في الشرع نوعان:
أحدهما: الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع بنص شرعي صحيح.
وهذه الرخصة أنواع:
منها ما هو واجب كأكل الميتة، ولحم الخنزير، والدم، وشرب الخمر عند الضرورة.
ومنها ما هو راجح المصلحة كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره.
ومنها ما مصلحته للمترخص وحده كصلاة المريض قاعداً.
ومنها ما مصلحته للمترخص وغيره كفطر الحامل والمرضع في رمضان ونحو ذلك.
فهذه كلها رخص شرعية يحبها الله؛ لما فيها من الرفق والتيسير على العباد، ففعلها أرجح وأفضل من تركها.
الثاني: رخص التأويلات والحيل:
مثل رخص أصحاب الحيل في المعاملات، وقول من أباح الغناء وآلات اللهو، وقول من جوز للصائم أكل البَرَد، وقول من جوز نكاح النساء في أدبارهن ونحو ذلك.
فهذه الحيل والتأويلات كلها باطلة ومحرمة؛ لما فيها من غشيان الكبائر، والقول على الله بلا علم، ولما فيها من تحليل ما حرم الله ورسوله.
قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل:116 - 117].

(2/276)


4 - فقه الإفتاء
- الإفتاء: هو الإخبار عن حكم الله في نازلة بالدليل لمن سأل عنه.
- المفتي: هو العالم المبيِّن للأحكام الشرعية من غير إلزام بها.
- المستفتي: هو السائل عن حكم شرعي.
- منزلة المفتي:
الإفتاء منصب عظيم، وشرف كبير لمن قام به بحقه.
وأول من قام بهذا العمل العظيم، والمنصب الشريف، هو سيد الأنبياء والمرسلين، الذي كان يفتي عن الله بوحيه المبين.
- مسؤلية المفتي:
المفتي إناء للعلم الشرعي، وهو أمانة وكله الله بحفظها ونشرها.
فالمفتي موقِّع عن رب العالمين، وقائم في الأمة مقام سيد المرسلين، ونائب عنه في تبليغ الدين، وبيان الأحكام.
فجدير بمن اختاره الله وعلَّمه وأقامه في هذا المنصب أن يستعين بالله، ويُعدّ للأمر عدته، ويأخذ له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه.
فينصح للأمة بكل ما يعلمه من خير، ويحذرها من كل ما يعلمه من شر، ولا يكن في صدره حرج من قول الحق، والصدع به، مع لزوم الحكمة في الأمور، والله العزيز العليم ناصره وهاديه.
- حكم الإفتاء:
الفتوى فيها أجر عظيم، لكن لها خطر عظيم.

(2/277)


وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتدافعون الفتوى ما استطاعوا، إلا عند الحاجة والضرورة.
والفتوى لها خمسة أحكام:
الأول: تجب الفتوى بأمور:
إذا كان المفتي أهلاً للإفتاء .. والحاجة إليها قائمة .. والنازلة مما يسوغ الاجتهاد فيه .. ودخل وقت العمل .. ولا يوجد في البلد أو المكان مفت سواه، فهذا تجب عليه الفتوى.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة:159 - 160].
2 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ الله بلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
الثاني: تستحب الفتوى إذا كان المفتي أهلاً، وفي البلد غيره، والحاجة غير قائمة، وفي الوقت متسع.
الثالث: تحرم الفتوى إذا كان المسؤول غير عالم بالحكم، أو أريد بها عَرَض من أعراض الدنيا، أو اتباع هوى، أو تزلُّف لحاكم بإبطال حق، أو تسويغ باطل.
1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ
__________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (3658) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (2649).
عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل:116 - 117].

(2/278)


2 - وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف:33].
3 - وقال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام:144].
الرابع: تكره الفتوى إذا كانت المسألة لم تقع، أو كانت من الأغلوطات.
الخامس: تجوز الفتوى إذا كان المفتي أهلاً للفتوى، والمسألة مما يمكن وقوعها، وكانت الوقت متسعاً.
- حكم الفتوى:
فتوى المفتي لا تبيح المحرم شرعاً، ولا تحرم المباح شرعاً.
فمن حكم له المفتي أو القاضي بحق غيره، لم يجز له أخذه وهو يعلم عدم استحقاقه له.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أخِيهِ شَيْئاً فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ». متفق عليه (1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7169) , واللفظ له، ومسلم برقم (1713).

(2/279)