شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الطهارة - باب
المياه [1]
الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه أو لونه بنجاسة تحدث فيه،
وهذا من أحكام المياه التي بينها الفقهاء بأدلتها من الكتاب والسنة، وهي
أحكام تدل على كمال الشريعة، وشمولها، وحكمتها.
شرح حديث: (هو
الطهور ماؤه الحل ميتته)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور
ماؤه الحل ميتته) أخرجه الأربعة وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة
والترمذي، ورواه مالك والشافعي وأحمد] .
قال المؤلف: أخرجه الأربعة، والأربعة هم من عدا أحمد والبخاري ومسلماً،
وهم: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
قال: وابن أبي شيبة.
ابن أبي شيبة ليس من السبعة، لكنه قد يذكر من غير السبعة، فـ ابن أبي شيبة
أخرجه في مصنفه.
وقوله: واللفظ لـ ابن أبي شيبة، كأنه رآه أجمع من غيره، مع أن رواية الموطأ
واسعة ووافية في هذا.
وقوله: وصححه ابن خزيمة، ليس هو من السبعة، ولكن حتى لا يقول أحد: اصطلح
على ذكر السبعة والآن ذكر لنا تسعة! لكن اختصاراً للأسماء اصطلح على
السبعة، وإذا لزم الأمر أن يذكر غيرهم سماه، فسمى هنا ابن أبي شيبة، وقال:
صححه ابن خزيمة، مع أنه لم يروه من السبعة غير المذكورين، وكذا صححه
الترمذي.
ورواه مالك، ومالك لم يذكر في السبعة، ولكنه وجده في الموطأ فأراد أن يدعّم
الحديث بمن صححه من علماء الحديث، وذكر من رواه سوى الأربعة، ويكفي أنه
موجود في موطأ مالك.
ورواه كذلك الشافعي، وهل له كتاب في الحديث وهو المسند، وكذلك أبو حنيفة
رحمه الله له مسند، ولكنها مسانيد مختصرة صغيرة.
ورواه أحمد، وقد ذكره لأن الأربعة هم من عدا الثلاثة، فأخرج أحمد من السبعة
ثم ذكره.
إذاً: عرفنا تخريج الحديث من اصطلاح المؤلف في الأربعة، وكذا من ذكرهم
بأسمائهم وأعيانهم.
وهذا الحديث يقول عنه الشافعي رحمه الله: هو أصل أصيل في كتاب الطهارة.
حكم ميتة البرمائيات
الحيوان الذي يعيش في الماء، وتارة في البر، ما حكم ميتته؟ فيه ثلاثة
أقوال: قيل: يعتبر بحرياً، وقيل: يعتبر برياً، وقيل: العبرة بمكان موته،
فإن وجدناه في البحر فهو ميتة بحر، وإن وجدناه في البر فهو ميتة بر.
الحكمة من التفريق
بين ميتة البحر والبر
جاء في الحديث الآخر: (أحلت لنا مييتان: السمك والجراد) ، يقول بعض
العلماء: لماذا كانت ميتة السمك حلال، ولا تحتاج إلى تذكية؛ بينما الشاة
والغزال والأرنب تحتاج إلى تذكية؟ ليعلم أن جميع الحيوانات تعيش على
الأكسجين الذي في الهواء، وتخرج ثاني أكسيد الكربون عند التنفس، فإذا ما
خنقت أو ماتت حتف أنفها واحتبس الدم فيها؛ فنصف الدم مسمم بثاني أكسيد
الكربون، والتذكية تخلص اللحم من هذا السم الذي في الدم، أما السمك فيتنفس
الأكسجين من الماء، وليس هناك ثاني أكسيد الكربون، ولهذا إذا أخذت السمكة
وهي حية وقطعت فسينزل منها دم أحمر، وإذا جف دم السمك صار أبيض، وأما دم
الحيوان البري فإنه إذا جف صار أسود، فالسواد في دم حيوان البر هو بسبب ما
فيه من ثاني أكسيد الكربون، وهو سام، والبياض الموجود في دم السمك لخلوه من
هذا، ولهذا لو مات السمك ولم يخرج دمه، فدمه لا مضرة فيه على الإنسان،
اللهم إلا ما طفا على وجه الماء فيرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أنه لا
يؤكل، حفاظاً على الإنسان، حتى لا تلحقه المضرة من هذا الذي طفا على الماء،
والله تعالى أعلم.
حكم ميتة البحر
ولما رأى صلى الله عليه وسلم التباس الأمر عليهم في طهورية ماء البحر، أدرك
أنه من باب أولى سيلتبس الأمر عليهم في ميتة البحر، وهم المخالطون للبحر
ولميتته ولمائه، فأضاف إلى الجواب ما يرفع اللبس الذي أدركه في حقهم، فأضاف
قوله: (الحل ميتته) يقول بعض العلماء: كل ميتة البحر حلال، والبعض يقول: ما
عدا السمك الطافي، كما هو مذهب الأحناف، ولهم أدلة على ذلك، فمذهبهم
المشهور عنهم عدم جواز أكل السمك الطافي على وجه الماء، وليس هذا لمعارضة
الحديث، ولا لعدم العمل به؛ ولكن لأن السمك إذا مات، وأُخذ في أول موته؛ لم
يكن فيه مضرة؛ لأن جسمه لم يتغير ولم يتعفن، ولكن إذا طال الوقت تعفن،
ودخلت فيه البكتيرياء، ودخله الهواء، وصار جسمه خفيفاً فيطفو على وجه
الماء، فإذا أكله الإنسان كان مضنة المضرة لمكثه مدة بعد موته، فقالوا:
يكره أكل السمك الطافي على وجه الماء، وخالف الجمهور الأحناف في استثنائهم
السمك الطافي، وهذا فيما يظهر ليس متفقاً عليه عندهم؛ لأنه جاء في كتاب
(فتح القدير) أنهم لا يحلون للمحرم من صيد البحر إلا السمك، ولكن الله أباح
للمحرم كل صيد البحر، واستدل الجمهور على ذلك بحديث العنبر، في قصة سرية
أبي عبيدة بن الجراح، حينما نفد زادهم، وكان جراباً من تمر، حتى كانوا
يتقوتون على تمرة تمرة، وهم ستمائة رجل! قال الراوي: فرأينا كثيباً عظيماً
على الساحل، فلما دنونا منه إذا به حوت عظيم يقال له: العنبر، فمكثنا عليه
شهراً وأخذوا يأكلون من لحمه، ويصيبون من ودكه، قال الراوي: ولقد رأيت
ثلاثة عشر رجلاً يجلسون في عينه! ولقد أخذنا ضلعين من أضلاعه ونصبناهما، ثم
نظرنا إلى أطول رجل فركب أطول بعير، ومر تحت الضلعين! فذكروا ذلك لرسول
الله فقال: (هذا رزق ساقه الله إليكم) ، والأحناف يقولون: إنما أكلوا منه
للضرورة؛ لأن أبا عبيدة قال: إنه ميتة، ثم قال: نحن في سبيل الله، وأنتم
مضطرون إليه، فكان على سبيل الاضطرار، ولكن قال الجمهور: في القصة أنهم لما
رجعوا إلى المدينة ذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هل بقي معكم منه شيء؟) ،
فالضرورة وهم على ساحل البحر لنفاد زادهم، لكن ليس في المدينة ضرورة،
فالراجح والصحيح هو قول الجمهور؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل
ميتته) .
لكنهم يستثنون بعض الأشياء، فقد استثنى مالك خنزير البحر، فعندما سئُل عنه
قال: أنتم تسمونه الخنزير، والله قد حرم الخنزير، واستثنى كذلك كلب البحر،
والبعض يحرم التمساح، أما الضفدع فقد جاء النهي عنه؛ لأن طبيباً استأذن
رسول الله أن يجعله في الدواء فنهاه عن قتله، وعلى هذا نقول: نبقى على عموم
قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) ، وبعض العلماء يستثني الحيوانات
التي يظن أنها ضارة كالسرطان ونحوه.
وعلى هذا أضاف قوله: (الحل ميتته) إلى قوله: (الطهور ماؤه) ؛ لأن راكب
البحر قد يحتاج إلى السمك الميت، فقد ينفد طعامه ويحتاج إليه، والبعض يقول:
ذكر ذلك ليعلم راكب البحر أن الميتة فيه لا تنجسه، وهذا أمر بعيد؛ فإنه لو
رميت نجاسة الدنيا كلها في البحر فلن تؤثر فيه، والأرض بكاملها الربع منها
يابس، وثلاثة أرباعها ماء، فما الذي ينجسه؟ إذاً: العلة في ذلك ليرفع اللبس
عن ركاب البحر، ويعلمهم بأن الميتة في البحر حلال، وقد جاء عن أبي بكر رضي
الله تعالى عنه أنه قال: (ما مات في البحر فقد ذكاه الله لكم) ، أي: ذبحه
لكم، فلا داعي إلى التحرز عنه فهو حلال.
سبب حديث: (هو الطهور ماؤه ... )
وهذا الحديث قد ذكره المؤلف مختصراً، وهذا من الإيجاز الذي عناه المؤلف
بالتحرير، وأصل الحديث هو ما ذكره مالك في الموطأ: أن رجلاً يدعى عبد الله
بن المدلجي كان يصيد في البحر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا
نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا منه عطشنا، أفنتوضأ
بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو -أي: البحر- الطهور ماؤه، الحل
ميتته) .
من فوائد حديث: (هو
الطهور ماؤه)
تكلم ابن عبد البر رحمه الله وغيره في شرح هذا الحديث ومدلولاته، وابن عبد
البر تتبع رواياته التي أشار إليها المؤلف، ثم ذكر فوائد الحديث، وقد أشرنا
إلى بعضها، ومن فوائده: أن قوله: (إنا نركب البحر) فيه إقرار رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ركوب البحر، وفي هذا رد على من يقول: لا يجوز ركوب
البحر إلا للضرورة، وهو مروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما،
وابن عمر يقول ذلك مخافةً من الهلاك؛ لأن البحر غول كما يقول الناس، ولهذا
لا ينبغي لإنسان أن يركب البحر عند الهيجان في شدة المد والجزر، ومعلوم أن
شركات التأمين التجاري لا تسمح لباخرة تحمل بضاعة تحت تأمينها أن تبحر وقت
هيجان البحر؛ لأنها إن غرقت السفينة ضمنتها شركة التأمين، فهي لا تسمح
لسفينة تحت ضمانها أن تبحر إلا إذا أخبرتها هيئة الأرصاد الجوية أن البحر
هادئ، ودائماً نسمعهم في النشرات الجوية يقولون: الموج ما بين مترين ومترين
ونصف إلى ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار، إلى غير ذلك من أحوال البحر، فإذا
كان البحر في وقت هيجانه فلا ينبغي للإنسان أن يركبه؛ لأن هذا قمة التهلكة،
أما وهو هادئ فلا بأس، وقد يفاجأ أهل السفينة بأمواج عاتية؛ فحينئذ يكون
الأمر بقضاء الله وقدره.
وقوله: (إنا نركب البحر) ، أي: نركب السفن في البحر، وحذف ما يعلم جائز كما
يقول ابن مالك.
وقوله: (ونحمل معنا القليل من الماء) ، وفي بعض الروايات: (القربة من
الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فقال صلى الله عليه
وسلم: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، يقول العلماء: من كان معه ماء في سفر
أو في فلاة من الأرض، والماء على قدر حاجته؛ فلا يتوضأ به، بل يتيمم؛ لأن
الرسول أرشدهم إلى ماء البحر مع وجود الماء العذب؛ لحاجتهم إليه في الشرب،
وكذلك المسافر إذا احتاج إلى الماء في الشرب وفي صنع الطعام، قال العلماء:
حتى ولو كان معه الدابة يركبها أو يسوقها، وهي في حاجة إلى هذا الماء لتشرب
منه؛ فلا يجوز له أن يتوضأ، بل يوفر الماء للدابة كما يوفره لنفسه، ويتيمم؛
لأن الوضوء له بديل، وليس لماء الشرب بديل، فإذا قل الماء على مسافر أو على
أحد في فلاة، واحتاج أن يوفر الماء لنفسه لشرابه أو طعامه، أو شراب ما معه
من الحيوان المحترم الذي يصحبه معه؛ فليتيمم.
قال: فإن توضأنا منه عطشنا؛ لأنه قليل، ولا يمكن أن نشرب من ماء البحر،
فكان الجواب منه صلى الله عليه وسلم من جانبين: الجانب الأول: أنه أفتاهم
بزيادة عما سألوا، فقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، وهم لم يسألوا عن
ميتة البحر.
الجانب الثاني: عدم الإجابة بنعم أو لا، ولما قال: (هو الطهور) كأنه ألغى
صورة السؤال، وجعل الجواب مستقلاً، أي: سواء ركبتم ومعكم القليل من الماء،
أو الكثير من الماء، أو لم تحملوا ماءً بالكلية، وسواء كنتم تحتاجون إلى
ركوب البحر أو لا تحتاجون، فمن ركب البحر، واحتاج إلى الوضوء؛ فالبحر ماؤه
طهور وميتته حلال، فلو قال: نعم؛ لكان الجواب محتملاً أن يكون مقصوراً على
الذين يصطادون في البحر، أو حياتهم ترتبط بالبحر، ولا يشمل من ينزلون
للنزهة، أو للسفر لأمر آخر، بل جاء بقضية مستقلة، بمبتدأ وخبره (هو -أي:
البحر- الطهور ماؤه، الحل ميتته) .
شرح حديث بئر بضاعة
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد]
.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤتى له بالماء من بئر بضاعة ويتوضأ منه،
وبئر بضاعة في الشمال الشرقي من المدينة على مسامتة سقيفة بني ساعدة إلى
الشمال، وكانت هذه البئر موجودة إلى عهد قريب، وأقيمت على مزرعتها مدرسة
تحفيظ القرآن، وبعد ذلك كان النادي الأدبي، ثم أزيل الجميع.
وبئر بضاعة معلم من معالم السنة، ودراسة جغرافيتها نستفيد منها فوائد، وقد
سبق إلى ذلك أبو داود رحمه الله، فعندما جاء إلى المدينة ذهب إلى هذا
البئر، وقاس مساحتها.
فكان صلى الله عليه وسلم يستقى له من هذه البئر، ولم تكن كل آبار المدينة
عذبة صالحة للشرب، وقصة بئر رومة معلومة، وهي التي تسمى الآن: بئر عثمان،
كانت هذه البئر يستقي منها أهل المدينة، وكان رومة رجلاً يهودياً يبيع
الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة وله الجنة) ، فذهب
إليه عثمان وثامنه، فأغلى الثمن جداً، فتكاثر عثمان الثمن، فقال: أنت حريص
على الماء، فبعني نصفه، فباعه نصف البئر، فقال عثمان رضي الله تعالى عنه:
نقسم البئر، فقال: كيف نقسمه؟ قال: لك يوم، ولي يوم.
وهذه قسمة عادلة.
فأعلن عثمان رضي الله تعالى عنه لأهل المدينة أن الماء في يوم عثمان مجاناً
في سبيل الله، وصار الذي يريد ماء يأخذ ليومين، فيأتي يوم رومة ولا يوجد
أحد يشتري منه الماء؛ لأن الناس يأخذون الماء في يوم عثمان، المهم أنه
اشتراه منه، فكان الناس يستقون الماء من بئر عثمان في سوق كان هناك.
وفي ذات يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أبا بكر وعمر فقال لهما:
(ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ قالا: أخرجنا الجوع، قال: وأنا والله ما
أخرجني إلا الجوع، هلموا إلى فلان) ، وذهبوا إليه في بستانه، فوجدوا زوجته
فقالت: إنه ذهب يستعذب لنا الماء، ثم جاء الرجل، وأكرمهم بقنو من النخل فيه
رطب وبسر وتمر، وذبح لهم.
إلخ، والشاهد: أنه ذهب يستعذب ماء للشرب.
وكانت بئر بضاعة من الآبار التي يستعذب ماؤها، فسألوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم عنها، تنبيهاً على الواقع، ليعلم حقيقة الأمر، وهذا أيضاً من حقه
عليهم، كما في قصة الضب، عندما قدم في المائدة، وأراد الرسول صلى الله عليه
وسلم أن يأكل منه فقيل له: إنه ضب، فرفع يده، فقالوا: أحرام هو يا رسول
الله؟ قال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه) ، فاجتره خالد بن
الوليد فأكله.
فهم قد أخبروا رسول الله بماذا سيأكل، وهذا كذلك هنا للتنبيه، فقد أخبروه
بما يستقى له من الماء فقالوا: أيستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها
النتن؟ وفي بعض الروايات: الحِيَض -أي: قطع الخرق التي تستعملها الحائض-،
فكانت خرق الدم تلقى في هذه البئر، فكان الجواب بعد هذا البيان: (الماء
طهور لا ينجسه شيء) ، فانظر إلى هذا السؤال وهذا الجواب، فالماء طهور لا
ينجسه شيء؛ لأن الماء الذي استقي له، وجيء به إليه؛ ليس به شيء من هذه
الأشياء الموجودة في البئر، فقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) يعتبر مطلقاً
بدون قيد، فالماء من حيث هو طهور؛ لكن المؤلف بين التقييد بالحديث الثاني:
(الماء طهور، إلا ما غلب على ريحه، أو لونه، أو طعمه بنجاسة) ، وكلمة
(بنجاسة) لها مفهوم، فلو تغير أحد أوصافه بطاهر فلا يضر.
وهنا خلاف بين العلماء، فالجمهور حملوا المطلق على المقيد وقالوا: نجمع بين
الحديثين فنقول: إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على أحد أوصافه
الثلاثة، فنكون أعملنا القيد في المطلق، والقاعدة عند الأصوليين: حمل
المطلق على المقيد، وبهذا يتم الجمع.
وستأتينا أحاديث ليس فيها تغير الماء، ومع ذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن
استعمالها، فمثلاً: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه
فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات) ، قالوا: الإناء صغير،
واليد ليس عليها شيء، وليس فيها ما يغير الطعم، ولا اللون، لكن منع من ذلك،
وهذا ماء قليل انغمست فيه اليد، وكذا حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم
فليغسله) ، وفي قضية بول الأعرابي الذي بال في المسجد فأتي بدلو كبير
وأهريق على ذلك البول، فاختلط البول بالماء القليل وتطهر البول بهذا الماء.
أقسام المياه
وأحكامها
من مجموع الأحاديث نأتي إلى تقسيم الماء من حيث المجمع عليه والمختلف فيه،
فنجد طرفين ووسطاً: الطرف الأول: الماء الكثير وهو: الطهور الذي لم يتغير
بنجاسة، وهو طهور بالإجماع ولا نزاع فيه.
الطرف الثاني: الماء القليل أو الكثير إذا خالطته نجاسة فغيرت أحد أوصافه،
فهذا نجس لا يستعمل بالإجماع.
إذاً: عندنا ماء كثير لم تتغير أوصافه وهو باق على طبيعته، ولم يتغير منه
شيء مع الكثرة، فهو طاهر، وماء آخر كثير أو قليل تغير بالنجاسة فهو نجس.
بقي الوسط وهو محل النزاع والخلاف عند الأئمة رحمهم الله، وهو الماء القليل
الذي لاقته النجاسة ولم تغيره؛ لأنها إذا غيرته التحق بالقسم الثاني الذي
هو نجس بالإجماع، لكنه قليل ولم تغيره النجاسة، بأن كانت قليلة نادرة، مثل
إناء من ماء وقعت فيه خمس عشرة قطرة من البول، وهذه قطعاً نجاسة وقعت في
هذا الماء ولم تغير أحد أوصافه، فما حكمه؟ هذا هو محل الإشكال عند العلماء،
وكل ما سيمر بنا من خلاف في مباحث المياه فإنما هو في هذا القسم الوسط.
إذاً: الماء على ثلاثة أقسام من حيث الطهورية والنجاسة: إن كان كثيراً
-وسنذكر حد الكثرة من القلة- ولم تتغير أوصافه بنجاسة فهو طهور بالإجماع،
(هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، وإن تغيّر بنجاسة سواء كان قليلاً أو
كثيراً فهو نجس، حتى لو كانت عندنا بحيرة طولها كيلو في كيلو، وعمقها كيلو،
وتسلطت عليها مياه المجاري حتى غيّرت ماءها، فهو ماء كثير تغير فهو نجس.
إذاً: القسم الأول: طهور؛ وهو الكثير الذي لم تؤثر فيه النجاسة بشيء.
القسم الثاني: غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة، فمهما كانت كثرته ومهما
كانت قلته؛ فهو نجس.
والوسط وهو القسم الثالث: ماء قليل لاقته النجاسة ولم تغيره.
إذا جئنا إلى الحديث الأول: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وحملناه على
القليل لوجدنا منطوق هذا الحديث أنه ما لم تتغير أوصافه فهو طهور على هذا
النص، إذاً: لم نحمله على الكثير؛ لأن النجاسة قليلة ولم تغيره، وهو تغلب
عليها، ومن هنا قال مالك رحمه الله: الماء إذا لم تتغير أحد أوصافه
بالنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو طهور، وقال الأئمة الثلاثة: إذا
كان الماء قليلاً ولم تغيره النجاسة؛ فإن النجاسة موجودة فيه، وقلته لا
تحتمل النجاسة، لحديث: (إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث) ، أي: فما دون
القلتين يحمل الخبث.
وقد مهدنا للأحاديث الآتية بهذا التقسيم الثلاثي حتى نطبق عليه الأحاديث
التي ساقها المؤلف رحمه الله تباعاً؛ لأنها كلها تشكل موضوعاً واحداً.
نعيد مرة أخرى: الماء بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
طهور بالإجماع، وهو الكثير الذي لم تتغير أحد أوصافه.
ونجس بالإجماع، وهو المتغير أحد أوصافه بنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً.
والقسم الوسط وهو محل النظر والاجتهاد والخلاف، وهو الماء القليل الذي
لاقته نجاسة لم تغيّره، فمذهب مالك، ورواية عن أحمد وبعض آل البيت أن الأصل
في الماء الطهورية، وإنما النجاسة تؤثر فيه إذا تغير أحد أوصافه؛ لحديث
(الماء طهور لا ينجسه شيء) ، فأخذ مالك بالعموم، وعنده ما دام أن الماء لم
تتغير أوصافه فهو طهور ولو كان قليلاً، لهذا الحديث.
وقال الجمهور والأئمة الثلاثة: نحن نقيد المطلق بالقيد الذي جاء بعده:
بنجاسة تحدث فيه.
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد.
] .
نحن لا نناقش الطرفين المجمع عليهما، فالطرف المجمع على أنه طهور ليس لنا
حاجة في نقاشه، والطرف المجمع على أنه نجس لا يوجد مجال للمناقشة،
والمناقشة كلها في الماء القليل الذي لاقته نجاسة لم تغيّر أحد أوصافه،
فالأصل فيه أنه طهور لا ينجسه شيء، وبهذا أخذ مالك، والأئمة الثلاثة لم
يأخذوا بهذا، ولكن قيدوا هذا المطلق بالقيد الآتي بعده.
متى ينجس الماء؟
قال رحمه الله: [وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه
ولونه) أخرجه ابن ماجة، وضعفه أبو حاتم] .
قوله: (ما غلب) أي: لو جاءته نجاسة قليلة، قطرة أو قطرتان، ولم تغير أحد
أوصافه، فيبقى على طهوريته، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه بنجاسة تحدث
فيه، فهو طهور ما لم يتغير بما يغلب على أحد الأوصاف الثلاثة، وما يغلب على
أحد الأوصاف الثلاثة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون نجساً أو طاهراً،
فإن كان الغالب على أحد أوصافه نجساً فالماء نجس، وإن كان الغالب على أحد
أوصافه طاهراً فماذا يكون حكمه؟
حكم إذا خالط الماء
شيء طاهر فغيره
جمهور الفقهاء على أن الماء على ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، فالطهور:
هو الذي يطهر غيره، كالماء الذي يتوضأ ويغتسل منه، وتغسل به النجاسة،
والطاهر: هو الذي يجوز استعماله فيما طابت به النفس، ولكن لا يتطهر به
محدث، ولا تطهر به نجاسة، وهو الماء الذي تغيّر أحد أوصافه بطاهر، مثل ماء
الورد، وهو ماء خالطه عطر الورد، فهل هذا الماء طهور نتوضأ منه؟ لا.
وهل هو نجس؟ لا.
إذاً: هو طاهر، يجوز أن تستعمله في ثيابك، وأن تضعه في شرابك، أو في طعامك،
لكن لا يدخل في العبادات؛ لأن الماء الطهور هو الباقي على خلقته التي خلقه
الله عليها، فإذا تغير بمضاف إليه خرج عن الحد الذي خلقه الله عليه، ولهذا
قالوا: كل ماء طهور تغيّر بأصل طاهر؛ سلبه الطهورية، ولكن لم يسلبه كونه
طاهراً، فلك أن تستعمله في العادات لا في العبادات، فمثلاً: عندك طست من
الماء، فسقطت فيه قطرة من الحبر، والحبر أزرق أو أسود فظهر لونه في الماء،
فهل هذا الماء طهور تتوضأ منه؟ الجواب: لا، لكن يمكن أن تستعمله فيما يمكن
أن تستعمله فيه، وفيما يصلح أن تضيفه إليه.
إذاً: القيد -ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة- جاء بإطلاق، وجاء بنجاسة
تحدث فيه، ولو تغير أحد أوصافه بطاهر فيسلبه الطهورية عن الوضوء وعن غسل
الجنابة وغسل النجاسة، ويبقى حكم الطهارة فيه، فهو ماء طاهر، فإن شئت
شربته، وإن شئت اغتسلت به لغير الجنابة، وإن شئت غسلت به إناءً ما لم يكن
نجساً، إلى غير ذلك.
وبعض العلماء يقول: إن تغير بنجس تنجس، وإن تغير بطاهر بقي على طهوريته؛
لأن هذا التغيير بطاهر فلا يسلبه طهوريته، ولكن هذا شاذ، وهذا القائل يستدل
بحديث صفية رضي الله تعالى عنها قالت: (اغتسلت أنا والنبي صلى الله عليه
وسلم من جفنة فيها أثر العجين) ، فالجفنة كانوا يعجنون فيها، فجاءوا وصبوا
الماء في الجفنة، واغتسلوا منها، ووجه الاستدلال: أن العجين اليابس في
الجفنة إذا وقع عليه الماء فإنه يتحلل في الماء، وهذا سيغير لون الماء إلى
بياض العجين، قالوا: فقد اغتسلوا من هذا الماء الذي تحلل فيه العجين، وأجاب
غيرهم على هذا: بأنهم اغتسلوا بسرعة قبل أن يتحلل العجين.
فمذهب الجمهور أن الماء الذي خالطه طاهر وغير أحد أوصافه فهو طاهر غير
طهور، مثل إناء فيه ماء فصب فيه ماء الورد، فقد صار ماء ورد، أو سقط فيه
زعفران، فيكون ماء زعفران، وهكذا لو سكبت فيه شيئاً من البر أو اللوبيا أو
غيرهما، ونظرت فيه وقد تغير، فليس ماءً مطلقاً، ولهذا يقولون: الماء المطلق
هو الطهور، فإذا ما أضيف إليه شيء وغير بعض أوصافه؛ خرج عن مسمى الماء
المطلق، وأصبح ماء مقيداً، أما ماء ورد، أو ماء زعفران، أو ماء سكر، أو ماء
ملح، إذا وضع الملح في الماء يجعله مالحاً، وإذا وضع السكر فيه فإنه يحليه،
وكل هذا يسلب الماء الاسم المطلق، ويصير ماءً مضافاً إلى ما أضيف إليه، ماء
مسكر، أو ماء مملح وهكذا، حتى ولو كان الذي خالطه طاهر، فإنه يسلبه اسم
الماء الطلق، ولم يبق طهوراً، ومن هنا أخذ الجمهور أن الماء طهور لا ينجسه
شيء، وأضافوا إليه القيد الثاني: إلا ما غير لونه، أو ريحه، أو طعمه، فإن
تغير بطاهر فهناك من يقول: هو باق على طهوريته، وأما إن تغير بنجس فقد خرج
عن الطهورية إلى النجاسة، لتغير أحد أوصافه، وهذا هو رأي الأئمة الثلاثة.
كتاب الطهارة - باب
المياه [2]
الإسلام يدعو إلى النظافة، والبعد والتنزه عن النجاسة والقذارة، ومن ذلك
أنه حكم بنجاسة الماء القليل إذا تغير بنجاسة حدثت فيه، ونهى عن البول في
الماء الراكد والاغتسال فيه، وأمر بغسل الإناء سبعاً إحداهن بالتراب إذا
ولغ فيه الكلب.
حكم الماء القليل
إذا لاقته نجاسة وخلاف العلماء فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، وفي لفظ:
(لم ينجس) أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان] .
تقدم حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه)
، وفي هذا الحديث: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، وفي رواية: (لم
ينجس) ، ومفهوم ذلك: إذا كان الماء دون القلتين فإنه يحمل الخبث ويتنجس ولو
لم يتغير، لكن المشكل: كم القلتان؟ وأي القلال؟ القلتان: تثنية قلة، وجاء
في بعض الروايات: (كقلال هجر) ، وقلال هجر كانت معروفة عند الناس، والقلة
تساوي قربتين، والقربتان تساوي خمسمائة رطل، ويقول الصنعاني في هذا المبحث:
الجمهور على أن القليل لو خالطته نجاسة ولم تغيره فليس بطهور، ما عدا
مالكاً، فيقال لهم: ما حد القليل الذي يتنجس بملاقاة النجاسة ولو لم تغيره؟
وما هذا القليل الذي تعتبرونه نجساً ولو لم يتغير لأنه قليل؟ قالوا: إذا
كان دون القلتين، وتقدير القليل والكثير بالقلتين هو مذهب الشافعي وأحمد،
ومالك خارج عن هذا التحديد؛ لأنه اكتفى بتغير الأوصاف ولم يعتبر قلة ولا
كثرة، وعند الأحناف تعريفان للقليل والكثير: فعند الإمام أبي حنيفة رحمه
الله أنه إذا كان الماء محصوراً في بركة، أو في إناء، أو في غدير، فإن حركت
أحد الجوانب الأربعة ولم يتحرك الجانب الآخر فهو كثير، فمثلاً: إذا جئت من
جهة القبلة وغسلت يدك وحركت الماء، فطبيعة الماء أنه إذا حركت سطحه يحصل
فيه تموج، والتموج يضطرب حتى يصل إلى الجهة المقابلة، فقال: حد الكثرة أنه
إن حركت أحد الجوانب فلا يصل أثر الحركة إلى الجانب الثاني، وهذا مضبوط
بحالة وصف لا بمقدار.
وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون: حد الكثرة عشرة أذرع من كل جهة، كبركة
مساحتها عشرة في عشرة بمائة ذراع، والعمق عشرة أذرع، فهي مكعبة، والذراع
متر إلا ربع، إذاً: سبعة أمتار ونصف مكعبة، فهذا حد الكثرة من القلة عندهم.
إذاً: لو كان الماء بهذا الحد (سبعة أمتار ونصف مكعبة) ، وسقطت فيه قطرات
بول ولم تغير فيه شيئاً، قالوا: فهو طاهر، ولو كان الماء خمسة أمتار مكعبة،
وسقطت فيه نفس تلك الكمية ولم تغيره، قالوا: فهو نجس، فنهدر الخمسة أمتار
مكعبة من أجل قطرات بول نزلت وليس لها أي أثر، ومن هنا يقول الصنعاني
وغيره: حصل الاضطراب في تحديد الكثرة والقلة، وحديث القلتين متكلم في سنده،
ولكن علماء الحديث والفقه تلقوه بالقبول؛ لشهرته وانتشاره واستفاضة القول
به -وإن اختلفت القلال كبراً وصغراً- وأخذ به الشافعي وأحمد رحمهما الله.
وإذا نظرنا لمجموع هذه الأحاديث نجد أن الضابط -كما قال مالك - هو التغير،
وهذا لم يتغير، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وإن جئنا إلى التقييد بغير قيد
التغير -كما هو مذهب الأئمة الثلاثة- وجدنا الخلاف في حد القلة والكثرة،
ومن حد الكثرة بحد معين، ووصل الماء إلى هذا المقدار ولاقته نجاسة ولم
تغيره، فهو عنده طهور، فمثلاً: عند الشافعي وأحمد إذا كان الماء قلتين -أي:
قربتين كبيرتين- ولاقته نجاسة ولم تغيره فهو طهور؛ لأنه أصبح كثيراً لا
ينجس أو لا يحمل الخبث، وإن كان دون ذلك تنجس بهذه النجاسة؛ لأنه ماء قليل،
وكذلك عند الأحناف بذلك الحد الذي حددوه.
هذه مذاهب الأئمة رحمهم الله، وبقي الترجيح.
الإمام مالك يخالف الأئمة الثلاثة، فـ مالك اعتبر الوصف، ولم يعتبر قلة ولا
كثرة، والأئمة الثلاثة اعتبروا الأمرين: القلة والكثرة، والتغيير وعدم
التغيير؛ إذاً: اشتركوا مع مالك في التغيير، ومالك يقول: إن تغير لونه
قليلاً كان أو كثيراً فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر، والأئمة الثلاثة
قالوا: إن لم لم يتغير وكان كثيراً فهو طهور، وإن تغير وهو قليل فليس
بطهور، إذاً: اختلفوا مع مالك في القليل، وحد القليل على ما ذكروه، فالخلاف
في هذه المسألة بين الأئمة رحمهم الله هو في الماء القليل الذي لاقته
النجاسة ولم تغيره.
فـ مالك يقول: هو طهور، ولا تقل: طاهر، والأئمة الثلاثة يقولون: ننظر في
القلة والكثرة، فإن كان بحد الكثرة فنحن مع مالك ما لم يتغير، وإن كان دون
حد الكثرة فنحن نخالف مالكاً ولو لم يتغير.
نهي الجنب عن
الاغتسال في الماء الدائم
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) أخرجه مسلم.
وللبخاري: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ،
ولـ مسلم: (منه) ، ولـ أبي داود: (ولا يغتسل فيه من الجنابة) ] .
هذه أخبار تنقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بالماء الدائم.
وقسم يتعلق بالاغتسال من الجنابة في الماء الدائم.
والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم جاء بالإطلاق، وجاء بقيد الجنابة،
والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم يصدق على البركة وعلى الغدير، وكل ماء
كثير على حد الأئمة الثلاثة الذين اعتبروا القلة والكثرة، ولماذا لا يغتسل
فيه؟ قال بعض العلماء: نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم لا لذات
الجنابة، وقال بعضهم: بل لذات الجنابة؛ لأن الماء إذا رفعت به الجنابة
تنجس، وهذا قول عند الأحناف كما في فتح القدير، وهو أن الماء الذي يرتفع به
حدث أصغر أو أكبر لا يجوز استعماله، وهو نجس، ويقولون: إن الحدث وقع في
الماء بعد أن أزال الحدث ورفعه، فلو توضأت في طست، وتجمع ماء الوضوء في نفس
الطست، فهذا الماء عندهم متنجس؛ لأنه نقل الحدث من الأعضاء إلى الماء.
والجمهور يقولون: إن الحدث أمر معنوي لا تلحقه الصفات الحكمية من نجاسة أو
غيرها.
وقال بعضهم: لأنه يتنجس بكثرة رفع الحدث ونزوله فيه بالوضوء والاغتسال.
وقال قوم: طبيعة الإنسان -غالباً- أنه إذا نزل إلى الماء ليغتسل وانغمس
فيه، فإنه يخرج منه البول ولا يستطيع رده، فبتعدد الاغتسال يكثر البول في
هذا الماء فينجسه، فقيل لهم: هذا ماء كثير فكيف ينجسه البول؟ قالوا: بتنجس
مع طول الزمن.
وقال آخرون: لأنه يستقذر، فإذا بلت فيه، وجاء الثاني وبال فيه، فبعد هذا
كيف تشرب منه؟! وكيف تتوضأ منه؟! فالنفس تشمئز من هذا، إذاً: هذا نهي كراهة
وتنزيه، وليس نهي تحريم.
وكذلك قوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه) .
فالماء الدائم منهي أن تبول فيه أو تغتسل فيه من الجنابة، وقوله: (لا يغتسل
أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) نهي عام يشمل كل ذي جنابة أن يغتسل منه،
ولكن هنا قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه
أو يغتسل فيه) ، فهذا نهي موجه للإنسان أن يجمع بين الأمرين: البول
والاغتسال، فلو لم يرد أن يغتسل فهل يجوز له أن يبول؟ لا يجوز، فلو أن
اثنين أحدهما بال في الماء، فيقال له: لا تغتسل؛ بسبب بولك فيه، والشخص
الثاني الذي لم يبل له أن يغتسل ويتوضأ؛ لأنه لم يفعل سبب النهي، ويتعجب
بعض العلماء من المغايرة بين الشخصين، ويقولون: إن كان النهي عن البول في
الماء لنجاسة أو لاستقذار، فكما يجري هذا على الذي بال فينبغي أن يجري على
الذي لم يبل، وقالوا: إن النهي للكراهة لا للتحريم، ليبقى الماء طاهراً مدة
أطول، حتى لا يطول الزمان ويكثر البول فيفسد الماء.
وهناك من يقول: النهي عن ذلك من ناحية طبية؛ لأن الماء الذي لا يجري، وهو
ما يسمى المستنقعات، تنشأ فيها بعض الأشياء، فتحمل بعض الجراثيم التي تنتقل
عند البول فيه أو عن طريق الأظفار في القدمين فتصيبه بالمرض، ويذكرون أن
البلهارسيا والكلستوما وغيرهما تكثر في مستنقعات المياه، وكانت توجد في
المنطقة الشرقية أكثر من غيرها قبل أن تنظم فيها قنوات الري.
فقال بعض العلماء: هذا ماء كثير نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تخالطه
النجاسة ولو لم تغير أوصافه؛ لأنه لا يجري بل هو دائم في مكانه، فإنه لو
طال الزمن وكثرت هذه الحالة؛ فقد يفسد عليهم الماء ولو كان كثيراً.
والجمهور على أن النهي للكراهة، وابن حزم ينكر عليهم قولهم أنه للكراهة،
ويقول: هذا نهي صريح، ولا يوجد ما يصرفه إلى الكراهة، بل هو للتحريم، ومن
بال لا يصح وضوءه من ذلك الماء.
وجاء في رواية: (منه) وفي رواية: (فيه) ، والمعنى: أنه لو بال في هذا الماء
فلا يتوضأ ولا يغتسل منه، أي: لا يأخذ ماء ويتوضأ أو يغتسل بعيداً من الماء
الراكد، وكذلك إذا بال في هذا الماء فلا ينزل وينغمس فيه ويغتسل، ولا يتوضأ
فيه.
وقال بعضهم: هذا التوجيه هو للآداب والأخلاق والنزاهة، ونظيره الحديث الذي
فيه: (لا يجلدن أحدكم زوجه جلد الأمة ثم هو يضاجعها) ، أي: أنه الآن يضربها
وكأنها عدوة له، وكأنها ليست لها قيمة عنده، ثم بعد فترة يجد نفسه مضطراً
إلى أن يضاجعها، ففي حالة المضاجعة أين ذهب الضرب؟ وفي حالة الضرب أين ذهبت
المضاجعة؟ فعليه أن ينظر إلى العاقبة، فإذا أردت أن تضرب فلا تنسى حاجتك
إليها في المضاجعة، فليكن الضرب برفق، وكذلك هنا لا يبل ثم هو يغتسل؛ لأن
هذا مستنكر، فكيف تبول فيما تحتاج أن تشرب منه وتغتسل فيه؟! كما أنه كيف
تضرب من تحتاج إلى مضاجعتها؟! فهذا نظير ذاك، فالنهي للكراهة وليس للتحريم،
والله تعالى أعلم.
إلى هنا نكون قد انتهينا من تقسيم العلماء للماء، واعتبار الكثرة والقلة،
وذكرنا القسم الطهور المجمع عليه، والمتنجس المجمع عليه، وذكرنا القسم
الوسط، وهو محل البحث، وهو القليل الذي خالطته النجاسة ولم يتغير بها.
والخلاصة: أن الإمام مالكاً ينظر إلى الأوصاف، ولم ينظر إلى قلة ولا كثرة،
والأئمة الثلاثة رحمهم الله ينظرون إلى الأوصاف مع الكمية، قلة أو كثرة،
فإن كان قليلاً ووقعت فيه نجاسة فهو نجس ولو لم يتغير، وإن كان كثيراً فهو
طاهر ما لم يتغيّر، وبالله تعالى التوفيق.
حكم الاغتسال بفضل
غسل الرجل أو المرأة
قال رحمه الله: [وعن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة،
وليغترفا جميعاً) رواه أبو داود والنسائي وإسناده صحيح] .
هذا الحديث يتعلق بالماء القليل، وهو عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم،
يقول العلماء: هذا الرجل مجهول لم يسم، وجاء في بعض الروايات أن اسمه يحنس
أو نحو هذا.
والجمهور يقولون: إن جهالة الصحابي لا تضر في صحة الحديث؛ لأنه صحابي،
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كلهم عدول لا يفتش عنهم في رواية الحديث؛
وعلى هذا فهذا رجل مجهول الاسم، لكنه معروف بصحبة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهذا لا يضر الحديث، وقد قيل: إنه صحبه أربع سنوات، قال: (نهى النبي
صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة أو تغتسل المرأة بفضل
الرجل، وليغترفا جميعاً) ، النهي يقتضي التحريم والمنع، إلا إذا وجدنا
قرينة تصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة، والأمر يقتضي الوجوب ما لم نجد
قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب.
وهنا نهي صريح: (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل) ، والفضل ما بقي بعد
استعمال الماء، ويقول ابن حزم في المحلى: إذا كان الباقي بعد استعمال الماء
أقل مما أخذ؛ فهو فضل داخل تحت النهي، أما إذا كان الباقي بعد الاستعمال
مساوياً لما أُخذ أو زائداً عنه فليس بفضل، بل هو أكثر مما أخذ، فلو قدر أن
الإناء فيه عشرة لترات، فاغتسل الرجل من هذا الماء بخمسة لترات، وأبقى خمسة
لترات، فلا تكون الخمسة فضلةً للعشرة، أما إذا أخذ سبعة لترات فالباقي
ثلاثة، وهي أقل مما أخذ فتكون الثلاثة فضلةً للعشرة، وهذا عرف معلوم عند
الناس، فلو أن إنساناً أتي بكأس وشرب منه وبقي في الكأس شيء؛ فلا يقال: هذه
فضلة فلان، إلا إذا كان الموجود في الكأس قليلاً، أما إذا تذوّقه أو أخذ
قليلاً منه؛ فلا يقال: هذه فضلة فلان، بل الطعام باقٍ أكثره، وكذلك الشراب
في الكأس باق أكثره، فالعرف يؤيد ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله.
يقول بعض العلماء: النهي هنا للتحريم، ويقول الجمهور: النهي للتنزيه، ومذهب
ابن حزم وداود الظاهري أن النهي للتحريم، ولكن نجد في الحديث الذي بعده أن
النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغتسل من جفنة اغتسلت منها ميمونة وهي
جنب، فقالت له: هذا الماء باق بعد اغتسالي، فقال لها: (إن الماء لا يجنب) ،
واغتسل بفضلها، وقد يقال: اغتسل بالباقي، لكن هل كان الباقي أكثر أو أقل؟
ليس هناك دليل، لكنها قرينة على أن النهي هنا للكراهة.
وبعض العلماء يقول: لا بأس للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل، ولا يغتسل الرجل
بفضل المرأة، ثم ذكروا أن علة النهي ما جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما أنه قال: هذا النهي خاص بالمرأة التي اغتسلت من حيضتها، وخصص عموم
المرأة بالخائض لأنها تخلو به -كما في بعض الروايات- أما إذا كان الرجل مع
المرأة فليغترفا جميعاً، لكن إذا خلت به، واغتسلت وهو غائب عنها في مكان
آخر، ثم جاء ليغتسل، فلا يغتسل بفضلها، قال ابن عمر: المرأة إذا خلت
بالماء، واغتسلت لحيضها، فقد لا تعلم أحكام الحيض والغسل منه، وقد تلوث
الماء وتفسده على الرجل، ولكن هذا يرد بأن المرأة الحائض تغتسل من حيضتها
إذا انقطع الدم عنها، وذلك إذا رأت القصة البيضاء، كما سيأتي في باب الحيض
أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كن النساء يبعثن إليها بالقطن
فيه أثر الحيض، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
والقصة البيضاء ماء أبيض يعقب دم الحيض، ويدل على نقاء الرحم من الحيض،
فحينئذ تغتسل.
إذاً: الحائض ليس فيها ما يخشى منه على الماء، ولكنه تخصيص وارد عن عبد
الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، فبعض العلماء نهى الطرفين، وبعضهم نهى
الرجل أن يغتسل بفضل المرأة، وأجاز للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل؛ لأن الرجل
ليس مظنة لأن يفسد الماء، ولذا قيل: إذا اغتسلت أمامه وهو يراها، ولم تخلُ
بالماء، فلا مانع أن يغتسل بفضلها؛ لأنه لو وقع منها أمر بجهالة فإنه
سيرشدها، أو يكون عنده علم بحال الماء، والجمهور على أن النهي هنا للتنزيه
والكراهة وليس للتحريم.
والمؤلف رحمه الله ساق الحديث هنا في معرض بحث الماء القليل الذي لاقته
النجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه، فهذا ماء قليل في إناء، والمعروف أن المياه
في البيوت لا تكون مستبحرة، ولا تكون قلتين، ولا تكون عشرة أذرع في عشرة
-كما قيل- إنما هي في أوانٍ معروفة، فهي في حكم الماء القليل، وقد جاء
النهي عن اغتسال أحد الزوجين بفضل الآخر، فهو منع لاستعمال الماء القليل
الذي لم يتغير، فهذا من أدلة ترجيح من يقول: الماء القليل إذا لاقته
النجاسة ولم تغيره فإنه ينجس، والآخرون يقولون: إن النهي هنا ليس للتحريم،
إنما هو للكراهة؛ لما سيأتي بعد هذا الحديث إن شاء الله.
إذاً: نُهي أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر، فلو كان عندهما إناء واحد، فهل
تتقدم هي أم يتقدم هو؟ قالوا: لا يسبق أحدهما الآخر، ولا ينفرد به؛ بل
يغتسلان بعضهما مع بعض، ويغترفان جميعاً، فهي تغترف لنفسها وتغتسل، وهو
يغترف لنفسه ويغتسل، ومن هنا يقول النووي رحمه الله: قوله: (وليغترفا
جميعاً) فيه أن النهي عن اغتسال الرجل بفضل المرأة أو العكس للتنزيه لا
للتحريم؛ لأنهما لو اغتسلا معاً واغترفا جميعاً، فلابد أن أحدهما سيسبق
الآخر بغرفة الماء، فإذا سبق الرجل واغترف من الماء، ثم هي بعده اغترفت،
فقد اغتسلت بفضل الرجل، أو سبقت هي فاغترفت، ثم هو تبعها واغترف لنفسه، فقد
اغتسل بفضل مائها، وهكذا من أول الغسل إلى آخره، فيقع اغتسال كلٌ منهما
بفضل الآخر.
ونظير هذا النهي عن الصلاة منفرداً خلف الصف، فهو للكراهة، ولا تبطل به
الصلاة -كما يقول الحنابلة- فلو قدرنا أنها أقيمت الصلاة، ووقف الإمام،
وخلفه ثلاثة أشخاص مؤتمون به، فلن يتلفظوا بتكبيرة الإحرام في لحظة واحدة،
بل سيحصل بينهم تفاوت واختلاف، فهذا يكبر، وهذا يعتدل، وهذا ينظر، قال
النووي رحمه الله: سيسبق أحدهم الآخرين بالتكبير؛ فيكون قد كبر وحده، وفي
تلك اللحظة إلى أن يكبر شخص آخر معه سيكون منفرداً خلف الصف، ولم تبطل
صلاته، فاستنتج من ذلك أن النهي عن الانفراد خلف الصف للكراهة، وكذلك هنا.
وبعض من توسع في هذا الموضوع يقول: إنه حث على أن يغتسلا جميعاً؛ لأن
المرأة في حاجة إلى تعلم أحكام المياه، وأحكام الغسل من الجنابة، فتتعلم
ذلك إذا اغتسلت مع الزوج، والأصل أن الزوج يكون متعلماً لمخالطته ولسماعه،
فذلك أدعى لتعليمها، وقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت:
(اغتسلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، حتى كانت أقول:
دع لي دع لي) ، فاغتسلا في وقت واحد معاً، وعلى هذا يكون النهي للكراهة
والتنزيه، وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام من فضل ميمونة، واغتسل مع عائشة
واغترفا جميعاً.
وإذا اغتسلت المرأة من الدش، فهل الماء الباقي في الخزان يصدق عليه أنه فضل
المرأة؟ لا؛ لأنه يوجد مواسير عازلة، وقد تقدم ما قاله ابن حزم عن حقيقة
الفضلة، وهو أنه إذا كان الإناء موجوداً بينهما، وكان ما أبقته المرأة أو
أبقاه الرجل أكثر مما أخذ فقد خرج عن النهي، فمن باب أولى أن الخزان فوق
السطوح أو السخانة في الحمام لا يدخل الماء الباقي فيهما في هذا الحديث،
والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه
الكلب ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن
بالتراب) أخرجه مسلم، وفي لفظ له: (فليرقه) ، وللترمذي: (أخراهن أو أولاهن)
] .
هذا الحديث من أوسع الأحاديث مسائلاً، وأكثرها اختلافاً، ونستعين بالله
سبحانه وتعالى على أن نشرحه كلمة كلمة، لعل الله سبحانه أن ييسر إيضاح
أمره، وبيان الراجح من الخلاف فيه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (طُهور
إناء أحدكم) هذه الكلمة (طهور) لم يروها البخاري، بل روى الحديث بلفظ: (إذا
شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات) ، وفرق بين (شرب، وولغ) فبعض
العلماء يقول: الشرب لغير الكلاب والسباع، وهو أن يعب الماء عباً، والولوغ:
هو أن يتناول الماء بطرف لسانه، فإذا كان في الإناء شيء يابس كدقيق أو خبز
فيقال: لعق، وإذا كان الإناء فارغاً فيقال: لحس.
فالولوغ: هو تناول الكلب بطرف لسانه للسائل الذي في الإناء، وهذه طبيعته،
والشرب أعم، فإن الشرب ولوغ وزيادة، إذاً: ولغ وشرب ليس بينهما تعارض.
وقوله: (طهور إناء) ، أخذ الجمهور من كلمة: (طهور) نجاسة سؤر الكلب؛ لأن
التطهير في الشريعة لا يكون إلا من حدث ناقض للوضوء أو موجب للغسل، أو
لإزالة النجاسة، والإناء لا يطهر من الحدث؛ لأنه غير مكلف، بل هو جماد،
إذاً: المراد طهوره من النجاسة، وهذا ما يسميه علماء الأصول بالسبر
والتقسيم، فقالوا: مدلول الطهور يدور حول معنيين: الحدث والنجس، وبالسبر
وجدنا أن الحدث ملغي؛ لأنه لا يرد على الإناء، فبقي من القسمين الطهور من
النجس، فقال الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد: إن سؤر الكلب نجس،
والغسل منه للنجاسة، وجعلها سبع مرات مع التتريب تأكيداً للطهارة، وعلى كل
جزئية من هذه الجزئيات إيراد واعتراض، فـ مالك رحمه الله ناقشهم في عملية
التقسيم أولاً، فالجمهور جعلوا القسمة على كلمة: (طهور) قسمين، ومالك قال:
هناك قسم ثالث أغفلتموه، ويجب أن تأتوا به، ثم تسبروا المعنى على الأقسام
الثلاثة، قالوا: وما هو القسم الثالث؟ قال: الطهور من القذر، وهو موجود
شرعاً؛ لأنه جاء في الحديث: (السواك مطهرة للفم) ، وليست فيه نجاسة، وليس
فيه حدث، وكذلك جاء في التيمم أنه طهور، ففي الحديث: (فعنده مسجده وطهوره)
على القول بأن التيمم لا يرفع الحدث، وكذلك إذا وجد قذر في الثوب فإنك
تطهره، قال الله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، فهل كان على ثيابه
صلى الله عليه وسلم نجاسة؟ قالوا: لا، ولكن هذا كناية عن الأعمال، فطهرها
من الشرك والصغائر، وبعضهم قال: المعنى أن يكون الثوب نظيفاً نقياًَ.
فـ مالك رحمه الله يقول: الأقسام ثلاثة، وبسبرها نسقط الحدث كما أسقطتموه،
ونسقط أيضاً النجاسة؛ لأنه لو كان للنجاسة لاكتفي بتطهير الإناء بما تطهر
به عامة النجاسات، ووافقه في ذلك أبو حنيفة رحمه الله في مسألة عدد الغسلات
والتتريب.
إذاً: كلمة: (طهور) أخذ منها الجمهور أن سؤر الكلب نجس، وإذا ولغ في الإناء
نجّسه، ويجب تطهيره، بأن يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
ومالك يقول: الأمر بالغسل هنا تعبدي، وليس للنجاسة؛ لأننا وجدنا كلمة
(طهور) تستعمل في غير النجاسة، كما أنها تستعمل في غير الحدث، وعلى هذا فـ
مالك يقول: سؤر الكلب طاهر، والغسل فيه تعبدي، ولكن ما هي العلة إذن؟ سيأتي
كلام المالكية عنها.
إذاً: الجمهور يقولون: سؤر الكلب نجس، وينجس الإناء الذي ولغ فيه، وما
الحكم عندهم إذا أكل من يابس؟ قالوا: يؤخذ ما أكل منه، والباقي طاهر، كما
روي في حديث الفأرة: (إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد وماتت فخذوها وما
حولها، وكلوا سمنكم؛ وإذا سقطت في السمن المائع وماتت فلا تقربوه) ؛ لأنه
قد تنجس السمن كله، قالوا: وكذلك إذا لعق الكلب من دقيق أو طعام ليس
سائلاً، بخلاف ما إذا ولغ من سائل: ماء، أو حليب، أو سمن، وهذا يسمى
ولوغاً، ويجري عليه نفس حكم الفأرة.
فالجمهور على نجاسة سؤر الكلب، وهل بقية بدنه نجس؟ كما لو أدخل الكلب يده
في الإناء وأخرجها، فهل يكون الحكم كالسؤر فيغسل الإناء سبع مرات ويترّب؟
قال البعض: إن الحكم هنا متعلق بالسؤر فقط، والشافعية ومن وافقهم قالوا:
إذا كان السؤر نجساً ويغسل سبع مرات مع أنه في الفم؛ فبقية البدن من باب
أولى، وقالوا أيضاً: نجاسة سؤر الكلب إنما هو لتحلل لعاب اللسان في السائل،
فإذا عرق الكلب فالعرق متحلل من داخل بدنه، فيأخذ نفس الحكم، لكن علماء
الحيوان يقولون: الكلب لا يعرق، ولهذا قال الله: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] ، فالكلب يبرد جسمه بأن
يخرج لسانه ويلهث، والكلب لا يعرق جلده أبداً، ولهذا فإنه يحتر، فإذا احتر
ولم يجد ما يبرد جسمه، فإنه قد ينزل في الماء من أجل التبريد، فإذا لم يجد
الماء أخرج لسانه ليبرد من شدة الحرارة، فلو أن الكلب نزل في الماء، وخرج
وأصبح مبللاً، أو صببت عليه ماء؛ فلمس إنسان شعر الكلب المبلل، فهل يكون
حكمه حكم السؤر أم لا؟ قال الشافعية وغيرهم: كل ما مسه جسم الكلب فإنه يغسل
سبع مرات إحداهن بالتراب.
وقال البعض: الأمر جاء في السؤر فقط، وما سواه فلا يدخل في ذلك.
وأنا أريد إيراد بعض التفريعات في هذا الحديث، وأكثر من مسائله؛ لأنه يصلح
لتدريب طالب العلم ودارس الحديث على مناقشة الأحاديث التي ورد فيها خلاف،
وأوسع من وجدت تكلم عليه هو ابن دقيق العيد في مخطوطة كتاب الإمام، ففيه
أكثر من خمس عشرة صفحة بخط صغير جداً في هذا الموضوع.
كتاب الطهارة - باب
المياه [3]
اختلف العلماء في نجاسة الكلب، ونجاسة سؤره، ومن ثم اختلفوا في حكم غسل
الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات، وفي حكم تتريبه، وكل فريق استدل بأدلة
صحيحه، ومعرفة خلاف العلماء في هذه المسألة وأدلتهم فيها يدرب طالب العلم
على استنباط الأحكام الشرعية، ويعلمه احترام رأي المخالفين، وتقدير وجهة
نظرهم.
أما سؤر الهرة فهو طاهر وليس بنجس؛ لأنها من الطوافين علينا، ويلحق بها كل
ما كان يعيش في البيوت بجامع أنها كلها من الطوافين علينا.
خلاف العلماء في
نجاسة سؤر الكلب وغسله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فالجمهور على نجاسة الكلب، وعلى أنه يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب
للنجاسة، ولكن هل يقاس عليه غيره؟ فبعض الشافعية يلحق الخنزير بالكلب في
نجاسته وفي التطهير منه؛ لأن الخنزير أشد نجاسة من الكلب.
وهناك من يحكي عن بعض المالكية أن الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب
وارد في الكلب غير المأذون فيه، أما الكلب المأذون فيه، وهو ما كان للصيد
أو للحراسة أو للماشية؛ فإنه مخالط لصاحبه؛ فليس داخلاً في هذا الأمر،
وبقية المالكية على العموم، سواء كان الكلب مأذوناً فيه أو غير مأذون فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم) فإذا كان الولوغ في غير الإناء،
بأن جاء الكلب إلى بركة أو إلى حوض وشرب منه ولعق، فهل يدخل في هذا الباب؟
قالوا: لا يدخل.
وقد جاء أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، فوردوا حوضاً،
فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال
عمر بن الخطاب: فإنا نرد على السباع وترد علينا.
وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة وتردها
السباع والكلاب ونحوها، هل يتطهر منها؟ فقال: (لها ما حملت في بطونها ولنا
ما غبر) أي: ما بقي.
فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك المواطن لا يضرها ولوغ الكلاب
فيها، فالذين قالوا بنجاسة سؤر الكلب، قالوا: هذا ماء كثير فوق القلتين،
وسنرجع إلى موضوع نجاسة الماء القليل إذا لم تغيره النجاسة، ومن أدلتهم على
هذا: أن ولوغ الكلب في الإناء لا يغير أحد أوصافه من لون أو طعم أو ريح.
إذاً: هذا ماء قليل خالطته النجاسة فتنجس ولو لم يتغير، فأمر بإراقته وغسل
الإناء، وردوا على مالكاً بهذا؛ لكن مالك لم يسلم لهم بالنجاسة، إنما قال
الغسل هنا تعبدي، وسؤر الكلب طاهر.
خلاف العلماء في حكم
التسبيع والتتريب
نأتي إلى مسألة التسبيع، الأحناف رحمهم الله يقولون: لا حاجة إلى التسبيع،
ويكفي ثلاث غسلات؛ لأن راوي الحديث أبا هريرة رضي الله تعالى عنه سئل عن
ذلك فقال: (يجزئ ثلاث غسلات) ، فراوي الحديث أدرى بحديثه، لكن لا ندري هل
وجد له مخصصاً أو وجد له ناسخاً حتى نأخذ بفتواه دون روايته، والقاعدة عند
المحدثين والأصوليين: أنه يأخذ برواية الصحابي لا بفتواه؛ لأن روايته نقل
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتواه اجتهاد منه، ولا يحق له أن يخالف
نص رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاد منه، إذاً: التسبيع ثابت.
وقال الأحناف أيضاً: لا حاجة إلى التتريب؛ لاضطراب رواية التتريب؛ فقد جاء:
أولاهن، أخراهن، إحداهن، السابعة، الثامنة، قالوا: وهذا اضطراب في الرواية
فيسقط التتريب.
وأجاب الجمهور بأن تعدد الروايات لا يدل على نفي التتريب بالكلية، بل يؤكد
وجوده؛ ولكن الخلاف في الأولى أو في الأخيرة هذا شيء آخر، ولكن تلك
الروايات تثبت التتريب؛ فيتعين التتريب.
إذاً: هذا عرض لهذا الحديث وجزئياته، ولن نستطيع أن نستوفي كل ما يمكن أن
يقال في ذلك، ولكن هذا تمهيد وبيان وتدريب لطالب العلم على دراسة الحديث
الذي تتفرع عنه المسائل العديدة، ومعرفة وجهات النظر، وكان الأحرى أن يسوقه
المؤلف في باب إزالة النجاسة، ولكنه ساقه هنا تأييداً لرأي من يقول: إن
الماء القليل -كالإناء الذي ولغ فيه الكلب- ينجس ولو لم يكن هناك تغير في
لون أو رائحة أو طعم؛ لأنه أمر بإراقة الماء وغسل الإناء مع عدم ظهور
التغير فيه.
الأمر بغسل الإناء
الذي ولغ فيه الكلب أمر تعبدي عند المالكية
وبعض المالكية يقول: إن الأمر بإراقة الماء وغسل الإناء، وتسبيعه في
التغسيل، وتتريبه بالتراب في إحداهن: أولاهن، أو أخراهن السابعة أو الثامنة
-كما قال الحسن البصري - أمر تعبدي، وليس من باب تطهير النجاسات، وما هو
الأمر التعبدي في ذلك؟ قالوا: سبب غسل الإناء من سؤر الكلب وإراقة الماء
وتطهير الإناء بعد إراقته أمر طبي لصحة الإنسان؛ لأن الكلب يصاب بداء
الكَلَب، وداء الكَلَب ينتقل من الكلب إلى الإنسان إذا عض الإنسان، أو
تناول إنسان بعده من سؤره، فتنتقل جرثومة داء الكَلَب من الكلب إليه، ويصير
مسعوراً مثل الكلب، قالوا: فأمر بإراقة الماء حتى لا يشربه أحد، وبتطهير
الإناء حتى لا تبقى آثار الجرثومة في الإناء.
ورد عليهم الجمهور بأن الكلب الكلِب لا يشرب الماء، وإذا شرب الماء وولغ
فيه فليس مسعوراً، ورد عليهم المالكية وقالوا: إن الكلب قد يصاب بالداء ولا
تظهر عليه آثاره إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعند ذلك تتكاثر فيه الجرثومة،
وتظهر آثارها عليه، وحينئذ لا يقرب الماء، والشرع المطهر عمم الحكم فيما
كان مصاباً ولم تظهر أثر الإصابة عليه ومالم يصب بشيء، سداً للباب.
ثم نأتي إلى مسألة التتريب، نجد في بعض الأبحاث الطبية الحديثة أنه لا يمكن
للمطهرات الكيميائية أن تقضي على داء الكلب، ولا يقضي عليه غير مادة موجودة
في التراب تسمى: (فلورين) ، وهذه المادة متوافرة في التراب، فإذا أضيف
التراب إلى الإناء مع الماء فإنها تقضي على هذه الجرثومة نهائياً، فوجدنا
في الطب الحديث أن هذه المادة (الفلورين) تقضي على داء الكلب، وقد جاء
الأمر بإراقة الماء الذي شرب منه الكلب وغسل الإناء سبعاً مع التتريب،
ووجدنا أن الكلاب كانت تغدو وتروح في المسجد النبوي، ولم نجد الأمر بغسل
آثار الكلب في الصيد، وهذه أدلة المالكية في قولهم بأن سؤر الكلب ليس
نجساً؛ والغسل فيه تعبدي.
وأضافوا إلى ذلك -من باب التدعيم القولي بكل صغيرة وكبيرة- أن عدد السبعة
يأتي في الطب كثيراً، مثل حديث: (من تصبح بسبع تمرات) ، وحديث: (أريقوا
عليه من سبع قرب من سبعة آبار) ، أي: في دواء الحمى، فقالوا: عدد السبعة
داخل في الطب؛ ولهذا أمر بغسل الإناء سبع مرات وأضيف إليه التراب.
وبعض من يقول بالنجاسة قالوا: لا حاجة إلى التراب مع الغسل سبع مرات، فلو
غسل بالصابون والأشنان ونحو ذلك فإنه يجزئ، وهذا قول عند الحنابلة، لكن رد
عليهم بأن الحديث نص على التراب، فقالوا: هذا نظيره في النظافة، والصابون
والأشنان منظفان، قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: يجاب على هذا بأنه
فاسد الاعتبار، وأي قياس يعارض النص فلا يعتبر؛ لأن النص في التراب،
وقالوا: إن التراب أحد الطهورين، فيجمع للإناء بين طهور الماء وطهور
التراب، وقال ابن دقيق العيد قاعدة: إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال كان
الفرع باطلاً، وذلك مثل قصة الخضر مع موسى عليهما السلام لما قتل الخضر
الغلام: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ
جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] ، ثم قال الخضر: {وَأَمَّا الْغُلامُ
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً
وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ
زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80-81] ، فهذا الولد فرع، وهذان
الأبوان الصالحان أصل، فحفاظاً على صلاح الأبوين أبقي على الأصل، وقدما على
الفرع، وقتل الفرع حتى لا يفسد الأصل؛ وهكذا إذا كان الفرع يعود على الأصل
بالبطلان كان الفرع باطلاً، ونحن نشاهد هذا حتى عند الفلاحين، فلو أن شجرة
برتقال صغيرة أثمرت كثيراً، فيرى صاحب البستان أنه لو تركت ثمار البرتقال
على هذه الشجرة الصغيرة لكسرت أغصانها ولم تحتملها الشجرة، ولذلك يخفف
الثمار حتى لا تتحطم أغصان الشجرة، ويتلف بعض الفرع إبقاءً للأصل، وهكذا
هنا، فلو جعلنا الأشنان فرعاً عن التراب لأبطلنا التراب، فيكون الفرع مقدم
على الأصل، إذاً: هذا الفرع باطل، أما لو قيل: نضيف الأشنان مع التراب فلا
بأس؛ لأننا حافظنا على الأصل، وأضفنا إليه غيره.
أدلة المالكية على
طهارة سؤر الكلب
وقد استدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم) ، والطهور
يكون من نجس أو من حدث، لكن مالكاً ناقشهم بالسبر والتقسيم، وقال: هناك قسم
ثالث، وهو الطهورية من القذر، ولكن هذا استنتاج، فما هو الدليل عندك -يا
مالك - على أن سؤر الكلب طاهر؟ قال: إن الأصل في الحي الطهارة، فكل حي طاهر
عند مالك، كما أن الأصل أن كل حيوان ميت فهو نجس، وهذه قاعدة في الحياة وفي
الموت.
واستدل مالك بالنص القرآني الكريم، فإن المولى سبحانه وتعالى لما سأل
السائلون: ماذا أحل لهم؟ قال: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] ، قال مالك: فكلب
الصيد يذهب ويمسك الصيد لصاحبه، ولم نجد الأمر بغسل موضع عض الكلب للصيد،
وليس هو مجرد ولوغ، بل هو عض بفمه كله على الصيد، فلم يؤمر صاحب الكلب
المعلم أن يغسل موضع عض الكلب للصيد، لكن قال الجمهور: هذا الموضع يقطع
ويرمى، ولو لم يرمَ فسيشوى في النار، والنار تحيل النجاسة إلى طهارة، فقال
مالك: النار أذهبت المعنى التعبدي الذي أمر بالغسل من أجله، قالوا: وما هو
الأمر؟ قال: الأمر صحي، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
واستدل المالكية بصنيع البخاري في صحيحه، وهو وإن لم يصرح بمذهبه، فإنه يدل
على ميوله إلى مذهب مالك في هذه المسألة؛ لأنه ساق أربعة أحاديث يفهم من
مجموعها عدم نجاسة سؤر الكلب، منها حديث كلب الصيد، ومنها: (كانت الكلاب
تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم) ، وما الفائدة من هذا الحديث الذي يسوقه البخاري في كتاب
الطهارة؟ قال السيوطي: إن البخاري فقيه، ودلالة الفقه في صحيحه أكثر من
دلالتها في غيره؛ وذلك لفقهه، ولذا يقول العلماء: فقه البخاري في تبويبه،
وقد يبوب الباب لمسألة فقهية ولا يورد فيها أي حديث؛ لأنه صح عنده حديث في
معنى الباب، ولكن ليس على شرطه في الصحة، فيأتي بالمعنى تحت الباب ولا يسوق
الحديث؛ لأنه دون ما اشترطه، وقد يترجم للمعنى ويأتي بحديث في الظاهر أنه
بعيد جداً، ولكن المعنى موجود فيه، فهنا البخاري بوب: كانت الكلاب تروح
وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه في عام الوفود سنة
تسع كان صلى الله عليه وسلم ينزل الوفود في المسجد، ولما جاء وفد بني ثقيف
في السنة التاسعة أنزلهم في المسجد، ونصب خيامهم في المسجد، وكان يشرف على
خدمتهم، وكان ذلك في رمضان؛ ليروا حال المسلمين في صيامهم وفطورهم، ويروا
تلاحمهم وإخاءهم، ولذلك لم يخرج رمضان إلا وقد أسلموا جميعاً، قال البخاري:
كان هؤلاء القوم في المسجد، وكان يؤتى لهم بالطعام، وحاسة الشم قوية عند
الكلب، فهو يمشي ويتشمم في تربة الأرض، ومعلوم أنه إذا تشمم الكلب تربة
الأرض فإن لسانه يلهث أيضاً، فلا بد أن يصيب لعابه التربة، ولم يأمر صلى
الله عليه وسلم بغسلها، ولا بصب الماء عليها كما أمر في قصة بول الأعرابي،
ولا أمر بمسح التراب عن مواضع تشمم الكلاب في المسجد، ولو كان سؤر الكلب
نجساً لمنعت الكلاب من ذلك، وتتبع مواطنها، وطهرت بما يمكن أن تطهر به.
وكذلك استدل المالكية بقضية كلب الصيد على أن سؤره ليس بنجس.
إذاً: الخلاف على هذا النحو: مالك يرى طهارة سؤر الكلب، والجمهور يرون
النجاسة، وكلٌ يستدل بما تقدم.
حكم سؤر الهرة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال في الهرة: (إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم) أخرجه
الأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة] .
من فقه المؤلف رحمه الله تعالى أنه ساق حديث اغتسال الرجل والمرأة من إناء
واحد، ثم ما يتعلق بسؤر الكلب، ثم هنا ما يتعلق بسؤر الهرة، وهذا يناسب باب
إزالة النجاسات؛ ولكنه ساقه هنا في باب المياه تتمةً لمسألة قليل الماء إذا
لاقته نجاسة ولم تغيره، فالإناء ماؤه قليل، وولوغ الكلب فيه -على نجاسة
سؤره- لم يغير من أوصافه شيئاً، وقد أمرنا بإراقة الماء وغسل الإناء، فعلى
القول بنجاسته يكون الماء القليل قد تنجس بالنجاسة وإن لم تغير أحد أوصافه.
ثم لملابسة الهرة للناس في بيوتهم أتبع خبر الكلب بخبر الهرة؛ لجامع أن
الكل يخالط الإنسان، ويستدعي الواقع بيان الحكمين، فكما بين سؤر الكلب يريد
أن يبين سؤر الهرة، فذكر حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، وسبب هذا
الحديث: أن زوجة ولده وضعت له ماءً في إناء ليتوضأ، فجاءت هرة وأرادت أن
تشرب من ذلك الماء، فأصغى أبو قتادة الإناء للهرة، أي: أماله حتى تستطيع أن
تشرب منه، فلما رأت تلك المرأة فعل أبي قتادة تعجبت! وكأنها تستبعد أن
يتساهل حتى يسمح للهرة أن تشرب من ماء يتوضأ منه، فلما رأى ذلك قال:
أتعجبين يا ابنة أخي؟! قالت: نعم، أعجب من فعلك! وكأنه رأى في قسمات وجهها
علامات التعجب، وهذا من الفراسة أو من الذكاء حينما تنظر لإنسان وتعرف أنه
فرحان، أو غضبان، أو يتعجب، أو يستنكر، فقسمات الوجه تدل على نفسية
الإنسان، فقال لها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الهرة:
(إنها ليست بنجس) ، يعني: وما دام أنها ليست بنجس وهي تريد أن تشرب فاسقها،
(إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) .
يقول العلماء في فقه هذا الحديث: سؤر الهرة ليس بنجس، وبعضهم يقول: نجَس
ونجِس هما بمعنى واحد، وبعضهم يقول: نجَس -بالفتح- في النجس المعنوي، ونجِس
-بكسر الجيم- في نجس العين كالعذرة ونحوها، والذي يهمنا أن أبا قتادة رضي
الله تعالى عنه أخبر زوجة ولده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الهرة:
(إنها ليست بنجَس) .
وهل هي ليست بنجَس بسبب أنها من الطوافين، أم أنها في الأصل نجسة ولكن لما
كانت من الطوافين خفف عنا وعفي عن نجاستها لمخالطتها إيانا؟ هذه المسألة
يبحثها العلماء.
والطوّاف: هو الذي يطوف في الحي، وقيل: الذي يطوف على صاحب البيت بالخدمة،
كما قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَاب
وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17-18] ، وقيل: الطوّاف:
الذي يقوم بخدمة من في البيت، وشبهت الهرة بالخدم الذين يطوفون على أهل
البيت لأجل المخالطة، فلا يمكن أن تحترس من الهرة في البيت.
قال بعض العلماء: إنها ليست بنجس في ذاتها، وزيادةً على ذلك فهي من
الطوافين والطوافات.
وقال بعضهم: أصلها نجسة، ولكن خفف عنا بسبب أنها طوافة علينا، ولا يمكن
الاحتراز منها.
ويفرعون على ذلك: لو أننا وجدنا الهرة أكلت فأراً، وبقايا لحم الفأر ودمه
على فمها، وشربت من الإناء، فهل نقول: إنها ليست بنجس لأنها من الطوافين،
أم نقول: إننا شاهدنا نجاسة خارجة من فم الهرة وقعت في الإناء؟ نقول: هي
ليست بنجس، ولكن جاءت بنجاسة، والعبرة بما جاءت به.
الرفق بالحيوان
وفي الحديث موضوع اجتماعي أو جانب عاطفي، وهو ما يسمى بالرفق بالحيوان،
وينبغي أن يعلن للعالم كله أن الإسلام سبق أهل العالم المحتضر! -وليس
المتحضر بل المحتضر! - فيما يتعلق بالنواحي الإنسانية، سواء حقوق الإنسان،
أو الرفق بالحيوان، وقد جاء حديث آخر أصرح من هذا، وهو قوله صلى الله عليه
وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي
تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، ويقابل هذا حديث: (كانت بغي من بني إسرائيل
تسير في الطريق، فاشتد عليها العطش، فوجدت بئراً، فنزلت وشربت، فلما صعدت
وجدت كلباً يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد لحقه من العطش
مثل ما لحقني، فنزلت إلى البئر وأخذت خفها أو موقها وملأته بالماء، وخرجت
به وأصغته إلى الكلب فشرب، فشكر الله لها فدخلت الجنة) ، (شكر اللهَ لها)
أي: أن الكلب شكر الله لها أن سقته لوجه الله، أو (فشكر اللهُ) : لفظ
الجلالة فاعل الشكر، أي: شكر الله لها صنيعها في الكلب والرفق به.
إذاً: بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الرفق بالحيوان حتى في الهرة،
فالإنسان من باب أولى، فمن وجبت عليه مئونة إنسان ومنع عنه الطعام، أو قصر
فيما يجب عليه مع اليسار، فيخشى عليه من عذاب النار، ولهذا حث النبي صلى
الله عليه وسلم على الإحسان إلى الخدم، وإذا أتاك خادمك بالطعام فإن لم
تجلسه يأكل معك فأطعمه منه، فقد عالجه وتطلعت إليه نفسه، فانظر إلى النواحي
النفسية؛ فالطاهي الذي صنع لك الطعام وأتاك به بكامله، لا تستأثر بالطعام
وحدك، وتقول له: اذهب، وابحث لك عن شيء آخر لتأكله! بل إما أن تجلسه معك،
وهو أخوك، فلا تستأنف من ذلك، ولا تخشى من تعويده، أو غير ذلك، بل أطعمه
منه، وكما يقول العوام: اتق عينه، فهذا الطعام قد تعلقت نفسه به، فخف على
نفسك من النظرة.
إذاً: أبو قتادة رضي الله تعالى عنه أصغى الإناء للهرة، وهذا فعل من أبي
قتادة رضي الله تعالى عنه، ولم يرفع هذا الفعل إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فبعض الناس يقول: هذا موقوف وهو من فعل الصحابي؛ ولكن أبو قتادة رفع
قوله: (إنها ليست بنجس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث في باب المياه ليبين أن
الهرة إذا طافت بالبيت وشربت من الماء أو أكلت من الطعام فإنها ليست بنجس؛
لكن لو شاهدنا على فمها أثر نجاسة، فيكون الحكم للنجس الذي شاهدناه.
حكم اقتناء الكلب قياساً على الهرة
توسع بعض العلماء في هذا الحديث، كـ ابن دقيق العيد في كتابه المخطوط الذي
أشرنا إليه، وذكر هل يقاس الكلب على الهرة بعلة الطوافين والطوافات؟ يحكي
بعضهم عن بعض المالكية أن كلب البادية بالنسبة إلى أهل البوادي من الطوافين
والطوافات، فيقيس هذا الكلب على الهرة، ولكن النص جاء في عموم الكلاب، ولم
يفرق بين كلب أعراب وكلب حضر، ولا كلب بوادي وكلب حواضر.
وبعض المالكية يخصص الكلب المأذون في اقتنائه، وهو كلب الصيد والحراسة
والماشية، ولكن الجمهور لم يلتفتوا إلى ذلك، وقالوا: نحتاج إلى معرفة تاريخ
الترخيص في اقتناء الكلب، وتاريخ حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، ولا نجد
دليلاً يبين المتقدم من المتأخر؛ حتى يكون التخصيص من المتأخر للمتقدم،
إذاً: نأخذ بعموم اللفظ: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب) ، و (أل) هنا
للاستغراق، وليست عهدية، وعلى هذا يكون حديث الهرة تابعاً لمباحث المياه؛
لأنه من الملابسات الموجودة.
وهنا مسألة: وهي أن البيوت في الأرياف يوجد فيها حيوانات غير الهرة من
الطوافين والطوافات، فحكمها حكم الهرة، ومأكول اللحم لا يدخل في هذا الباب،
فإنه طاهر حتى بوله، مثل الأرانب والغنم والدجاج.
فمن الحيوانات التي تلحق بالهرة: الفئران، وابن عرس، وبعض الناس يسمونه:
(العرس) ، وهو حيوان أكبر من اليربوع ومن الفأر، وأصغر من الهرة، ويقولون:
ليس فيه عظام، ولو ضربته بحديدة فإنه لا يموت، لكن لو ضربته بعرجون النخلة
فإنه يموت، فهذه حيوانات تعيش في بعض الأرياف أو في البيوت العادية، فإذا
شربت من ماء في البيت مكشوف، فهل سؤر تلك الحيوانات طاهر أو نجس؟ بعلة
الطوافين والطوافات يكون الماء طاهراً، وهذا مما يلحق بالهرة بالقياس؛
بجامع علة الطواف، والله تعالى أعلم.
كتاب الطهارة - باب
المياه [4]
من الأحاديث المتعلقة بباب المياه: حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، وقد
ذكر في هذا الباب لبيان أن الماء القليل إذا صب على النجاسة فإنه يطهرها،
ولا يتنجس الماء؛ لأن الماء الذي أريق على بول الأعرابي كان قليلاً، ومع
ذلك تطهرت به النجاسة.
ومن أحاديث باب المياه: حديث حل السمك والجراد والكبد والطحال، فلو سقطت
هذه الأشياء في الماء فإنها لا تنجسه؛ لأنها لا تعد في حكم الميتة ولا في
حكم الدم المسفوح النجس.
شرح حديث الأعرابي
الذي بال في المسجد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء
أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه
وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق
عليه) متفق عليه] .
حديث الأعرابي هذا يعطينا درساً عملياً في سياسة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وفي معرفة طبيعة البشر، واختلاف العادات في البادية والحاضرة،
ومراعاة الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسيات البشر، والمبادرة من الصحابة في
إنكار المنكر، وأنه يجب أن يأمر الآمر بالمعروف بالمعروف، وأن ينهى عن
المنكر بغير المنكر، وسيأتي بيان ذلك في شرح هذا الحديث.
جاء هذا الأعرابي، وكان المسجد مبنياً من الجريد وجذوع النخل، فأناخ ناقته
على باب المسجد ودخل، ثم تنحى جانباً وبال فيه! لقد رأى عريشاً وجذوع نخل
فظنه من ضمن الحضائر الموجودة في البادية للحيوانات، فلما حضره البول بال
فيه.
ومن هنا يستحب الفقهاء بناء الحمامات بجانب المساجد؛ لأن هذا الأعرابي حضره
البول وضيق عليه، ولم يجد مكاناً ليبول فيه، فنظر إلى حالة المسجد، فترك
الناس في جانب وذهب إلى جانب آخر، وجلس يبول، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم
نظروا هذا المنكر فاستنكروه، ولو رأى الناس رجلاً متضايقاً خرج منه الريح
في المسجد لاستنكروا ذلك منه استنكاراً شديداً، مع أنه ريح ذهب في الهواء
وما حصل شيء، لكن الصحابة رأوا الرجل يبول في المسجد فبادروه بالإنكار
بصورة منكرة حتى أفزعوه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تدارك
الأمر، وقال: (لا تزرموه) أي: لا تحبسوا البول عليه؛ لأن هذا يضر بالمثانة
والعضلات القابضة، وقد يحدث عنده سلس البول، فتركه حتى قضى بوله، وكما
يقال: الخطأ قد وقع، وما هو الحل لتدارك هذا الخطأ؟ لو كان قبل أن يبول
فسنقول: اذهب إلى مكان آخر، لكنه قد جلس وبدأ في البول، ونحن الآن بين
أمرين: إما أن يكمل ما بدأ فيه من خطأ، ويستمر في خطئه، وإما أن نمنعه مما
قد بدأ فيه، وهنا تتقابل مضرتان: مضرة استمراره على بوله، في المسجد، ومضرة
ما يمكن أن يلحقه في صحته من مرض، وحينما يزجرونه ويطردونه وهو لم يقض
بوله، إذا لم يستطع حبس البول فسيقوم وهو يبول، وسيقع البول على أماكن
كثيرة، فبعد أن كان البول محصوراً في منطقة صغيرة سيصير في مكان كبير من
المسجد، فالمصلحة أن نرتكب ما هو أخف ضرراً دفعاً لما هو أكبر ضرراً، فتركه
على ما هو عليه؛ لأنه قد بدأ في خطئه، ودفعه يأتي بخطأ أكبر، ومن هنا يقول
العلماء: بنبغي ارتكاب أخف الضررين، فكونه يكمل بوله فيه ضرر، وكوننا نمنعه
فيه أيضاً ضرر، وأي الضررين أشد وأيهما أخف، فنرتكب أخف الضررين دفعاً لأشد
الضررين، فمن الحكمة أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتركوه لا تزرموه)
، فأكمل بوله على مهله.
ولما انتهى من بوله جاءت الحكمة النبوية، فكيف نتدارك هذا الخطأ الذي وقع
من شخص جاهل لا يعرف أحكام المساجد؟ فلابد أن نتدارك الأمر، فبوله نجّس
المكان، وعلاج القضايا يكون من جذرها، إذاً: نطهر المكان؛ ولذلك أمر صلى
الله عليه وسلم بذنوب من ماء، والذنوب هو الدلو الكبير، ولا يكون الدلو
ذنوباً إلا إذا كان مليئاً بالماء، فجيء به وأريق على مكان البول، وانتهت
المشكلة، ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن هذه المساجد لم تبن
لهذا، إنما هي لذكر الله وما والاه) ، وهذا الأعرابي رجل عاقل، وجد الفرق
بين معاملة الصحابة له وبين معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام له، وحسن
تعليمه، فلما رأى الفرق رفع يديه وقال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم
معنا أحداً؛ لأنه ما رأى من الصحابة رحمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
(لقد حجرت واسعاً) ، أي: إن رحمة الله وسعت كل شيء، وليست لي ولك فقط.
إن هذا رجل أعرابي يجهل أحكام المساجد، فعلى فطرته وجبلته رأى بناء المسجد
ولم يهتم به، إذاً: علينا أن نهتم بالمساجد، وحضره البول ولم يجد مكاناً
يبول فيه، إذاً: علينا أن نؤمّن دورات المياه عند المساجد، وسيأتينا -إن
شاء الله- حديث: (أمر صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في البيوت وأن
تطيب) ، وفي رواية: (وأن تبنى لها الميضآت أو المطاهر) ، ويستحب الفقهاء أن
يكون بجانب المسجد الميضآت؛ لحاجة الإنسان للوضوء، فهذه الفوائد نأخذها من
هذا الحديث، فدراسة الحديث فيها فوائد مستنبطة وليس كالفقه قواعد وقوانين
منضبطة، لا تدخل في الاجتماعيات ولا في الأمور الأخرى، فالحديث يؤخذ منه
الشيء الكثير.
عناية الإسلام
بالمساجد
وقد اعتنى الإسلام -كما في كتب الحديث والفقه بل وفي القرآن الكريم-
بالمساجد أيما عناية، فقال الله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125] ، وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ} [النور:36] أي: ترفع
حساً ومعنى، وقال صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي، حتى القذاة
يخرجها الرجل من المسجد) ، وفي الحديث الآخر: (أن امرأة سوداء كانت تقم
المسجد فمرضت، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا ماتت فآذنوني، فماتت بالليل
فقبروها ليلاً ولم يخبروا رسول الله بها لئلا يزعجوه، فقال: دلوني على
قبرها) ، ولماذا قال: دلوني على قبرها؟ لخدمتها لمسجد رسول الله، والإسلام
لا ينظر إلى الألوان، ولا إلى الأجناس، ولا إلى الصفات، فهي امرأة ولم تكن
رجلاً، وكانت على هذا الوضع، ولكن كرمها الإسلام بخدمتها للمسجد.
ولما رأى عليه الصلاة والسلام النخامة في جدار القبلة حكها برداءه.
إذاً: العناية بالمساجد في الإسلام كبيرة جداً، وقد كثرت في ذلك النصوص.
وأول ما بني مسجد رسول الله قال: (عريش كعريش أخي موسى) ، وكان من جذوع
النخل وجريده، وما بني بالحجارة والطين إلا بعد عودته صلى الله عليه وسلم
من خيبر؛ لأنه كثر الناس وضاق المسجد على أهله، فوسع فيه للحاجة، وهكذا فعل
عمر رضي الله تعالى عنه ومن بعده.
مناسبة حديث
الأعرابي لباب المياه
لقد ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث في باب المياه، وهو صالح أن يكون في
باب إزالة النجاسة، وصالح أن يكون في باب المياه، فلماذا أتى به في باب
المياه؟ أتى به ليبين أن هذا بول رجل، وهذا ذنوب من ماء، فلو قدرنا أن
الذنوب من الماء قدره (12 لتراً) ، وقدرنا أن بول الأعرابي نصف لتر، فستكون
نسبة البول إلى الماء واحد إلى أربعة وعشرين، وهذا الذنوب في حدود القلة؛
لأن الذين قالوا بالكثرة والقلة حددوا الكثرة بقلتين من قلال هجر، والقلة
قربتان، والقربة خمسمائة رطل، فستكون القلة ألف رطل، والآخرون قالوا: عشرة
أذرع في عشرة، إذاً: هو في حدود القليل بالنسبة لمن حدد الماء بالكثرة
والقلة، فهذا الماء في حدود القلة، وقد أريق على بول الأعرابي لتطهير
النجاسة التي أحدثها بول الأعرابي في أرض المسجد، وتطهرت الأرض بالذنوب.
إذاً: هذا ماء في حدود القلة، وطهرت به الأرض من نجاستها، فيكون الماء
القليل قد طهّر النجاسة وهو لم يتنجس، بمعنى: لو أن ماء الذنوب حينما لاقى
البول على الأرض تنجس؛ فلن يطهرها؛ لأنه صار نجساً.
وإذا كانت الأرض رخوة تشرب الماء، فهل نصب الماء تدريجياً بحيث تشرب الأرض
الصبة الأولى فتخف نسبة البول في طبقة الأرض العليا، ثم نصب مرة ثانية
فتذهب نسبة البول في التربة أكثر، ثم نصب مرة ثالثة فتذهب أثر البول
بالكلية، ثم نصب بقية ماء الذنوب وقد طهرت التربة، ويكون الذنوب قد طهر
التربة؟ أم نصب الماء مرة واحدة حتى ينتهي ماء الذنوب ويتلاقى الجميع على
الطبقة الأولى من التربة؟ قالوا: الحديث ليس فيه تفصيل لسكب الماء صبة بعد
صبة، وهل الأرض تتشرب أو لا تتشرب، فإذا صب الذنوب مرة واحدة على موضع
البول وتشربته الأرض فقد طهرت، ولكن الأول أدعى لطهارتها أكثر.
وإذا كانت الأرض صلبة ليست رخوة تتشرب الماء فماذا نفعل؟ هل نأتي بالذنوب
ونسكبه عليها؟ فلو بال أحد في الرخام، وجيء بماء ربع لتر، وصب على البول
الذي في الرخام، فسوف تتسع النجاسة، ولو ترك البول لكان في مساحة مترين أو
ثلاثة، فلو صببنا الذنوب فإنه سوف يوسع الدائرة حتى تصل إلى عشرين متراً
مثلاً، فالطريقة المثلى لتطهير البول عندما يحصل من الأطفال أو من بعض
العجائز المرضى: أن يؤخذ حالاً بالأسفنج ويفرغ في إناء، ثم يصب الماء
الطاهر من الإبريق على الرخام، وينشف بالأسفنج، ثم يغسل في الطست، وكأنه
يغسل إناءً من النحاس أو غيره، ولا يصب الذنوب حتى يتسع الأمر.
ومن هنا فرأي الجمهور أن ملاقاة الماء القليل للنجاسة في التربة يطهرها،
والأحناف يروى عنهم أنهم يقولون بنقل التربة، ويذكرون في ذلك حديثاً، ولكن
الأئمة رحمهم الله وعلماء الحديث لا يثبتون سند هذا الحديث، وهو أن تحفر
التربة وتنقل، ثم بعد ذلك يصب الذنوب، وأجاب الجمهور عن ذلك أنه إذا حفرنا
التربة وأخذنا التراب المتنجس فليس هناك حاجة إلى صب الماء وقد نقلنا
التراب المتنجس.
والمالكية الذين قالوا بعدم تحديد الماء بقليل أو كثير وإنما العبرة
بالأوصاف، قالوا: هذا ماء قليل طهر النجاسة ولم ينجس، والجمهور قالوا: ليس
لكم دليل على هذا، وهناك فرق بين ملاقاة الماء للنجاسة، وملاقاة النجاسة
للماء، فما الفرق بينهما؟ فمثلاً: إذا كان هناك طست فيه ماء، فوقعت النجاسة
في الماء، فهذه ملاقاة النجاسة للماء، لكن إذا كان هناك ثوب متنجس، فجئت
بالماء وصببته على محل النجاسة في الثوب، فهذه ملاقاة الماء للنجاسة،
والفرق بينهما: أنه حينما تلاقي النجاسة الماء تتلاشى فيه أجزاؤها، ويبقى
الماء حاملاً للنجاسة، لكن حينما يلاقي الماء النجاسة، فكلما جاء جزء من
الماء على النجاسة تلاشت أمامه، ويستمر الصب على النجاسة من هذا الماء الذي
خالط النجاسة في مكانها، فهو تنجس بها لكنه يزيلها ويخفف أثرها، إلى أن
تأتي آخر دفعة من الماء على محل النجاسة وقد انتهت منه النجاسة وانمحت
وذهبت مع الماء السابق.
إذاً: أول الماء عند ملاقاته للنجاسة يكون مختلطاً بها، وحكمه حكم النجاسة،
لكن آخر الماء -ولو كان لتراً واحداً- لا يأتي لمحل النجاسة إلا وقد زالت
النجاسة، وقد يبقى في المكان آثار لا ترى بالعين ولا تشم بالأنف، فيكون آخر
الماء قد أذهب آثار النجاسة في المحل، ولم تؤثر النجاسة في الماء.
إذاً: هذا الحديث ساقه المؤلف رحمه الله دليلاً لمذهب من لا يرى التحديد
بكثرة أو قلة، ولكن الذين يرون التحديد قالوا: فرق بين ملاقاة النجاسة
للماء، وملاقاة الماء للنجاسة، وقالوا: نحن نعارض في ملاقاة النجاسة للماء،
ولا نعارض في ملاقاة الماء للنجاسة.
الحكمة في إنكار
المنكر
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم رأوا منكراً فبادروا بالإنكار، فبعض
العلماء يقول: كيف يبادرون بالإنكار والرسول موجود؟! لماذا لم يسألوا رسول
الله؟! والرسول رآه كما رأوه هم، فهل هذا من باب: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ؟ وهل يجوز لهم أن يتقدموا
بالإنكار على هذا المنكر بين يدي رسول الله وهم لم يستأذنوه؟ الجواب: إن
الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن لهم وقال: (من رأى منكم منكراً فليغيره
بيده) ، وهذا الأعرابي فعل منكراً، فهم عندهم إذن بتغيير المنكر، ولكن لم
يأتوا بالطريقة الحكيمة التي كان ينبغي أن ينصح بها هذا الأعرابي، ويراعى
لجهالته.
على كل داعية، وعلى كل مسلم إذا رأى منكراً أن ينظر إلى جوانب متعددة،
ويتبع البصر بالبصيرة، فينظر ماذا يترتب على هذا المنكر لو أنكره: هل
سينتهي أم سيأتي منكر أشد؟ فإن كان سينتهي فليغيره بيده أو بلسانه فإن لم
يستطع فبقلبه، فإن علم بخبرته أو ببصيرته أن الإنكار لهذا المنكر سيأتي
بمنكر أكبر، فيكتفي بالأقل، ولا يزيد المنكر منكراً، وعلى هذا قالوا: إن
مبادرة الصحابة بين يدي رسول الله ليست تقدماً على بين يدي رسول الله،
فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على إنكار المنكر، ولكنه أنكر عليهم
الطريقة التي أنكروا بها، فقال: (لا تزرموه) يعني: علموه برفق؛ لأنه جاهل،
ثم دعاه صلى الله عليه وسلم وأخبره برفق أن المساجد بنيت لذكر الله وما
والاه.
شرح حديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما
الدمان فالطحال والكبد) أخرجه أحمد وابن ماجة، وفيه ضعف] .
ما علاقة هذا الحديث بباب المياه؟ ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث هنا
ليبين حكم ما لو سقطت هذه الأشياء في الماء أو ماتت فيه، فهل تفسد الماء أم
لا تفسده؟ كما أنه ساق حكم سؤر الهرة إذا شربت من الماء ليبين هل تفسده أم
لا تفسده؟ وهنا ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت) ، وهذا فعل مبني
للمجهول، والذي أحل هو الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (لنا) هل هو خاص بالأمة أم يشاركها غيرها؟ ظاهر النص أنه خاص
بالأمة.
وقد تقدم التنبيه على الحوت في حديث: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، لكن
هنا التنصيص على: (الحوت والجراد) ، فلفظ الحوت استدل به الأحناف على أنه
لا يحل من ميتة البحر إلا السمك لهذا الحديث: (أحلت لنا ميتتان) ، وذكر أن
أحد الميتتين الحوت، وأجاب الجمهور عن هذا بحديث العنبر الذي انحسر عنه
البحر، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منهم أن يعطوه منه.
ويهمنا في هذا الموطن أن الحوت إن وجد ميتاً فهو حلال عند الجمهور، وقد
تقدم التفصيل في ذلك عند الأحناف رحمهم الله، فعندهم إن طال زمن موته حتى
طفا على وجه الماء، فإنهم يكرهون أو يمنعون أكله، لا للتحريم ولا رداً
للحديث، ولكن لطول زمن موته حتى طفا على وجه الماء، فإنه يكون فيه مضرة على
الآكل، ونحن نهينا عن تناول ما يضر الإنسان.
وميتة الجراد حلال، قال المالكية: إذا أخذته حياً فيجب أن تُعمل السبب الذي
يميته حتى يحل لك، وما هو السبب؟ قالوا: مثلاً: تأخذه في كيس وهو حي،
وتغمسه في الماء حتى يموت، فهذا سبب من عندك في إماتته، فيحل لك.
وقوله: (وأما الدمان: فالكبد والطحال) بعض السلف كره الطحال، كما روي عن
علي رضي الله تعالى عنه، ولكن ليست كراهية من جانب الشرع، بل قد يكون من
جانب الصحة؛ لأن لحم الطحال ليس كالكبد، فالكبد غذاء صالح لكل إنسان،
ويستعمل رطباً ويستعمل جافاً، فالكبد قد يجفف للرحلات الطويلة حينما يقلّ
الطعام، فيؤخذ ويشرّح ويترك في الظل حتى ييبس، ثم يسحق حتى يصير مثل
الدقيق، ثم يحفظ، وعند الحاجة يؤخذ منه قليل يصب عليه الماء الحار، فإذا به
غذاء طبيعي يشرب من هذا الخليط.
أما الطحال فمهمته تصفية الدم، فهو يتشبع بفضلات الدم الفاسدة، ويحولها إلى
الجسم بعد تصفيتها، فهو بمثابة المرشح للدم في الجسم، وبسبب اختزاله لفضلات
الدم غير الصالحة في دورة الدم؛ فإن طبيعته غير خالصة في الغذاء كخلوص
الكبد، لكن من طابت نفسه لأكله فليأكله وبعض الأطباء يقولون: كل عضو في
الحيوان يصلح لنظيره في الإنسان، فمثلاً: لو أن إنساناً مريضاً بالكبد أكل
من كبد الحيوان فإنه يكون أنفع له، ولو أن مريضاً بالطحال أكل طحال الحيوان
لكان أنفع له، ولو أن مريضاً بالرئة أكل رئة الحيوان لكان أنفع له، إلى غير
ذلك مما يذكرونه.
طهارة الكبد والطحال
والذي يهمنا هو طهارة الكبد والطحال مع تحريم الدم، يقول الله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، والدم المحرم
هو الدم المسفوح الذي يسفح ويجري، والكبد دم منعقد وليس مسفوحاً كالدم الذي
يخرج من العروق، وكذلك الطحال، فهذان الدمان أحلا لنا، وكذلك الحوت
والجراد، فإذا جاء رِجْل من جراد -والرجل يطلق على المجموعة من الجراد التي
تزحف- ونزلت على بركة ماء، ثم ماتت فيها وغيرت رائحتها أو لونها، فهل تنجس
هذا الماء أم لا تنجسه؟ لا تنجسه؛ لأن الجراد طاهر.
حكم تغير الماء
بالمجاورة
إذا تغير الماء بمجاور له غير مخالط فهو طهور على الأصل، فمثلاً: لو كان
على حافة بركة أو غدير شجر يتساقط منها الورق في الماء، والماء راكد، فتحلل
الورق وتعفن فيه حتى أثر في الماء برائحة، فهذا يسمى تغير بمجاور؛ لأنه لم
يذب في الماء ذوبان الملح والدقيق، ومثله لو وجد على حافة الغدير حيوان
ميت، وطلعت رائحته ومرت على الماء، والتقط الماء رائحة هذا الحيوان الميت،
فالميتة نجسة، وهذا الريح ظهر في الماء، فهذا تغير بمجاور وليس بمخالط، فهو
باقٍ على طهوريته، وهكذا لو أن ماءً طال الوقت عليه سنة أو أكثر أو أقل،
ومن طول المكث نبت فيه الطحلب، وجرت فيه الضفادع، وتغير لونه، وصارت التربة
طيناً آسناً، فتغيرت رائحته؛ فهو طهور؛ لأنه لم يتغير بشيء من الخارج، بل
بطبيعته في مكانه.
والمؤلف رحمه الله ساق حديث الميتتين والدمين لبيان حكم لو خالط شيء من هذه
الأصناف الأربعة الماء، فإنه لا يسلبه الطهورية، والله تعالى أعلم.
كتاب الطهارة - باب
المياه [5]
يعتبر حديث الذباب من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر فيه أنه
إذا سقط الذباب في الإناء فليغمس، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء،
وهذا هو ما أثبته العلم الحديث، وفي هذا الحديث بيان أنه إذا وقع الذباب في
الماء أو الشراب ومات فيه فإنه لا ينجسه.
شرح حديث الذباب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد
جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) أخرجه البخاري وأبو داود وزاد: (وإنه يتقي
بجناحه الذي فيه الداء) ] .
هذا الحديث مشهور عند العلماء بحديث الذباب، ويرويه أبو هريرة رضي الله
تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا وقع الذباب في شراب
أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) ، وفي
رواية: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) ، والمعنى العام لهذا الحديث: أن
الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يرشدنا إلى حكم ما لو وقع الذباب في
الشراب؛ لأن جبلة الإنسان تعافه؛ لقذارة الذباب، فإنه بطبيعة حياته يعيش
على القاذورات ثم يأتي ويسقط في الشراب، كما قال القائل: إذا وقع الذباب
على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا رأت الكلاب
ولغن فيه فالنفس البشرية تعاف أن تتناول الشراب الذي وقع فيه الذباب، فإذا
وقع الذباب في الشراب فما مصيره؟ وكيف نتعامل معه؟ بين لنا النبي صلى الله
عليه وسلم أنه إذا حصل هذا، وأردنا الحفاظ على الشراب، فلنغمس الذباب في
الشراب، فهو قد سقط ولكنه لم ينغمس إلى الأسفل؛ لأنه خفيف، فنحن نغمسه حتى
يغمره السائل ثم ننزعه، وفي بعض الروايات: (فليطرحه) يعني: لا يأكله؛ لأنه
مستقذر، ثم بين صلى الله عليه وسلم العلة في غمسه، والنفس تعاف الشراب
بمجرد سقوطه، فما الحكمة في هذا العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فإن في
أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) .
الاهتمام بالإعجاز
العلمي في السنة
إنه حينما يكشف العلم هذا الأمر، ويفتخر الكفار بهذه الاكتشافات،
ويعتبرونها من السبق العلمي، أليس جديراً بالمسلمين أن يسابقوا إلى إعلان
ذلك؟ ولا أقول: أن يسابقوا إلى السبق العلمي، فهو واجب، ولكن إلى السبق
الإعلامي، ويكون هذا من مهمة وزارات الإعلام، وكذا على عوام الناس وخواصهم؛
لتكون هذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أربعة عشر قرناً، وهذا
ينفع عامة الناس وخواصهم، والمتعلمين منهم وغير المتعلمين، ويدفع المؤمن
إلى التمسك بدينه، ويعطيه قوة يقين أكثر بتصديقه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإنه قالها وهو في الصحراء، وما دخل معملاً ولا مختبراً ولا أخذ
أنبوبة اختبار، ولا شيئاً مما هو موجود في المعامل الآن.
ومثل هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله
سبع مرات أولاهن بالتراب) ، لماذا ذكر التراب مع الغسل سبع مرات؟ يأتي
العلم ويكتشف أن داء الكلب لا يعقمه إلا مادة الفلورين الموجودة في التراب!
ومن ذلك أيضاً: تحريم لحم الخنزير، فيأتي الطب متأخراً ويكتشف أن فيه داء،
ففيه الدودة الشريطية، والدودة الشريطية توجد في لحم البقر، وتوجد في لحم
الخنزير، ولكن الدودة الشريطية التي في لحم الخنزير تتميز عن الدودة
الشريطية التي في لحم البقر، فهي أخطر منها، فالدودة الشريطية التي تأتي من
لحم البقر قد يبلغ طولها اثني عشر متراً في معدة الإنسان، وهي مكونة من
فصوص، وكل فص قابل للنمو بذاته، مثل أعواد القصب، فإذا أخذت كل غصن وغرسته
فإنه ينبت بنفسه، فإذا شرب المريض دواء فإنه يقطعها، وتنزل أوصالاً، أما
دودة الخنزير فينبت لها قرنان في الرأس، فإذا شرب دواء ليقطعها غرزت قرنيها
في جدار المعدة، فتتقطع أوصالها إلا الوصلة الأخيرة التي فيها القرنان
فتنبت من جديد.
وأيضاً ذكر لي طبيب في الجامعة الإسلامية أن في الخنزير دود العضل، وهو
أخطر من دود المعدة الذي يؤخذ له دواء فينزل، وقد ذكر علماء الطب القديم أن
بذر المشمش إذا أحرق حتى يصير فحماً، وأكل منه الإنسان كل خمس سنوات حبة،
وكان عنده دود البطن، وهو غير الإسكارس الصغير، فإنه ينزلها ويقضي عليها،
فمهما كان دود البطن فإنه ينزل بالدواء، ولكن دود العضل ليس في بطن، ولا في
جوف، بل في عضلة اليد، أو الفخذ، أو الظهر، أو الكتف، فينبت فيه دود بسبب
لحم الخنزير، ولا يخرج إلا بمشقة.
وقال أبو حيان في تفسيره: إن من طبيعة الخنزير عدم الغيرة على أنثاه، ومن
يكثر من أكله فإنه تنتقل إليه تلك الغريزة، ويقول: وقد شاهدنا في بلادنا
-وهو أندلسي- أن من يكثر من أكل الخنزير فإنه يكون فاقد الغيرة على نسائه.
وأي حياة لإنسان فاقد الغيرة؟! ونجد أن الإسلام حرم الخنزير، وهكذا حرم
الحمر الأهلية، وأوجب الوضوء من أكل لحم الإبل، وغير ذلك.
إن العالم الإسلامي مطالب بإبراز تلك المعجزات المدخرة للأمة، وكل واحدة
منها لا أقول: يشهد لها الأعداء؛ بل يقرون بها بسبب ما توسعوا فيه من
العلم، وكذلك المستشرقون، والمستغربون من المشرق، فهم يؤمنون بالعلم وتجارب
المعمل ولا يؤمنون بالوحي، ويقولون: هذا أمر نظري، وهذا أمر عملي يا سبحان
الله! النظر إذا كان صادراً عن الوحي الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى
فهو حق، فكيف يطلبون عليه تجربة؟ لا والله! إننا نقيس عقولنا عليه، ولا
نقيسه على عقولنا.
وحديث الذباب مما ينبغي إبراز ما فيه من الإعجاز العلمي، فيخبرنا صلى الله
عليه وسلم أن الذباب يحمل شيئين متضادين، وعنده إدراك يميز به ما فيه من
الداء فيقدمه، وما فيه من الدواء فيؤخره، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم
كيف نتعامل معه، وبالله تعالى التوفيق.
طعن العقلانيين
والمستغربين في حديث الذباب
وأذكر كلمة قالها الدكتور أحمد شاكر - غفر الله له- في تعليقه على هذا
الحديث في مسند أحمد، فقد ذكر أنه ناقش بعض زملائه الدكاترة، وحصلت بينهم
مكاتبات في هذا الحديث، وكان زميله يتكلم بناحية عقلانية، فقال له الشيخ
أحمد شاكر: لسنا بهذا الحديث ندعو إلى التعامل مع الذباب، ولكن الإسلام دين
نقاء ودين طهارة ونزاهة، وينبغي لنا أن نحترز من الذباب، ولكن الحديث علمنا
الحكم فيما لو وقع الذباب، وليس معنى هذا أننا نستجلب الذباب لطعامنا، أو
أننا نترك الأقذار على أبداننا، أو نترك الذباب يسقط على وجوهنا، فالإسلام
أرقى الأديان نظافة، ففيه الوضوء خمس مرات، والغسل عند الجنابة، ويوم
الجمعة، وغير ذلك.
إذاً: ليس الدفاع عن هذا الحديث معناه أننا نتلاءم ونتعاون مع الذباب في
حياتنا، إنما هو دفاع عن السنة النبوية؛ لأننا وجدنا في الوقت الحاضر أن
بعض الأطباء ينكر هذا، وأحدهم نشر ثلاث منشورات -وهي موجودة عندنا- يتهكم
فيها بهذا الأمر، ويستبعده جداً إلى حد بعيد، فإذا كان المثقف والمتعلم
والطبيب يصل إلى هذا الحد، ويضل بعض قاصري العقول، ويشككهم في السنة، فهذا
أمر مشكل.
وكما يقول الشيخ أحمد شاكر: لقد تجرءوا على الصحابة رضوان الله تعالى
عليهم، فالحديث متفق عليه، ولم يجرءوا أن يطعنوا في البخاري ومسلم، ولكن
قالوا: هذا الحديث لعل أبا هريرة قد أخطأ في هذا الحديث! ثم لو جئنا إلى
هذا الحديث فإننا نجد أن أبا هريرة لم ينفرد به، فقد جاء عن أبي سعيد
الخدري، وعن أنس بن مالك، ورواه البيهقي، ورواه ابن خزيمة وغيرهم، فالحديث
من حيث السند من أصح ما يكون، والذين خصوا أبا هريرة بالكلام عليه حسابهم
على الله، وأبو هريرة أضبط الصحابة لحديث رسول الله، وفي ذلك معجزة لرسول
الله، فإنه اشتكى إلى رسول الله أنه ينسى بعض ما يسمع منه، فقال صلى الله
عليه وسلم ذات ليلة: (من أراد أن يحفظ فلا ينسى فليبسط رداءه، فبسط أبو
هريرة رداءه أمامه، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديثه قال:
ضم إليك رداءك، فضم إليه رداءه، فقال: والله ما سمعت حديثاً ونسيته بعد ذلك
أبداً) ، إذاً: عنده تأمين على أحاديثه من رسول الله، ليس من شركات التأمين
الأوروبية، بل تأمين من رسول الله، فهو إذا سمع الحديث حفظه فلا ينساه
بضمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكيف يأتي أشخاص متأخرون يتطاولون على صحابي جليل كـ أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه؟! وهذا الحديث قد أخذ مني وقتاً طويلاً، وسيطر على فكري زمناً
طويلاً، وكتبت عنه في مجلة راية الإسلام -التي كانت تصدر في الرياض- في عام
(1374 أو 1375) هجرية مقالتين: الأولى: في سند الحديث، وصحة الرواية،
والثانية: فيما توصلت إليه، وفيما جمعت من نقول طبية عن المجلة الطبية
البريطانية، ومجلة الأزهر، ومجلات أخرى.
ظهور معجزة للنبي
عليه الصلاة والسلام في حديث الذباب
والقسم الثاني: من المعجزات: ما ادخرها الله سبحانه وتعالى للأمة على مدى
الزمن، فتكشفها الأيام تكشفها المعامل والمختبرات، وتظهر للناس معجزات
جديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها هي إحدى تلك المعجزات تظهر في هذا القرن، فقد استنكر بعض الناس قديماً
وحديثاً هذا الأمر، وقالوا: كيف يحصل للذبابة أن تحمل عنصرين متضادين داء
ودواء؟! وكيف تميز الجناح الذي فيه الداء وتقدمه؟! فاستبعدت عقولهم إمكان
وجود هذا، وعقولهم قاصرة، أما رأوا النحلة يخرج من فمها شفاء للناس،
ومؤخرها فيه سم؟ فإن لدغة سبع نحلات كلدغة العقرب، وهي حشرة واحدة، فالله
خلقها، وألهمها التناسل، وألهمها المبيت، وألهمها الطيران، وألهمها كل شيء،
قال الله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] ، قدر الأشياء، وهدى
المخلوقات إلى ما قدره لها، فالله أحسن كل شيء خلقه ثم هدى، وكل مخلوق أحسن
خلقه ثم هداه لما خلقه إليه، والأمثلة كثيرة جداً: فمن الذي علم النحلة أن
تبني بيتها السداسي بما يعجز عن مثله المهندسون؟ ومن علمها أن تستخلص من
الزهور عسلاً؟ إنه الله الحكيم القدير.
وقد رد بعض الناس قديماً حديث الذباب؛ لأنه لا يستوعب أن فيه داءً ودواءً،
ثم استبعد عقلاً أن الذباب يميز بين الجناح الذي فيه الداء فيقدمه وبين
الذي فيه الداء فيؤخره، ولما أدخلوا العقول غير العاقلة أفسدوا الحديث، ولو
كانت عقولهم نيرة كاملة لما استبعدت ولما استنكرت، وقد كذب الكفار بالإسراء
والمعراج وقالوا: كيف يروح ويجيء في ليلة ونحن نضرب إلى الشام أكباد الإبل
شهراً؟! فمقاييس العقل لا تدخل في المعجزات ولا في الآيات الكونية التي
خلقها الله سبحانه وتعالى.
والآن لما تقدمت الأبحاث ووسائلها، والاكتشافات وآلاتها، حصلت هناك دوافع
لإجراء بحوثات حول هذا الذباب، لا عن طريق حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فهم لا يعلمون به، ولكن على مناهجهم العلمية، وأقدم بحث عن الذباب
اطلعت عليه في سنة (1871م) ، فقد بحث هذا الموضوع مجموعة من الأطباء، اثنان
من إيطاليا، واثنان من ألمانيا، وواحد من بلجيكا، ونشرت بحثهم مجلات عديدة،
منها: المجلة الطبية البريطانية، وغيرها، ونقلته مجلة الأزهر، ومجلة التمدن
الإسلامي، ومجلة حضارة الإسلام السورية، ومجلات كثيرة جداً، وآخر ما وصل
إلينا بحث طبي في جامعة الملك سعود بالرياض، فقد أجريت تحاليل على هذه
الحشرة عملياً، واطلع عليها أخونا الشيخ عبد المجيد الزنداني، ورأى بعينيه
ما فيه من داء، وما فيه من دواء، والصنعاني شارح هذا الكتاب يقول: إن سمّية
الذباب يذهبها الدواء الذي فيه، ويقول العلماء: إن لسعة النحل والزنبور
والعقرب إذا حكت بالذباب زال سمها، وهذا يدل على وجود الدواء في الذباب،
فلو أنك حككت محل لدغة الزنبور أو العقرب بمجموعة من الذباب لكنت قد عالجته
بالدواء الذي فيه، وذهبت آثارها، إذاً: هذه المسألة معروفة من قبل، وزاد من
صحتها التجارب العملية.
وأذكر أن طبيباً مفتشاً في أعمال كيميائية في وزارة الأوقاف بمصر جاء ليحج،
وكنا معاً، وكنا نلتقي به مدة وجوده في المدينة، وكان متطلعاً إلى أحاديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قدمنا رابغ جلسنا نشرب الشاي، والذباب
هناك كثير، فإذا بذبابتين تسقطان في الفنجان، فلما وقع نظره عليهما غمستهما
ونزعتهما ورميتهما؛ فتساءل في دهشة: ما هذا؟! فذكرت له حديث رسول الله،
فقال: وهنا قال رسول الله أيضاً؟! فقلت له: نعم، فضرب كفاً على كف، وقال:
هذا الحديث صحيح! قلت: أنت دكتور معامل وكيميائيات، وما يدريك أنه حديث
صحيح؟! فذكر لي ظروف دراسته أثناء الحرب العالمية الأخيرة، وكان مبتعثاً
للدراسة في ألمانيا، ولما قامت الحرب توقفت وسائل الاتصال، ويذكر لي من
عصاميته أنه انقطعت عنه المصاريف والمواصلات، فكان هو وثلاثة من زملائه
يعملون في المساء في المطابخ، يغسلون الصحون، هو طبيب مبتعث يدرس كيمياء،
فإذا به من أجل أن يكمل دراسته يعمل مساءً في مطبخ لينال أجراً يعيش به
ويكمل دراسته! وما انتهت الحرب إلا وقد انتهى وأخذ شهادته.
فيقول: لقد اطلع على بحث حول هذا الموضوع، وهو أن معركة العلمين كثر فيها
المصابون، فكان المسئولون يبادرون بحمل الجرحى من الضباط إلى المستشفى،
ويبقى الجرحى من الجنود بأرض المعركة، حتى إذا فرغوا من نقل الضباط أخذوا
الجنود، واجتمع الجميع في المستشفيات، واتحد العلاج للجميع، فكانت جراح
الأفراد أسرع شفاءً من جراح الضباط، فلفت هذا النظر، وقالوا: لعل التربة
التي أصيبوا فيها وجاءهم من غبارها فيها مادة تساعد على سرعة برء جراحهم؛
لأنهم مكثوا على التربة مدة أطول من الضباط، فحللوا تلك التربة فلم يجدوا
شيئاً، فقالوا: لعله الذباب الذي سقط عليهم مدة طويلة، فقالوا: الذباب يحمل
الميكروبات، فكيف يؤثر عليهم؟! ومن باب البحث العلمي أخذوا الذباب وحللوه،
فوجدوا فيه هذه المادة، ثم توالت الأبحاث.
والآن يعرف طبياً في العالم -كما قال طبيب ألماني- أن الذبابة تحمل في
ثلثها الأخير أنبوباً مستطيلاً يمتلئ بمادة (بكتريوج) أو (بكترياج) ،
وترجمته: (مبيد البكتيريا) ، وهذا الأنبوب المستطيل مثل حلمة الثدي، يمتلئ
من هذه المادة في جسم الذبابة، فإذا امتلأ وضغط عليها انفجرت فينتثر حولها،
فيقيها من جراثيم الميكروبات التي في القمائم، والقاذورات التي تسقط عليها،
ولا تضرها تلك الجراثيم، فلما بحثوا موضوع الغمس، قال الأطباء المسلمون عن
الغمس: هي إذا امتلأت بطبيعتها تنفجر، لكن إذا سقطت وانغمس الأنبوب إلى
نصفه لم يأت موجب لانفجارها، فإذا غمست في السائل فإن السائل يحدث ضغطاً
عليها فيفجرها، كما تضغط على جلدة قلم الحبر فيخرج الحبر، فكذلك يضغط
السائل على الأنبوب فينفجر، فيخرج ما فيها من الدواء ليقتل ذلك الداء.
وقال لي الطبيب في ذلك المجلس: إذا وقع الذباب فيجب أن تغمسه، سواء أردت أن
تشرب أو لم ترد أن تشرب، فقلت له: إذا كنت لا أريد أن أشرب فلماذا أغمسه؟
قال: لأنه عندما سقط قدم الجناح الذي فيه الداء، فأصبح السائل ملوثاً، فإذا
أرقت السائل قبل غمسه بقي الكأس ملوثاً من أثر السائل، أما إذا غمسته فإن
السائل يتطهر، فإذا أرقت السائل صار جرم الكأس معقماً، ثم لك أن تشرب في
ذلك الكأس.
فقه الحديث ومناسبته
لباب المياه
وهذا الحديث قد أوقف العلماء والأطباء والباحثين مواقف عديدة، ونحن نريد أن
نأخذ الفقه من الحديث، ثم نتناول موضوعه من حيث هو.
فإذا وقع الذباب في أي شراب؛ سواء في الماء، أو في الشاي، أو في الحليب، أو
في المرق؛ فإنك تغمسه، هذه هي السنة، وهذا الإرشاد بين لنا أمراً يتعلق
بالصحة، وهو أن في أحد جناحي الذباب داء، وبين في الرواية الأخرى أن الذباب
يتقي بالجناح الذي فيه الداء، فهو يضع الداء في الشراب أولاً وقاية له،
ومضرة لصاحبه، فبين لنا صلى الله عليه وسلم أن هذا الداء الذي في أحد جناحي
الذباب دواؤه في الجناح الثاني، فهو يحمل الداء والدواء معاً، ثم يقول
العلماء والأطباء: بعد أن تغمسه أنت بالخيار: إن طابت نفسك أن تشرب الشراب
فاشربه، فإنه أصبح مطهراً معقماً، عقم بعضه بعضاً، وإن لم ترد شرابه فإما
أن تريقه أو تتركه، ولكن لا بد من الغمس ولو لم تشربه، وسنذكر سبب ذلك.
وقد أورد المؤلف هذا الحديث هنا لنقطة بسيطة، وهي أن الذباب إذا سقط في
الماء ومات فيه، فهل يسلبه الطهورية أم أنه ما زال الماء طاهراً مطهراً؟
نقول: لو مات الذباب في الماء فإن الماء يبقى على طهوريته، ونتوضأ منه، لكن
الشرب شيء آخر، ومن أين أخذ هذا الاستدلال؟ قالوا: الذباب ضعيف، فإذا غمس
في الشراب فمن المحتمل أن يكون الشراب حاراً، ومن المحتمل أن يغمس مدة
فيموت في حال الغمس، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن غمس الذباب في
الماء سيقضي عليه، وسيموت في الماء، ومع ذلك أمر بنزع الذباب فقط، ويبقى
السائل على طهوريته، ولم يغير ذلك في حكمه، ولو كان الموت يغير في حكم
الماء لبينه لنا صلى الله عليه وسلم.
هذا هو غرض المؤلف من إيراد هذا الحديث في باب المياه.
معجزات النبي صلى
الله عليه وسلم
يبدو لي -والله تعالى أعلم- أن الله سبحانه وتعالى جعل للنبي صلى الله عليه
وسلم المعجزات على قسمين: قسم مشاهد في حال حياته، وقسم مدخر لما بعد موته،
يأتي على مدى تعاقب الأجيال والأزمان، وكلٌ يؤدي عمله، فالمعجزات التي كانت
في حياته صلوات الله وسلامه عليه يشاهدها الصحابة بأعينهم فيزدادون إيماناً
ويقيناً وتصديقاً برسول الله، كما جاء عن العباس رضي الله تعالى عنه أنه
لما أخذ أسيراً في بدر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (افد نفسك وابن
أخيك، فقال: ما عندي شيء يا محمد! فقال: أين المال الذي أعطيته أم الفضل
وقلت لها: إن سلمت في سفري فبها، وإلا فهذا لأولاد فلان؟) فقال: أشهد أن لا
إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما حضرنا أحد، وما كنت إلا أنا وهي!
فتلك النجوى جعلت العباس يشهد الشهادة، ويزداد إيماناً، فإنه قد كان
مسلماً، وكان يريد أن يهاجر، فكتب إليه الرسول أن يبقى في مكة، وكان يراسله
بأحوال المشركين في مكة، وقال له: (كما ختم الله بي النبوة، يختم بك
الهجرة) ، فكان العباس من آخر المهاجرين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قافلين من بعض الغزوات، فعرسوا
ليلاً، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يكلأ لنا الفجر؟) فقال بلال: أنا،
يقول بلال: أنخت راحلتي، واستقبلت الشرق بوجهي، واستندت بظهري إلى الراحلة
أنتظر الفجر حتى يطلع، فما زلت أنتظر الفجر حتى جاء الشيطان، وأخذ يهدهدني
كما تهدهد الأم طفلها، حتى نمت، فما استيقظوا إلا بحر الشمس، وجعل عمر
يقول: الصلاة، ويصيح، والرسول نائم، وما كانوا يجرءون أن يوقظوه من نومه،
مخافة أن يكون، فلما سمع الأصوات استيقظ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام
لـ أبي بكر: (كأني بـ بلال وقد أتاه الشيطان، وأخذ يهدهده كما تهدهد الأم
طفلها حتى نام) ، فجاء بلال فقال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم، أنا واحد
مثلكم، يا رسول الله! أنخت راحلتي، وأخذت أنتظر الفجر بوجهي، فما شعرت إلا
والشيطان يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، فقال أبو بكر الصديق: أشهد
أنك رسول الله! وهو يشهد من قبل، وهو الصديق، لكن ظهور المعجزة تجدد
اليقين.
ولما كانوا في الخندق في شدةٍ وجوع وبرد وخوف، فرأى جابر رضي الله عنه
الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ربط الحجر على بطنه من الجوع، فذهب إلى
أهله، فقال: والله لقد رأيت رسول الله وفي صوته ضعف، وهو عاصب على بطنه
الحجر، قالت: والله ما عندي إلا صاع من شعير، وعندنا العناق، فقال: سأذبح
العناق، وتطحنين الشعير، وتصنعين طعاماً لرسول الله، فذهب جابر وأسر في أذن
رسول الله فقال: عندنا غُديٌّ -ولم يقل: غداء- لك يا رسول الله! فإذا
بالرسول يأمر رجلاً أن يصرخ في الجيش: يا معشر المسلمين! جابر صنع لكم
غداء، فخرج جابر واستحيا، ماذا يفعل؟! وبهت، فذهب الرسول صلى الله عليه
وسلم والمسلمون إلى بيت جابر، فسبق إلى البيت وقال لامرأته: انفضحنا! قالت:
ماذا حدث؟! قال: صرخ في الجيش كله، وجاءك بالناس كلهم! فقالت: الله ورسوله
أعلم، لا عليك.
وهذا من كمال عقلها، فهو الذي دعاهم وسيدبر أمرهم، فأوقفهم على الباب،
وأمرهم أن يدخلوا عشرة عشرة، فشبع الجميع وبقت فضلة، فقال: (لم يبق إلا أنا
وأنت، كل، وائمر امرأتك أن تأكل، وأن تقسم على جيرانها، فإن بالناس حاجة) .
وهكذا قضية المزادة، ومعجزة حفنة التمر التي وضعها على الرداء فتكاثر حتى
تساقط من الرداء، وأكل منه الجيش كله، وهذه المعجزات غالباً تكون في وقت
الشدة، وفي عام الحديبية عندما نزلوا في أرض الحديبية وجدوا بئرها جافة،
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بسهم من كنانته وقال: (انزل واغرسه
في قاع البئر) ، فجاش الماء حتى إن الرجل أدرك نفسه حتى لا يغرق، فظلوا
ومدة مقامهم وهم يشربون ويتوضئون من هذه البئر، وفي تبوك قال صلى الله عليه
وسلم: (لا يقربن أحد العين قبل أن أصل إليها) ، وكان من أمرها أن جرت
بالماء.
ففي حالات الشدة تأتي المعجزة لتجدد للصحابة رضي الله تعالى عنهم اليقين،
فمثلاً: كان الصحابة في غزوة الخندق قد بلغت قلوبهم الحناجر من شدة الخوف،
فحينما تأتيهم معجزة مثل هذه يطمئنوا، كأن يكثر التمر، أو يكثر الطعام، أو
يكسر الكدية، وهي صخرة عظيمة عجزوا عنها، فتوضأ صلى الله عليه وسلم ونضحها
بماء وضوئه، وضربها ثلاث ضربات حتى تفتتت، فكانوا في خوف وفي شدة فتأتي
المعجزة فتذهب أثر هذا الخوف، وتورث الطمأنينة.
شرح حديث: (ما قطع
من البهيمة وهي حية فهو ميت)
قال رحمه الله: [وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) أخرجه أبو داود والترمذي]
.
هذا الحديث ختام هذا الباب المبارك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع
من البهيمة وهي حية فهو ميت) ، وفي بعض الروايات: (ما قطع من حي فهو ميت) ،
وفي رواية: (ما قطع من حي فهو كميتته) ، وهذه أعم.
قوله: (ما قطع) أي: فصل، كفصل اليد، أو الرجل، أو الأذن، أو أي عضو انفصل
من بهيمة فحكمه حكم ميتته، فإن كانت ميتتها حراماً فهو حرام، وإن كانت
حلالاً فهو حلال، فمثلاً: صياد السمك إذا أمسك طرف الحوت وقطع منه قطعة،
ففلت، فهذا قطع من حي، لكنه حلال؛ لأن ميتة السمك حلال.
سبب هذا الحديث
ومناسبته لباب المياه
يقول العلماء: إن الحديث الذي له سبب، فصورة السبب قطعية الدخول، ولكن
العبرة بعموم اللفظ، وسبب ورود هذا الحديث: أنهم في الجاهلية في وقت الشدة،
كان يأتي أحدهم إلى سنام البعير، فيقطع الجلد ويأخذ من تحت جلد السنام
الشحم، أو يقطع إلية الضأن ويأخذ منها الشحم ويرد عليها الجلد، والسنام
يبرأ ويرجع الشحم فيه على ما كان عليه، وكذلك شحم إلية الضأن، وكانوا
يفصدون الدم من الحيوان ويشربونه، وقد يضعونه في مصارين الشاة ويشوونه، أو
يصبونه على الرماد الحار فيجمد فيأكلونه، وفصد الدم باقٍ في أفريقيا إلى
الآن عند الوثنيين.
فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن هذه الأعمال التي فيها تعذيب للحيوان، وجعل
هذا الذي أخذ من الحيوان وهو حي حكمه حكم الميتة، والميتة محرمة.
ومناسبة هذا الحديث لباب المياه: أنه لو سقط ذلك المقطوع من الحيوان في
الماء فكأنما سقط فيه نجس، سوا غيّره أو لم يغيره، وسنرجع إلى قاعدة الماء
القليل سواء تغير أو لم يتغير.
الحكمة من تحريم ما
قطع من البهيمة
وهنا وقفة: البهيمة إذا ماتت حرمت، وسبب تحريم الميتة احتباس الدم فيها،
وما فيه من ثاني أكسيد الكربون الذي لم يتخلص منه، فإذا قيل: فكيف يحرم هذا
العضو؟ فنقول: كل علة في التشريع لها سببان: سبب لحق الله، وسبب لحق
المخلوق، أي: سبب راجع لحق الله، وسبب راجع لمصلحتنا، فهذه الميتة حرمت
علينا، وعلة والقضية العامة في حكمة التحريم تشمل جانبين: الجانب الأول: أن
الله نهى عنها، فمن أكلها فقد تعدى النهي، وانتهك حرمة أوامر الله ونواهيه؛
لأن الواجب امتثال الأمر واجتناب النهي.
الجانب الثاني: إذا وجدت الله ينهاك عن شيء فثق وتأكد -وأنت مغمض العينين-
بأن وراءه حكمة تنفعك وتعود عليك في دينك وفي بدنك وفي أخلاقك، وفي أي جانب
من الجوانب، سواء أدركت ذلك أو لم تدركه، وبالتتبع والاستقصاء وجدنا أنها
كلها مدركة.
فالله سبحانه وتعالى قد قال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] ، فنهى أن نأكل مما لم يذكر اسم الله
عليه، فلو جاء رجل وثني بسيف حاد ونحر الناقة أمامك، وخرج دمها كله، لكنه
قال: باسم العزى، أو باسم اللات، أو باسم الصنم، فإن ثاني أكسيد الكربون
الموجود في الدم قد انتهى، لكن بقي حق الله؛ لأن الذي خلق هذه الدابة هو
الله، وهو الذي أنزل إليها الماء وأنبت لها الأرض، وهو الذي كونها وجعلها
تنمو من هذا النبات، وهو الذي سخرها لنا، فإن البعير قوته تعادل عشرين أو
ثلاثين رجلاً، وإذا بطفل صغير يضربه بالعصا ويقوده، فمن الذي سخر لنا هذه
الدابة؟ إنه الله.
وبعد هذا كله، وبكل وقاحة، وبكل جرأة يقول: باسم اللات والعزى! فهل خلقه
اللات أو العزى أو رزقه أو أحياه أو سخره له؟! ليس له أي علاقة، فهذا ظلم
وتعدي.
إذاً: علة التحريم هنا موجودة.
فإذا قطع شيء من بهيمة فهو -أولاً- اعتداء على البهيمة.
والعلة الثانية: احتباس الدم في ذلك العضو، فإنه لم يتخلص منه، وأنت تجد
عند الذبح أن الدم يجري؛ لأن القلب يضخ الدم فيخرج من هذا المنفذ، أما
الجزء الذي قطع فالدم قد جمد في عروقه؛ لأنه ليس هناك ما يحركه، فيبقى الدم
محبوساً بقسميه الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، ويكونان في هذه القطعة التي
قطعت، ففيها مضرة عليك، ولهذا جاءت القاعدة عامة: ما قطع من بهيمة فهو
كميتته، أو ما قطع من حي فهو ميت.
حكم العظم والشعر
والصوف المقطوع من البهيمة
يذكر الأصوليون أن قوله: (ما قطع) من صيغ العموم، وقالوا: إن القرآن خصص
عموم السنة، فالشعر والصوف والوبر قطع من حي، فهو ميت، ويجوز استعماله،
إذاً: ما أبين من حي فهو ميت ما عدا الشعر والصوف والوبر، وهذا نص الله
تعالى عليه في قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا
يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}
[النحل:80] ، فالقرآن خصص السنة.
وهنا مبحث فقهي وأعتقد أنه من المضايق، وهو مسألة: الأعضاء التي لا تسري
فيها الحياة، قالوا: إن الشعر والصوف والوبر لا تسري فيها الحياة؛ لأنك لو
قصصته وقطعته فلا تتألم ولا تحس؛ لأن عصب الإحساس مفقود، لكنه في الجلد
موجود، وطرف السن من أعلى لو وخزنة بالدبوس فلن تحس، لكن العصب داخل اللثة
موجود، فما لم تسر فيه الحياة هل يدخل تحت هذا الحديث.
قال الجمهور: إنه لا يأخذ حكم ما قطع؛ بدلالة أنه لم تسر فيه الحياة.
لكن يرد عليهم أنه ينمو ويزيد، فكيف قالوا هذا؟ قالوا: النمو يكون من
حويصلة الشعر داخل الجلد، وليس من طرف الشعر، فلو أخذت شعرة طولها (2سم)
وعلّمت في وسطها بلون أبيض، فإذا صار طولها (4سم) ستجد أن العلامة قد
ارتفعت إلى أعلى، وليس الجزء الأعلى هو الذي طال، فالنمو ليس من الطرف، بل
النمو من أسفل.
إذاً: الإحساس في حويصلات الشعر يكون من أسفل، ولهذا لو قلعتها فإنك تحس
بالألم، أما إذا قصصتها أو حرقتها بالنار فلا تحس بشيء، وقاسوا على هذا كل
عضو لا تسري فيه الحياة، وقالوا: يجوز الانتفاع به ولو أبين من الحي، وذلك
مثل ناب الفيل (العاج) فإنه يتخذ منه أمشاط للنساء، ويتخذ منه أدوات زينة،
ونحو ذلك، وكذلك أظلاف الحيوانات يتخذون منها مادة الغراء للخشب، وهكذا
قرون الحيوانات يتخذون منها مقابض للسلاح أو للسكاكين أو غير ذلك، فهل هذه
العظام داخلة في قوله: (ما أبين من حي فهو كميتته) أم أنها خارجة عنه؟
الجمهور على أنها خارجة عنه، وذهب الإمام ابن تيمية في المجموع إلى خطوة
أوسع، فرجح أن العظام طاهرة حتى التي تكون في الميتة، ونجاسة الميتة لا
تؤثر في عظم جاف جامد لا تسري فيه الحياة، فلا تتنجس العظام بالموت.
ومسألة: سن الفيل -الذي هو العاج المستعمل الآن- يختلف فيه الناس،
والتحقيق: أنه يجوز استعماله؛ لأنه لا تسري فيه الحياة، فهو بمثابة الظفر
والشعر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
|