شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الطهارة - باب الآنية [1]
لقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لا لعلة النجاسة، ولكن لما تبعث في النفس من العلو والفخر، وتغير من خلق التواضع إلى الكبر والاحتقار، ولأنها من عادات الكفار وأخلاقهم، ومن تنعم بها في الدنيا حرمها في الآخرة.


شرح حديث: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: يقول المؤلف رحمه الله: [عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه] .
لما قدم المؤلف رحمه الله تعالى ما قدمه من أخبار وآثار فيما يتعلق بالمياه تحت عنوان كتاب الطهارة، جاء وعقد هذا الباب (باب الآنية) ، والمياه باب من أبواب الطهارة، والآنية باب من أبواب الطهارة، وعلاقة باب الآنية بباب المياه أن الماء لابد له من إناء يوضع فيه، ثم يستعمل هذا الماء من هذا الإناء، والترتيب الطبيعي أن يأتي بأحكام الأواني هنا.
والآنية: جمع إناء، وقد يجمع على (أوانٍ) فالآنية: جمعٌ للإناء، والإناء هو ما يوضع فيه الشيء السائل، وما يوضع فيه الشيء الجاف يقال له: ظرف أو كيس أو نحو ذلك.
جعل المؤلف رحمه الله تعالى باب الآنية عقب باب المياه، وقبل إزالة النجاسة، وقبل الوضوء والغسل وما والاهما، وبدأ هذا الباب بالحديث الأول: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه.
(فإنها لهم) الضمير في (لهم) وإن لم يأتِ له مرجع فهو معروف بالمقابلة: (لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) ، والناس في الدنيا قسمان: مؤمن وكافر، إذاً: (لهم) قسيم (لكم) ، فيكون (لهم) هنا المراد بها الكفار، وموضوع آنية الذهب والفضة قسيم لموضوع الحرير، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أخذ الحرير والذهب وقال: (الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، وحلال لإناثهم) ، فهذا العموم يحل ويبيح الحرير للنساء، وبالإجماع يجوز أن تستعمله المرأة لباسًا أو فراشًا وعلى أية حال من أحوال استعمال الثياب، ولا يجوز للرجل من الحرير إلا ما استثني، كما تقدم في جيوب القميص، أو عند الضرورة للحكة، أو في ميادين القتال، وهذه أمور اضطرارية أو تدعو إليها الحاجة، فيباح الحرير للرجال بقدرٍ معين للضرورة أو الحاجة.
وعموم (الذهب حلال لإناث أمتي) هذا الحديث يخصصه؛ لأن للمرأة أن تستعمل الذهب حلياً كما تتحلى النساء، أما أن تستعمله آنية فهذا لا يجوز، فالنهي عن استعمال آنية الذهب والفضة عامٌ للرجال والنساء، وهو مخصصٌ لعموم إباحة الذهب للنساء.
والمؤلف رحمه الله تعالى سيتكلم على أواني الذهب والفضة، والأواني من الجلود، وعموم أواني أهل الكتاب.
فالحديث الأول: فيه النهي عن استعمال آنية الفضة لشراب وأكل، والعلماء رحمهم الله أخذوا نص الأكل والشرب، وألحقوا به بقية الاستعمالات، فلا يجوز للمرأة أن تتخذ لها أواني ذهب وفضة زينة كالمكحلة، أو فنجان، أو صحن، أو مرآة تغلفها بالذهب، وأي استعمال سوى حلي الزينة فهي ممنوعة منها.
وهنا يرد سؤال: ما هي علة تحريم استعمال الذهب والفضة؟ سيأتي الحديث بعد ذلك يبين الأمر المترتب على استعماله، ومن العلماء من ناقش في تحريم بقية الاستعمالات سوى الأكل والشرب كالشارح رحمه الله، وكذا الشوكاني وغيرهما، ولكن الجمهور على عموم تحريم استعمال أواني وآلات الذهب والفضة على الرجل والمرأة، فيحرم على الرجل أن يتخذ قلماً من ذهب أو فضة، أو حقيبة من ذهب أو فضة، أو أي شيء مما قد يتخذه الناس من الذهب والفضة.
وابن دقيق العيد يقول: إن بعض العلماء قاسوا بقية الاستعمالات في بقية النواحي الأخرى على الأكل والشرب، ولكن المتأمل يقول: ليست المسألة قياسية، ولكنها نصٌ تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فإنها -أي: آنية الفضة وآنية الذهب- لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) ، فإذا كان استعمال الفضة لهم في الدنيا فإنه سيكون ممنوعاً على غيرهم في الدنيا -أي من المسلمين-؛ لأنها للمسلمين في الآخرة وليست للكفار.
قوله: (لا تشربوا) هذا نص في الشرب في آنية الذهب والفضة، ثم جاء نص في الأكل فقال: (ولا تأكلوا في صحافهما) .
وما الفرق بين الآنية والقدح والكأس والصحفة؟ الصحفة منبسطة مثل الصحن، ويقال: إن الصحفة يوضع فيها طعام يكفي لخمسة أشخاص، والجفنة: ما يوضع فيها طعام يكفي لعشرة أشخاص، وقد يكون هناك أوان أخرى تستعمل للماء الكثير أو للعجين.
الذي يهمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة بأية حالة كانت: ملعقة، كأس، (زِبْدية) ، قدر أي نوع من الأنواع لا ينبغي أن يشرب فيه إذا كان ذهباً أو فضة.
(ولا تأكلوا) أياً كان نوع الطعام: إدامًا، أو مكسرات، أو نواشف، أو فاكهة، فلا ينبغي أن يكون في آنية الذهب والفضة.
نص الحديث على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال الآخرون: يلحق بالأكل والشرب عموم الاستعمالات، وهذا ليس قياساً، ولكنه تنبيه بالأعم على الأخص؛ لأن أكثر استعمالات الناس للأواني لأجل الأكل والشرب، فإذا نهى عن استعمالها في الأكل والشرب وهو العام؛ فيكون ما سوى ذلك أقل منه، وهو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، يعني: (الأعلى) كثرة الاستعمال و (الأدنى) الذي هو قلة الاستعمال.
(فإنها لهم في الدنيا) يقول بعض العلماء: ليس إلحاق بقية الاستعمالات قياساً على الأكل والشرب، ولكن بدلالة (فإنها) أي: الذهب والفضة، ما قال: (فإنهما) ، أو قال: فإنه، فلو جاء الضمير مذكراً لعاد على الذهب، ولو جاء مثنى لعاد على الذهب والفضة، ولكنه قال: (فإنها) ، فهل هذا الضمير المؤنث خاص بالفضة أو أنه عائد على الآنية من حيث هي؟ نجد في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ثم قال: {وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:34] فالضمير رجع على أحد المذكورين وهو الفضة، ورجع على أدنى الصنفين بضمير المفرد المؤنث، وهو عائد على الفضة قطعاً، فيقول العلماء: لما كان النهي عن عدم إنفاق الجنسين، وكانت الفضة أقل الجنسين، جاء الضمير على الأدنى: (ولا ينفقونها) ثم قوله: (فبشرهم) يترتب على عدم إنفاق الفضة وهي الأدنى، فيكون عدم إنفاق الأعلى -وهو الذهب- داخلاً من باب أولى، وكذلك هنا (فإنها) أي: الفضة، (لهم) ، وبالتالي الذهب من باب أولى.


علة تحريم استعمال الذهب والفضة
هل النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لعين الذهب والفضة؟ وكما يقول الأصوليون: هل العلة ذاتية أو عرضية؟ بمعنى: هل العلة في النهي لعين الذهب والفضة أو لوصف زائد عن الذهب والفضة؟ من قال: النهي لعين الذهب والفضة قال: لناحية بعيدة جداً ولها أثر، وهي: لو أن العالم الآن يتعامل بالذهب والفضة نقداً كما كان في السابق، وصار كل من يسر الله عليه أخذ الذهب وسبك منه أواني، وتحوّل الذهب الذي هو النقد السيّال -قيمة المبيعات- إلى أوانيَ في البيوت، فهل يبقى في أيدي الناس من المال والسيولة ما يدير الاتصال بين الناس؟ لا، تتعطل أداة الثمن والتثمين، والبيع والشراء، وتحجز أواني في بيوت الناس! فبعض العلماء يقول: العلة في النهي ذاتية لئلا يحتكر الناس الذهب والفضة، ويحتجزوا عين الأثمان؛ فتتعطل المثمنات لعدم وجود النقد من الذهب الذي تحول إلى أواني في البيوت.
وبعضهم يقول: لا، العلة عرضية.
ونجد في بعض البلدان حلي النساء بالأطنان مكدساً، وقيل: إن غاندي عندما كان يفاوض بريطانيا في الاستقلال، ذهب إليهم بِعَنْزِه، يحلبها ويشرب لبنها وسط البرلمان، ويأتون له بطعام ويقول: لا؛ أنا طعامي معي، فلما قالوا له: نمنع عنك الإعانة والميزانية قال: إن بالهند من حلي النساء ما يكفي ميزانية الهند خمسين عاماً، وكانت الهند أكثر دول العالم اهتماماً بمصاغ النساء، ويخبرني بعض الإخوان أنه ربما كان عند المرأة الهندية ما يزيد عن العشرين كيلو ذهباً مصاغاً لها، وربما غطاها من شعرها إلى ظفرها.
أليست هذه الأشياء كثيرة محتجزة؟! ونجد في كتاب الأموال لـ أبي عبيد: أن بعض السلف نهى أن تزيد المرأة عن أربعة دراهم من الحلي، وعن كذا أو كذا، والراجح أن هذا لا تحديد فيه؛ لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] على الإطلاق دون ما تحديد لكثير ولا لقليل، ولكن لا ينبغي أن يصل إلى حد الإسراف والتبذير.
والآخرون يقولون: لا إسراف ولا تبذير؛ هذا مال محفوظ، وليس بضائع.
والذين يقولون: العلة عرضية، قالوا: الذهب والفضة هما المعدنان النفيسان اللذان يعرفهما الغني والفقير والصغير والكبير، فإذا رأى الفقير الغني يأكل ويشرب في صحاف الذهب والفضة، وهو لا يجد آنية الفخار يشرب فيها؛ ماذا تكون نفسيته؟ سيكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء بمظاهر استعمال الأغنياء.
وهناك علة أخرى: يقال: لو رجعنا إلى أصل التحليل والتحريم: فالحرير والذهب حرام على الرجال حل للنساء، فإن كان كذلك فلماذا حرم الحرير على الرجال مع أنه ناعم ولطيف ومريح للبدن و؟ يقول العلماء: إن الليونة الزائدة في اللباس تضعف خشونة الرجولة، ويميل الرجل إلى الدعة؛ لأنه مترف منعم، فهذا يوسف بن تاشفين ذهب إلى الأندلس ناصراً لأحد ملوكها هناك، ولما انقضت المعركة وانتصروا طلب منه الملك أن ينتظر ويستريح بجنوده عدة أيام، فقال: لا، لا أستطيع أن أبقي الجند الذي عاش في الصحراء على شظف العيش والخشونة أن يعيش هنا، فإنه يترهل ويتنعم وتلين قناته، ولا يكون في القوة كما لو كان في مكانه هناك.
إذاً: حرم الحرير على الرجال إبقاءً للرجولة، وإبقاءً للصلابة والقوة، وهو مناسب للنساء؛ لأن النساء كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول ما عليهن من المشقة شيء، فيمكن أن يقول قائل: استعمال آنية الذهب يجعل في قلب الإنسان نوعاً من التعالي أو البطر أو الطغيان أو الكبرياء أو أو أو إلخ، فإنها تجعل في النفس شيئاً من الأبهة أو الظهور أو الركون إلى الدنيا ومتعتها، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:33-35] .
وهنا يصرح صلى الله عليه وآله وسلم بحقيقة العلة بقوله: (فإنها لهم) ؛ لأنهم اشتروا الدنيا بالآخرة، واستمتعوا بها، فاستحقوا ألا يكون لهم خلاق ولا نصيب في الآخرة، والمسلم يترفع عن ذلك، ويزهد فيه؛ لما يكون له في الآخرة من حظٍ وافر.
ويوجد أواني مرصعة بالأحجار الكريمة، كأن يكون إناء من الزجاج أو من الخزف (الصيني) أو من الفخار أو من الخشب ويرصع بأحجار كريمة، وقد يزيد ثمن الفص الواحد منها في الثمن عن كيلو من الذهب، مثل الزمرد أو الماس، فالجرام منه يساوي عشرات الجرامات من الذهب، فلو جاء إنسان ورصع القدح الذي يشرب فيه بشيءٍ من تلك الأحجار؛ فهل يدخل في النهي -من باب أولى- لارتفاع قيمته أو لا يدخل في ذلك؟ الجمهور على أنه لا يدخل في النهي، إنما يمنع من باب الترف والتبذير وإهدار الأموال؛ لأنه جعله في قدح، وكان من الممكن أن يجعله في بناء عمارة أو في مصالح عامة إلخ.
وقالوا: 90% من الفقراء لا يفرقون بين الماس وزجاج الكرستال، ولا بين الأحجار الكريمة وغيرها، ولا بين المصنوع وبين المطبوع، ولا بين الشيء الطبيعي والصناعي، أكثر الناس لا يفرق بين هذه الأشياء، فلا يؤدي وجود هذه الأحجار الكريمة إلى كسر قلوب الفقراء؛ لأنها ليست عندهم كالذهب والفضة، فالذهب والفضة يعرفه الجميع، ويعرفون قيمته وتأثيره، لكن تلك الأحجار لا يعرفون عنها شيئاً، فلا تدخل الانكسار على قلوبهم، وليست من أثمان المبيعات حتى يقال: إنها معطلة.
يوجد الآن -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تمثال لبوذا وزنه أكثر من عشرة إلى خمسة عشر كيلو من فصوص الفيروز، وجميعها قطعة واحدة لا نظير لها في العالم، لكنهم بوذيون لا دين لهم، ولا نقول: إنه معطل؛ لأنه يجلب لهم من السواح أكثر من قيمته.
إذاً: يحرم استعمال آنية الذهب والفضة، والنص على تحريم الأكل والشرب، والقرينة والإيماء والتنبيه تدل على عموم تحريم الاستعمال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) .


شرح حديث: (الذي يشرب في إناء الفضة ... )
قال رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) متفق عليه] .
بعد مجيء النهي: (لا تشربوا) ، (لا تأكلوا) وهذا النهي يقتضي التحريم، ولكن لما كان النهي أحياناً يحمل على الكراهة، أي: من باب الزهد في الدنيا، كما نجد بعض الناس ربما كره أن يشرب الماء في الزجاج النقي، ويقول: هذه رفاهية، وهذا تنعم أكثر من اللازم.
في ذات يوم كنت في الدار البيضاء -في رحلة من الرحلات- وكان معنا بعض المشايخ جزاهم الله خيراً، فصنع شخص لنا الشاي، وقدمه في كأس طوله حوالى (9سم) ، وحافته -سمكه- حوالى (5سم) ، وسمك القاعدة حوالى (3سم) ، ترفعه كأنك ترفع الرصاص، فقلت: يا فلان! ما هذه (القزايز) ؟ فضحك، وقال: هل تدري كم قيمة هذا الكأس؟ قلت: لا، قال: قيمته ستمائة دولار أمريكياً! ولا يوجد هذا إلا في ألمانيا، وليس عندي منه إلا أربع حبات! قلت: يا أخي! حرام عليك، كأس بريال يغني عن هذا، قال: هذه عادات وتقاليد؛ فهذه النواحي من باب الترف والزيادة في المتعة، ومن باب الحفاوة بأشياء معينة، لكن لا تدخل في التحريم، فبعض الناس يكره الغلو في تلك الأواني المباحة.
ولما كان النهي محتملاً للتحريم أو الكراهة؛ جاء المؤلف بالنهي المقتضي للتحريم، ليقضي على احتمال الكراهة، فجاء بالحديث الثاني الذي يدل على أمرين: على أن النهي للتحريم.
وعلى جزاء وعقوبة من يرتكب هذا النهي.
فأتى بحديث: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، هذا في الفضة والذهب من باب أولى.
قوله: (إنما يجرجر) : يقولون: إن اللغة العربية فيها دلالات ذاتية في النطق، فمن تأملها يجد بعض الكلمات تدل على معناها بطريقة نطقها، فأنت إذا سمعت تسمية بعض المصادر، مثل: صلصلة الجرس، (صل، صل، صل) ، كأنك تحكي صوت الجرس، حينما تقول: زقزقة العصافير، لو قلتها مرتين كأن عصفوراً يزقزق هناك، خرير المياه، الغليان، الجريان، غليان: تدل على حركة الماء، جريان: تدل على حركة الذي يجري، فهذه يسمونها دلالة ذاتية.
و (يجرجر) : تدل على أداء متتابع، وحركة متوالية، والجرجرة: هي صوت الماء في حلق الإنسان، وأصلها للبعير حينما يشرب، يسمع له صوت عند الشرب.
وقوله في هذا الحديث: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نارَُ) ، جاء الحديث بروايتين: رواية بنصب (نارَ) ، ورواية برفع (نارُ) ، وعلى كلتا الحركتين يختلف المعنى، فيجرجر في بطنه نارَ، جعل الماء الذي يشربه ناراً، وفاعل الجرجرة الشارب، فكأنه عمد إلى نار مذابة وصبها في آنية الفضة وشربها، وعلى رواية الرفع: يكون فاعل الجرجرَة هو الشراب الذي يشربه، فبدلاً أن يكون سائغاًً كالماء البارد العذب أو غير ذلك؛ انقلب إلى نار.
لكن: هو يشرب ماءً بارداً مثلجاً فأين النار؟ قالوا: يحتمل أنه من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، أو باعتبار ما سيكون، كما في الآية: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36] ، هو رأى أنه يعصر عنباً، ولكن سيئول إلى أن يكون خمراً، فهذا يجرجر في بطنه هذا الماء الذي سيكون ناراً، أو هو سبب لأن تجرجر النار في بطنه بعد ذلك، وعلى كلا الروايتين فإن في الحديث وعيداً شديداً لمن يشرب في آنية الذهب أو الفضة.


حكم الإناء المطلي أو المموه بالذهب
مسألة المضبب والمطلي، تحت هذا العنوان يبحث الفقهاء -وبالأخص النووي في المجموع شرح المهذب- مسألة مهمة: إذا كان الإناء من فخار أو خشب، ولكن نرى فيه لون الذهب، فهل هذا الإناء الخشبي الذي فيه لون الذهب داخل في هذا النهي أو ليس داخلاً فيه؟ يبين النووي رحمه الله أن الأواني التي ليست ذهباً ولا فضة، ولكن فيها أثر الذهب تنقسم إلى قسمين: قسم يقال عنه: مموه.
وقسم يقال عنه: مطليٌ.
فإناء مطليٌ بذهب، وإناء مموه بذهب، ومموه: مفعل من الماء -يعني: جاء عليه ماء الذهب-، والمطلي: مثل الجدار عندما تبنيه ثم تطليه بجير أو غيره، ففرق بين المموه وبين المطلي، والفرق بينهما يظهر إذا أخذته وعرضته على النار؛ لأننا نعلم أن الذهب معدن يسيل، والنار تذيبه، وكذلك الفضة، فإذا عرضت الإناء الذي من زجاج، أو خزف (صيني) ، أو حديد، أو نحاس للنار؛ فإن أحدثت النار من هذا الذهب سائلاً، وأمكن أن تراه أو تأخذه بالعود فهذا مطليٌ؛ لأننا وجدنا جرم الذهب على جداره تذيبه النار، أو إذا أخذت سكيناً وحككت هذا الإناء، وخرج على حد السكين شيء من مادة الذهب أو الفضة فهذا مطلي، أما إذا عرضته للنار أو حككته بسكين ولم يخرج منه شيء فهذا مموه، وقال: إن المطلي بالذهب حكمه حكم إناء الذهب سواء؛ لأنك استعملت الذهب الذي طلي به هذا الإناء، أما المموه فليس فيه شيء، بل مجرد اللون.
وجاء في أخبار المسجد النبوي الشريف أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لما ولي الإمارة لبني أمية في المدينة؛ وجد في جدار المسجد كتابة بالذهب، وكان الخلفاء من بني أمية من ولي الخلافة يأتي بخطاب يسمى: خطاب الملك، أو العرش، أو سياسة الخليفة، فيكتبه على جدار المسجد النبوي؛ فوجد تلك الخطوط مكتوبة بالذهب، فأراد أن يمحوها فجمع العلماء فقالوا له: انظر أهو مطلي بذهبٍ أو مموه؟ إن كنت ستحصل على مقدار من الذهب من هذا الذي تمحوه فامحهُ، وإن كنت لن تحصل على شيء، ولا يوجد فيه معدن الذهب فاتركه؛ لأنك ستفسده بدون فائدة، وليس فيه معدن الذهب، فجرب فلم يجد شيئاً فتركه.
ومن هنا قالوا: كل ما كان مطلياً بذهب فحكمه حكم الذهب، وما كان مموهاًً فلا، والآن كثيراً جداً من الأواني (الصيني) والفناجين والكاسات نجد على حافة فنجان الشاي منها خطاً أصفر يقال له ماء الذهب، فما كان منه مموهاً فليس داخلاً في هذا الباب، وما كان زيادة على ذلك كأن يكون مطلياً، ويوجد جرم من الذهب فيه، فهو داخل في هذا النهي والتحريم.
وبقي عندنا مسألة المضبب، وستأتي قريباً عند حديث تضبيب قدح النبي صلى الله عليه وسلم.


حكم استعمال الذهب في حالات الضرورة
يجوز استعمال الذهب في حالات الضرورة التي لا يجزئ فيها إلا الذهب، وقد ذكر الفقهاء أنه رخص للرجل وللمرأة من الذهب ما لا يمكن أن يستعيض عنه بغيره، وذكروا ذلك في السن، وفي أرنبة الأنف، وفي الأنملة، فهذه الأمور الثلاثة يتفق الجميع على جواز استعمال البديل من الذهب إذا لم يمكن غيره؛ لأن استعمال السن من النحاس أو من الحديد أو من غيره لا ينفع كما ينفع الذهب، فإن الذهب من طبيعته أنه لا يصدأ، ولهذا أنسب ما يكون في فم الإنسان سن الذهب، وكذلك أرنبة الأنف إذا جدعت، وقد جاء في الآثار أن رجلاً جدعت أنفه، واتخذ محلها فضة فأنتنت؛ فرخص له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الذهب، وكذلك أنملة الأصبع؛ لأنه من كمال زينة الإنسان أو من كمال الانتفاع بها، فرخص للإنسان في حالات الضرورة: السن، وأرنبة الأنف، والأنملة؛ إذا احتاج أن يركبها من الذهب.
ومن العلماء من يقول في الفضة: إنه يجوز الشيء اليسير كالأزرار في الثوب ونحوه، ويروون في ذلك أثراً وهو: (ولكن الفضة فالعبوا بها لعباً) ، ولكن هذا أثر لا يصح عند علماء الحديث، ويعارضه هذا النهي الصحيح المتفق عليه أنه نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن آنية الذهب والفضة.
وكما قال ابن دقيق العيد: ألحقوا بالأكل والشرب بقية الاستعمالات.
أما ما يتعلق بالأواني وتضبيبها فإنه لا يوجد الآن أحد يرقع الأواني، ولا أحد يضببها، بينما كان في زمن مضى أشخاص معينون يرقعون الأواني إذا انكسرت، أو الفنجان، أو الكأس، ويعملون لها ضبة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله عند ذكر حديث انكسار قدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم.


شرح حديث: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة: (أيما إهاب دبغ) ] .
انتهى المؤلف من إيراد ما يتعلق بآنية الذهب والفضة، وانتهينا من الشرح على سبيل الإجمال، وانتقل إلى أواني الجلد، وأواني الجلد المشهور أنها كانت في السابق تستعمل للماء -القربة والمزادة-، ولكن الآن أصبحت تستعمل فيما هو أعم من ذلك، وقد تختفي القربة، ولكن لا تختفي الأنواع الأخرى، فهناك من الأدوات الآن: الحقائب، وبعض الألبسة، والأحذية والكمرات وأشياء عديدة، كما يمكن أن تستعمل الجلود في الفراش والجلود على قسمين: جلود مذكاة.
وجلود ميتة.
فالجلود المذكاة طاهرة بذكاة أصلها، تدبغ وتستعمل بأية حالة من الحالات، وليس فيها بحث عند الفقهاء، وإنما البحث فيما هو ميتة، ومعنى الميتة: ما لم يذكَ كشاة تموت دون أن تذبح، أو البقرة أو الناقة أو أي حيوان، وهذا البحث يتناول جلد مأكول اللحم.
ويلحق به جلد ما لا يؤكل لحمه، وفي هذا الباب يبحث العلماء حكم استعمال جلود الميتة بعد الدبغ، وهل هو جائز أم لا؟ وهل ينفع الدبغ أم لا؟! إذاً: بصفة عامة البحث في الجلود منحصر في الميتة.
والشاة المذكاة وغيرها من الأنعام -أياً كانت- ليس في جلودها بحث؛ لأن جلدها تابع للحمها، وإن أردت أن تأكل الجلد فلك أن تأكله، وإن لم تأكله فلك أن تستعمله.
فبقيت الميتة، وما لا يؤكل لحمه، كما لو جئت إلى أسد وذبحته، وأخذت جلده ودبغته، فهل يدخل معنا أم لا؟ الذي يهمنا ابتداءً أن نُخرج جلود المذكاة -مأكولة اللحم- عن البحث، ونبقى في دائرة جلود الميتة وما يلحقها من غير مأكول اللحم، وأريد بهذا التقسيم ألَّا نتشعب في الموضوع، وقد ذكر الشارح هنا وغيره سبعة مذاهب في هذه المسألة، ولكن لا يهمنا كثرة المذاهب، إنما الذي يهمنا دلالة النصوص التي جاء بها المؤلف، وموقف الأئمة الأربعة منها، والنهاية التي نتوصل إليها.
نأخذ الحديث الأول وهو: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة (أيما إهاب دبغ) .
لاحظوا ترتيب المؤلف الحكيم! (إذا دبغ الإهاب) (أل) هنا للاستغراق، ولم يستثن أي نوع من الإهاب، فدل على عموم الإهاب، وكلمة: (إهاب) كما يقول علماء اللغة: تطلق على الجلد قبل دبغه، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب.
إذاً: (إذا دبغ الإهاب) أي: الذي قبل الدبغ يسمى إهاباً، فإذا دبغ فقد طهر، إذاً: هو قبل الدبغ يكون نجساً، فالكلام -إذاً- في الميتة؛ لأن المذكاة طاهرة بجلدها ولحمها، وقد أخرجناها من قبل.
(إذا دبغ الإهاب فقد طهر) و (أل) هنا -وإن كانت للعموم والاستغراق- خاصة بالميتة بقرينة: (طَهُرَ) ؛ لأنه كان نجساً قبل أن يدبغ.
الرواية الثانية: (أيما إهاب) وهذه صيغة عموم لا تترك شيئاً، فشملت أيضاً: إهاب المذكاة، والميتة، والمأكول وغير المأكول، لكن بالقرينة إذا لم يدبغ فهو نجس.
لصيغة العموم قال الظاهرية وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: أيما -بدون استثناء- إهاب كان نجساً فدبغ فإنه قد طهر، و (أيما) هنا: تشمل الشاة الميتة، والبقرة الميتة، والبعير الميت، والكلب الميت، والخنزير الميت، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أخرج من هذا العموم الخنزير، وقال: أيما إهاب مأكول اللحم أو غير مأكول لعموم (أيما) ، ولماذا أخرج أبو حنيفة الخنزير؟! ولماذا أبو يوسف أدخله مع عموم (أيما) ؟ أبو حنيفة رحمه الله قال: هناك نص أقوى من هذا، وهو قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْس} [الأنعام:145] والرجس: النجس، فيقول: إذا كان الخنزير في حياته رجساًً فكيف إذا مات، أو إذا ذبحناه وأخذنا جلده؟! وكيف الدباغ يطهر الجلد وهو في حال حياته نجس؟! والحياة سبب الطهارة كما يقول مالك: الحياة سبب الطهارة، والموت سبب النجاسة.
فـ أبو حنيفة يقول: الخنزير -وهو حيٌ على قوائمه- رجس، فكيف يقال: إن الدباغ يطهر جلده؟ جاء أبو يوسف ومن قال بالعموم فقالوا: الخنزير لا جلد له، ولكن التحقيق أنه ما من حيوان إلا وله جلد، لكن الكفار -عافانا الله وإياكم- إذا ذبحوه، أزالوا الشعر وأخذوا الجلد مع اللحم.
والكلام في الجلد، وأنتم تعرفون لحم الرأس فيه شعر، ومن الناس من ينظف الشعر، ويأكل الجلد مع الرأس، إذاً: هل للخنزير جلدٌ أم لا؟ التحقيق أن له جلداً.
إذاً: قوله في هذا النص: (أيما) ، أخذ بهذا العموم الظاهرية، ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، والإمام بنفسه أخرج الخنزير بنص آخر لا بهذا النص، ويقول: هذا النص يشمله، ولكن القرآن يخرجه؛ لأنه وصفه حال الحياة بأنه رجس.
قال رحمه الله: [وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دباغ جلود الميتة طهورها) صححه ابن حبان] .
قوله: (أيما إهاب دبغ) ، وقوله: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) فيبقى الإهاب على عمومه، ويحمل ويقيد الحديث بقيد الميتة، وهذا الذي عنيناه في أول البحث، والله تعالى أعلم.


كتاب الطهارة - باب الآنية [2]
الشريعة تدعو إلى التكافل الاجتماعي، والانتفاع بكل شيء وإن صغر في أعيننا كالانتفاع من الشاة الميتة بأخذ جلدها ودبغه، وإنما ميز هذه الأمة على سائر الأمم تمسكها بتعاليم دينها الربانية، ويقينها بأن ما شرعه الله هو خير لها، وأن ما عند غيرها هو شر لا ينبغي الإعجاب به، والحرص عليه.


شرح حديث: (يطهرها الماء والقرض)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [وعن ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ) أخرجه أبو داود والنسائي] .
حديث شاة ميمونة فيه مباحث متعددة: وجاءت الروايات: (أن شاة لـ ميمونة) ، (شاة لبعض زوجاته) ، (شاةً ماتت) ، (مر بشاة يجرونها) إلخ، والظاهر أنها لـ ميمونة رضي الله تعالى عنها، وفي بعض النصوص أن الشاة اسمها فلانة، وذكر لها اسماً، وهذا كان معهوداً عند أصحاب المدينة حتى اليوم، قل أن تجد بيتاً إلا وفيه غنمة أو غنمتين، وكان أهل البيوت يطلقون أسماءً على الأغنام، بحيث لو نادت صاحبة البيت الغنمة وهي في الشارع، جاءتها فحلبتها أو أطعمتها وسقتها، بل أغرب من هذا كنا نلاحظ أن المرأة في البيت تصفق، فإذا غنمتها تعرف صفقتها فتأتي إليها، وكان هذا موجوداً.
نشرح الحديث كلمة كلمة: قوله: (شاةً) الشاة: هي أنثى الضأن، من: الغنم.
(ماتت) : أي: لم تدرَك فتذكى، فهي ميتة، وهناك عموم: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3] ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رآهم يجرونها، فقال: (هلا) ، وهلا: تستعمل للحض، فتقول مثلاً: هلا فعلت كذا هلا قلت كذا وهو حض على الفعل.
(هلا أخذتم إهابها) الإهاب هو: الجلد قبل الدبغ، وهو عام في كل جلد لم يدبغ، وادعى البعض بأن كلمة (إهاب) خاصة بالجلد قبل الدبغ لمأكول اللحم، ولكن علماء اللغة يردون هذا التخصيص ويقولون: بل هو عام في كل جلد قبل أن يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب.
(هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، أخذ بعض العلماء -غير الأئمة الأربعة- من هذا جواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم تدبغ؛ لأنه قال: (فانتفعتم به) ، ولكن الرواية تؤخذ بكاملها، فكونهم أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: إنها ميتة، وقولهم هذا يستدل منه أنهم رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم الميتة للمسك -الجلد-، والميتة تنجس بالموت، فيحرم لحمها، وإذا وقعت في الماء نجسته، فلحم الميتة نجس: مأكولة أو غير مأكولة، حتى غير المأكول لو ذكي فهو نجس، فأخذوا من الحديث نجاسة الميتة، وسحبوا الحكم على جلدها لأنه جزء منها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الاستنتاج، وأيضاً قولهم: إنها ميتة، يدل بدلالة الالتزام بأنه نجس؛ لأن الميتة نجسة، وجلد الميتة جزء منها فهو نجس، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل أنه أرشدهم إلى ما يطهر نجاسة الجلد، فقال: (يطهره) ولم يقل: يبيحه أو يحله، وفي بعض الروايات: (إنكم لم تأكلوا لحمها، ولم تأكلوا الجلد) ، لكن تهمنا الرواية المشهورة التي عندنا، وكونهم فهموا من الميتة نجاستها، وألحقوا الجلد بالشاة، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذا الاستنتاج، وأفتاهم بمقتضى ما فهموا، وكأنهم قالوا: ما الذي يطهر هذه النجاسة؟ فقال: (يطهره الماء والقرظ) ، والماء والقرظ يحصل بهما الدباغ، ولو حصل الدباغ بغير هذين فلا مانع، وليست الطهارة في الجلد -الإهاب- مقصورة على الماء والقرظ، بل كل دباغ مطهر لقوله: (أيما إهاب دبغ) ، وقوله: (دباغ جلود الميتة طهورها) ، لكنه هنا ذكر صنفاً من أصناف المواد المستخدمة في الدباغ التي تطهر الجلد.
وقوله: (يطهره) أي: من النجاسة، (الماء والقرظ) وعلى هذا -من ناحية الفقه- أخذ بعض العلماء: أن الشاة الأصل فيها أنها مأكولة اللحم، ولما كانت ميتة، وتنجس الجلد بموتها، وجاء القرظ والماء يطهر الجلد، قالوا: صورة السبب شاة، والشاة مأكولة، فيكون طهور جلد الميتة بالدباغ لكل مأكولة اللحم كالشاة ونحوها؛ لأنها صورة السبب في مأكولة اللحم، ولذا يقول البعض: أن الدباغ يطهر جلود الميتة مأكولة اللحم فقط.
ويجاب عن هذا: بأن التخصيص بصورة السبب لا يتأتى؛ لأن العبرة -عند الأصوليين- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ جاء بالعموم: (أيما إهاب) ، وجاء: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) .
إذاً: وجدت صيغ العموم فشملت مأكول اللحم.


إرشاد الأمة إلى الانتفاع باليسير والحفاظ على المال
نقف في هذا الحديث من جهتين: الجهة الأولى: توجيه عام للأمة في أصل من أصول الاقتصاد.
الجهة الثانية: توجيه خاص لمتأخري طلبة العلم في الوقت الحاضر.
أما التوجيه العام فلو سألنا الحاضرين جميعاً: لو ماتت عندك شاة؛ أتطيب نفسك أن تذهب وتسلخها لتحصل على الجلد؟ يقول لك: لا، ما لي حاجة إليها، قد ماتت وعفنت، فأنت تترفع وتتقزز نفسك أن تسلخ جلد الميتة لتنتفع به، ولسان حالك: ماذا يساوي هذا؟! وماذا أصنع به؟! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ضرورة الحفاظ على المال، والانتفاع بأدنى وأتفه شيء يمكن؛ لأن في ذلك حفاظاً على اقتصاد الأمة، وفيه -أيضاً- ادخار، فإذا كان يحث على الانتفاع بجلد الميتة بعد موتها، ومعالجته بالدباغ لينتفع به، فهل ترونه يتساهل في الأمور الأخرى؟! لا، ونحن نترك الشاة المريضة أو نراها قد سقطت فانكسرت، فنقول: اتركها حتى تموت، وكان ينبغي أن ندرك ذكاتها -ما لم تكن مريضة مرضاً يضر بالإنسان-، ونجد الكثير من الأمم في العصر الحاضر تتلف العديد من سلعها، وتتساهل فيما يقال له: القديم، ونجد بعض الدول الأخرى تبحث عن المستهلكات لتجدد صناعتها، وهاهو الإسلام يقول لنا: عليك ألاَّ تهمل شيئاً قط يمكن أن تنتفع به.
وقد كتب بعض الإخوان بحثاً منذ حوالى أكثر من (15) عاماً يقول فيه: إن العالم في حاجة إلى الحديد، فالإنسان يخرجه من معادنه، ويصهر التراب حتى يخرجه، ولدينا مئات الأطنان من الحديد ملقاة في الفلاة من تلك السيارات التي على جوانب الطرقات، فلو أخذت وصهرت وأعيد تصنيعها لوفرت على الدولة الشيء الكثير، فكيف نهمل الأشياء الأخرى؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يمر على تمرة ملقاة على الأرض ويأخذها ويقول: (لولا أنني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، ولا يرضى أن يترك تمرة ساقطة على الأرض، ثم لو جئنا لبعض الأمور الأخرى نجد بعض الأشخاص لديه السيارة الفارهة، ولديه المتاع الذي صفته كذا، فإذا ما جاءت سيارات جديدة أو ما يسمى بالموديل الجديد عاف هذه السيارة وذهب واشترى سيارة جديدة، لأي شيء؟ لأن الموديل هذا جديد، وكذلك أنواع الفراش، وأنواع الأثاث فيقول: هذه صارت قديمة، ولا ينتفع بها، مع أنه يمكن إصلاحها.
وفي هذا الحديث توجيهٌ للأمة بضرورة الحفاظ على أتفه الأشياء التي يمكن الاستفادة منها، وألاَّ تترك -ضياعاً- للشيطان.
إذاً: هذه لفتة إلى الانتفاع بالقليل والكثير مما أعطانا الله سبحانه وتعالى، ولو كان جلد ميتة، ولو كانت تمرة في الأرض، فضلاً عن الأشياء العديدة ذات الأثمان الغالية والمرتفعة.


نجاسة الدم المسفوح
الجهة الثانية: نوجه الإخوة طلبة العلم في الوقت الحاضر الذين يقولون بأن الدم المسفوح طاهر، ويقولون: لا دلالة على نجاسته، ويقال لهم: إن إجماع الأمة مدة أربعة عشر قرناً على نجاسته، فيقولون: الإجماع لا حجة فيه ولا يصح، فإذا كانوا ينكرون الإجماع، فينبغي ألا يتكلم معهم في شيء، وعندما عرضت عليهم الآية الكريمة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، قالوا: الدم كالميتة؛ حرم أكلها، وكذلك الدم حرم أكله، وليس بنجس العين، يقال لهم: إن دلالة الاقتران -وهي دلالة اقتران الدم بالميتة- يدل على نجاسة الدم مثل نجاسة الميتة، فإن قالوا: وأين الدليل على نجاستها؟ قيل لهم: إجماع المسلمين، وهذا الحديث بالذات؛ فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموا من كون الشاة ميتة أنها نجسة، فأصبحت دلالة التزام، وهي دلالة الموت على النجاسة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما حرم أكلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الفهم بدليل أنه أجابهم بطهارة هذا النجس، وما أجابهم بعدم الأكل، ولا أجابهم بشيء آخر، بل قال: (يطهره) .
إذاً: الميتة تنجست بموتها، ولما حرمت لنجاستها فالدم كذلك حرم لنجاسته، وذكرنا لهم صنيع البخاري ومسلم في حديث فاطمة بنت جحش -التي استحيضت- فهي: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب ... ) ، فقد ذكره مسلم في باب النجاسات، وفي باب الحيض؛ ليدل على نجاسة الدم في باب النجاسات، ويدل على حكمه هناك في باب الحيض أو الاستحاضة، وكذلك البخاري وجميع أصحاب كتب السنة يذكرون حديثها في باب النجاسة للدلالة على نجاسة الدم، قالوا: هذه نجاسة لدم الحيض وهي خاصة، ولا تتعدى إلى غيره، قلنا: أخبرونا عن المستحاضة حينما قال لها صلى الله عليه وسلم: (تحيضين ستة أيام، أو سبعة أيام، ثم اغسلي عنك الدم وصلي) ، فقوله: (اغسلي عنك الدم) هل هو دم الحيض أم دم الاستحاضة؟ إن كان الغسل واقعاً على دم الحيض فهي لا زالت في حيضها، وإن كان الحيض قد انتهى، فهي تغسل دم استحاضة، ودم الاستحاضة عبارة عن عرق ينزف، وقد أمرت بغسله، فيكون نصاً في غسل الدم وإن كان غير دم الحيض.
ونأتي إلى كتاب المحلى لـ ابن حزم وهو -كما نعلم- يأخذ بالظاهر، فقد جاء بقاعدة من أعجب ما تكون! قال: إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن دم مخصوص وهو دم الحيض، فكان الجواب بالأعم فقال: (اغسلي عنك الدم) ، فعمم في الجواب ولم يخصص كما كان السؤال مخصوصاً، فإن: (ال) هنا للجنس، فهي سألت عن نوع من أنواع الدماء، وأجابها عن عموم الدماء، فتكون جميع الدماء نجسة حتى دم السمك -وهذه مبالغة منه-، وإن كان بعض المالكية يقولون بشيء من هذا، ولكن العموم أنها سألت عن دم الحيض، وكان من الممكن أن يقول لها: اغسليه، أو: حتّيْة، فيكون الجواب بضمير يعود على المسئول عنه، ولكن -كما قال ابن حزم - ألغى السؤال في خصوص دم الحيض، وأجاب بـ (ال) التي هي للعموم، فتستغرق جميع أنواع الدم.
وأيضاً أتينا إلى المجموع لـ ابن تيمية رحمه الله، فوجدناه يذكر نجاسة الدم في سبعة مواضع من المجموع، منها عند حديث غمس الذباب، وذكر أن العلة في تحريم الميتة احتباس الدم فيها، والدم نجس، ويضر بصحة الإنسان، وذكر نجاسة الدم في سبعة مواطن من مجموع الفتاوى.
إذاً: كان الأمر على نجاسة الدم المسفوح إلى عهد ابن تيمية طيلة سبعة قرون، ومن بعده إلى اليوم، ولم يقل أحد ممن يعتد برأيه في المذاهب الأربعة من أهل الاجتهاد: إن الدم المسفوح طاهر، ونقول: إن هذا الحديث نص في الموضوع؛ لأنهم فهموا أنها ميتة، وأنها قد تنجست لذلك، وأن النجاسة قد انتقلت في جلدها، فقالوا: (إنها ميتة) أي: إلى جلدها نجس، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر ذلك منهم، وأجابهم على مقتضى ما فهموا، وأرشدهم إلى ما يطهر هذا النجس من الماء والقرظ.


خلاف العلماء في طهارة جلود الميتة بالدباغ
نرجع إلى موضوعنا في فقه باب الآنية، وتقدم أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة أخذ بالعموم، وأدخل جلد الكلب والخنزير، ووافقه الظاهري، أما، أبو حنيفة رحمه الله فأخرج من العموم جلد الخنزير، وادعى أنه ليس للخنزير جلد، والشافعي رحمه الله أخذ بالعموم وأخرج الخنزير، وقاس عليه الكلب؛ لأن الكلب عنده نجس كله، ومالك وأحمد أخذوا بعموم: (أيما إهاب) ولكن قالوا: يستعمل ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يكون الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ومالك يقولون بطهارة جلود الميتة بعد دبغها على عموم: (أيما إهاب) ، ولم يستثنَ من ذلك إلا الخنزير والكلب عند الشافعي، وقال أحمد ومالك: يطهر ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يجوز استعماله في اليابسات دون المائعات، إلا أن المالكية يقولون: جلد الميتة يستعمل ظاهراً فقط في اليابسات فقط، ولا يستعمل في المائعات إلا في الماء؛ لأن الماء قوي يدفع النجاسة عن نفسه.
بعد هذا نرجع إلى هذه الأقوال لنرى ما هو الراجح منها؟ أما الذين أخذوا بالعموم فإن ظاهر النصوص معهم إلا ما ذكره أبو حنيفة رحمه الله من أن الآية الكريمة تنص على أن الخنزير رجس، وإذا كان نجساً في الحياة فبالموت من باب أولى، وكذلك الشافعي ألحق بالخنزير الكلب قياساً، وقد تطمئن النفس إلى الاستثناء، وقد تدعو الحاجة إلى التعميم على ما سيأتي إن شاء الله.
بقي عندنا رأي مالك والحنابلة: أنه يطهر ظاهراً لا باطناً، قالوا: الجلد إذا دبغ فالوجه الذي لامس الدباغة قد طهر بهذا الدباغ، أما مسام الجلد في الداخل فهذه لم ينفذ إليها الدباغ فلم تطهر، فيطهر ظاهراً لا باطناً، بمعنى: لو أنك افترشت جلد الميتة المدبوغ، وصليت عليه، تكون قد صليت مواجهاً للوجه الطاهر، لكن لو أنك حملته ولبسته وصليت فيه، لا تصح الصلاة؛ لأن ما داخل الجلد من المسام لم يطهر، فتكون مصلياً حاملاً لنجاسة داخل مسام هذا الجلد.
والمناقشة في ذلك بأن نقول: الإهاب يطهر ظاهراً وباطناً لما جاء في الحديث الأخير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة) .
وهذا الحديث فيه تتمة البحث، والمزادة: هي القربة الكبيرة، قيل: من جلد البقر أو الإبل، بخلاف القربة فإنها من جلد الشاة أو الماعز، والقصة طويلة وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من إحدى الغزوات ونفد الماء عليهم فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليطلبا الماء، فمضيا من الصباح إلى قريب الزوال، فلم يجدا ماءً، فلقيتهم ظعينة راكبة بين مزادتين -امرأة على بعير لها يحمل مزادتيها- فسألاها: أين الماء؟ أي: من أين استقيت الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس الساعة -يعني: أمس هذا الوقت، وأنا أمشي من عنده، أي: أربعة وعشرين ساعة- فتشاورا، فقال أحدهما: ما يمكن أن نذهب هذا الوقت كله، ولكن نسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما معها من الماء، فقالا لها: هلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم! قالت: ذاك الصابئ! قيل لها: ذاك الذي تعنين، فلما حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخوا بعيرها وأنزلوها، وطلب إناءً فأفرغ من مزادة جزءاً من الماء، ثم قال: (اشربوا وتزودوا) ، فما بقي إنسان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأتى بما عنده من قرب وسقاء أو إناء وملأه، وسقوا الخيل والإبل التي معهم، وما بقي إنسان إلا توضأ، حتى أن رجلاً بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه، فإذا به معتزلاً القوم، فقال: (مالك لم تصلِ؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى، يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماءً في إناء، ونادى الرجل فقال: خذ هذا فأفرغه عليك) ، وكان قد تيمم وصلى فأعطاه الماء ليغتسل، المهم أنهم أخذوا من المزادتين ما يملئ أوانيهم، ويشربوا في بطونهم ويتوضئون، ويغتسل الجنب فيهم، وتشرب دوابهم، ثم قال: (اجمعوا لها، فجمعوا لها من الطعام، ثم قال لها: انظري! لقد سقانا الله، وما نقصت مزادتاكِ شيئاً) فأركبوها على بعيرها، وحملوا لها ما جمعوا، وذهبت إلى قومها، فقالت: يا قوم! والله! لقد أتيتكم من عند رجل لئن كان ساحراً لهو أسحر عباد الله، ولئن كان نبياً لهو حق مرسلٌ من عند الله، وأخبرتهم بالخبر، وما أخذوا من الماء، وما أخبرها، ثم كان الصحابة يحفظون لها ذلك المعروف، فيغيرون على الأحياء من جوانبها ويتركون حيها التي هي منه، ثم قالت: يا قوم! والله! ما تنحى هؤلاء عنكم لقوة فيكم، ولا لضعف منهم، وإنهم يحفظون ذلك المعروف، فأسلموا تسلموا، ودعتهم إلى الإسلام فأسلموا.
والذي يهمنا هنا، أن هذا الماء الذي في المزادتين كان لامرأة مشركة، والمزادتان من أواني المشركين، وصنعوهما من دوابهم، وهم يذبحون، ولكن ذبيحة المشرك والوثني ميتة: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] ، يذبحون باسم الصنم، أو باسم الصليب أو غير ذلك، ومع أنها ميتة شرعاً، وقد دبغت، وفيها الماء؛ استعمله صلى الله عليه وآله سلم، فيرد بذلك على من يقول: إن الدباغ يطهر الإهاب ظاهراً لا باطناً؛ ولذا المالكية رووا هذه القصة فقالوا: يمكن أن يستعمل الجلد في خصوص الماء فقط؛ لأن الماء قويٌ يدفع عن نفسه، وقيل لهم: إن قضية شاة ميمونة في تتمته: (فأخذنا مسكها -يعني الإهاب- فدبغناه، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً) ، (ننبذ فيه) أي: نطرح التمر والزبيب مع الماء حتى يستحلب ويتحلى الماء بهذه الثمار ونشربه، و (شناً) أي: قديماً، فقد تغير عن كونه مطلق ماء، وأصبح نبيذاً، فضعف عن قوة الطرد الذاتية للماء، وبهذا يتم الاستدلال على طهارة ما دبغ ظاهراً وباطناً.
بقي مسألة: هل يقال بالعموم فيشمل مأكول اللحم وغير مأكول اللحم أم لا؟ الذين قالوا: لا يشمل غير المأكول قالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مياثر النمور) ، والمياثر جمع ميثرة، وهي: شيء من اللبد من جلد النمر يجعل على السرج ويركبه الفارس، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب على جلود النمور، وهي غير مأكولة، وهي جلود مدبوغة، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب عليها، إذاً: هي لم تطهر.
وأجاب الآخرون عن ذلك وقالوا: إن النهي عن جلود النمور والمياثر ليس للنجاسة، ولكن لأن الركوب على جلود النمور من أفعال العجم، وهو يورث الكبرياء والخيلاء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ركوبها تجنباً لهذه الحالة، وامتناعاً من مشابهة غير المسلمين، ولو كان نجساً ما سمح باستعماله مطلقاً لا في سفر ولا في حضر.
إذاً: يترجح عندنا العموم في كل ميتة، وإذا دبغ جلدها فإنه يطهر، ويبقى عندنا: الكلب والخنزير فقط، وهما محل النزاع؛ فمن قال بالعموم -كما يقول الشوكاني - فظاهر النصوص معه، ومن استثناهما فهناك الشبهة، ومنذ عشر سنوات تقريباً جاءني بعض الإخوان الذين يستوردون الأحذية من روسيا -أو من المعسكر الروسي- وقال: إن بعض الأحذية مصنوعة من جلود الخنازير، ماذا نفعل بها؟ هل نردها؟ أو نمنع استعمالها؟ وصناعة الجلود قد توسعوا فيها، فيصنعون منها حقائب ونعالاً وأدوات أخرى، بل ملبوسات كالفرو، ولما توسعت الصناعات الجلدية فمن قال بالعموم تيسيراً على الناس فلا مانع من ذلك، ولكن من عرف بذاته أن هذا من الخنزير فتركه لكان أولى، ولكن لو استعمله غيره فلا ينبغي له الإنكار عليه، هذا ما يتعلق بهذه الجلود.
وقوله: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) هناك تساؤل عن ماهية الدباغ، وأشرنا إلى أن الحديث يقول: يطهره الماء والقرظ) والقرظ قيل: هو ورق السدر، والبعض الآخر يقول: هو ثمرة قوية لبعض الشجر، أي: ذات حمضيات شديدة، وهذا القرظ إذا طحنته أو دققته واستكت به؛ فإنه يشد اللثة المرتخية، ويخرج الرطوبة منها، فهو علاج للثة؛ لشدته وقوته، وبعضهم يدبغ بدلاً من القرظ بقشر الرمان؛ لأن فيه قوة، وفيه مادة تشد الجلد، وتسحب منه الرطوبة، وبعضهم يدبغ: بالتراب والملح، ولكن كما يقول بعض العلماء: المسألة راجعة إلى ما يطهر الجلد، وإلى ما يدبغه ويلينه، وهذا يرجع إلى نوع الصناعة، فبعضهم يدخل الخل، وبعضهم يدخل الملح، وبعضهم يدخل الحناء،وبعضهم يكتفي بالتراب فأية مادةٍ تعارف عليها الناس، وجُرب أنها تدبغ الجلد، فإنه دباغ يطهر جلد الميتة.


شرح حديث: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها)
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم؟! قال: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها، وكلوا فيها) متفق عليه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشرك) متفق عليه في حديث طويل] .
ننتقل إلى حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه قال: (إنا نكون بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم ... ) وأهل الكتاب: يصدق على اليهود وعلى النصارى، وكان اليهود يسكنون في الجزيرة، وكذلك النصارى خاصة في الجهة الشمالية في دولة الغساسنة، ونصارى بني تغلب كانوا موجودين في تلك المناطق، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا فيها إلاَّ ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً وكلوا فيها) ، وفي بعض الروايات: (وهم يطبخون الخنزير، ويشربون الخمر) يعني: في تلك الأواني، فهل نستعير تلك الأواني ونستعملها والحال أنهم يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمور أم لا؟ قال: (لا، إلا ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً) يعني: اغسلوها بقوة، ثم بعد ذلك كلوا واشربوا فيها، وأخذ العلماء من هذه الحديث عدم جواز استعمال أواني أهل الكتاب إلا بعد غسلها، ويقول البعض: إذا لم نشاهد فيها شيئاً يستوجب الغسل فنأخذها ونستعملها، فلو جاءنا إناء فيه آثار إدام أو شراب فنغسله، لكن إذا هم قد غسلوها ووضعوها وهيئوها حتى استعمالها، فطلبناها منهم ولم نجد فيها شيئاً يستوجب الغسل استعملناها، فهي في ذاتها ليست نجسة، وإنما رحضها بالغسل لما عساه أن يطرأ عليها، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يأكلون من طعام أهل الكتاب عند أهل الكتاب، وفي أوانيهم، ولم يسألوهم: هل غسلتموها أم لا؟ فهم قد أكلوا في أواني أهل الكتاب حينما قدموا لهم الطعام في أوانيهم فأكلوا، ولا ننسى الشاة المسمومة التي قدمتها المرأة في خيبر، وورد: (أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم له إهالة سنخة فأكل منها) ، وإهالة: عصيدة خفيفة مثل الشربة، فيها سمن متغير ريحه، فأكل منها في أوانيهم.


وجوب الحفاظ على عادات وتقاليد ولغة الأمة الإسلامية
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال آنية أهل الكتاب في قوله: (إلا ألا تجدوا غيرها) ، يعني: عند الحاجة والضرورة فقط، وعند عدم الضرورة تترك ولو كانت طاهرة، نرجع إلى مبدأ آخر وهو: في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه أوصى بقوله: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) ، وقال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) بمعنى: يجب على المسلمين أن يتميزوا، وألا يندمجوا مع أهل الكتاب؛ لأن تبادل الأواني، وتبادل الزيارات، وتقارب الجوار، والاحتكاك والاختلاط مدعاة إلى تبادل الأفكار والآراء والتقليد حتى في الأزياء والحياة، ومن هنا حرص صلى الله عليه وسلم على إبعاد المسلمين عن أهل الكتاب في التجاور والمخالطة، وفي التعاون والتبادل؛ ليبقى المسلم متميزاً بذاته ومنهجه وشعائره، وعلى هذا لا ينبغي مخالطتهم حتى بتبادل الأواني، ولذا قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ؛ فإن كل أمة خالطت أمة أخرى لابد وأن تدخل تلك الأمة بعاداتها وتقاليدها ولغاتها في الأمة الأخرى؛ فيحصل التجريح في اللغات، ويقع اللحن في اللهجات، والتقليد في العادات، ويؤخذ من هذه إلى تلك، ومن تلك إلى هذه؛ فيقع الاشتراك في المناهج في الحياة، وإذا طال الزمن بهذا الاشتراك انماعت إحدى الأمتين في الأخرى، والذي يتتبع أخبار العالم الإسلامي مع العالم الغربي منذ عهد الاستعمار وما فعله في العالم الإسلامي، فإننا نجد حينما تدخل أمة مستعمرة بقوتها، فإنها تحارب أولاً اللغة والدين والتقاليد والعادات، وأول ما تدعو إليه: انصهار الأمة المستعمَرة صاحبة البلد الأساسي في بوتقة المستعمِرة الغاصبة؛ فتصبغ عليها زيها، وتفرض عليها لغتها، وجميع أنواع حياتها، ولقد وجدنا في الآونة الأخيرة أقطاراً ودولاً لغتها الأصلية العربية، ثم إذا بها تنسلخ عنها، بل وتكتب لغتها المحلية بالحروف اللاتينية ربطاً لها بلغة الدولة المستعمرِة؛ ليلغى من أذهانهم العربية بالكلية، وإذا انسلخت الأمة المسلمة من اللغة العربية فما الذي يربطها بكتاب الله الذي قال الله فيه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] ؟ ما الذي يربطها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولقد لقينا بعض الأشخاص من رؤساء بعض البعثات في عام (84) في رحلة إلى أفريقيا، وكان يدعو إلى مؤتمر إفريقي في فرنسا لدراسة اللغة المحلية التي يتعارف عليها الاتحاد الإفريقي، وقلنا له: يا فلان! اتق الله! إنكم إن اخترتم لغة غير العربية؛ فمعنى ذلك أنكم عزلتم أنفسكم عن العالم الإسلامي.
وأقول لكم: إن اللغة العربية ليست كبقية اللغات، واللغات في أصلها ما لم يكن لها ضمان تتشعب بسبب اللهجات، وهذه اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية هي متفرعة من لغة واحدة وهي اللغة اللاتينية، فتشعبت إلى لهجات، ثم استقلت وصارت كل منها لغة مستقلة، والآن اللغة الإنجليزية في شمال بريطانيا تغاير ما في جنوبها، وكذلك اللغة الفرنسية في شمالها تغاير ما في جنوبها، واللغة العربية أوجد الله لها ضامناً من أن تتشعب مهما وجد فيها من لهجات عامة، فإنك الآن تأتي إلى الموسم في الحج فتجد البادي من الجزائر، والبادي من المغرب، والبادي من الصعيد، ونجد، وتجد البادي من أقطار العالم، وكلهم يتكلم اللغة العربية، وإذا تكلم بلهجته المحلية لا يفهم الآخر منه شيئاً؛ لأنها لهجة محلية، أما إذا قرأ الإمام في صلاته: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فإن جميع هذه الأقطار تفهم ما يقول الإمام، لماذا؟ لأن القرآن الكريم أصبح قطب رحى اللغة العربية، تدور حوله مهما تشعبت لهجاتها، وتباعدت أقطارها؛ فإنها ترجع إلى المركز الأساسي ألا وهو: القرآن الكريم، وقلت له: أيها الأخ! مهما اخترتم من لغة محلية فإن طول الزمن سيجعلها تتشعب إلى لهجات، ويوجد في أفريقيا ما لا يقل عن مائتي لغة محلية، فستعود المسألة في حافرتها، وأين للأجيال المقبلة ما يربطهم بمعجمات اللغة وقواميسها، وموسوعات الفقه والحديث والتفسير؟ ولا تستطيعون أن تترجموا هذه الموسوعات إلى اللغة التي سوف تختارونها، وإذا تشعبت إلى لغات لن تستطيعوا متابعة الترجمة إلى كل ما يستجد من لهجة.
إذاً: عودتكم إلى اللغة العربية عودة إلى الأصل، وفيها الغناء لكم، ويقول الشافعي رحمه الله: فرض عين على كل مسلم أن يتعلم من العربية ما يتعلق بعبادته لربه.
أيها الإخوة! نحن استطردنا في هذا الموضوع؛ لأنها قضية اليوم، وهذا الحديث ليس الغرض فيه مجرد أحكام: طهارة، نجاسة، استعمال آنية كفار أو عدم استعمالها، ولكن الحديث أوسع أفقاً في الدلالة، وفيما ينتفع به المسلم، وهنا صلى الله عليه وسلم يوصي أنه لا ينبغي للمسلم أن يستعمل آنية أهل الكتاب إلا عند الحاجة، وكما أشرت ليست القضية قضية أوانٍ، إنما القضية قضية مبادئ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون متميزاً بذاته لا يندمج مع غيره فينماع وتذوب شخصيته، ويبقى هو وغيره -من غير المسلمين- سواء، وبالله التوفيق.


شرح حديث: انكسار قدح النبي عليه الصلاة والسلام وتضبيبه
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر؛ فاتخذ مكان الشَّعْبِ سلسلة من فضة) ] .
هذا الحديث تتمة لما تقدم، وله صلة بالنهي عن أواني الذهب والفضة، وله صلة أيضاً بما أشرنا إليه -أيضاً- في شاة ميمونة.
وقدح النبي صلى الله عليه وسلم كان مربعاً -يعني: لم يكن مستطيلاًً، ولكنه قصير وواسع- وكان يشرب فيه، ويقول أنس: (سقيت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء والنبيذ واللبن) .
(انكسر) : ما ألقى به وجاء بغيره، مع أنه كان يستطيع -لو أراد- أن يتخذ قدحاً من زمرد، ولكن حفاظاً على ما يمكن أن يستفاد منه، جعل محل الشعب سلسلة من فضة، أي: أنه صار مضبباً، والتضبيب: أن يخرز الإناء من طرفيه، ويلمه ويملأ محل الخرم بالجبس، فيلتحم الإناء الذي كان مكسوراً، ثم يستعمل، وكانت الصحون الصينية النفيسة عندما تنكسر -وقد تنكسر إلى ثلاثة أجزاء أو أربعة- لا يلقي بها أصحابها، ولكن يؤتى بها إلى من يمارس هذه الصنعة فيخرز محل الكسر، ويجعل له ضبة، فيلمها، ويصبح الصحن -نوعاً ما- كما كان قبل ذلك.
إذاً: يجوز استعمال الفضة عند الحاجة؛ لأن غيرها لا يجزئ عنها، وإذا كانت الفضة تجزئ فلا حاجة إلى الذهب، ولكن يقول الفقهاء: عند الاستعمال لا ينبغي أن يعمد إلى موضع الفضة: ويشرب منه ملامساً له، إنما جعل التضبيب لحفظ الإناء حتى يمكن استعماله، فيشرب بعيداً عن مواطن الفضة؛ حتى لا يلامسها عند الاستعمال، وبالله تعالى التوفيق.