شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة
- باب المواقيت [1]
جعل الله للصلوات الخمس مواقيت محددة الأول والآخر، وقد بين الله ورسوله
هذه المواقيت، وشرحها العلماء، وأطالوا في ذلك؛ لأنها متعلقة بأفضل
العبادات، وأعظم القربات، فالصلاة لا تقبل إلا بعد دخول وقتها، فوجب معرفة
المواقيت للقيام بالصلاة في وقتها المحدد شرعاً.
مقدمات أصولية تتعلق
بالمواقيت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [كتاب الصلاة، باب
المواقيت] .
المواقيت: جمع موقت، والموقت هو الوقت المؤقت لشيء ما، وبدأ المؤلف رحمه
الله تعالى قائلاً: كتاب الصلاة، ثم قال: باب المواقيت ليبين لنا أن مواقيت
الصلاة من ضمن مباحث الصلاة.
وهذا الباب جعله الإمام مالك رحمه الله أول أبواب الموطأ، وقال: باب الوقوت
(جمع كثرة لوقت) وقالوا: إنه راعى الأوقات المختلفة في أداء الصلاة من
أفضلية الوقت إلى آخر ما يجزئ في الوقت من الوقت الضروري، ووقت القضاء لمن
نام أو نسي، وهناك أوقات الصلوات الخمس، ووقت الجمعة، وغير ذلك.
والتوقيت للصلاة واجب كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] ، أي: موقتاً
بزمن.
تقسيم أوقات العبادة
إلى مضيقة وموسعة
العبادات المؤقتة ينقسم وقتها بالنسبة إليها إلى قسمين: القسم الأول: وقت
موسع.
القسم الثاني: وقت مضيق.
فالوقت الموسع كأوقات الصلوات، فمثلاً: وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى
مجيء وقت العصر، ووقت العصر من أول وقتها إلى غروب الشمس، ومعنى موسع: أن
يستطيع الإنسان أن يأتي بالفريضة في وقتها ثم يأتي بمثلها معها في وقتها.
والوقت المضيق كصوم رمضان، فشهر رمضان هو وقت الصوم، وهو مضيق بمعنى: أنك
لا تستطيع أن تأتي في يوم من رمضان بفريضتين: فريضة شهرك الحاضر وقضاءً عما
عليك من الماضي، بخلاف وقت الصلاة، فإنك تستطيع أن تُصلي الحاضرة، وتُصلي
النافلة، وتُصلي ما كان عليك من قضاء في الوقت الواحد، وفي الصلوات قد يصبح
الوقت الموسع مضيقاً إذا لم يبق من الوقت إلا ما تدرك به صلاة الوقت
الحاضر.
تقسيم خطاب الشرع
إلى خطاب تكليف وخطاب وضع
والله سبحانه وتعالى بين توقيت العبادات من باب خطاب الوضع؛ لأن خطاب الشرع
ينقسم إلى قسمين: خطاب التكليف، وخطاب الوضع.
فخطاب التكليف هو: الذي فيه الأمر والنهي بالتشريع أو التحريم.
وخطاب الوضع هو: العلامة أو الشرط أو المانع المتعلق بهذا العمل الذي كُلف
به المسلم.
فقوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
[البقرة:43] هذا خطاب تكليف، كلف فيه المسلم أن يقيم الصلاة وأن يؤتي
الزكاة، وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] خطاب تكليف؛ كلف فيه المسلم
بالصوم.
ولكن تحديد متى نصوم ومتى نصلي يجيء بيانه بخطاب الوضع، فقال سبحانه:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، فعين
لنا زمن الصوم الذي فرض علينا، وكذلك قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ،
فهذا خطاب وضع من جهة بيان وقت الصلاة، فنصلي لدلوك الشمس، وهو تحركها بعد
الاستواء عن كبد السماء إلى جهة الغرب، {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي: ظلمة
الليل.
فدلوك الشمس شمل الوقت المشترك لصلاتي: الظهر والعصر، وغسق الليل شمل
الصلاتين المشتركتين في ذلك الوقت وهما: المغرب والعشاء، ثم قال:
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وهو: مشتمل على صلاة الصبح، فهذا الخطاب الذي بين
أوقات الصلوات يسمى: خطاب وضع، والخطاب الذي جاء بتكليف المكلف بالواجب
عليه في العبادات هو خطاب تكليف.
كذلك الحج، قال الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فهذا خطاب تكليف، فعلى كل
مستطيع أن يحج، ولكن متى نحج؟ جاء خطاب الوضع في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، فبين لنا وقت الحج، والسنة بينت أنه من أول
شوال، فيجوز الإحرام في شوال، وذي القعدة، وجزء من ذي الحجة، وهذا ببيان
النبي صلى الله عليه وسلم.
دخول الوقت شرط لصحة
الصلاة
إذاً: مالك رحمه الله راعى في كتابه الموطأ أن أول ما يكلف به العبد فعلاً
الصلاة، ولكن الصلاة تبدأ من الميقات أي: من التوقيت، أي: بدخول الوقت،
والطهارة شرط لصحة الصلاة، ودخول الوقت شرط لصحة الصلاة، فمن صلى صلاة قبل
وقتها فلا يعتد بها، ومن صلى صلاة دون أن يتوضأ فلا يعتد بها، فراعى أن أول
ما يكون هو دخول الوقت، فإذا دخل الوقت وجب عليه أن يتوضأ ليصلي، لقوله
تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا.
} [المائدة:6] ، ولا يكون القيام إلى الصلاة إلا بعد دخول وقتها، ولكن كتب
الحديث المرتبة على أبواب الفقه قد يختلفون في البداية، فبدأ البخاري صحيحه
بباب الإيمان والعلم، وكذلك فعل مسلم فبدأ بباب الإيمان، وجاء أبو داود
فبدأ بكتاب الصلاة، وبدأ كتاب الصلاة بالطهارة؛ لأنها شرط في صحتها، ثم جاء
بعد ذلك بستر العورة وهو باب اللباس، ثم أتى بالمساجد ومواضع الصلاة، وكذلك
فعل غيره.
والذي يهمنا أن الناس يختلفون في ترتيب كتب الفقه، ولكنهم مجمعون في الجملة
بأنهم يبدءون بالعبادات، ثم بالمعاملات، ثم بالأحوال الشخصية، ثم
بالجنايات، ثم بأحكام القضاء؛ لأن العبادات فرض عين على كل شخص، فهي أهم،
وهي حق الله على العباد، والمعاملات هي لمصلحة الناس فيما بينهم من بيع
وشراء وكفالة وضمان وحوالة إلى غير ذلك، وكذلك الأحوال الشخصية من الأنكحة
والعشرة الزوجية وحق الزوجات والأولاد والنفقات والطلاق والعدد ونحو ذلك.
ويؤخرون بعد هذا باب القضاء؛ لأن الإنسان في الغالب بعد أن يبيع ويشتري
ويتكسب ويتزوج يصير له الأولاد، فتقع المشاكل مع الجيران، فيأتي باب
القضاء، فكتب الفقه تتفق على هذا الترتيب في الجملة، وبعضهم قد يقدم باباً
على باب، ولكن من حيث الجملة فالترتيب عبادات، معاملات، أحوال شخصية،
جنايات، قضاء.
انتهى المؤلف رحمه الله من كتاب الطهارة من وضوء، ومن غسل، وبيان حكم
الجنب، والتيمم، والإنسان يتطهر استعداداً للصلاة؛ لأن الطهارة سواء
بالوضوء أو بالغسل تصح قبل دخول الوقت، فهو قد يتهيأ للصلاة قبل دخول
وقتها.
(يريد الله بكم
اليسر) قاعدة عامة في التكاليف
انتهى المؤلف رحمه الله من مقدمة الصلاة، وشرطها الأساسي وهو الطهارة، ثم
جاء بعد ذلك بكتاب الصلاة، وبدأ كتاب الصلاة بالوقت؛ لأنها لا تؤدى إلا في
وقتها المحدد لها، ومن ناحية أخرى نجد كل خطاب الوضع مرتبطاً بعلامات كونية
أو أمور وضعية متعارف عليها، ويستوي في معرفتها أعلم الناس هندسة وعلوماً
عامة وأجهل الناس بتلك العلوم، فيستوي فيها العامي والمتعلم.
فمثلاً أوقات الصلوات الخمس رُبطت بأمور بأمور يستوي في معرفتها العامة
والخاصة، بل قد يكون العامي صاحب البادية أعرف بها من الحاضر، حيث جعل الله
مواقيت الصلاة مرتبطة بحركة الشمس، فالفجر من انفجار النهار عن ظلام الليل،
وهي نتيجة اقتراب الشمس من الظهور، وتقدم أشعتها، فيظهر بعض الضوء، ويتميز
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والظهر حينما تزول الشمس عن كبد
السماء ونرى الفيء.
فالشمس حينما تشرق، تأخذ في نصف الدائرة، فإذا توسطت نصف الدائرة وهو الربع
الأول من الدائرة الكاملة، يمتد ظل كل شيء إلى الغرب، فلما تزحزحت عن نقطة
الصفر في متوسط الدائرة، وانحازت إلى الربع الثاني إلى جهة الغرب؛ تحول
الفيء إلى الشرق، فنحن وإن كان بيننا وبين الشمس مئات الآلاف من الأميال
فإننا ندرك حركتها عندنا في الأرض؛ بتحول الظل من الغرب إلى الشرق، ثم يأتي
وقت العصر عندما يصير ظل كل شيء مثله، ثم يأتي وقت المغرب عندما تغرب
الشمس، وما بين الظهر والمغرب وقت للعصر.
الذي في البادية أدرى بالأوقات من الذي في الحاضرة؛ لأن الحضري ساكن في شقة
أو في بيت وربما لا يراقب الشمس، وخاصة طلوع الشمس، وأهل البادية أعرف بذلك
من الآخرين.
والمغرب وقته من غياب الشمس إلى أن يغيب الشفق الأحمر، وهو الحمرة التي في
الأفق، ومن غيبوبة الشفق إلى طلوع الفجر وقت للعشاء.
فهذه معالم وأمارات وتوقيت يتفق في معرفتها الجميع؛ لأن التشريع للجميع،
ولا يكلف الله الناس معرفة علم الفلك، ولا يجب أن نعرف أوقات الصلاة بتوقيت
فلكي، وإنما جاءت الساعة تسهيلاً وتقريباً لذلك، ولهذا لو رأينا ساعة الفلك
مغايرة لساعة الجيب؛ لألغينا ساعة الجيب، فلو أن الساعة في جيبك تشير أنه
بقي على المغرب نصف ساعة، ورأيت الشمس تغرب بعينك، فبأي الساعتين تعمل؟ هل
بساعة الشمس التي تنظر إليها بعينك أو الساعة التي في يدك؟ تلغي الساعة
التي في يدك وتعدلها، وكذلك صوم شهر رمضان، والعالم كله يعرف متى يدخل
رمضان ومتى يخرج رمضان، وهل نعرف ذلك بالحساب كما يقولون؟ لا، لحديث:
(صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، ورؤية الهلال أيسر في البادية من
الحاضرة، فالحاضرة فيها دخان، وكهرباء، وو إلى آخره، وأضواء الكهرباء تضعف
من البصر، بخلاف أهل البادية فهم حديدو الأبصار، يرون الهلال في أول يوم،
ويعرفون منازله، ويطلبونه فيه، وكذلك الحج.
والزكاة جُعِل قدرها (2.
5%) وهذا المقدار لا يغلط فيه الإنسان عند الحساب، وقال الله في زكاة
الزروع: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فهذا
تكليف، وقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وهذا خطاب
وضع، وكم قدر الزكاة؟ بينت السنة أنه إما العشر وإما نصف العشر، وهذه أمور
عامة يعلمها العامة والخاصة، وهذا دليل على أن الإسلام هو الدين الباقي،
والدين الشامل، وهو دين الفطرة؛ لأنه يستوي فيه جميع الخلق: من عرب، ومن
عجم، ومن حضر، ومن بدو، ومن متعلم، ومن عامي.
فبدأ المؤلف كتاب الصلاة بالمواقيت، وجاء بالأحاديث المتعلقة بالباب، وفيها
الكفاية إن شاء الله.
بيان النبي صلى الله
عليه وسلم لأوقات الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله مالم
يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب
الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع
الفجر ما لم تطلع الشمس) رواه مسلم] .
معنى زوال الشمس
قوله: (إذا زالت الشمس) ، معنى زالت: ذهبت عن كبد السماء؛ لأنها تشرق في
أول الأمر من المشرق، وتأخذ في حركتها في نصف الدائرة، ويقولون: قدر ثماني
عشر، والدائرة الكاملة قدرها ست وثلاثون درجة، فهي تأخذ ثماني عشرة درجة في
هذا الوجه، وثماني عشرة درجة في الوجه الثاني من جهة الأرض، فتكون ثماني
عشرة درجة مضيئة بطلوع الشمس، وثماني عشرة درجة ليل؛ لعدم وجود الشمس هناك،
فإذا أخذت نصف الثماني عشرة درجة، فهي تسعة، وهذا هو وسط وكبد السماء، وفيء
الزوال يختلف صيفاً وشتاء، بل ويختلف على درجات الأرض، فهو على مستوى خط
الاستواء يختلف على مدار السرطان أو على الجهة الشمالية أو الجهة القطبية،
حتى إنه في منتهى تكوير الأرض في السويد والنرويج من جهة القطب المتجمد
الشمالي قد يختفي الظل، وقد يبقى النهار عدة أشهر، والليل عدة أشهر، وقال
لي إنسان: جلسنا هناك على قمة ونحن ننظر الشمس، ففي حوالى دقيقة واحدة
اختفت الشمس من جهة، وظهرت من الجهة الثانية حالاً، ولم يوجد هناك فترة
طويلة!! إذاً: تختلف مواقيت زوال الشمس عن كبد السماء بالنسبة لسقوط ظل
أشعتها إلى الأرض، فعند الزوال في وقت اعتدال الليل والنهار تكون الأشعة
متعامدة من السماء إلى الأرض على زاوية قائمة، وفي بعض الفصول في الشتاء أو
في الربيع أو في الخريف، يكون ظل الزوال قدماً أو قدمين إلى ستة أقدام بقدم
الإنسان.
ونحن لا نستطيع أن نحدد مكان الشمس في كبد السماء في نقطة الصفر، ولا نعلم
أول زوالها وتحولها إلى الغرب؛ لأن المسافة بعيدة جداً، ولكن يكفي أن ننظر
إلى ظل الأشياء في الأرض، فما دام الظل إلى جهة الغرب فهي لا زالت في الربع
الذي من جهة المشرق، وإذا تحول الظل إلى المشرق فقد زالت الشمس، ويسمى الظل
بعد الزوال فيء؛ لأنه رجع، فنعرف بذلك أن الشمس زالت عن كبد السماء.
وقوله: (إذا زالت الشمس) ؛ لأن نقطة الزوال بالذات لا تصح فيها الصلاة، وقد
نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت قيام الشمس في قائم الظهيرة، وهو وقت
الاستواء قبيل الزوال، وجاء في الحديث: (ثلاث ساعات، نهينا أن نصلي فيهن،
وأن نقبر فيهن موتانا: حينما تطلع الشمس من المشرق حتى يكتمل طلوعها
وترتفع، وحينما يقوم قائم الظهيرة -أي: تكون الشمس في كبد السماء بالذات-
وحينما تضيَّف الشمس للغروب، حتى يكتمل غياب قرص الشمس) ، فهذه الأوقات
الثلاثة نهي عن الصلاة فيها، وعن قبر الموتى فيها، لكن يجوز قضاء الفائتة
فيها.
وقد جاء في الحديث: (من أدرك من العصر ركعة فقد أدرك العصر) ، يعني: أدرك
الوقت، وإلا فإنه سيصلي الركعات الثلاث الباقية بعد غياب القرص، فسيغيب
القرص وهو يصلي، وهذا مستثنى من النهي عن الصلاة عند غروب الشمس أو عند
شروقها، فقد جاء في الحديث: (من أدرك من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس فقد
أدرك الصبح) ، وهذه هي الأوقات الاضطرارية.
والأوقات الاضطرارية تكون لإنسان نسي الصلاة، أو نام عن الصلاة، أو لصبي
بلغ، أو كافر أسلم، أو مجنون أفاق، أو امرأة كانت حائضاً فطهرت، فهؤلاء من
صلى منهم حينذاك وكان الوقت مثلاً قبل شروق الشمس بما يسع ركعة، فتوضأ
واستعد للصلاة، ولم يبق على طلوع الشمس إلا ما يسع ركعة، فيصلي تلك الركعة
ويكون قد أدرك الصبح في وقتها، وكذلك الحائض إذا طهرت قبل أن تشرق الشمس
بما يسع ركعة، فعليها أن تصلي الصبح، وكذلك الصبي إذا بلغ في هذا الوقت،
والمجنون إذا أفاق في هذا الوقت، والكافر إذا أسلم في هذا الوقت؛ فإننا
نكلفه بالصلاة؛ لأنه أدرك جزءاً من الوقت، وهو الجزء الضروري لأصحاب
الأعذار.
والمؤلف هنا ذكر أحاديث المواقيت العامة لعامة الناس، أما أحاديث أهل
الأعذار فسيأتي الإشارة إليها كما في الحديث: (من أدرك ركعة من العصر قبل
أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس
فقد أدرك الظهر) .
وكذلك يستثنى من كراهة الصلاة في وقت الاستواء قضاء الفائتة، وسيأتي
التنبيه على الأوقات المنهي عن الصلاة فيها إن شاء الله.
وقت صلاة الظهر
قوله رحمه الله: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم
يحضر وقت العصر) .
أي: فإذا زالت الشمس عن كبد السماء دخل وقت الظهر، وقوله: (وكان ظل الرجل
كطوله) : الرجل مجرد مثل، والمراد أن يكون ظل كل شيء مثله، فإذا غرست عوداً
أو غرست عصاً أو كان هناك بيت، وكان الظل بمقدارها؛ فحينئذ دخل وقت الظهر.
وبهذه المناسبة يقولون في بعض الرياضيات: هذه المنارة كيف تعرف طولها؟
يقولون: تستطيع أن تعرف طولها بعصا طولها متر واحد، فإذا جئت بين الظهر
والعصر وغرست العصا، وأخذت مقياسها من الأرض إلى أعلاها، وتأخذ امتداد ظلها
وطولها مثلاً متر، وطول ظلها على الأرض مترين مثلاً، فتكون نسبة الظل إلى
الشاخص اثنين إلى واحد، فتعرف بذلك طول المنارة أو عمود الكهرباء أو النخلة
الطويلة أو أي جرم ممتد، فتأخذ ظله، فلو كان مثلاً مائة متر، وأنت عندك
العصا وقد عرفت مقدار ارتفاعها، وكان ظلها ضعفها، فإذا كان ظل العصا ضعفها
فكذلك النخلة أو المنارة يكون ظلها ضعفها، فإذا وجدت الظل مائتي متر فيكون
ارتفاعها مائة متر، أو وجدت ظلها مائة متر فيكون ارتفاعها خمسين متراً فقط،
وهكذا.
وقت صلاة العصر
قوله: (ووقت العصر ما لم تصفر الشمس) .
أي: وقت العصر بعد أن يصير ظل الإنسان مثله ما لم تصفر الشمس، وهذا الوقت
الاختياري، وهو وقت الفضيلة، مع أن وقت العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس
بما يسع ركعة، وهو الوقت الاضطراري.
فالعصر له وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت اضطرار، فالوقت الاختياري بعد أن
يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال.
ومعنى قول الفقهاء (بعد ظل الزوال) : أن للشيء ظل وقت الاستواء، ويكون قدره
قدماً أو قدمين، وهذا حينما تكون الشمس في كبد السماء؛ لأن أشعة الشمس في
فصل الشتاء لا تنزل متعامدة على الأرض، بل تنزل بزاوية منحرفة، وهذا
الانحراف يجعل للشيء ظلاً عندما تكون الشمس في كبد السماء، ولكن في شدة
الصيف، وعندما يستوي الليل والنهار؛ تكون أشعة الشمس متعامدة، فتنزل على
رأس الشاخص فلا يكون له ظل عند الاستواء.
فهناك ظل للزوال يختلف باختلاف الفصول وباختلاف مواقع الأرض من العالم،
فننظر قدر ظل الزوال حينما زالت الشمس، فنحسب الظل الموجود وقت الزوال، ثم
نضيفه إلى الظل الموجود وقت قياس الظل، فإذا صار ظل كل شيء مثله عدا ظل
الزوال، فيكون هذا آخر وقت الظهر.
إذاً: حينما تكون الشمس في كبد السماء فإما أن يكون للشيء ظل في الأرض
موجود بالفعل، وذلك لعدم تعامد أشعة الشمس على الأرض، وإما ألا يكون له ظل،
وآخر وقت الظهر عندما يصير ظل كل شيء مثله، فإن كان يوجد ظل للزوال أضيف
إلى ظل الشاخص، وإن لم يكن له ظل عند الاستواء فنحسب ظله فقط.
يقول: (ما لم تصفر الشمس) فهذا آخر وقت العصر الفضيل، ولماذا تكون الشمس
مصفرة عند الشروق، وعند الغروب تكون محمرة؟ يقولون: في أول خروجها تختلط
أشعتها بالرطوبة التي كانت في الليل، فتكوِّن هذه الرطوبة مع أشعة الشمس
البيضاء هذه الإضاءة، هكذا يعللون، ولا ندري بحقيقة ذلك، فإذا أخذت الشمس
ترتفع ذهبت رطوبة الجو، واكتمل ضوء الشمس وشعاعها، فصارت بيضاء نقية.
إذاً: وقت العصر من نهاية وقت الظهر ما لم تصفر الشمس، وهذا هو الوقت
الفضيل الذي ينبغي ألا تؤخر العصر عنه إلا لضرورة، وبعد اصفرارها يدخل وقت
الاضطرار، والذي يصلي العصر بعد اصفرارها يصليها أداء باتفاق الجميع، فوقت
العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس بما يسع ركعة، ولكن الأفضل أن تصلي في
الوقت الفضيل، وهو ما لم تصفر الشمس وتتغير، وقد جاء في الحديث: (الذي
تفوته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) ، فالرجل يصلي العصر، ويدرك
وقتها، ولما فاته من وقتها الفضيل أفضل من أهله وماله.
إذاً: وقت الفضيلة للعصر، من بعد خروج وقت الظهر إلى أن تبدأ أشعة الشمس
بالاصفرار، وما بعد الاصفرار فهو وقت ضروري.
وقت صلاة المغرب
قوله: (ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق) : العصر ينتهي وقته بغروب الشمس،
ويقولون: كل صلاة يبدأ وقتها بنهاية ما قبلها إلا الظهر؛ لأن ما قبلها وهو
الفجر ينتهي بطلوع الشمس، وما بين طلوع الشمس إلى زوال الشمس ليس من وقت
الصبح ولا من وقت الظهر، ولهذا يقولون: إن أول الأوقات وقت الظهر، وأول ما
نزل جبريل عليه السلام ليبين للنبي صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة إنما
كان في صلاة الظهر، ويقولون: إن آدم أول ما نزل إلى الأرض صلى صلاة الظهر،
فيقولون: إن الظهر هي أول التوقيت، فأول الأوقات الظهر، يليها العصر، ثم في
نهياتها يليها المغرب، ثم في نهايتها يليها العشاء، ثم في نهايته يليه
الصبح، وما بين الصبح والظهر فترة طويلة بين الوقتين.
ونذكر حديث جبريل عليه السلام عندما بيَّن للرسول صلى الله عليه وسلم أوقات
الصلوات، وذلك بعد ليلة الإسراء والمعراج إذ فرضت الصلاة، وفرضها الله على
رسوله كفاحاً، ونعلم بالقصة عندما خففها من خمسين إلى خمس، فلما نزل صلى
الله عليه وسلم، لم يأته جبريل لصلاة الصبح، ولكن جاءه لصلاة الظهر، وجاءه
في يومين متواليين، فصلى به في اليوم الأول الصلوات الخمس في أول وقتها، ثم
من الغد صلى به الصلوات الخمس في آخر وقتها إلا المغرب فإنه صلاها في
اليومين في وقت واحد، ولذا كان وقتها ضيقاً عند المالكية كما سيأتي في بيان
وقتها.
وثبت أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عن وقت الصلاة،
فقال: (صل معنا، فصلى من الغد الصلوات الخمس في أول أوقاتها، ومن بعد الغد
صلى الصلوات الخمس في آخر وقتها، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟
فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال: ما بين هذين وقت) .
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصلاة كتاب موقوت، وأشار القرآن إلى أوقات
الصلاة كما في قوله تعالى: {أًقِمِ الصَلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، وجاءت السنة وبيّنت
وفصلت الأوقات، وبيّن صلى الله عليه وسلم أول الوقت وآخره، وأخبر أن أفضل
الأعمال إيمان بالله ثم الصلاة في أول وقتها.
فالمغرب يمتد وقته ما لم يغب الشفق، ولكن الأفضل في المغرب أن يبادر به،
وعند المالكية أن وقت المغرب لا يمتد إلى الشفق إلا عند الضرورة، وعندهم أن
وقتها يخرج بالأذان والإقامة وصلاة ركعتين وصلاة الفريضة وصلاة ركعتين،
وبهذا ينتهي وقت المغرب الاختياري؛ لأن جبريل صلى برسول الله صلى الله عليه
وسلم المغرب في اليومين في وقت واحد، والرسول صلى الله عليه وسلم لما بيّن
للأعرابي الأوقات صلى المغرب أيضاً في وقت واحد، وفي بعض الروايات أنه أخره
إلى غياب الشفق وقال: (ما بين هذين وقت) .
إذاً: السنة بينت أوقات الصلاة، وفي هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام:
(والمغرب ما لم يغب الشفق) ، والشفق عند الجمهور أنه الحمرة التي تكون عند
غروب الشمس، وهي كالصفرة التي تكون قبيل طلوع الشمس، وكلها من آثار أشعة
الشمس، فالاصفرار قبل طلوع الشمس، فأشعة الشمس تسبق إلينا قبل أن تبرز
الشمس، والشفق هو: بقايا أشعة الشمس بعد أن غربت الشمس.
إذاً: الشفق الحمرة، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الشفق هو: البياض،
والبياض يأتي بعد الحمرة، وبعض المفسرين والعلماء قال: لقد رقبت الشفق
الأبيض، فإذا به قد يبقى إلى نصف الليل.
إذاً: الشفق هو الحمرة، وسيأتي بيان دليله.
وقت صلاة العشاء
قوله: (ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط) : وقت صلاة العشاء يبتدئ من
غياب الشفق، ولكن الأفضل تأخيرها مثل الظهر في شدة الحر، لقوله صلى الله
عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) .
وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة في أول وقتها، كما جاء في السنة
إلا الظهر في شدة الحر فإنه يبرد بها، وإلا العشاء فالأفضل في وقتها
التأخير، ودليله حديث أنه أخرها ذات ليلة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام
أخر العشاء يوماً ثم خرج وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) ، فكان
عليه الصلاة والسلام إذا رآهم اجتمعوا عجل بالعشاء، وإذا رآهم تأخروا
أخرها، لينتظر المتأخرين ليدركوا الصلاة معه.
إذاً: وقت العشاء يبدأ من ذهاب الشفق الأحمر، ولكن الأفضل تأخيرها كما جاء
في الحديث: (إلى نصف الليل الأوسط) .
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم أخّر العشاء يوماً، وأعتم بها، حتى كانت
تخفق رءوسهم من النعاس، ثم خرجوا صلوا معه ولم يتوضئوا كما في حديث ابن
عباس، وتقدم إيراده في نواقض الوضوء، في مسألة النوم هل هو ناقض أو مظنة
للنقض.
فهم كانوا يجلسون في المسجد بعد المغرب، وينتظرون العشاء، وكان يطول الوقت
بهم حتى تخفق رءوسهم من النعاس، وفرق بين النعاس وبين النوم، فخرج عليهم
وهم في مجالسهم فقال: (ليس على وجه الأرض غيركم يعبد الله، وإنه لوقتها
لولا أن أشق على أمتي) ، فهو عليه الصلاة والسلام أخر العشاء أحياناً لبيان
الأفضلية، وهديه عدم التأخير الكثير للعشاء، وهذا هو الحكم العام.
وقت صلاة الصبح
قوله: (ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر مالم تطلع الشمس) .
وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، والفجر فجران كما قال صلى
الله علي وسلم: (الفجر فجران: فجر يلوح في الأفق كذنب السرحان -أي: مرتفع
عمودي مثل ذنب الذئب- وفجر ينتشر -كجناحي الطير- يمتد في الأفق) ، فالفجر
الأول لا يُحل الصلاة، ولا يُحرم الطعام، وهو لحظات ويختفي، والفجر الثاني
هو الذي يحل الصلاة، ويحرم الطعام على الصائم.
قال الفخر الرازي رحمه الله في تفسيره: الفجر الأول فيه آية من أعظم آيات
القدرة الإلهية، وذلك أن الفجر الثاني مسبب عن اقتراب الشمس، فسبقت أشعتها
حتى انفجر ضوء الفجر من ظلام الليل، فطلوع الفجر الصادق هو نهاية الليل،
وهو أثر من آثار حركة الشمس وقربها منا، والشفق هو: بقايا حركة الشمس
وذهابها عنا، فالفجر الثاني والشفق أثران من آثار الشمس، وهذا معقول في
السببية، لكن الفجر الأول نور يمتد في الأفق، ومن أين يأتي هذا النور؟ هل
هناك كوكب أضاء تلك اللحظة حتى ظهر هذا الفجر، ثم ذهب ذلك الكوكب؟ لا يوجد!
وهل هو من القمر؟ لا يوجد قمر! وهل هو أثر من الشمس؟ لكن الشمس ما زالت
بعيدة! قال: وهذا دليل على قدرة المولى سبحانه بأن يوجد المسبب بدون سبب،
وليس السبب إلا أمراً معقولاً بالنسبة إلينا، والله سبحانه قادر على أن
يوجد الشيء بلا أسباب، بل بمحض الإرادة والقدرة الإلهية، فليس هناك شمس،
وهذا أثرها! ونحن نقرأ في أحوال الجنة {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً *
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:35-37] ،
فالحور العين اللاتي في الجنة خلقهن الله من غير أبوين، فهن لسن من ذرية
آدم وحواء، وإنما أنشأهن الله إنشاء من غير أب ولا أم.
البشر من ذرية أبينا آدم وأمنا حواء كما قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، وخلق الله عيسى من مريم من غير
أب، فهناك أسباب ومسببات، لكن الحور العين في الجنة خلقت بلا أب ولا أم،
والطيور التي في الجنة ليست من نسل طيور، وكذلك اللحوم الموجودة، والفواكه
الموجودة، لا نقول: إن الفواكه من غرس في الجنة، وإن الطيور الموجودة هناك
يكون لها بيض وعشش ثم تفقس البيض عن طيور، بل ينشئها الله سبحانه وتعالى
بدون أن يتوقف وجودها على سبب مادي.
فكذلك الفجر الأول هو دليل على قدرة المولى سبحانه، ودليل على أنه قادر أن
يوجد الشيء بدون مسببات مادية، وأما الفجر الصادق الذي به تحل الصلاة، وبه
يحرم الأكل والشرب على الصائم.
فيكون عند انتشار الضوء في آخر الليل، وذلك حين يتبين الخيط الأبيض وهو
الفجر، من الخيط الأسود وهو الليل.
قال المؤلف: [وله من حديث بريدة في العصر: (والشمس بيضاء نقية) ] .
في الحديث الأول قال: (ما لم تصفر الشمس) ، وهنا ذكر مفهومه وهو: (والشمس
بيضاء نقية) ، أي: ما دخلتها الصفرة ولا الحمرة.
قال المؤلف: [ومن حديث أبي موسى: والشمس مرتفعة] .
أي: لم تتضيف للغروب، وقد ذكرنا أن دائرة الشمس من شروقها إلى غروبها ثماني
عشرة درجة، ووقت الزوال عند الدرجة التاسعة من الثماني عشرة، وما بين كبد
السماء إلى الغروب تسع درجات، فحينما تزول الشمس من كبد السماء إلى جهة
الغروب تكون أمامها تسع درجات، وبعد أربع درجات ونصف تكون الشمس في نصف ربع
الدائرة العلوي، فوقت العصر حين تكون الشمس في نصف الربع الأعلى، وحينئذ
تكون الشمس بيضاء نقية؛ لأنها لم تقترب جداً من جهة الغروب، وعندما تقترب
من جهة الغروب تحمر أو تصفر.
أفضل أوقات العصر
والعشاء
صلاة العصر في أول
وقتها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى
المدينة والشمس حية) ] .
قال الراوي: كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، أي: بالمدينة،
فينقلب أحدنا إلى رحله، وبعضهم كان رحله في العوالي، مثل أهل قباء، ومن
عتبة مسجد قباء إلى باب السلام ثلاثة كيلو كما هو معروف، فيمشي هذه المسافة
والشمس حية، بمعنى: لم يبدأ عليها التغير؛ لأن التغير بداية موتها أي:
بداية غروبها، فمعنى قوله: والشمس حية، أي: على حقيقتها وسلامتها من
التغير، قياساً أو تشبيهاً بالتغير الذي يطرأ على الإنسان بالمرض، ويؤدي به
إلى الموت، والشمس حية أي: نقية قوية في ضوئها وحرارتها.
استحباب تأخير
العشاء
قال: [ (وكان يستحب أن يؤخر من العشاء) ] .
أي: وكان صلى الله عليه وسلم يستحب -وليس بواجب- أن يؤخر من العشاء، ولكن
إذا كان المسجد له جماعة من المصلين ينتابونه من أماكن مختلفة، فينبغي على
الإمام ألا يشق عليهم، إلا إذا كانوا أهل حي معين، وكانوا أفراداً مخصوصين،
مثل أن يكونوا في بادية أو في منطقة أهلها قد اتفقوا فيما بينهم وتراضوا
على أن يؤخروا العشاء؛ فلا مانع من ذلك؛ لأنه من حقهم، وقد رضوا بأن تؤخر
العشاء.
ولكن المساجد العامة مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن، فإنه
ينتابه الناس من الآفاق، وربما تأتيه النسوة وقد تركن الأطفال في البيوت،
ووراءهن أعمال كثيرة من تحضير العشاء وغير ذلك، فلا ينبغي تأخيرها حينئذٍ،
إنما يستحب تأخيرها لمن كان وحده ولا يتعلق به حق الآخر، أو لمن كانوا
جماعة وتواطئوا على ذلك، فلا مانع من أن يؤخروها، إذا حصل الاتفاق بينهم.
أما المساجد العامة التي يأتيها عامة الناس وخواصهم، ويأتيها النساء
والرجال، فلا ينبغي تأخيرها، بل تقديمها أول الوقت أنسب وأرفق لمصلحة
العباد.
كراهة النوم قبل
العشاء والحديث بعدها
قال: [ (وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها) ] .
كان يكره النوم قبلها؛ أي: ما بين المغرب والعشاء، ويقولون: الصلاة في هذا
الوقت هي صلاة الأوابين، وبعضهم يقول: صلاة الأوابين هي صلاة الضحى حين
ترمض الفصال، أي: يشتد حر الرمل على الفصيل الصغير، فلا يستطيع أن يتحملها
فيبرك.
فيكره النوم قبل العشاء؛ لأنه قد يمتد به النوم إلى أن يطلع الفجر فتفوته
العشاء، أو ينتبه في ثلث الليل الأخير، وهذا تأخير عن وقتها الفضيل،
فيصليها في وقت الضرورة.
وكان يكره الحديث بعدها؛ لأن الحديث بعدها يطيل السهر، وإطالة السهر تقلل
النوم، وإذا حصل ذلك استمر به النوم حتى طلوع الفجر أو طلوع الشمس، فدفعاً
للمضرة كره النوم قبلها حفاظاً على العشاء، والحديث بعدها حفاظاً على الصبح
حتى لا يغلبه النوم.
وعلى أن يرتب وقته بالليل، ليضمن حفظ صلاته، فلو كان الإنسان متعباً مرهقاً
ولم يجد فرصة للنوم إلا بعد المغرب، وأراد أن يغفو غفوة أو يستلقي أو
يستريح، فعليه أن ينبه أهله أن يوقظوه عند أذان العشاء، وبالنسبة للكلام
بعد العشاء، يقولون إنه لا ينبغي الكلام بعد العشاء إلا مع الضيف، والزوج
مع زوجه، وطالب العلم في مدارسته، وأشياء معينة محدودة، وما عدا ذلك فيكره
حفاظاً على الفجر.
مشروعية اتخاذ منبه
ونحوه للإيقاظ للصلاة
يجب أن ننتبه إلى ما نحن عليه اليوم، خصوصاً مع هذه الأجهزة المخترعة
الجديدة التي لم تكن من قبل، وتستغرق منا أكثر من نصف الليل، أو إلى ثلث
الليل، والناس حولها وهي تشغلهم وتلهيهم، فإذا ذهب أحدهم لينام لا يوقظه
إلا حر الشمس، فهذا تفريط منه، لكن إذا اضطر الإنسان للسهر كأن جاءت مناسبة
أو كان عنده مشكلة سهر لها، أو عنده ضيوف أو كان عنده مريض سهر عليه؛
فينبغي أن يعمل الاحتياط من أجل صلاة الصبح، مثل الساعات المنبهة التي فيها
الجرس أو ساعة التلفون أو أي وسيلة من الوسائل التي توقظه لصلاة الصبح.
وعمل هذه الاحتياطات من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رجع مرة من بعض
الغزوات، وعرس بآخر الليل في بعض الأودية، وقال: (من يكلأ لنا الصبح؟) فقال
بلال: أنا يا رسول الله! والمعنى: من يحرسه ويوقظنا حينما يرى الفجر؛ لأنه
صلى الله عليه وسلم علم بأنهم في عودة من غزوة بعد سفر طويل، والتعب موجود،
فيخشى أن يغلب عليهم النوم ولا يستيقظون من شدة التعب حتى يطلع الفجر ويخرج
الوقت، فاتخذ وسيلة لحفظ الوقت بحسب ظروفهم.
(فجلس بلال وقام يصلي ما شاء الله، ثم أناخ راحلته، وأسند ظهره عليها ووجهه
إلى المشرق ليرى الفجر، فما كان منه إلا أن نام، وناموا جميعاً، وما أيقظهم
إلا حر الشمس، ففزعوا وكانوا يتحاشون أن يوقظوا رسول الله عليه الصلاة
والسلام إذا كان نائماً، مخافة أن يكون في حالة من تلقي الوحي، لكن عمر رضي
الله تعالى عنه أخذ يكبر بصوت مرتفع حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما رأى أن الشمس قد ارتفعت قال: اركبوا، حتى خرجوا من ذلك الوادي،
ثم نزلوا فتوضئو وأمر بلالاً فنادى للصلاة ثم أقام فصلى بهم، ولما رأى
استياء الناس قال: إن بهذا الوادي شيطاناً، فمن نام عن الصلاة أو نسيها
فليصلها حين يذكرها، ثم قال لـ أبي بكر: يا أبا بكر! إن بلالاً قام يصلي من
الليل ما شاء الله ثم جاءه الشيطان يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام،
ثم قال لـ بلال: أين الصبح يا بلال؟! قال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم
-أي: أنا واحد مثلكم- ثم قال: ماذا جرى عليك؟ فذكر له مثل ما ذكر النبي
عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال أبو بكر: أشهد
أنك رسول الله) .
الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم مظنة أن يغلبهم النوم،
لما لحقهم من مشقة السفر وعودتهم من الغزو وتأخرهم في النوم؛ أوكل من
يوقظهم لصلاة الفجر، ولكن الله أراد شيئاً آخر؛ أراد أن يوقع ذلك بهم في
حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لنا ماذا نفعل إن وقع لنا مثل
ذلك، فهل نصليها بعد وقتها؟ وهل نجتاز ذلك المكان لكونه فيه شيطان؟ إذاً:
الشياطين في بيوت الناس كلهم.
قال ابن عبد البر: الإخبار بأن الوادي فيه شيطان أمر خاص برسول الله صلى
الله عليه وسلم، فالله أخبره بذلك، أما نحن فقد يكون الشيطان معنا ولا
ندري، وليس بلازم على من وقع عليه مثل ذلك في مكان أن يخرج منه، بل يصلي
الصلاة حينما ذكرها أو قام عنها.
وجوب القضاء على من
ترك الصلاة عمداً
هذا، وقد أطال ابن عبد البر البحث في الاستذكار في حوالى عشر صفحات في
إقامة الدليل على أنه من كان في ذمته صلوات فائتة عليه، فيجب عليه إلزام أن
يؤديها، وشنّع على ابن حزم في مخالفته في هذا، وقال: قد خالف مذهبه ومذهب
شيخه داود، فإن من علماء الظاهرية من ذكر أن من اشتغل بأمر ففاتته الصلاة
فعليه قضاؤها، وكذلك الحائض في بعض الحالات، وذكر حالات أوجب على أصحابها
أن يقضوا ما فاتهم.
قال: وهؤلاء تركوها عمداً، فعليهم القضاء، فقول ابن حزم: لا قضاء على من
تركها عمداً مخالف لإجماع المسلمين، وقد خالف حتى مذهب شيخه بالذات، فلم
يوافقه أي أحد، ثم قال: وادعى أن بعض السلف يوافقه على رأيه، وهذا خطأ، ولا
يصح عن أحد من المسلمين ذلك، لا من الصحابة ولا من التابعين، فلا نعلم
أحداً منهم قال: إن من ترك الصلاة عمداً لا يقضيها.
وقد ذكر غير ابن عبد البر عن ابن عباس أنه سئل عمن ترك صلوات هل يقضيها أم
لا؟ فقال: سبحان الله! النائم والناسي -وهما معذوران- يطالبان بقضائها،
وهذا العاصي الآثم لا يطالب بالقضاء! أي: فالعقل لا يستسيغ ذلك.
والله تعالى أعلم.
كتاب الصلاة - باب
المواقيت [2]
حددت الشريعة أوقات الصلوات، وكل الصلوات يستحب المبادرة بأدائها في أول
وقتها إلا صلاة الظهر في شدة الحر، وصلاة العشاء إذا انتفت المشقة في
تأخيرها، ويستحب إطالة القراءة في صلاة الفجر والتغليس بها، ويتعلق بما ذكر
مناقشات وخلافات فصلها العلماء، ورجحوا بينها.
حديث رافع بن خديج
بتعجيل وقت المغرب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه
أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعن رافع بن خديج رضي الله
عنه قال: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا
وإنه ليُبصر مواقع نبله] .
الله أكبر! هذه الرياضة، رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه من الشباب
المشهورين بالرماية، وفي بعض الغزوات رده رسول الله صلى الله عليه وسلم
لصغر سنه وأجاز غيره، فذهب إلى أبيه وبكى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أجاز فلاناً ومنعني، وإني -والله- أصرعه، فتصارعا فصرعه، فأجازه، وكان
قد قيل لرسول الله عليه الصلاة والسلام: إن رافعاً الذي رددته رامٍ، فجيء
به واختبر، فأجازه؛ لأنه رام، أي: متمرن على الرماية قبل أن يبلغ السن الذي
يجيز له أن يشارك في القتال في سبيل الله.
قال: (كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا -من
الصلاة- وإنه ليبصر مواقع نبله) ، النبل هي السهام التي توضع في القوس
ويرمى بها، وأين كان هذا؟ وهل كانوا يقاتلون؟ وهل كان حينئذٍ قتال في
المدينة؟ وهل وقت القتال تنظر مواقع النبل؟ لا، فالنبل تصوب إلى العدو
وتذهب، ولكنهم كانوا يتدربون.
وتعرفون مسجد السبق في الباب الشامي، وهو الآن عند موقف النقل الجماعي قبل
ثنية الوداع، فهذا المسجد بني في موضع السبق.
مشروعية السبق برمي
النبل
والسبق عند العلماء هو المسابقة، ويبوب الفقهاء في مصنفاتهم (باب السبق
والمناضلة) ، والسبق يكون بالخيل، والمناضلة تكون بالسهام، فكانوا يخرجون
-ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وينصبون الهدف، ويتبارون أيهم يصيب
أكثر.
وتكون المسابقة بين شخص مقابل شخص، أو فريق مع فريق، وقد جاء (أن النبي صلى
الله عليه وسلم مر بفريقين متناضلين منهم بنو بياضة، فقال لبني بياضة: أنا
معكم، فأمسك الفريق الثاني أن يرمي شيئاً، فقال: ما بالكم لا ترمون؟ قالوا:
كيف نناضل قوماً معهم رسول الله؟ فقال: ارموا وأنا معكم جميعاً) .
وطريقة المناضلة أن يجعلوا هدفين: هدفاً لهذا الفريق، وهدفاً لهذا الفريق،
ويكونان متساويين في المسافة وفي الارتفاع وفي المقدار، ثم يحدد الرمي في
عشرة أسهم مثلاً، فمن يصب من العشرة أكثر من خصمه فهو السابق، فبعضهم يصيب
العشرة كاملة، أو تسعة أو ثمانية، وبقدر ما يتفوق أحد الفريقين يكون له
السبق.
فكانوا يخرجون إلى ذلك المكان بعد العصر ويتسابقون -ويشترط العلماء لهذا
شروطاً مذكورة في كتب الفقه- فكانوا يؤدون هذه الرياضة والرسول صلى الله
عليه وسلم أحياناً معهم، وأحياناً ليس معهم، فإذا أنهوا السبق وحان موعد
صلاة المغرب صلوا، فإذا انصرفوا من صلاتهم يبصر أحدهم مواقع نبله، وذلك بعد
الانصراف من صلاة المغرب مع بقاء ضوء النهار، قبل دخول شدة الظلام، فكان
الواحد منهم ينظر موقع النبل، هل أصاب الهدف أو وقع يميناً أو يساراً.
وهذا يدل على أنهم كانوا يصلون المغرب في أول وقتها، فحديث رافع يبين لنا
أنهم كانوا يصلون المغرب في أول وقتها، حتى إنهم بعد أن ينصرفوا من صلاتها
ليتمكن الواحد منهم من أن يرى مواقع النبل.
وهذا الحديث يدل على مشروعية هذه الرياضة وهذه المسابقة، وقد كان صلى الله
عليه وسلم يسابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق،
وبين الخيل المضمرة إلى الحيفاء وراء بئر عثمان، والسباق على الخيل
والمناضلة على السهام من أسباب الاستعداد للجهاد، فكان صلى الله عليه وسلم
يمرن الصحابة على كل ما يساعدهم على الجهاد، والنبي عليه الصلاة والسلام قد
صارع وحمل الأثقال وناضل بالسهام وسابق بالخيل.
مشروعية تعلم
المصارعة وإتقان رياضة الدفاع عن النفس
أما المصارعة فكانت مع ركانة قبل الهجرة، وكان ركانة لا يصرعه أحد، فقال له
صلى الله عليه وسلم: (ألا تسلم يا ركانة؟! قال: يا محمد! صارعني فإن غلبتني
فلك شاة! فصارعه رسول الله عليه الصلاة والسلام فصرعه، فقال: واعجبا! والله
ما أحد قبلك ألصق جنبي بالأرض، هذه شاة، أتعود يا محمد؟! قال: نعم، فصرعه
الثانية، فأعطاه الشاة الثانية، قال: الآن الثالثة وهي النهاية، فعادا
المرة الثالثة فصرعه فأخذ ثلاث شياه.
فقال ركانة: يا ويلتاه! ماذا أقول لأهل الغنم في ثلاث شياه في وقت واحد؟ إن
قلت: واحدة أخذها الذئب، وواحدة هربت فلم أدركها، فماذا أقول في الثالثة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: يا ركانة! لا أجمع عليك غبنين: غبن الانهزام وغبن
الشياه، خذ شياهك فهي لك.
فتعجب من شجاعته وقوته ثم من كرمه صلى الله عليه وسلم، قال: أتعجب من هذا
يا ركانة؟! قال: إي والله يا محمد! قال: ألا أريك ما هو أعجب من ذلك؟ قال:
بلى، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شجرة هناك فأشار إليها أن هلم إليّ،
فجاءت تخط الأرض كالمحراث، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم قال لها: عودي حيث كنت! فرجعت كما كانت؛ فأسلم ركانة) .
أعتقد أن مهندسي الزراعة في العالم كله في الأراضي الباردة والحارة، لا
يستطيعون أبداً أن يدركوا أو يكيفوا كيف انجذبت جذورها! وكيف جاءت تخط في
أرض يابسة! ثم رجعت إلى مكانها وهي على حالها! كيف حصل هذا؟! هذا أمر غريب
على العقل، ولكن المعجزة فوق إدراك العقل وتصوره.
إذاً: صارع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصارعة من الإعداد للجهاد،
فقد يكون القتال بالسلاح الأبيض، ومن شارع إلى شارع، ومن دار إلى دار،
فيضطر المقاتل عندها إلى القتال باليد، وإن كان القتال الآن بالأسلحة
الذرية وبالاقتصاد وبأشياء كثيرة؛ لكن قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَة} [الأنفال:60] ، يشمل كل قوة، ولا حد للاستطاعة
ألبتة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر على شباب يتبارون في حمل صخرة، فبعضهم يقدر
على رفعها، وبعضهم يعجز، فقال: (أريكم؟ وحملها بين يديه ورفعها ووضعها) ،
وهذا حمل الأثقال.
وكذلك سابق عائشة فسبقته مرة وسبقها مرة، وكان مرة على ناقته القصواء
فسبقها أعرابي فقال: (حق على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) .
يهمنا أن الصحابة كانوا يخرجون من صلاة المغرب، وينظرون مواقع نبلهم، وعند
العرب أن من اتصف بثلاث صفات سمي كاملاً وهي: أن يكتب بالقلم، ويجيد الرمي،
ويحسن السباحة، فمن اجتمعت فيه تلك الخصال الثلاث قالوا: إنه من الكمل، أي:
كملت صفة الرجولة فيه.
حكم تأخير صلاة
العشاء إذا انتفت المشقة
قال المؤلف: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أعتم النبي صلى الله
عليه وسلم ذات ليلة بالعشاء حتى ذهب عامة الليل ثم خرج فصلى وقال: إنه
لوقتها لولا أن أشق على أمتي) رواه مسلم] .
قول عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أعتم النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة) ، أعتم: أي: دخل في العتمة مثل أصبح، ومثل أمسى، أي: دخل في
الصباح ودخل في المساء، والعتمة هي: ظلام الليل.
وقولها: (ذات ليلة) أي: أن ذلك لم يكن مما يداوم عليه صلى الله عليه وسلم،
ولكن ليلة من الليالي أعتم بالعشاء حتى ذهب عامة الليل، وبعضهم يقدر ذلك
بنصف الليل، وبعضهم بثلثي الليل، إلى غير ذلك من التقديرات.
ثم خرج على أصحابه، وقد كانوا ينتظرون خروجه ليصلي بهم صلاة العشاء، وفي
رواية ابن عباس: حتى كانت تخفق رءوسنا بالنوم، فكانوا جالسين ينتظرون
الصلاة، ومع طول الوقت، وعدم تعودهم على السهر؛ كانت تخفق رءوسهم بالنعاس،
وهو من مقدمات النوم، ولما خرج عليهم صلوات الله وسلامه عليه وهم على تلك
الحالة قال لهم: (إنه لوقتها) ، أي: هذا الوقت الذي جئتكم فيه هو وقت
العشاء (لولا أن أشق على أمتي) .
مراعاة النبي صلى
الله عليه وسلم لمصلحة أمته
وقد ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يرغب في الشيء ويريده ولكنه يتركه
مراعاة لمصلحة الأمة، سواء كان خوفاً من مغبة ذلك وما يترتب عليه، أو كان
رفعاً للحرج وللمشقة، ومن ذلك قوله في السواك: (لولا أن أشق على أمتي
لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، فالأمر يقتضي الوجوب والإلزام، فلم يأمرهم
أمر إيجاب وإلزام ولكن أمر توجيه وإرشاد.
وكذلك من شفقته بالأمة عليه الصلاة والسلام أنه لما صلى بعض الناس بصلاته
صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولم يعلم بهم، وفي الليلة الثانية والثالثة
كثر الناس حتى امتلأ المسجد بهم، فصلوا العشاء ولم يخرجوا، وبقوا ينتظرون
خروج النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يخرج في الليالي السابقة ليصلي
فيصلون بصلاته قيام الليل، فلما وجد المسجد مليئاً بالناس سأل عائشة فقال:
(يا عائشة! ما بال الناس مجتمعون؟! ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى صلوها،
ولكن ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى بصلاتك من قبلهم في
الليالي الماضية، فقال: ارفعي حصيرتي، ولم يخرج تلك الليلة، ولما استبطئوا
خروجه أخذوا الحصباء يرمون بها باب البيت -لينبهوه صلوات الله وسلامه عليه
للخروج إليهم وكأنهم يقولون: نحن في انتظارك- فلم يخرج إلا في صلاة الفجر
وقال: أما إنه لم يخف عليّ صنيعكم البارحة -أي: أنا بحمد الله لم أبت
غافلاً ولم أكن نائماً، بل كنت أعلم بوجودكم- ولكن خشيت أن أخرج إليكم
فأصلي بكم فتكتب عليكم فلا تستطيعوها) .
فكان عدم خروجه إليهم مع أن هذا من في فعل الخير، حيث يصلون في مسجد رسول
الله مقتدين برسول الله في شهر مبارك، ولكن لرأفة النبي بالأمة وشفقته
عليهم خشي أن يخرج فيكتبها الله عليهم، وتصبح واجبة عليهم في الليل، كما أن
الصيام واجب عليهم في النهار، فتلحقهم بذلك مشقة، وإذا لحقتهم مشقة فما كل
الناس يستطيع أن يفعل ذلك.
ولما عرج به صلى الله عليه وسلم وفرض الله عليه خمسين صلاة، مر بموسى عليه
السلام وهو في السماء السادسة، فقال: (ماذا فرض الله عليك؟ قال: فرض عليّ
وعلى أمتي خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك وسله التخفيف، فالتفت إلى جبريل
يستشيره، فقال: نعم، فرجع به جبريل إلى ربه، وسأله التخفيف، فخفف عنه
خمساً، ونزل إلى موسى، ولم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، وموسى يقول له:
سله التخفيف، فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك -وهم أشد من أمتك أبداناً
وقوة- بأقل من ذلك، فلم يستطيعوا لهذا، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف،
فحينما انتهت إلى خمس، قال: لقد استحييت من كثرة مراجعتي ربي، فقال المولى
له: يا محمد! هي خمس بالعدد وخمسون في الأجر) ؛ أي: لأن الحسنة بعشر
أمثالها.
الشاهد أن موسى نصحه وقال له: لقد بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من هذا فلم
يستطيعوا، إذاً: التخفيف على الأمة هو الأولى، وكان من سنته ومنهجه صلى
الله عليه وسلم -كما تقول أم المؤمنين عائشة - أنه ما خير صلى الله عليه
وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وفي الحديث: (يسروا ولا تعسروا) .
إعتام النبي صلى
الله عليه وسلم بالعشاء ليلة لبيان الجواز والفضيلة
أعتم بهم ذات ليلة، وليس كل ليلة، أو كل أسبوع مرة، أو كل شهر مرة أو
مرتين، بل ليلة ليبين الأفضل والجواز، وهذا في حق الأفراد لا في حق أئمة
المساجد؛ لأن المساجد يأتي إليها أجناس الناس المختلفة قوة وضعفاً، كما في
الحديث: (من أمّ بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة) .
إذاً: أعتم ذات ليلة ليبين الفضيلة، ولم يُعتم بعدها، واستقر الأمر على أن
يصلي العشاء في أول وقتها، وفي بعض الروايات أنه قال: (إنه لا ينتظرها على
وجه الأرض غيركم) ، يعني: يريد أن يخفف عنهم عناء السهر الذي سهروه،
فأخبرهم بأن سهرهم هذا لا نظير له على وجه الأرض، أي: أنتم الذين خصكم الله
بهذا الفضل، ولا يوجد على وجه الأرض من ينتظر صلاة كانتظاركم، ففرحوا بهذه
الخصوصية والأفضلية، وهان عليهم ما مضى من سهر وانتظار لرسول الله صلى الله
عليه وسلم.
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام أعتم ذات ليلة، وهل استمر على ذلك؟ لا، بل
رجع إلى ما كان عليه من قبل، وهو صلاته بهم في أول الوقت، أو كما قال
الراوي: (أما العشاء فكان يصليها أحياناً وأحياناً، إذا وجدهم اجتمعوا عجل،
وإذا رأى منهم تأخيراً أخر) ، وذلك انتظاراً لمن لم يحضر حتى لا تفوته
الجماعة.
شرح حديث تأخير صلاة
الظهر وقت اشتداد الحر
قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) متفق
عليه] .
هذا الحديث أخذ حيزاً كبيراً في كتب شروح الحديث، وكثُر الكلام والمناقشة
حوله من جهتين: من جهة الحقيقة والمجاز في قوله: (من فيح جهنم) ، ومن جهة
الفقه في قوله: (أبردوا) .
خلاف العلماء
وأدلتهم في مسألة الإبراد بالظهر
ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها
وقالت: يا رب! أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في
الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر فهو من نفسها في الصيف، وأشد ما تجدون من
الزمهرير فهو من نفسها في الشتاء) .
ومعنى قوله: (أكل بعضها بعضاً) ، أي: أن حرها وأوارها قد اشتد فطلبت من
ربها أن يخفف عنها، فسمح لها بنفسين، فأشد ما تجدون من الحر فهو من نفسها،
وأشد ما تجدون من البرد فمن نفسها، فالنار فيها حر وبرد! فيها الزمهرير وهو
شدة البرد، وفيها النار والحميم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة) ، أي: بصلاة
الظهر، فهل الإبراد بصلاة الظهر أولى أو مراعاة فضيلة أول الوقت؟ جاء في
الحديث: (أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم الصلاة على أول وقتها) ،
وجاء الحديث الذي فيه مقال: (أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله،
وآخره عفو الله) ، فهناك أحاديث متعادلة متقابلة.
فالجمهور على أن الأفضل أن تكون جميع الصلوات في أول الوقت إلا الظهر في
شدة الحر فيبرد بها، وإلا العشاء فتؤخر إلى ثلث الليل، فهاتان الفريضتان
الأفضل فيهما التأخير، كما قال أحمد رحمه الله: كل الصلاة على أول وقتها
أفضل إلا الظهر في الحر وإلا العشاء إلى ثلث الليل، أي: لمن لم يشق عليه
ذلك.
ومن العلماء من يرجح أن الظهر تصلى في أول وقتها، ولكن يعارضه هذا الحديث
الصريح.
والشافعي رحمه الله يقول: يُنظر لحال المصلين، فإذا كانوا يمشون في ظل،
ويأتون إلى المسجد بلا مشقة عليهم، فإنهم يصلون الظهر في أول وقتها، وإن
كانوا يمشون في الشمس، وفي شدة الحر فإن الأفضل أن يؤخروها.
ومنهم من يقول: يختلف الحكم إذا كانوا يأتون من مكان بعيد إلى المسجد أو
يأتون من قُرب المسجد، فيراعى حال المصلين بالنسبة لشدة الحر.
فالقائلون بأن الظهر تؤخر نظروا إلى هذا الحديث، وهناك حديث آخر رواه مالك
في الموطأ فيه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة حر الشمس
والرمضاء على أكفنا وجباهنا، فلم يَشكُنا، أو: فلم يُشكِنا) أي: لم يسمع
شكوانا، وأمرنا بالصلاة في أول وقتها.
فهناك حديث الإبراد، وهناك حديث: (شكونا فلم يشكنا) ، فقالوا: إن حديث:
(شكونا) ، ناسخ للإبراد وحديث: (إذا اشتد الحر فأبردوا) قاله صلى الله عليه
وسلم في سفر.
يرد عليهم بأن دعوى النسخ تحتاج إلى إثبات التاريخ، والذين يقولون بالإبراد
استدلوا أيضاً بحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحضر الظهر، وأراد
المؤذن أن يؤذن فقال له: (أبرد أبرد) أي: لا تؤذن الآن، ورجح الجمهور
الإبراد بالظهر إذا كان يشق على الناس الحضور إلى المسجد وقت الحر، بألا
يكون هناك ما يظلهم وكانت تلحقهم المشقة في مجيئهم إلى صلاة الظهر في وقت
شدة الحر.
الحكمة من الإبراد
بالظهر في شدة الحر
فإن قيل: ما هي الحكمة من الإبراد بالظهر في شدة الحر؟ فالجواب: لأن شدة
الحر تجعل الناس في قلق وعدم طمأنينة، وهذا ينافي المطلوب في الصلاة من
توافر الطمأنينة ليفقه المصلي ما يقول، وليكون على خشوع بين يدي ربه في
صلاته، فإذا كان في شدة الحر فهو قلق مضطرب منزعج، فلا يمكن أن يوفي الصلاة
حقها في تلك الحالة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (أبردوا) .
وجاء في الأثر: ثلاث ساعات نُهينا عن الصلاة فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا،
وذكر منها: حينما تكون الشمس في كبد السماء حتى تزول، فقالوا: النهي عن
الصلاة في ذلك الوقت؛ لأن النار تُسجر في ذلك الوقت.
واستشكل بعض العلماء هذا فقال: إذا كانت النار تسجر في ذلك الوقت، فإنه
أدعى إلى أن نصلي، ونسأل الله العفو والمغفرة، ونسأل الله السلامة من
النار.
وأجاب بعض العلماء عن ذلك فقال: إنّ كون النار تسجر في ذلك الوقت، إشعار
بما يكون من المولى سبحانه من غضب، حتى جعل النار بتلك الحالة في ذلك
الوقت، والسائل حينما يسأل يراعي حالة أو صفة المسئول، فلو كانت لك حاجة
عند إنسان فإنك تراعي وقت رضاه، ووقت سماحته، ولا تسأله وقت غضبه وشدته،
إنما تراعي وقت رضاه، ووقت رحمته، ووقت انبساطه، وهذا في حق المخلوق، والله
سبحانه وتعالى منزه عن ذلك كله، لكن ينبغي أن تكون صلاتنا وسؤالنا في غير
حال غضب المولى سبحانه، كما جاء في حديث الشفاعة، حينما يذهب أهل الموقف
إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم، فكل منهم يعتذر ويقول: (إن ربي قد غضب
اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله) ، ولم يتقدم أحد منهم لطلب الشفاعة؛ ثم
يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ادخر دعوته لذلك اليوم،
فيشفع لهم.
إذاً: شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا من أجل تلك الحالة؛ لأن الدعاء في ذلك
الوقت ليس كالدعاء في حالة هدوئها، وعدم فيحها.
يهمنا في الفقه أن الأفضل مراعاة حال المصلين في صلاة الظهر، كما هو مذهب
مالك رحمه الله، ففي الشتاء نصلي الظهر في أول وقتها؛ لأنه ليس هناك دواع
للإبراد بها.
قالوا: الجواب عن حديث: (شكونا فلم يشكنا) ؛ لأنهم طلبوا التأخير إلى وقت
طويل حتى تبرد الحصباء، وجاء في بعض الآثار: (شكونا فلم يشكنا، فكان أحدنا
يسجد على طرف كمه، وعلى طرف ردائه، وكان أحدنا يأخذ القبضة من البطحاء
يمسكها في يده طيلة ما هو قائم للقراءة والركوع، فإذا سجد بسطها ليسجد
عليها) ، لأنها تكون قد بردت في يده في تلك المدة.
فيكون قوله: (فلم يشكنا) أي: لأنهم طلبوا مدة أطول للإبراد، ولكن هذا في
الواقع يحتاج إلى إثبات؛ لأنهم ما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مدة
معينة، بل شكوا إليه الحر فقط، وشكوى الحر تتضمن الانتظار حتى يذهب حرها،
وحر الرمضاء لا يذهب إلا قريب العصر، فيكون فيه تأخير صلاة الظهر إلى حد
بعيد.
حد الإبراد
وقد ذكر البيهقي رحمه الله عن عمر بن عبد العزيز أنه لما كان أميراً على
المدينة لبني أمية، كان يصلي الظهر في شدة الحر الساعة الثامنة على التوقيت
الغروبي، أي: في وسط الوقت الذي بين أول وقت الظهر وأول وقت العصر، فبعض
الناس يجعل ذلك حد الإبراد.
وبعضهم يقول: هذا شيء كثير.
وبعضهم يفرق بين الشخص في حد ذاته وبين مساجد الجماعة، فالمصلي المنفرد له
أن يصلي الظهر في أول وقتها، أما مساجد الجماعة التي يرتادها الناس من
بعيد، وتلحقهم بسبب ذلك مشقة الحر، فعلى الإمام أن يبرد بصلاة الظهر، هذا
ما يتعلق بالناحية الفقهية.
معنى: إن شدة الحر
من فيح جهنم
وقوله: (فإن شدة الحر من فيح جهنم) .
الفيح: هو النفس والهواء، فزهم النار عُبر عنه بفيح جهنم، واختلف العلماء:
هل فيح جهنم على الحقيقة أو على المجاز؟ جاء في بعض الروايات: أن الفرق بين
نار الدنيا ونار الآخرة سبعون درجة، فنار جهنم أشد من نار الدنيا بسبعين
درجة، فإذا كانت شدة الحر من فيح جهنم، فهل تنفست النار فعلاً على الحقيقة،
فحصل شدة الحر في الصيف بسبب فيحها؟ وهل هذا الحر الذي نجده في الصيف هو
فعلاً من نفسها أو من هوائها ووصل إلى الأرض، أو أن هذا على سبيل التشبيه،
والمعنى: أن شدة الحر يشبه شدة حر جهنم؟ بعض العلماء يقول: الحديث على
التشبيه، والبعض الآخر يقول: ما المانع أن يكون على الحقيقة! فالنار اشتكت
فعلاً على الحقيقة، وخلق الله لها القدرة على النطق فاشتكت إلى ربها، كما
ينطق الله يوم القيامة الأعضاء والجلود، كما قال الله: {يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور:24] ،
وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا
أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، وقال الله
عن السماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ} [فصلت:11] ، وقال: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر}
[سبأ:10] ، وقال: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19] ،
وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فلا مانع من أن الله خلق في النار
القدرة على النطق حتى اشتكت، أو أنه جعل عندها قوة التعبير، وعلم شكواها.
فالمسألة دائرة في هذا بين الحقيقة والمجاز.
والنووي رحمه الله يذكر أن كثيراً من العلماء حملوا الحديث على ظاهره، وذكر
البيضاوي عن بعض العلماء أن الحديث على التشبيه وعلى المجاز وليس على
الحقيقة؛ لأن فيح جهنم لو قيس بما نحن فيه من الحرارة لكان بعيداً كل
البعد؛ لأن نار جهنم تزداد سبعين ضعفاً عن النار التي تكون في الأرض، ومهما
اشتد الحر في وقت القيلولة فلن يصل إلى حد النار الموجودة في الدنيا، وهي
واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: فالحديث -إذاً- على التشبيه.
وابن عبد البر رحمه الله قد أطال الكلام في الاستذكار حول هذه المسألة، ومن
أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إليه، ومما قاله في ذلك: لا مانع على
قدرة الله أن يكون ذلك على الحقيقة، ولا أحد ينفي قدرة الله، ولكن الكلام
في واقع الأمر، فهل قوله: (من فيح جهنم) على الحقيقة أو هو تشبيه بفيح
جهنم؟ وبعضهم يقول: إن العرب إذا أرادت أن تضرب مثلاً لشيء تشبهه بأعلى ما
يمكن فتقول مثلاً: فلان نار في طبعه، أي: أنه حار الطبع كالنار، فيمكن أن
يشبه الشيء بأقصى ما يمكن من درجاته وبعده، ليُبين إلى أي حدٍ ومدى وصل في
هذه الصفة.
على كلٍ: فإن الجمهور على أن الإبراد تراعى فيه مصلحة المصلين، بدليل أن
الحكم معلل بشدة الحر، فإذا كان في الشتاء فلا إبراد، وإذا كان أهل المسجد
حوله، ولا يأتون من مكان بعيد، كأن يكون المسجد في وسط السوق، فيأتون من
السوق إلى المسجد، والمسافة بينهما أمتار قليلة، فإذا سمعوا النداء خرجوا
من حوانيتهم ودكاكينهم إلى المسجد، فليس هناك شدة حر، ولا فيح ولا مشقة،
فيصلون الظهر في أول وقته، فيراعى في ذلك حالة المصلين، أما إذا كانوا
يأتون من بعيد، وليس هناك ما يظلهم من الشمس أبردوا.
وهناك من يقول: يراعى في ذلك المساجد العامة ولا يدخل في ذلك من يصلي
منفرداً؛ لأن الفرد قد يصلي في مكان يكنه، إذا كان لا يتحمل مشقة الذهاب
إلى المسجد، كأن يكون من أهل الأعذار، فيصلي في بيته فهذا لا يبرد بالظهر،
ومثله من كان مع جماعة في موضع لا تلحقهم مشقة المسير إلى المسجد العام،
والله تعالى أعلم.
الإسفار بصلاة الفجر
والتغليس بها
قال المؤلف: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) رواه الخمسة، وصححه الترمذي
وابن حبان] .
تقدم أنه كان صلى الله عليه وسلم ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل
جليسه، و (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فكان من شأنه ومن سنته ومن
منهجه وفعله المستمر أن ينفتل من صلاة الغداة -وهي الصبح- حين يعرف الرجل
جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة؛ ومتى كان يبدأ صلاة الفجر إذا كان
عند نهايتها بعد أن يقرأ الستين أو المائة يعرف الرجل جليسه؟ كان يبدأ بها
في الغلس، أي: أول انبلاج الفجر.
وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح) ، وفي رواية: (أسفروا) .
أصبحوا بالصبح، أي: ادخلوا في الصبح، وقوله: أسفروا هو: من الإسفار، وهو
النور، ومنه سمي السفر سفراً؛ لأنه يكشف وينير عن حقيقة الإنسان في سفره،
فالإنسان في حالة إقامته قد تكون أخلاقه فاضلة، فعنده حلم وكرم ومساعدة
وتسامح، لكن إذا كان في السفر تأتي المشقة والتعب، فبعض الناس لا يراعي إلا
راحة نفسه، ولا يراعي الآخرين، فالسفر يسفر ويكشف عن حقيقة الأشخاص
وطبائعهم؛ لأنه يُظهر الشخص على حقيقته، فهنا يقول رافع بن خديج رضي الله
تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا، أو أسفروا) ، وظاهره أن
الصلاة يستحب تأخيرها! وهذا متعارض مع حديث: (كان ينفتل من صلاة الغداة حين
يعرف الرجل جليسه) ، مع أن قراءة النبي عليه الصلاة والسلام كانت بالستين
إلى المائة، فأيهما أرجح؟ الشوكاني رحمه الله تكلم على حديث: (أصبحوا) وبين
أنه في بعض طرقه ضعفاً، وذكر أنه لا ينهض لمعارضة ما هو أقوى منه، ويدل على
صلاة الفجر وقت الغلس حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان
النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف من صلاة الصبح، ونسوة الأنصار في المسجد
فلا يعرفن من الغلس) ، والغلس هو الظلام.
إذاً: الأحاديث التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يغلس بالصبح أكثر
وأقوى من حديث: (أصبحوا أو أسفروا) ، ثم بعضهم يقول: إن حديث: (أصبحوا أو
أسفروا) ليس معناه: أخروا صلاة الصبح حتى يحصل الإسفار ويأتي الصبح، فقد
كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يدخل في صلاة الصبح بغلس ويُطيل القراءة
حتى لا يخرج منها إلا مسفراً أو مصبحاً، ولكن قد يكون في ذلك مشقة، وهو
عليه الصلاة والسلام كان يراعي حالة من خلفه، فمن أمّ الناس فليخفف، ولكن
ربما فعل ذلك مرة أو أمر بذلك لبيان الجواز، ولكنه داوم على ما هو الأفضل،
فكان يغلس بها.
وعلى هذا جمهور المسلمين وأكثر العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، فعندهم أن
صلاة الصبح تصلى من أول انفجار الفجر بغلس، والإمام أبو حنيفة رحمه الله
أخذ بحديث رافع، ورأى أن تأخير الصبح إلى الإسفار أعظم للأجر وأفضل،
فالمسألة دائرة بين أن نسفر بها أو نغلس بها، وأكثر الأحاديث على التغليس
بها، وهو أن تصلى الصبح في أول وقتها بغلس، والله تعالى أعلم.
الوقت الاضطراري
للفجر والعصر
قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن
أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) متفق عليه] .
تقدم لنا في تحديد الأوقات أن صلاة الظهر حينما تزول الشمس عن كبد السماء
إلى أن يصير ظل كل شيء مثله زيادة على ظل الزوال، ووقت العصر من أول ما
يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس، إلى تضيفها للمغيب.
فالعصر له عدة أوقات، وقد ذكر النووي عن الشافعية أن للعصر أوقاتاً متعددة:
وقت الفضيلة في أولها، ووقت الإباحة حينما يصير ظل كل شيء مثليه، ووقت
الكراهية حينما تصفر الشمس.
وهذا الحديث فيه بيان وقت الضرورة، وذلك لمن كان نائماً أو كان ناسياً أو
اشتغل عنها، فأدرك من العصر ركعة بقراءتها وبركوعها وبسجدتيها قبيل غروب
الشمس، وبعد أن أكمل الركعة غربت الشمس؛ فقد أدرك العصر، بمعنى أدرك وقتها،
فإنه يُصلي بعد غروبها ثلاث ركعات تتمة للأربع، وهذا أضيق وقت للعصر.
ويبحث الفقهاء لو أن الحائض طهرت قبل أن تغرب الشمس بما يسع ركعة، فهل
تلزمها صلاة العصر أم لا؟ ولو أن الكافر أسلم قبل غروب الشمس بما يسع ركعة
فهل تلزمه هذه الصلاة أم لا؟ ولو أن الصبي بلغ الحلم قبل غروب الشمس بركعة
فهل تلزمه هذه الصلاة أم لا؟ يقولون: نعم؛ لأنه أدرك الوقت بالركعة، فعليه
أن يصلي هذه الصلاة التي أدرك من وقتها ركعة، وإذا كان الوقت قبل غروب
الشمس بما يسع خمس ركعات، فأسلم الكافر أو طهرت الحائض أو بلغ الصبي، فإن
على هؤلاء الثلاثة صلاة الظهر والعصر معاً؛ لأن وقت الظهر والعصر مشترك
بينهما، فيدرك الظهر بأربع ركعات، والعصر بركعة، وكذلك لو حصل ذلك قبل
الفجر بأربع ركعات، فإنه يلزمهم صلاة المغرب وصلاة العشاء، فيدركون المغرب
بثلاث والعشاء بركعة.
فمن أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك الوقت، وتكون صلاته أداءً
وليست قضاء، وكذلك من لزمته الصلاة قبل غروب الشمس بركعة فإن عليه أن يُصلي
تلك الصلاة، وكذلك الحال في الصبح، فمن أدرك ركعة قبل طلوع الشمس فالحكم في
ذلك واحد.
الحديث هذا فيه مجالات من البحث الفقهي، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن الصلاة عند غروب الشمس، وعند شروقها، وعند استوائها، كما في
حديث: (ثلاثة أوقات نهينا عن الصلاة فيها، وأن نقبر فيهن موتانا) ، ومن
أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فإنه سيصلي أثناء غروبها وبعد غروبها
الثلاث الركعات الباقية، فيكون قد صلى عند غروبها، وكذلك من أدرك ركعة قبل
طلوع الشمس فسيصلي الركعة الثانية في أثناء طلوعها، فيكون قد صلى في الوقت
الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم، ويجيبون عن ذلك بأن النهي متعلق بابتداء
الصلاة بأن تُنشئ صلاة وتبتدأها في تلك اللحظات، أما أن تكون في صلاة
ويدركك غروبها أو يُدركك شروقها؛ فليس داخلاً في النهي.
قال: [ولـ مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها نحوه وقال: سجدة بدل ركعة، ثم
قال: والسجدة إنما هي الركعة] .
هذا طرف من هذا الحديث، ومن العلماء من يقول: من أدرك السجدة فقد أدرك
الركعة، والسجدة جزء من الركعة، وبعضهم يقول: الركعة هي بكامل أركانها من
القراءة والركوع والرفع والسجود والجلوس بين السجدتين والسجدة الثانية،
فهذه هي أركان الركعة، فيقولون: من أدرك السجدة -وهي جزء من الركعة- فقد
أدرك الصلاة، يا سبحان الله! وهل يُدرك السجدة إلا من أدرك الركعة من
أولها، فمن سجد فقط فلا تعتبر سجدة في حقه، ولا يصح أن يأتي عند غروب الشمس
ويسجد! لا، بل سيأتي ويكبر تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر معها
من آية أو سورة قصيرة، ثم يركع، ثم يرفع، ثم يسجد.
وهل المعتبر من أدرك الركعة قبل أن تغرب الشمس أو من أدرك تكبيرة الإحرام؟
في بعض الروايات أنه من أدرك تكبيرة الإحرام قبل غروب الشمس فقد أدرك
الصلاة، إذاً: رواية (من أدرك السجدة) ، فيها أن إدراك الركعة إنما هو من
أولها إلى آخرها، أي: ركعة كاملة بكامل أركانها، ولهذا جاءت هذه الرواية:
(من أدرك السجدة) ، وليس المراد جزءاً من الركعة فقط، ولكن أدرك الركعة من
أولها إلى السجدة قبل غروب الشمس عليه، بخلاف ما إذا كبر تكبيرة الإحرام
فلما كان يقرأ الفاتحة غربت الشمس، فإنه في هذه الحال لم يدرك السجدة، أي:
لم يدرك السجدة قبل غروبها على هذه الرواية.
ولكن جاءت رواية فيها: (من أدرك تكبيرة الإحرام قبل غروب الشمس فقد أدرك
الصلاة) ، وهذا هو وقت الضرورة، كأن يكون نائماً، ولم يستيقظ إلا في ذلك
الوقت، أو امرأة كانت حائضاً ولم تطهر إلا في ذلك الوقت، أو الذين طرأ
عليهم الوجوب والإلزام كالصبي إذا بلغ في ذلك الوقت، أو الكافر إذا أسلم في
ذلك الوقت.
كتاب الصلاة - باب
المواقيت [3]
نهى النبي صلى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في سبعة أوقات، وكان النهي في
بعض هذه الأوقات أشد من البعض الآخر، ومع ذلك فقد أمر عليه الصلاة والسلام
بصلاة تحية المسجد عموماً، فتعارض الأمر والنهي في حق من دخل المسجد في وقت
من أوقات الكراهة، واختلف العلماء في الجمع بين الحديثين اختلافاً كبيراً.
الأوقات المنهي عن
الصلاة فيها
قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد
العصر حتى تغيب الشمس) متفق عليه، ولفظ مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الفجر) ] .
هذان الوقتان من عدة أوقات نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها،
وهي سبعة أوقات: الوقت الأول: ما بين الأذان والإقامة في صلاة الفجر، فلا
يجوز للإنسان أن ينشئ صلاة من ذلك الوقت إلا ركعتي سنة الفجر، فلو أن
إنساناً دخل المسجد بعد أذان الفجر، فإنه يصلي ركعتين سنة الصبح، ولا يحق
له بعد صلاة هاتين الركعتين أن ينشئ تطوعاً حتى لو كان في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه بألف صلاة، حتى ولو كان الإمام سيؤخر
الإقامة مدة طويلة، فلا يقل أحد: أصلي ركعتين ركعتين إلى أن تقام الصلاة،
فإن ذلك لا يجوز.
إذاً: الوقت الأول من أوقات النهي: ما بين الأذان والإقامة في الفجر إلا
ركعتي الفجر أي: سنة الصبح.
الوقت الثاني: بعد الفراغ من صلاة الصبح إلى أول طلوع الشمس، فلا يصلي في
هذا الوقت نافلة، إلا من فاتته سنة الفجر؛ فمن دخل المسجد والإمام يصلي
الفجر، فإنه يدخل مع الإمام في الصلاة، ولا يفعل كما يفعل بعض الناس، فإن
البعض إذا دخل والإمام يصلي أخذ وصلى سنة الصبح، ثم يدرك الإمام في
الفريضة، وهذا هو ما يقول به بعض المذاهب، ويقولون: يجوز ذلك حتى لو فاتته
ركعة أو جزء من الركعة الثانية، وهذا مخالف للسنة، فإذا دخل والإمام في
الصلاة فإنه يدخل معه في الفريضة، وبعد أن يسلم الإمام يصلي السنة قبل أن
تطلع الشمس.
فمن لم يصل سنة الصبح صلاها إن شاء بعد الصلاة قبل طلوع الشمس، وإن شاء
أخرها إلى بعد طلوع الشمس.
إذاً: الوقت الثاني بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس إلا سنة الفجر لمن لم
يدركها قبل الصلاة.
الوقت الثالث: حينما يبدو طرف الشمس الأعلى عند الشروق، فيمسك عن الصلاة
حتى يكتمل القرص ويرتفع قدر رمح.
بمعنى: أنك ترى قرص الشمس مرتفعاً عن وجه الأرض بمقدار رمح، فيكون بين قرص
الشمس والأرض قدر الرمح، وهو بمقدار قامة إنسان تقريباً، فإذا طلعت الشمس
وارتفعت عن وجه الأرض قدر رمح فقد زالت الكراهة.
الوقت الرابع: حينما تستوي الشمس في كبد السماء حتى تزول، وبعضهم يقول: إلا
يوم الجمعة، فإنه تجوز الصلاة في هذا الوقت، سواء كانت الفريضة أو النافلة،
والفريضة على رأي الجمهور لا تصح إلا بعد تحقق الزوال، وقد حقق الإمام مالك
رحمه الله ذلك في الموطأ بما لا مزيد عليه، ولكنهم أجازوا صلاة تحية المسجد
للقادم يوم الجمعة سواء قبل أن يصعد الإمام أو بعد أن يصعد على المنبر
ليخطب، فإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا دخل عند استواء
الشمس في كبد السماء يوم الجمعة فله أن يصلي، وأما عدا يوم الجمعة فلا.
الوقت الخامس: بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.
الوقت السادس: عند تضيف الشمس للغروب، ونزول قرنها الأدنى عن النظر، فينتظر
حتى يتكامل غروب قرص الشمس.
الوقت السابع: لمن كان جالساً في المسجد يوم الجمعة، وجاء الإمام وصعد
المنبر، فتمنع الصلاة حينئذٍ على من كان جالساً قبل صعود الإمام، أما
القادم من الخارج بعد صعود الإمام أثناء الخطبة؛ فإن الأئمة الثلاثة يجيزون
له الصلاة ومالك رحمه الله يكره له ذلك.
والأمر دائر بين ترجيح الإصغاء والإنصات للخطيب أو الاشتغال بصلاة تحية
المسجد، وقد جاء في النص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فرأى رجلاً
دخل فجلس، فقطع الخطبة وقال له: (أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم،
فاركعهما، وتجوز فيهما) أي: اركعهما أداء لحق المسجد، وتجوز فيهما حتى لا
تفوتك الخطبة.
فهذه هي الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها، ولكن أشدها نهياً وأوضحها
هو ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وعند الغروب، وما بعد صلاة الصبح إلى
شروق الشمس وأثناء الشروق، وكذلك حينما تكون الشمس في كبد السماء.
حكم صلاة تحية
المسجد في أوقات النهي
وهنا يبحث عامة علماء الحديث قضية من أشد القضايا إشكالاً، وهي تعارض
حديثين، هما حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وحديث: (إذا أتى
أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فتعارض النصان في الظاهر.
ففي الحديث الأول قال: (لا) وهي نافية، (صلاة) وهي نكرة عامة تشمل جميع
الصلوات (بعد العصر) وهذا خاص في الزمن، فهذا الحديث عام في الصلوات، وخاص
في الزمن أي: فيما بين العصر إلى الغروب.
وفي الحديث الثاني -وكلاهما صحيح ثابت كالجبل- قال: (إذا أتى أحدكم المسجد)
وقوله: (أتى) عام في الزمن، (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، وهذا خاص في
الصلاة، ولذا يقول العلماء: بين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فما كان عاماً
في الحديث الأول كان خاصاً في الثاني، وما كان عاماً في الثاني كان خاصاً
في الأول، وهذه من أدق المواضيع، وأرجو أن ييسرها الله سبحانه وتعالى.
والقاعدة عند علماء الحديث: لو جاء حديث عام من وجه، وجاء حديث خاص؛ حملنا
الخاص على العام، وخصصناه بهذا الحديث المخصص له، كما جاء قوله: (أن في
أربعين شاة شاة) مطلق، وجاء أن في سائمة الغنم الزكاة، وسائمة وصف خاص،
فنقيد الإطلاق في قوله: (في أربعين شاة شاة) بالسوم الموجود في الحديث
الثاني، فأصبح المعنى: في أربعين شاة سائمة زكاة، فهنا حديث عام وحديث خاص،
فحملنا العام على الخاص، وخصصناه بما جاء في الحديث الثاني، وبهذا تجتمع
النصوص.
وهنا حديث: (لا صلاة بعد العصر) ، الصلاة عامة، والوقت خاص، وإذا جئنا إلى
حديث تحية المسجد فالوقت عام، فهل نخصص عموم الوقت في الإتيان إلى المسجد
بخصوصه بعد الصلاة؟ فنقول: إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين
إلا بعد العصر، فنكون قد خصصنا عموم الإتيان في الزمن بخصوص الوقت في
الحديث الآخر، ويكون هذا جمعاً صحيحاً.
لكن من العلماء من يقول: (لا صلاة بعد العصر) إلا تحية المسجد، ويأتي
بالخصوص في تحية المسجد، ويخصص به عموم النكرة في قوله: (لا صلاة) .
إذاًَ: كل من الحديثين مخصص للثاني، وكل منهما قابل عمومه للتخصيص بالمخصص
الذي في الآخر، ولكن أي الحديثين نخصص به الآخر؟ هذا هو محل النزاع.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: إذا لم يمكن تخصيص عموم أحدهما بخصوص
الآخر، فليس أحدهما أولى من الآخر، فينبغي أن نطلب مخصصاً من الخارج، قال:
فرجح الجمهور تخصيص الصلاة وأنها ممنوعة بعد العصر بحديث آخر، وهو قول
النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا
نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ، قالوا: فجانب النهي أقوى وألزم في الالتزام به
من جانب الأمر، فقوله: (لا صلاة بعد العصر) نهي، وقوله: (إذا أتى أحدكم
المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، مضمونه الأمر بالصلاة، فإذا تعارض
الأمر والنهي قدم النهي، والأمر بتحية المسجد سنة بالإجماع، والنهي أقل ما
يكون فيه الكراهية إن لم يكن التحريم، فلأن نجتنب مكروهاً خير من أن نفعل
مندوباً.
ومن هنا رجح ابن دقيق العيد أن حديث: (لا صلاة بعد العصر) عام في الصلوات
كلها حتى تحية المسجد، ولا يخص من الصلوات إلا إذا جاء مخصص بصلاة معينة،
كحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) ، فلو أن رجلاً صلى
العصر، وقبل أن تغرب الشمس تذكر أنه لم يصل الظهر، فعليه أن يصليها حين
ذكرها، ويخص من النهي أيضاً الصلاة على الجنازة وصلاة ركعتي الطواف، وقد
جاء في الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى
أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أية ساعة)
مراعاة للنهي عن الصلاة بعد العصر، فكأنه يقول: في أية ساعة ولو من الساعات
المنهي عن الصلاة فيها.
فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يعم كل صلاة بعد العصر، فأخذ الجمهور بعمومه
إلا ما خصه الدليل.
والشافعي رحمه الله خصص النهي بالصلاة المطلقة التي ليس لها سبب شرعي، أما
الجمهور فعمموا قوله: (لا صلاة بعد العصر) مطلقاً، وعمر رضي الله تعالى عنه
ثبت عنه أنه رأى رجلاً يصلي بعد العصر في المسجد النبوي، فضربه وقال: أتصلي
بعد العصر؟! وهناك من يقول: تجوز الصلاة ذات السبب بعد العصر إذا لم يتحر
اصفرار الشمس، لحديث ابن عمر: (لا تحروا اصفرار الشمس بالصلاة) ، فإذا صلى
بعد العصر في أول الوقت صلاة ذات سبب فذلك جائز؛ لأن الشمس ما زالت حية
بيضاء نقية.
ومعنى الصلاة ذات السبب: أي: سبب موافق في الزمن، أو سبب سابق، أو سبب
لاحق، فالسبب السابق هو دخول المسجد، فهو سابق عن الصلاة، والسبب اللاحق هو
الصلاة قبل الإحرام بالعمرة أو الحج؛ لأنك تصلي ثم تحرم، والسبب الملازم
الموافق هو صلاة الكسوف؛ لأن صلاة الكسوف تكون وقت كسوفها، لا يتقدمها ولا
يتأخرها، وعند الشافعية: أن صلاة ذوات الأسباب المقارنة والسابقة تجوز وقت
النهي، أما ذات السبب اللاحق فلا تؤدى وقت النهي، ولهذا لا يصلون سنة
الإحرام وقت النهي؛ لأن الإحرام يأتي بعدها، والله تعالى أعلم.
الثلاثة الأوقات
المنهي عن الصلاة ودفن الموتى فيها
قال المؤلف: [وله عن عقبة بن عامر: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى
ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تتضيف الشمس للغروب] .
هذا الحديث مع أحاديث الباب تعتبر من باب تعارض الحديث، وللعلماء فيها
مذاهب شتى، والنصان اللذان سمعناهما نستفيد منهما أن الأوقات المنهي عنها
متفاوته في الكراهية.
وقوله: (ثلاث ساعات كان صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر
موتانا) أول ساعة من هذه الساعات الثلاث هي: حين تطلع الشمس بازغة حتى
ترتفع، ثم: حين يقوم قائم الظهيرة.
وقيام قائم الظهيرة هو عند استواء الشمس في كبد السماء، وكما يقول علماء
الهندسة: تكون في زاوية قائمة، أي: ليست حادة ولا منفرجة، وقد جاء في بعض
النصوص أنه حينما تكون الشمس متعامدة على رأسك كالرمح، أي تنزل أشعة الشمس
مستقيمة من السماء إلى الأرض.
وقوله: (حتى تزول عن كبد السماء) : معرفة زوالها لا نستطيع تحديده بالنظر
إلى الشمس بذاتها، ولكن بالنظر إلى الظل؛ لأن الظل معاكس لوجود الشمس،
فحينما تكون الشمس في المشرق يكون الظل إلى المغرب، وحينما تتحول الشمس من
كبد السماء من نقطة الصفر إلى الغرب يتحول الظل إلى الشرق، فنحن نعرف متى
تزول الشمس عن كبد السماء ومتى لا تزول بالنظر إلى الظل في الأرض.
وقوله: (وحين تتضيف الشمس للغروب) أي: حتى تغرب.
هذه الأوقات الثلاثة هي من الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها؛ ولكنها
تميزت عن بقية الأوقات بالنهي عن الصلاة مع إضافة النهي عن قبر الموتى،
ولهذا كانت هذه الأوقات الثلاثة أخص وأشد من غيرها.
أما وقت ابتداء ظهور حاجب الشمس، أي: قرص الشمس الأعلى، إلى أن يكتمل ظهور
قرص الشمس على وجه الأرض، ويرتفع عن سطح الأرض قدر رمح، وهو قدر قامة
الإنسان تقريباً؛ فهذا الوقت يتفق الجميع بدون استثناء أنه لا تصح الصلاة
فيه إلا وقت الضرورة الذي تقدم في حديث: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن
تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) ، فهو سيصلي الركعة الثانية أثناء طلوع قرص
الشمس حتى ترتفع، وهذا هو الوقت الذي نهينا عن الصلاة فيه؛ لكن الصلاة في
هذه الحالة ليست ابتداء ولا مستقلة، وإنما هي تابعة لدخوله في الصلاة قبل
أن يبدأ قرص الشمس بالظهور.
وذكر ابن عبد البر عن بعض الفقهاء أنه يمنع من صلاة الصبح في ذلك الوقت،
لكن يحمل هذا المنع على ما إذا بدأ الصلاة عند ظهور قرص الشمس، أما إذا بدأ
الصلاة قبل أن يظهر قرص الشمس فإنه يكمل صلاته، ولا يضره أن تطلع عليه
الشمس وهو في الصلاة.
أما الصلاة المطلقة عند بزوغ الشمس أو تضيفها للغروب، فلا يجوز باتفاق
الجميع أن ينشئ صلاة في تلك الحالة إلا إذا كان سيصلي الصبح الفائتة أو
العصر الفائتة.
حكم التنفل وقت
الزوال يوم الجمعة وغيرها
أما الصلاة عند الزوال فالجمهور على أنه ممنوع من الصلاة فيه حتى تزول،
ويروي بعض المالكية عن مالك أنه لا يمنع من الصلاة في ذلك الوقت ولا يحبها،
أي: لا يمنع من صلى في ذلك، ولا يحب أن يصلي الإنسان في ذلك الوقت.
إذاً: مالك رحمه الله يوافق الجمهور في عدم استحبابها، ولكنه يخالفهم في
عدم منعه منها، ويستدل المالكية لقول مالك بحديث التبكير إلى الجمعة، وفيه
قوله صلى الله عليه وسلم: (وصلى ما تيسر له حتى يخرج الإمام) ، قالوا:
والإمام لا يصعد المنبر إلا بعد دخول وقت الجمعة، ووقت الجمعة لا يكون إلا
بعد زوال الشمس، فالقادم سيصلي حينما تكون الشمس في كبد السماء.
والجمهور يقولون: نعم، في يوم الجمعة نوافق المالكية، فننهى عن الصلاة
عندما يقوم قائم الظهيرة ما عدا يوم الجمعة؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه
وسلم أن القادم يقدم فيصلي يوم الجمعة حتى يخرج الإمام، ودليله حديث: (وصلى
ما تيسر له) ، قالوا: فيوم الجمعة مخصوص من بقية الأيام، ومالك يقول: ما
دمتم خصصتم يوم الجمعة فبقية الأيام سواء.
إذاً: الأوقات الثلاثة فيها وقتان يتفق الجمهور على أنه لا صلاة فيهما إلا
في تلك الحالة الضرورية لمن أدرك من الصبح ركعة وسيتم الصلاة عند ظهور
الشمس، أو من أدرك من العصر ركعة وسيتم العصر عند غروب الشمس، وما عدا ذلك
فلا.
بقي حينما تكون الشمس في كبد السماء، فـ مالك لا يمنع ولا يحب، والجمهور
يوافقون مالكاً في يوم الجمعة خاصة؛ ويخالفونه فيما عداها.
ويروى عن مالك أنه قال: لم أزل أرى أهل العلم في بلادنا يصلون وقت الزوال،
ويحمل هذا على ما جاءت به النصوص الأخرى بأنه في يوم الجمعة فقط.
حكم التنفل في
المسجد الحرام في أوقات النهي
ويستثنى من النهي الصلاة بعد العصر في مكة، لعموم الحديث: (يا بني عبد
مناف! لا تمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أية ساعة شاء من ليل أو نهار)
، والجمهور قالوا: يجوز الطواف في كل لحظة، وتجوز ركعتا الطواف في كل لحظة،
وقوله: (في أية ساعة شاء) ، هذه الساعة تشمل وقت الغروب، ووقت الشروق، ووقت
قيام قائم الظهيرة.
ولكن مالكاً رحمه الله يرى أنه من طاف بعد صلاة الصبح فلا يصلي ركعتي
الطواف حتى تطلع الشمس، ومن طاف بعد العصر فيؤخر ركعتي الطواف إلى ما بعد
غروب الشمس، والجمهور يجوزون ركعتي الطواف بعد الصبح وبعد العصر وعند
الشروق وعند الغروب وعند قيام قائم الظهيرة، وبعض هذه الأوقات قصيرة وضيقة،
لكن الإشكال في الأوقات الطويلة الواسعة.
تعارض حديث النهي عن
الصلاة بعد العصر وحديث الأمر بتحية المسجد
حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع
الشمس) ، يعارضه في الظاهر حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي
ركعتين) .
فلو افترضنا أن إنساناً دخل المسجد فوجد لوحتين مكتوب في إحداهما: لا تجلس
حتى تصلي، وفي الأخرى: لا صلاة بعد العصر، فإذا جاء في الضحى فإنه يعمل
باللوحة الأولى التي فيها: لا تجلس حتى تصلي ركعتين، وهل اللوحة الثانية
تعترضه؟ لا تعترضه؛ لأنه دخل وقت الضحى، والنهي إنما هو عن الصلاة بعد
العصر، لا عن الصلاة وقت الضحى، فوجد الطلب يتوجه إليه بألا تجلس حتى تصلي
ركعتين، فالطلب متوجه إليه بدون معارض، وكذلك الأمر لو دخل بعد الظهر قبل
صلاة العصر، أو دخل بعد المغرب، أو دخل بعد العشاء، فسيجد طلب تحية المسجد
قائماً، ولا يجد ما يعارضه.
لكن لو دخل بعد العصر، فسيجد اللوحة الأولى تطالبه بألا يجلس حتى يصلي؛ لأن
قوله: (إذا أتى أحدكم) مطلق في كل وقت، فيشمل بعد الظهر وبعد المغرب وبعد
العصر، وسيجد اللوحة الثانية: (لا صلاة بعد العصر) ، أي: حتى تغرب الشمس،
وقوله: (لا صلاة) ، يشمل كل صلاة حتى تحية المسجد، فماذا يفعل؟ هل يأخذ
بحديث: (إذا أتى أحدكم) ؛ لأنه يشمل صلاة تحية المسجد في كل الأوقات حتى
بعد العصر، أو يعمل باللوحة الثانية التي فيها: (لا صلاة بعد العصر) ، أي:
حتى صلاة تحية المسجد.
اختلاف الفقهاء في
الجمع بين الحديثين
اختلف الأئمة رحمهم الله، فـ الشافعي رحمه الله يقول: قوله: (لا صلاة) عام
شامل لكل الصلوات، ولكنه يصرف إلى الصلوات التي لا سبب لها، أما إذا كانت
الصلاة لها سبب يقتضي إتيانها فليست داخلة في النهي، وتكون مستثناة من عموم
الصلاة، فهو رحمه الله خصص عموم حديث: (لا صلاة) ، واستثنى من هذا العموم
ذوات الأسباب، فكأنه يقول: لا نصلي بعد العصر إلا ذات السبب فنصليها
لسببها.
والجمهور يقولون: لا نصلي بعد العصر أي صلاة سواء كانت بسبب أو بغير سبب.
لعلنا الآن نستطيع أن نفهم وجه تعارض الحديثين، فحديث: (لا صلاة بعد العصر)
يشمل جميع الصلوات، فلا تصلى تحية المسجد بعد العصر، وهذا على رأي الجمهور
أن جميع الصلوات لا تصلى بعد العصر؛ لأن قوله: (لا صلاة بعد العصر) نكرة
عامة تشمل جميع الصلوات، فقالوا: جميع الصلوات منهي عنها بعد العصر.
والشافعي قال: لا، فقوله: (لا صلاة) يستثنى منه ذوات الأسباب مثل تحية
المسجد، لقوله: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فـ
الشافعي يقول: الركعتان مستثنيتان من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر،
والجمهور يقولون: عموم النهي عن الصلاة بعد العصر لا يستثنى منه تحية
المسجد.
فمذهب الشافعي أن تحية المسجد تصلى بعد العصر؛ لأنها ذات سبب، فيكون خصص
عموم النهي بتحية المسجد، فقال: أستثني وأخص تحية المسجد من عموم قوله: (لا
صلاة) والجمهور قالوا: لا، نحن نخصص عموم قوله: (إذا أتى) ، فإن الإتيان
عام في جميع الأوقات، لكن نخصص من ذلك صلاة تحية المسجد بعد العصر، فتصلى
في كل وقت إلا بعد العصر.
نكرر ذلك فنقول: الشافعي يقول: أنا أخصص عموم الصلاة بتحية المسجد، فأصليها
بعد العصر، وأنتم تقولون: لا صلاة بعد العصر، فأقول لكم: استثنوا تحية
المسجد بعد العصر، والجمهور يقولون للشافعي: لا، نحن لا نستثني تحية المسجد
من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، فننهى عن تحية المسجد بعد العصر، وإذا
كان الأمر كذلك ودخل رجلان المسجد بعد العصر، فأحدهما مثلاً أخذ بمذهب
الشافعي، فصلى تحية المسجد، والثاني على مذهب الجمهور فترك صلاة تحية
المسجد، فسيقول له الذي صلى: لماذا لم تصل؟ والذي لم يصل سيقول له: وأنت لم
صليت؟ فكل منهما عنده حديث فيه عموم وخصوص، فمن تابع الجمهور سيقول: أنا
أخصص عموم الوقت ببعد العصر، فحديث: (إذا أتى أحدكم) عام في كل وقت، ولكن
نخرج منه بعد العصر؛ للنهي عن الصلاة بعد العصر، والثاني سيقول له: يا أخي!
قوله: (لا صلاة) عام في كل الصلوات، لكن أنا أخصص عموم الصلاة بذوات
الأسباب، فكل منهما له وجه، ولا نستطيع أن نحكم على واحد منهما أنه صاحب
الحق؛ لأن هذا يقول: أنا أخصص الوقت، وهذا يقول: أنا أخصص عموم الصلاة، فكل
منهما له وجه، ولا يحق لهما أن يتخاصما؛ لأنهما متساويان في الحجة، فكل
منهما يخصص عموم ما عند الآخر بخصوص ما عنده، وليس أحدهما بأولى من الآخر،
فماذا نفعل؟
قول ابن دقيق العيد
في طريقة الجمع بينهما
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ما دام كل من الطرفين عنده نص يعمل به،
ويخصص به عموم الآخر، وكل منهما له حق أن يخصص عموم الآخر؛ لأن الحديثين
صحيحان، فينبغي أن نطلب مرجحاً لأحد الحديثين من الخارج، أي: اتركوا
الحديثين في مكانهما، واتركوا اللوحتين المعلقتين، وابحثوا عن مرجح لأحد
الجانبين.
فالشافعية قالوا: حديث: (لا صلاة بعد العصر) لم يبق على عمومه، فقد خرجت
منه بعض الأشياء، فمن نام عن الصلاة أو نسيها، ثم تذكر الصلاة الفائتة بعد
العصر فإنه يصليها بعد العصر، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يستثنى منه صلاة
قضاء الفائتة عند الجميع، فهذا العموم بعد أن كان مائة في المائة أصبح
تسعين في المائة، وإذا طاف بالبيت بعد العصر ثم أراد أن يصلي، فالجمهور
يسمحون له أن يصلي ركعتي الطواف، وهذا أيضاً يضعف العموم، فكأن العموم حزمة
تراخت قليلاً.
فقال الشافعية: إذا كان عمومكم أخذ يخرج منه بعض الأفراد، فنحن أيضاً نخرج
ذات السبب، فيكون النهي متوجهاً للصلاة التي لا سبب لها، فلو أن إنساناً
صلى العصر وجلس في مصلاه، وبعد أن صلى العصر قام ليصلي فنقول له: لا تصل؛
لأنها صلاة لا سبب لها، ونوافقكم في النهي عن تلك الصلاة؛ لأنها لا سبب
لها، لكن التي لها سبب، والإنسان يطالب بأدائها، فنحن نخرجها من عموم الوقت
المنهي عن الصلاة فيه، كما أخرجتم أنتم بعض الصلوات الداخلة في عموم قوله:
(لا صلاة) قال الجمهور: تلك الصلوات التي خرجت من العموم خرجت بنص مستقل،
وما خرج بنص مستقل لا يعترض به على العموم؛ لأن قضاء الصلاة لمن نام عنها
أو نسيها قد جاءت مشروعيته في حديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها
حين يذكرها) ، فهذا النص أخرجها من العموم، وكذلك سنة ركعتي الطواف خرجت
بنص مستقل.
وقد قال الشوكاني في بحث هذه القضية: إذا خرج بعض أفراد العام من عمومه
فإنه لا يقدح عمومه، فهذا عام، ولكن أخرّجنا منه البعض بنص، فيبقى الباقي
على عمومه، فلو قلت لشخص: هؤلاء عشرة أشخاص، فأعط كل واحد منهم درهماً يوم
السبت، ثم جئته يوم الجمعة وقلت: لا تعط فلاناً وفلاناً، فمن العموم
المتقدم تعطي كل واحد من الثمانية الباقين درهماً درهماً، فهل بقي لهم حق
في الدرهم أو خرجوا من العموم؟ بقي لهم حق، ولفظ العموم باق عليهم، فهم
داخلون في العموم المتقدم، ولذا يقول الشوكاني: خروج بعض أفراد العام لا
يقدح في عمومه؛ لأن حكم العموم يبقى لمن بقي بعد الخاص الذي أخرج.
الشافعي رحمه الله يقول: إن ذوات الأسباب ليست داخلة في النهي، والآخرون
يقولون: إنها داخلة مع غيرها، ولا نخرج من هذا العموم إلا ما أخرجه نص
مستقل.
ثم لا يزال التعارض قائماً؛ لأنه لو خرج بعض الأفراد وبقي العام على عمومه،
فالباقي من العموم متعارض مع عموم الأمر بتحية المسجد، فنطلب دليلاً
خارجياً لا من عند الشافعية، ولا من عند الجمهور، وهو القاعدة المشهورة عند
الأصوليين: إذا تعارض أمر ونهي فإنه يقدم النهي.
وابن عبد البر أتى بدليل عجيب قوى به حجة الجمهور، وهو قوله تعالى في صوم
رمضان: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فالأيام الأخر هذه هي ثلاثمائة وثلاثون
يوماً، وهي ما عدا شهر رمضان، لكن جاء النهي عن صوم يومي العيدين، فهل يجوز
لإنسان أن يصوم يوم العيد لقضاء رمضان؟ لا يجوز، فإن قيل: أليس يوم العيد
داخلاً في الأيام الأخر؟ نقول: يوما العيدين هما من ضمن الأيام الأخر، لكن
جاء النهي عن صومهما خاصة، فهنا قدم النهي على الأمر؛ لأن الأمر هنا هو
القضاء في عدة من أيام أخر، ولكن ثبت النهي عن صوم يومي العيد، وهما من ضمن
الأيام الأخر، فنقدم جانب النهي، ولا نقول: العيدان من الأيام الأخر، فيصح
فيهما القضاء! ولكن نقول: الأيام الأخر عامة، والعيدان من ضمنها، ولكنهما
خرجا بنص خاص يحرم صومهما.
قالوا: إذا كان الأمر دائراً بين جانب يطلب فعلاً وجانب ينهى عن فعل، فأي
الجانبين نقدم؟ وأيهما أقوى في الطاعة والامتثال؟ القاعدة العامة عند
العقلاء أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكذلك المنهي عنه شرعاً مقدم
على المأمور به شرعاً، خاصة إذا كان المأمور به ليس فرضاً واجباً، ولا
فرضاً كفائياً كصلاة الجنازة، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا أمرتكم بأمر
فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ولم يقل: فاجتنبوه ما
استطعتم؛ لأن الترك ليس فيه استطاعة أو عدم استطاعة، فهو أمر سلبي، بل
اتركوه كله.
إذاً: جانب النهي أقوى في المعادلة من جانب الطلب، خاصة إذا لم يكن فرضاً
عينياً ولا كفائياً، وتحية المسجد هل هي فرض أو نافلة؟ نافلة بإجماع
المسلمين، حتى ابن حزم نص على ذلك، ومن قال بوجوبها فقد أوجب ست صلوات!
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم
والليلة) .
مذهب الجمهور في
الجمع بينهما
إذاً: عندنا تعارض بين طلب مسنون وبين نهي بالكلية، وأقل درجات النهي عند
الأصوليين الكراهية، فإذا تعارضت اللوحتان لمن دخل المسجد بعد العصر،
فإحداهما تقول: افعل سنة، والأخرى تقول: لا تفعل شيئاً، فأيهما أقوى في طلب
الامتثال؟ هل يرتكب مكروهاً لفعل سنة؟ لا، ومن هنا رجح الجمهور أن النهي عن
الصلاة بعد العصر يشمل جميع الصلوات، فلا تجوز صلاة ذات سبب أو غير ذات سبب
في وقت الكراهة.
ثم إننا نجد في السنة حديثاً فيه: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب) ، وفي نص
آخر: (لا تحروا غروب الشمس بالصلاة) ، ولا تحروا أصلها: لا تتحروا، فإذا
أخذنا هذا النص؛ وربطناه بحديث: (ثلاث ساعات كان ينهانا عن الصلاة فيهن) ،
فالوقتان عند غروب الشمس وشروقها داخلان في عموم النهي، وهما أخص الأوقات
الثلاثة لقوله: (لا تحروا) ، فهل يكون النهي لخصوص بعد العصر أو لخصوص غروب
الشمس وشروقها؟ لخصوص الغروب والشروق؛ لأنه جاء في حديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم ذكر الساعات الفاضلة للصلاة، والأوقات الممنوع من الصلاة فيها
فقال: (إذا كان ثلث الليل الآخر فصل، فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي الصبح، ثم
أمسك عن الصلاة حتى تشرق الشمس، ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى تستوي الشمس
في كبد السماء، ثم أمسك حتى تزول، ثم صل فإن الصلاة مشهودة إلى بعد العصر)
، وفي رواية: (إلى أن تتضيف الشمس إلى الغروب) .
إلى آخر الحديث.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه إذا سئل عن الصلاة بعد العصر
يقول: أنا لا أنهى عن الصلاة مخافة من قوله سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] ، ويقول: أنا لا أنهى أحداً
صلى في أية ساعة، ولكن لا تحروا بالصلاة طلوع الشمس أو غروبها.
وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القول الفصل في ذلك، فإنه رأى
زيد بن خالد يصلي بعد العصر، فضربه بالمقرعة وهو في الصلاة، فلما أنهى
صلاته قال: لماذا تضربني يا أمير المؤمنين؟! فقال: أتصلي بعد العصر؟ فقال:
نعم، أصلي ركعتين، ولن أتركهما، فاضرب كما تريد! فقال: يا زيد! إني لم أضرب
عليهما إلا أني خشيت أن يتمادى الناس بالصلاة بعد العصر إلى أن تغرب الشمس،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحروا بالصلاة غروب الشمس فإنها تغرب بين
قرني شيطان) ، وبين علة أخرى للنهي بقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن قوماً
يسجدون لها في ذلك الوقت) ، وكره أن يشابه المسلم الكافرين بالصلاة في ذلك
الوقت، ومن مقاصد الشرع مخالفتهم.
إذاًَ: عمر كان يضرب عن الصلاة بعد العصر سداً للذريعة، حتى لا يصلي أحد
عند الغروب.
تجويز بعض العلماء
للصلاة بعد العصر والشمس بيضاء نقية
إذاً: من لم يتحر غروبها، وصلى بعد العصر والشمس بيضاء نقية، فإنه لم يتحر
الصلاة عند غروبها، ولم تحصل منه المشابهة للكافرين، وقد أخذ بهذا المذهب
الوسط ابن عمر وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من
الصحابة، فجوزوا الصلاة بعد العصر في أول الوقت قبل أن تتغير الشمس، وجوزوا
الصلاة بعد الصبح في أول الوقت قبل بزوغ الشمس.
واستدلوا بما أسلفنا، وبصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر ركعتين،
وكان قد شغل عن ركعتي سنة الظهر بسبب وفد عبد القيس، ثم داوم عليهما،
فكانتا قضاءً في أول الأمر، وبعد ذلك لم يصلهما قضاء.
وقد قيل: إن هذا خاص برسول الله؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا فعل
فعلاً داوم عليه، فهذا من خصوصياته، وقد قالت له أم سلمة: (أفنقضيهما إن
فاتتا؟ فقال: لا) ، وهو إذا فعل شيئاً ثم نهى عنه فإنه من خصوصياته، كما
جاء في الوصال في الصوم، فإنه نهاهم عن الوصال فقالوا: إنك تواصل، فقال:
(لست كهيئتكم) ، ثم واصل بهم إلى يومين، وفي اليوم الثالث رءوا الهلال
وقال: (لو لم نر الهلال لزدتكم) ، قال الراوي: كالمنكل بهم؛ لأنهم ما
امتثلوا في أول الأمر.
وعلى هذا قالوا: صلى النبي عليه الصلاة والسلام الركعتين قضاء، ثم داوم
عليهما بعد ذلك، وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فكان إذا بدأ عبادة
داوم عليها، فنقول للشافعية: ليس لكم حق في قياس ذوات الأسباب في الوقت
المنهي عنه بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر؛ لأن صلاته في ذلك
الوقت من خصوصياته.
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي بعد الصبح،
فقال له: (ألم تصل الصبح معنا؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني لم أكن صليت
ركعتي سنة الصبح فصليتهما الآن، فسكت عنه) ، والنبي عليه الصلاة والسلام
إذا سكت عن فعل فقد رضيه، فأجاز قضاء سنة الفجر، وهما ذاتا سبب، قالوا:
فنحن كذلك نصلي ذات السبب بعد الصبح، فأجاب الجمهور بقولهم: هذه قضية عين
ونخصها بعينها، ونقول: كل من فاتته سنة الصبح فهو بالخيار: إن شاء صلاها
بعد الصبح، وإن شاء أخرها إلى ما بعد طلوع الشمس، ولا نقيس عليها غيرها
كتحية المسجد وما شاكلها.
أيها الإخوة: هذه المسألة طويلة الذيل، وكثيرة التفريع، وابن عبد البر في
الاستذكار أطال النقل والكلام فيها إلى حد بعيد، ثم جاء أخيراً بقضية الصوم
ويوم العيد في خاتمة البحث، ورجح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا صلاة شاملة
عامة في جميع أنواع الصلوات إلا ما أخرجه الدليل، والدليل أخرج ما يلي:
ركعتا الطواف في مكة، وقضاء الفوائت، وكذلك صلاة الجنازة بلا خلاف، وقالوا:
تجوز صلاة الجنازة عند قيام قائم الظهيرة، وعند الغروب، وعند الشروق إذا
خيف على الجنازة أن تتغير، فحينئذٍ يجوز الدفن في ذلك الوقت، مراعاة لكرامة
الإنسان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأرجو من الله أن تكون هذه المسألة قد ظهرت لكم ولو بقدر خمسين في المائة،
ونحن راضون فيها بهذا، وغيرها من المسائل نريد ظهورها لكم تسعين في المائة،
لكن هذه المسألة يكفينا منكم خمسين في المائة.
[والحكم الثاني عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد: (إلا يوم
الجمعة) ، وكذا لـ أبي داود عن أبي قتادة نحوه] .
يوم الجمعة استثناه الجمهور من عموم النهي عن الصلاة عند قائم الظهيرة، لا
عند الشروق ولا عند الغروب، وأما مالك فإنه عمم جواز الصلاة عند قائم
الظهيرة في غير الجمعة مع أنه يكره ذلك فقال: لا أمنع ولا أكره.
كتاب الصلاة - باب
المواقيت [4]
تحديد أوقات الصلوات من أهم المهمات، لا سيما وقت صلاة الفجر؛ لأن الفجر
فجران، فجر كاذب، وفجر صادق، فلابد من التمييز بينهما، وقد بين عليه الصلاة
والسلام الفرق بينهما، وشرح العلماء ذلك.
ومن فوائد معرفة أوقات الصلوات أن يحرص على أداء الصلاة في أول وقتها، فإن
ذلك من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
حرمة منع أحد من
الطواف وركعتيه متى شاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداًَ طاف بهذا البيت وصلى
أية ساعة شاء من ليل أو نهار) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] .
هذا من الأسلوب الرفيع، والبلاغة الواضحة، فيقول صلى الله عليه وسلم: (يا
بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو
نهار) ، وإذا كان الغرض عدم منع الناس من الطواف فكان يكفي أن يقول: لا
تمنعوا أحداًَ يطوف بهذا البيت، وهذا يؤدي الغرض، لكن قال: (يا بني عبد
مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى ... ) .
ويقولون: إن السبب هو مخافة أن يأتي بعض الملوك أو بعض الجبابرة أو بعض
الأشخاص، فيمنع الناس من المطاف من أجل ذلك الشخص، وهذا كرهه العلماء إلا
لمصلحة راجحة، مثل أن يخاف على حياة شخص كما يفعل الآن بعض الأحيان من
الاتجاهات السياسية أو الاتجاهات الأمنية، والمصلحة تقتضي ذلك، لا لتعظيمه
ولا لتوقيره دون الناس، فالبيت أعظم، لكن ولي الأمر هو المسئول عن ضمان هذه
الشخصية التي دخلت الحرم في ضمانه وأمانه وتحت تصريحه بنفسه.
إذاً: قوله: (لا تمنعوا أحداً طاف وصلى) هو على العموم، أي: بمقتضى قيامكم
على البيت، لكن قال زيادة على هذا النهي عن منع الطائف والمصلي: (أية ساعة
من ليل أو نهار) ، فما حاجة المجيء بهذه الجملة؟ وهي للعموم لا للخصوص؟
الجواب: لأن هناك بعض الأوقات قد نُهي عن الصلاة فيها، فرفع ذلك الحظر،
ورفع النهي عن الصلاة في تلك الأوقات من ساعات الليل والنهار، أي: لا
تمنعوا أحداً في أي وقت من الأوقات، ولو بعد العصر أو بعد الصبح.
إذاً: مجيء هذه الجملة الأخيرة يستفاد منه أنه قد سبق النهي عن الصلاة في
ساعات معينة، واستثنى منها صلاة ركعتي الطواف، وهذا الحديث من أوضح الأدلة
على أن صلاة ما سوى ركعتي الطواف لا تجوز، وأما هذه فقد خرجت بنص مستقل،
ولماذا؟ يقولون: لأن البيت يأتيه الناس في جميع الأوقات، وقد يأتي الرجل
فيطوف ويذهب، وقد يأتي مع جماعة كذلك، فإذا منع الناس من الطواف والصلاة في
أوقات معينة، فطاف بعضهم بعد العصر مثلاً وأرادوا أن يسافروا، فهل نحبسهم
حتى تغرب الشمس وكل واحد منهم قد طاف ولم يبق عليه إلا الصلاة؟ لا.
إذاً: لجواز الطواف في أية ساعة من ليل أو نهار أبيح للطائف أن يصلي ركعتي
الطواف في أي ساعة شاء من ليل أو نهار.
بيان معنى الشفق
[وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(الشفق الحمرة) رواه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة، وغيره وقفه على ابن عمر]
.
هذا تفسير لحديث: (ووقت المغرب إذا غربت الشمس ما لم يغب الشفق) ، فما هو
الشفق؟ اختلفوا في معنى الشفق لغة، فقيل: هو الحمرة الباقية إثر غروب
الشمس، وقيل: هو بياض يكون بعد تلك الحمرة، فالجمهور على أن الشفق الحمرة،
فإذا غاب الشفق دخل وقت صلاة العشاء، وقبل أن يغيب الشفق تصح صلاة المغرب
أداء، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الشفق هو البياض الذي يكون بعد
تلك الحمرة، ولذا ساق المؤلف هذا الحديث ليبين تعيين الشفق.
وهل هذا التفسير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف على ابن عمر؟
هذه المسألة موضع اجتهاد واختلاف نظر، ولا يقال فيها: إن كان موقوفاً فله
حكم الرفع؛ لأنه ليس أمراً غيبياً، وليس أمراً غير حسي، بل هو حسي ولغوي،
لكن ولو كان موقوفاً على ابن عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه من أهل اللسان،
وهو أعرف به من غيره، والله تعالى أعلم.
الفجر فجران
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(الفجر فجران: فجر يُحرم الطعام، وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة
-أي صلاة الصبح- ويحل فيه الطعام) رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه] .
ساق المؤلف رحمه الله تعالى في باب المواقيت حديث ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفجر فجران) ، وقد تقدم بيان وقت
صلاة الصبح، وأنه حينما ينفجر النهار من الليل، وتقدم حكم من أدرك ركعة من
الفجر قبل أن تطلع الشمس.
وهنا يبيّن المؤلف حقيقة الفجر الذي بطلوعه يدخل وقت الصلاة، ولما كان
الفجر كلمة مشتركة بين مسميين؛ بيّن النبي صلى الله عليه وسلم كلاً منهما
وحكمه، فقال: (الفجر فجران: فجر يحرم الطعام، ويحل الصلاة) أي: يحرم الطعام
على الصائم، ويُحل الصلاة، أي: صلاة الصبح، (وفجر يحل الطعام ويحرم الصلاة)
أي: صلاة فجر ذلك اليوم، بخلاف صلاة الليل أو الوتر أو نحو ذلك، وقد بيّن
صلى الله عليه وسلم الفرق بين الفجرين بعلامة حسية لكل منهما، فأما الفجر
الذي يُحل الطعام، ولا يُحل الصلاة فإنه يذهب مستطيراً في الأفق كذنب
السرحان، والسرحان هو الذئب، وهذا الفجر يأتي قبل نهاية الليل، ويكون
كالعمود الأبيض ممتداً من الأرض إلى السماء.
وأما الفجر الثاني فبينه صلى الله عليه وسلم بكونه مستطيلاً كجناحي الطير،
وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم وضع أصبعيه المسبحتين من اليمنى
واليسرى بحذاء بعض ثم مد يديه يميناً ويساراً، والمسبحة هي التي تلي
الإبهام، فقرن صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه ثم مد يديه، وهكذا يكون الفجر
الذي تجوز فيه الصلاة، ويحرم فيه الطعام على الصائم، فهو يمتد في الأفق
يميناً ويساراً، أما الأول فإنه يمتد من الأرض إلى السماء كالعمود، والفجر
الأول يسميه الناس: الفجر الكاذب، ومعنى ذلك: أنه ليس فجراً حقيقاً يتوقف
عليه الصوم والصلاة.
قال الفخر الرازي في تفسيره: إن هذا الفجر الأول من أعظم الدلائل على قدرة
الله، فإنه إيجاد موجود بلا سبب، وذلك أن الفجر الثاني عندما ينتشر في
الأفق إنما هو أثر من آثار اقتراب الشمس منا، فإذا اقتربت الشمس منا انفجر
الضوء من الظلام، وهو المعبر عنه في آية الصوم بالخيط الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر، قال: فهذا الفجر الثاني مسبب عن سبب وهو ضوء الشمس، وكلما
اقتربت الشمس منا كلما اشتد النور إلى أن تشرق الشمس على وجه الأرض، فالفجر
الثاني مسبب عن سبب وهو الشمس، أما الفجر الأول فلا نعلم له سبباً! فهو
موجود بإيجاد الله له بدون أي سبب، وبدون أن يتوقف على شيء ينشأ عنه.
ولو تأملنا لوجدنا أشياء عديدة أنشأها الله سبحانه وتعالى بلا سبب، مثل حور
الجنة، يقول سبحانه: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] ، فلم
تكن لهن ولادة، ولم يكن هناك مبدأ آدم وحواء، ولكن الله سبحانه أنشأ الحور
العين أكرمنا الله وإياكم بهن في الجنة.
وينشئ أيضاً الولدان، وكذلك غرس الجنة ونعيمها وثمارها وأنهارها دون أن
تكون متسببة عن غيرها، فأنهار الدنيا متسببة عن أمطار، فماء المطر ينزل من
السماء فيجري ودياناً وأنهاراً، وكذلك حليب الدنيا وعسل الدنيا وغير ذلك،
أما حليب الجنة وماء الجنة وعسل الجنة وخمر الجنة؛ فكل هذه ينشئها الله
سبحانه دون سبب، وقد علمنا بانعدام جزء السبب لا كامل السبب في بعض أمور
الدنيا، فخلق الله آدم من تراب، فخلط هذا التراب بماء فصار منه بشراً
سوياً، بلا أب ولا أم، ثم خلق منه حواء، فهي امرأة جاءت من أب بلا أم، وأما
عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه رجل من امرأة بلا أب، وسائر
البشر من أب وأم، وهي سنة الله في خلقه، قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
إذاً: هذا الفجر الأول -كما أشار إليه هذا الإمام- آية وعلامة تحدث كل يوم،
تدل على قدرة الله في إيجاد مسببات بلا أسباب، والذي يهمنا في الفقه أن هذا
الفجر الأول لا يمنع الصائم من الطعام، ولا يُبيح للمصلي صلاة الصبح، ثم
يأتي الفجر الثاني وهو على العكس من ذلك، يُحرم الطعام على الصائم، ويبيح
الصلاة للمصلي، وبيّن صلى الله عليه وسلم الفرق بينهما بأن الأول يمتد كذنب
السرحان وهو الذئب، والثاني ينتشر في الأفق كجناحي الطير، والله تعالى
أعلم.
[وللحاكم من حديث جابر نحوه، وزاد في الذي يُحرم الطعام: (إنه يذهب
مستطيلاً في الأفق) ، وفي الآخر: (إنه كذنب السرحان) ] .
وهذا من البيان العملي لربط الأحكام بالمظاهر المعروفة للجميع، فصفة الفجر
الأول أنه يذهب مستطيراً كذنب السرحان، وما أظن واحداً من العرب يجهل معنى
السرحان، وصفة الفجر الثاني أنه يكون كجناحي الطير في الأفق، وذلك يكون في
نهاية الليل وأول النهار.
أفضل الصلاة في أول
وقتها
[وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أفضل الصلاة في أول وقتها) رواه الترمذي والحاكم وصححاه، وأصله في
الصحيحين] .
جاءت الرواية: (في أول وقتها) ، وجاءت رواية أخرى: (على وقتها) ، والفرق
بينهما: أن (في) ظرف للأفضلية، فتكون أفضل الأعمال الصلاة في أول الوقت،
وعلى الرواية الثانية: (على وقتها) تكون الفضيلة ممتدة على كامل الوقت،
ولكن جمهور العلماء يقولون: على: حرف استعلاء، وتكون قد اشتملت على الوقت
كله، فقوله: (على وقتها) يفسره: في وقتها.
توجيه إجابة النبي
عن أفضل الأعمال بأجوبة مختلفة
يقول بعض العلماء: هذا الحديث فيه إشكال، وهو: كيف تكون الصلاة -وهي فرع عن
الإيمان- أفضل الأعمال، وكان ينبغي أن يكون الإيمان أفضل الأعمال؛ لأنه
الأساس؟ الجواب: لا حاجة إلى هذا الإشكال، فقد جاء الحديث الصريح أن رجلاً
قال: (يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم
ماذا؟ قال: الصلاة على أول وقتها) ، وسأله رجل آخر عن ذلك فقال صلى الله
عليه وسلم: (إيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) ، وسأله آخر
أيضاً فقال: (إيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) ، لكن
يرى بعض العلماء أن في هذا شبه تعارض، فالسؤال واحد والجواب مختلف! ولكن
أجاب ابن دقيق العيد وغيره عن هذا فقال: ليس هناك اختلاف، وليس هناك تعارض،
بل هذا مراعاة لحال السائل وما يصلح له، فرأى رجلاً لا يستطيع أن يكابد
الجهاد، فهو ضعيف البنية، فلما سأل عن أفضل الأعمال أرشده لما يصلح له،
فقال: (إيمان بالله ثم الصلاة على وقتها) ؛ لأنه مهما كان ضعيفاً، فإنه لا
يعجز أن يصلي الصلوات على أول وقتها.
ولما سأله الثاني وعرف أن له أبوين قال له: (إيمان بالله، ثم بر الوالدين)
، وليس المعنى: بر الوالدين مع ضياع الصلاة، فالصلاة كتاب موقوت، والصلاة
أمرها معلوم من الدين بالضرورة، فالمعنى: أنه بعد الصلاة وبعد أداء
الواجبات المفروضة فإن بر الوالدين من أفضل الأعمال، ولما رأى الثالث قوياً
جلداً أرشده إلى أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله وهو الجهاد في سبيل الله؛
لأن حالته تناسب ذلك.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع بعض
أصحابه، فمر فتىً شاب قوي فقال رجل: (لو كان جلد هذا وشبابه في سبيل الله!
فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى ليعف نفسه فهو في سبيل الله، وإن
كان خرج يسعى على زوجه وعلى أهله وأبويه فهو في سبيل الله ... ) إلى آخر
الحديث، والشاهد: أن الناس يرون الجهاد أنسب للأقوياء.
مراعاة حال المستفتي
دون الخروج عن السنة
ومن هنا ينبغي على المفتي أن يراعي حالة المستفتي إذا سأله عن شيء عام،
فينظر إلى حالته وما يناسبه، فإذا كان يناسبه الصلاة أرشده إليها، وإذا كان
يناسبه الصيام أرشده إليه، إلى غير ذلك من الأعمال، ولكن لا ينبغي أن يخرج
مراعاة لحال السائل عن حدود ما شرع الله، ويغير سنة رسول الله.
وقد ذكر في تاريخ الأندلس أن ملكاً وقع على جارية له في نهار رمضان،
فاستفتى بعض العلماء فقال له: لا كفارة لك في هذا الوطء إلا أن تصوم شهرين
متتابعين، فقال له زملاؤه من العلماء: لم أمرته بصيام شهرين؟ فإن الرسول
صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل الذي قال: (هلكت وأهلكت! قال: وما
أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: أتجد رقبة تعتقها؟ قال: والله
لا أملك إلا هذه، قال: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل وقعت فيما
وقعت فيه إلا من الصيام! قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: والله! ما
عندي ما أطعم أهلي، فقال: اجلس، فأتي بفرق من طعام فقال: أين السائل؟ خذ
هذا فأطعمه أهلك) ، فالسنة -في كفارة من وطء في نهار رمضان- بدأت بعتق
رقبة، ثم ثنت بصيام شهرين متتابعين، ثم ثلثت بإطعام ستين مسكيناً، وهذا
المفتي لما سأله الملك قال: لا كفارة لك إلا صيام شهرين متتابعين.
فقالوا له: لماذا غايرت الترتيب الذي جاء في السنة؟ قال: هذا ملك، ولديه
الكثير من الجواري والعبيد، فلو قلت له: أعتق رقبة، لكان يمكنه أن يجامع في
كل يوم في نهار رمضان، ويعتق رقبة، فهو نظر إلى حالته، ووجد أنه لا يردعه
إلا الصوم، لكن قالوا له: ليس هذا عليك، بل عليك أن تخبره بعتق رقبة، وهذا
هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا يصح الاجتهاد
المخالف للسنة.
ونقول أيضاً: إن الخير في السنة، فلو كان ملكاً وأمكنه أن يعتق عن كل جماع
رقبتين أو أكثر، فإنه أفضل من أن يصوم؛ لأنه -كما يقول الأصوليون- الخير
المتعدي خير من الخير اللازم لصاحبه، فإذا أعتق الملك أمة وصارت حرة، فإن
كل من تنجبه سيكونون أحراراً، فهو إذا أعتقها فكأنما أوجدها من العدم إلى
الوجود، أي من الرق إلى الحرية، فيصير لها أحكام الأحرار، وكذلك العبد، حتى
أنه يصير صالحاً للقضاء، وصالحاً للجهاد، وصالحاً للقيادة، وصالحاً للإمارة
والولاية، فيكون هناك خير كثير، وكذلك الأمة تنجب لنا أحراراً، فإذا أعتق
ثلاثين جارية، فإنه حرر ثلاثين رقبة، أما لو صام عشرين شهراً فما الذي
سيعود على الناس من صومه؟ لن يعود على الناس من صومه شيء.
إذاً: لا ينبغي في مراعاة حال السائل تجاوز ما سنه الله وشرعه وسنه رسول
الله.
وظن المفتي أن في ذلك المصلحة خطأ، بل المصلحة كل المصلحة في اتباع ما سنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الأمر كما قال هذا المجتهد، لقال:
صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة، ولكنه لم يقل هذا، بل قال: (أتجد رقبة؟
قال: لا أملك إلا رقبتي!) .
إذاًَ: على المفتي أن يراعي حال المستفتي حينما يكون في الأمر سعة، ويكون
هناك أنواع متعددة، فيرشده إلى ما يلائمه، وما يصلح مع حاله، كما سئل عليه
الصلاة والسلام: أي الأعمال أفضل؟ فقال: (الصلاة في أول على وقتها) وفي
الحديث الآخر أجاب إجابة أخرى، فالسؤال واحد، وتنوعت الإجابة، وليس في هذا
خلاف، وليس فيه تعارض، ولكن فيه مراعاة حال السائل وما يصلح له.
فضل الصلاة في أول
الوقت
نستفيد هذا الحديث: أن الصلاة في أول الوقت من أفضل الأعمال، والمؤلف أتى
بهذا الحديث بعد بيان حديث: الفجرين، وتقدم حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم
لأجوركم) ، وبه أخذ الأحناف.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان نساء الأنصار يشهدن
صلاة الفجر مع رسول الله متلفعات، ثم ينصرفن من الصلاة وما يعرفهن أحد من
الغلس) فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يبكر بصلاة الصبح، وقوله:
(أصبحوا بالصبح) ، فعله مرة واحدة وتركه، وكان صلى الله عليه وسلم يداوم
على صلاة الصبح في أول وقتها، وقد ذكرنا أن أفضل صلاة الصبح إنما هو في أول
وقتها، وجاء في الحديث: (إنه كان ينفتل من صلاة الصبح حين يعرف الرجل
جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة) ، ولذا جمع بعض العلماء بين النصوص:
بأنه كان يغلس بالصبح، ويطيل فيها القراءة، ولا يخرج منها إلا وقت الإسفار،
وقد تقدم هذا المبحث.
وجاء المؤلف بهذا الحديث هنا، بعد حديث: (الفجر فجران) ليبين أن أفضل صلاة
الصبح في أول وقتها، والحديث عام في جميع الأوقات.
استثناء صلاة العشاء
وصلاة الظهر وقت الحر من أفضلية أول الوقت
ولا ننسى أن تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وصلاة العشاء أفضل، كما جاء في
الحديث: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) ،
فالأفضل في الظهر عند شدة الحر تأخيرها عن أول وقتها، وذلك للذين يأتون من
بعيد، ولا يجدون فيئاً يستظلون به إلى المسجد، وكذلك العشاء يستحب أن تؤخر،
فإنه صلى الله عليه وسلم أخر العشاء ليلة إلى ثلث الليل، ثم خرج، وقد كانت
رءوسهم تخفق فقال: (ما على وجه الأرض غيركم ينتظر هذه الصلاة، وإنه لوقتها
لولا أن أشق على أمتي) ، فأخر العشاء إلى ثلث الليل، وقال: (إنه لوقتها)
وكان يحب ذلك، ولكن كان يُعجل بها حتى لا يشق على المصلين، وقد كان صلى
الله عليه وسلم يدخل في الصلاة وفي نيته الإطالة ثم يخفف عندما يسمع بكاء
الأطفال رحمة بقلوب الأمهات.
وعلى هذا؛ فهذا الحديث عام، ولكن يخص منه ما جاءت النصوص بفضل تأخيرها عن
أول وقتها، وهي صلاة الظهر إذا اشتد الحر، وصلاة العشاء لمن لم يشق عليه
ذلك، والله تعالى أعلم.
تفضيل أول وقت
الصلاة وأوسطه على آخره
قال المؤلف: [وعن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الوقت
رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله) أخرجه الدارقطني بسند ضعيف
جداً، وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه، دون الأوسط، وهو ضعيف أيضاً] .
أبو محذورة هو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وفي جعله مؤذناً
قصة، وهي أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حنين واقترب من مكة نزل
منزلاً، فخرج الصبيان من مكة لينظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي
ذلك المنزل أذن مؤذن رسول الله للصلاة، فقام الصبيان يحاكون المؤذن، كما هي
عادة الصبيان في تقليد الكبار أو في محاورتهم، فسمعهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأعجبه أذان أبي محذورة، فقد كان متميزاً عن أذان الصبيان،
فناداه، فلما جاء ذكر له الأذان، فقال: (اذهب فأنت مؤذن أهل مكة) ، ومن هنا
نأخذ أن الغلام المميز يصح أذانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نصب هذا
وهو غلام يحاكي أذان الكبار، وقد أعجبه صوته، وفيه أيضاً أن نتخير للأذان
من كان حسن الصوت دونما تغنج، ودونما تكسر، حتى لا يخرج بأذانه عن اللائق
بهذا الشعار العظيم.
يقول رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الوقت
رضوان الله، وأوسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت عفو الله) ، وبصرف النظر عن
ضعف السند، يقول العلماء: الفرق بين رضوان الله ورحمة الله وعفو الله: أن
الرضوان أعلى الدرجات، كما قال الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ} [المائدة:119] ، والرحمة هي: سعة فضل من الله على العبد، والعفو لا
يكون إلا عن تقصير، فكأن الصلاة آخر الوقت لا تكون إلا من مقصر، سواء كان
هذا التقصير عن عذر فيعفى، أو كان عن إهمال أو عن انشغال فلا يعفى عن
تقصيره، ولكنه يستحق العفو، فليسأل الله العفو، والحديث سنده ضعيف جداً،
ولكن نقول: إنه في فضائل الأعمال، ولا يترتب عليه حلال وحرام، وإنما يبين
فضيلة أول الوقت وأوسط الوقت على آخره، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة التطوع بعد
طلوع الفجر
قال المؤلف: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) أخرجه الخمسة إلا النسائي، وفي
رواية عبد الرزاق: (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر) ، ومثله
للدارقطني عن عمرو بن العاص رضي الله عنه] .
هذا بيان وقت من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وتقدم أنها سبعة أوقات،
وهذا الوقت من بعد طلوع الفجر حتى صلاة الصبح، ويستثنى من ذلك ركعتان، وما
هما الركعتان؟ بينت الرواية الأخرى أنهما سنة الصبح، فإذا طلع الفجر وأذن
المؤذن وانتظر الناس الإقامة؛ فما بين الأذان وإقامة الصلاة للصبح لا يجوز
التنفل، لكن يجوز ركعتان فقط وهما ركعتا الفجر، أي: سنة الصبح، وما عدا ذلك
لا يجوز، اللهم إلا ما جاء في حق من نام عن الصلاة أو نسيها فإنه يصليها
حين يذكرها.
وجاء عن كثير من العلماء ومنهم علي رضي الله تعالى عنه أن هذا الوقت يجوز
فيه صلاة الوتر لمن نام عن الوتر واستيقظ في ذلك الوقت، ولم يكن قد أوتر،
فله أن يوتر بعد طلوع الفجر قبل أن يصلي ركعتي الصبح ثم يصلي سنة الصبح، ثم
يصلي الفريضة، فقد جاء عنه أنه خرج يوماً لصلاة الصبح فأراد المؤذن أن يقيم
الصلاة، فأشار إليه أن اصبر حتى أوتر.
وجاء عن مالك رحمه الله أنه سئل عن صلاة الوتر في ذلك الوقت، فقال: لا بأس،
لكن أكره أن يتعمد ذلك؛ لأن في بعض الروايات: (إذا طلع الفجر فلا وتر) .
وعند الأحناف أن الوتر واجب، وهم يفرقون بين الواجب والفرض، فالفرض ما ثبت
بنص قطعي من كتاب أو سنة متواترة، والواجب ما ثبت بغير ذلك، فهم يرون أن
الوتر واجب، وأنه يقضى ولو بعد طلوع الشمس، وبعضهم يقول: إلى ما قبل
الزوال، أي: لا يترك أبداً؛ لأن صلاة الوتر جاءت فيها نصوص شديدة، مثل
حديث: (من لم يوتر فليس منا) ، وحديث: (أوتروا يا أهل القرآن! فمن لم يوتر
فليس منا) إلى غير ذلك.
إذاً: هذا الوقت من طلوع الفجر إلى صلاة الصبح لا صلاة نافلة فيه، اللهم
إلا قضاء الصلاة الفائتة أو ركعتي الفجر أو الوتر لمن لم يكن أوتر إذا نام
عن الوتر واستيقظ في ذلك الوقت.
حكم الصلاة بعد
العصر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فسألته، فقال:
شغلت عن ركعتين بعد الظهر فصليتهما الآن، فقلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال:
لا) أخرجه أحمد، ولـ أبي داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها بمعناه] .
تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ،
وقد علم الجميع ذلك، ثم رأت أم سلمة الحكيمة رضي الله تعالى عنها من النبي
عليه الصلاة والسلام خلاف ذلك.
وأنا أسميها: الحكيمة لمواقف عديدة صدرت منها، فالنبي عليه الصلاة والسلام
دخل عليها بعد العصر فإذا به يصلي! وهي تعلم منه أنه (لا صلاة بعد العصر) ،
فحملت ذلك منه على النسيان، فقالت لجارية عندها: قومي بجوار رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقولي له: كنت تنهى عن الصلاة بعد العصر، وها أنت تصلي بعد
العصر، قالت: ثم تأخري عنه، يعني: ذكريه إن كان ناسياً، فاستمر صلى الله
عليه وسلم في صلاته، ولما صلى الركعتين انقلب إليها يعلمها، فقال: (هاتان
ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر) ، ونحن نعلم أن للظهر سنة: ركعتين قبلها،
وركعتين بعدها، أو أربعاً قبلها أو أربعاً بعدها.
قال: (هاتان ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فجاءني وفد عبد القيس بأموالهم
-وفي رواية:- بإيمانهم، فشغلت بهم عنهما، فها أنا أصليهما) ، فبين صلى الله
عليه وسلم سبب صلاته هاتين الركعتين بعد العصر، ففهمت أم المؤمنين أنه
قضاهما؛ لأن سنة الظهر ينتهي وقتها بصلاة العصر؛ لأنها صلاة مرتبطة بالظهر،
والسنن الرواتب مرتبطة بفريضتها، فأدركت أنه يقضيهما وليستا أداء، ولهذا
قالت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ تعني: إذا فاتتا علينا نحن أيضاً، بأن انشغلنا
عنهما، فهل نقضيهما أيضاً بعد العصر؟ فكان جوابه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (لا) ، ثم إنه داوم على هاتين الركعتين بعد العصر؛ فيقول الجمهور: من
القواعد الأصولية أنه صلوات الله وسلامه عليه إذا أمر بشيء ولم يفعله فهذا
من خصوصياته، أو نهى عن شيء وفعله فهو من خصوصياته، مثاله لما جاء أبو أيوب
بطعام فيه من البقول، فأمرهم عليه الصلاة والسلام بأكلها ولم يأكل هو منها،
فعدم أكله منها وهي مطبوخة من خصوصياته، ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه:
أميتوها طبخاً، يعني: تلك البقول التي تجعل في الطعام من بصل ومن ثوم ومن
كراث ونحو ذلك، الشاهد أنه أمرهم أن يأكلوها، وامتنع هو، فكان امتناعه منها
خاصاً به.
وكذلك هنا نهى عن الصلاة بعد العصر وصلّاها، فكانت صلاته لها وقد نهى الناس
عنها من خصوصياته، لكن قال بعض العلماء: صلاة النبي عليه الصلاة والسلام
ركعتين كل يوم بعد العصر مع المداومة عليها مشكل، وليس هناك موجب للقضاء،
وليس هناك ما يشرعها من جديد، فأجاب بعض العلماء بأنه كان صلى الله عليه
وسلم إذا بدأ عملاً داوم عليه ولا يقطعه.
ومن أمثلة ما نهى عنه وكان يفعله لأنه من خصوصياته: الوصال في الصوم، فإنه
نهى عن الوصال وواصل، فكان الوصال من خصائصه، ولذا عندما ألحوا عليه في
وصالهم مثله، قال: (لست كأحدكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، ولا ينبغي
الخوض بالعقل في هذا، والتساؤل ماذا كان يطعمه؟ وماذا كان يسقيه؟ وإذا
أطعمه وسقاه فهل يكون ذلك وصال مع أنه يأكل ويشرب مما يطعمه ربنا ويسقيه أم
ليس هناك وصال؟ نقول: لا، فالشهداء عند ربهم يرزقون، ونحن لا ندري كيف
يرزقون، وماذا يرزقون، فكذلك صلى الله عليه وسلم يعطيه ربه قوة الطاعم
والشارب، فيعطيه قوة، ويعطيه عوناً، ويعطيه ما شاء، وهذا لا دخل لنا فيه،
قال: (أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، فنقول: نعم، كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هاتين الركعتين بعد العصر،
وجاء عن زيد بن خالد أنه صلى بعد العصر ركعتين فرآه عمر، فضربه بالدرة وهو
يصلي، فلما انتهى من صلاته، قال له: اضرب يا أمير المؤمنين! فهما ركعتان
أصليهما ولن أتركهما، فقال: يا زيد! ما ضربتك عليهما إلا أني خشيت أن يصلي
الناس بعد العصر فيتمادوا في صلاتهم حتى غروب الشمس، وقد نهى صلى الله عليه
وسلم عن الصلاة عند غروب الشمس، فـ عمر كان يضرب من يصلي بعد العصر.
وابن عمر كان يروي حديثاً: (لا تحروا بصلاتكم غروب الشمس) ، فـ ابن عمر كان
يرى جواز الصلاة ما لم تصفر الشمس، وعمر كان يضرب الناس على الصلاة من أول
الوقت سداً للذريعة، أي: مخافة أن يصلي هذا في أول الوقت، ثم يأتي الثاني
وينظر إليه فيصلي، ويأتي الثالث بعده فيصلي، وهكذا يتوالى الناس بالصلاة
بعد العصر مباشرة والشمس بيضاء، ثم تمتد صلاة الناس إلى غروب الشمس، وكل
واحد يتابع الذي قبله، فـ عمر منع من ذلك سداً للذريعة.
إذاً: يهمنا من هذا الحديث أنه لا صلاة بعد العصر كما تقدم البحث فيه،
وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر اعتبرها العلماء من
خصوصياته صلى الله عليه وسلم.
|