شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الطهارة - باب
الحيض [1]
كتب الله الحيض على بنات آدم، وفي الحيض أحكام كثيرة، ومسائل عديدة،
والمرأة قد تحتار فيما خرج منها: هل هو دم حيض أو استحاضة؟! وقد جاء في
السنة ما يزيل هذا الإشكال، وما يرفع هذه الحيرة، وهذا من كمال الشريعة.
شرح حديث: (إن دم
الحيض دم أسود يعرف)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن فاطمة بنت أبي
حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دم الحيض دم
أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي)
رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، واستنكره أبو حاتم] .
الحيض فيه مشاكل عديدة، وتفريعات لا نهاية لها، ويقولون: ليس هناك تفريعات
أكثر من مسائل المسح على الجبيرة والحيض.
والحيض قد يتبعه استحاضة، وليست هناك نصوص قاطعة فيما يتعلق بأمر حيض
النساء، والحيض من شئون النساء كما قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين
عائشة: (إنه أمر كتبه الله على بنات آدم) ، ونحن ندرس باب الحيض؛ لكي نكون
مرجعاً لنسائنا، فكل واحد منا عنده زوجة أو أم أو بنت أو أخت، وهن يحتجن
إلى معرفة أحكام الحيض، وأولى من يبين لهن ذلك هو وليهن من ابن أو أخ أو أب
أو زوج.
والمؤلف رحمه الله تعالى اختصر هذا الباب، وأتى بأربعة أحاديث أصول تجمع
باب الحيض والاستحاضة.
معنى الحيض
الحيض في أصل اللغة: السيلان، تقول العرب: حاض الوادي، أي: سال، وبعضهم
يقول: الحيض هو: التجمع، ومن فقه اللغة أنك إذا وجدت مادتين متحدتين في
أكثر الحروف واختلفتا في حرف واحد فاعلم أن بين المادتين صلة، وإذا نظرنا
إلى كلمتي: حيض وحوض، فالفرق بينهما: الياء والواو، والحوض لاجتماع الماء،
والحيض دم يتجمع في الرحم، ولا تناقض بين أصل الاشتقاق؛ لأن الدم الذي
يتجمع في الرحم سيسيل ويخرج إلى الخارج.
وهناك معنى آخر للحيض، تقول العرب: حاضت البيضة، إذا فسدت، وصارت لا تصلح
لإنتاج فروخ، ولا للأكل؛ لأنه امتزج بياضها بصفارها، فتتعفن إذا مكثت
طويلاً، والحيض يجمع هذه المعاني الثلاثة، يقول الأطباء: إن للرحم دورتين:
دورة شهرية، ودورة سنوية، أما الدورة الشهرية فهي دورة الحيض في كل شهر،
وليس المراد بالشهر: الشهر القمري أو الشمسي، ولكن شهر الدورة هو: ما بين
أول الحيضة الحاضرة وأول الحيضة المقبلة، وغالباً يكون ثمانية وعشرين
يوماً، فهذه هي الدورة الشهرية، وهذا هو شهر المرأة في حيضتها.
سبب الحيض
وسبب الحيض أن المرأة تفرز البويضة التي يلقحها الحيوان المنوي، فتخرج من
المبيض إلى طريق البوق أو إلى فم الرحم، فتنتظر المني من الرجل ليلقحها،
فإذا تلقحت علقت بجدار الرحم، وهي العلقة عند الأطباء، ثم بعدما تمضي عليها
الأربعينات المعروفة تنفصل عن جدار الرحم بخيوط دموية رفيعة، وتكثر بعد ذلك
وتصير حبل السرة الذي يغذي الجنين داخل الرحم، وتأخذ دورتها السنوية في
فترة الحمل، لكن إذا لم تلقح البويضة، أو جاءها مني لا يصلح للتلقيح، ومضت
مدة التلقيح؛ فإن الرحم يلفظها، وقد كان الرحم مهيئاً ينتظر الحمل المقبل،
ولمَّا لم يأت الحمل نكث ما بداخله، فيخرج هذا الدم ومعه مواد أخرى من
الرحم؛ لتنظيفه واستقبال بويضة جديدة.
إذاً: الدورة الشهرية عند المرأة هي: الحيض المعروف لغة وشرعاً، وهو نتيجة
لدورة طبيعية في الرحم، فإن أتى الحمل توقف الحيض، وإن لم يأت الحمل خرج دم
الحيض، إلا إذا كانت هناك موانع أخرى كحالة الرضاع، وحالة المرض، وغير ذلك.
وتكلم الفقهاء عن أقل الحيض وأكثره، وأقل الطهر وأكثره، فما كان زيادة عن
أكثر مدة الحيض فهو استحاضة، وما كان أقل من مدة الطهر بين الحيضتين فهو
استحاضة، وهذا سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله في نهاية هذا الباب.
وهذه النصوص الأربعة التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب تشتمل
على حالات الاستحاضة، والاستحاضة إما أن تكون مؤقتة أو تكون دائمة، ومعنى
مؤقتة: أن يزيد دم الاستحاضة عن مدة الحيض، فإذا زاد عنها اعتبر الزائد
استحاضة، والدائمة أن ترى الدم دائماً، ولا ترى طهراً، ولا ينقطع عنها
الدم.
الاستحاضة
لقد بدأ المؤلف رحمه الله بأحاديث الاستحاضة ليبين: ماذا تفعل المستحاضة في
صلاتها وصيامها عند وجود الاستحاضة؟ عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت
أبي حبيش كانت تستحاض.
وهناك عدة نسوة كن يستحضن، مثل بنات جحش الثلاث، وهذه كانت تستحاض، فقال
لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) .
رجوع المستحاضة إلى
التمييز
المستحاضة عند الفقهاء إما أن تكون ذات عادة شهرية سابقة، فهي تعرف مدة
حيضتها، فيطبق عليها الدم فلا تعرف حيضاً من استحاضة، وإما أن تكون مبتدئة
بالحيض، وتأتي حيضتها طويلة، ولا تعرف مدة حيضتها، ولا ما زاد عليها من
استحاضة، فهنا ردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللون، فقال: (إن دم
الحيض دم أسود يُعرَف) ، وفي رواية: (يعرُف) فيعرف من المعرفة، ويعرُف من
العرف وهو: الرائحة، فهو يُعرَف تعرفه النسوة بسواده، ودم الاستحاضة ليس
أسوداً، بل هو نزيف كما في الحديث: (إن ذلك عرق) ، وقال: (إنما هي ركضة
شيطان) ، فالاستحاضة نزيف دم طبيعي يخرج من العرق كالدم الذي يخرج من جرح
في اليد أو غيرها، أما دم الحيضة فليس دماً خالصاً، بل فيه من فضلات الرحم،
وفيه من المواد الأخرى التي يفرزها جدار الرحم مما كان مبطناً فيه، فيجتمع
مع الدم سوائل أخرى؛ ولهذا فإن دم الحيض لا يتخثر، أي: لا يتجمد، بخلاف
الدم الذي يخرج من العرق فإنه لصفائه ولخلوصه من السوائل الأخرى؛ إذا مكث
قليلاً تجمد مثل الدم المسفوح من الذبيحة فإنه بعد فترة يتجلط ويتجمد.
معنى الحديث: أنه ما دام قد التبس عليك أمر الحيضة من الاستحاضة؛ فاعلمي أن
دم الحيض متميز بلونه ورائحته، فدم الحيض رائحته كريهة منتنة؛ لما يحمله من
المواد المخاطية من الرحم، أما دم الاستحاضة فليست له رائحة كريهة؛ لأنه دم
طبيعي يخرج من العرق كدم الفصد والجرح ونحوه.
فأرشدها أن تنظر إلى الدم الذي يخرج منها، فإذا كان الدم الخارج منها
أسوداً له رائحة فهو دم حيض، وسيستمر معها خمسة أيام أو ثلاثة أيام أو
أربعة أيام، فتعتبر الأيام التي يكون فيها الدم أسوداً منتناً أيام حيض،
وما بعد ذلك تعتبرها استحاضة، فتتطهر بعد مضي حالة الدم المعروف، وتغتسل ثم
تصلي وتصوم مع وجود الدم الآخر الذي ليس أسوداً، وليست له رائحة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان ذلك فأمسكي) .
أي: فإذا كان ذلك الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة؛ لأنك في حالة حيض،
والمعروف عند أطباء أمراض النساء أن متوسط عادة النساء خمسة أيام، وأن من
تحيض أقل من يومين أو تزيد عليها الحيضة عن ثمانية أيام فلتراجع الطبيب،
فعند الأطباء أن الحيضة لا تقل عن يومين ولا تزيد عن ثمانية أيام، ولكن أقل
مدة الحيض يوم وليلة عند الجمهور، وثلاثة أيام عند أبي حنيفة رحمه الله،
ولحظة عند مالك فيما يتعلق بالصلاة والصيام، وثلاثة أيام فيما يتعلق بعدة
الطلاق ونحوها.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا ذهبت أيامها -أي: أيام الدم الأسود-
فاغتسلي) أي: اعتبري نفسك خرجت من الحيضة، ودخلت في الاستحاضة، فاغتسلي
للطهر من الحيض.
كيف تتوضأ المستحاضة
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي) .
أي: فإذا كان الآخر يعني: غير الأسود، وهو دم الاستحاضة، فليس هناك إلا
قسمان فقط: أسود وآخر لونه أحمر قاني، فهنا قال: (توضئي وصلي) ، وهل تتوضأ
وتصلي فقط أم تغتسل عند نهاية الدم الأسود من الحيض؟ تغتسل كما بين الله
سبحانه في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] ، فطهر الحائض هو: انقطاع الدم عنها، وتطهرها هو
اغتسالها، فالمستحاضة تعرف طهرها بذهاب الدم الأسود، وحينئذٍ تعتبر نفسها
قد طهرت من الحيضة، فتغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة بعد ذلك.
جلوس المستحاضة في
مركن
قال رحمه الله: [وفي حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود: (ولتجلس في مركن) ]
.
هذه رواية أبي داود عن أسماء رضي الله عنها، فإنها سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالت: إني أستحيض حيضة كبيرة، فقال: (فلتجس في مركن) ، والمركن
هو: حوض كبير أو إناء كبير مثل البانيو الآن أو الأحواض النايلون، فتملأه
بماء وتجلس فيه، فإذا رأت الصفرة على وجه الماء فهذا علامة على أن تلك
الصفرة من دم الاستحاضة، وليست من دم الحيض؛ لأن دم الحيض لا صفرة فيه، فهو
أسود، فإذا رأت الصفرة فهي مستحاضة.
غسل المستحاضة غسلاً واحداً عند انقطاع
حيضتها
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر
غسلاً واحداً) .
بين صلى الله عليه وسلم أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة مع الاغتسال عن الحيضة
في نهاية مدتها، وبعد ذلك تتوضأ لكل صلاة، فتغتسل غسلاً واحداً -كما في
رواية عائشة - في نهاية الحيضة عند انقطاع اللون الأسود، وبعد ذلك تتوضأ
لكل صلاة ولو لم تحدث حدثاً آخر، ولو لم يخرج من السبيلين شيء، لا ريح ولا
بول، فلا موجب للوضوء غير دم الاستحاضة، فأرشدها صلى الله عليه وسلم أن
تتوضأ لكل صلاة، وهل هذا الوضوء يقطع الدم؟ لا، لكن هذا الوضوء للضرورة؛
لأن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، فهي تتوضأ، وبعد أن تتوضأ يخرج الدم،
وقد أمرها صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- أن تستثفر وتضع الكرسف، أي:
القطن، حتى لا ينزل الدم على ثيابها، وعلى جسمها، وعلى الأرض التي تصلي
عليها، فعندما تستثفر سيخرج الدم، وسينتهي إلى ما تجعله من قطن أو قماش،
ولا يسقط على الأرض، فلما كان الدم سيخرج، فالأصل عدم بقاء الطهارة مع خروج
الدم كخروج البول والريح، ولكن تتوضأ للضرورة، فما دامت الطهارة ضرورية فلا
ينبغي أن تتوضأ قبل دخول الوقت، وإذا توضأت فتصلي الصلاة التي توضأت لها،
وتصلي كذلك النوافل، وتفعل ما يفعله غير الحائض؛ لأنها طهرت بانقطاع الدم
الأسود، وبعد الغسل الأول تتوضأ لكل صلاة، ولو لم ينتقض الوضوء بناقض آخر.
قال عليه الصلاة والسلام: (ولتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء
فلتغتسل للظهر والعصر، غسلاً واحداً) .
إذا رأت الصفرة أي: انتهت الحيضة وجاءت الاستحاضة، وعلامتها: رؤية صفرة فوق
الماء الذي في المركن الذي جلست فيه، وهذا نوع من العلاج يساعد على عدم
تركز الدم في المهبل أو في محله، ويساعد على إخراجه إلى الخارج.
قال عليه الصلاة والسلام: (فلتغتسل للظهر والعصر جميعاً، وتغتسل للمغرب
والعشاء جميعاً، ولتغتسل للصبح غسلاً آخر) ، بينما في حديث عائشة ذكر بعد
اغتسالها من الحيضة أنها تتوضأ لكل صلاة، وفي حديث أسماء أنها تجمع بين كل
صلاتين بغسل، وهل تقدم المتأخرة مع المتقدمة أم تأخر المتقدمة مع المتأخرة؟
أي: هل تجمع جمع تقديم أم جمع تأخير؟ لم يبين لنا في هذا الحديث كيف تجمع
بين الصلاتين بهذا الغسل، فهل تغتسل للظهر والعصر، وتغتسل للمغرب والعشاء؛
في وقت إحداهما على اختيارها، كالمسافر إن شاء جمع جمع تأخير، وإن شاء جمع
جمع تقديم؟ لا، فسيأتي لنا النص بأن هذا الجمع جمع صوري، بأن تؤخر الظهر
إلى آخر وقتها، فتصلي الظهر في آخر الوقت، فيدخل وقت العصر فتصليه في أول
الوقت، فتكون اغتسلت للصلاتين، وصلت كل صلاة في وقتها، إلا أن الصلاة
الأولى كانت في آخر وقتها، والصلاة الثانية في أول وقتها، فتكون جمعت بين
الصلاتين في الصورة، ولكن في الحقيقة فإن كل صلاة وقعت في وقتها.
إذاً: تغتسل للظهر والعصر معاً، وتغتسل للمغرب والعشاء معاً، وتغتسل للصبح،
ولم يبين هنا كيفية اغتسالها للصلاتين، وسيأتي النص في بيان ذلك.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وتتوضأ فيما بين ذلك) .
أي: تتوضأ فيما بين ذلك لتلاوة القرآن، وللطواف، ولصلاة نوافل، ولما يحتاجه
العمل الديني من طهارة.
شرح حديث: (إنما هي
ركضة من الشيطان)
قال رحمه الله: [وعن حمنة بنت جحش قالت: (كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة،
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه، فقال: إنما هي ركضة من الشيطان،
فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام ثم اغتسلي) .
حمنة بنت جحش ثالث ثلاث من بنات جحش كن يستحضن، ويقول بعض أطباء أمراض
النساء: إن الحيض والاستحاضة لهما تعلق كبير بالوراثة، في مدتها وغزارة
دمها، فقالت حمنة: كنت أستحاض حيضة كثيرة، وقالت: إنما أثج ثجاً، فقال:
(افعلي كذا وصلي ولو قطر الدم على الحصير) ، كما في رواية، فهي كانت تستحاض
استحاضة كبيرة شديدة فجاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها:
(إنما هي ركضة من الشيطان) ، أي: هذه الحيضة الطويلة الكثيرة الزائدة إنما
هي ركضة من الشيطان، والفقهاء يقولون: هي ركضة على الحقيقة، فالشيطان ركضها
في رحمها حتى فجر العروق، فخرج الدم من الرحم؛ كي يشكل عليها أمر طهارتها،
ويختل عليها أمر صلاتها، فهو يريد أن يفسد عليها أمر دينها، وهل هذا حقيقة
أو مجاز؟ نحن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما هي ركضة من الشيطان)
، والأطباء يعبرون عنها بالنزيف الرحمي، والنزيف الرحمي عندهم له أسباب
عديدة، ولا يعرفون كلمة: ركضة شيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن
زيادة الدم عن الحيضة الطبيعية التي يعرفها سائر النساء؛ ليست بسبب مرض،
ولا حرج على المرأة فيها؛ لأنها لا تملكها ولا تستطيع دفعها، إنما هي ركضة
من الشيطان.
وقال عليه الصلاة والسلام: (فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام) ، وقد أشرنا إلى
أن أكثر الحيض عند الأطباء ثمانية أيام، والرسول صلى الله عليه وسلم قصرها
على ستة أو سبعة، وقد يختلف حيض النساء من يوم إلى يومين إلى ثلاثة إلى
أربعة إلى سبعة، ولكن هذا متوسط حالات النساء، وقد يكون الحيض عشرة أيام؛
ويكون حيضاً طبيعياً، ويهمنا هنا التعليم النبوي لـ حمنة رضي الله تعالى
عنها لما اختلط عليها الدم وتواصل، ولم تعلم مدة حيضها من حيضتها، ولا يوجد
لون أسود يفرق بين الحيضة والاستحاضة، فلو كان عندها علامة تفرق بها بين
الحيضة والاستحاضة مثل اللون لردها إلى صفة الدم كما رد من قبلها، ولكن
قال: (تحيضي) أي: في علم الله، فامكثي حائضاً، واعتبري حيضتك من كل شهر ستة
أو سبعة أيام، وهذا متوسط عادة غالب النساء، وهناك من تحيض يوماً واحداً،
وهناك من تحيض يومين فقط، وتنتظم حيضتها على ذلك، وهناك من لا تزيد على
ثلاثة أيام، وهناك من تصل إلى عشرة أيام، لكن متوسط الحيضة عند غالب النساء
ستة أو سبعة أيام.
فالمستحاضة لها حالتان: حالة يكون الدم المتواصل عندها يتميز بعضه عن بعض
باللون والرائحة، فما تميز بلون ورائحة فهو حيضة، وما لم يتميز بشيء من ذلك
فهو استحاضة، وهذه حمنة دمها ليس فيه تمييز، فكله على لون واحد، كله أسود
أو أحمر أو بين بين، ودم الحيض أسود يميل إلى اللون البني، ودم الاستحاضة
لونه بعيد عن هذه الألوان، فإذا لم تميز المستحاضة أيام حيضها، ولم يوجد في
الدم الخارج منها ما يميز بعضه عن بعض فماذا تفعل؟! تتحيض على غالب حيض
النساء، ومتى تجلسها؟ تتخير، فتعتبر أول الشهر مثلاً حيضها، فتجلس ستة أيام
أو سبعة أيام وتعتبرها حيضة، فتغتسل وتأخذ حكم الطاهرة، وهكذا أول كل شهر
تجلس من واحد في الشهر إلى ستة أو سبعة، وهكذا تعتبر الشهر دورة كاملة،
وتتحيض فيه ستة أو سبعة أيام من أول الشهر إلى سابع يوم، وتكون هذه حيضتها
المعتبرة، وتمتنع فيها عن الصلاة وعن الصيام وعن الوطء، ثم بعد نهاية
الأيام المذكورة تعتبر نفسها قد طهرت فتغتسل، ثم بعد ذلك تتوضأ لكل صلاة،
وهل تغتسل وتجمع بين الصلاتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فتحيضي ستة أيام
أو سبعة ثم اغتسلي، فإذا استنقأتي فصلي أربعاً وعشرين أو ثلاثة وعشرين
وصومي وصلي، فإن ذلك يجزئك) .
قوله: (فإذا استنقأتي) يعني: اعتبرتي نفسك قد استنقأتي من دم الحيضة بعدد
الأيام، أما النقاء حقيقة فليس بحاصل؛ لأن الدم موجود، لكن المعنى: اعتبرتي
نفسك قد استنقأت من الحيضة بعدد الأيام التي اعتبرتيها حيضاً، وقد تعتبر
الأيام من نصف الشهر، وقد تعتبر الأيام من أوله أو آخره، فإذا حددت لنفسها
وقتاً من الشهر تعتبره حيضاً؛ فإذا انقضت تلك الأيام فتغتسل، ويكون حكمها
حكم الطاهرة، فتصلي أربعة وعشرين يوماً، وهذا الحديث لم ينظر إلى أن الدورة
الشهرية عند المرأة -كما يقول الأطباء- ثمانية وعشرين يوماً، ولكن نظر إلى
الشهر بهلاله، فإذا تحيضت ستة أيام فقد بقي من الثلاثين أربعة وعشرون
يوماً، وإذا تحيضت سبعة أيام فقد بقي ثلاثة وعشرون يوماً، فتصلي بقية الشهر
بعد الستة أو السبعة الأيام التي اعتبرتها حيضة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وصومي وصلي فإن ذلك يجزئك) .
أي: بعد الستة أو السبعة أيام؛ اغتسلي للحيضة، واعتبري نفسك كالطاهر، وصومي
بقية الشهر وصلي كذلك، ولزوجها أن يأتيها، ولكن الأولى الابتعاد عن وطئها
من ناحية صحية، وليس من الناحية الشرعية.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء) .
أي: وكذلك فافعلي كل شهر: تتحيضين ستة أو سبعة أيام، وتعتبرين نفسك بقية
الشهر طاهرة، فتغتسلين عند نهاية أيام الحيض، ثم تصومين وتصلين إلى نهاية
الشهر، وهكذا دواليك كل شهر.
جواز الجمع الصوري
للمستحاضة
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم
تغتسلي حين تطهرين) .
هنا بين كيفية اغتسالها للظهر والعصر معاً، بأن تؤخر الأولى إلى آخر وقتها،
وتقدم الثانية إلى أول وقتها، وتغتسل غسلاً واحداً لهما، وفي الحديث الأول:
الوضوء لكل صلاة، وهنا قال: (فإن قويت) ، أي: إذا كان لا يشق عليك، لا يوجد
شدة برد، أو قلة ماء، أو عدم تحمل الماء.
إذاً: المبدأ الأساسي مع حمنة أن تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل عن الحيضة، لكن
الأكمل والأطيب إن قويت أن تؤخر الظهر، وتقدم العصر، ثم تغتسل لهما، وتؤخر
المغرب، وتقدم العشاء، وتغتسل لهما، ثم تغتسل للصبح في وقتها، كما قال عليه
الصلاة والسلام: (ثم تغتسلي حين تطهرين، وتصلي الظهر والعصر جميعاً، ثم
تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي) .
وهل قوله: (تجمعين بين الصلاتين) جمع حقيقي فتصلي إحداهما في وقت الأخرى أم
هو جمع صوري بأن تصلي كل صلاة في طرف وقتها؛ فهذه في آخر وقتها، وتلك في
أول وقتها؟ هو جمع صوري، وليس بجمع حقيقي؛ لأن كل صلاة وقعت في وقتها.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وتغتسلين مع الصبح وتصلين) قال: وهو أعجب
الأمرين إلي.
قوله: (وهو أعجب الأمرين إلي) ، اختلف العلماء في هذه الجملة، هل هي من
قوله صلى الله عليه وسلم أو من قولها هي؟ والأمران هما: الوضوء لكل صلاة،
والغسل للصلاتين، فأيهما أعجب في الحكم؟ الأعجب في الحكم الاغتسال والجمع
بين الصلاتين، لكن من قال: أعجب إلي؟ جل العلماء أن هذه الجملة راجعة إلى
حمنة، فهي قالت: هو أحب الأمرين إلي، أي: أن أغتسل للصلاتين معاً، وأؤخر
الظهر وأقدم العصر.
وقد كانت بعض المستحاضات تغتسل لكل صلاة، قال الجمهور: هذا من عندها هي،
ولا موجب لإعادة الغسل بعد انتهاء فترة الحيض، سواء كان بالأيام أو كان
باللون، فالغسل للحيض واحد، سواء اعتبرناه بلونه أو اعتبرناه بأيامه، فما
الموجب للغسل بعد ذلك؟ والدم الخارج بعد الحيض دم نزيف، وهو لا يستوجب
غسلاً، ولكن كان ذلك أحب إليها احتياطاً وتورعاً وإنقاءً لنفسها، فكانت
تغتسل وتجمع بين الصلاتين.
إذاً: الحديث الأول موضوعه: تمييز الحيضة من الاستحاضة باللون، وأن تغتسل
للحيضة ثم تتوضأ لكل صلاة، أو تغتسل للظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء
جميعاً، والحديث الثاني بين أن اغتسالها للظهر والعصر وجمعها بينهما يكون
جمعاً صورياً، وهذا أحب الأمرين للرسول صلى الله عليه وسلم أو للمرأة، على
الخلاف، والجمهور أنه للمرأة.
رجوع المستحاضة إلى
عادتها السابقة
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش شكت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم
اغتسلي، فكانت تغتسل لكل صلاة) .
رواه مسلم.
وفي رواية للبخاري: (وتوضئي لكل صلاة) وهي لـ أبي داود وغيره من وجه آخر] .
أم حبيبة هي أخت حمنة، وأختهما أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنهن.
وانظروا إلى حسن ترتيب المؤلف لهذه الأحاديث الثلاثة، أم حبيبة رضي الله
تعالى عنها جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم استحاضتها، فماذا قال
لها؟ لم يقل لها: دم الحيض أسود، ولم يقل لها: تحيضي في علم الله ستة أو
سبعة، بل قال لها: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) ، فهذا قسم ثالث، كانت
لها حيضة منتظمة، تعرف أيامها، وتمكث مدتها، ثم اختلط الأمر عليها بعد أن
كانت لها عادة معروفة تمسك فيها عن الصلاة والصيام، فردها النبي صلى الله
عليه وسلم إلى ما كانت عليه قبل الاستحاضة، فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك
حيضتك) أي: تمسك عن الصلاة والصوم، يعني: كم كنت تحيضين قبل هذا الحال
الجديد؟ لو كانت ثلاثة أيام، فامكثي ثلاثة أيام، أو خمسة أيام فامكثي خمسة،
وهكذا ستة أيام أو تسعة أيام، فقدر ما كانت تحبسك حيضتك قبل الاستحاضة فهي
مدة حيضتك الآن مع اختلاط الأمر عليك.
إذاً: المستحاضة قد تكون ذات دم يعرف، وقد تكون لا تميز الدم، وليست لها
حيضة من قبل، فتمكث ستة أو سبعة أيام، وقد تكون لها حيضة منتظمة قبل
الاستحاضة فترجع إلى مدة حيضتها قبل ذلك.
وقوله هنا: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) ، فيه ردها إلى العادة
القديمة، فليس هنا حكم زائد، ولا حكم جديد، إنما ردها إلى ما كانت عليه؛
ولهذا يقول مالك رحمه الله في مسائل الحيض: لقد وكل الله أمر النساء إليهن،
ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن: من الولد، ومن دم الحيض، ومن
الاستحاضة، فهي ترجع إلى مدة حيضتها، والنبي عليه الصلاة والسلام ما قال:
كم كانت تحبسك؟ ثم ألزمها بشيء، لا، بل ردها إلى ما كانت عليه، وهي
المسئولة عن ذلك، وهي أمانة بينها وبين الله.
وقوله: (ثم اغتسلي) أي: اغتسلي بعد مضي مدة حيضتك الأولى، واعتبري نفسك قد
طهرتي، وما زاد عن مدة حيضتك الأولى بعد الاغتسال يكون استحاضة، فإذا
اغتسلتي للحيضة فما عليك إلا الوضوء لكل صلاة، ولا تغتسل لكل صلاة، فإن
الرسول عليه الصلاة والسلام ما قال لها: اغتسلي لكل صلاة بل اغتسلي بعد
الحيضة، فأمرها أن تغتسل من حيضتها الاعتبارية، ولكن هي من أجل الصلاة كانت
تغتسل لكل صلاة، قالوا: هذا من فعلها هي، ولا يكون حكماً سارياً على بقية
النساء، وقد جاءت الروايات موضحة لذلك.
وفي رواية للبخاري: (وتوضئي لكل صلاة) .
هذا هو ما أمرها النبي عليه الصلاة والسلام به: اغتسلي بعد مدة حيضتك
الأولى، ثم بعد ذلك توضئي لكل صلاة، وقد تقدم قوله: (توضئي لكل صلاة) في
رواية عائشة أول الباب، ثم في رواية أسماء: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل،
وجاء الحديث الآخر أنها تؤخر وتقدم وتغتسل للصلاتين، وجاء هنا في رواية
البخاري أنها تغتسل بعد حيضتها المعتبرة، ثم تتوضأ لكل صلاة، وهذا الذي
استقر عليه الأمر عند العلماء، أن المستحاضة تغتسل في نهاية حيضتها
الاعتبارية، وتتوضأ لكل صلاة عند وجود دم الاستحاضة.
فإذا اغتسلت مستحاضة لكل صلاة من نفسها فلها ذلك، وإن قويت أن تغتسل وتجمع
بين الوقتين، فتصلي في أول هذا، وآخر ذاك فلا مانع، وإن توضأت لكل صلاة،
وصلت كل صلاة في وقتها فلا مانع.
الخلاصة أن المستحاضة لها ثلاث حالات: أن تميز بين دم الحيضة ودم
الاستحاضة، إما باللون وهو السواد، وإما بالرائحة وهو النتن، وإما بالكثرة
والغزارة، فدم الحيض أكثر عند خروجه من دم الاستحاضة، فتعمل بالتمييز.
وإذا التبس الأمر عليها، ولم يتميز الدم، فترد المستحاضة إلى غالب حيضات
أغلب النسوة ستة أو سبعة أيام.
وإذا كانت لها حيضة سابقة، فإنها ترد إلى حيضتها التي كانت قبل الاستحاضة،
وتغتسل وتطهر لمضي الحيضة الاعتبارية عند الجميع.
بعد ذلك ماذا تفعل؟ جاء أنها تغتسل للوقتين، وجاء أنها تغتسل لكل صلاة،
وجاء أنها تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل الأول، وهذا هو الواجب على المستحاضة.
المستحاضة المبتدئة
حالات المستحاضة أربع، وقد ذكرنا ثلاث حالات، والرابعة هي: المبتدئة التي
بدأها الحيض، ثم استمر عليها الدم ولم تعرف حيضها من استحاضتها، وليس هناك
لون ولا رائحة تميز به، وليست عندها حيضة سابقة، ولا تعرف لها عادة حتى ترد
إليها، ولا ترد إلى غالب عادات النساء لأن الكلام على أول ما يأتيها الدم
وآخره، فمن العلماء من يقول: إنها تنتظر إلى أقصى مدة الحيض، وأقصى مدة
الحيض عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله عشرة أيام، وعند الأئمة الثلاثة خمسة
عشر يوماً، فالإمام أبو حنيفة يرى أن أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، وأكثره
عشرة، والأئمة الثلاثة يرون أن أقل مدة الحيض يوماً وليلة، وأقصاه خمسة عشر
يوماً، ومالك يفرق بين الحيض بالنسبة للصلاة والصوم، والحيض بالنسبة للعدة
في الطلاق، فيعتبر الحيض بالنسبة للصلاة أو الصوم ولو ساعة من النهار، فلو
حاضت المرأة في نهار رمضان ساعة من النهار فقط أفطرت ذلك اليوم، واعتبرت
تلك الساعة حيضة، أما إذا كانت في عدة الطلاق فلا تعتبر تلك الساعة حيضة،
ولا تعتد إلا إذا كانت الحيضة يوماً وليلة مثل الأئمة الآخرين.
هذه المبتدئة بعضهم يقول: تجلس إلى آخر انقضاء مدة الحيض، فإذا استمر بعد
ذلك اعتبرت نفسها مستحاضة بعد مضي الخمسة عشر يوماً، وبعضهم يقول: المبتدئة
تقعد عن الصلاة والصوم يوماً واحداً -وهو أقل مدة الحيض- احتياطاً، ثم تصلي
وتصوم، وتعمل ذلك ثلاثة أشهر، فإن استمر الدم إلى ما بعد نهاية مدة الحيض
في الثلاثة الأشهر، فإنها تنتقل إلى التمييز إن حصل، أو إلى غالب ما تحيضه
النساء ستة أو سبعة أيام.
إذاً: هذه المبتدئة التي لم تعلم لها عادة سابقة، ولم تجد في الدم مميزاً،
فإنها تجلس عند البعض أقل مدة الحيض، ثم تغتسل وتعتبر الباقي استحاضة،
وتصلي وتصوم إلى ثلاثة أشهر، فإن استقرت على هذا رجعت إلى غالب عادة
النساء.
ومنهم من يقول: من أول ما ترى الدم تجلس إلى أقصى مدة الحيض، وهذا هو
اليقين، وبعد الخمسة عشر يوماً تغتسل، فإن استمر معها بعد الخمسة عشر يوماً
فهو استحاضة، وإن كانت صامت قبل ذلك فإنها تقضي صومها؛ لأنها صامته في حالة
الحيض.
كتاب الطهارة - باب
الحيض [2]
كرم الإسلام المرأة، وجعل لها أحكاماً خاصة فيما يتعلق بالحيض والنفاس،
وهذا يدل على كمال الشريعة السمحة، وإعطائها لكل ذي حق حقه، وحسن أحكامها
التي توافق العقل الصحيح المجرد عن اتباع الهوى.
شرح حديث: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد
الطهر شيئاً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم عطية رضي الله
عنها قالت: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً) .
رواه البخاري وأبو داود واللفظ له] .
حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة
شيئاً) ، وفي بعض الروايات: (كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ،
وبهذا يكون الخبر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو علم به وأقرهن
عليه، وفي رواية: (بعد الطهر) .
ويتفق العلماء على أن المرأة إذا رأت الطهر ثم أعقب ذلك كدرة، أي: ماء
مكدراً بلون الحمرة، أو ماء مكدراً بلون الصفرة، فلا تعتبر هذه الكدرة ولا
الصفرة شيئاً بالنسبة للحيضة، وتبقى على طهرها الذي دخلت فيه، ويتفقون على
أنها إذا رأت هذه الكدرة أو الصفرة أثناء الحيضة، بأن جاء بعدها دم أسود أو
جاء بعدها دم العادة المعروف؛ فإنها تكون من أيام الحيض، فمثلاً: رأت الدم
ثلاثة أيام، ورأت الكدرة والصفرة يوماً أو يومين، ثم رأت بعد ذلك الدم بقية
الستة أو السبعة الأيام؛ فتلك الكدرة وتلك الصفرة في اليومين وسط العادة
تعتبر حيضة لا تصلي فيها، ولا تصوم فيها، أما إذا رأت ذلك بعد أن طهرت
وتطهرت واغتسلت فلا يلتفت لذلك.
وكيف تعرف المرأة أنها طهرت من الحيض؟ ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها: (أن نساء الأنصار كن يرسلن إليها في الدلجة -يعني: في غلس الليل-
بالكرسف) ، أي: بالقطن فيه الماء من محل الحيض، وقد اشتبه عليهن: هل هذا
يعتبر طهراً أم لا؟ فتقول رضي الله عنها لهن: (لا تعجلن حتى ترين القصة
البيضاء) ، والقصة البيضاء هي: ماء أبيض ثخين، يفرزه الرحم في نهاية الحيض،
فتعلم به المرأة أن الحيض قد انتهى، ويقول الأطباء: إن هذا الماء الأبيض
الذي يعقب الحيض هو بمثابة التليين لجدار الرحم؛ ليكون مبطناً ملطفاً بهذا
الماء؛ ليستقبل البويضة الجديدة بعد أن نبذ وأخرج البويضة القديمة التي لم
تلقح، فيقولون: هو بمثابة المهاد والفراش للضيف الجديد المنتظر.
فالحيض إذا انتهى أفرز الرحم هذه المادة البيضاء؛ ليبطن بها جدار الرحم
ويلطفه، حتى إذا جاءت البويضة ووجدت هذا الماء علقت به.
إذاً: المرأة تعرف نهاية حيضتها إذا رأت القصة البيضاء، فإذا رأت القصة
البيضاء علمت أنها طهرت، وبقي عليها أن تتطهر أي: تغتسل، فإذا رأت القصة
البيضاء فلا تنظر إلى ما يأتي بعد ذلك، كما قال الفقهاء رحمهم الله في الدم
المسفوح: إذا ذبحت الشاة، ثم أخذ اللحم ووضع في القدر، وغلا به الماء،
فربما يظهر على وجه الماء لوناً أحمر من أثر الدم الذي داخل العروق في
اللحم، فهذا لا ينظر إليه، ولا يضر اللحم، ولا يقال: إنه دم نجس؛ لأنه من
بقايا الدم في العروق، وليس مسفوحاً، فكذلك الكدرة أو الصفرة عندما تراها
المرأة بعد أن رأت الماء الأبيض واغتسلت، فإنها لا تعتبر هذا شيئاً، ولا
تترك صلاتها ولا صيامها، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (اصنعوا
كل شيء إلا النكاح)
قال رحمه الله: وعن أنس رضي الله عنه: (أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة
فيهم لم يؤاكلوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا
النكاح) رواه مسلم] .
تأملوا -يا إخوان- هذا الحديث، فهو يعطينا تاريخ المرأة عند اليهود، وهي
أمة ذات كتاب، قدم المسلمون المدينة فوجدوا اليهود إذا حاضت المرأة فيهم،
لا يؤاكلونها، ولا يشاربونها، ولا يساكنونها في مسكن واحد، بل يعزلونها
ويقولون: إنها نجسة، ولما رأى المسلمون اليهود يفعلون ذلك -وهم أهل كتاب-
وقعت عندهم شبهة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل اليهود، فقال
لهم: (اصنعوا كل شيء) أي: من المؤاكلة والمشاربة والمضاجعة والمساكنة، وكل
شيء يفعله الزوج مع زوجه افعلوه (إلا النكاح) أي: الجماع، أما: النكاح
بمعنى العقد فليس هناك مانع، فيجوز أن يعقد عليها وهي حائض، لكن إلا
الجماع، كما قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}
[البقرة:222] ، فلما بلغ هذا اليهود قالوا: والله! إن هذا الرجل ما ترك
شيئاً إلا وخالفنا فيه، فكان عليه الصلاة والسلام يحرص على مخالفتهم.
فنقول للعلمانيين ولأصحاب الحداثة وللذين لا يلتزمون بتعاليم الإسلام
وللذين ينادون بتحرير المرأة وإنصافها وإعطائها حقها: انظروا إلى تاريخ
المرأة عند اليهود، وهم أهل كتاب، فيعتبرونها -لأمر لا قدرة لها فيه، ولا
مدخل لها في حدوثه- نجسة، وكان ينص القانون الفرنسي في عهد نابليون أو
قبله: أن المرأة مخلوق نجس، ولا يحق لها أن تمس الكتاب المقدس، بينما صحف
القرآن جمعها زيد بن ثابت زمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم توفي فانتقلت
إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فلما توفي كانت تلك الصحف الأساسية عند حفصة
بنت عمر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أراد عثمان رضي الله تعالى
عنه أن يكتب المصحف الأم؛ استأذنها واستعارها منها على أن يردها إليها بعد
نهاية المهمة، فأهل القانون الوضعي والأوروبيون والذين يدعون الحضارة
يقولون: المرأة مخلوق نجس بصفة عامة، واليهود لا يأكلون ولا يشربون معها،
ولا يستخدمون الإناء الذي تأكل وتشرب منه، ولا الفراش الذي تنام عليه،
فيعزلونها جانباً عن سكنهم وعن طعامهم وشرابهم؛ بحجة أنها نجسة لحيضتها.
إذاً: من الذي يستحق أن ينكر عليه فيما يتعلق بالمرأة: اليهود ومن سار على
شاكلتهم ومنوالهم أم المسلمون الذين يكرمون المرأة ويقول رسولهم صلى الله
عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا الجماع) ؟ جاء في سنن البيهقي رحمه الله أن
رجلاً قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أخبريني يا أماه! أكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوتر أول الليل أم آخره؟ فقالت: من كل الليل أوتر:
من أوله وأوسطه وآخره، قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أخبريني أكان
يغتسل من الجنابة قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: أحياناً يغتسل
ثم ينام، وأحياناً ينام ثم يغتسل، قال: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في
الأمر سعة، أخبريني أكان يأكل معك وأنت حائض؟ قالت: كنت آكل مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فآخذ اللحم أنهشه بفمي ثم أعطيه إياه فيأكل منه من
بعدي، وكنت أشرب من القدح فأعطيه إياه فيضع فاه موضع فمي ويشرب، قال: الله
أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.
فالمرأة كانت مهانة عند اليونان والرومان، وكانوا يعاملون المرأة معاملة
وحشية، وكانت المرأة في بعض الشعوب تدفن مع زوجها وهي حية! ويقولون: إنها
بعد موت زوجها لا قيمة لها، وكانت في الجاهلية تورث وتباع، وكانت توأد وهي
حية، فجاء الإسلام فكرم المرأة حتى وهي حائض، وجعل للحائض جميع حقوق المرأة
ما عدا موضع الأذى، وذلك لمصلحتها ومصلحة زوجها، قال الله: {قُلْ هُوَ
أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، فالجماع
عند الحيض أذى على الرجل؛ لوجود التلوث بالدم، وأذى على المرأة؛ لأن
أعصابها لا تحتمل الجماع.
هذا الحديث يعنونون عليه بباب: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ وسيأتي
زيادة إيضاح لذلك في حديث أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (كانت إحدانا إذا
حاضت وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيئاً أمرها أن تتزر
ويباشرها) .
إذاً: كان اليهود يعاملون الحائض تلك المعاملة السيئة، فجاء الإسلام ونقض
عليهم ذلك، ونبذ أحوالهم، وبين للمسلمين أن الحائض امرأة عادية، وهذا ليس
بيدها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنه أمر كتبه الله على بنات آدم) .
إذاً: يجوز للرجل من امرأته الحائض كل شيء -كما صرح الشوكاني - من التقبيل
واللمس والتمتع وكل شيء إلا الجماع، والعلماء يتفقون أنما فوق سرة المرأة
لزوجها أن يتمتع به، وما تحت الركبة كذلك، واختلفوا فيما بين السرة
والركبة، هل له أن يتمتع بذلك؟ قالوا: نعم له ذلك، إذا طرح على فرج المرأة
ثوباً يمنعه منها، لكن الناس يختلفون في ذلك الأمر، فإذا كان الشخص يعلم من
نفسه أنه يملك نفسه عن الجماع في الفرج فله ذلك، وإذا كان يعلم من نفسه أنه
قد ينزلق فليبتعد.
وعلى كلٍ، فكل شيء من الحائض جائز من المؤاكلة والمشاربة والمماتعة
والمساكنة إلا الجماع، وهو نص القرآن الكريم: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ
فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] .
ويبحث علماء التفسير في كلمة: (المحيض) ، فمحيض على وزن: مفْعِل، ومفعل
يطلق للزمان والمكان، مثل: مجلس موعد، تقول: هذا مجلس فلان، فهو اسم مكان،
وتقول: هذا موعد مجيء فلان أو موعد جلوسه.
فهذا اسم زمان، واسم الزمان واسم المكان والمصدر الميمي يتفقون أن صيغته
على وزن: مفعل، فهل المحيض اسم مكان الحيض أو اسم زمان مدة الحيض أو مصدر
ميمي؟ ومهما يكن من شيء فإن الفقهاء متفقون على تحريم وطء الحائض كما جاء
في الحديث: (إلا النكاح) ، والنكاح هنا بمعنى: الجماع، والنكاح قد يطلق على
العقد، ويطلق على الدخول بالمرأة، فأما العقد فلا مانع أن يعقد عليها وهي
حائض، ولكن لا يجامعها وهي حائض.
شرح حديث: (كان
النبي عليه الصلاة والسلام يأمرني فأتزر)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض) متفق عليه] .
جاء في بعض الروايات أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفراش،
ففاجأتها حيضتها، فقامت من الفراش مبتعدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: (ما شأنك -يا عائشة - لعلك حضت؟ قالت: نعم، قال: لا عليك، شدي عليك
إزارك، وارجعي إلى فراشك) .
فالحائض تشد إزارها عليها، وتكون مع زوجها، ويباشرها من فوق الإزار كيف
شاء، ويباشرها أيضاً فيما عدا ما بين السرة إلى الركبة من أعلاها وأسفلها
كيف شاء، ولا شيء عليه.
قالت أم المؤمنين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد إحدى نسائه
وهي حائض، أمرها أن تتزر، وهي تقصد نفسها أو غيرها، وقد جاء ذلك أيضاً عن
صفية وعن أم سلمة، وهذا أمر سائغ، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم سئل: ما
يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ وهذا أمر غير مختص به صلى الله عليه وسلم،
بل هو عام للأمة كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
شرح حديث: (يتصدق
بدينار أو بنصف دينار)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار) رواه
الخمسة، وصححه الحاكم وابن القطان، ورجح غيرهما وقفه] .
هذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، بأن من أتى زوجه وهي حائض أو جاريته وهي حائض، فليتصدق بدينار أو
بنصف دينار، و (أو) هنا ليست للشك، ولكنها للتنويع، ففي حالة يتصدق بدينار،
وفي حالة يتصدق بنصف دينار، أما الحالة التي يتصدق فيها بدينار فهي في فورة
الحيضة، أي: في شدة جريان الدم، والأطباء يقولون: الحيضة في أول يوم ضعيفة،
واليوم الثاني والثالث أشدها، وفي اليوم الرابع وما بعده تتناقص حتى تنقطع،
وحالات النساء تختلف في هذا، فينظر في حالة الدم عندما أتاها زوجها: فإذا
كان في شدته فعليه دينار، وإذا كان في ضعفه وقلته فعليه نصف دينار.
والحديث -كما ذكر المؤلف- هناك من صححه مرفوعاً، وهناك من جعله موقوفاً على
ابن عباس من قوله، ولكن مثل هذا الحكم -وهو الأمر بالصدقة- الظاهر أنه
مرفوع، فإن أموال الناس معصومة، ولا يتأتى لإنسان أن يقول فيها برأيه، وأن
يأتي بحكم من عنده واجتهاده، فهو إن لم يكن مرفوعاً صناعة فهو مرفوع حكماً،
ولكن يذكر الشوكاني وغيره أن الحديث فيه مقالات، وأن في سنده ما يضعفه، ومن
هنا اختلفوا هل هذا الدينار أو النصف الدينار واجب أو على سبيل الندب؟ فبعض
العلماء على أنه واجب لنص الحديث، وإن كان في سنده مقال، فقالوا: يتصدق
بدينار إذا كان الدم شديداً، أو بنصف دينار إذا كان الدم قليلاً، وبعض
العلماء يقول: ليس بواجب، ولكنه للاستحباب.
فالزوجة أحلها الله لزوجها، وعند مجيء الدم يحرم عليه وطؤها تحريماً
مؤقتاً، وكونه يجامعها وهي حائض خطيئة، وكفارة تلك الخطيئة أن يتصدق، فمن
أتى أهله وهي حائض لا نقول: إنه أتى محرماً كالزنى، ولكنه ارتكب مخالفة
ونهياً، ولا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا الدينار والنصف
الدينار للردع من ذلك، فهم في ذلك الوقت ما كل إنسان منهم يملك ديناراً ولا
نصف دينار، وإن امتلكه فليس بزائد عن حاجته، وقل من يتوفر عنده الدنانير،
فيكون جعل ذلك حتى لا يقع الرجال على النساء وقت الحيض، تنفيذاً لقوله
سبحانه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] .
ويقولون: المرأة في حالة الحيض أعصابها ونفسيتها مختلفة، وجسمها غير طبيعي،
فإذا جامعها زوجها تتوتر أعصابها؛ لأن خلاياها وكل أجزاء جسمها تختل،
وتختلف حالة الحيض عن حالة الطهر، وإذا انتهى الحيض وجاء الطهر كانت في أشد
الاستعداد لذلك العمل.
فهذا الحديث فيه الزجر والمنع من تطلع الرجال إلى النساء عند المحيض، والله
تعالى أعلم.
شرح حديث: (أليس إذا
حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟) متفق عليه في حديث
طويل] .
يبين المؤلف رحمه الله حكم الحائض بالنسبة للصلاة وللصيام؛ لأنهما أهم شيء
في حياتها وفي دينها، والحديث طويل، وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر
أنه اطلع على أهل النار، ووجد أكثر أهلها النساء؛ فقامت امرأة وقالت: ما
شأن النساء أكثر أهل النار؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (لأنهن يكثرن اللعن،
ويكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من
إحداكن) ، وهذا على سبيل حكم الكل، وليس الكلي، ففي الجملة المرأة أنقص
ديناً وعقلاً، ولكن قد يوجد بعض النساء أرجح عقلاً من عشرات الرجال، وقد
يوجد في النساء من هي أرجح في الدين والعبادة والتورع من عشرات الرجال، لكن
ذلك من حيث العموم، فقالت المرأة: ما نقصان عقلها ودينها؟! فقال صلى الله
عليه وسلم: (أما نقصان عقلها فشهادتها نصف شهادة الرجل) كما قال الله:
{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، قال: (وأما نقصان دينها
فأليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟) ، وكونها لا تصلي ولا تصوم نقص في
دينها، فالرجل يصلي بصفة دائمة، ويصوم بصفة دائمة، ولكنها يأتيها ما
يمنعها، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أليست المرأة إذا حاضت لا تصلي ولا
تصوم؟) معناه: أن الحائض تمتنع عن الصلاة، وتمتنع عن الصيام، فلا يجوز
للحائض أن تصلي، ولو استباحت ذلك لكفرت عياذاً بالله، ولا يصح لها أن تصوم،
ولو صامت فلا يعتبر صيامها، ولو استحلت ذلك لكفرت عياذاً بالله.
وهل المرأة تقضي ما فاتها من الصلوات والصيام أثناء حيضها؟ جاءت زوج عبادة
بن الصامت إلى أم المؤمنين عائشة وقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي
الصلاة؟ فقالت: (كان يصيبنا الحيض فنقضي الصوم ولا نقضي الصلاة) ، وفي بعض
الروايات أنها قالت: (أعراقية أنت؟! قالت: لا، ولكني مستفسرة) ، وقولها:
(أعراقية) ؛ لأنه كان مشتهراً عن أهل العراق أنهم أهل الجدل والقياس،
والمعتزلة يقدمون العقل في كثير من قضايا الإسلام، ومن أهل البدع من يقول:
إنها تقضي الصلاة، وهذا السؤال هو شبه اعتراض عقلي، أي: كيف هذا، فهذه صلاة
فريضة وهذا صوم فريضة، ثم فرق بين الفريضتين، فريضة تقضيها وفريضة لا
تقضيها؟! وهذا من استعمال القياس العقلي، فقالت لها هذا الجواب: أعراقية
أنت؟! أي: أأنت قياسية، تعملين بالقياس مع وجود النص؟ وأما القياس في غير
وجود النص فهو من أصول الفقه وأصول الدين، لكن إذا وجد النص فلا قياس،
ويسمى عند الأصوليين: فاسد الاعتبار؛ لأن النص موجود.
فهي سألت كيف تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فأجابت أم المؤمنين
بقولها: كنا نحيض ونؤمر بذلك، وما كنا نسأل عن السبب ولا عن العلة، فهي
أمور تعبدية نتقبلها بالسمع والطاعة، ولا نسأل عن السبب ولا عن الفرق، ولكن
العلماء قالوا: هناك فرق، وليس قضاء الصلاة وقضاء الصوم مستويان، ومن شرط
صحة القياس أن يستوي الطرفان: المقيس مع المقيس عليه.
فمثلاً: الربا في البر مع الشعير أو مع الذرة؛ لأنهما يستويان في كونهما
قوتاً مدخراً، ولكن الصوم والصلاة ليستا متفقتين، لماذا؟ لأن الصوم يأتي
مرة واحدة في السنة، والحيض يأتي في الشهر -غالباً- مرة واحدة، فإذا حاضت
خمسة أيام أو سبعة أيام في رمضان، فيسهل عليها أن تقضي السبعة أيام في بقية
السنة، وهذا لا مشقة عليها فيه، وأما إذا كانت تؤمر بقضاء الصلاة فسبعة
أيام تضرب في خمسة يساوي خمسة وثلاثين صلاة، فتحتاج سبعة أيام من الأيام
الأخرى لتقضيها في غير أيام الحيضة، فعلى هذا؛ لما كانت الصلاة تتكرر كل
يوم، وهي تحيض عدة أيام، وقد يستمر حيضها إلى أكثر مدة الحيض وهي الخمسة
عشر يوماً، فستقضي الصلاة خمسة عشر يوماً مع صلاة الخمسة عشر يوماً، وتكون
الفائتة بقدر الحاضرة، وهذه مشقة ظاهرة؛ ولهذا سقط عنها قضاء الصلاة.
شرح حديث: (افعلي ما يفعل الحاج ... )
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما جئنا سرف حضت،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت
حتى تطهري) متفق عليه في حديث طويل] .
هذا الحديث مثل الحديث المتقدم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) وهنا قالت
عائشة: لما جئنا سرف، وسرف على مرحلتين من مكة في طريق المدينة، وكانت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وكانت محرمة بالعمرة متمتعة،
ولما دنت من مكة فاجأتها الحيضة، وكانوا قدموا مكة صبح رابعة من ذي الحجة،
أي: وفي اليوم الثامن بعد أربعة أيام سيذهبون إلى عرفات، وهي لن تطهر في
هذه المدة، فهي بين أحد أمرين: أن تجلس في مكة حتى تطهر وتكمل عمرتها
ويفوتها الوقوف بعرفة، أو تدرك الحج، فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليها
وهي في خيمتها في سرف، فوجدها تبكي، فقال: (ما يبكيك يا عائشة؟! لعلك نفست؟
قالت: نعم) والنفاس من أسماء الحيض مثل: العراك، والفورة، والدم، فقال:
(هذا أمر كتبه الله على بنات آدم) ، أي: لست أنت وحدك التي يأتيك الحيض،
وليس أمرك بيدك.
ومعلوم أن الحج أعماله كلها تدور على ذكر الله، فهل لها أن تذكر الله،
فتلبي، وتأتي المشعر الحرام، وتأتي عرفات، وتقول ما جاء في الحديث: (خير ما
قلته أنا والنبيون قبلي في هذا اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ...
) إلى آخره، وتعمل بالآية: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أم أنها تمتنع بسبب
حيضتها؟ الحديث الأول يتعلق بأمر اليهود في أمور الدنيا، وفي الأمور
الخاصة، والأمور العائلية، والمعاشرة الزوجية، وحديث عائشة في الأمور
الدينية، فقال لها: (افعلي -مع وجود حيضتك- ما يفعل الحاج) ، وقد أمرها أن
تغتسل، وأن تدخل الحج على العمرة، فتقول: لبيك حجة في عمرة، وصارت قارنة من
مكانها في سرف، واغتسلت من أجل إدخال الحج على العمرة للنسك وليس للحيضة،
وأصبحت بعد ذلك قارنة، فجاز لها أن تجلس عند البيت، وتخرج مع الحجاج إلى
عرفات، وتنزل من عرفات إلى المشعر الحرام، ومن المشعر الحرام إلى منى،
وترمي الجمرات، ثم تنتظر، فإن طهرت في تلك الحالة اغتسلت، وطافت طواف
الإفاضة عن الحج والعمرة المقترنين، وبهذا أكملت حجها، فالحديث الأول في
أمور الدنيا والمعاشرة، وهذا في أمر الدين والعبادة: (افعلي ما يفعله الحاج
غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) .
وإذا نهاها عن الطواف بالبيت، فما هو أشد تطلباً للطهارة: الصلاة أم
الطواف؟ الصلاة؛ لأن الرسول قاس الطواف على الصلاة في قوله: (الطواف صلاة)
، فالطواف فرع عن الصلاة، فإذا منعت من الطواف بالبيت بسبب الحيضة، فمنعها
من قراءة القرآن في الصلاة من باب أولى.
وهل تقرأ القرآن؟ القرآن هو لب الصلاة، وجاءت الأحاديث بمنع الحائض من
قراءة القرآن ومن حمل المصحف.
إذاً: قوله: (اصنعي كل ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، ونضيف إلى
عدم الطواف: قراءة القرآن وحمل المصحف، وهذا يبين لنا أن الحائض تذكر الله
بغير التلاوة، وتفعل كل ما يفعله الحجاج: من الأذكار، ومن الوقوف بعرفات،
والوقوف بمزدلفة، وذكر الله عند المشعر الحرام، وذهابها إلى منى، ورميها
الجمار، والتكبير مع كل حصاة، وتنحر أيضاً إذا كان عليها نحر إن كانت تحسن
النحر أو تنيب من ينحر عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم (نحر عن نسائه
بقرة) .
شرح حديث: (إتيان
الحائض فيما فوق الإزار)
قال رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه
وسلم: (ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقال: ما فوق الإزار) رواه أبو
داود وضعفه] .
سبق أن ساق المؤلف رحمه الله حديث: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، وهذا عام،
فله أن يصنع كل شيء حتى ما تحت السرة، ما لم يكن هناك إيلاج وجماع، وهنا
سأل معاذ: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ لم يقل: يحل له كل شيء إلا
النكاح مثل الحديث السابق؛ لأنه كان في مقابلة تعامل اليهود، فاليهود منعوا
التعامل معها في كل شيء، والإسلام أباح التعامل معها في كل شيء، إلا شيئاً
واحداً وهو الجماع، فهو مقابل لتعنت اليهود مع الحائض، وحديث معاذ توجيه
وتعليم لما هو الأكمل والأحوط للرجل، وهو ما فوق الإزار.
وهل له ما فوق الإزار ولو كان في مقابل الفرج في منطقة الاتزار؟ الحديث
يحتمل الأمرين، والإزار العادي يكون من السرة إلى الركبة، ويكون الإزار
حاجزاً وحاجباً بين الجسم والجسم، قال بعض العلماء: المباشرة تكون مكان
الاتزار، وهذا هو الظاهر، أما كونه يباشر الفرج بحاجز الإزار فهذا قد يؤدي
إلى إثارة المرأة، وقد يكون فيه إيذاء عليها.
إذاً: ما فوق الإزار هو محل إزار المرأة، وهذا قول الجمهور، وقد قالت عائشة
رضي الله عنها: (فيأمرها فتتزر ويباشرها) ، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كانت النفساء تقعد بعد نفاسها
أربعين يوماً)
قال رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء تقعد على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين يوماً) رواه الخمسة إلا
النسائي واللفظ لـ أبي داود، وفي لفظ له: (ولم يأمرها النبي صلى الله عليه
وسلم بقضاء صلاة النفاس) ، وصححه الحاكم] .
المؤلف رحمه الله انتهى من مباحث الحيض، ولكنه لم يبين لنا مدة الحيض
صراحة، ولكن ذكر حديث المستحاضة: تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام، والفقهاء
حددوا أقل مدة الحيض وأكثره، فالحنفية قالوا: أكثر الحيض عشرة أيام،
والجمهور على أنه خمسة عشر يوماً، وأقله يوم وليلة، وغالبه سبعة أيام.
فأقل الحيض وأكثره معلوم عند العلماء والحمد لله، علماً بأن حالات النساء
تختلف، ولكن جعلوا هذا هو الحد الأقصى والحد الأدنى، فما كان من دم دون
الحد الأدنى فليس بحيض، وما كان من دم فوق الحد الأعلى فليس بحيض.
ودم النفاس يأخذ حكم دم الحيض في ترك الصلاة، وترك الصيام، وترك القراءة،
وعدم حمل المصحف، وتحريم الوطء، فدم النفاس ودم الحيض في ذلك سواء، وقد سمى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيض نفاساً كما في قوله: (لعلك نفست؟) ،
فإلى متى تجلس المرأة بعد نفاسها؟ هذا الحديث يبين أقصى مدة الدم في
النفاس، وأقل دم النفاس لحظة، فلو نفست اليوم وانقطع دمها غداً ولم تر
شيئاً فقد طهرت، وتأخذ حكم الطاهر، وليس بلازم أن تستمر إلى أربعين يوماً
إلا في الجماع من باب الندب؛ لأنها بعد الولادة ليست مستعدة للجماع، والمحل
غير صالح، فإذا كملت الأربعون يوماً صار الرحم يقبل ما كان يقبله قبل
الحمل، وهل هذا محل اتفاق؟ ليس محل اتفاق، هناك من يرى أن أقصى النفاس
خمسون يوماً، وبعضهم يراه ستين يوماً، والعبرة بغالب حالات النساء، وقد
أشرنا أن دم الحيض ودم النفاس يختلف في أسرة دون أسرة، ويختلف في قرية دون
قرية، ويختلف في إقليم دون إقليم، ويختلف في فصل دون فصل، فهو في الأيام
الباردة غير الأيام الحارة.
قالوا: أقصى ما تجلس النفساء بعد دم النفاس أربعون يوماً، وهناك من قال:
خمسون، أو خمسة وخمسون، أو ستون، وليس بعد الستين خلاف.
لو أن المرأة ولدت ونزل الدم، وفي آخر النهار انقطع عنها الدم، فهل انتهت
من نفاسها أم لابد أن تجلس أربعين يوماً؟ انتهت، وإذا ولدت ولم ينزل ولا
قطرة دم فهل لازم أن تجلس أربعين يوماً أم ليس هناك دم نفاس؟ ليس هناك شيء،
وهذه ولادة الجفوف، فبعض النسوة تلد المولود ولا ينزل معه دم، فبنزول الولد
ينتهي نفاسها، ولا تحتاج أن تجلس أي مدة بعد نزول الولد إذا لم يوجد الدم.
إذاً: هذا الحديث يبين لنا الحد الأقصى الذي تجلسه المرأة في نفاسها، فإذا
زاد عن الأربعين يوماً خمسة أيام فماذا نعتبر هذه الأيام الخمسة؟ يقول
الفقهاء: إن كانت الزيادة وافقت زمن حيضتها فهي حيض، أي: أنها انتقلت من
نفاس إلى حيض، فتترك الصلاة والصوم، فمثلاً: كانت ترى الحيضة يوم ثلاثة
وعشرين من كل شهر، فنفست، وبعد الأربعين يوماً صادف يوم ثلاثة وعشرين، وهو
زمن حيضتها، فتترك الصلاة؛ لأنها انتقلت من نفاس إلى حيض.
أما إذا كانت حيضتها تأتيها في أول الشهر أو في نصف الشهر، وانتهى دم
نفاسها يوم خمسة وعشرين من الشهر، ولكن استمر الدم إلى يوم الثلاثين، فهذه
الخمسة الأيام الزائدة من بعد يوم خمسة وعشرين التي هي نهاية الأربعين تكون
استحاضة، والله تعالى أعلم.
|