شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة - باب
الحث على الخشوع في الصلاة [1]
الخشوع لب الصلاة وروحها، فلا يعرف عظمة الصلاة من لم يذق الخشوع فيها،
وعلى قدر الخشوع يكون الأجر، ولما كان الخشوع بهذه المنزلة فإن الشارع
الحكيم قد أحاط الصلاة بسياج منيع من الأحكام التي غايتها وفائدتها الحفاظ
على المصلي من كل ما يشغله عن الصلاة حتى لا يضيع عليه الخشوع.
ما ينافي الخشوع في
الصلاة
الاختصار في الصلاة
ومعناه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً) متفق عليه، واللفظ لـ
مسلم، ومعناه: أن يجعل يده على خاصرته.
وفي البخاري عن عائشة: (أن ذلك فعل اليهود في صلاتهم) ] .
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب العظيم بهذا الحديث الذي نهى فيه
النبي صلى الله عليه وسلم الرجل -وكذلك المرأة- أن يصلي مختصراً، والمؤلف
شرح كلمة (مختصراً) ، وهي مأخوذة من الخاصرة، والخاصرة فوق الحقو، وهو
العظم، ويسمى بالحوض فوق ملتقى الفخذ بالظهر، فنهى صلى الله عليه وسلم عن
هذه الهيئة -كما سيأتي فيما بعد- (في الصلاة) ، وجاء التعليل بأن ذلك من
فعل اليهود، فيقفون في صلاتهم مختصرين.
وبعضهم يفسر الاختصار في الصلاة: بأنه الاختصار في القراءة، وهو أن يأخذ من
بعض السور بعض الآيات مختصراً السورة.
وبعضهم فسر الاختصار بأن يختصر الصلاة، فلا يعطيها حقها من القراءة
والطمأنينة في الركوع والسجود، بل يقتصر على أقل ما يجزئ، وهو الطمأنينة
فحسب في الركوع وفي السجود وغير ذلك، بخلاف من يطيل ركوعه ويطيل سجوده، كما
كان يفعل صلى الله عليه وسلم، فقد أطال سجوده صلى الله عليه وسلم في بعض
الليالي حتى قالت عائشة: (خشيت أن يكون قد قبض) أي: مات.
وجاء في الحديث الآخر: (يقرأ في الركعة الأولى البقرة وآل عمران والنساء،
ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد نحواً من ذلك، إلى
آخر الصلاة) ، وهذا في النافلة؛ لأنه في الفريضة يؤم الناس، فيراعي الضعيف
والمريض وذا الحاجة، فمن بعض معاني الاختصار اختصار الصلاة بعدم إيفائها
حقوقها.
ومن معاني الاختصار أن يقرأ بعض الآيات من بعض السور.
وبالمناسبة فإنه قد ورد عن مالك رحمه الله أنه قال: أحب إليّ أن يقرأ سورة
كاملة -ولو من قصار المفصل- من أن يقرأ نظيرها عدة مرات من سورة طويلة.
يعني أنه لو قرأ صفحة كاملة من سورة البقرة، أو آل عمران، أو يس، فخير من
ذلك أن يقرأ سورة كاملة مثل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ،
أو {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل:1] ، أو {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ} [القدر:1] ، فإن هذا أحب عنده من أن يقرأ صفحة كاملة من سورة
طويلة دون أن يكملها.
والسبب في ذلك أن من تأمل أسلوب القرآن ومنهجه، وأدرك المعاني المرتبطة يجد
كل سورة من قصار السور تنفرد بوحدة موضوعها، بخلاف السور الطوال، فإنها
تتعدد فيها المواضيع، فإذا جئت إلى سورة (اقرأ) وجدت أنها تتحدث عن بداية
الرسالة بالقراءة والتعليم، وإذا جئت إلى سورة (إنا أنزلناه) فإنها تتحدث
عن القرآن، وعن نزوله، وإذا جئت إلى سورة (البينة) وجدت فيها إقامة الدليل
والحجة على المشركين وأهل الكتاب، وإذا جئت إلى سورة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ) وجدت موضوعها يتحدث عن ذات الله ووحدانيته سبحانه، وكذلك
(المعوذتان) تجد كل واحدة موضوعة للاستعاذة من أشياء مخصصة.
أما البقرة وآل عمران وبقية السور الطوال فتجد فيها عدة قصص، وكل قصة
مستقلة بذاتها، وتجد في سورة البقرة مواضيع عديدة، كأول خلق الكائنات،
وتقسيم الناس إلى مؤمنين ومنافقين وكفار، ثم دعوة الناس إلى عبادة الله
وحده بإقامة الأدلة بخلق السموات والأرض، ثم الكلام على بني إسرائيل، ثم
آدم، ثم إبراهيم، إلى غير ذلك من أشياء عديدة، ومواضيع متعددة، فلربما أخذ
الموضوع الواحد صفحة كاملة أو أكثر، وينبغي على كل قارئ -سواءٌ أكان وحده،
أم إماماً في الصلاة- إذا قرأ من بعض السورة الطوال أن يأخذ موضعاً مكتملاً
فيقرأه، ولا يبتر الموضوع ويركع، فإذا لم يمكن ذلك، أو كان يطول ذلك على
المصلين فليقرأ من قصار السور.
فمن معاني الاختصار: الاقتصار على بعض الآيات من بعض السور، وكذا الاختصار
في الصلاة بإنقاص بعض واجباتها، والاختصار حساً، وهو وضع اليدين على
الخاصرة، وماذا في وضع اليد في الخاصرة؟ قالوا: لأن ذلك من فعل اليهود في
صلاتهم، ولا ينبغي أن نتشبه باليهود في عباداتنا.
وهناك معنىً آخر، وهو أنك لو تأملت في نفسك إذا كنت في خلوة، أو في حالة
ما، ووجدت نفسك مباشرة تضع يدك على خاصرتك، فإن ذلك -غالباً- لا يكون إلا
في حالة الإعجاب، والنظر بتوسع فيما أعجبك، ففيها شيء من الفخر أو الاعتزاز
أو التكبر، وهذا يتنافى مع الخشوع في الصلاة، والله تعالى أعلم.
الصلاة بحضرة الطعام
وما في معنى ذلك
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: إذا قدم العشاء فابدأوا به قبل أن تصلوا المغرب) ، متفق عليه] .
في الحديث الأول النهي عن الاختصار في الصلاة أثناء أدائها، والحديث الثاني
موضوعه قبل الدخول في الصلاة، وفيهما المحافظة على الخشوع في الصلاة، ففي
هذا الحديث أنه إذا قدم العشاء قبل المغرب فلنبدأ بالعشاء، مع أن المغرب
وقته ضيق! وفي اللفظ الآخر: (إذا قدم العشاء والعشاء فابدأوا بالعشاء) ،
فجيء بلفظ (العشاء) بدلاً من المغرب، ومهما تكن من تسمية فإنهم يقولون: إذا
قدم الطعام تطلعت إليه النفس، فإذا تركه وانصرف إلى الصلاة كانت نفسه مع
الطعام، وهذا يشوش عليه.
وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يتناول طعامه، وكان بجانبه
شواء تشم رائحته، فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة، فقال: اصبر حتى ننال من هذا
الشواء؛ فلا تتعلق به نفوسنا في الصلاة.
وهنا بعض المباحث الفقهية، فمن ذلك أنه لو ضاق الوقت، وقدم الطعام فهل نقدم
الطعام ولو خرج الوقت؟ هناك من يقول: نعم، كالظاهرية، وهناك من يقول: يجب
تقديم حرمة الوقت.
وهناك من يقول: هذا للصائم؛ لأنه طيلة نهاره صائم جائع ينتظر الطعام ويرقب
المغرب، فإذا قدم طعامه فليتناول من طعامه قبل أن يصلي المغرب، وهذه كانت
سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا يتناولون الإفطار بعد الأذان
وقبل الصلاة، فيتناولون تمرات مع شيء من الماء، كما يُفعل الآن في المسجد
النبوي ولله الحمد؛ لأن الإنسان مع طول الوقت يتطلع وينتظر، فلابد أن يأكل
ما يكسر هذا التطلع والانتظار، لاسيما بالمادة الحلوة، ولذا قالوا: من
الحكمة أن يكون الإفطار على تمر ورطب؛ لأن الحلاوة تدفع شره الجوع عن
المعدة، وتجعلها تكتفي بأقل مما لو لم يسبق إليها بالحلوى.
فتقديم العشاء على المغرب كان رفعاً للتشويش، أما إذا كان شبعان وقُدِّم
العشاء وأقيمت صلاة المغرب فيبقى في حقه أن يُقدم المغرب؛ لأفضلية أول
الوقت؛ لأن العلة منسية؛ إذ إنه قد شبع من هذا الطعام، أو في غنى عنه.
فالحكم مختص بالجائع الذي يتشوش خاطره بترك الطعام إذا قّدم الصلاة، والله
تعالى أعلم.
وليس الأمر قاصراً على المغرب وعلى العشاء، بل كل أوقات الصلوات في ذلك
سواء، ويمكن أن يقال أيضاً: إن ذلك يكون كذلك في حالة ما إذا كان هناك أمر
هام ينشغل به المصلي، كمن عنده موعد مع إنسان في مكالمة هاتفية مهمة،
وأقيمت الصلاة، وبقي من الوقت دقائق على موعد المكالمة، أو على مجيء الرسول
بهذا الأمر، وإذا دخل في الصلاة يخشى أن يرن الجرس، أو إن دخل في الصلاة،
يخشى أن يأتي الرسول فلا يجده.
فلو أخرت الصلاة إلى الفترة القريبة التي لا تفوّت عليك وقت الصلاة حتى
تُصلي وأنت مطمئن الخاطر مستريح البال فإنه يمكن أن يقاس هذا على علة رفع
التشويش الكائنة في غير الطعام، مع غير المغرب والعشاء.
مسح الحصى عن الوجه
في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة
تواجهه) ، رواه الخمسة بإسناد صحيح، وزاد أحمد: (واحدة أو دع) ] .
هذا الحكم -أيضاً- يدور في فلك الخشوع أثناء الصلاة، فالرسول صلى الله عليه
وسلم يقول: (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى؛ فإن الرحمة تواجهه) ،
فما علاقة مسح الحصى بمواجهة الرحمة؟ قالوا: لأن الإنسان في صلاته مقبل على
الله سبحانه بمناجاته، مستحضر عظمة الله، مستحضر من يخاطب، ومقابل ذلك أن
يكون الرحمات تواجهه، فإذا ما أخذ يمسح الحصى فكأنه انصرف عن مصدر الرحمات
فانقطعت عنه.
ولكن قد تكون ضرورة، وبعضهم يقول: لا تمسح الحصى، واسجد على ما أمامك؛ لأن
الحصى الذي يواجهك يحب أن تسجد عليه.
ويقولون: إن الحصاة التي يخرجها الإنسان من المسجد تخاصمه يوم القيامة،
فتقول: لمَ أخرجتني من محل العبادات إلى محل القاذورات؟ ومن هنا يقول بعض
العلماء: لا يجوز رمي الجمار بجمار تلتقط من المسجد؛ لأن الحصى التي في
المسجد تستقر وتطمئن وتصغي وتدرك العبادة التي تسمعها، فهي تستأنس بها.
وجاء في هذا شاهد العيان الذي شهده آلاف الناس، في المسجد النبوي الشريف
حينما كان صلى الله عليه وسلم يخطب متكئاً على جدع نخلة، فصُنع المنبر،
فأول ما تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنبر حن الجذع لرسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ لأنه كان مستأنساً مستشعراً لعظمة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعظمة ما يُلقى من قوله، والله سبحانه قادر على أن يجعل في الجماد
حساً، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فهو نوع من التسبيح
لا تدركونه، بل هو فوق حواسكم وفلا تفقهونه، فيحن الجذع ويسمع حنينه كل من
في المسجد كحنين العُشراء، والناقة العشراء يكون في حنينها نوع من اللطف أو
العاطفة حتى نزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر وضم الجذع فسكن، ثم خيره
فقال: (إن شئت أخذتك وغرستك فأورقت وأينعت وأثمرت -يعني: ترجع إلى شبابك-
وإن شئت: صبرت، وكنت من غرس الجنة) ، فانظر إلى قدرة الله تعالى، حيث خاطب
النبي صلى الله عليه وسلم الجماد، لكن الله جعل هذا الجماد يدرك الخطاب
والجواب، فقال (أكون من غرس الجنة) .
فهذا الجدع تأثر بمدة قيام الرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً عليه سبع
سنوات؛ لأن المنبر صنع في السنة الثامنة، فلما تحول عنه افتقده.
لذا قالوا: من المعاني في النهي عن مسح الحصى أنها تحب أن تسجد عليها،
وتشاركك في السجود، وكذلك ما جاء في النهي عن كفت الشعر، فقد جاء عن بعض
السلف: إن الشعر يحب أن يسجد معك.
أو قال: أطلقه ليسجد معك.
أي: كما يسجد الوجه على الجبهة، فكذلك الشعر الذي في الرأس -في الجمة- يسجد
مع صاحبه.
ويهمنا هنا أنه صلى الله عليه وسلم نهى المصلي أن يمسح الحصى، اللهم إلا
إذا كان شيئاً لا يستطيع أن يمكن جبهته منه، فهناك نوع من الحصى المصنوع
المكسر مثل أطراف المسامير والإبر، فيصعب السجود عليه، فإن استطاع أن يسويه
بحيث يمكن أن يسجد عليه فذاك، وإلا أزاله، أما إذا كان رملاً، أو كانت
صخرة، أو كان شيئاً أملساً يمكن أن يسجد عليه فلا حاجة لمسحه وإزالته، كما
قال أبو الدرداء، أو أبو ذر: لأن أدع ذلك خير لي من الدنيا وما فيها.
وإذا كان هذا في النهي عن مسح الحصى فكيف بالذي ينظر في الساعة، ويضبطها،
ويفعل غير ذلك، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يكفت الرجل ثوبه في
الصلاة، فأين الخشوع عند هذا الصنف؟! وأين إدراك ما يُقرأ؟ فهذا حاله كما
قال صلى الله عليه وسلم: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) ، ولن يتذوق إنسان
طعم الصلاة وحلاوة المناجاة إلا إذا كان الخشوع متوافراً، وإلا كان كمريض
يشرب الشهد فلا يشعر بطعمه، وبالله تعالى التوفيق.
الالتفات في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من
صلاة العبد) .
رواه البخاري، وللترمذي -وصححه-: (إياك والالتفات في الصلاة؛ فإنه هلكة،
فإن كان لا بد ففي التطوع) ] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله في (باب الحث على الخشوع في الصلاة) ما يتعلق
بالالتفات في الصلاة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنها
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس
يختلسه الشيطان) ، وجاء أيضاً عن أبي ذر أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن كل شيء، وسألته عن الالتفات في الصلاة فقال: إنما هو هلكة،
فإن كان ولا بد ففي النافلة) .
فقول أم المؤمنين عائشة -زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (سألت رسول
الله عن الالتفات في الصلاة ... ) فيه بيان أن الالتفات لا يكون إلا عن شغل
يُشغله عن الصلاة، وهذا يتنافى مع الخشوع الذي عقد المؤلف الباب من أجله،
وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الالتفات إنما هو اختلاس، والاختلاس: هو
أخذ المال خفية، كشخص يعمل في محل، وتحت يده صندوق المبيعات أو الأمانات،
فيختلس -أي: يأخذ- من المال خفية دون أن يعلم به صاحب المال، ولكنه -كما
يقال- أمر خفي في بدايته ظاهر في نهايته، بخلاف الاغتصاب، فالغصب ظاهر في
أوله ظاهر في آخره؛ لأن الغاصب لا يبالي، فيأخذ جهاراً اقتداراً، أما
المختلس فهو يخشى السلطة، ويخشى صاحب المال، فيأخذ المال خلسة.
وهكذا الشيطان، يأتي للإنسان ويحمله على الالتفات بأي صورة، فيورد عليه
صورة عدو، ويورد عليه صورة طلب حاجة، ويسمع أدنى صوت بجانبه، يميناً أو
يساراً، ولخلو ذهنه أو فراغ قلبه عن الشغل بالصلاة يستهويه، أو يلتفت ليعرف
مصدر هذا الصوت، أما إذا كان خاشعاً في صلاته مشتغلاً بما يتلفظ به، معظماً
لمن يناجي، ولمن هو قائم بين يديه، فإنه لا يبالي بتلك الأصوات، أو بتلك
الحركات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) ، أي: عما
سواها.
ومن هنا كان الالتفات انشغالاً عن الصلاة، وكونه اختلاساً فالاختلاس ينقص
المال، فإذا كان كل يوم يأخذ المؤتمن من المال درهماً فإنه بعد عدة أيام،
وبعد عدة شهور، وبعد عدة سنوات، سيكون قد حصل في المال نقص كثير، وهكذا
الصلاة التي يلتفت فيها الإنسان، فإنه قد أنقص منها بقدر التفاته، فتكون
الصلاة قد نقصت، كما أن رأس المال عند المؤتمن عليه قد نقص، والمختلس قد
يختلس شيئاً قليلاً، وقد يختلس شيئاً كثيراً، وكذلك الشيطان، فقد يختلس من
الإنسان في صلاته بالتفاته شيئاً قليلاً، وقد يختلس شيئاً كثيراً، سواءٌ
أكان في نوع الالتفات ومدى انحرافه، أم كان في كثرته ومداومته عليه، فكل
ذلك نقص يقع على الصلاة.
وكون الالتفات اختلاساً ناحية تربوية، وناحية معنوية فيما ينقص من الصلاة،
لكن الفقهاء يبحثون عن صحة الصلاة وعدم صحتها، فيقولون: الالتفات إما أن
يكون جزئياً، أو كلياً ومعنى (جزئياً) : أن يلتفت بعنقه قليلاً وصدرُهُ لا
يزال إلى القبلة، ويسمى هذا الالتفات التفاتاً جزئياً، أما إذا التفت
بكليته وصدره، فبعد أن كان إلى القبلة، ذهب إلى اليمين، وانحرف بصدره عن
القبلة فهذا التفات كلي، فيقولون: إن الالتفات الكلي مبطل للصلاة؛ لأنه
يُفقد الصلاة شرطاً من شروط صحتها في لحظة منها، وهو شرط استقبال القبلة،
وهذا في الأمور العادية والاختيار، أما إذا كان في حال الضرورة، فالضرورات
لها أحكامها، كمن كان في صلاة الخوف وهو يجري، أو كان يفر من عدو وهو في
الصلاة، فهو سينحرف عن القبلة قطعاً، أو كان في حالة قتل العقرب أو الحية
أثناء الصلاة، فهو سينحرف عن الصلاة انحرافاً كلياً قطعاً، لكن هذه حالات
اضطرارية، والضرورات تبيح المحظورات، والبحث إنما هو في الأمور العادية
الاختيارية.
أما إذا صلى في جوف الكعبة فجعل الباب خلفه، وصلى إلى الجدار المقابل
للباب، ثم إذا به ينحرف انحرافاً كلياً إلى اليمين ثم انحرف انحرافاً كلياً
إلى اليمين -أي: إلى الجدار الثالث- فكل ذلك لا يبطل الصلاة من جهة
الالتفات أو الانحراف؛ لأنه بانحرافه لم يخرج عن استقبال الكعبة، وهذا إذا
كان يصلي داخل جوف الكعبة.
أما ما عدا ذلك فنرجع إلى الحالة والصورة التي بسببها التفت التفاتاً كلياً
لنعرف هل هي حالة مشروعة ومرخص له فيها؟ فإذا كانت كذلك فلا تبطل الصلاة،
أما إذا كان عبثاً وغفلة وسهواً منه فإن كان التفاتاً كلياً بطلت صلاته،
وإن كان التفاتاً جزئياً لم تبطل الصلاة.
وأما كون الالتفات في الصلاة هلكة فلأن الاختلاس ينقص من أجر صلاته، والنقص
من الأجر هلكة، فنقص مع نقص مع نقص سينتهي إلى نقص كثير يؤدي إلى الهلاك،
أو أن الالتفات الجزئي قد يجعله يتعود ذلك، ثم يأتي منه التفات كلي دون أن
يشعر، ويرجع ويستمر في صلاته وتكون صلاته باطلة، فتكون الهلكة.
ويهمنا أن الالتفات في الصلاة ينافي الخشوع، ثم قال في هذا الحديث: (فإن
كان ولا بد -أي: إن اضطر إلى الالتفات- ففي النافلة) .
ومثال هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، إذ إنهم لما خرجوا
-وقبل أن يصلوا إلى الموقعة- عرسوا في الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: (من
يحرس لنا الوادي؟) ، أي: الذي فيه العدو، فقام رجل وقال: أنا يا رسول الله
فقال: (خذ عليك سلاحك، وخذ جوادك) فذهب، ثم طلع الفجر والناس ينتظرون أن
يرجع هذا الفارس بالخبر فما رجع، فطال عليهم، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي
ويلتفت إلى جهة الوادي يتطلع إلى مجيء هذا الفارس، فقالوا: هذه نافلة كان
يصليها صلى الله عليه وسلم، وكان يلتفت ويتطلع إلى الفارس إلى أن أذن
الفجر، وصلى سنة الصبح وكان يلتفت، ثم فرغ وقال: (هل أحد منكم رأى فارسنا
البارحة؟ قالوا: لا) ، فانتظروا قليلاً، ثم قاموا إلى الصلاة فجاء الفارس،
فأخبره الخبر بأنهم جاءوا بإبلهم وغنمهم ونسائهم وأطفالهم، فقال (هل نزلت
عن جوادك؟ قال: والله -يا رسول الله! - ما نزلت إلا لأتوضأ أو أصلي، قال:
لا عليك أن تفعل فيما بعد) ، يعني: عملك هذه الليلة يكفيك، وليس معنى ذلك
أنه يترك العمل بالتكاليف، فقد جاء نظير ذلك في حق عثمان رضي الله تعالى
عنه حين جهز جيش العسرة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل
بعد اليوم) ، يعني: هذا العمل يكفيك، فيكفيك من الأجر ما تقر به عينك في
الجنة وليس معنى ذلك أنه إذا حصل على ما يكفيه يترك الواجبات فالمهم أنه إن
كان ولا بد فيكون الالتفات في النافلة، ولهذا قالوا: يعتفر في أحكام
النوافل ما لا يعتفر في أحكام الفرائض.
فهذا ما يتعلق بالالتفات في الصلاة.
البصاق في الصلاة
وحكمه
علة النهي عن البصق
في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن بين يديه، ولا عن
يمينيه، ولكن عن شماله تحت قدمه) ، متفق عليه.
وفي رواية: (أو تحت قدمه) ] .
في هذا الحديث النبوي الشريف -مع الحث على الخشوع في الصلاة- آداب أخوية
واجتماعية، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في
الصلاة) ، وانظر إلى قوله: (إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا
يبصقن) ، فإنه كان يمكنه أن يقول: لا يبصقن أحدكم في الصلاة قبل وجهه؛ فإنه
يناجي ربه.
فقال: (إذا كان أحدكم في الصلاة) ليوقظ في الإنسان هذا المعنى العظيم، وهو
حقيقة عمله.
فهو في صلاته يناجي ربه، والمناجاة أخص من الحديث؛ لأنها بين الصديق
والصديق، ولأنها مما يحرص المتناجون أو المتناجيان على الحفاظ عليه، كما
بين سبحانه في فوارق الحديث بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] .
وكما في قصة أبناء يعقوب إذا قال تعالى عنهم: {خَلَصُوا نَجِيّاً}
[يوسف:80] ، أي: يناجي بعضهم بعضاً يدبرون أو يتآمرون كيف يفعلون إذ أخذ
منهم أخوهم.
فليست المناجاة أمراً علنياً ولذلك إذا كان المجتمعون ثلاثة فلا يتناج
اثنان دون الآخر؛ لأن ذلك يحزنه، حيث يقول في نفسه: ماذا يقولون؟ وفي أي
شيء يتناجون؟ وعن أي إنسان؟ فإذا كانوا أربعة فلا بأس أن يتناجى اثنان،
والثالث والرابع يستمران في حديثهما.
فالمصلي في تلك الحالة يناجي ربه؛ لأنه يخاطب ربه سبحانه بحديث النجوى،
وليس بحديث الجهر والإعلان، وكلما كان الحديث ذا أهمية أخذ طريق النجوى،
سواءٌ أكان بين الصديقين، أم بين الشريكين، أم بين المهتمين بأمر خطير
يخفونه عن الناس، وإذا تفاهموا فيه تفاهموا بالنجوى، ولهذا قال الحسن أو
ابن المبارك: إذا أردت أن تدخل على الله بغير استئذان، وتخاطبه بلا ترجمان،
فأسبغ الوضوء، وأتِ المسجد واستقبل القبلة، وكبر للصلاة فإنك تخاطب المولى
سبحانه بلا ترجمان بينك وبينه، وبأي لسان يفهم عنك.
وكذلك كل إنسان عندما يدخل في صلاته يقول: (الله أكبر) ، ثم يأتي بسورة
الفاتحة بما فيها من المعاني المعروفة للجميع، فهو يناجي ربه إلى أن يقول:
(إياك) أي: دون سواك (نعبد) ، (وإياك) أي: دون سواك (نستعين) ، ثم يقول:
(اهدنا) ، ففي هذه الحالة يجب أن يستشعر عظمة من يناجي، ويستشعر أنه يستقبل
ربه، كما جاء في بعض الروايات: (فإن الله تجاه وجهه) ، وجاء أيضاً في بعض
الروايات: (إن المصلي إذا أقبل على الله أقبل الله عليه) ، فإذا أعرض أعرض
عنه، وهذا من آفات الالتفات كما يقولون، ومن الجفوة، فإذا كنت تكلم
إنساناً، والتفت عنه، فإن هذا ليس من الأدب، فالالتفات مخلٌ بالأدب،
ومتنافٍ مع الخشوع، وكذلك هنا، فإذا كان يناجي ربه ثم غلبه البصاق فلا
يبصقن تجاه وجهه؛ لأن الله تجاه وجهك، فأنت تناجي ربك، وما دمت مقبلاً على
الله، فالله مقبل عليك.
وهذا من الآداب الرفيعة، وإن كنا لا ندرك ولا نحس، ولكن نؤمن، ونوقن بما
أخبرنا به صلى الله عليه وسلم فقال: (فلا يبصقن تجاه وجه، ولا عن يمينه) ،
وجاء في بعض الروايات التعليل لهذا؛ بأن تجاه وجهه رب العالمين يناجيه، وعن
يمينه ملك الحسنات، فلا يبصق عن اليمين فيؤذي الملك، ولا يبصق أمامه؛ لأنه
إساءة أدب مع الله سبحانه وتعالى.
وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ما بصقت تجاه القبلة منذ
أسلمت) احتراماً للقبلة في غير الصلاة، وخشوعاً في الصلاة أثناء الصلاة.
ثم بين صلى الله عليه وسلم ما نفعل إذا عرض لنا البصاق ونحن في صلاة -فإن
الالتفات منهي عنه، والبصق تجاه القبلة منهي عنه- فقال (ولكن عن يساره تحت
قدمه) ، فإذا كان عن يساره وتحت قدمه فستكون التفاتة جزئية؛ لأن قدمه
بجواره، وفيه تعظيم للقدم اليمنى، فيكون البصق تحت القدم اليسرى.
حكم البصق في المسجد
عن اليسار تحت القدم
وقد جاء في حديث آخر: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) ، وهذا لا
يتعارض مع البصق تحت قدمه اليسرى في المسجد؛ لأن البصاق في المسجد خطيئة،
وكفارتها دفنها، فإذا بصق تحت قدمه اليسرى ودفنها فقد كفّر عن خطيئته وتجنب
تجاه القبلة واليمين، ولكن هذا إذا كان المسجد تراباً ويمكنه أن يدفنها.
وإذا أمكن أن يتجنب البصاق في المسجد -ولو تحت قدمه- كان أولى، ولا يقل: لا
بأس فهي خطيئة مكفرة، فبما أنها خطيئة تحتاج إلى تكفير فالأولى تركها، فقد
جاء في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ طرف ردائه بيديه،
وبصق في طرف الثوب، ثم طبق الثوب وحكها) ، ليتشربها الثوب بدلاً من أن تكون
في أرض المسجد.
وفي بعض الروايات: (لا يبصق أحدكم في المسجد فيؤذي بها أخاه المسلم في بدنه
أو ثوبه) ، حتى لو دفنها فقد يأتي إنسان يجلس يتحرك فوقها، فيمكن أن تصل
إليه فتؤذيه في ثوبه، وإذا كان بالإمكان تلافي هذه الخطيئة، فلا داعي
لإيقاعها أصلاً، حتى لا نذهب ونبحث عن كفارتها.
وكل ذلك مراعاة لطبيعة المسجد في أول أمره، وقد مكث المسجد طويلاً وأرضه
الحصباء، بل كانت طيناً، فقد جاء في حديث ليلة القدر: (رأيتني أسجد صبيحتها
في ماء وطين) ، فأمطرت السماء وكان سقف المسجد من السعف والجريد، كما جاء
عن بعض الصحابة قوله: (فوكف السقف إلى الأرض، ولقد رأيت الطين على أرنبة
أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وبعد هذه الحادثة تعذرت الصلاة في الأرض التي فيها طين، فذهب كل رجل وجاء
بالحصباء في طرف ردائه، وفرشها في محل صلاته وصلى عليها، وكثر هذا العمل،
ففرش المسجد بالحصباء بأطراف أرديتهم، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال:
(نعم هذا) .
ويمكن أن نقول: هذا عمل جماعي في مصلحة عامة، وفي مثل هذه الحالة ينبغي على
المقيم من الرعية أن يساهم، ولا ينتظر من المسئولين أن يقوموا بكل شيء؛ إذ
قد لا يستطيعون، أما إذا كانوا يستطيعون، وفي بيت المال ما يكفي لذلك،
فعليهم أن يفعلوا، وهذه مهمتهم؛ لما لديهم من الإمكانيات في ذلك، أما في
حالة عجزهم، أو إمكان إنجازه من قبل الرعية المقيمين، وتوفير ما في بيت
المال لغيره فإن علينا أن نتعاون.
حكم البصاق في
المساجد المفروشة
وإذا كان الوضع كما هو الآن في عموم المساجد، حيث تكون أرض المسجد خرسانة،
أو بلاطاً، أو رخاماً، أو فراشاً، فلا يتأتى للإنسان -إذا كان يصلي على
رخام مثل الزجاج- أن يبصق عن يساره تحت قدمه، ولا يمكن أن يدفنها في الرخام
وفي هذه الحالة يرجع إلى طرف ثيابه، فإن كانت ثيابه بيضاء ونظيفة فيتعين
عليه أن يكون في جيبه منديل، وهذا مما تدعو إليه حياتنا العامة الآن.
كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: (يحدث للناس أحكام بقدر ما
أحدثوا) وهو قالها فيما يتعلق بالجنايات، ونحن نقول الآن: يحدث للناس تغيير
في الأحكام بسبب ما حصل من تغير الأحوال بمرور الزمن وأحوال الحياة.
فهذا حديث صريح: (ولكن عن يساره تحت قدمه) ، فهل يمكن أن نطبق هذا الحديث
كما يفعل بعض الإخوة الذين يتمسكون بتطبيق حرفية الأحاديث.
الجواب: لا.
ومن هنا ننتقل إلى ما كنا فيه من الصلاة في النعال، فإذا كان صلى الله عليه
وسلم نهى عن البصاق تجاه القبلة لعلة محددة، وعن يمينه لعلة معينة، وأباح
عن اليسار، وأن يدفنها حتى لا يؤذي بها فإنه إذا كانت صلاته في النعلين
-بما يعلق فيهما- ستؤذي غيره فحينئذٍ نقول: لا تصل في النعال.
أما لو كانوا في سفر ونزلوا في الخلاء، والأرض ليست لينة أو ناعمة، وإذا
خلع النعلين لا يستطيع أن يقف باطمئنان واستقرار، وكانت النعلان طاهرتين
فإنه يصلي فيهما؛ لأنه مشروع، ولم يتعارض مع مصالح أخرى، فقوله: (عن يساره
وتحت قدمه) كان يتناسب مع ذاك الوقت، أما الآن فقد حدث ما يتعارض مع ذلك.
فلا نستطيع أن نطبق الحديث، ونحن لا نرد الحديث، ولكن نعجز عن تطبيقه؛ لأن
تطبيقه في الرخام غير ممكن، وتطبيقه على مثل الفراش اليوم غير ممكن، فلا
نتمسك بحرفية الحديث مستدلين بقوله: (عن يساره تحت قدمه) ، وهذا -كما أشرت-
يربي الذوق، والذوق في الأخلاق إحساس وسمو، يتفاوت الناس فيه كما بين
السماء والأرض.
فانظر إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه إذ يقول: منذ أسلمت ما بصقت تجاه
القبلة قط، لا في صلاة ولا في غيرها.
فما هو الذي منعه؟ إن معاذاً كان كأنه يستشعر عظمة الكعبة وحرمتها عند
الله، ولو كانت بعيدة لكنه تجاهها، ونحن نجزم بأن البصاق في غير اتجاه
القبلة أولى من البصاق في اتجاه القبلة، ونحس بمعنى لا نستطيع أن نعبر عنه.
وكنا نرى بعض الأشخاص في المسجد النبوي في أوائل الثمانينات -ولم تكن
الكهرباء قد عمت البيوت، وكان المسجد النبوي هو المقيل للناس، خاصة في
رمضان- فيأتون المسجد النبوي من أجل التبريد؛ فقد كانت فيه مراوح، فربما
تجد إنساناً ينام ماداً قدميه إلى القبلة، وبيننا وبين الكعبة أكثر من
أربعمائة كيلو، فكنا نرى بعض الأشخاص إذا وجد إنساناً نائماً حول رجليه عن
القبلة إلى الجهة الثانية، فالنائم يقوم ويقول: ما هذا؟! فيقال له: كيف تمد
رجليك تجاه الكعبة! فيقول: الكعبة بعيدة، ولكن الشخص الذي أيقظه في عاطفته
أن نوم هذا الشخص ماداً قدميه إلى الكعبة فيه إهانة للكعبة، مع أن النوم مع
مد القدمين إلى الكعبة جائز، فالميت عند الاحتضار نوجهه، ونجعل قدميه إلى
الكعبة ورأسه إلى الشمال، فالمصلي -في حياته- إذا مرض ولم يستطع أن يصلي
قائماً ولا جالساً فليصلِّ نائماً مستلقياً على ظهره ماداً قدميه إلى
القبلة؛ لأنه إذا أحس بالعافية وجلس فسيكون وجهه إلى القبلة، لكن لو كان
العكس فجعلنا رأسه إلى القبلة، ونشط وتعافى وجلس فسيكون مستدبر القبلة،
وهذا ينافي الصلاة.
فأقول: هذه عاطفة عند الناس، والخطأ والصواب شيء آخر، ويكفينا في هذا نموذج
من معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه حين قال: (ما بصقت تجاه القبلة منذ أسمت
في صلاة ولا في غيرها) .
فمن الذي نهاه عن هذا؟! وأين النص الذي منعه أن يبصق جهة القبلة؟ إنه إحساس
عاطفي تقديراً للكعبة المشرفة.
كتاب الصلاة - باب
الحث على الخشوع في الصلاة [2]
إن للصلاة مكانة عظيمة في دين الإسلام، ولذلك عظمها الشرع، وأحاطها بسور
منيع من الأوامر والنواهي التي تحافظ عليها وتزيل كل ما يشوش على المسلم
صلاته أثناء وقبل أدائها، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بتمزيق
القرام الذي كانت علقته في الجدار؛ لأنه شغل النبي صلى الله عليه وسلم في
صلاته، واستبدل بخميصته المهداة إليه غيرها؛ لأن فيها تصاوير شغلته عن
الصلاة، وأيضاً نهى صلى الله عليه وسلم المصلي أن يرفع بصره إلى السماء
أثناء الصلاة؛ لأن ذلك ينافي الخشوع، والمسلم مطالب بالخشوع في صلاته.
أحكام متعلقة
بالصلاة
احترام القبلة
واليمين في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه -أي: أنس - قال: (كان قرام لـ
عائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عنا
قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) رواه البخاري] .
تقدم ما يتعلق باحترام القبلة واليمين، وتقدم كيف يكون وضع النعلين، حيث
نهى صلى الله عليه وسلم المصلي إذا خلع نعليه أن يجعلهما قبالة وجهه، أو أن
يجعلهما عن يمينه، وأما لماذا لا يجعلهما قبالة وجهه، ولا عن يمينه فقد
قالوا: إذا جعلهما قبالة وجهه وسجد فكأنه ساجد للنعلين.
مع أنهما ليستاً صنماً، ولا معبوداً من دون الله! ولكن الصورة والهيئة لابد
أن يكون فيها ذوق وعاطفة وأدب مع الله سبحانه وتعالى.
وأما النهي عن جعلهما عن يمينه فلقوله: (ولا عن يمينه فيؤذي بهما جاره) ؛
لأن موقفه في الصف من جهة اليمين بجوار من هو على يمينه، وإذا كان هو في
الصف الثاني من جهة أخرى وجاء من جهة اليمين فيكون جاره في الصف عن يساره.
فلا يجعلها عن يساره أيضاً؛ لاحتمال أن يأتي إنسان ويقف بجواره، فتكون عن
يمينه فيؤذيه بها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولكن بين قدميه) ، فحينما يقف يجعلها بين قدميه،
فلو سجد فبين قدميه، ولو جلس للتشهد فبين ساقيه، فلن يؤذي بها أحداً.
فلا يجعلها تجاه وجه، ولا يجعلها عن يمينه، ولا يجعلها عن يساره إن توقع
مجيء أحد يصلي بجواره، وكل ذلك لئلا يؤذي بها غيره.
وكذلك البصاق، فلا يؤذ به غيره، ولا يجعله تجاه القبلة؛ فإن ذلك من الجفاء،
بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه عزل إمام قوم بسبب بصاقه إلى القبلة،
فقد دخل مسجد قوم فرأى بصاقاً في جدار المسجد، فأخذ حجراً -وفي رواية:
بيده- فحتها، وفي رواية: (أنه رأى الإمام يبصق تجاه وجهه، فلما أنهى الصلاة
قال: لا يؤمنكم هذا بعد اليوم) ، فعزله عن الإمامة لأنه ما عنده أدب، وفعل
ما لا يليق، فإحساسه ووجدانه بالأمور المعنوية مفقود، فنهى عن الصلاة وراءه
وعزله لكونه بصق في الصلاة تجاه القبلة، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم حتها
بيده الشريفة.
فقوله في الرواية الأخرى: (حتها بيده) قال بعض الشراح: أي: بدون حجر.
والصواب أنه حتها بحجر في يده، وهي صورة واحدة على الروايتين، فتولى صلى
الله عليه وسلم حتها بيده وفيها الحجر، ولم يوكل ذلك لأحدٍ ممن معه، وكان
يمكن أن يقول: يا فلان! حتها.
ويكون هو الآمر بحتها، ولكن لعظمة أمرها وتولى هو صلى الله عليه وسلم حتها
بنفسه تأكيداً على ذلك.
إزالة كل ما يشغل عن
الصلاة
وأما حديث عائشة الذي بين أيدينا ففيه أنه ينبغي على المصلي أن يزيل أو
يمنع ما يشغله في صلاته، سواءٌ أكان قبل الدخول فيها، أو بعد أن دخل فيها،
فـ عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سترت سهوة بيتها بقرام والقرام: نوع من
القماش مثل الستارة فيه تصاوير، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع
بصره على هذا القرام بعد الدخول في الصلاة نظر إلى تصاويره فشغلته، فلما
انتهى صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: (أميطي عنا قرامك) ، وفي بعض
الروايات: (أن عائشة رضي الله تعالى عنها أدركت عدم رضا رسول الله صلى الله
عليه وسلم بهذا القرام في مكانه، فأخذته) ، والرواية الأخرى تُصرَّح بأمره
صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في
صلاتي) ، ومن هنا قالوا: لا ينبغي أن يكون أمام المصلي ما يشغله إذا نظر
فيه.
وجاء مثل هذا في بعض الأحاديث الأخرى، كما في صحيح البخاري في أنبجانية أبي
جهم، والأنبجانية مثل الجبة، أهداها أبو جهم إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأبو جهم هو الذي استشارت المرأة فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: (أما أبو جهم فضرابٌ للنساء) ، أو: (لا يضع عصاه عن عاتقه) ، فأهدى
هذه الأنبجانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أنه صلوات
الله وسلامه عليه يقبل الهدية، وهذه من العلامات التي حرص عليها سلمان
الفارسي، ليعرف من خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قرأ في
كتبهم: (لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة) ، وقصته
طويلة، فقد بُيع واشتُري، وخلّص نفسه، حتى وصل إلى المدينة في ملك رجل
يهودي، وسمع بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم وخروج الأوس والخزرج
لاستقباله، فقال: الآن أتأكد، فأخذ شيئاً من الرطب وقال: يا محمد! هذه صدقة
مني عليك وعلى أصحابك، فأزاحها إلى إخوانه وقال: (كلوا أنتم، أما أنا فلا
تحل لي الصدقة) ، فعقد سلمان بيده واحدة، وكان هذا في قباء، ولما وصل
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
جاء سلمان بطبق آخر وقال: يا رسول الله! هذا شيء من الرطب ادخرته أقدمه
هدية لك.
فأخذ وأكل، وأطعم أصحابه، فقال: هذه الثانية، فلما سمعه رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: هذه الثانية، كشف عن كتفيه الشريفين وقال: (يا سلمان! انظر
الثالثة) ، فاستدار سلمان ونظر فوجد خاتم النبوة فأهوى عليه وقبله.
وبالمناسبة، فقد كان أحد اليهود يعرف حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم
ووصفه، ولما جاء عرفه بكل الأوصاف، وقال: إلا واحدة ما استطعت أن أتحققها،
فعرض عليه قرضاً -ديناً- فأخذه صلى الله عليه وسلم إلى أجل، فجاء قبل حلول
الأجل وقال: يا محمد! أعطني ديني.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم معسراً، فقال: أما إنكم يا بني عبد مناف قوم
مطل، وأخذ يجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه التي في عنقه ويردد
كلامه، فسلَّ عمر السيف وقال: يا عدو الله! تخاطب رسول الله بهذه الصفة!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر! كنت أحوج إلى أن تأمرني
بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب؛ لأنه صاحب حق) ، فلما سمع ذلك أخذ الرجل
عمر وقال: والله ما أردت إهانة محمد، ولكني عرفت صفاته كلها -التي عندنا-
إلا هذه، وهي عفوه عمن أساء إليه، ولقد أسأت إليه فإذا به كما سمعت، أشهد
أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فـ أبو جهم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنبجانية فلبسها، وقام يصلي
فإذا فيها تصاوير، فلما أنهى صلاته خلعها وقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى
أبي جهم، وائتوني بخميصة أبي جهم) ، فما معنى قوله: اذهبوا بخميصة أبي جهم
هذه التي أهداها إليّ، وائتوني بخميصته التي يلبسها؟ ولماذا يستبدل؟ ولماذا
لم يرد الهدية إذا لم تكن أعجبته؟! قالوا: لأن أبا جهم ما أهدى إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا محبة له، فإذا رد هديته عليه، فكيف يكون
الحال؟ وماذا سيقول أبو جهم؟! فلعله يقول: ردها لسخطة عليّ، أو لإساءة مني،
أو لتقصير في حقه.
فلكي يرفع عن أبي جهم تلك الظنون.
قال: (ائتوني بخميصته) ، فيكون طلب الخميصة الخاصة بـ أبي جهم مقابل رد
الخميصة التي أهداها إليه وردها عليه، أي: لئلا يقال: لم يقبل هديتك يا أبا
جهم! .
ولذلك يقول العلماء: لا ينبغي للإنسان أن ينصب أمام وجهه -وهو في الصلاة-
ما يشغله، وكذلك لا يصلي على شيء فيه ما يشغله، وأكدوا على التصاوير، وعلى
الصليب، وعلى الأشياء الأخرى اللافتة للنظر.
وذكروا في ذلك أنه لو أن في البساط الذي تصلي عليه صورة أتصح الصلاة عليها
أم لا؟ فذكر النووي رحمه الله أنه تصح الصلاة عليها؛ لأن الصورة في البساط
ممتهنة؛ لأنها توطأ بالقدمين، ولكن لا يتعمد وضع الجبهة في السجود على
الصورة، وكذلك الصليب، فقد توجد الصلبان في بعض الصناعات، ولكن يصلى؛ لأن
الصليب ممتهن، لكن لا يتعمد أن يجعل جبهته في السجود على صليب من الصلبان
التي في الفراش.
وأما موضوع الصور فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لما جاء لعن المصورين،
وكان القرام فيه صور قالت: (فأخذته فشققته فجعلته وسائد) أي: (مخدات) ،
قالوا في ذلك: لأن القرام إذا كان طوله مترين أو ثلاثة ربما تكون فيه
الصورة كاملة، فإذا ما قُطِّع تقطعت أشكال الصور، ولم يبق إلا أجزاء
مختلفة، وتكون في الوسائد ممتهنة، بخلاف المعلقة؛ إذ إنها تكون للجمال،
وتكون للزينة، وتكون للتكريم، وتكون لغير ذلك، فإذا ما قطعت تقطعت الصورة
إلى أجزاء، وخرجت عن محظور قوله: (من صور صورة أمر يوم القيامة أن ينفخ
فيها الروح، وليس بنافخ) ، فإذا قطعت لم تُعد صورة، فقطعة فيها رأس، وقطعة
فيها أرجل، وقطعة فيها صدر، فالرأس وحده لا ينفخ فيه روح، والأرجل وحدها لا
ينفخ فيها الروح، والصدر وحده لا ينفخ فيه الروح، ومن هنا قال العلماء: جزء
الصورة للحاجة لا بأس به.
ونحن الآن وجدنا الاضطرار إلى جزء الصورة في البطاقة الشخصية حفاظاً على
الأمن، والبطاقة الشخصية لها أصل في تاريخ الإسلام؛ لأننا وجدنا في غزوة
الأحزاب أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة فقال: اذهب فأتني بخبر
القوم فذهب ودخل في القوم، فإذا بـ أبي سفيان ينادي في عسكره: ليعرف كلٌ
منكم جليسه، أي: حتى لا يدخل فيكم من ليس منكم فيكتشف أسراركم يقول حذيفة:
فبادرت من بجانبي وقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.
وسكت ولم يسألني.
فقوله: (فمن أنت) هو التعريف بالبطاقة الشخصية التي فيها اسمه، واسم أبويه،
وميلاده، ومكان الميلاد، ورقمه الخاص الذي تحمله البطاقة، فـ (من أنت)
تتضمن هذا كله.
فأساس البحث في الصورة هل هو في ذات الجسم الذي له ظل، كالتماثيل المشخصة،
أو ما كان بالريشة؟ ومن أراد التفصيل الوافي في هذه المسألة فليرجع إلى نيل
الأوطار يجد ما يتعلق باللباس، والصور ونوعها، والتحريم والرخصة في ذلك،
ويهمنا في بابنا هذا الحث على الخشوع في الصلاة، فلا ينبغي للإنسان أن يصلي
في ثوب يكون فيه من الألوان أو الرسوم ما يشغل باله، ويلفت نظره عن خشوعه
في الصلاة، والله تعالى أعلم.
النهي عن رفع البصر
إلى السماء في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة،
أو لا ترجع إليهم) ، رواه مسلم] .
يذكر المصنف رحمه الله تعالى في (باب الحث على الخشوع في الصلاة) هذا
الحديث، وفيه النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة.
قوله (لينتهين أقوام) (ينتهين) ، أي: يمتنعن.
(أقوام) : جمع قوم، وهو خاص بجماعة الرجال وضعاً، ويدخل فيه النسوة تبعاً،
ويستشهدون لذلك بقول الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء فجعل النساء قسيمات
للقوم، وقوله: (لينتهين أقوم) يشمل الأفراد كذلك، فإذا كان النهي للجماعة
فهو يشمل أفراد الجماعة واحداً واحداً، كما تقول: لينتهين بنو فلان عن أذية
فلان فـ (بنو فلان) تشمل مجموعهم، وأفرادهم ضمناً.
قوله: (لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء) ، جاء هنا بلفظ: (في
الصلاة) ، والحديث جاء تارة مطلقاً وفيه: (عن رفعهم أبصارهم إلى السماء) ،
وجاء هنا مقيداً بكونه في الصلاة، وهذه الرواية: (في الصلاة) هي المناسبة
لإيراد هذا الحديث في باب الحث على الخشوع في الصلاة.
والنظر بالبصر إلى السماء يكون فيه -غالباً- الانصراف عن معنى الصلاة؛ لأنه
لا يخرج عن أحد أمرين: فإما أن يكون عبثاً فهو عين المقصود في النهي عنه،
وإما أن يكون للتأمل، كمن كان في الليل يتأمل زينة السماء بهذه الكواكب،
ويفكر في قدرة الله وفي مصنوعاته، فهذا باب والصلاة باب آخر، فيكون قد خرج
عن مناجاة ربه إلى موضوع آخر وهو العظة والاعتبار بقدرة ربه، وفرق بين
المناجي -وهو مستحضر لمن يناجيه رغبةً ورهبة- وبين من يفكر في مصنوعات الله
وفي قدرته سبحانه وتعالى.
وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] ، فهذا ذكر مستقل، ثم قال في التفكر:
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] ،
فجعله قسيماً للذكر.
فرفع البصر إلى السماء يتنافى مع الخشوع في الصلاة، ولو كان للتدبر في
الآيات والقدرة الكائنة في هذا الخلق العظيم، وقالوا: من أدب الصلاة ألا
يتعدى بصر المصلي سترته التي بين يديه؛ لأن ذلك أدعى لاجتماع حسه وحواسه
لتتجاوب مع لسانه ومع قلبه فيما يتلو، وفيما يناجي به ربه سبحانه وتعالى.
وفي رفع البصر إلى السماء جاء هذا الوعيد الشديد: (أو لا ترجع إليهم) ،
يعني تخطف أبصارهم، وهذا وعيد شديد بعقوبة عظيمة على الإنسان، ومن هنا قال
من قال: إن نظر المصلي إلى السماء في الصلاة يبطلها؛ لأنه عمل خارج عن
موضعها، وجاء الوعيد الشديد في حقه.
فلا يجوز لإنسان أن يفعل ذلك، وبعض العلماء حمل ذلك على العموم في الصلاة
وفي غير الصلاة، وقالوا: فعله في الصلاة يتنافى مع الخشوع، وفي غير الصلاة،
لا يفعله حياءً من الله، وكما أن المصلي لا يبصق أمامه حياء من الله
وتعظيماً لوجه الله فلذلك هنا.
ولكن قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}
[آل عمران:191] يدل على أن ذلك غير ممنوع؛ إذ لا يكون التفكر إلا بالرؤية
التي يعملها الإنسان في ذهنه لنقل الصورة التي يراها بعينيه، والقرآن
الكريم يسجل لنا قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا} [البقرة:144] ، فكان صلى الله عليه وسلم يتطلع وينتظر أن الله
سبحانه وتعالى يوليه إلى استقباله الكعبة، ليستقل عن اليهود، كما قال
تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] ، وكانوا يقولون:
عجباً له يعيب ديننا ويستقبل قبلتنا! فكان يتطلع صلى الله عليه وسلم إلى
الاستقلال الكلي.
ولهذا جاءت النصوص في أن المسلم لا يحق له التشبه باليهود والنصارى في
عباداتهم ومعاملاتهم، أي: الخاصة بهم، بخلاف التعامل المشترك كالبيع
والشراء وتبادل المنافع، فهذا أمر تقتضيه الحياة، وليس من التشبه المحرم،
ومما يدل على جواز التعامل مع اليهود والنصارى أنه صلى الله عليه وسلم خرج
من الدنيا ودرعه مرهونة عند يهودي، في آصع من طعام، فهل كان المهاجرون
والأنصار عاجزين عن أن يقدموا لرسول الله آصعاً من طعام؟ لا والله، لقد
حكّموه في أموالهم وفي أنفسهم، حتى في حقوقهم الأدبية، ولما جاء إلى قباء
قال: (مالي لا أرى فلان بن فلان؟ قالوا: بينه وبين القوم ثأر لا يستطيع أن
يأتي) ، وبعد فترة في منتصف الليل إذا به عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال: (يا أبا فلان! كيف جئت وبينك وبين القوم كذا وكذا؟ قال: يا
رسول الله! ما كان لي أن أسمع بمجيئك وأقعد عنك، فقال لبني عوف: أجيروه) ،
فإذا أجاروه أصبح آمناً يأتي في كل وقت، (قالوا: أجره أنت يا رسول الله!) ،
فهذه حقوقهم الخاصة يحكمونه فيها، ويتنازلون عنها لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فهل -يا ترى- كانوا عاجزين عن أن يقدموا آصعاً من طعامٍ لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، وبدون رهن؟ ولكن أعتقد -والله تعالى أعلم- أنه لما جاء
النهي، وجاء التحذير من اليهود، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع دينان
في جزيرة العرب) فهم من ذلك المقاطعة الكلية، حتى في الأمور الدنيوية،
فتأتي هذه الحادثة لتدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل معهم في
البيع والشراء، وهكذا الدنيا اليوم، فيها أسواق عالمية، أوروبية وأمريكية،
وأسواق الشرق الأوسط، والشرق الأقصى، والشرق الأدنى، وأسواق عالمية تتبادل
فيها السلع بين الدول، فهذه أمور تعامل أو معاملات لا غبار عليها، وتقتضيها
الحياة، كما قيل: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فالتعاون من هذا القبيل لا شيء فيه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء ابتغاء تحويله إلى
قبلة مستقلة للمسلمين، وكان تحوله إلى الكعبة بعد قوله تعالى: {قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] .
فالنهي هنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام) جاء مطلقاً بلا
قيد، وجاء مقيداً بالصلاة، والقاعدة عند الأصوليين أنه إذا جاء حديث في
قضية مطلقاً، وجاء حديث في عين القضية مقيداً حُمل المطلق على المقيد.
كما يمثّل الأصوليون بالكفارة في القتل والكفارة في الظهار، فإن عتق الرقبة
في الطهارة جاء غير مقيد بالإيمان، وجاء هناك مقيداً بالإيمان، فحُمل عتق
الرقبة في جميع الكفارات على قيد الإيمان، ولا تجزئ رقبة في كفارة إلا بقيد
الإيمان، وهنا كذلك، ففي هذا الحديث: (في الصلاة) ، فيحمل عموم النهي بغير
القيد على ما جاء في هذا القيد، ومن رفع بصره إلى السماء في غير الصلاة لا
يكون داخلاً في هذا النهي، والله تعالى أعلم.
كتاب الصلاة - باب
الحث على الخشوع في الصلاة [3]
إن الإسلام دين الآداب والأخلاق، وهناك جملة من الآداب التي تتعلق بالمسلم
أثناء أدائه للصلاة، وهذه الآداب إنما شرعت للمحافظة على الصلاة والخشوع
فيها، ومن ذلك أن المسلم إذا أراد وبين يديه طعام فيشرع له في هذه الحالة
أن يؤخر الصلاة إذا كان في الوقت متسع، فيبدأ بالطعام، ثم يؤدي الصلاة بعد
ذلك باطمئنان وخشوع، غير منشغل بالطعام، وأيضاً إذا كان يدافع الأخبثان
فيشرع له البدء بقضاء الحاجة، ويُلحق بالطعام وبالأخبثين كل ما من شأنه
التشويش على المصلي مع إمكانية إزالته؛ لأنه لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما
عقل منها.
مسائل متعلقة
بالصلاة
حكم الصلاة بحضرة
الطعام وما في معناه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله
الكريم وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله -أي: لـ مسلم - عن عائشة رضي الله
عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة طعام،
ولا هو يدافعه الأخبثان) ] .
تقدم نظير ذلك في الجزء الأول، ولربما كان من الأنسب ضم هذا الحديث إلى
الحديث المتقدم: (إذا قدم العشاء وحضر المغرب فابدأوا بالعشاء) ، وعلل
العلماء ذلك بأنه إذا كان العَشاءُ موجوداً، وانصرف إلى الصلاة فربما انشغل
ذهنه وباله، أو تطلعت نفسه إلى الطعام، فيكون تشويشاً في خاطره، وقد ذُكر
عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تناول طعام العشاء فإذا به
يشم رائحة شواء -لحم يشوى-، فأراد المؤذن أن يقيم، فقال: اصبر حتى ننال من
هذا الشواء، حتى لا تتعلق نفوسنا به ونحن في الصلاة.
في قوله: (لا صلاة) هل تكون (لا) نافية أو ناهية؟ فإذا قلنا: نافية فإنها
تنفي الصلاة، وإذا صلى تكون الصلاة قد وجدت لا أنها انتفت! لكن الذين
يقولون: إنها نافية لا يقصدون نفي الماهية، ولكن يقصدون نفي صفة تتعلق بها،
أي: لا صلاة كاملة.
أو: لا صلاة مستوفاة، أو: لا صلاة مقبولة، فيأتون بصفة يمكن أن تتوجه لا
النافية عليها، فتقع الماهية بدون تلك الصفة.
ولكن الذين يقولون: (لا) ناهية، يقولون: النهي موجه للمخاطب المكلف، فقد
نهاه أن يفعل، فإن امتثل، امتثل النص، وإن لم يمتثل أوقع المنهي عنه ويتحمل
مسئوليته.
والجمهور على أن قوله: (لا صلاة) نهي، فلا ينبغي للمصلي أن يصلي وهو على
إحدى هاتين الحالتين.
قوله: (لا صلاة بحضرة طعام) أي: إذا وضع الطعام، وأقيمت الصلاة، والطعام
موجود في محل الصلاة، فلا صلاة بحضرة هذا الطعام؛ لأنه ينشغل به عن الصلاة.
وإذا حضر الطعام، وكان الطعام -كما يقولون الآن- في غرفة الطعام فهل تكون
الصلاة بحضرة طعام؟ قالوا: هو كذلك، على معنى (إذا قدم العشاء والمغرب
فقدموا العشاء) ، فالسبب في النهي هنا هو عين السبب في النهي هناك.
ولكن -كما أشرنا سابقاً- الفقهاء رحمهم الله يبحثون في الإجزاء وعدم
الإجزاء، والصحة وعدم الصحة، والآخرون ينظرون إلى شيء آخر زيادة على ذلك،
وهو كمال الصلاة خشوعاً، وكمال الصلاة في الخضوع فيها، وفي استحضار القلب،
وفي عدم التشويش فيها، وفي عدم الموانع التي تؤثر على الصلاة، فإذا صلى
والطعام حاضراً فهل الصلاة باطلة أو صحيحة؟ وإذا كان النهي مرتبطاً بالعلة،
فإنه إذ حضر الطعام وأنا شبعان، أو حضر الطعام عند أن قمت من طعام آخر فعلة
النهي غير موجودة، فهل تكون الصلاة صحيحة أو باطلة؟ قالوا: لا، ليست باطلة؛
لأن النهي متعلق بالتعليل.
فلا صلاة لمن هو في حاجة إلى الطعام، كأن يأتي وقت الإفطار وهو جائع،
وكالقادم من السفر الذي لم يجد الطعام، فمن كان وجود الطعام سيشوش عليه
أثناء صلاته، ويذهب خشوعه فلا يصل، إلا إذا ضاق الوقت، فلو قُدِّم الطعام
في آخر الوقت ولم يكن صلى، فهو بين أحد أمرين: إن أكل خرج الوقت، وإن صلى
فهو مشوش، فماذا يفعل؟ والجواب: أن التشويش متفاوت، واجتناب التشويش ليس من
صلب وأركان الصلاة، وإنما هو من تحسين وتكميل الصلاة بتوفير الخشوع
والخضوع.
فهو من المحسنات، ولا ينبغي إضاعة الضروري من أجل تحصيل التحسين، فإذا ضاع
رأس المال فكيف تبحث عن الربح؟ فإذا ضاق الوقت وقُدِّم الطعام فقد تعارض
هنا تحقيق إتيان الصلاة المفروضة عليه مع تحصيل تحسينها بالخشوع والخضوع.
يقول ابن دقيق العيد -وهي قاعدة عجيبة جداً-: إذا عاد الفرع على الأصل
بالإبطال حكمنا بإبطال الفرع؛ لأنه سيبطل أصله.
والخشوع في الصلاة فرع عن الصلاة، فإذا قمنا بالحفاظ على الفرع سنضيع
الأصل، فهذا الفرع يصبح ملغياً باطلاً، ونحافظ على الأصل.
وهذه القاعدة لها أصل في كتاب الله، ومعمول بها عند عوام الناس، أما أصلها
في كتاب الله فهي قضية الخضر -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- مع نبي الله
موسى عليه الصلاة والسلام لما لقيا غلاماً فقتله، فموسى عليه السلام لم
يتحمّل، فهذا على جانب من التشريع، وهذا على جانب آخر، فقال: {أَقَتَلْتَ
نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}
[الكهف:74] .
فقال: يا موسى! قلت لك أول الأمر يجب أن تصبر، ثم بين له بعد قوله:
{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}
[الكهف:78] ، فقال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ
فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف:80] .
فالغلام فرع بالنسبة للأبوين، وهذا الفرع يخشى منه أن يبطل الأصل وهو
الأبوان بأن يرهقهما طغياناً وكفراً، والكفر هلاك، فقام الخضر وأتلف الفرع،
وأبقى الأصل سليماً، ثم بيّن لموسى ذلك فقال: {فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}
[الكهف:81] ، فما دام الأصل باقياً فإنه يأتي بفروع كثيرة.
والعامة تقول: إن بقي العود فالجثة تعود، أي: إذ مرض إنسان مرضاً شديداً،
وكان بوزن أربعة، وصار مثل العود، فمادام العود باقياً فالجثة التي راحت
تعود.
وكذلك المزارع حينما تكون عنده شجرة، حملت من الثمر ما يكسر الجريد ويفسد
الثمر، أو يكسر الأغصان ويفسد الثمرة -والفاكهة ثمرة عن الشجرة-، فيجيء
الفلاح بطبيعة الحال وبفطرته فيقطع من الثمرة هذه -وهي خضرة- حتى تخف
الثمرة على الأغصان، ولا تنكسر فتفسد الشجرة، وتفسد الثمرة، فهو أتلف بعض
الفرع إبقاءً على الأصل.
وهكذا هنا، فإذا قُدِّم الطعام وكان الوقت ضيقاً فإن أكل خرج الوقت،
فحينئذٍ تعارض الأصل مع تحصيل الفرع، والفرع إذا حصلناه كانت النتيجة إضاعة
وإبطال الأصل، فيحكم على الفرع بالبطلان، ونقول: يصلي مهما كانت حالته،
فيصلي بقدر ما استطاع، ثم يرجع إلى طعامه، وهذه ناحية.
الناحية الثانية قوله: (ولا هو -أي: المصلي- يدافعه الأخبثان) ، المدافعة:
مفاعلة من الدفع، فهذا يدفع يميناً وهذا يدفع يساراً، كما إذا كان شخص داخل
غرفة وآخر خارجها، فهذا يدفع الباب من أجل أن يفتح ويدخل، وهذا يدفع الباب
من أجل أن يرده، فهناك مدافعة، ومثله لمشادة والمخاصمة، ففيها طرفان
متضادان، فهنا المصلي طرف في المدافعة، والأخبثان طرف آخر، وقد فسر
الأخبثان بقوله: (حاقن، أو حاقب) ، فإذ كان يحس بالحاجة إلى تفريغ البول أو
الفضلات، فإن الله تعالى جعل عضلات للمحلين تسمى العاصرة، أو الحافظة، أو
القابضة، فتنقبض حتى لا يخرج شيء، وعند الحاجة للإخراج إذا امتلأ محل
التجمع تشعر هذه العضلة بحاجة الإنسان إلى التفريغ، فترتخي وتفتح الطريق،
ويخرج ما كان داخله، فحينما يحس الجهاز من الداخل بالامتلاء، فطبيعة تكوين
الإنسان تقوم بالتفريغ، وكما يقولون: تُعطى الإشارات إلى تلك العضلة لترتخي
ولتسهل الطريق للإخراج، فالإنسان بدوره قد يدافع هذا الغرض، ويبقى الأخبث
يدفع للخروج، والإنسان يشتد على عضلته للمنع من الخروج، فهذا يدافع ليخرج،
وهذا يدافع ليبقي الداخل في محله.
وإذا حصلت هذه المدافعة، فهل يكون هناك خشوع؟! فهو في معركة، وهو في حالة
غير طبيعية، والقاعدة عند الأطباء أنه لا ينبغي تأخير الإفراغ عن وقت
حاجته، ويذكرون مضاره في الغشاء المخاطي أو غيره، والصداع الذي يترتب على
الإمساك أو حصر البول.
وهذا أمر جبلي في حياة الإنسان، فإن أحس قبل الدخول في الصلاة ببوادر
ارتخاء العضلة، وببوادر الدفع للخروج -وهذا أمر طبيعي- فلا ينبغي أن يضغط
على نفسه تكاسلاً عن الإفراغ والوضوء، فيقول: أصلي أولاً وبعد ذلك أذهب
لقضاء الحاجة، فلا يجوز ذلك؛ لأنه معه سعة الوقت، وعنده حاجة تعود عليه
بالمضرة، وتعطل عليه الغرض من الصلاة، وهو قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي} [طه:14] ، ومدافعته مع أخبثيه تلهيه عن ذكر الله سبحانه.
فعليه أن يستجيب، وأن يفرغ ويخرج أحد الأخبثين، أو كليهما معاً، ثم بعد ذلك
يجدد وضوءه، ويدخل في الصلاة بدون مدافعة، وهنا يستطيع أن يتذكر، ويستطيع
أن يتأمل، ويستطيع أن يحس بالخضوع بين يدي الله سبحانه.
حكم قضاء الحاجة عند
ضيق الوقت
بقيت مسألة، وهي إذا ضاق الوقت ودافعه الأخبثان، إذ الجوع يمكن الصبر عليه،
بخلاف المدافعة.
قالوا: إن كان باستطاعته أن يؤدي الصلاة -ولو بالتخفيف- قبل أن يخرج الوقت
صلى، ونرجع إلى قاعدة التحسين والتأصيل، وإن وجد في نفسه أنه لا يستطيع فلا
يصل، وعليه أن يقضي حاجته ولو خرج الوقت؛ لأنه إن لم يفعل آذى نفسه، وربما
حدث منه في صلاته ما لا ينبغي، وتفسد عليه الصلاة، ويكون لا هو حصل هذا،
ولا حصل على ذاك.
وقوله: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ، العلة التي يشترك
فيها حضور الطعام ومدافعة الأخبثين هي التشويش، فإبعاداً وتخلصاً من دواعي
التشويش عليه وهو في الصلاة يقدمان على الصلاة.
فإذا وجد شيء آخر من طبيعته أن يشوش على المصلي فهل يدخل في الصلاة وهذا
المشوش موجود، أم أنه له أن يزيله عنه، ويدخل في الصلاة وهو مطمئن، وذلك في
سعة الوقت؟ والجواب أن له أن يقضي على سبب التشويش، ونستطيع أن نقول: يوجد
نص في هذا، وإن لم أجد من ذكر ذلك، ولكنَّه ينطبق على ما نحن فيه، فقد جاء
عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج للصلاة، وأقيمت الصلاة، وكبر في الصلاة)
، فتذكر أنه نسي شيئاً وهو في هذه الحالة حين استقبل القبلة، وقام الناس،
فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف، ويشير إليهم: مكانكم، ويدخل
البيت مسرعاً، ثم يرجع ويدخل في الصلاة ويصلي، ثم قال لهم: (جاءني مال من
كذا وقسمته، ونيست ثلاثة دارهم لم أقسمها، فأسرعت بتقسيمها قبل أن أدخل في
الصلاة) ، يعني: لو خطرت له صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فستشوش عليه،
فترك الدخول في الصلاة، وذهب وأمر بتصريفها؛ لأنها لو عرضت له في الصلاة
يكون كأنه ادخر شيئاً كان ينبغي أن يصرفه، وهذا يشوش عليه صلى الله عليه
وسلم.
ونحن نقول كذلك: لو أن امرأة في بيتها، وضعت إناءً على الموقد، ثم قامت
وتوضأت وتهيأت، وأرادت أن تصلي، فتذكرت الإناء الموجود على الموقد، وعلمت
إنها إن صلت تخشى من أن يحدث شيء بسبب هذا الإناء على الموقد، بأن كان
السائل فيه قليلاً، أو كانت النار شديدة، فهل تدخل في الصلاة وذهنها مع
الموقد وما عليه، أم تذهب إلى الموقد وتوقفه، أو تنزل الإناء، أو تتصرف بما
يطمئن نفسها؟ وكذلك الإنسان إذا نسي هل أقفل الباب أم لا، أو كان الماء في
الخزان فلم يدر، هل يفيض أو لا يفيض.
فأي شيء يتذكره الإنسان قبل الدخول في الصلاة، فلو دخل في صلاته على تلك
الحالة فسيشغل باله حتى يفرغ منها فإنه يذهب إليه وينهي أمره.
فعليه أن يزيل أي شاغل موجود يمكن أن يشوش عليه الصلاة، وهذا نأخذه من عموم
العلة والحكمة في النهي عن الصلاة بحضرة الطعام، أو وهو يدافعه الأخبثان.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقضاء: (لا يقضي
القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، فالغضب صفة نفسية، فإذا كان حزيناً، أو
مشغول البال، أو جائعاً، أو عطشان فلا يقضي؛ لأن القضاء يحتاج إلى صفاء
الذهن واستغراق الفكر، واستخراج المعدوم من الموجود.
فيحتاج إلى أن يكون مستقراً هادئاً؛ لأن كل هذه الأشياء ستشوش على فكره
وتمنعه من الاستغراق في التفكير في أمر القضية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن القضاء حالة الغضب، والفقهاء قاسوا
عليها كل ما يشاكلها في العلة، فالغضب من الشيطان، والغضب يحمله على
الإسراع في الحكم، والغضب يحمله على ألاَّ يجمع أطراف القضية، فهذا سيشوش
على فكره، ويمنعه من إمعان النظر في القضية التي أمامه والنظر في أقوال
الخصمين والمقارنة بينها وخضها -كما يقولون- حتى يخرج الزبدة من النزاع،
فألحقوا به كل ما شوش على الفكر.
فكذلك هنا، فالحديث جاء في حضرة الطعام) ، وجاء في حالة مدافعة الأخبثين،
فإذا كان كذلك ونقول: لو أن إنساناً -عافنا الله وإياكم- آلمته بطنه، وأرسل
لشراء دواء من الصيدلية، فإن دخل في الصلاة فالألم لا يمكنه من الاطمئنان
في الصلاة، فينتظر حتى يأتي الدواء ويتناوله.
فنستطيع أن نقول بصفة عامة: كل ما يطرأ على الشخص قبل دخوله في الصلاة فإنه
ينبغي عليه أن يزيل هذا الشيء، حتى يدخل في الصلاة باستقرار وطمأنينة،
ويستطيع أن يؤديها بخشوع كما أمر في ذلك، والله تعالى أعلم.
التثاؤب في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع)
رواه مسلم والترمذي، وزاد: (في الصلاة) ] .
هذه الحالة -كما يقولون-: لا إرادية؛ لأنها ربما تأتي تقليداً -أي: بدون
شعور- وفي هذا حكايات كثيرة، بدليل أنك لو جلست عند جماعة يتثاءبون تثاءب
معهم، والتثاؤب غالباً يكون من آثار ترنق النوم في العين، فبوادر النوم
تأتي بالتثاؤب، وهناك التثاؤب والعطاس، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم
التفرقة بينهما فقال: (العطاس من الرحمن، والتثاؤب من الشيطان) ، كما ذكر
ذلك البخاري في (الأدب المفرد) ، والله تعالى أعلم.
آداب التثاؤب
والعطاس
بين صلى الله عليه وسلم أن للعطاس آداباً وحقوقاً فقال: (إذا عطس أحدكم
فحمد الله فشمته) ، أو: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه،
وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض
فعده، وإذا مات فاتبعه) .
فحق على المسلم إذا عطس أن يقول: (الحمد لله) ، فيقول له السامع: (يرحمك
الله) ، وذكروا في مناسبة قوله: (الحمد لله) أن العطاس قد يطرد الداء من
البدن، وقالوا: إن العطاس بمثابة الزلزال يعتري جسم الإنسان، وقد يحدث عاهة
فيه، ولهذا ينصح الأطباء من عطس بأنه لا يحرف عنقه يميناً ولا يساراً؛ لأنه
في هذا الانحراف مع الانتفاضة ربما تختل فقرات العنق، أما التثاؤب فهو
العلامة الكبيرة للكسل والنوم، فإذا كان في الصلاة وتثاءب، فهل هو ممعن
الفكر في صلاته، أم أنه أخذ قناة النوم فهو ماشٍ في طريقه إليه، وهذا
يتنافى مع الخشوع، والتعليم العام منه صلى الله عليه وسلم لما قال:
(التثاؤب من الشيطان) ؛ لأنه هو الذي يحركه في الإنسان، وبعض الروايات:
(فلا يقول: هاه هاه؛ فإن الشيطان يضحك عليه) ، وفي بعض الروايات فيها: (إذا
تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، وليضع يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل في
فيه) أي: عند التثاؤب لا يفتح فاه مثل التمساح؛ لأن هذه هيئة غير لائقة،
لاسيما أمام الناس.
فالتثاؤب من الشيطان، وأمر صلى الله عليه وسلم المتثائب أن يكظم ما استطاع،
وجاء النهي بقيد (في الصلاة) ، وجاء أيضاً عاماً، فيحمل المطلق على المقيد،
كما تقدم في رفع البصر إلى السماء مطلقاً ومقيداً في الصلاة.
وإلى هنا يكون المؤلف رحمه الله أتى بأكثر الأحاديث الدالة على اجتناب ما
يحول دون الخشوع في الصلاة، وعلى الإنسان أن يتحاشى كل ما من شأنه أن يضيع
الخشوع في الصلاة، سواءٌ أكان مما يقع قبل الدخول في الصلاة، فيتحاشاه قبل
أن يدخل فيها ليدخل مطئمناً، أم كان أثناء وجوده وقيامه في الصلاة، كرفع
البصر، وما يتعلق بالأمور التي تقع أو تعرض للإنسان وهو في صلاته بالفعل
وإلى هنا انتهى المؤلف من هذا الباب.
الخشوع في الصلاة
نرجع إلى عنوان هذا الباب: (باب الحث على الخشوع في الصلاة) ، يقول بعض
العلماء: هل الخشوع في الصلاة من أركان الصلاة، أم من تحسيناتها؟ والجواب:
قد علمنا أن الخشوع من تحسينات الصلاة، فلابد أن يخطر ببال الإنسان شيء وهو
في الصلاة، وهذا ضروري لكل إنسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه
إذا أذن المؤذن فلا يخرج الإنسان من المسجد إلا إذا كان على قصد العودة) ،
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أذن المؤذن خرج الشيطان وله ضراط -أي: يجري
ويسرع حتى لا يسمع ألفاظ الأذان- فإذا ما فرغ المؤذن من الأذان رجع إلى
المسجد، فإذا أقيمت الصلاة أسرع وخرج، فإذا انتهت الإقامة رجع وأخذ يوسوس
للمصلي، حتى يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لأشياء لم يكن ذاكراً لها،
ليشغله عن الصلاة) .
طرف من أحوال الناس
في الصلاة
يذكرون عن أبي حنيفة رحمه الله أن رجلاً جاء وقال: يا إمام! أنا دفنت مالاً
ونسيت، فماذا أفعل؟ وكيف أهتدي إليه؟ قال: إذا جاء ثلث الليل الأخير فتوضأ
وصلِّ ركعتين، ولا تحدث نفسك فيهما بشيء، ومن الغد تأتيني ففعل الرجل
بنصيحة الإمام، وفي السجدة الأخيرة آخر لحظة عجز عنه الشيطان، فجاءه وقال
له: أنسيت المال الذي أنت دافنه؟! هو في المحل الفلاني، فاذهب وخذه قبل أن
يضيع عليك، فعجّل الصلاة وذهب مباشرة إلى المال واستخرجه، وجاء إلى أبي
حنيفة قائلاً: جزاك الله خيراً وجدت مالي، فتعجب الحاضرون وقالوا للإمام:
ما علاقة صلاته ركعتين بالدلالة على ماله؟! فقال: أنا لم أدله، ولا أعلم
الغيب، ولكن أعرف أنه إذا أخذ يصلي في ركعتين من هذا النوع، فهما هلكة على
الشيطان، ولا يمكن أن يمكنه من ذلك، فحاول معه فطرده، حتى جاءه عن طريق
حاجته فأصغى إليه، فدله عليها فذهب وأخذها.
ويذكر ابن عبد البر في الاستذكار في هذا الموضوع عن عمر بدون ذكر السند-
أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
وأعتقد أن هذا بين بين، فتجهيز الجيش ليس بالأمر الهين، لكن لعله كان يخطر
على باله تساؤلات، فإنه مسئول عن جيش مرسل للقتال، فلا يمكن يسلم عقل عمر
في نوم ولا في يقظة، فهل إنسان مسئول يرسل جيشاً إلى عدو يزيد أضعافاً على
عدد جيشه وقوته وينساه، ويغفل عنه! فما هذا بصحيح.
فلا بد أن يكون على باله، فإذا قام في الصلاة فلابد أن يخطر على باله، فهل
ما يخطر على بال الإنسان وهو في الصلاة يبطل الصلاة؟ بإجماع المسلمين لا
يبطلها، ولكن بعض المصلين -مع الأسف- إذا كبر في الصلاة إذا به يجري عمليات
حسابية، ولقاءات مع أشخاص، ويستعيد ذكريات أعوام ماضية، أو يفكر في مشاريع
مستقبلة، ولا يدري إلا وقد سلّم الإمام فيسلّم معه.
وقد سئل الشيخ ابن الصلاح -غفر الله له- عن بعض الأئمة أنه سها في الصلاة،
فاختلف هو والمصلون، وكان هناك شخص يتوسمون فيه العقل والسمت، فرجعوا إليه
فقال: والله ما أدري، أنا كل يوم حين أكبر آخذ في طريقي إلى الشام، وأنزل
في المحل الفلاني، ثم المحل الفلاني، ثم نبيع ثم نرجع، وكل مرة أصل إلى هنا
وأعود والإمام في السلام، أما هذه المرة فقد سلّم الإمام وأنا في نصف
الطريق.
فمثل هذا ماذا نقول في صلاته؟ (ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها) .
والكلام في هذا الباب قد يثقل على الناس، ويخيفهم على صلاتهم، ولكن لنعلم
أن هذا من تتمة وكمال الصلاة، وكما ذكرت سابقاً فالناس في هذا يتفاوتون كما
بين الثرى والثريا، فهناك شخص تسبح به روحه حتى إنه لا يرى ولا يسمع إلا ما
يقول بين يدي الله، مثل ذلك الذي قيل له: كيف تصلي يا فلان؟ قال: أجعل
الكعبة أمامي، وملك الموت ورائي، والجنة عن يمني، والنار عن يساري، والصراط
تحت قدمي، وأرى أنها آخر صلاتي من الدنيا.
فهذا الذي يكون على هذا الحال في صلاته هل هو مثل الذي يذهب ويأتي في طريق
الشام ويبيع ويشتري؟ لا يستوون.
ونختم هذا البحث بالحديث الصحيح الذي يدل على أن العبد إذا صلى، وأدّى
الصلاة موفورة أركانها، وشروطها، ولوازمها، وصعدت إلى السماء ولها طيب،
وفتحت لها أبواب السماء، وقالت: حفظك الله كما حفظتني، وإذا ضعيها في
أركانها، وفي واجباتها، وفي سننها، لُفّت كما يلف الثوب، وسدت دونها أبواب
السماء، وردت وألقي بها في وجه صاحبها) .
وفرق بعيد جداً بين هذه الصلاة وتلك الصلاة، ولهذا نقول مرة أخرى: إن نوافل
العبادات ضمان للنقص في الأركان، وكل فريضة لها نوافلها، وجاء في الحديث:
(أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة الصلاة) ، فأول ما ينظر فيه من
العبادات الصلاة، وفي الحقوق والمعاملات الدماء، فإذا نُظر في صلاة العبد
فكانت وافية وكاملة قبلت وقبل معها غيرها، وحمل عليها، وإذا كان فيها نقص
يقول المولى سبحانه: انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: نعم.
فيقول: اجبروا نقص فريضته من نافلته، وهذا من واسع فضل الله سبحانه، وابن
عباس رضي الله تعالى عنهما زاد في هذا الخبر: (وكذلك بقية العبادات، أو
بقية الأعمال) .
|