شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الصلاة - باب المساجد [1]
إن للمساجد في الإسلام أهمية عظيمة، فلذلك حث الإسلام على بنائها وتكريمها وتنظيفها، ومن نظر في المصادر التاريخية فسيجد أن للمساجد تاريخاً عظيماً، فأول بيت وضع للناس هو الكعبة المشرفة، وقد قام بتجديد بنائها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأُمرا بتطهيرها، وكذلك جدد بناء بيت المقدس داود عليه السلام بأمر من الله، وهكذا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، فهذا حال الأنبياء مع المساجد، ولقد كانت المساجد في بداية الإسلام مركزاً للقيادة والعلم، ومنها انطلقت الدعوة، وعن طريقها عُرف الإسلام وانتشر.


المساجد وأحكامها


الأمر ببناء المساجد في الدور
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصحح إرساله] .
والمساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: هو موضع السجود، بوزن (مفعِل) بكسر العين، أي: الجيم من الكلمة، واصطلح العلماء على تقسيم المساجد إلى قسمين: مسجد، وجامع، فالجامع ما تقام فيه الجمعة لتجمع المسلمين، والمسجد ما تقام فيه الصلوات الخمس، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، وهذا لغة وشرعاً.
والمساجد عند الفقهاء إنما يقصد بها ما أقيم بناؤها للصلوات الخمس، وللمساجد تاريخ طويل عريق يجب على المسلمين العناية به، وهذا الحديث الأول منطلق للتحدث عن المسجد، ثم عن رسالة المسجد.
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أمر -والأمر للوجوب- رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور) .
الدور: جمع دار والدار قد تطلق على محل سكنى الإنسان بأهله، وتطلق على الضواحي والناحية، فتقول: هذه ديار بني فلان.
أي: محل سكناهم، ويقول العلماء: إن المراد ببناء المساجد في الدور يحتمل الأمرين، فيحتمل أن الإنسان يجعل له مسجداً في بيته في داره يصلي فيه النافلة، ويصلي أهله فيه الفرائض ويستدلون بما جاء عن أم ورقة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها، ثم قال: أين تريدين أن أصلي لكم؟) ، وكذلك عتبان بن مالك حين اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن بينه وبين المسجد وادياً، وقد يتعذر عليه المشي ليلاً، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ويصلي له في بيته ليتخذ ذلك المكان مسجداً.
وفي هذين الأثرين دلالات واسعة، ومنها اتخاذ المسجد لأهل البيت، وقد يقال: لماذا هذا مع أن البيت كله يكون صالحاً للصلاة، ما عدا الأماكن الممنوعة الصلاة فيها؟ يقول العلماء: إن وجود الإنسان في المسجد العام يجعل عنده إحساساً بأنه يقوم في مكان مخصص للعبادة، فيكون أجمع لحسه وشعوره في أداء صلاته، ونحن نحس من أنفسنا ذلك حينما نكون في البيت ونصلي -مثلاً- النافلة، وحينما نأتي إلى المسجد ونصلي فيه، فإن إحساسنا بصلاتنا في المسجد غير إحساسنا بصلاتنا في بيوتنا، وهكذا لو دخلت غرفة النوم للصلاة فليس الحال كما لو صليت في فناء البيت، بخلاف ما لو صليت في المجلس العام لاستقبال الضيوف؛ لأن لكل مكان إيحاءاته، ومن هنا قالوا: ينبغي أن يخصص الإنسان في بيته مكاناً لصلاته حتى يجد شعوراً بأداء الواجب وإحساساً بوقوفه بين يدي ربه.
ويحتمل أن المراد أن تبنى المساجد في الدور -أي: في الضواحي والناحية من البلد-، لكي يتجمع أهل كل ضاحية في مسجدهم للصلوات الخمس، بخلاف الجمعة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه لما مُصِّرتْ الأمصار كتب إلى أبي موسى الأشعري في البصرة، وكتب إلى عمرو بن العاص في مصر، وكتب إلى عماله أن: ابن مساجد للقبائل.
أي: ابن لكل قبيلة في منزلها مسجداً يصلون فيه الصلوات الخمس، وابن مسجداً في المدينة، فإذا كان يوم الجمعة اجتمع الجميع في هذا المسجد -أي: مسجد المدينة-، ولا تتفرقوا.


تنظيف المساجد وتطييبها
جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر ببناء المساجد، وذلك لأهمية المسجد، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله، ثم جعل لهذه المساجد حقوقاً، منها أن تنظف من كل القاذورات، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (تعرض علي أعمال أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، فلو رأيت قذاةً في المسجد، كريش طائر، أو نواة، أو شيئاً مما يستقذر وأخرجته من المسجد كتب لك بذلك أجر، وهذا من حق المسجد علينا؛ لأننا لا نرضى بالقذاة في بيوتنا، فلا ترضى بقذاةً في مجلسك، ولا في غرفة نومك، ولا وفي مطبخك، ولا في غير ذلك، فلابد أن تنظف المساجد من كل قذاة.
قولها: (وأن تطيب) التطييب: هو تفعيل من الطيب، سواءٌ أكان دهناً، أم كان دخاناً من الأخشاب ذات الروائح العطرية، كالعود ونحو ذلك.
وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل اسمه: نعيم المجمر، كما ساق ذلك مالك رحمه الله في الموطأ، وكانت مهمة هذا الرجل أن يأتي بالمجمرة وبالطيب ليطيب المسجد، وكانت هذه سنة وعادة في المسجد النبوي إلى عهد قريب، بل وإلى الآن أحياناً، وكانت هناك مخصصات من العود للمسجد في السنة، ففي يوم الجمعة وليلة الإثنين يؤتى بالمجامر وبالعود، وتطيب نواحي وأروقة المسجد، وكان هذا في عهد قريب في أوائل قيام الدولة السعودية، فكان يأتي الأمير في رمضان، ويصلي التراويح مع الناس، ويأتي معه بالمجامر وبالعود، وبالقهوة للمصلين، وكانوا يطيلون الجلوس بين كل أربع ترويحات.
وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة فحتها بحجر، أو بيده صلى الله عليه وسلم، وعزل إمامهم أن يصلي بهم مرة ثانية لأنه لم يحترم طهارة المسجد ونظافته وتطييبه.
فمن حقوق المساجد أن تنظف وتطيب، وجاءت الآثار بأنه منع أن يبول إنسان على جدار المسجد من الخارج تكريماً لجدار المسجد، مع أنه لن يصل أثر البول إلى الداخل.
وينبغي أن يعتنى بإقامة دورات المياه على أبواب المساجد ليكون ذلك أيسر على المصلين، خاصة الغرباء، ويمكن أن يستدل لذلك -أيضاً- بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم حين حانت صلاة العصر فطلب الناس ماءً فلم يجدوا، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم ماء فأتي بشن -وقيل: بقدح وقيل: بغير ذلك- فيه ماء قليل، فوضع كفه صلى الله عليه وسلم فيه ودعا الله، يقول أنس: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأوا عن آخرهم.
وقد تكررت -أي: في ذلك اليوم- هذه الحادثة -أي: الوضوء عند المسجد- بتكرار العدد الذي كان موجوداً، فبعض الروايات أن العدد: سبعون، وبعضها ثمانون، وبعضها ثلاثمائة، وبعضهم يقول: ولو كنا ألفاً لكفانا.
فطلب الماء عند المسجد ييسر للمصلين مهمة الطهارة، ومهمة أداء الصلاة في المساجد.
ولا يبعد إذا قلنا: إن من التهيئة أن يوفر لرواد المساجد كل ما يمكن أن يوفر لهم الراحة، وييسر لهم الطمأنينة -كما هو الحال الآن بحمد الله- من التبريد، أو التدفئة إذا أمكن ذلك، وكذلك الفرش الميسرة، والمصاحف، والماء الذي يشرب منه العطشان، ولو أمكن أيضاً أن يكون في جوانب المسجد المكتبات أو الكتب، فلو أراد طالب العلم كتاباً أو مصحفاً يكون كل ذلك ممكناً ميسراً.


جوانب مهمة في قضية المساجد


العناية بالمساجد
والبحث في المساجد يتناولها من عدة جوانب: الجانب الأول: في تاريخها، والجانب الثاني: في مهمتها ورسالتها وآثارها، والجانب الثالث: في فضل بنائها والعناية بها.
أما العناية بها فقد كانت امرأة تقم المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمرضت، فانقطعت عن عملها، فسأل عنها صلى الله عليه وسلم فقيل: إنها مريضة أو: محتضرة.
قال: إذا ماتت فآذنوني.
فتوفيت ليلاً، فكرهوا أن يشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فجهزوها ودفنوها، فلما أصبح سأل عنها: ما شأنها؟ قالوا: توفيت البارحة ودفناها.
قال: ألم آمركم أن تؤاذنوني؟ قالوا: يا رسول الله! توفيت بالليل، وكرهنا أن نشق عليك.
قال: دلوني على قبرها فذهب إلى البقيع ووقف على قبرها وصلى عليها، فلماذا كانت تلك الصلاة؟! ولماذا كانت تلك العناية؟! إنها لعنايتها بالمسجد بنظافته، فإنها كانت تقمه، أي: تجمع القمامة منه.


تاريخ المساجد العريق
أما تاريخ المسجد فهو تاريخ عريق، وكل من كتب عن المساجد فإنه يبدأ بمساجد بلده، فأهل القاهرة يذكرون مساجد: عمرو بن العاص، وأحمد بن طولون، الشافعي، والليث وغيرهم، وأهل المغرب يذكرون جامع قرطبة، وجامع الزيتونة وغيرها وهكذا، ولكن المنصفين منهم إنما يكتبون عن المساجد الثلاثة أولاً، كما فعل الزركشي في كتابه (إعلام الساجد بأحكام المساجد) ، فذكر المشهور منها، وأفرد المساجد الثلاثة بأبوب مستقلة، أي: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي الشريف.
والمتأمل في تاريخ المساجد -كما أشرت- يجد أن المسجد هو أول حركة عمرانية على وجه الأرض، وبعض الناس يقول: أول مسجد.
ونقول: أول عمران؛ لقوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، وهو البيت الحرام كما نعلم، وأما الذي وضعه فقيل: الملائكة وضعته لآدم، وقيل غير ذلك، والذي بأيدينا من كتاب الله هو التاريخ الإبراهيمي -إن صحت هذه التسمية-، كما بين سبحانه بقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] ، فإبراهيم وإسماعيل رفعا قواعد البيت، فهي موجودة قبل أن يرفعاها، ومهمتهما تجديد البناء ورفعه، كما جاء في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، فكان وادياً غير ذي زرع، وغير ذي ماء، وليس فيه ساكن، ولم يكن البيت موجوداً في ذلك الوقت، ولكنه كان أكمة، ثم تولى الله سبحانه وتعالى تعيين مكانه لإبراهيم، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] .
وكذلك في الإسلام كان المسجد هو أول ما يكون في المدن، وإذا أريد إنشاء مدينة جديدة كان المسجد هو قصبتها، وهو نقطة مركزها، كما هو الحال في المسجد النبوي الشريف، وفي غيره في التاريخ الإسلامي.
وامتازت المساجد الثلاثة بأن الله سبحانه هو الذي اختار أماكنها، وكذلك بالذين قاموا ببنائها ابتداءً؛ فإنهم رسل الله، ومن أجل ذلك كانت الصلاة فيها مضاعفة، ما بين خمسمائة وألف ومائة ألف، باختلاف المساجد الثلاثة.


تجديد إبراهيم لبناء الكعبة
قلنا: إن الله هو الذي أرى إبراهيم مكان البيت وبوأه له، ولما أراد الله بناء البيت -أي: الكعبة- وأمر إبراهيم بذلك قال: يا رب! وأين أبني؟ قال: حيث ترى السحاب فخط عليها فجاءت سحابة وقت الزوال على سمك الكعبة طولاً وعرضاً، فخط على ظلها، ثم بدأ بالحفر حتى وصل إلى القواعد، وهناك رفع القواعد، وفي تحديد شخص الذي وضع تلك القواعد ابتداءً تذكر كتب التاريخ أخباراً عديدة، ويهمنا الخبر القرآني في هذا التاريخ الإبراهيمي.
وهنا لمحة قرآنية فيما يتعلق بإقامة المسجد وبنائه، وما يتعلق بتنظيفه وتطييبه، وأن العناية بالصيانة أشد من العناية بالبناية، فنجد في البناية قوله سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَُ} [البقرة:127] ، فأسند رفع القواعد إلى إبراهيم، وجاء ذكر إسماعيل كالمساعد لإبراهيم، وأما في العناية والصيانة فنجد قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة:125] ، فإسناد البناية ابتداءً كان إلى إبراهيم، فكأن إبراهيم مكلفاً بها، وتكليف إسماعيل يأتي بعد تكليف إبراهيم، أما في الصيانة والتطهير والعناية فتسند ابتداءً لإبراهيم وإسماعيل، فقال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] .
وهكذا قام إبراهيم عليه السلام بما أمره الله ومعه إسماعيل، ونعلم جميعاً المعجزة الأبدية فيما كان من شأن إبراهيم وإسماعيل، فهما رجلان -فقط- يقومان ببناء بيت ارتفاعه نحو عشرين ذراعاً، فيأتي الحجر ويكون بمثابة المصعد الذي يضع عليه إسماعيل الحجر، ويرتفع الحجر بحجر البناء إلى أن تم هذا البناء، ويبقى في مقام إبراهيم آية.
يقول الفخر الرازي: إن الآية في مقام إبراهيم الذي كان يقوم عليه في البناء معجزة أبدية؛ لأن قدماه عليه الصلاة والسلام -حينما كان يقوم عليه- غاصتا في الحجر فيا للعجب! حجر أصم صلب تغوص فيه قدمان من دم ولحم فسمى ذلك آية؛ لأن الحجر فيه آيات، وليست آية واحدة، كما قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:97] ، فما هي الآيات؟ قال: الحجر الأصم؛ لأن منه جزءاً -وهو موضع القدمين- غاصت القدمان فيه، وبقية أجزاء الحجر ما زالت على صلابتها وقوتها، فليونة الجزء الذي تحت قدمه آية، وبقاء الجزء الآخر على صلابته آية، وفي عمله في رفع حجارة البناء آية.
فبناه إبراهيم وأسماعيل وعناية الله معهما بما أوحى إلى هذا الحجر، وبما سخر وأعطى من قوة حركة لا يعلمها إلا الله، ولا يهبها إلا هو سبحانه، وهكذا كان بناء البيت وأول تاريخه، فهو أول عمران في الأرض، ثم جدده إبراهيم عليه السلام.


تاريخ بيت المقدس وتجديد بنائه
ويلي المسجد الحرام في الوجود التاريخي بيت المقدس، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول المساجد فذكر أمر البيت، قيل: ثم ماذا؟ قال: بيت المقدس؟ قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً.
فبعضهم يأتي بالتاريخ، ويقول: إن سليمان وداود كانا بعد إبراهيم عليهم السلام بزمن طويل أكثر من أربعين عاماً! ويهمنا أنه كان بعد البيت الحرام بأربعين عاماً كما أخبر صلى الله عليه وسلم، أما داود وسليمان فهما مجددان أيضاً، وقد حدد الله مكان بيت المقدس لنبي الله داود حينما أوحى إليه أن ابنِ لي بيتاً.
قال: وأين -يا رب- أبنيه؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه فرأى فارساً على فرسه شاهراً سيفه، في مكان لرجل من بني إسرائيل، فاستدعاه وطلب منه أن يبيعه المكان، فقدم إليه مائة ألف، فقال: بعتك.
ثم قال الرجل: يا نبي الله! أستنصحك -والدين النصيحة-: الثمن خير أم الأرض؟ قال: الأرض خير من الثمن.
قال: أقلني بيعي.
قال: اشتري من جديد.
قال: مائتي ألف.
قال: بعتك.
ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الثمن خير أم الأرض؟ قال: بل الأرض.
قال: أقلني وتكرر ذلك خمس مرات، ووصلت المساومة إلى خمسمائة ألف، وبعد الخامسة استنصحه أيضاً، واستقاله فأقاله، ثم قال له نبي الله داود: اختر أنت ما تريد، وسمِّ ما شئت أدفعه إليك.
قال: أو تفعل؟ قال: نعم.
قال: تملأه لي نعماً إبلاً وبقراً وغنماً.
قال: أفعل.
ونادى في بني إسرائيل أن يملأوه له كما قال، فعدوا على الرجل ليلاً وأرادوا أن يقتلوه ويأخذوا الأرض، فأصبح الرجل وذهب إلى نبي الله داود، فقال: يا رسول الله! غصباً أم شراء ورضىً؟ قال: بل شراءً ورضىً.
قال: إن بني إسرائيل أرادوا قتلي وأخذي.
قال: لا.
فعرف مكان المسجد الذي أراده الله، وبنى بيت المقدس حيث رأى الفارس المعلم شاهراً سيفه.
فكان تحديد بيت المقدس من الله، وكان بناؤه على يد نبي من أنبياء الله.


بناء المسجد النبوي واختيار موقعه
وأما ثالث المساجد فحين قدم صلى الله عليه وسلم مهاجراً نزل بقباء، وليست قباء هي محل النزول، وإنما كانت بمثابة المهلة، أو الاستقبال، أو التروي والتأني، ثم أخذ في طريقه إلى المدينة، وكان الطريق من بطن الوادي، وليس الطريق الموجود حالياً؛ لأن هذا أنشئ قريباً، وكانت قبائل المدينة من الأوس والخزرج تمتد من قباء إلى جهة الغابة، إلى رومة -بئر عثمان رضي الله تعالى عنه، فما مر بحي من الأحياء بين قباء والمدينة إلا كان أهل ذلك الحي في أهبة الاستعداد على الطريق، فيأخذون بزمام راحلته ويقولون: هلم إلينا يا رسول الله، هلم انزل عندنا، هلم إلى العدد والمنعة، والعدد والمنعة هما سر بيعة العقبة الثانية، وفيها أنه يأتي إليهم في المدينة فيحمونه ويمنعونه مما يحمون ويمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فقولهم: هلم إلى العدد والمنعة أي: إلى البيعة التي بايعناك عليها، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن يجيبهم برفق ويقول: خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة.
وكانت كل قبيلة تقف هذا الموقف الشريف الكريم، ويجيبها بهذا الجواب اللين الرحيم، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في مكان المسجد أو بجواره، وبركت، فلم ينزل عنها أول الأمر، ثم قامت -وهو عليها- فدارت واستدارت والتفتت، ثم رجعت إلى المكان الأول وأناخت فيه، ومدت عنقها وحركت صدرها بمعنى أنها لن تقوم، وأن هذا هو المكان المعين، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو المنزل إن شاء الله) ، ونزل عنها، وكان هناك بيت أبي أيوب فنزل فيه.
والكلام عن هذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم في طريقة نزوله، حيث أخبر أن الناقة مأمورة، فإنه نبي يوحى إليه، وجاء بدين إلى وطن جديد، وإلى أمة كانت مختلفة فيما بينها، فترك أمره إلى ناقة عجماء وقال: إنها مأمورة، فكيف يفعل هذا؟ والجواب: أن هذا هو الحكمة النبوية؛ فإنه قدم المدينة وكان الأوس والخزرج في المدينة كفرسي رهان، وقد استمرت الحرب بينهما مائة سنة، وما وضعت أوزارها إلا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات فقط، كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الحيان متنافسين على الخير، وكانا متنافسين -قبل ذلك- على الشر في القتال.
فهداهم الله إلى الإسلام، واتحدوا على دين واحد، فجاء صلى الله عليه وسلم إليهم بناء على بيعتهم وعلى ما تعاهدوا عليه، فلو أن الأمر كان له والاختيار من عنده وجاء ونزل عليهم فإما أن يكون نزوله على الأوس فهو على حساب الخزرج، أو أن يكون نزوله على الخزرج فيكون على حساب الأوس، ومن نزل عندهم سيعتزون بذلك ويفتخرون به على غيرهم، وتكون الحزازة في نفوس الآخرين والحسرة على ما فاتهم، وناله غيرهم، وهم في المنافسة سواء، وحينئذ تكون النفوس غير راضية أو غير طيبة، فيجد الشيطان مدخلاً لمنافسات أخرى، فإذا ما ترك أمره لغيره، لاسيما لناقة عجماء، وقال: إنها مأمورة فقد سد على الشيطان باب شر؛ لأن الذي يأمر الحيوان هو الخالق سبحانه، فمضت حيث أراد الله، ونزلت حيث أمرها الله.
فإذا نزلت عند هذا الحي من العرب أو ذاك، سواءٌ أكانوا أوساً أم خزرجاً فهل يعترض أحد أو يجد في نفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟! والجواب: لأنه لم يختر طريقاً على طريق، وإنما الناقة المأمورة، والآمر لها هو الله.
فبهذه الطريقة قضي على المنافسة، وقضي على المشاحة، وخرج صلى الله عليه وسلم من ذلك الموقف بحكمة.
وأما الحي الذي نزل فيه، فقد اجتمعوا عليه، وكل أهل بيت يقولون: عندنا يا رسول الله! وكل يقول: هذا بيتي، هذا بيتي.
فعند من ينزل؟ وعلى حساب من؟ والواقع أنه هنا أيضاً لم يكن له اختيار، فقد نظر إلى ناقته فوجد الناقة عارية عن الرحل، فسأل: أين رحلي؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته.
فقال: المرء مع رحله فانتهت أيضاً مشكلة البيوت في الحي الواحد.
ونزل صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب، وكانت أمام البيت ساحة ونخيل وماء، فقال: لمن هذا النخيل؟ قالوا: لـ سعد وسهيل يتيمان عند أبي عتبان أو عند غيره، فاستدعاه فقال: ثامنيِّ على هذه الأرض.
قال: يا رسول الله! إنها لأيتام في حجري، وهي لك بلا ثمن، وأنا أعوضهم عنها أرضاً خيراً منها ثمناً.
قال: لابد أن تثامنني عليها.
وتمت المثامنة بعشرين ديناراً، ودفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فشرع صلى الله عليه وسلم -حالاً في قطع- النخيل، وتسوية الأرض، وإقامة المسجد، فأقيم لأول مرة على جذوع من نخل، ويمكن أن يُعرف حد المسجد الأول بالحد الموجود الآن، فسعى خلف الروضة أعمدة فيها خطوط مستطيلة مذهبة، وفي وسطها مثل الورد أو الزهرة، وتمتد بعد المنبر إلى الغرب سارية واحدة إلى الحجرة الشريفة، فهذا هو حد المسجد النبوي الأول.
ثم بعد ذلك -بعد العودة من خيبر، في السنة السابعة- جدد النبي صلى الله عليه وسلم المسجد بزيادة أخرى، ثم في عهد عمر رضي الله تعالى عنه، ثم عثمان، وهكذا إلى أن وصل المسجد إلى ما هو عليه الآن.
وأردنا بهذه المقدمة أن نبين أن الله سبحانه وتعالى أولى المساجد عناية، وأن أول بيت وضع للناس هو البيت الحرام أو الكعبة المشرفة، وبتحديد وبيان من الله لإبراهيم، وبناه الخليل عليه السلام مع ابنه إسماعيل، ثم بيت المقدس أيضاً بعناية من الله، وبناه نبي الله داود، ثم المسجد النبوي الشريف، وبناه وشارك في بنائه صلى الله عليه وسلم، ثم تسابق الملوك والسلاطين في أن ينال الواحد منهم شرف عمارة أو تجهيز أو إصلاح أو غير ذلك في المسجد النبوي.
أما مهمة المساجد في الإسلام فهي عظيمة، ويتضح لنا ذلك من مهمة أهم المساجد في الإسلام، أو أول مسجد بناه الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولية هنا هي الأحقية، أما الأولوية الزمنية فقطعاً كانت لمسجد قباء، والأولية الأحقية لهذا المسجد النبوي الشريف، وقد ورد في فضل مسجد قباء: (من تطهر في بيته، وأتى مسجد قباء وصلى صلاة -أو: وصلى ركعتين- كانت له كأجر عمرة) ، وخص المسجد النبوي بحديث: (صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة -أو خير من ألف صلاة- إلا في المسجد الحرام) ، فهو المعبد الذي تتضاعف فيه الصلاة إلى ألف صلاة، والألف صلاة تعدل صلاة عدة شهور، وإن شئت فاقسم الألف على خمسة، ثم اقسمها على ثلاثين، لتعرف كم تعدل الصلاة الواحدة من شهور.
والذي يهمنا أن المضاعفة ذاتية وليست عددية، بمعنى أنه لو أن إنساناً عليه صلاتان فائتتان، وصلى صلاة الفريضة في المسجد النبوي لصلاة يومه، وكانت تعدل ألف صلاة فإنها لا تسقط الفريضتين اللتين في ذمته لله؛ لأن الصلاة التي وصلت إلى الألف إنما هو في ذاتها، وفي ثوابها، وفي نورها، وفي بركتها، أما إجزاؤها عن صلوات أخرى فلا.


توسعة المسجد النبوي ومضاعفة الأجر فيها كبقية المسجد
هنا بحث للمتقدمين والمتأخرين في مسألة مهمة جداً، وهي قديمة متجددة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة) كان قبل الزيادات التي زادها غيره صلى الله عليه وسلم من بعده، وأول الزيادات زيادة عمر، ولها قصة طويلة.
فإنه لما أراد عمر أن يزيد في المسجد ندب الناس، وقال: لقد ضاق المسجد بالمصلين، ونريد أن نوسع في المسجد للناس، فجاء إلى العباس، وكانت بيوت العباس في جهة الغرب، وكذلك خالد بن الوليد، وكانت ديار آل عمر في القبلة، وبقايا حجرة حفصة رضي الله تعالى عنها مقابلة لحجرة عائشة، وكانتا تتبادلان الحديث من كوة -أي: من طاقة- في الجدار، وتتناولان الحاجة بأيديهما لقرب ما بينهما.
ولما توفي عمر رضي الله عنه اشترى أمير المدينة الأول لبني أمية دار عمر، وجعلها سكناً له، ثم رأى المؤذن ينظر إلى بيته فترك السكنى، وجعلها دار الإمارة، ثم جعلها دار القضاء، وكانت في محل المحكمة الأولى بجانب مكتبة المدينة، وهي المكتبة التي كانت في القبلة.
فأول من زاد في المسجد عمر رضي الله تعالى عنه، فزاد من القبلة ومن الغرب، ولما أراد الزيادة من الغرب كانت هناك دور للعباس، فأتاه وقال: نريد بيتك نوسع به المسجد.
قال: لا.
وقال: لابد؛ لأن المسجد فيه الحجرات، ولا يمكن أن نمسها، ولابد أن نتوسع إلى الغرب.
فامتنع عليه، وقال: ألأنك أمير المؤمنين تغصبني؟! قال: لا أغصبك، واختر من نحتكم إليه.
فاختار أُبي بن كعب، فذهبا إليه، فقال: هلم يا أمير المؤمنين.
قال: ما جئتك أميراً للمؤمنين، جئتك متقاضياً مع العباس، فقال: ما أمرك؟ قال: كذا وكذا وكذا.
وذكر له أنه قال للعباس: أعطني بيتك، أقطعك أرضاً أو أبني لك بيتاً، أو أعطيك من بيت المال ما يرضيك.
فامتنع العباس عن كل ذلك، فقال له أُبي: ألا أخبرك؟ وذكر له قصة داود عليه السلام في بناء بيت المقدس ومساومته للرجل، فقال عمر: والله ما أردته لنفسي، وإنما أردته للمسلمين، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر التوسعة ما فكرت في توسعته.
فلما خرجوا قال له العباس: يا عمر! أنتهيت؟ قال: نعم.
قال: ألك عندي شيء؟ قال: ليس لي عندك شيء.
قال: البيت لوجه الله، وأدخله عمر ووسع فيه.
وحينما وسع عمر المسجد وأدخل فيه دار العباس، وجزءاً من جهة القبلة في حدود بيت عمر، رأى عمر بعض الناس يتجنب الصلاة في تلك الزيادة، فوقف خطيباً وقال: إني لأرى كذا وكذا وكذا، ووالله إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: الشامل لتلك الزيادة-، وهي ضمن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة) ، إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -وفي بعض الروايات: إلى صنعاء-، وليس بمعقول أن المسجد سيمتد إلى صنعاء، ولكن من باب المبالغة والتأكيد.
ومن هنا علمنا أن كل زيادة أضيفت إلى المسجد النبوي في أي زمان كان فإن المسجد النبوي يتناولها، وفضيلة المسجد من أول ما بني تشملها، وهي الأجر بألف صلاة.


حال المساجد في صدر الإسلام
المسجد معبد تتضاعف فيه الصلاة، والمضاعفة شاملة لكل الزيادات، وكان المعهد الأول والجامعة الأولى في كل علوم الدين والدنيا، وكان -كما يقول بعض الكتاب- المدرس الأول هو جبريل عليه السلام، فالآن في نظم الجامعات، كل مادة لها مدرس أول صاحب كرسي، وهو المسئول عن تلك المادة، فمادة الفقه أو مادة الحديث التوحيد أو الأصول يكون لها عدة أشخاص يدرسون المادة لكثرة الفصول والطلاب، ولابد في كل مادة من مدرس أول، مسئول عنها، فإذا اختلف مدرسوها في جزئية يكون هو المرجع فيها.
فيقول بعض الكتاب: كان المدرس الأول في الجامعة المحمدية جبريل عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يتلقى عن جبريل، وجبريل يتلقى عن رب العالمين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلقى عنهم التابعون، وانتشر الصحابة في العالم، فانتشر العلم من المسجد النبوي الشريف، وفي مكة كانت مدرسة ابن عباس، وبعده تلاميذه كـ عطاء وغيره، وكان في الشام الأوزاعي وغيره، وفي مصر الليث بن سعد، وفي البصرة الحسن البصري، وفي العالم كله انتشر العلم الإسلامي والديني بما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبدأ انتشاره من هذه الجامعة الأولى.
وكان المسجد -أيضاً- داراً للقضاء، يقضي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده، وكان كذلك بيت مال المسلمين، فحينما جاء مال البحرين وضع في المسجد، وقام عليه أبو هريرة حارساً، وحصلت له قصته مع الجني الذي كان يأتي بالليل ليسرق منه، وأخذه مرتين وأمسكه، واعتذر إليه، فأطلقه، وفي المرة الثالثة أقسم ليذهبن به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أنه جني، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها.
ثم قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح.
فتركه، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المرة الثالثة قال: (ما فعل أسيرك البارحة؟ فأخبره أبو هريرة فقال: صدقك وهو كذوب، ثم قال: أتدري من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ فقال: لا.
قال: ذاك شيطان) .
والكاذب قد يصدق، ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يقسم ذلك المال.
ويقول بعض الكتاب أيضاً: لقد تولى المسجد مهمة المستشفى العسكري، وذلك أن سعداً رضي الله عنه لما أصيب بسهم في الخندق نصبت له خيمة في هذا المسجد ليكون قريباً فيعوده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سأل ربه: (إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم يكن ذلك فاجعل إصابتي شهادة، وأن تقر عيني في بني قريظة) ، فلما نقض بنو قريظة العهد في الخندق، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ننزل على حكم سعد، فلما جاء سعد حملوه من المسجد إلى محلهم هناك، فقال: حكمي على من كان هاهنا؟ قالوا: نعم، وحكمي على من كان هنا؟ قالوا: نعم.
والرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الجهتين، قال: كلكم رضيتم بما أحكم به؟ قال الجميع: نعم.
قال: حكمت فيهم.
بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم، وذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق، -أي: السماوات السبع-) ، ثم رجع فانتقض عليه جرحه فمات رضي الله تعالى عنه.
وكان المسجد -أيضاً- موضعاً للفتوى، وكان فيه عدة مهام يؤديها، وكذلك المساجد التي أنشئت فيما بعد، وأولى تلك المساجد الكبيرة أو الجوامع كانت في مصر، فكان مسجد عمرو بن العاص، جامعة ترتب فيه الدروس والعلوم، وانتشر العلم من تلك الجوامع، وكذلك في قرطبة، وكذلك في تونس، وكانت تبنى المساجد على أنها مدارس، ولطلاب العلم فيها حظ كبير.
إن للمسجد في الإسلام دوراً عظيماً، ورسالته عظيمة، فإمامه يكون صاحب علم، ويكون مفتياً للحي، ويمكن أن ينظم شئون المنطقة، ويمكن أن يصلح بين من تخاصم فيها، ويصلح ذات البين، ويمكن أن يرجعوا إليه فيما نابهم، وكذلك يعلم الجاهل.
إلخ.
وكانت المساجد -أيضاً- تشتمل على الكتاتيب لتحفيظ الصغار القرآن الكريم.
ولعل هذا القدر يعطينا أهمية المسجد في الإسلام، وما ينبغي علينا من العناية برسالته، سواءٌ أكان للجمعة، أم كان للقاءات أخرى، أم كان للتعليم، أم كان للإصلاح بين الناس، أم كان لتلاقي أفراد المجتمع، وذلك بتلاقي أفراد كل حي في مسجدهم، فيتعرف بعضهم على أحوال بعض.
ومن هنا نعلم أهمية هذا الحديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا أمر إلزام- أن تبنى المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) ، وذلك لأهميتها ولعظم رسالتها


فضل طلب العلم في المساجد، وفضله في المسجد النبوي
ليعلم الجميع أن طلب العلم في المساجد محاط بالبركة؛ لأن الإنسان إذا جلس في بيت من بيوت الله، وتذكر عظمة المكان، وسمع الشيخ يقول: قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم.
كان على استعداد أكثر لاستقبال المعلومات، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي الشريف بطلب العلم، فقال فيه: (من راح إلى مسجدي هذا لعلم يُعلِّمُه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) فخص المسجد النبوي الشريف؛ لأن المسجد النبوي كان مقراً لقيادة الإسلام، فكانت تعقد فيه الألوية للسرايا، وكانت تعقد فيه ألوية الجيوش، وكان يعقد فيه عهد الصلح.
وقد نص القرآن الكريم على أن طلب العلم قسيم للجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122] ، فالذين ينفرون يجب أن ينقسموا قسمين: قسم في سبيل الله للقتال، وقسم لحلق العلم والتعلم لينذروا قومهم، وليعلموا قومهم، ومن هنا أخبر صلى الله عليه وسلم عن مسجده -حيث كان مقراً للقيادة وتوجيه الجيوش وعقد الصلح- بأن طلب العلم فيه كالجهاد في سبيل الله، ولقد جربنا ولمسنا مدى البركة في هذا المسجد، سواءٌ أكان في الطلب أم في غيره، والله أسأل أن يعيد المساجد إلى رسالتها، وأن يعيد المسلمين إلى بيوت ربهم.
وبالله تعالى التوفيق


كتاب الصلاة - باب المساجد [2]
إن الإسلام قائم على أساس إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، ولما كان أهل الكتاب قد انحرفوا في هذا الباب فبنوا المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وأخل كثير منهم بمبدأ الإخلاص، شدد الإسلام في ذلك خشية على أتباعه من أن يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم، فشدد في تحريم اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعل ذلك، وحذر منه أشد التحذير، وكل ذلك صيانة لجناب التوحيد، فلا يجتمع في الإسلام قبر ومسجد أبداً، وإن وجد ذلك فلابد من هدم أحدهما، فيهدم الطارئ ويكون الحكم للسابق.


تابع أحكام المساجد


حكم اتخاذ القبور مساجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) متفق عليه، وزاد مسلم: (والنصارى) .
ولهما من حديث عائشة: (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً) ، وفيه: (أولئك شرار الخلق) ] .
أن ذكر المؤلف رحمه الله الأمر ببناء المساجد في الدور ذكر بعض المخالفات المنكرة المتعلقة بتشييد المساجد، ثم ذكر بعد ذلك بعض الأحكام التي تتعلق بحرمة المسجد.
ثم جاء بعد ذلك بالتحذير مما كان من الأمم قبلنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وزاد مسلم: (والنصارى) .
الطرد، وفي هذا الأمر ينظر في الفعل واستحقاق فاعله اللعن، وينظر في لعن المعين كيهودي أو نصراني وهو ما زال على قيد الحياة.
قالوا: اللعن لا يتأتى إلا إجمالاً، فتقول: لعن الله الكافرين، والمشركين، واليهود، والنصارى، والمجرمين، والظالمين، والطغاة، أما الشخص المعين فلا يجوز لك أن تلعنه، ولو كان كافراً مشهراً كفره، أو ظالماً معلناً ظلمه؛ لأن اللعن بالوصف يعم، ولا يتقيد بشخص، فما دام الوصف موجوداً توجه إليه، أما الشخص بذاته فقد يتوب الله عليه، وأنت قد عينته فألحقت به اللعنة، وقد يتوب عن موجبها، فتكون وصمته بذلك، والله سبحانه وتعالى قد تاب عليه مما كان فيه.
أما إذا مات على ذلك الحال -على الكفر خاصة- فهو كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] ، فمن مات على الإسلام -مهما كانت حالته، من تقصير أو عدم أداء لواجب- لا يجوز لعنه؛ لأن أمره مفوض إلى الله وما دام أمره لله، فلا نتدخل نحن في ذلك، ولا نحكم عليه بخير ولا بشر، نعم نحكم بأنه كان على وصف كذا، أما مصيره في الآخرة فليس لنا ذلك.
فهنا اللعن على جملة اليهود، وعلى جملة النصارى جاء مسبباً، بقوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا -أي: ابتدعوا، وابتكروا، وفعلوا- قبور أنبيائهم مساجد -وتأتي التتمة- وصالحيهم) .


إشكال وجواب
وهنا إشكال يرد على قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم) ، فالأنبياء: جمع نبي، أما اليهود فقد جاءتهم رسل وأنبياء، ولكنهم كانوا يكذبونهم ويكفرون بهم ويقتلونهم، كما قال تعالى:: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] يعني: أن اليهود أتتهم رسل عديدة، أما النصارى فلم يأتهم إلا رسول واحد، وهو عيسى عليه السلام، فما هو التوجيه لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا قبور أنبيائهم) بالجمع، وكيف يصدق على النصارى؟ قيل: هذا اللفظ صادق على واحد لا بعينه، فهو دائر بينهما، وهو يصدق على اليهود، فيكفي ذلك.
وقيل: إن مجموع أنبياء اليهود، أو أنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى؛ لأن النصارى مكلفون بالإيمان بالنبي الذي أتاهم -وهو عيسى عليه السلام- وبالأنبياء الذين جاؤوا من قبل، فأنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى، كما أن الإسلام أمر المسلم أن يعلن إيمانه بجميع الرسل، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، ولهذا كان الحكم في الإسلام أن من كفر برسول واحد فكأنما كفر بجميع الرسل؛ لأن أمرهم واحد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء آبناء علات، ديننا واحد) ، والعلات: جمع علة، وهي الزوجة بعد الزوجة، أي: إن الرجل يكون تحته عدة نسوة، وتأتي كل امرأة بولد، فهؤلاء الأولاد أبناء علات والأب واحد، وهذا التشبيه منه صلى الله عليه وسلم معناه أن الرسل وإن تعددوا في أممهم فإن مرجعهم واحد، وهو الوحي من الله واصطفاء الله إياهم، وهم رسل الله سبحانه جل جلاله.
فقالوا في قوله:: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم) الجمع في الأنبياء يعم اليهود بالواقع والمطابقة، ويشمل النصارى بالعقيدة واللازم؛ لأنه يلزمهم الإيمان بجميع أنبياء بني إسرائيل، وجاء الأمر إلينا، وألزمنا بالإيمان بجميع رسل الله من علمنا ومن لم نعلم، قال تعالى عن الأنبياء: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] ، فنحن نؤمن بكل رسول أرسله الله سبحانه وتعالى، ولو لم نعلمه.
قوله: (اتخذوا قبور) القبور: جمع قبر.
قوله: (مساجد) معناها: أن القبر قد وجد، ثم جاءوا إلى هذا القبر واتخذوه مسجداً، وعلى هذا يقول العلماء -في حكم المسجد مع القبر-: الحكم للأسبق، فاليهود لعنوا لأنهم جاءوا إلى القبور واتخذوها مساجد، أما لو كان المسجد موجوداً، ثم جيء إلى المسجد واتخذ فيه القبر، فيكون المسجد هو الأسبق، والحق له، ولا حق للقبر.


الغلو في تعظيم الصالحين طريق إلى الشرك
قالوا: ما اتخذ اليهود قبور أنبيائهم إلا تعظيماً لهم، وتعظيم الأنبياء باتخاذ القبور مساجد سيؤدي إلى الانحراف في العقيدة، وقالوا: إن أول ما أشرك بالله إنما كان بسبب الغلو في الصالحين، كما حصل في يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين، فجاء الشيطان إلى أبناء أولئك الناس، وقال لهم: إن آباءكم وأجدادكم كانوا رجالاً صالحين، ولهم عليكم حق، فعليكم أن تدعوا لهم، فكانوا يدعون لهم، ثم جاء إلى الجيل الثاني وقال: لا يكفي هذا الدعاء، إنما عليكم أن تشركوهم في العبادة.
ففعلوا، فقال: إنكم لم تفعلوا مثل من كان قبلكم.
فقالوا: كيف نفعل؟ قال: مثلوا لهم تماثيل واجعلوها في مساجدكم، حتى إذا رأيتموهم نشطتم في العبادة وعبدتم الله كما كانوا يعبدونه، ففعلوا على حسن النية، وتركهم، حتى جاء جيل ثالث فقال لهم: أنتم عاصون لآبائكم؛ لأن آباءكم ما صوروا هذه التماثيل للناس الصالحين في المسجد إلا ليجعلوا لها جزءاً من صلاتهم، فعليكم أن تجعلوا لها جزءاً من الصلاة، فجعلوا لها جزءاً من الصلاة مع صلاتهم لله سبحانه، ثم تركهم على هذا الشرك الأولى، وهو أول افتراقهم عن الصراط السوي، فجاء بعد ذلك وقال للأجيال بعدهم: أنتم تكلفون أنفسكم شططاً، فلماذا تتكلفون وتأتون إلى المعابد؟! خذوا هذه التماثيل واجعلوها في بيوتكم، وكل قبيلة تجعل لها تمثالاً، وكل أسرة تجعل لها تمثالاً، وتؤدي حقها في بيتها، ولا حاجة إلى المجيء هنا، فاتخذت القبائل الأصنام، واتخذت الأسر الأصنام، وانصرفت العبادة كلها للأصنام من دون الله، أي أن الشيطان صبر في دعوته على أربعة أجيال في أربعة قرون، وأخذ يحولهم ويزحزهم حتى ذهبوا عن الطريق السوي.
فمن هنا كان اتخاذ القبور مساجد ذريعة إلى الشرك والوقوع فيه، ومن هنا نعلم سبب النهي عن الصلاة في المقابر، وتقدم لنا أن المقابر من المواطن السبعة التي نهي عن الصلاة فيها، اللهم إلا صلاة الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة ليس فيها ركوع، وليس فيها سجود، أما الصلوات الخمس أو النوافل فإنك إذا جئت عند القبر، واستقبلته وركعت وسجدت في أصله، فما كان للمشاهد إلا أن يقول: إنه يركع ويسجد للذي أمامه، فتكون صورة شرك، ولو لم يكن الشخص يقصد الشرك، كما نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنها تكون حينئذ بين قرني شيطان، فإن الشيطان عند شروقها وعند غروبها يأتي ويستقبلها بقرنيه، وهناك عباد للشمس يسجدون لها عند الشروق، ويسجدون لها عند الغروب، فيُرى الشيطان وقد قرن قرنيه بالشمس، فيوهم أتباعه وجنوده أن أولئك الذين يسجدون للشمس إنما يسجدون له هو، وهذا تدليس منه وإيهام.
ويتفق العلماء على أن النهي في هذه المسائل إنما هو لسد الذريعة، ولحماية جناب التوحيد، كما يقول السلف رحمهم الله.


حكم الصلاة في المساجد التي توجد فيها قبور
بقي عندنا حكم ما لو جئنا إلى مسجد ووجدنا فيه قبراً.
في هذه الحالة: إذا وجد القبر أولاً ثم بني عليه المسجد فلا تصح الصلاة فيه.
أما إذا كان المسجد أولاً، وجاء صاحب المسجد وأوصى أن يدفن فيه، أو دفن فيه أباه، أو دفن شخصاً عزيزاً عليه، فالمسجد سابق، والدفن فيه لاحق، ثم ينظر إلى هذا القبر الذي دخل على المسجد أين موقعه من المصلين؟ فإن كان في قبلة المصلين مباشرة فلا تصح الصلاة إليه، وإن كان في مؤخرة المسجد والسجود بعيد عنه فالصلاة صحيحة، وإن وجد مسجد آخر فهو أولى، وإن كان القبر عن يمين المصلين أو عن يسار المصلين وليس هناك استقبال للقبر فالصلاة صحيحة، فهذا ما يتعلق بهذا الحديث، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد.
فإذا كان ذلك في قبور الأنبياء والمرسلين إلى أممهم، فكيف بقبور غيرهم، فإن النهي عن اتخاذها مساجد من باب أولى، واستحقاقهم اللعن بذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم إلا تعليماً للأمة، فمعنى ذلك أن اللعن لليهود والنصارى بسبب فعلهم، والتعليم لنا، وإلا لما كانت هناك فائدة من هذا الإخبار.
وهنا مأخذ دقيق جداً، يبدو لي أنه أقوى دليل في هذا الموضوع، ولو لم يأت هذا الحديث، فإننا نقرأ في صلاتنا سورة الفاتحة، وبعد المقدمة والثناء على الله سبحانه والإقرار له بالربوبية والإقرار بعبوديتنا له واستعانتنا به نتوجه بطلب هو أعز ما يكون على الإنسان في حياته، فنقول: {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] والهداية ضد الضلال، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ثم جاء التفصيل نوعاً ما: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وقد جاء بيان الذين أنعم عليهم بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] .
فقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] يعتبر كافياً في بيان الحق الذي يجب على المسلم لزومه، ولكن لشدة الحاجة إلى الإيضاح والتأكيد على البعد عن الباطل بين سبحانه الطريق المخالف للحق، فقال سبحانه: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فكأن الاستقامة أو الهداية إلى الاستقامة إنما هي طريق معتدل بين طرفين مختلفين هما: فريق المغضوب عليهم، وفريق الضالين.
ومن هنا نعلم أن من وافق كلتا الطريقتين، أو أحد الفريقين فيما كان من خصوصياته فقد جانب الصراط المستقيم، ولحق بأولئك الذين وافقهم أو تابعهم، أي: في الجزئية التي تابعهم فيها، فكل من بنى على قبر مسجداً فهو بهذا النص الكريم لم يتبع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، ولكن اتبع أحد الطريقين: إما المغضوب عليهم، وإما الضالين.
ويقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم فهو مغضوب عليه، وكل من عمل بغير علم فهو ضال، ولهذا خصّ اليهود بالغضب، والغضب أشد من الضلال؛ لأن الضلال قد يكون لجهالة، وقد يكون لعذر، والضال قابل للتعليم، وقابل للرجوع، وقابل للهداية، أما المغضوب عليه فقد انتهى أمره بما هو فيه من الخطأ والإصرار على ما هو عليه.


الفضيلة وسط بين رذيلتين
وعلماء الأخلاق يقولون: إن الفضيلة وسط بين طرفين، وهذا في جميع الأمور، فإذا جئت في الإسلام فالصراط المستقيم وسط بين الإفراط والتفريط، ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يفرط أو يقصر، أو أن يزيد فيما شرع الله، ولما جاء النفر الثلاثة إلى أم المؤمنين عائشة، وسألوها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وأخبرتهم أنه ينام ويقوم، ويفطر ويصوم تقاّلوا ذلك، وقالوا: عبد غفر له ما تقدم من ذنبه، وأين نحن؟ فقال أحدهم: أما أنا فسأصوم ولا أفطر.
وقال الثاني: وأما أنا فسأقوم الليل ولا أنام وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء.
فسمعت ذلك من وراء الحجاب، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فصعد إلى المنبر، وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فإني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، فهذا إفراط في العبادة، والإفراط في العبادة ينقطع بصاحبه، (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) .
فإذا ركبت جوادك تريد مكة أو نحوها، فأجهدت الجواد بأقصى قوته، فسيتعب ويهلك، فلا أنت قطعت مرحلة سفرك، ولا أنت أبقيت على جوادك، ولكن إذا أخذته بالرفق، ومشيت بقدر استطاعته، وإذا وجدت مرعى تركت له الفرصة ليشبع، وإذا وجدت ماء سقيته، وإذا شعرت بشدة الحر آويته إلى الظل، فإنك تستطيع أن تواصل السير عليه، ولو مشيت به الأرض كلها؛ لأنك تأخذه على طاقته.
ولما جاء الأعرابي وسأل عن الصلاة وسأل عن الصيام قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص.
فقال عليه الصلاة والسلام: أفلح إن صدق.
فالفضيلة وسط بين الطرفين، لا أن يقصر فيما وجب عليه، ولا أن يزيد فيما لم يكلف به كما في الحديث: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فلن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) .
فالفضيلة وسط بين طرفين، فالبخل والتبذير طرفان مذمومان، والكرم وسط بينهما، فالكريم ليس ببخيل ممسك، وليس بمبذر متلف، ولكنه في وسط، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67] فهذه هي الوسطية في هذا الباب.
وكذلك الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فليس الشجاع بجبان يمتنع عن المصارعة والمقاتلة، وليس بمتهور إذا جاء إلى القتال يرمي بنفسه، ولا يدري من أين المخرج، وكذلك في العبادات، فالتوسط: عدم الإفراط والتفريط فاليهود فرطوا لأنهم قصروا في أمور العبادات واحتالوا على المحرم، كما في عملهم في يوم السبت، فلما حرموا على أنفسهم يوم السبت امتحنهم الله، كما قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، فما استطاعوا أن يصبروا، فاحتالوا وألقوا الشباك يوم الجمعة، فعلقت فيها الحيتان يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، وقالوا: نحن في السبت لم نعمل شيئاً، وكنا في بيوتنا.
وكذلك لما حرم الله عليهم بعض الشحوم أخذوها فجملوها وأذابوها، فباعوها وأكلوا ثمنها، وقالوا: نحن لم نأكل الشحم.
ففرطوا في العبادات.
وانظر أيضاً إلى ما قالوه في عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاءت به مريم عليها السلام، قومها تحمله كما قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:27-28] ، فانظر إلى أي حد ذهبوا، بينما النصارى قالوا: هو ابن الله، هو ثالث ثلاثة.
فأي فرق بين القولين؟ فبينهما ما بين السماء السابعة وتحت الثرى.
والإسلام قال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ولذا فـ النجاشي لما سمع ذلك من جعفر الطيار في الهجرة إلى الحبشة الأولى هبط إلى الأرض، وأخذ قشة من الأرض وقال: ما زاد صاحبكم على ما جاء في عيسى ولا مثل هذه القشة.
فالإفراط والتفريط متغايران، فاليهود أخذوا جانب التفريط، والنصارى أخذوا جانب الإفراط.
والتوسط في العبادة إنما هو في الإسلام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا} [الجمعة:9-10] ، فساعة الذكر تذهب إليها، وساعة عمل الدنيا تذهب إليها.
ثم إن الإنسان يتكون من مادة وروح، والمادة هي الجسم، وهو بيت تسكنه الروح، وكل له غذاؤه، فالجسم يحتاج إلى الطعام والشراب؛ لأنه من الأرض ومن مادتها، ويخلد إليها، والروح تحتاج إلى العبادة والذكر؛ لأنها نورانية تسموا إلى الملأ الأعلى، وغذاؤها العبادة، وفمن غلب جانب المادة على الروح ففيه شبه من اليهود، ومن غلب جانب الروح على المادة ففيه شبه من النصارى.


وصف الصحابة في التوراة والإنجيل قائم على وسطيتهم بين الإفراط والتفريط
نجد القرآن الكريم يصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم بما وصفوا به في التوراة والإنجيل- لأهل التوراة والإنجيل، وذلك الوصف قائم على أساس هذا المبدأ، وأن النصارى مفرطون واليهود مقصرون.
قال الله سبحانه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27] ، ثم قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] .
فانظر إلى هذا الوصف: (ركعاً سجداً) ، فهل اليهود ركع سجد؟ وقال الله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وهل اليهود يبتغون ما عند الله، أو يبتغون الدنيا؟ وقال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) بخلاف القترة والغبرة على وجوه اليهود عياذاً بالله.
وقال تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ) أي: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (فِي التَّوْرَاةِ) ، والتوراة لليهود؛ ليعلموا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كمثلهم.
قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] والإنجيل للنصارى.
{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] .
فانظروا إلى هذا المثل، هل هو مثل عبادة، أم مثل عمل واستثمار وإنتاج؟ إنه عمل واستثمار وإنتاج، فهو زرع يخرج شطأه يؤازر بعضه بعضاً، فيعجب الزراع ويبتهج به الزارع إذا رآه؛ لأن النصارى أهملوا أمور الدنيا وأمعنوا في أمور الروح كما قال تعالى عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] .
فالنصارى ذهبوا في الرهبانية، وتركوا الدنيا، فجاء مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل بالعمل الدائب، والإثمار والإنتاج، ليردهم عما هم عليه، وجاء في حق اليهود أن مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما قاله تعالى عنهم: {رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] ، وهذان مثلان يبينان أن كلتا الأمتين قد غايرت الطريق فأفرطت في جانب، وفرطت في جانب آخر، وعلى هذا جاء في هذا الحديث أن اليهود لعنهم الله؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وكان ذلك سبباً في التوصل إلى عبادة غير الله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.


كتاب الصلاة - باب المساجد [3]
إن المساجد معظمة ومحترمة عند المسلمين، فلا يجوز للمشركين دخولها إلا لحاجة وبإذن من المسلمين، وهذا على رأي بعض العلماء، وأما المسجد الحرام فلا يجوز لغير المسلمين دخوله أبداً، وما ذلك إلا لعظمته عند الله، وهناك آداب خاصة بالمساجد منها: أن لا يُنشد فيها الشعر إلا ما كان مباحاً ولغرض شرعي، وأنه لا يجوز إنشاد الضالة في المساجد، فإن المساجد لم تجعل لذلك.


تابع أحكام المساجد


حكم دخول الكافر إلى المسجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل، فربطوه بسارية من سواري المسجد.
الحديث) متفق عليه] .
هذا الحديث -كما يقول الشراح- له قصة، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل، -وسمي في غير هذا الحديث- وهو ثمامة بن أثال، وكان سيداً من سادات وادي بني حنيفة في نجد، فأخذ أسيراً، فجيء به فربط في سارية المسجد، وهذا هو موضع الدلالة، حيث أن ثمامة رجل مشرك أخذ أسيراً وأدخل المسجد وربط فيه، وهذا حكم من أحكام المساجد.
فلما ربط في سارية من سواري المسجد كان صلى الله عليه وسلم يأمر له بحلب سبع شياه فيشربه، ويمر عليه كل غداة ويقول: كيف بك يا ثمامة؟ فيقول -وهو في الأسر-: يا محمد! إن شئت مالاً أرضيتك، وإن مننت مننت على كريم، وإن قتلت قتلت ذا دم لأن الله قد قال في حق الأسير {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] ، فالأسير إما أن يفادى بالمال، وإما أن يمنَّ عليه ويطلق سراحه بلا فداء، وإما أن يقتل، وكونه يسترق شيء آخر.
فكان يقول: إن ترد مالاً -يعني: فداءً- أرضيتك، أي: أعطيتك الذي ترضى.
وإن تمنن -أي: تطلق سراحي بدون فداء- مننت على كريم -والكريم لا تضيع عنده الصنيعة-، وإن قتلت قتلت ذا دم.
أي: فدمي لن يذهب سدى، بل ستجد من يطالب به، فهو يهدد وهو في الأسر؛ لأنه سيد من سادات قومه، فتركه على هذه الحالة ثلاثة أيام.
ثم مر عليه في اليوم الرابع فقال: أطلقوا ثمامة.
فأطلقوه، فجاء إلى بعض الحاضرين في المسجد وقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: تذهب فتغتسل، وتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد بشهادة الحق.
فذهب إلى بيرحاء -وبيرحاء كان شمالي المسجد، وكان يبعد عن باب المجيدي حوالى ثلاثين أو أربعين أو خمسين متراً، وكان بستاناً قريباً- فاغتسل في الضحى، وفي صلاة الظهر استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق.
ثم قال: يا رسول الله! أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فما ترى علي؟ قال: امض وأكمل عمرتك.
فمضى إلى مكة، فبلغ مكة خبر إسلامه، وهناك ضيقوا عليه وآذوه لأنه أسلم، فلما رجع إلى وادي بني حنيفة منع الميرة أن تأتي من هناك إلى مكة، وكان وادي بني حنيفة في ذلك التاريخ يمول الحجاز، فقد كان مخصباً ومنتجاً وذا زرع، فمنع الميرة أن تصل إلى مكة، فأحس أهل مكة بالحاجة والجوع، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! مر ثمامة أن يسمح بالميرة لمكة؛ فإن لك فيها الخالات والعمات.
فكتب إليه أن: اسمح بالميرة لمكة.
فسمح بها.
ولما غدا صلى الله عليه وسلم وقال: أطلقوا ثمامة أتي في الليلة التي أسلم في نهارها بحلب شاة -مع أنه قبل إسلامه كان يشرب حلب سبع شياة- فشرب فشبع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء، والمسلم -أو المؤمن- يشرب في معى واحد) ، وقالوا: لأنه لما أسلم قال: (باسم الله) ، وببركة (باسم الله) جعل الله في حلب الشاة الواحدة ما أشبعه نيابة عن السبع الشياه.
ويؤخذ من ذلك مواقف النبل في الرجال، أو مواقف عظماء الناس، فقد قيل له: يا ثمامة! ما دمت فكرت في الإسلام فلماذا لم تسلم من أول يوم، ومكثت في الأسر مربوطاً ثلاثة أيام؟! قال: لئلا تقولوا: أسلم خشية السيف.
أي: فلما أطلقت وصرت حراً طليقاً حينئذ أسلمت.
ونظير هذا الموقف أيضاً موقف زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو العاص بن الربيع فقد أخذ أسيراً في بدر وافتدي هو وأخوه، ثم بعد الفداء سافر بتجارة إلى الشام، وهو عائد أخذ هو وتجارته، فلما أخذ هو وتجارته استطاع أن يفلت منهم، ودخل على زينب رضي الله تعالى عنها واستجار بها فأجارته، فأطلت على الناس في صلاة الفجر وقالت: أيها الناس! إن عندي فلاناً -أي: زوجها- وقد أجرته.
فقال صلى الله عليه وسلم: أو تسمعون ما أسمع -وما كان يعلم بذلك-؟ قالوا: نعم.
قال: والله ما علمت بذلك إلا كما علمتم أنتم الآن، وإنا قد أجرنا من أجرت لأنه قد جاء في الحديث: (يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أحدهم) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تعيدوا عليه تجارته وتطلقوا سراحه فأعيدوا وأطلقوا سراحه، فأعادوا إليه تجارته وأطلقوا سراحه، فذهب إلى مكة -والتجارة التي كانت معه عبارة عن مضاربة لأهل مكة، فأعطيت له الأموال ليتاجر بها- فلما وصل ووزع الأموال على أصحابها وبرئت ذمته قال: يا أهل مكة! أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: ولماذا لم تعلن ذلك وأنت في المدينة؟ قال: أخشى أنكم إن سمعتم بإسلامي تقولون: أسلم ليذهب بأموالنا، ولما جئت بأموالكم وأعطيت الحقوق لأهلها، ولم يبق لأحد عندي شيء أسلمت بدون أي دافع آخر.


حكم دخول غير المسلمين إلى المسجد
والناحية الفقهية في هذا الباب -باب المساجد- ظاهرة في قوله: فجاءت -أي الخيل- برجل أي: جاءت به أسيراً، فهو ليس مسلماً، ودخل المسجد، فما حكم دخول غير المسلمين المساجد؟ هذه مسألة -كما يقولون- فيها قليل من التطويل، وأخونا الشيخ عبد الله ولد والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه -في الآونة الأخيرة- جمع رسالة صغيرة في هذه المسألة.
ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان تكلم عنها عند قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ، والمسألة تتلخص في الآتي: يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] ، والمشركون جنس معين، وهم أهل الأوثان، بخلاف أهل الكتاب.
وقال تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] ، فجعل مالك رحمه الله أصل المسألة في المشركين، وقاس عليها أهل الكتاب: يهوداً ونصارى، وأخذ المسجد الحرام كأصل، وقاس عليه جميع مساجد العالم، فقال مالك: لا يدخل كافر مطلقاً -سواءٌ أكان مشركاً، أم وثنياً، أم كتابياً يهوياً أو نصرانياً، أم بوذياً- أي مسجد من المساجد نصاً وقياساً.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله جعل المسألة خاصة بالمشركين وبالمسجد الحرام فقط على نص الآية.
والشافعي وأحمد رحمهما الله جعلاها في عموم الكفار، وبخصوص المسجد الحرام.
فهذا خلاصة خلاف الأئمة رحمهم الله، وإذا جئنا إلى قصة ثمامة نجد أنه رجل مشرك أدخل المسجد، وربط في السارية، فهذا ينقض على مالك اعتبار عموم المساجد بالمسجد الحرام؛ لأنه قال: جميع المساجد يمنع منها جميع الكفار والمشركين فهذا مشرك دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعميم في المساجد ينقضه دخول ثمامة.
وهنا أيضاً دليل آخر، وذلك لما جاء وفد ثقيف، ووفد ثقيف من الطائف وكانوا مشركين، جاءوا في السنة التاسعة من الهجرة -عام الوفود-، ونحن نعلم ما فعلت ثقيف برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءهم إلى الطائف سنة تسع من البعثة، فأساءوا إليه صلوات الله وسلامه عليه، ولما جاءوا سنة تسع من الهجرة -عام الوفود- أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وبنى لهم خياماً في المسجد، وكان ذلك في رمضان، وكانوا يرون الناس يصلون، وكان صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على خدماتهم، وكانوا من شدة خوفهم لا يأكلون طعاماً جيء به إليهم حتى يأكل الذي جاء به منه أمامهم، وكان صلى الله عليه وسلم -من مكارم أخلاقه وحسن ضيافته- يأتيهم بعد العشاء، ويقف على خيمتهم، ويتحدث معهم في أيام العرب وفي أحاديثهم، ويراوح بين قدميه، فمرة يقف على اليمين، فلما يطول القيام قليلاً يريحها، ويقف على اليسار من طول ما يقف عند خيمتهم متحدثاً معهم.
فهذا وفد من المشركين نزل في المسجد النبوي.
وأما غير المشركين فأهل نجران، وليسوا وثنيين، ولما جاءوا المدينة جاءوا إلى المسجد، ولما جاءوا وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم المباهلة قالوا: أمهلنا إلى الغد.
فكان فيهم السيد العاقب، فقال لهم: والله ما باهلت أمة نبياً إلا أخذوا عن آخرهم، ولو باهلتموه والله لن يبقى حتى الطير يطير في بلادكم، فأصبحوا وقالوا: يا محمد! نعتذر عن المباهلة، ونحن على السمع والطاعة لك، واتركنا على ما نحن عليه، وابعث معنا رجلاً أميناً يحكم بيننا في أموالنا إذا اختلفنا فيها.
قال: نعم.
لأبعثن معكم رجلاً أميناً.
يقول عمر رضي الله تعالى عنه: فبت أتطلع.
أي: لينال شرف هذا الوصف ويبعث معهم، ولكن دعا بأمين هذه الأمة أبي عبيدة، فهؤلاء نزلوا في المسجد.
وعلى هذا يكون القول الراجح أنه لا يسمح لغير مسلم، أو لا يحق لغير مسلم أن يدخل المسجد بسلطة، وبنوع من التحكم، أما أن يدخل بأمان من المسلمين، وبعهد من ولي أمر المسلمين لحاجة نحن نحتاجه فيها، أو هو يحتاج إلينا فيها، كما كان اليهود يدخلون المسجد ويتحاكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستفتونه فلا مانع.
فغير المسلم يدخل المسجد للحاجة، فحاجته في التقاضي والقاضي في المسجد، أو الاستفتاء والمفتي في المسجد، أو للماء والماء في المسجد، أو لحاجة المسجد إليه لعمارة، أو لتدارك أمر ما، فحينئذ يسمح له بالدخول.
والقضية تدور حول قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] ، وبعض علماء اللغة يفرق بين (نَجَس) و (نَجِس) فيقول: نجَس (بالفتح) : نجاسة اعتقاد، ونجِس (بالكسر) : نجاسة مادية، كالبول والعذرة، فهنا نجس المشركين في اعتقادهم، وكان بعض السلف -كـ الحسن - يقول: من صافح مشركاً فليتوضأ؛ لأنهم نجس.
ولكن يستدل الجمهور على أن نجس المشركين نجس اعتقاد بأنه لو أخذت سبية من العرب، وكانت تلك السبية على دين قومها.
فإذا لامسها السيد فهل لامس نجاسة؟ وقد كانوا يضاجعونهن، وكانوا يستمتعون منهن بملك اليمين، ولم يُؤمر أحد منهم أن يغسل ما لامس النجس، فهو على التحقيق نجَس اعتقاد.
وبعضهم يقول: (نجَس) باعتبار الشرع؛ لأنهم كانوا يصيبون الجنابة ولا يغتسلون، فالنجاسة نجاسة معنوية، أو نجاسة حكمية، وليست حقيقة مادية.
والذي يهمنا في هذا أنه لا يُمكَّن غير المسلم من دخول المسجد لغير حاجة.
وهنا قضية محزنة مؤسفة، ففي بعض البلاد أصبحت بعض المساجد متاحف أثرية، فهجرت الصلاة فيها، وأصبح السُّواح يرتادونها على أنها آثار، فهل تدخل في هذا المعنى أم لا؟ الله تعالى أعلم، والواقع أن هذا تقصير من المسلمين.


صحة صلاة المسلم في الكنيسة والبيعة دون بيت النار
وهناك مسألة في المقابل تهمنا في الفقه، وهي أنه إذا كان غير المسلم لا يدخل المسجد إلا لحاجة، فهل يدخل المسلم الكنيسة ويصلي فيها أم لا؟ يتفق العلماء على أن المسلم إذا دخل كنيسة أو بيعة -بخلاف بيت النار؛ لأن بيت النار يعبدون النار فيه- وحانت الصلاة، وأراد أن يصلي فله أن يصلي في تلك الكنيسة ما لم ير نجاسة؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة ما لم تتحقق النجاسة، وهذه قاعدة إسلامية، وعند أهل الكتاب الأصل النجاسة ما لم تتحقق الطهارة.
ولكن إذا كان في الكنيسة تماثيل وصور، كالتي ذكرتها أم سلمة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تصح الصلاة هناك، لا لكونها كنيسة، ولكن لكونها فيها التماثيل والصور.
ويذكر البخاري رحمه الله في قصة عمر لما ذهب إلى الشام أنه حينما حوصر أهل الشام واشتد الحصار عليهم أرادوا أن ينزلوا على الصلح -وقيل: كان نصفها صلحاً، ونصفها عنوة.
وقيل: كلها عنوة.
وقيل: كلها صلح- فكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر إنا نريد أن ننزل على الصلح، ولكن تكون أنت طرفاً فيه.
فخرج عمر رضي الله تعالى عنه، هو وغلام معه فقط، وكان يتعاقب الركوب مع الغلام، فمرحلة يركب هو ويمشي الغلام، ومرحلة يمشي هو ويركب الغلام، إلى أن اقتربا من دمشق، وكان قميصه مرقعاً، فقالوا: لا يليق بك أن تدخل على الروم بهذا القميص فيقولون: هذا أميركم بهذه الثياب! وهذا قميص تلبسه.
فنظر فيه فلم يقبله، وقال: ردوا علي فميصي، قالوا له: تمهل.
دعنا نغسله.
فغسلوه وردوه عليه، ولما جاء ودخل على الروم عرفوه بشكله وبوضعه فقالوا: والله هو هذا الذي نجده في كتبنا.
وتمت المفاوضة على الصلح، فجاء رجل من ذوي القسطنطين، وقال لـ عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت لك طعاماً وأريد أن تحضره فحضر، ثم دخل الكنيسة، ثم قال: أريد أن أصلي.
فقال: صل مكانك.
قال: لو صليت في الكنيسة لانتزعها منكم المسلمون وكان في عهد الصلح ألا تنقض لهم كنيسة، ولا تؤخذ أموالها، ولا يتعرض لصلبانهم، وأحوالهم تبقى على ما هي عليه، واشترط عليهم شروطاً وحقوقاً للمسلمين.
فقال: لو صليت هنا لجاء المسلمون من بعدي وقالوا: هذا مصلى عمر فينتزعونه منكم، فينقضون الصلح، وجاء عند العتبة وصلى.
ثم جاء ابن عمر، وجاء عمر بن عبد العزيز وغيرهما وقالوا: إذا كان فيها التماثيل أو الصور فلا تجوز الصلاة فيها، وإذا كانت خالية من تلك الموانع فلا مانع ما لم توجد فيها نجاسة أو موانع وعوارض أخرى.
وكما ربط ثمامة وهو مشرك ربط أبو لبابة نفسه وهو مسلم، فحين ذهب إلى بني قريظة سألوه عما سيفعل بهم، فأشار بيده إلى حلقه، أي: الذبح، ثم قال لنفسه: والله لقد علمت أني خنت الله ورسوله، فرجع وربط نفسه في سارية المسجد.
فالمسجد: معتقل للأسارى وسجن للمخطئين، فأدى رسالة بجانب المعبد، وبجانب المعهد؛ لأنه على رءوس الأشهاد وتحت أنظارهم، فاتسع نطاق رسالة المسجد إلى خطوة أخرى.


الشعر وإنشاده في المسجد
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله عنه مرّ بـ حسان ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أُنشِدُ فيه، وفيه من هو خير منك) متفق عليه] .
يقول: إن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد، وعمر دائماً كان دقيق الملاحظة، فوجد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه -وهو شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعر الإسلام- ينشد شعراً، فلحظ إليه، واللحظة من عمر ليست بالهينة، ففهم حسان فواجهه: بأن عليك ألا تلحظ ولا تهتم، وما علي منك، فقد كنت أنشد الشعر فيه -أي: في المسجد- وفيه من هو خير منك.
والذي هو خير من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لـ عمر جواب، والحقُ يسكت.
وما هو الإنشاد الذي كان ينشده حسان في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن المؤلف ساق هذا ليبين لنا أن المسجد لا يصلح لإنشاد الشعر، ولكن سيأتي التفصيل في الإنشاد الذي كان ينشده حسان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هو الوصف والغزل والتشبيب والهجاء، أو هو شعر معين؟! لقد جاء الأثر بأن حسان رضي الله تعالى عنه قال: ائذن لي -يا رسول الله- بهجوهم -يعني: المشركين-، قال: كيف تهجوهم وأنا منهم؟! قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين، ولا يلحقك من ذلك شيء.
قال: اهجهم.
فهجاهم، فنصب له كرسياً أو منبراً وقال له: اهجهم، فوالله لوقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام.
فالسهم لما يأتي في النهار معلوم من أين أتى، أما في الليل فلا يعلم مصدر إتيانه، أمن يمين أو يسار، ولذلك لما تكلم أبو سفيان وهجا الرسول صلى الله عليه وسلم، رد عليه حسان قائلاً: ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فمن هو شر الفريقين ومن هو أخيرهم؟ لا شك أن المشرك شر الفريقين، وأن المسلم خير الفريقين، قال حسان: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء في أبيات عديدة امتدح فيها المسلمين وهجا المشركين، وخرج صلى الله عليه وسلم بقوله: شركما لخيركما الفداء.
وهذا -كما يقول نقاد الأدب- مأخوذ من القرآن، ولهذا القرآن عدّل في شعر الإسلاميين، فقوله: فخيركما لشركما الفداء، مأخوذٌ من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ، وعلى هذا فـ حسان رضي الله تعالى عنه كان ينشد الشعر في المسجد النبوي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يؤيده ويقول: (اهجهم وروح القدس يؤيدك) ، وكان هجاء حسان على المشركين أشد من السهام في ليلة ظلماء.
إذاً فلا نقول: كل شعر ممنوع، ولا نقول: كل شعر جائز، فإذا كان الشعر لخدمة الإسلام والمسلمين -كهذا-، أو أنشد إنسان أبياتاً يظهر فيها ظلامته، أو أنشد شيئاً يمتدح فيه إنساناً فعل خيراً فذلك لا بأس به.
وربما يأتينا إنسان ويقول: ماذا تقولون في قول كعب بن زهير: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلت إلا أغن غضيض الطرف مكحول أليس هذا غزل في سعاد؟! يقول نقاد الأدب الإسلاميون: إن افتتاح الشاعر قصيدته بالغزل الرفيع المستوى في غير معين يعتبر من باب التشويق وتوجيه الأذهان إلى الموضوع الأساسي؛ لأن الشاعر انتقل من ذكر سعاد إلى قوله: نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول وذكر صفات الناقة، وذكر غير ذلك، وانتهى إلى موضوعه بأنه يلتمس العفو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هناك الغزل، وهناك النسيب، وهناك التشبيب، فهذه أنواع من أنواع الشعر الغزلي بصفة عامة، أو ما يتعلق بالنساء، فإذا كان الغزل في امرأة غير معينة كسعاد فكلمة (سعاد) عند الشعراء رمز لمجهول، كما يقولون في العصر الحاضر: الجندي المجهول، فهم يأتون بها كوصف لتهييج السامع إلى ما وراءه، فيسهل الانتقال إلى الموضوع المقصود والذهن قد تهيأ لتلقيه، وهو هنا الاعتذار عن تأخره في الإسلام، وأنه مخافة أن يهدر دمه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا في الغزل، أما النسيب فهو في امرأة معينة بذاتها بأبيها وجدها، وأما التشبيب: فهو مأخوذ من شب يشب شبوباً وشباباً، تقول: شبت النار: أي: ارتفعت.
وتقول: الشباب قوة غريزة وفتوة، فكذلك التشبيب هو إثارة الغرائز بأوصاف خاصة بالنسوة، خاصة في ما تحت الثياب، فهذا محرم وممنوع، وكعب بن الأشرف ما قتل إلا لذهابه إلى مكة يستعدي قريشاً على المسلمين، وتشبيبه ببعض نساء المسلمين.
فالغزل من حيث هو إذا كان لغرض ينتقل منه إلى غرض مباح إسلامي شرعي، وليس فيه النسيب ولا التشبيب فلا غبار عليه، وعلى هذا فإنشاد الشعر في المسجد إن كان لغرض ديني فلا مانع، وإن كان لهوى نفس فممنوع، فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما وسع المسجد بنى رحبة في الجهة الغربية، وقال: أيها الناس! من أراد الدين والآخرة فعليه بالمسجد لذكر الله، ومن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى تلك الرحبة.
وبعض الروايات فيها: من أراد سوق الآخرة فليجلس، ومن أراد سوق الدنيا فليذهب إلى الرحبة.
وهذا في الكلام العادي فضلاً عن كونه شعراً.
والشعر من حيث هو جاء فيه الحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ، وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها -وهي التي يذكرها ابن رشيق العزي في عدة الأدب- عن الشعر؟ فقالت: الشعر كلام موزون حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
والوزن لا يغير ولا يبدل في المعنى، إنما هو في الصناعة وجرس السمع، فإذا كان الشعر كلاماً حسناً فهو حسن، وهناك شعر الحكمة والمواعظ والتعليم ونظم العلوم، وإن كان نظم العلم ليس بشعر؛ لأنه لا يخاطب الشعور، بل يخاطب العقل، كألفية ابن مالك، والرحبية، والبيقونية، وغيرها، فهذا يسمى نظماً وليس شعراً.
وبالله تعالى التوفيق.


حكم إنشاد الضالة في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع رجلاً ينشد الضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك؛ فإن المساجد لم تُبن لهذا) رواه مسلم] .
هذا العمل مما ينبغي أن تصان المساجد عنه، فإذا من ينشد دابة -أو حاجته بصفة عامة- في المسجد فقل له: لا ردّها الله عليك.
والله هذا رد عجيب، ولم يقل: أسكتوه.
ولم يقل: امنعوه.
ولم يقل: أفهموه بأنه لا ينبغي هذا هنا، ولكن: (يدعن عليه: (لا ردّها الله عليك) ، فيعامل بنقيض قصده، هو ينشد: من رأى لي دابة، صفتها كذا وكذا، يريد بذلك الحصول عليها، وأن ترد إليه، فيعامل بنقيض قصده، والذي يعلم أنه إذا أنشد ضالته في المسجد ردّ عليه المسلمون بقولهم: (لا ردها الله عليك) هل سيأتي وينشدها في المسجد ليسمع هذا الجواب؟ لا والله وقاس العلماء على الدابة كل ضائعة.
ثم قالوا: وإذا ضاعت الضائعة في المسجد، كإنسان جاء بما يسجد عليه فضاع منه، فبحثت عنه فلم يجده، أو سقطت منه محفظة ماله، أو سقطت ساعته من يده، أو سقط منه شيء كان يحمله، فليس له أن ينشده في المسجد، فأي ضائعة ضلت عليه في المسجد، أو في غير المسجد فهي كذلك، إلا أن بعضهم قال: إن كانت الضالة ضلت عليه في المسجد فلا مانع من إنشادها في المسجد.
والآخرون قالوا: لا؛ فإن الحديث لم يخصص: (إذا سمعتم من ينشد ضالةً في المسجد) والضالة: الضائعة؛ لأن الضلال: الضياع والتلاشي وعلى هذا فإن قوله: (ضالته) يشمل كل ضالة، سواء كانت دابة، أم متاعاً، أم سلعة، أم أي شيء قليل أو كثير ضل على صاحبه في المسجد أو في غيره، فلا يجوز له أن ينشده في المسجد.
ثم قالوا: فأين ينشدها والمسجد موضع التجمع؟! قالوا: يقف على باب المسجد، وعند خروج الناس من الصلاة ينشد ضالته، فيقول: من رأى لي ضالتي أو: ضل علي كذا.
فمن رآه؟ فيكون إنشاده للضالة خارج المسجد.
ثم التعليل في الحديث: (فإن المساجد لم تبن لذلك) أي: لم تبن للبحث عن الضوال؛ لأن هذه أمور دنيوية.
ونظير ذلك ما فعله الأعرابي، فقد جاء أعرابي إلى المسجد فأناخ راحلته ودخل المسجد، ثم تنحى جانباً وجلس يبول، فقام الحاضرون ليخرجوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتركوه، ولا تزرموه) وأي: لا تحملوه على قطع البول؛ لأنه يؤذيه، وسيعدد مواضع البول؛ لأنه إذا أراق البول وهو جالس في مكانه انحصر البول في مكان محدود، لكن إذا أزرموه، وقام وهو يبول ستتسع المسافة إلى مقدار كبير، فنهاهم عن ذلك، فلما قضى بوله دعاه، وأمر بذنوب من ماء فأُهريق عليه، والذنوب: الدلو الكبير، وهذا تقدم في مبحث تطهير الأرض من البول بمكاثرة النجاسةَ بالماء.
فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أخا العرب! إن هذه المساجد لم تبن لذلك -كما قال في الأول-، وإنما بنيت لذكر الله وما والاه) ، فذكر الله كقول: (لا إله إلا الله) ، (أستغفر الله) ، (الحمد لله) ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكل ما كان فيه ذكر الله، وما والاه حلق العلم، من المدارسة، ومن المذاكرة، ومن الموعظة، فكل ذلك داخل في ذكر الله وما والاه، كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] .
فالأعرابي لما رأى الفارق الكبير بين جماعة يريدون أن يضربوه ويهيجوه ومن يقول: يا أخا العرب! إنها لم تبن لذلك، إنها لكذا وكذا قام في الحال، ورفع يديه وقال: اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ، فالله تعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، وأنت تريد أن تحصرها عليّ وعليك! والأمة هذه كلها ما مصيرها؟! ويهمنا قوله: (إن هذه المساجد لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) .


حكم مذاكرة العلوم الدنيوية في المساجد
وفي واقع الحياة عندنا نشاهد في أواخر السنوات الدراسية أن الطلاب يكثرون في المساجد، ويعمرونها مع الصلوات، فكل معه دفاتره، وكل معه كتبه جماعات جماعات، فلا نقول: هذه أمور الدنيا، ولا ينبغي أن يشغلوا المساجد بذلك: لا والله؛ فكل العلوم -أياً كانت- إذا كانت في يد المسلمين فهي تخدم الإسلام.
فعلم الذرة والطاقة النووية، وعلم الفضاء، والغوص في المحيطات، والجيولوجيا في بطن الأرض، وكل ذلك حين يكون في يد المسلم، إنما هو خدمة للإسلام؛ لقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] .
ونقول أيضاً: تلك القوى الفتاكة إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل، أما إذا كانت في يد الكافر فهي كالسيف في يد الأحمق.
ففي قضية كوبا حصل أنه نصبت روسيا فيها صواريخ، وكان كنيدي هو رئيس الولايات المتحدة، فأنذر إن لم تفكك هذه الصواريخ في ست ساعات فإن الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد لاستعمال السلاح بقدر ما في طاقتها لتدميرها، فماذا قال خروشوف -؟ قال: إن هذا شاب متهور قد يفعلها.
وبادر بتفكيك تلك الصواريخ من كوبا.
والذي يهمنا قول هذا العسكري في حق الآخر: شاب متهور.
فالقوة مهما كانت في أي علم إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل لا يستعمله إلا في موضعه، وتلك القوة في يد الكافر كالسيف في يد الأحمق لا نأمن فيمن يستعملها.
وهكذا إذا كان أبناؤنا الطلاب في أي حالة من الحالات يدرسون، وفي المساجد أياً كانت، فقد يجدون من الرفقة في المسجد ما لا يجدونه في البيت، وقد تكون في البيت مشاكل وأصوات ومشاغل، لكن في المسجد يوجد الهدوء وتوجد الراحة، وربما كانت مكيفة، وربما كان فيها الماء مبرداً، وقد لا يجد ذلك في بيته.
وقد لاحظنا في عهد قديم قبل تعميم الكهرباء في المدينة أن سبعين إلى تسعين في المائة من العمال في المدينة وفي رمضان يأتون للنوم في المسجد؛ لأنه كان مكيفاً بالمراوح، وكان ألطف مما يوجد في بيوتهم.
فالمساجد تكون مأوى الجميع، وتكون مرفقاً عاماً، فإذا كانت مذاكرتهم لا تشويش فيها ولا تضييق على المصلين، وإذا أقيمت الصلاة قاموا في صفوفهم وصلوا، لا أنهم عند الإقامة يتسربون من الأبواب إلى بيوتهم، وكأنهم لا يعرفون الصلاة، فإذا أتوا إلى المساجد لأداء الصلوات، وجلسوا لمذاكرة دروسهم في هندسة أو رياضيات أو جغرافيا، أو أي شيء فهم كمن يذاكر الفقه والحديث والتوحيد؛ لأن الكل يلتقي على خدمة هذا الدين، وخدمة الإنسان المسلم.
إذاً فإنشاد الضالة في المسجد لا ينبغي؛ لأنها مصلحة خاصة بصاحبها، وفيه تشويش على المسلمين، ولم تبن المساجد لذلك.
والله تعالى أعلم.


كتاب الصلاة - باب المساجد [4]
الإسلام دين الخلق، فما تكاد تجد أمراً من الأمور إلا وله آداب وأحكام، وبيان لما يجوز فعله فيه وما لا يجوز، ومن ذلك المساجد، فمن آدابها: أن لا تتخذ مكاناً للبيع والشراء، فلا يجوز عقد البيع والشراء فيها، كما لا يشرع إقامة الحدود في المساجد، ولا بأس بإقامتها بجوار المساجد؛ للجمع الذي يكون عند المسجد، فتكون على مرأى ومسمع من الناس، فتعم الفضيلة وتقل الرذيلة.


تابع أحكام المساجد


حكم البيع والشراء في المساجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: وعن أبي هريرة رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) رواه النسائي والترمذي، وحسنه] .
هذا الحديث مع الذي قبله من باب واحد، فهناك ينشد الضالة لاسترجاع ما ضاع منه، وهنا يتعاطى البيع والشراء، وقد تقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: من أراد سوق الدنيا فليخرج، ومن أراد سوق الآخرة فهنا.
فلم تبن المساجد لتنقلب أسواقاً للبيع والشراء، وكما قيل: الأسواق مساكن الشياطين، كما أن المساجد مساكن الملائكة؛ لأن الأسواق غالباً يوجد فيها الضجيج، ويوجد فيها التدليس، ويوجد فيها الأيمان المروجة للسلعة، وتوجد فيها مخالفات كثيرة، إلا من عصم الله، ولهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب أمام التجار، والذين يتخذون المساجد مكاناً للبيع والشراء.
ويقال للمبتاع والمشتري في المسجد: لا أربح الله تجارتك.
وقد يقول بعضهم: إن قول: (لا أربح الله تجارتك) إنما يقال لمن اتخذ ذلك عادة، أما إذا تبايعا في سلعة بينهما، وليس من عادتهما التبايع في المسجد فهل يتسامح معهما؟! والجواب: لا؛ لأن الحديث سدّ الباب، فإن تبايعا اليوم في قلم، ففي الغد سيتبايعان في الساعة، وبعده في الكتاب وهكذا، فيتسرب البيع والشراء إلى المساجد.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (فقولوا له) أي: أسمعوه لا أن تقولوها سراً؛ لينزجر بذلك، وإذا علم البائع الذي يريد الربح أنه إذا عقد عقد بيع في المسجد قيل له: لا أربح الله تجارتك فإنه لن يقدم على مثل هذا العقد، المدعو عليه بمحق الربح؛ فإنه -ولو ربح- لا خير فيه، كما قال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] فكذلك هذا العقد، وإن كان فيه ربح فهو ممحوق؛ لأنه منهي عنه.
وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله، ويفسحون لنا المجال نوعاً ما، فلو أن إنساناً اشترى من إنسان سلعة، وكان الثمن مؤجلاً، فوجد الثمن عند المشتري، ولقي البائع في المسجد، فهل يجوز له أن يقول: خذ ثمن سلعتك الذي عندي.
أم لا يجوز؟ والجواب: لأن عقد البيع قد مضى، وهنا سداد الدين، وسداد الدين -إن أخلص في النية- عبادة؛ لأنه يخرج من عهدة المطالبة بالدين، فلا مانع من ذلك.
ومثل هذا أيضاً رد الوديعة، فلو أن إنساناً أودع إنساناً آخر وديعة، وأراد المستودَع أن يسافر، وتعذر عليه لقاء صاحب الوديعة إلا في المسجد، فأتى بالوديعة معه ولقي صاحبه، وقال: خذ وديعتك.
فإني مسافر فلا إشكال في هذا؛ لأن المنهي عنه إنما هو التبايع، سواءٌ أكان لمرة واحدة نادرة، أم مراراً قليلة أو كثيرة.


حكم عمل المعتكف صاحب الصنعة داخل المسجد
وهنا مسألة قد يثيرها بعض العلماء، تجدونها في مبحث الاعتكاف، وهي إذا لم يكن للمعتكف رأس مال، وإنما يعيش من صنعته، أو بيعه وشرائه، فهل يجوز له -وهو معتكف- أن يزاول مهنة البيع والشراء، أو يخرج إلى الخارج ويبيع ويشتري ثم يأتي إلى مسجده، أو إلى معتكفه؟ فبعضهم يقول: لا مانع إذا كان في طرف من المسجد.
والجمهور يقولون: لا؛ لأن الحديث لم يفصل.
فإذا كان صاحب صنعة لا يبيع ولا يشتري، ومنها عيشه، ويمكن أن يجمع بين الأمرين حاجته في معيشته، وعبادته في اعتكافه، فبعضهم -كالأحناف أو غيرهم- قالوا: يجوز له إن لم تكن صنعته تقذر المسجد، أو تضيق على الناس، ومثلوا بنسخ الكتب، إذ نعلم جميعاً أنه لم تكن في السابق مطابع، ولكن كانوا يعولون على نسخ الكتاب بأيديهم، فإذا كان الشخص وراقاً، ومشهوراً بخطه، وبكتابته للكتب، واعتكف يكون في معتكفه، وعنده حبره وقلمه وأوراقه، فله أن ينسخ وهو في محله، فإنه لا يقذر المسجد، ولا يضيق على المصلين، ولا يشوش عليهم، فمثل هذا قالوا: لا مانع في حقه؛ لأنه يجمع بين الحسنيين، ولا يضر، ولا يترتب عليه أذى.
وبعضهم قال: هذه الصناعة تابعة للبيع والشراء؛ لأنه يبيع خبرته في كتابته لمن يكتب له.
ويقال: إن كان ذا ضرورة، وليست له مهنة، فلا ينبغي أن يحرم، ما دام يؤدي هذا العمل بعيداً عن التشويش على الناس، ونحن الآن، لو وجدنا طالب علم، جالساً في جانب، أو عند سارية، وعنده مخطوطة يريد أن ينسخ منها، أو ينقل منها فلا غبار في ذلك.
فهذا ما يتعلق بمسألة النهي عن البيع والشراء في المسجد، فعلى كل من سمع أو رأى من يبيع أو يبتاع في المسجد: أن يجابهه بهذه الكلمة (لا أربح الله تجارتك) ؛ لينزجر عن ذلك.
والله تعالى أعلم.


حكم إقامة الحدود في المساجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها) رواه أحمد وأبو داود بسند ضعيف] .
إقامة الحدود من أعظم شعائر الله، وفي بعض الآثار: (إقامة حد في الأرض خير من مطر عشرين -أو ستين- عاماً) ، فإقامة الحدود منزل للبركة والرحمة؛ لأنه تطبيق لشرع الله، والحدود -كما يقولون- منها ما هو محض حق لله، ومنها ما هو محض حق للعبد، ومنها ما هو مشترك بين العبد وربه، كما في السرقة وفي الزنا وفي القذف، وفي شرب الخمر، فكل ذلك عقوبته حد، سواءٌ أكانت الحدود فيها جلداً، كالخمر، وزنا البكر، أو إتلافاً، كالرجم والقطع والقود، والقود حق للإنسان، بمعنى أنه إذا اعتدى إنسان على إنسان -سواءٌ في جراح، أم في نفس- فإن من حق المجني عليه أن يقتاد، أو يقتص من الجاني، وسواء في العضو، أم في النفس، فالحدود على ذاك التقسيم جلد، أو إتلاف، ومهما كانت فلا يقام الحد بالجلد أو بالقطع في المسجد؛ لأنه قد يحدث من المجني عليه، أو ممن يقام عليه الحد -سواءٌ بالجلد أم القطع- ما لا يتناسب مع المسجد، فإنما تقام الحدود على أبواب المساجد، في موضع التجمعات، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] .
وكذلك القود، والقود في النفس بالقصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أما في الجراح فيتفق العلماء على أن القود في الجراح يشترط فيه أن يكون الجرح والاعتداء في مفصل؛ لأن القود في المفصل ممكن، أما إذا كان الجرح في الفخذ -مثلاً- أو في وسط اليد فإنه لا يتأتى فيه قود مماثل؛ لأن القصاص معناه أن تأخذ بحقك دون زيادة أو نقص، كما إذا قصصت الورقة أو الثوب بالمقص، فإن طرفي المقصوص متساويان، ولو مال المقص يميناً أو يساراً لظهر هذا الأثر في جانبي المقصوص، فيكون القص متعادلاً تماماً، سواءٌ في الاستقامة، أم في الأخذ يميناً أو يساراً، ومن هنا إذا كان الجرح في مفصل -كمرفق اليد والعضد والركبة والحقو- فهنا يكون القصاص.
أما إذا كان الجرح، أو الكسر في غير مفصل، فلا يمكن أبداً أن يقتص بكسر، نظير كسر في وسط العظام؛ لأن الكسر الأول قد أخذ شكلاً معيناً، والكسر الثاني -كسر القصاص- لا يمكن أن نضمن أنه بحدوده، وأبعاده، وأجزائه، يكون مماثلاً للكسر الذي سبق، فهنا لا يكون القصاص، وتكون الدية، دية الجرح، أو دية كسر العظم، وهذه كلها مقدرة في كتب الفقه.
فما كان حقاً لله، من الحدود، فلا يقام في المسجد، وكذلك أيضاً ما كان حقاً للآدمين، من قود، وقصاص، فلا يستوفى في المسجد، إنما يكون في الخارج؛ لأنه في الجلد، ربما يحدث من المجلود، في حالة شدة الجلد، ما يخشى منه على المسجد، وكذلك عند القطع، حيث يكون هناك الدم ويتناثر، فلا يناسب أن يكون في المسجد.
وإذا قلنا: إن المسجد موضع الرحمة، وتنزل الرحمات، فلا يمكن أن نجعله موضع النقمة، وموضع التعذيب، وإن كان حداً من حدود الله؛ لكن فيه التعذيب وفيه الآلام، فينبغي أن يكون بعيداً عن حدود المسجد، ويبقى المسجد لطلب الرحمة والمغفرة.
فنهى صلى الله عليه وسلم أن تقام الحدود أو يقتاد في المسجد.
وأما القصاص في مكة فبعضهم يقول: لا يقام حد القصاص في حرم مكة، وحدود الحرم جميعاً؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] ويقولون: نتركه حتى يخرج خارج الحرم، وهناك نقتص منه ونقتله، وإذا لم يخرج قالوا: يمنع من البيع، والشراء، والمعاطاة، ولا يعطى شيئاً حتى يضيق من نفسه، ويخرج يطلب لقمة العيش، فهناك نقتص منه.
والبعض الآخر يقول: قال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] وإذا اعتدى إنسان وقتل إنساناً في الحرم فيكون القاتل هو الذي انتهك حرمة الحرم فنقتله فيه، أما إذا جنى خارج الحرم ودخل لاجئاً إلى الحرم فلا نقيم عليه الحد في الحرم؛ لأنه لم ينتهك حرمة الحرم، بل لجأ إليه يحتمي فيه، وهنا يقول تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] وحرم مكة له أحكامه الخاصة، ويهمنا هنا فيما يتعلق بعموم المساجد في الدنيا وأنه لا تقام فيها الحدود، ولا يقاد فيها بين الناس.
والله تعالى أعلم.


التمريض وحكمه في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصيب سعد، يوم الخندق، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب) متفق عليه] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى قضية سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، وسعد له تاريخ عريض في الإسلام، وكان سيد بني عبد الأشهل، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أصحابه بعد بيعة العقبة، ليعلمهم الإسلام، كان يتتبع الأنصار على مياههم، فجاء إلى ديار بني الأشهل يدعو الناس، فكان سعد جالساً وراء هذا العمل، فأرسل ابن أخته، وقال: اذهب إلى فلان ومن معه، وقل له: فليكف ذلك عنا، ولا يفسد سفهاءنا.
فلما جاء إلى مصعب وصاحبه هددهما وشتمهما، وقال: قوما عنا.
فقال له مصعب رضي الله تعالى عنه: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أعرض عليك الذي جئت به، فإن رضيته وقبلته فبها، وإن لم ترضه، ولم تقبله رحلنا عنك، قال: أنصفت، وركز حربته وجلس.
فقرأ عليه مصعب شيئاً من القرآن؛ فاستحسنه، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يغتسل -أو يتوضأ- ويصلي ركعتين، ويشهد شهادة الحق ففعل، فرجع إلى سعد ومن عنده، فقال من كان عند سعد: والله لقد رجع إليك قريبك بوجه غير الذي ذهب به عنا.
فقال له سعد: ماذا فعلت؟ قال: أمرتهما بما أمرتني به، وعند عودته من عند مصعب قال له: إن ورائي رجلاً لو اتبعك سيتبعك أهل الحي هذا جميعاً.
فكأن سعداً لم يقنع بكلام هذا الرجل، وذهب بنفسه، فلما وقف عليهما أتكاً، ارتكز على حربته، وكلمه بمثل ما كلمه الأول، فأجابه مصعب كذلك بمثل ما أجاب الأول، فقال: أنصفت والله.
فقرأ عليه ما تيسر من القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ فأخبره، وصلى الركعتين، وشهد شهادة الحق، ورجع إلى قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل! كيف ترونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وميمون الطليعة، ومبارك النجيبة،.
إلخ، فقال: والله إن كلامكم رجالاً ونساءً عليّ حرام ما لم تسلموا.
فبات الحي كله مسلماً.
وهكذا كان له رضي الله تعالى عنه شأن عظيم في غزوة بدر، وفي غزوة الأحزاب أصيب بسهم في أكحله، فعز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعد عنه، وأراد أن يكون بجواره من قريب، فضربت له خيمة في المسجد، يُمرّض فيها، وليعوده النبي صلى الله عليه وسلم من قريب، أي: من حجرته إلى المسجد، فرقع جرحه واستراح، فجاءت قضية بني قريظة الذين نقضوا العهد في غزوة الأحزاب، وشدة الأمر على المسلمين حتى بلغت القلوب الحناجر، وفي ذلك الموقف الرهيب الصعب قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ، فمن فوقهم اليهود، ومن أسفل منهم الأحزاب قريش، وغطفان، ومن معهم، وأصبح المسلمون -كما يقال- بين فكي الأسد.
فـ سعد رضي الله تعالى عنه لما أصيب قال: اللهم إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم تكن أبقيت حرباً لقريش فاجعلها شهادة، ثم قال: اللهم أقر عيني في بني قريظة، فلما ذهب صلى الله عليه وسلم وحاصرهم، كان من قصتهم أن طلبوا أن ينزلوا على حكم سعد؛ لأنهم كانوا حلفاءه قبل الإسلام، وظنوا أنه سيرفق بهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم -وهو هناك يباشر الحصار-، وجيء بـ سعد على حمار، فلما وصل، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: قوموا لسيدكم فأنزلوه، فلما أنزلوه قال صلى الله عليه وسلم: لقد نزل اليهود على حكمك يا سعد! فوقف وأشار بيده وقال: أحكمي نافذ على كل من كان هنا؟ قال الجميع: نعم.
وأشار إلى اليهود: تنزلون على حكمي؟ قالوا: نعم.
وأشار إلى الجهة الأخرى بتأدب وقال: ومن هنا؟ قالوا: نعم، فقال: يا رسول الله! أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم -أي: كل من كان قادراً على حمل السلاح- وتسبى نساؤهم وذراريهم، فأخذ اليهود يصيحون، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق) يعني: من فوق السماوات السبع، ونفذ ذلك، فقُتلت المقاتلة، وسُبي النساء والصبيان.
والذي يهمنا أنه في هذه الوقعة -ومعها غزوة الأحزاب- كان لـ سعد رضي الله تعالى عنه موقف نبيل، وكانت حياته كلها لله سبحانه وتعالى، ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلما أصيب عزّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُترك ويُمرَّض في بيته في بني عبد الأشهل، وهم في العوالي، فنصب له خيمة في المسجد وصار يعوده من قريب، فلما انتهى من التحكيم المذكور نقض عليه جرحه في الليل، ومات في الصباح، وأقر الله عينه فيما أراد، وكما يقولون: لما أصبحوا وجدوا دماً وماءً يسيل من تحت الخيمة، فنظروا فإذا بجرحه قد نقض عليه ونزف ومات.
وهنا يقول العلماء: هل ذلك الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم خاص بـ سعد، ومن أجل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده من قريب، أو أننا إذا احتجنا، وحدث -لا قدر الله- مرض، وضاقت المستشفيات، وعجزت الدور المخصصة لذلك فلنا أن نستعمل المساجد مأوى للمرضى؟ الجواب: نعم، مع الحفاظ على أرض المسجد من أن يأتيها شيء مما يكون من المرضى، وإذا كان ولابد فليكن في مكان في جانب من المسجد، ثم بعد ذلك يطهر ما وقع في أرض المسجد.
ويقول المتأخرون: إن من المهام التي أداها المسجد -أو على الأخص المسجد النبوي- مهمة المستشفى العسكري، أي: تمريض من أصيب في القتال داخل المسجد، ويقصدون به قصة سعد رضي الله تعالى عنه، والمؤلف يسوق لنا قصة سعد في باب المساجد ليبين لنا أنه عند الحاجة وعند الضرورة، لا مانع أن يمرض المرضى في المساجد؛ لأنها خدمة عامة، ومصلحة للجميع، فلا مانع من ذلك.
والله تعالى أعلم.


حكم اللعب في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة، يلعبون في المسجد.
الحديث) متفق عليه] .
يأتينا المؤلف بهذا الحديث، أو بهذه القصة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة -أي: رجال من الحبشة- يلعبون في المسجد) وهذا جزء من مشهد كبير طويل، وهو: أنه كان في يوم عيد، فأخذ الأحباش الموجودون بالمدينة، في تلك السنة، يلعبون بحرابهم لعبة القتال، في المسجد النبوي، فرغبت عائشة رضي الله تعالى عنها أن ترى هذه اللعبة؛ لأنها لم ترها من قبل.
وهنا يلبي لها النبي صلى الله عليه وسلم رغبتها، فيقف ويسترها من الناس، وتتمكن من الرؤية، فصارت تَرى ولا تُرى، وقد جاء في خبرها، أنه لما طال وقوفها، قال: أرضيتِ؟ فقالت: لا، أريد زيادة.
ويهمنا في سياق هذا الحديث السماح للأحباش باللعب بتلك الحركات الميدانية في المسجد النبوي، وهل يجوز لنا في الوقت الحاضر أن نفعل ذلك؟ يقولون: إذا كان مجرد لعب، أو لهو، أو مسابقة، أو مناضلة، -أي: مسابقة بالسهام- فلا، أما إذا كانت حركة فيها تدريب على الجهاد، ونوع من أنواع القتال، ومن يراه يستفيد، ومن يزاوله يحسن أكثر، فلا مانع، وفي يوم العيد؛ لأن يوم العيد في الإسلام فيه بهجة وسرور ولعب.
فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل عليها والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على فراشه، وعندها قينتان -جاريتان- تغنيان، وتضربان بالدف، فنهر عائشة وقال لها: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعها -يا أبا بكر -؛ إنه يوم عيد) .
أي: أن يوم العيد يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتى المدينة ولهم أعياد كثيرة، لاسيما اليهود، فكل مناسبة عندهم يتخذونها عيداً، فلهم أيام متعددة، يتخذونها أعياداً إلى الآن، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم -يخاطب المسلمين- يومي عيد خيراً من هذا: عيد الفطر، وعيد الأضحى) .
ويقول العلماء -من باب الالتماس-: جعل الله سبحانه وتعالى العيدين عقب عبادتين عظيمتين، وقد يستأنس الإنسان لهذا من سياق تشريع آيات الصيام، في قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] ، ثم يقال: يسّر الله مع الفرضية والإلزام، فجاءت الرخصة لمن يشق عليه، ثم جاء تعليل التيسير بقوله: (لتكملوا العدة) ؛ لأن التشريع إذا كان شاقاً ملزماً وليس فيه ترخيص يعجز الناس عنه، فإذا كان التكليف شاقاً فمع المشقة رخصة للعاجز، فيمكن للمكلفين أن يكملوا العدة التي كلفوا بها؛ لأن مشقة التكليف يصحبها الترخيص والتخفيف.
ثم قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} يقول بعض العلماء: هو التكبير الذي يكون يوم العيد؛ لأنه جاء بعد إكمال العدة -أي: إكمال عدة رمضان- {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون الله.
فقوله تعالى: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: لأداء الواجب عليكم، وامتثال أمره، فكأنه قال: كلفتم بالصيام فأديتموه، وأكملتم العدة، فهلموا إلى تكبير الله، وإلى بهجة وفرحة العيد، بإكمال هذا التكليف الشاق العظيم.
وكذلك عيد الأضحى بعد الحج، والحج عبادة فيها مشقة، ففيها السفر والتنقل بين المشاعر، والسفر وحده -كما قيل-: لسفر قطعة من العذاب؛ لأن الإنسان يتحمل فيه تغير طبيعة حياته في نومه، وفي طعامه، وفي شرابه، فيختلف عليه نظام حياته في الإقامة، ويتحمل ذلك في سبيل أداء هذه العبادة العظيمة.
ومن هنا كان العيدان -عيد الفطر وعيد الأضحى- بهجة بعد أداء واجب فيه مشقة، فعيد الفطر بعد الصوم، وعيد الأضحى، بعد الحج، ومن هنا رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء القوم أن يظهروا فرحتهم وبهجتهم بما يطيب لهم، وهي -كما يقال- لعبة القتال أو رقصة القتال، فيفعلونها تعبيراً عن شعورهم وفرحتهم في ذلك اليوم، فلا مانع في ذلك.
ويهمنا أنه سمح لهم أن يفعلوا ذلك في المسجد، أما بقية أنواع اللعب فلا يسمح بها، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه البيوت -أو المساجد- لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) ، فكما أن الشعر الذي يخدم الدعوة الإسلامية ويخدم المسلمين مما يوالي ذكر الله؛ لأنه تأييد لهم، فكذلك مثل هذه الحركة ففيها تدريب، وفيها تعليم لمن لم يرها من قبل، وفيها تشويق لمن لم يعرف ذلك، فتكون فيها خدمة دينية، فلا مانع منها، ولا يسمح بها في غير يوم العيد، فهذا ما يؤخذ من هذا الحديث.
وهنا ناحية اجتماعية أخرى، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ستر عائشة حتى لا يراها الناس، وهي رأت الناس ولا يمكنها مشاهدة ذلك إلا بأن تراهم، فهناك فرق بين أن يرى الرجل المرأة وأن ترى المرأة الرجل، ولكن -كما يقولون- الأفضل للطرفين ألا يرى أحدهما الآخر، فهذا هو الأسلم والأفضل، كما جاء في قصة ابن أم مكتوم حيث دخل على بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهن: (احتجبن.
فقلن له: إنه أعمى لا يرانا.
قال: أوعمياوان أنتما؟) فهو لن يراهما لأنه أعمى، وهما سيريانه، وهذا من باب الرفعة أو السمو، أو علو درجات أمهات المؤمنين، فيحملن على أكمل الصور وأكمل الحالات.
والآن -بطبيعة الحال وضرورة الحياة- المرأة تخرج إلى السوق، ولها أن تخرج إلى المسجد، ففي الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، فستخرج من بيتها إلى المسجد، فهل تخرج مغمضة عينها أو ترى الطريق؟! إنها سترى الطريق، والطريق فيها الرجال والنساء، فسترى المار في الطريق، فهذا من الضرورات، ولا يمكن أن نمنعها من رؤية الرجال؛ لأن هذا معناه منعها من الحركة خارج بيتها، مع أنه يجوز لها أن تخرج إلى قضاء حاجتها، حتى المعتدة لها أن تذهب في النهار لتقضي حاجتها وترجع، ويكون مبيتها في بيتها.
فهذه ضرورة، ولا يمكن القضاء عليها، وليس هناك بديل عنها.


كتاب الصلاة - باب المساجد [5]
إن المساجد شعار المسلمين، وما من مسلم إلا ويتردد عليها أو يكثر المكث فيها، لذلك فقد شرعت آداب وأحكام للمساجد حتى يُحافظ على نظافتها وتكريمها، ومن ذلك: أنه يجوز للمرأة أن تتخذ بناءً في المسجد فتأوي إليه وذلك عند الحاجة، ومن أحكام المساجد أيضاً: أن تصان عن الأقذار لاسيما البصاق، وبخاصة إذا كانت أرضية المساجد كما هو الحال اليوم (مفروشة) فلا يشرع للمسلم أن يبصق إلا في طرف رداءه أو في منديل.


تابع أحكام المساجد


حكم مكث المرأة في المسجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة: (أن وليدة سوداء كان لها خباء في المسجد، وكانت تأتيني تتحدث عندي.
الحديث) متفق عليه] .
هذه المرأة -سواء أكانت هي التي تقم المسجد، أم كانت امرأة غيرها- جعل لها خباء في المسجد تأوي إليه، ويقال أيضاً: هذا في حالة الضرورة، وقد وجدنا بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ضربن لأنفسهن الخيمة في المسجد ليعتكفن، وذلك لما استأذنت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتكف معه، وضربت لها خيمة، فقام بعض الزوجات الأخريات، ونصبن خيمة، فلما غدا صلى الله عليه وسلم إلى معتكفه رأى ثلاث خيام منصوبة، فقال: ما هذا؟! قالوا: فلانة وفلانة وفلانة ضربن خياماً ليعتكفن قال: (آلبر ترون بهن؟) -يعني: الذي حملهن على هذا هو البر وفعل الخير، أم المنافسة فيما بينهن؟ ثم قال: (قوضوا خيمتي) فقوضوا خيمته، ولم يعتكف تلك السنة، وقضى اعتكافه بعد ذلك في شوال، وهل كان بصوم أو بغير صوم؟ لم يثبت في ذلك شيء، ولم يعلم العلماء كيف كان اعتكافه بعد ذلك.
وعلى هذا يجوز عند الحاجة إقامة خباء لامرأة في جانب من المسجد بعيداً عن الرجال، ولا مانع من ذلك، وهذا الذي ساقه المؤلف من أجله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.


حكم البصاق في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) متفق عليه] .
من آداب المسجد ما تقدم في أول حديث من هذا الباب: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) ، وجاء في حديث سمرة -وهو من أحاديث (المنتقى) الذي شرحه الإمام الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار-) : (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا) ، وهذا يوضح معنى الدور؛ لأنهم قالوا: الدور قد تكون جمع دار، وقد يكون المراد بها الديار.
فحديث سمرة فيه: (أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا، وأن نحسن صنعتها) يعني:تكون في حالة حسنة، وليست في حالة رديئة أو حالة ليس فيها اعتناء، بل علينا أن نحسن صنعتها، فإذا أمر بحسن صنعة المسجد ففي هذا تعظيم للمسجد، واحترام للمسجد، وهو داخل ضمن قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ، فالمساجد بيوت الله وشعائره، وسيأتي الكلام على تشييد المساجد، وعلى زخرفتها، والحديث فيه مقال.
قوله: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) .
يقف العلماء أمام هذا الحديث من جانبين، فما دام أن البصاق خطيئة فلماذا تتعمد ارتكاب الخطيئة؟ بل اتركها، فإذا وقعت اضطراراً فليكفر عما ارتكبه اضطراراً، بأن يدفنها في التراب إذا كان المسجد تراباً، وقد جاء الحديث أيضاً: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق تلقاء وجهه؛ فإن الله تلقاء وجهه، ولا عن يمينه فيؤذي جاره، ولكن عن يساره وتحت قدمه) ؛ لأنه يستطيع بقدمه أن يدفنها.
وجاء في الحديث الآخر: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق كذا وكذا، ولكن يفعل كذا، وأخذ صلى الله عليه وسلم طرف ردائه وبصق فيه، ثم دلك جانبيه) ؛ وذلك ليتشرب الرداء رطوبة البُصاق، وهذا في حالة ما إذا كان المسجد تراباً، وقد كان المسجد تراباً، كما جاء في خبر ليلة القدر: (.
وأريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين) ، قال الراوي: فأمطرت السماء ليلة كذا، ووكف المسجد، وكان السقف من الجريد، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ماء وطين -يعني: أثره-، ولقد رأيت أثر الطين على أرنبة أنفه، فكانت أرضية المسجد من تراب، وبعد ذلك أتى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالحصباء -وهي: الرمل الخشن- بأطراف أرديتهم، ويأتي كل واحد منهم إلى مكانه في موقفه من الصف، ويفردها ويقعد عليها، حتى تم فرش المسجد بالحصباء، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم هذا) .
وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ الخمرة ليصلي عليها في المسجد، ويختلفون في معنى الخمرة، فبعضهم يقول: هي القطعة من سعف النخل التي تكون على قدر صلاة الإنسان.
وبعضهم يقول: بل هي على قدر ما يسجد عليه بكفيه وجبهته وأرنبة أنفه، فيكون بعض جسمه على التراب، أو على شيء آخر.
والخمر ما يخمّر الوجه، أي: يغطيه.
ويذكر مالك في الموطأ عن وقت يوم الجمعة أنه كان لـ جعفر بن عقيل أو غيره طنفسة عند الجدار الغربي، فإذا علاها الفيء أذن المؤذن، أو جاء الإمام للخطبة، فكان توقيت الجمعة بعد الزوال؛ لأن ظل الجدار الغربي قبل الزوال يكون إلى الغرب؛ لأن الشمس ما تزال في الشرق، فإذا ما زالت عن كبد السماء إلى الغرب، انتقل الظل أو الفيء إلى الشرق، فإذا امتد الظل عند الجدار الغربي إلى الشرق حتى يغطي طنفسة -وهي سجادة صغيرة- دخل وقت الجمعة.
فكانوا يتخذون الفرش والخمر والطنافس ويصلون عليها، وكان بقية المسجد في تراب.
والأولى بالإنسان ألا يبصق في المسجد، لا في الصلاة ولا في غيرها تطهيراً للمسجد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، وسيأتي إن شاء الله، والقذاة: القشرة الصغيرة يخرجها من المسجد تطييباً وتنظيفاً للمسجد، والمرأة التي كانت تقم المسجد قد تقدمت قصتها مراراً.
فالبصاق في المسجد خطيئة، ومن هذا نعلم أنه لا ينبغي التعمد؛ لأنه لا يحق لإنسان أن يأتي الخطيئة عن عمد ولو كانت صغيرة، فإن إصراره عليها يحولها إلى كبيرة؛ لأن فيها امتهاناً للمسجد، إلا إن اضطر، خاصة إذا كان في الصلاة، ولا يستطيع أن يذهب يميناً ولا يساراً، ومن هنا نعلم ضرورة حمل المنديل مع الإنسان؛ لأنه بدلاً من أن يجعلها في ردائه ويبقى برداء فيه البصاق فالأولى أن يكون المنديل في جيبه فيبصق فيه، ثم بعد ذلك يغسله، وغسله أيسر من غسل الرداء.
والآن تطورت الأمور، فبعد أن كانوا يسمونه منديل اليد أو منديل الجيب، ويغالون في جنسه من حرير أو من خز، ويشتغلون فيه النقوش أصبحت مناديل الورق تجزئ عن هذا كله.
ففي هذا الحديث تأكيد لما تقدم في أول الباب أن من حق المساجد أن تنظف، وأن تطيب، فإن وقع من إنسان بغير اختياره أن بصق، وكانت الأرض تراباً فإنه يدفنها حتى لا تؤذي غيره؛ لأنها إذا بقيت على وجه التراب، وجاء إنسان وجلس، أو وطئها بقدميه سيتأذى، فدفنها يجنب الآخرين إيذاءها، وهذا -كما أشرنا- تتمة وتأكيد، لأول حديث ورد في هذا الباب، وتقدمت الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة في بعض المساجد فحتها بيده، أو حتها بحجر، ولا نزاع، فهو أخذ الحجر بيده وحتها، فلا مانع، ثم قال: (لا يصلين بكم هذا الإمام بعد اليوم) ، فكانت هذه النخامة في جدار القبلة موجبة لعزله عن الإمامة؛ لأنه ما عظم حرمة القبلة، وانتهك حرمة المسجد وهو القدوة، فينبغي أن يكون على أمثل ما يكون في احترام المسجد وتوقيره.


المباهاة في المساجد وحكمها
قال رحمه الله: [وعنه -أي: عن أنس - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) أخرجه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة] .
هذا الحديث يعده العلماء من علامات الساعة السابقة، أو الصغرى، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل أن تقوم الساعة يتباهى الناس بالمساجد بكثرتها وفي صنعتها.
ويقول بعض العلماء: ما ضيع الناس دينهم إلا تباهوا بالمساجد وزخرفوا المصاحف.
وجاء عن بعض السلف: يقيمون المساجد ولا يصلون فيها، ويزخرون المصاحف ولا يقرءون فيها.
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: يتخذ أحدهم السجاد والسبحة والمصحف قنية وزينة، فالسجادة لا يصلي عليها، والسبحة لا يسبح الله بها، والمصحف لا يقرأ فيه، إنما هذه -كما يقال- عادة.
ويذكر علماء الأدب أن في بعض البلاد كانت هناك المنافسة في العلم، وفعلاً كانت تلك البلد -كما يقال- مهبط علم، وتخرج منها كبار العلماء، فكان عوام الناس يتشبهون بالعلماء، ويريدون أن يحاكوا حالة العلماء؛ لأن العلماء كانت لهم عزة وكرامة، فكان الأغنياء يتشبهون بالعلماء، فلربما لبس الواحد منهم لبس العلماء، ثم يقتني مكتبة في بيته، ويعنى بها في شكلها وتجليدها، وتصبح كالتحفة، وهو لا يعرف شيئاً مما فيها، وهمه أن يقال: فلان عنده مكتبة صفتها كذا.
لأن هذا من شأن العلماء، فهذه مباهاة في المكتبات، وزي العلماء، وكذلك التباهي بالمساجد.
فقد يكون هناك مسجد في حي، فتأتي جماعة جديدة، وتبني لها مسجداً، ويقولون: كما أن لهم مسجداً فنحن أيضاً صار لنا مسجد، وتأتي جماعة أخرى غير الذين تقدموا وتقيم لها مسجداً مع عدم الحاجة لذلك، فليست بينهما مسافة كبيرة، وليست هناك مشقة، والمسجد الأول يسع الجميعفهذه مباهاة، والفضيلة في هذا للأقدم، أي: في حالة المنافسة.
وهكذا تصبح المساجد في معرض المنافسة في شكلها، ولكن الله سبحانه وتعالى ما جعل المساجد ليتفاخر بها الناس، وإنما جعل إعمار المساجد لذكر الله، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36-37] .
وعلى هذا إذا وجدنا من يتباهى بالمسجد، وزاد فيه سعة أو رفعة أو تشييداً منافسة لغيره، فقد دخل في هذا الحديث، وهو المباهاة بالمساجد.
ويذكرون عن بعض المذاهب -وهو معروف- أن إمام المذهب يجيز ذلك، ويقول: إنه من باب تكريم المسجد والعناية به، وكما يحتفي الإنسان ببيته يحتفي ببيت الله.
لكن بيت الإنسان لمعيشته ولنومه وجلوسه وأمور دنيوية، وبيوت الله ليست من هذا القبيل.
وبعضهم أيضاً يستدل بعموم الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة) إلا أن المثلية نحن لا نعرفها على حقيقتها؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وبناية الجنة غير بناية الدنيا، كما في حديث خديجة رضي الله تعالى عنها لما جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقرئ خديجة السلام، وبشرها يبيت في الجنة من قصب -أي: من لؤلؤ- لا تعب فيه ولا نصب) ، فقصب من لؤلؤة واحدة، وأين بناء الجنة من بناء الدنيا؟! وقد جاء في بعض الروايات: (ولو كمفحص قطاة) ، والقطا طائر معروف أقل من الحمامة، وأكبر من العصفور، إذا أرادت أن تبيض تفحص الرمل حتى تجد مكاناً تجعل بيضها فيه، ومفحص القطاة لا يسع القطاة نفسها، فكيف يكون محلاً للصلاة؟! فالمثلية يعلمها الله سبحانه وتعالى.
فقالوا في حديث: (بنى الله له مثله في الجنة) لا مانع أن يزخرف ويحسن، حتى يكون البيت الذي يبنيه الله له في الجنة مثله.
فهل الله يكون خسراناً إذا كان البيت الذي سيبنيه الله له في الجنة مثل المسجد الذي بناه هو في الدنيا؟ فنعيم الجنة فوق التصور، أتنزل به إلى مثلية الدنيا! لقد ضيعت على نفسك الشيء الكثير، دعه لكرم الله.
والحديث هنا: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد -أو في المساجد-) فتكون المباهاة في أي شكل من أشكاله، في سعته، وفي ارتفاعه، ونوع بنائه، وزخرفته، فكل هذه الأشياء هي موضع المباهاة، أما إذا كانت المباهاة في كثرة صلاتهم فيه وإعماره بذكر الله، فهذه منافسة حميدة، فلو أن أهل كل ديار نافسوا الآخرين فقالوا: نحن مسجدنا يصلي به عشرون صفاً، ويصلي به ألف مصل، ومسجدكم لا أحد يصلي فيه، فهذه تكون منافسة في الخير، وليست مباهاة.
فهذا الحديث بمنطوقه يحذر من المباهاة في المساجد، وبمفهومه النهي عن ذلك، فلا ينبغي أن تُجعل المساجد موضع مباهاة، كما يتباهى الناس في بناء الفلل والعمائر، ونوع السيارة الفاخرة؛ لأنه ينقل المساجد عن موضوع رسالتها لذكر الله وما والاه إلى أمور أخرى لأغراض شخصية.
والله تعالى أعلم.