شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة - باب
صلاة الجمعة [1]
صلاة الجمعة شعار عظيم في الإسلام، ولذلك اختلفت عن بقية الفرائض، فاختصت
باشتراط الجماعة لها والعدد المعين والمكان، وغير ذلك.
التحذير من ترك
الجمعة وبيان وجوبها
تاريخ المنبر النبوي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله
عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:
(لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن
من الغافلين) ] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى عن هذين الصحابيين الجليلين أنهما سمعا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لينتهين أقوام) ، وكان يمكن أن يأتي الحديث
على صورة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لينتهُنَّ) ،
ولكنهما أتيا بصورة مصورة مشخصة، حتى لكأن السامع ينظر إلى صورة إلقاء
الرسول صلى الله عليه وسلم فيها على المنبر، فأتيا بهذه الصورة المجسمة
أمامنا وكأننا في حمى منبر رسول الله، أو بجواره نصغي السمع إليه صلوات
الله وسلامه عليه.
وهذا الأسلوب من أساليب التأكيد والتوثيق؛ ليوثقا للسامع أنهما سمعا وضبطا
الحديث بملابساته واقعاً وفعلاً، فليس هو مجرد سماع أو نقل عن غيرهم، بل هو
سماع مباشرٌ على أعواد منبره، أي: أنه قاله في جمع من المسلمين ملتفين حول
المنبر، فكان هذا مشهوراً متواتراً عظيم الشأن سمعه الجميع.
وقولهما: (على أعواد منبره) تحقيق للواقع أيضاً؛ لأن المنبر أول ما صنع من
أعواد، وكما جاء في تاريخ المنبر أنه صنع في السنة الثامنة من الهجرة بعد
وقعة خيبر، وكان من شأنه أيضاً أنه كان مدرسة، فهذا المنبر صدر عنه ما لم
تصدره أعظم منصة جامعية في العالم، فكم من قضية عالجها رسول الله على
المنبر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه إذا حزب أمرٌ أو استجد أمرٌ قال:
(احضروا المنبر) فيحضرون إليه.
وقد صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقام للصلاة ثم ركع وهو على الدرجة
الثالثة، ثم نزل القهقرى فسجد سجدتين، ثم رجع إلى المنبر، وهكذا، ثم قال:
(صلوا كما رأيتموني أصلي) ، فاستخدم المنبر منصة لتعليم الناس كيفية
الصلاة، وهي أهم شيء في الدين، وهكذا كثيرٌ من القضايا، وكنت أتمنى أن أجد
طالب علم جامعي يتتبع قضايا المنبر النبوي وما عولج عليه من قضايا، فيقدمها
إلينا أثراً لهذا المنبر الشريف.
ويكفي في تاريخه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ أو يستند على جذع من
جذوع النخل؛ لأن المسجد في أول بنائه قبل أن يجدد في السنة السابعة كان من
جذوع النخل وجريده، فكان بعض أجزائه في القبلة يستند إليه النبي صلى الله
عليه وسلم، فلما كان يطوّل قيامه جاءت امرأة من الأنصار وقالت: يا رسول
الله! إن لي غلاماً صناعاً -أي: نجاراً- ائذن لي أن آمره فيصنع لك منبراً
تجلس عليه وأنت تخطب فأذن لها، وفي مدة ثمان سنوات ما خطر على بال أحد أن
يصنع منبراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يطلب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذلك لكونه طلباً لنفسه، فمجيئه من غيره أفضل، فذهب الغلام وأخذ
أعواداً من الغابة بالمدينة، وجاء وصنع المنبر من أعواد، وكان ثلاث درجات،
درجة يصعدها، ودرجة يقف عليها، ودرجة يجلس عليها، وهكذا ظل المنبر إلى أن
احترق في حريق المسجد الأول، وبالله تعالى التوفيق.
فكان صلى الله عليه وسلم يخطب على الجذع بادئ الأمر، ثم صنع المنبر ووضع في
مكانه اليوم، ومن الحكمة أن المنبر في موضعه لم يتحرك شرقاً أو غرباً، ولا
شمالاً ولا جنوباً، ولكن امتد طوله من الجنوب إلى الشمال؛ لأنه الآن أصبح
فوق عشر درجات أو اثنتي عشرة درجة، فالامتداد كان إلى الأمام، وأما صدر
المنبر وظهر المنبر من القبلة فهو بالأصبع في مكانه الأول.
ثم صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ليخطب، فما أن بدأ الخطبة على
المنبر والجذع في مكانه حتى حنَّ الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى
سمع جميع من في المسجد حنينه كحنين الناقة العشراء.
فيا لها من معجزة! جذع له ثمان سنوات مقطوع من أصله ملقىً على الأرض أصبح
جماداً يحنّ لرسول الله ويسمع الجميع حنينه.
ومن هنا قال السيوطي رحمه الله: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأعطي النبي
صلى الله عليه وسلم مثلها.
فمعجزة موسى عليه وعلى نبينا السلام العصا يتوكأ ويهش بها الغنم، قال تعالى
لموسى: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ
تَسْعَى} [طه:19-20] ، فانقلبت من جماد يابس إلى حيوان تهتز كأنها جان، أي:
لشدة حركتها وسرعتها، قال تعالى: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} [طه:21] .
وضرب بها البحر ليكون فيه طريق في البحر يبسٌ.
فإن كان موسى أعطي حياة العصا بمعجزاتها فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم
حياة الجذع يحنّ ويسمع الجميع صوته، وعصا موسى ما تكلمت ولا سمع لها صوت،
لكن كانت لها حركة، فهذه المعجزة تساوت مع معجزة موسى عليه السلام، وهناك
أشياء عديدة.
فينزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر إلى الجذع، ويربت عليه ويضمه إلى صدره
كما تفعل الأم بطفلها، ويقول: (أنت مخيّر: إن شئت أخذتك وأعدتك إلى
البساتين وغرستك وعدت نخلة تثمر وتينع، وإن شئت دفنتك هاهنا وكنت من غرس
الجنة) ، فقال: (أكون من غرس الجنة) ، فالجذع يؤمن بالجنة وأصحاب العقول
المغلقة لا يؤمنون بها!! فيدفنه صلى الله عليه وسلم بأصل المنبر في الروضة.
فهذه قضية المنبر، وهاهو أبو هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدثان
أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على أعواد منبره.
ومن فضائل هذا المنبر قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة
من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) ، والترعة لا يعلم عرضها
وطولها ومصبها إلا الله تعالى، فهي أمر غيبي أخبر به النبي صلى الله عليه
وسلم وهو الصادق المصدوق، ويكفينا أن الجذع آمن بالجنة وأحب أن يكون من
أهلها.
صلاة الجمعة فرض عين
ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ) -فأكد الفعل، ولم
يسم أحداً، والأقوام: جمع قوم (عن ودعهمُ) أي: تركهم (الجمعات) ، وفي لفظ:
(الجمعة) بالإفراد، والجمع جاء فيه أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات بغير
عذرٍ طبع الله على قلبه) ، فجاء التحذير من ترك الجمعة مرة واحدة، وجاء
التحذير من ترك الجمعة ثلاث مرات، فحديث الباب يقول فيه صلى الله عليه
وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم
ليكونن من الغافلين) ، فهم إما أن يتركوا ذلك، أو يكون الجزاء الختم على
القلوب.
وهذا -والعياذ بالله- من وصف المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {خَتَمَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] ، فهو وعيد شديد يتوعد به النبي صلى
الله عليه وسلم الذين يتركون الجمعة، فإما أن ينتهوا عن تركهم الجمعات،
وإما أن يكون العقاب الختم على قلوبهم، والقلب إذا ختم عليه يكون الأمر ما
جاء في قوله سبحانه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] .
يقول العلماء: إذا أذنب العبد ذنباً ولم يستغفر منه نكت في قلبه نكتة
سوداء، ثم لا يزال يذنب وتأتي نكتة إلى نكتة حتى يغلف القلب ويصبح كالكوز
مجخيا لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
فإذا ختم على القلب شبه بالإناء الذي ختم فوه فلا يسمح بدخول خيرٍ ولا يخرج
منه شرٌ؛ لأنه ختم على الشر فلا يخرج الشر منه ويظل صاحبه في شرٍ دائماً،
ولا يدخل الخير إليه لأنه لا طريق لدخوله، فهذا وعيد شديد لمن لم ينته عن
ترك الجمعة.
والقلب هو محل الذكر، وهو محل التذكر، وهو محل الإدراك، وهو محل الارتباط
بالله سبحانه وتعالى، فإذا ختم عليه صار غافلاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر
منكراً، وحينئذٍ تكون البهائم خيراً منه؛ لأن قلوبها تدرك، ويكفي أن الجذع
أدرك وآمن بأن هناك جنة.
وقد جاء في فضل يوم الجمعة من رواية مالك في الموطأ: (وما من دابة إلا
وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر حتى شروق الشمس إشفاقاً من يوم القيامة)
، فالبهيمة في يوم الجمعة تصيخ بسمعها من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس
مخافة يوم القيامة.
فالحيوانات تؤمن بالبعث، وتؤمن بيوم القيامة وتنتظره، وتعلم أنه في يوم
الجمعة، وهؤلاء -عياذاً بالله- إذا ختم على قلوبهم لا يدركون شيئاً من ذلك،
وأصبحوا من الغافلين.
الوعيد الشديد لا يكون إلا على ترك واجب.
ولذلك نقول: إن صلاة الجمعة فرض عين عند الأئمة الأربعة، وإن وجد من بعض
أتباع بعض الأئمة من يقول بغير ذلك فمردود عليه من علماء مذهبه.
وهناك من يقول: صلاة الجمعة سنة مؤكدة، وهناك من يقول: فرض كفائي إذا قام
به البعض سقط عن الباقين، وكل من قال شيئاً من ذلك فإن من علماء مذهبه من
يرد عليه، ويأتي بنصوص الإمام بأن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم، وكما
في صحيح مسلم: (صلاة الجمعة فرضٌ على كل من سمع النداء) ، ثم يأتي هذا
العموم فيخصص منه المرأة والعبد والمريض والمسافر فتسقط عنهم الجمعة، وإذا
كان الأمر كذلك فليس هناك مجال للتساهل فيه.
وأجمعوا على أن الجمعة هي فريضة يومها وليست نيابة عن الظهر، ولكن من فاتته
صلاة الجمعة بشروطها ولا يستطيع أن يتداركها؛ لأن الجمعة يشترط فيها المسجد
والجماعة والعدد والخطبة، فإذا فاتت فإنه لا يستطيع أن يأتي بخطيب يخطب له،
ولا بعدد من الناس يصلون معه، فلم يبق إلا أن يصلي الظهر لعجزه عن الجمعة
وإدراك ما فات منها.
وقد يستغرب إنسان أو يريد الاطلاع على الرد على من يقول بأن الجمعة سنة
مؤكدة أو فرض كفائي أو غير ذلك، والجواب عليه من علماء مذهبه، فليرجع إلى
تتمة أضواء البيان عند آية الجمعة فإنه سيجد ما تيسر من النقول من كل مذهب
ممن يقول بالوجوب، ومن يقول بغير ذلك، والرد عليه من أئمة مذهبه بذاته،
وبالله تعالى التوفيق.
وقت صلاة الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل
به) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
هذا شروع في بيان وقت الجمعة، فيقول سلمة: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به) .
ومن المعلوم أن الظل قسمان: ظلٌ قبل الزوال يمتد إلى الغرب، وظل بعد الزوال
يمتد إلى الشرق، فيقول: ننتهي من الصلاة ونخرج وليس للحيطان ظل، أما ظل
الغرب الذي قبل الزوال فليس بموجود، وأما ظل الشرق الذي بعد الزوال فلم
يوجد بعد فيكون هذا في وقت الزوال.
والمصنف يأتي بهذا لأنهم يبحثون في وقت الجمعة، فهناك من يقول: الجمعة عيد
من أعياد المسلمين، فوقتها وقت صلاة العيد إلى ما بعد الزوال.
والجمهور يقولون: إن وقت الجمعة هو بعينه وقت الظهر، والظهر لا يجب ولا يصح
إلا بعد الزوال وهذا من أدلة الجمهور على هذا التوقيت، أي: أنها بعد الزوال
كما هو الحال في الظهر.
وهذا الحديث يبين أموراً تقريبية؛ لأن ظل الزوال عند الجمهور يختلف باختلاف
فصول السنة، فهو في الشتاء يختلف عنه في الصيف، فإذا تساوى الليل والنهار
فإن ظل الزوال يتلاشى، وإذا طال النهار يطول الظل، وإذا قصر النهار يقصر
الظل -أي: ظل الزوال- ولذا يقول الفقهاء في توقيت العصر: هو حين يصير ظل كل
شيء مثليه ما عدا ظل الزوال، فظل الزوال أمرٌ نسبي، فقد يطول وقد يقصر،
ولكن الراوي يبين لنا تقريبياً متى كانوا يصلون الجمعة.
[وفي لفظ لـ مسلم: (كنا نجمع معه إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء) ] .
هذه رواية صحيحة، ومعنى: (كنا نجمع معه) يعني: كنا نصلي الجمعة مع النبي
صلى الله عليه وسلم، ثم ننصرف نتتبع الفيء، والفيء: هو الظل بعد الزوال
تقول: فاء إلى الشيء: إذا رجع إليه، ولذا قالوا الظل بعد الزوال فيء؛ لأنه
قبل الزوال كان الظل إلى الغروب، وبعد الزوال فاء ورجع إلى الشرق.
[وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)
متفق عليه] .
هذا يعتبر صورة من صور المجتمع في ذلك الوقت فقوله: (ما كنا نقيل) أي: نوم
القيلولة، (ولا نتغدى) الغداء: الأكل في غدوة النهار.
وفي وبعض الروايات: (ولا نريح رواحلنا -أي: التي تعمل في البساتين- إلا بعد
الجمعة) ، وهذا فيه إشارة إلى التبكير قبل الزوال، ولكن لما جاء النص:
(نجمع بعد الزوال) انتهينا من هذا الإشكال.
فقوله: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) ، وفي رواية: (في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم) يبين لنا أن هذا العمل كان في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو الذي كان يصلي بهم الجمعة
ولا جمعة إلا في مسجده وبإمامته صلى الله عليه وسلم، فهذا هو التوقيت الذي
نقل إلينا من فعله صلوات الله وسلامه عليه، ونعلم جميعاً أن الجمعة في عهده
صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين جميعاً ما تعددت، ولا أقيمت إلا
في هذا المسجد النبوي الشريف، حتى إن أهل العالية وما وراءها كانوا يأتون
إلى الجمعة في هذا المسجد، ولم يسمح لهم بجمعة في ديارهم، ولا على مياههم.
العدد الذي تنعقد به
الجمعة وخلاف العلماء فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم: (كان يخطب قائماً، فجاءت عيرٌ من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم
يبق إلا اثنا عشر رجلاً) رواه مسلم] .
شرح حديث جابر وآية
الجمعة في حضور التجارة والانفضاض عن الخطبة
هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه يبين لنا أمرين: الأمر الأول: أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، وسيوضح المؤلف رحمه الله تعالى كيفية
هذا القيام والجلوس بين الخطبتين.
والأمر الثاني من هذا الحديث ما يتعلق بمجيء العير -والعير: هي الإبل تحمل
البضاعة- فانفض الناس إليها، وانفتلوا أو انصرفوا إليها، ولم يبق إلا اثنا
عشر رجلاً، وهذا الجزء من هذا الحديث هو موضوع عدد من تنعقد بهم الجمعة،
والأصل في هذه القضية ما أشار إليه المؤلف رحمه الله بمجيء العير وقت
الخطبة، وكانت الخطبة في ذلك الوقت بعد الصلاة، كما هو الحال في العيدين،
وقد بيّن القرآن الكريم هذه الواقعة، ثم وضحها النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلال العلماء بعدد اثني عشر رجلاً هو لما جاء في هذا الخبر أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما رأى منهم ذلك قال: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم
الوادي ناراً) ، فقالوا: إن أقل ما دفع عنهم أن يسيل بهم الوادي ناراً هو
العدد اثنا عشر رجلاً، وعليه فلا تنعقد الجمعة بأقل من اثني عشر رجلاً، أما
مناقشة هذا العدد فستأتي بعد الكلام عن الآية الكريمة في قوله سبحانه:
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ
قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ
التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] فقوله تعالى في
هذه الآية الكريمة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11]
كان من عادة أهل المدينة إذا قدمت عير بتجارة أن تدق لها الطبول إيذاناً
بقدومها، فيحضر التجار ومن يريد الشراء، فصادف مجيء تلك العير قيام الرسول
صلى الله عليه وسلم في خطبته، فما ظن أولئك الذين انصرفوا عن رسول الله أنه
بقي عليهم واجب الانتظار؛ لأنهم لما صلوا الجمعة حسبوا أن الجلوس لسماع
الخطبة من باب النافلة وليس بلازم عليهم، وهذا هو المظنون بأصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وذلك دفعاً لما يتوهمه متوهم، وما يغمز به أصحاب
الأهواء بأن الذين انفضوا من المنافقين.
وقد يستدل لما يقوله أصحاب هذا الرأي بما جاء بعد سورة الجمعة، حيث جاء
الحديث عن المنافقين، وهذا ليس بصحيح، لكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما انقضت الصلاة، ولم يبق إلا الخطبة ظنوا أنه ليس عليهم حرج في أن
ينصرفوا ما داموا قد أدوا الصلاة.
ونلاحظ هنا قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً}
[الجمعة:11] ، وهم في المسجد لم يروا، واللهو لا يرى، وإنما يسمع، ولكن
التعبير شمل الإدراك؛ لأن الرؤية أقوى أنواع الإدراك.
كما أنه ذكرت التجارة واللهو، وأعيد الضمير على مفرد أحد الأمرين المذكورين
وهو التجارة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا}
[الجمعة:11] ، ولم يقل: (إليهما) .
ولم يقل: (إليه) ، بل قال: (إِلَيْهَا) ، وضمير التأنيث هنا عائد على
التجارة، فقالوا: لما كانت التجارة هي الأصل واللهو تابعاً لها للإعلام
عنها كانت هي الأهم، فعاد الضمير عليها، ويلاحظ نظير ذلك في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] ، فلم يقل:
(ينفقونهما) أو (ينفقونه) فأعاد الضمير على الفضة.
وهنا يتساءل إنسان: الذهب أهم من الفضة، فلم لم يعد الضمير عليه، أو عليهما
معاً؟ والجواب: أن هذا من بلاغة القرآن وإعجازه؛ لأنا لو نظرنا إلى الكنز
عند الناس لوجدنا أكثر من يكنز هم أصحاب الفضة؛ لأن الفضة أكثر تناولاً
وأرخص قيمة، ويمكن أن يكنزها الغني والفقير كما يقال، لكن الذهب مختص بكبار
الأغنياء، فكان الوعيد في كنز النقدين، فإذا توجه إلى الأقل كان الأكثر من
باب أولى، فعود الضمير على أحد المتماثلين المقترنين يكون لسرٍ في هذا
التعبير، وقد تبين لنا في الذهب والفضة عود الضمير على الفضة؛ لأنها أكثر
شمولاً؛ ولأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الذي يكنز
الفضة متوعداً فالذي لا ينفق الذهب من باب أولى.
وهنا كانت التجارة هي الأصل، واللهو إنما هو تابع لها للإعلام عنها، فرجع
الضمير إليها.
انظر إلى ما بعدها في المغايرة، حيث قال تعالى {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ
خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ} [الجمعة:11] ، فقدم هنا اللهو
على التجارة؛ لأن المنفضين جاء بهم سماع اللهو، وهو دق الطبول، فقال تعالى:
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ}
[الجمعة:11] أي: التي خرجتم من أجلها، واستدعاكم إليها سماع اللهو.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، أي: إن كنتم
تطلبون الربح والرزق في هذه التجارة وتركتم رسول الله قائماً فما عند الله
ببقائكم عند رسول الله تستمعون إليه خير: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
[الجمعة:11] .
أقوال العلماء في
العدد الذي تنعقد به
ويهمنا في هذا الحديث أن المؤلف رحمه الله وغيره يسوقونه للاستدلال على أن
أقل ما تنعقد به الجمعة اثنا عشر شخصاً.
أما موضوع المسألة من حيث هي فكما يقول الشوكاني وابن حجر نفسه في فتح
الباري وغيرهما: تعددت الأقوال والمذاهب فيها إلى نحو عشرين قولاً.
ولكن ينبغي التنبيه على ما هو الواجب في هذا المقام؛ لأننا وجدنا أقوالاً
منها ما هو بين الأئمة الأربعة رحمهم الله، ومنها ما هو خارج عن كلام
الأئمة الأربعة، ولولا ما حصل من الالتباس على بعض طلبة العلم في هذه
القضية ما أوردنا كل التفصيلات فيها، ولكن سبق أن نبهنا على هذا الموضوع في
تتمة أضواء البيان عند هذه الآية الكريمة.
يقول العلماء: اختلف الناس فيمن تنعقد بهم الجمعة، واختلفوا فيمن تسقط عنه.
أما بمن تنعقد فإن الجمهور يسقطونها عن المرأة، ويختلفون في العبد، ويتفقون
في المريض، ويختلفون في المسافر، فهم أربعة أصناف: العبد والمرأة والمريض
والمسافر، فالبحث في العدد خارج عن هذه الأصناف الأربعة؛ لأنها موضع خلاف.
فهناك من يقول: تصح بالواحد كصلاة الفرض؛ أي: كالصلوات الخمس.
ولولا وجود هذا القول ما كان للتنبيه عليه مكان، ولا يساوي الحبر الذي كتب
به.
وهناك من يقول: تنعقد باثنين، كأقل ما تنعقد به الجماعة في الصلوات الخمس،
وهذا يلحق بالذي قبله.
وهناك من يقول: تنعقد بثلاثة حتى قيل: المؤذن والإمام وشخص ثالث.
وهناك من قال: بثلاثة سوى الإمام ويقولون: قال تعالى: {إِذَا نُودِي
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] ، والواو هنا
للجماعة أو للجمع، وأقل الجمع ثلاثة.
وهناك من يقول: بأربعة.
وهناك من يقول: بعشرة.
وهناك من يقول: باثني عشر.
وهناك من يرجع إلى العدد الذي بقي في هذه الواقعة، وهو اثنا عشر، أو
ثمانية، أو أربعة عشر.
وهناك من يقول: عشرون رجلاً ويعزونها رواية لـ مالك.
وهناك من يقول: أربعون رجلاً وهو مذهب الشافعي مصرحٌ به.
وهناك من يقول: ليس في انعقاد الجمعة ووجوبها عدد محدد، وإنما تجب على كل
جماعة استوطنوا قرية، ويقومون بشئون أنفسهم، ويستطيعون الدفاع عن أنفسهم
مما يرد عليهم من أعداء، وهذا هو القول الثالث عن مالك رحمه الله.
مناقشة أدلة
القائلين بتحديد العدد الذي تنعقد به الجمعة
ويتفق العلماء على أنه لا يوجد نصٌ صحيح صريح يحدد عدد الذين تجب عليهم
الجمعة وتصح منهم، ولذا يرجح عامة الفقهاء ما ذهب إليه مالك رحمه الله.
وكذلك نرجع إلى وجهة نظر من قال بالثلاثة كما أشرنا، وبعضهم يعزو ذلك لـ
أبي يوسف ومحمد، أو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهذا غير صحيح.
والذين قالوا بثمانية أو بعشرة أو باثني عشرة يختلفون في العدد الذي بقي
عند سماع اللهو والتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، فمن ثبت
عنده ثمانية، قال: أقل ما يكون ثمانية.
ومن ثبت عنده عشرة قال بالعشرة، ومن قال: كانوا اثني عشر قال: أقله اثنا
عشر.
والجواب عمن استدل بذلك بإجماع الأصوليين وعلماء الحديث، حيث يقولون: هل
الرسول قال لا تصح إلا باثني عشر؟ إنما قال: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم
الوادي ناراً) .
فهؤلاء أخذوا من ذلك أن أقل ما يقع به الواجب -وهو انعقاد الجمعة- هذا
العدد الذي بقي، ويقولون: إنها قضية عين؛ إذ كان من الممكن أن يبقى عشرون
أو ثلاثون أو خمسة، فليست هناك قاعدة، وليس هناك ما يفهمنا ويوحي إلينا بأن
عدداً معيناً كان ينبغي أن يبقى.
فما دامت هذه الاحتمالات قائمة فلا ينبغي التعويل على اعتماد العدد الذي
بقي أنه أقل ما تنعقد به الجمعة، أما الذين قالوا بأربعين فلأنه العدد الذي
كان في أول جمعة جمعت بالمدينة، وفي سبب إقامة أول جمعة اختلاف.
فقيل: بسبب مصعب بن عمير، وقيل غيره، وقيل: إن المهاجرين الأولين قبل أن
يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رأوا اليهود يجتمعون في يوم سبتهم
ويقرءون الزبور، فقالوا: لو اتخذنا يوماً نجتمع فيه ونذكر الله! فاجتمعوا
وصلوا ركعتين وذكروا الله، فسموا ذلك اليوم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فقيل
لبعضهم: كم كنتم؟ قال: كنا أربعين رجلاً، فقالوا: هذه أول جمعة أقيمت
بالمدينة وكان العدد أربعين! فيقال أيضاً: هل هذا تحديد من النبي صلى الله
عليه وسلم؟ فإن هذا العدد الذي حصل كان يمكن أن يزيد ويمكن أن ينقص، فكونه
صادف وجود أربعين رجلاً ليس بحجة ولا دليل على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة
أربعون رجلاً، بل في بعض الروايات أن الذي جمع لهم ذبح لهم شاة فتغدوا
وتعشوا منها.
وأعتقد أن الشاة لا تكفي لغداء وعشاء أربعين رجلاً ولا عشرين رجلاً،
فالمسألة تدور على تقدير العدد.
وناحية أخرى هي لو سلم أنهم كانوا أربعين، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم
قال: إذا اجتمعتم أربعين فصلوا الجمعة؟ وبعض الروايات فيها مقال، وقد جاء
أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم من مكة أن اجتمعوا أو اتخذوا يوماً
تجتمعون فيه تذكرون الله، فاتخذوا ذلك اليوم، ولم يحدد عدداً، فالذين قالوا
بواحد أو بثلاثة ليس لهم إلا استدلال لغوي لا دخل له في الأحكام الشرعية.
ومن قال بالعشرة أو بالثمانية أو بالاثني عشر كل ذلك مرتبط بقضية الذين
انفضوا عن رسول الله وبقي هو في المسجد يخطب، والذين قالوا بعشرين أو قالوا
بثلاثين -كما روي ذلك عن مالك رحمه الله- إنما اختلفوا في العدد.
وكذلك الذين قالوا بأربعين، فقد بنوا على أول عدد انعقدت أو صليت به
الجمعة، قالوا: الذين حضروا آنذاك كان عددهم أربعين رجلاً، وعلى هذا لم يكن
في تحديد العدد نصٌ صحيح صريح في أي ديوان من دواوين السنة.
القول الراجح في
العدد الذي تنعقد به الجمعة
بقي القول الأخير، وهو لـ مالك رحمه الله، وهو المروي عنه والثابت في
مذهبه، وهو أن الجمعة تجب على كل جماعة مستقرة، بخلاف البدو الرحل، وبخلاف
الجماعة المسافرين، بدلالة يوم عرفة؛ حيث توفر عدد كبير في يوم حجة النبي
صلى الله عليه وسلم قُدِّر بأكثر من عشرة آلاف حاج، ومع ذلك لما لم يكن
مستقراً، ولم يكن مقيماً، وكان له حكم المسافر ما صلى الجمعة، وكانت الوقفة
يوم الجمعة.
فمن تنعقد بهم الجمعة هم قومٌ استوطنوا قرية، أي: البيوت الثابتة، وبعضهم
يشترط ألا يكونوا في الخيام، أي: أن تكون البيوت مبنية ثابتة في الأرض ليست
للرحيل حينما تأتي الحاجة.
فإذا اجتمع جماعة يمكنهم الدفاع عن أنفسهم إذا هجم عليهم وحش أو غيره،
فإنهم يعتبرون أهل قرية مقيمين، وحينئذٍ يقول مالك رحمه الله: إن كثروا أو
قلوا فإن عليهم صلاة الجمعة ما داموا لا يرحلون صيفاً ولا شتاءً.
مكان إقامة صلاة
الجمعة
مسألة المكان الذي تقام فيه صلاة الجمعة: الأحناف يقولون: لا تجب في قرية،
بل تجب في المدن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى جمعة في قرية.
والجمهور يقولون: قد تطلق القرية على المصر، بل إن مكة المكرمة سميت بـ (أم
القرى) ، وكذلك أول جمعة أقيمت بعد الجمعة في المدينة كانت في (جواثاء) وهي
قرية من قرى البحرين، بجهة الأحساء اليوم، فأقيمت هناك جمعة وهي قرية.
وعلى هذا فمما يشترط للجمعة الموطن الذي تكون الإقامة فيه، وكما يقول
المالكية: قد تكون القرية صغيرة ثم تنمو وتكبر حتى تصير مدينة، فإذا ثبت
الاستقرار والإقامة ثبت شرط صلاة الجمعة.
وهناك من يقول: لا اشتراط للمكان ولا للتقري، فإذا وجد جماعة في خيام رحّل:
كبعض المعسكرات، أو بعض التجمعات الكشفية أو نحو ذلك، فعليهم الجمعة،
والجمهور يقولون: لا جمعة عليهم.
والذين يقولون: عليهم الجمعة يختلفون في العدد المشترط من ثلاثة إلى اثني
عشر كما تقدم.
والذي ينبغي أن يعلم أن سياق القرآن الكريم يدل على ما ذهب إليه الأئمة
الأربعة من اشتراط وجود القرية، والمقيمين فيها، ولوازم الإقامة؛ لأن جمهور
الأئمة الأربعة يقولون: لابد في موطن إقامة الجمعة من حاكم ومن سوق قائم،
ومعنى السوق: المحلات التجارية للبيع والشراء التي يمكن لأهل تلك القرية أن
يأخذوا منها ضرورياتهم وحوائجهم، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى،
والأئمة رحمهم الله ما جاءوا بهذا من فراغ من عندهم، وإن لم يأتِ نص صحيح
صريح في هذا الموضوع، ولكنهم أخذوه استنباطاً من كتاب الله، والذي نقوله
دائماً: إنه يجب على كل إنسان قبل أن يرى الرأي في نفسه في حكم شرعي أن
يرجع إلى أقوال العلماء، وأن يقف على مستندهم في هذا القول.
فلو تأملنا في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] لوجدنا أن كلمة
(فَاسْعَوْا) ليس معناها السعي الذي بمعنى الجري، بل إن الحديث يقول:
(فأتوها وعليكم السكينة والوقار) ، فالسعي هو الأخذ بأسباب التوجه إلى
الجمعة، كقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} [البقرة:205]
أي: أخذ بالأسباب {لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة:205] .
وقال الشاعر: سعى ساعي غيظ ابن مرة بعدما تبذل مع عشيرته بالدم أي: سعى
بالصلح بين القبيلتين وتقول: فلان سعى بالنميمة بين اثنين، وفلان سعى
بالصلح بين المتخاصمين، أي: أخذ في أسباب هذا الأمر حتى أتمه، فقوله تعالى:
(فَاسْعَوْا) أي: تهيئوا، ومن السعي للجمعة الاغتسال، وتغيير الثياب، ومس
الطيب، والتبكير إليها.
ولأجل قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] قال الذين
قالوا تنعقد بثلاثة تتحقق تلك الصورة بمنادٍ ينادي وذاكرٍ يُذكِّر وساعٍ
إلى هذا الذاكر يسعى لذكر الله، فيكفي الثلاثة لتقام به الجمعة.
والآخرون قالوا: الصورة كاملة وليست جزئية؛ لأن في السياق قوله تعالى:
{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي:
اتركوا البيع، فهل هذا الأمر بترك البيع والنهي عن الاشتغال بالبيع والشراء
يوجه إلى واحد؟ فالمنادي موجود، وذاكر الله موجود، والنداء وجّه لغيرهما
ليتركوا البيع، والبيع أقل ما يقع من طرفين بائع ومشترٍ.
فهذا الأسلوب لا يتوجه إلى شخص واحد، بل ولا إلى اثنين، ولا إلى ثلاثة،
إنما يتوجه إلى حركة تجارية فيها أخذ وعطاء وبيع وشراء، ثم يأتي بعد ذلك
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]
، ثم قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ،
وهل الانتشار يكون من واحد أو اثنين أو ثلاثة أو خمسة؟ فالانتشار معناه:
النشور بمعنى الاتجاه في كل جهة، فواحد يتجه إلى الغرب وآخر للشمال.
؛ لأن الانتشار يدل على العدد الوفير الذي ينتشر إلى جهات متعددة.
فقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ.
} [الجمعة:10] ، هذه الضمائر فيه كلها لا تكون لواحد او اثنين أو ثلاثة!
فلابد أن يتحقق عندنا وجود الأماكن التي تستقر فيها التجارة ويؤخذ فيها
بالبيع والشراء.
وهؤلاء المتبايعون المشترون بشر يقع بينهم الخلاف؛ إذ الأسواق هي مواضع
الشجار والخلاف، كما قيل: المساجد بيوت الله والأسواق بيوت الشياطين؛ فهناك
الخلاف، وهناك النزاع، فهذا النزاع الذي يقع بين المتبايعين من الذي يفضه؟
وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] .
فالخلطاء وهم أصحاب الأغنام الذين يختلطون عند الرعي يقع بينهم نزاع، فما
بالك بأصحاب السوق، فهذا ميزان راجح، وهذا غشَّ فيه، وهذه سلعة مغشوشة،
فقالوا: السوق يحتاج إلى حاكم يفض النزاع، وهذا الحاكم من شروط هذا التجمع،
بل جاء في الحديث: (إذا كان ثلاثة لم يؤمروا عليهم أميراً استولى عليهم
الشيطان) ، فلا بد من وجود شخصٍ يرتضيه الجميع يكون المرجع إليه عند
النزاع، فإذا اجتمعت قرية واجتمع سوق وبيع وشراء فلا بد من أمير، فشرط
الفقهاء أن توجد قرية فيها سوق فيها أمير.
وهكذا نجد أن النص القرآني الكريم في سياق هذه القضية يؤخذ منه ما توصل
إليه الأئمة الأربعة رحمهم الله من ضرورة وجود قوم مقيمين، أو من ضرورة
إقامة الجمعة في القرية المستقرة التي لها سوق وفيها أمير -أي: حاكم- يحكم
بين الناس، وعلى هذا فإقامة الجمعة في البساتين، أو في الخلوات، أو في
أماكن التنزه، أو في غير ذلك فإنها على خلاف كتاب الله، وخلاف ما عليه
الأئمة الأربعة، وخلاف ما عليه أصحاب السنن الست، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجمعة [2]
مما يدل على أهمية صلاة يوم الجمعة أن لها آداباً وأحكاماً ينبغي مراعاتها
والالتزام بها، فمن الآداب: التطيب والاغتسال والتجمل والتبكير ونحوها.
ومن الأحكام: ما تدرك به صلاة الجمعة، وما ينبغي أن يتصف ويلتزم به الخطيب
من كيفية إلقاء الخطبة، وتناسب مقدمتها مع صلب موضوعها، واشتمالها على
معاني الترغيب والترهيب ونحوه.
من آداب يوم الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
الاغتسال ليوم
الجمعة وحكمه
فإن مما يتفق عليه العلماء أن للجمعة آداباً، ومن ذلك الاغتسال ليوم
الجمعة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل
محتلم) ، يعني: بلغ سن الحلم؛ لأن المحتلم بالفعل يجب عليه الغسل في أي يوم
أو ليلٍ.
وهنا بيان لمن بلغ سن الحلم أن عليه أن يغتسل يوم الجمعة، وقد جاء في بعض
الروايات أو بعض الأحاديث: (حقٌ لله على كل مسلمٍ أن يغتسل يوماً في
الأسبوع) ، وإذا كنا نحن المسلمين نقول: إن هذا الدين الحنيف يفرض النظافة
فرضاً، لأن لله حقاً على كل مسلم أن يغتسل يوماً في الأسبوع يغسل رأسه
وجسمه بهذا النص؛ فهذا إلزامٌ يلزم الدين به أبناءه، فلا يمضي أسبوع إلا
ويغتسل فيه نظافة لله سبحانه، وجاء سن الاغتسال في الشرع لكل ما فيه تجمع،
كما جاء للعيدين، وجاء لدخول مكة، وجاء للوقوف بعرفات، إلى غير ذلك مما فيه
تجمع المسلمين.
وجاء أيضاً من رواية مسلم: (أن الناس كانوا خدمة أنفسهم قبل أن تأتيهم
العلوج -أي: الأسارى في الفتوحات- فكان الواحد منهم يأتي بالعباءة فيصيبه
الغبار، فيعرقون فتكون منهم الروائح، فدخل رجل على النبي صلى الله عليه
وسلم فوجد منه هذا الريح -وفي رواية عائشة أن السقف كان ضيقاً منخفضاً
فيضيق بهم المسجد ويعرقون- فقال صلى الله عليه وسلم: (حقٌ لله على كل مسلم
أن يغتسل) .
والحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) تمسك به من قال بوجوب الغسل،
وقال: لا تصح الجمعة إلا بالغسل) .
وبعضهم قال: الفرض في الغسل يقع في هذا اليوم قبل الجمعة أو بعدها، فالمهم
هو الغسل، وأغفل الحكمة التي من أجلها شرع الغسل، فإنه إنما شرع الغسل لمن
يحضر اجتماع المسلمين، فإذا لم يغتسل عند اجتماعه بهم وذهب واغتسل بعد
العصر، فالأمر وإن كان مشروعاً في ذاته لكن لم يؤد الغرض منه.
تقول أم المؤمنين: (فلما فتح الله عليهم وجاءتهم العلوج وكفتهم المئونة
اكتفي بالوضوء) ، وجاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن
اغتسل فالغسل أفضل) ، فمن آداب يوم الجمعة الاغتسال.
التجمل للجمعة ولبس
أحسن الثياب
ومن آدابها أيضاً التهيؤ لها بحسن المظهر، قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] أي: التهيؤ بما هو أليق، وما فيه
التجمل، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوبين
للجمعة -أو ثوباً للجمعة- سوى ثوبي مهنته) .
فالفلاح يكون عنده ثوب يزرع ويسقي فيه، والجزار يكون عنده ثوب يذبح ويقطع
فيه، وهكذا الحداد والنجار، فكل إنسان في مهنة تتعلق بالثياب يتخذ ثوباً
خاصاً بالمهنة، أما إذا جاء للجمعة، فيجب أن يكون عنده عناية بالجمعة خاصة
في لباسه، وهذا مما يتحتم على المسلمين، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه أنه وجد حلةً عند باب المسجد تباع، فأتى بها إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! اشتر هذه لتتجمل بها ... ) وكانت عنده
البردة يخطب بها الجمع والعيدين.
وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: (أحب لطالب العلم بياض الثياب) ؛
لأن فيها النقاء، وفيها الجمال، وفيه -كما يقال- الفطرة، وجاء عنه صلى الله
عليه وسلم: (من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومس من طيب أهله) ، والأهل دائماً
يحتفظون بالطيب، وقد يحتفظ الإنسان بنوع من الطيب، فهذا زيادة في التجمل،
وزيادة في الرفق والإمعان، وكما جاء في الأدب المفرد للبخاري: (حسن السمت
من الإيمان) أي: من علامات إيمان الإنسان عنايته بسمته وبمظهره.
وعلى هذا تكون العناية بالمظهر يوم الجمعة في اللباس والبدن من آداب
الإسلام.
التبكير لصلاة
الجمعة
ومن الآداب التبكير إلى الجمعة في الساعة الأولى أو الثانية أو الثالثة.
، وعلى هذا تكون للجمعة آداب قبلها وآداب عند حضورها.
ما تدرك به الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة أو غيرها فليضف إليها أخرى
وقد تمت صلاته) رواه النسائي وابن ماجة والدارقطني واللفظ له، وإسناده
صحيح، لكن قوى أبو حاتم الإرسال] .
هذا الحديث حكمه بالنسبة للجمعة متوافق، ولكن الإشكال في لفظة [أو غيرها] ؛
لأن هذا مغاير للواقع، فإذا أدرك ركعة من العصر وأضاف إليها أخرى لم تتم
صلاته، وإنما يصدق هذا على الجمعة فقط، ولفظة [غيرها] أعتقد أنها ليست في
الروايات، أو أن فيها مقالاً في زيادتها أو عدم زيادتها، والذي يهمنا هنا
ما تدرك به الجمعة؟ هذه هي المسألة الفقهية.
وقد تقدم لنا أن من أدرك شيئاً مع الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة، بل
إنه جاء في شأن آخر الوقت: (من أدرك من العصر ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد
أدرك العصر) ، وجاءت رواية: (من أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن تغرب الشمس فقد
أدرك العصر) ، فالجمهور على أن من أدرك الإمام في الجماعة قبل أن يسلم فقد
أدرك الجماعة، والمالكية لهم رأي في اشتراط الركعة كاملة، ولكن الجمهور على
خلاف ذلك.
وأما الجمعة فالجمهور على أن من أدرك من الجمعة ركعةً كاملة فقد أدركها
وتدرك الركعة إذا أدرك الإمام في الركوع، قبل أن يرفع رأسه من الركوع فيكون
قد أدرك الركعة، وهذا رأي الجمهور، بخلاف من يقول: قد فاتته القراءة، وعلى
هذا الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، فرأيهم أن من أدرك
ركعةً من الجمعة فليضف إليها أخرى ويكتفي بالركعتين، وقد سقط فرض يومه وهو
الجمعة.
والخطبة تكون قبل الصلاة، وهذا لم يدرك الخطبة، فهل يكون مدركاً للجمعة
أيضاً؟ والجواب: نعم؛ لأن الخطبة انتهت قبل الصلاة وانتهى الأمر، ويستدلون
بما جاء عن أمير المؤمنين عمر في رواية مالك في الموطأ أنه كان يخطب، وفي
أثناء الخطبة دخل رجل، فقال: أي ساعة هذه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما
لبثت أن سمعت النداء فتوضأت فجئت قال: والوضوء أيضاً! فقالوا: لو كان سماع
الخطبة واجباً لأفهمه، كما لو كان الغسل واجباً لأفهمه، واكتفى منه بما
أدرك من الخطبة، واكتفى منه بما أوقع من وضوء.
وسيأتي حكم الغسل والوضوء للجمعة فيما بعد، ويهمنا أنهم مجمعون على أن من
فاتته الخطبتان، وفاتته ركعة كاملة، وجاء وأدرك الإمام في ركوعه وركع معه،
واطمأن معه بقدر ما تحسب له الركعة فإنه يقوم بعد سلام الإمام ويأتي بركعة،
أي: يضيف إليها أخرى وقد تمت جمعته، وهذا هو الحد الأدنى.
ومع ذلك فقد جاء الحث على التبكير، كما في الحديث: (من راح في الساعة
الأولى فكأنما قرب بدنة ... ) إلخ.
والحد الأدنى الذي ذكرناه في إدراك الجمعة قال به مالك والشافعي وأحمد،
وقال الأحناف: تدرك الجمعة بما تدرك به الجماعة.
فمن أدرك الإمام قبل أن يسلم ودخل معه في الصلاة فقد أدرك الجمعة، فليقم
وليصل ركعتين، بل هناك قولٌ عندهم بأنه لو قدر أن الإمام سها في صلاته وسجد
للسهو، وجاء المتأخر فأدرك الإمام في إحدى سجدتي السهو قبل أن يسلم أدرك
الجمعة، ولكن هذا الحديث الذي صححه ابن خزيمة أو النسائي وغيره فيه: (من
أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى) ، فهل الذي لم يدرك من الجمعة ركعة
له حكم من أدركها؟ فمفهوم المخالفة أن من لم يدرك ركعةً كاملة لا يكفيه أن
يضيف إليها أخرى؛ لأن الحديث يقول: (من أدرك من الجمعة ركعة) ، فهذا الحديث
دليل للجمهور، وهو خاص بموضوع الجمعة.
فإذا لم يدرك الركعة فالأئمة الثلاثة يقولون: إذا أتى والإمام قد رفع من
الركوع في الركعة الثانية فإنه يدخل معه، وإذا أتى في التشهد يدخل معه،
ولكن يقوم فيأتي بأربع ركعات.
والمشكلة أنه إذا دخل مع الإمام في صلاة الجمعة ونوى جمعة، فالجمعة لم تحسب
له، وإن نوى ظهراً غاير نية الإمام، وهذا إشكال، ولذا قال الأحناف: أنتم
أتيتم بهذا الإشكال، فدعوه يدركها بالتشهد أو بغيره.
والجمهور يقولون: هي عبادة توقيفية، فيدخل معه موافقة له في نية الجمعة،
فإذا سلم الإمام انفصل عنه وجدد نية الظهر.
وهناك مسألة يثيرها بعض الناس، ونسمع التساؤل عنها كثيراً، وهي: مسألة من
لم يحضر الجمعة كمريض ومسافر ونسوة في البيوت، ومن العجب أن نسمع بعض الناس
يقولون: نصلي ركعتين؛ لأنهما فريضة اليوم، فأخذوا بهذا وتركوا لوازم الجمعة
الأخرى كالجماعة والخطبة، ولهذا أجمع الأئمة الأربعة ومن وافقهم على أن من
لم يصل الجمعة مع الإمام في المسجد، فإن فريضته صلاة أربع بنية الظهر.
وأما هل الجمعة نيابة عن الظهر، أو الظهر نيابة عن الجمعة؛ فقد قدمنا بأن
الأئمة الأربعة يقولون: إن الجمعة هي فرض يومها.
فإن قيل: كيف يصلي هؤلاء الظهر على أنه فرض يومهم؟ فيقال: من توفرت فيه
شروط الجمعة صار فرضه الجمعة، ومن لم تتوفر فيه شروط الجمعة بقي على الأصل،
والأصل هو الظهر، ولا نزاع في ذلك ولا خلاف، والله تعالى أعلم.
آداب خطبة الجمعة
وصفتها
قيام الخطيب في خطبة
الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه
كان يخطب جالساً فقد كذب) أخرجه مسلم] .
هنا بيان صحيح صريح في كيفية الخطبة أو الهيئة، وهو أنه صلى الله عليه وسلم
كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم ويخطب، وهنا يقولون: هل خطبة الجمعة
خطبتان، أم أنها خطبة واحدة مفصولة بجلسة خفيفة؟ والصحيح أنهما خطبتان كل
خطبة منها مستقلة، أي: يشترط في الثانية استيفاء شروط الخطبة كما يشترط في
الأولى.
وقالوا: هذا الخبر إنما هو إخبار عن فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا
القائل رأى بعض الخطباء -وكان خليفة من الخلفاء- يخطب قاعداً، فنظر إليه
وكلّمه وقال: كيف تخطب قاعداً؟ فمن أنبأك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يخطب قاعداً فقد كذب على رسول الله وكذب عليك! وابن مسعود رضي الله عنه لما
رأى خطيباً يخطب وهو جالس قرأ الآية: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11]
وهذا استدلال بما وقع من القرآن الكريم يحكي حالة أداء النبي صلى الله عليه
وسلم للخطبة، وهو أنه كان قائماً.
وهنا ناحية أخرى، وهي أن المشهور عند الناس أن الخطبة تحتاج إلى شيء من
إيقاظ الضمير أو النفس، أو التأكيد على الموضوع الذي يتناوله الخطيب،
فيحتاج إلى أهبة، ومن هنا كان عندهم أن الخطيب يكون على نشز من الأرض
مرتفع؛ لأن ذلك أدعى لانتشار الصوت، أو على راحلة، وأيضاً يعتمد إما على
عصا وإما على قوس.
فالخطبة لا تتأتى مع الجلوس؛ لأن القاعد لا يملك حماس القائم، ولا يعطي
صورة الاهتمام بالموضوع كالذي يقوم يتكلم وهو قائم.
ومن العجائب أنه زارنا أخ مسئول في بعض دول أفريقيا، فسألته عن طالب كان في
الجامعة وذهب إلى هناك قائلاً: كيف حال فلان؟ فنهض قائماً، فقلت: ما بالك؟
قال: لا يحق لي أن أتكلم عن فلان وأنا جالس، بل أقوم قائماً لأتحدث عنه،
فقلت في نفسي: هذه مسألة على الفطرة، فالقيام في الخطبة دليلٌ على الاهتمام
بالموضوع، ولهذا نبه هذا الرائي من رآه من الخلفاء يخطب قاعداً.
ويقولون -والله تعالى أعلم-: أول من خطب قاعداً معاوية رضي الله عنه،
ويعتذرون له بثقل جسمه وكبر سنه، والله تعالى أعلم.
من صفات خطيب الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى
كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب
الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) رواه
مسلم.
وفي رواية له: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله
ويثني عليه، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته) ، وفي رواية له: (من يهد
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، وللنسائي: (وكل ضلالة في النار)
] .
لقد كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب في مناسبات عديدة، فكان يخطب في
الجمعة، وفي العيدين، وفي الاستسقاء، وفي غير ذلك، ومنها ما هو للتوجيه
والإرشاد، وإذا حدث شيء جديد قال: (احضروا المنبر) ، فيجتمعون عند المنبر
فيخطبهم فيما يريد أن يبين لهم.
وهنا يبين لنا جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب
يوم الجمعة احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه.
فهذه الصفات الثلاث مجموعة تدل على الحماس وعلى الانفعال مع موضوع الخطبة،
وبدونها يقل الحماس ويقل الانفعال، وكما قالوا: كلما كان الخطيب متفاعلاً
مع موضوعه كان ذلك أدعى لانتباه السامع، فيتفاعل معه.
وأضف إلى ذلك ما تقدم من أنه كان يخطب على منبر، وكان يخطب قائماً، وكان
يتكئ على عصا أو على قوس، فإذا اجتمعت الهيئة من القيام فوق منبر، والاتكاء
على عصا أو على قوس، مع كونه تحمر عيناه ويعلو صوته ويشتد غضبه، فماذا يظن
أن ينتظر السامع؟ إنه يوقن بأن الأمر جد؛ لأن المتكلم أخذ الأهبة بصعود
المنبر، والاتكاء على ما يشعر بالقوة من عصا أو قوس، ثم يتفاعل حتى تحمر
عيناه، واحمرار العينين -كما يقولون- مرتبط بالقلب وبالدماء، فإذا ما علا
الدم في القلب ظهر أثره في العينين، ثم نتيجة لذلك الغضب واحمرار العينين
من شدة الغضب يرتفع الصوت، ولا يمكن لإنسان أن يكون شديد الغضب يتكلم بصوت
منخفض؛ فإنه يصطحب مع شدة الغضب ارتفاع الصوت.
ولهذا لما تشاح رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وغضب أحدهما فاحمرت
عيناه وانتفخت أوداجه وعلا صوته، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمات
لو قالهن لذهب عنه ذلك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، فلما سمعها شخص أو
صحابي ذهب إليه وقال: قل كذا، قال: لست بمجنون، والذي حمله على هذا الرفض
شدة غضبه.
ولا نقول لكل خطيب إن عليه أن يغضب وأن تحمر عيناه وأن يعلو صوته، بل نقول:
إن الخطيب مع موضوع الخطبة يجب أن يكون متفاعلاً، أما إذا لم يكن متفاعلاً
معه، بمعنى أن يخطب الناس في موضوع هو لا يوقن به، أو لا يرغب فيه، أو لا
يؤمن بنتائجه فهذه خطبة فاشلة، أما إذا كان موقناً بها، ويسعى إلى تحصيلها،
ويتمنى حصولها وتنفيذها فإنه يتكلم من قلبه، وما كان من القلب وصل إلى
القلب.
ويبين لنا جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة
كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ومنذر الجيش شخص يطلع على جيشٍ قادم على
قومه فيسبق الجيش، ويأتي إلى القوم، ولضيق الوقت يقول: صبحكم ومساكم، أي:
إما أن يصبح عندكم أو يمسي عليكم، وهذا من باب الاختصار والإيجاز؛ لأن
الوقت لا يتسع لأن يطيل الكلام فيخبرهم بأن الجيش الفلاني عدده كذا، ويأتي
من جهة كذا، ويصل في وقت كذا، وسرعته كذا، فلا مجال لهذا، ولكن يكفي أن
يقول: صبحكم الجيش، أو: مساكم الجيش.
فهذه الحالة يذكرها لنا جابر رضي الله عنه فيما كان يظهر على النبي صلى
الله عليه وسلم حال الخطبة.
ثم يأتينا بما سمع في بعض الخطب، أو ما كان يسمع مما يرد عنه صلى الله عليه
وسلم في افتتاح الخطبة.
وكما يقول علماء البلاغة أو علماء الأدب: يجب أن تكون للخطبة مقدمة تنبئ عن
موضوعها، فإذا كان يريد أن يحث الناس على عمارة مسجد فليأت بحمد الله
والثناء عليه، ثم ببيان فضيلة المساجد، فيقول: الحمد لله.
إلخ، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18] ، وأصلي وأسلم على النبي
المختار الذي قال: (من بنى لله مسجداً ... ) ، ثم يدخل إلى الموضوع.
وموضوع الخطبة أولاً وآخراً عماده الوصية بتقوى الله والنصيحة، أما
المواضيع الخاصة فتكون في غير خطبة الجمعة، فإذا اعتمدها الخطيب ورأى أن
يدعو الناس إليها لما فيها من مصلحة عامة دينية وأخروية فذلك جائز، لا أن
تكون دنيوية، فإذا كانت دنيوية ولها اتصال بما تئول إليه من ثواب وعقاب فلا
مانع من ذلك.
فإذا كانت الخطبة ذات مواضيع خاصة لا تكون في الجمعة، كما جاء عنه صلى الله
عليه وسلم في قضية بريرة لما جاءت وطلبت من عائشة أن تعينها، فقالت لها:
(إن شئت دفعت لأهلك القيمة كلها وأعتقتك ويكون ولاؤك لي! قالت: أشاور.
فذهبت ورجعت وقالت: إنهم يأبون إلا أن يكون الولاء لهم، وكان النبي صلى
الله عليه وسلم قد حضر، فأخبرته عائشة رضي الله عنها تعالى عنها فقال:
(اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم ما شاءوا، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو
باطل) ، ثم خطب الناس فقال: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا، كل شرط ليس في
كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط) .
وبالمناسبة ليس المراد بكل شرط ليس في كتاب الله عين هذا الشرط، فليس في
كتاب الله اشتراط أهل بريرة على أن يكون الولاء لهم، ولكن المعنى: كل شرط
خالف ما جاء في كتاب الله فهو باطل، وهو ليس في كتاب الله، ولكن الشرط الذي
جاء به كتاب الله مما فيه استيفاء الحقوق لا مانع منه، وجاء في الحديث: (إن
أحق ما استوفيتم من الشروط ما استحللتم به الفروج) ، و (كل شرط جائز إلا
شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) ، فكل شرط أحل حراماً فليس في كتاب الله،
وكل شرط حرم حلالاً فليس في كتاب الله؛ فهو باطل.
فالخطبة تستعمل للتوجيه العام وللتوجيه الخاص، وخطبة الجمعة الهدف الأول
منها الوصية بتقوى الله، والموعظة، وإحياء القلوب، وبيان ما هو أنفع للناس،
وتذكيرهم بعد النسيان، وهذا من خصائص الإسلام.
فالإسلام بذاته يدعو ويذكر، ومن هذا التذكير خطبة الجمعة، فإنها مفروضة على
الأمة، فالدعوة والوعظ والإرشاد من لوازم هذا الدين، وألزم ما يكون فريضة
يوم الجمعة، ويشترط لها الخطبتان، وبعضهم يقول: الخطبة الأولى إنما هي
للموعظة والوصية على ما سيأتي في بيان أركان الخطبة إن شاء الله، والخطبة
الثانية إما أن تكون تتمة وتفصيلاً لما أجمل في الأولى، وإما أن تكون
بالدعاء لعامة المسلمين، ودعاء الله سبحانه لولاة الأمور بالصلاح والفلاح.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجمعة [3]
اشتملت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على أحكام مهمة ذكرها الفقهاء في
بيان ما ينبغي أن يلتزم به الخطباء، وبعضهم جعلها من أركان الخطبة، ومن
ذلك: البدء بالحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى، ثم الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم، ورفع الصوت، والإرشاد إلى الهدي الصحيح، والتحذير من
البدع والضلالات.
شرح حديث جابر في
صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد
غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الحديث
كتاب الله) ] .
ابتداء الخطبة
بالحمد والثناء على الله
كلام جابر فيه شيء من الإيجاز أو الاختصار، وقوله: (إذا خطب) ، أي: إذا شرع
في الخطبة.
ويتفق العلماء على أن الخطبة ينبغي أن تبدأ بحمد لله، ويقولون: إن الخطيب
يبدأ بالسلام على المصلين، فإذا سلم عليهم جلس وقام المؤذن وأذن الأذان
الذي هو إشعار بدخول الوقت، وقد يسبقه أذان آخر قبل الوقت -وهذا هو الغالب-
للتنبيه، وهو أذان عثمان رضي الله عنه، وهو خليفة راشد أنشأ هذا الأذان
إشعاراً لأهل السوق؛ لينتبهوا لدخول الوقت، فينقلبوا إلى بيوتهم ليتهيئوا،
وليسعوا إلى الجمعة.
وقد يقول قائل: وكيف أنشأ عثمان هذا الأذان ولم ينشئه أبو بكر ولا عمر رضي
الله عنهم أجمعين؟ فيقال: سيأتي في باب الغسل يوم الجمعة أن عمر رضي الله
عنه كان يخطب، فدخل رجل -وسماه في الموطأ أو غيره بأنه عثمان رضي الله عنه-
فقال عمر: أية ساعةٍ هذه؟ يعني: لم تأخرت؟ وقد جاء في بعض الروايات: (لم
تحبسون عن الصلاة؟) ، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أن سمعت الأذان حتى
توضأت وجئت، فقال: والوضوء أيضاً! فهنا رأى عثمان رضي الله عنه أن الاشتغال
في السوق -كما وقع له- قد يشغل الناس، فيحتاجون إلى ما ينبههم قبل الوقت،
فلما كانت الخلافة إليه أنشأ هذا الأذان قبل الوقت، وكان ينادى به على
الزوراء، والزوراء كانت عندما يسمى اليوم بالباب المصري، وكان هناك مسجد
صغير يقال له: مسجد الزهراء، وكان البعض يظن أنه لـ فاطمة الزهراء بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولكن التحقيق أن (الزهراء) محرفة عن (الزوراء) ،
وكان -كما يقولون- عند مخازن الزيت أو أحجار الزيت.
فهناك كان الزوراء، وقد وقفت على صكٍ لبعض الأشراف يحدد ملكاً بموقع
الزوراء بهذا النص، وهو مكتوب في سنة ألف ومائتين، فالزوراء كانت في منتهى
امتداد السوق وخارج السور الذي هدم أخيراً عند الباب المصري كما يسمونه، أو
عند سوق الحراج القديم، فـ عثمان رضي الله عنه جعل أذاناً هناك، وكان هناك
سوق المدينة، فكان يؤذن في ذلك المكان إعلاماً للناس بقرب الوقت فينطلقون
إلى بيوتهم يتهيئون ويسعون إلى الجمعة، فإذا ما صعد الإمام على المنبر جلس
وقام المؤذن يؤذن.
وقد جاء في صحيح البخاري في باب رجم الزاني: أن عمر رضي الله عنه جلس على
المنبر حتى فرغ المؤذنون، فقام وحمد الله.
فأول ما يفعله الإمام أو الخطيب أنه إذا جاء سلّم على من عند المنبر، ثم
يصعد المنبر فيسلم على الناس من فوق المنبر، ثم يجلس ينتظر المؤذن حتى يفرغ
من أذانه، فإذا أذن قام للخطبة.
ويتفقون على أن الخطبة تبدأ بحمد لله، وهذا كما في الحديث: (كل أمرٍ ذي
بالٍ لا يبدأ بحمد لله أو باسم الله فهو أبتر) ، فيبدأ فيحمد الله ويثني
عليه سبحانه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يوصي بتقوى الله،
ثم يأتي بآية من كتاب الله أو سورة قصيرة، والأولى أن تتناسب مع موضوع
الخطبة.
فهنا جابر يقول: (ويقول: أما بعد) ، و (أما بعد) يجب أن تكون بعد كلام، ولا
تكون في افتتاح الكلام أبداً، فهي مشعرة بأن قبلها كلام، وهذا الكلام هو
الذي اتفقوا على أن يبدأ به الخطيب، وهو حمد الله والثناء عليه.
وهنا تظهر براعة الخطيب في حسن الاستهلال، فهو إذا قام حمد الله وأثنى عليه
بواسع الرحمة، وأثنى عليه بواسع المغفرة، وأثنى عليه بواسع فضله، وأثنى
عليه بجزيل نعمه، فينظر الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه فيأتي بالثناء على
الله بما يشعر بذلك، وهذا -كما نبهنا عليه- هو براعة الاستهلال، وكلما كان
الخطيب بليغاً كان أعلم بمداخل الكلام وإيجازه، فيجمع المعنى الكثير في
القول القليل، وسيأتي الحديث بعد عن هذا المعنى.
الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم
فإذا حمد الله وأثنى عليه صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم يذكر نفسه باسمه (محمد) ، فما كان يقول: اللهم صل
عليَّ، بل يقول: اللهم صل على محمد لأن ذلك تشريع؛ ليأتي بعد ذلك من يخطب
مقامه ومكانه فيأتي بهذا الاسم، ويسمي النبي صلى الله عليه وسلم باسمه.
فقوله: (أما بعد) أي: بعد تلك المقدمة وهي التي ينبغي أن يأتي بها الخطيب
في أول خطبته.
قوله: (خير الحديث
كتاب الله)
وقوله: (فإن خير الحديث كتاب الله) هذا هو نص القرآن الكريم، كما قال
تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً
مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}
[الزمر:23] ، فهذا هو كتاب الله الذي تطمئن به قلوبهم: {أَلا بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، فالقرآن هو أحسن الحديث.
وهذه الآية الكريمة: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً
مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] ، تفيد أنه لا ينبغي للعاقل أن يشتغل بغير كلام
الله؛ لأن كلام الله هو خير الحديث، فإذا لم تكن لك حاجة في موضوع آخر
فليكن شغلك بكلام الله تلاوة ودراسة وفهماً وتمعناً، بأي وجه من الوجوه؛
لأنه خير الحديث، ولأنه خير الكلام.
قوله: (وخير الهدي
هدي محمد)
وأما قول الخطيب: (وخير الهدي هدي محمد) فقد ضبطه العلماء بوجهين: (خير
الهَدْي) ، و (خير الهُدَى) ، والكتابة لا تختلف، فالهَدْيُ: هو ما جاء به
الرسول صلى الله عليه وسلم وهدى الناس إليه، والهُدَى: ما هَدى الله به
عباده عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول كقوله تعالى:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] .
وقوله: (هدي محمد) .
محمد هو رسول الله، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدي هديي) ؛ لأن
الخطيب الذي يجيء بعده إن قال (خير الهدي هديي) ، فليس له حقٌ في ذلك، وهذا
في أساليب البلاغة يسمى التجريد، كما قالوا في قول امرئ القيس: قفا نبك من
ذكرى حبيب ومنزل فهو يحدث نفسه وما عنده أحد، لكنه أوجد أو تخيل شخصية أخرى
يخاطبها، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بالحقيقة فيقول: (خير الهدي
هدي محمد) ، ومحمد هو رسول الله كما نص القرآن الكريم، فخير الهدي الذي
يهتدي به الإنسان في سلوكه واتباعه ومنهجه هدي محمد صلى الله عليه وسلم،
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الأحزاب:21] .
وفي بعض الروايات: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) بذكر الصلاة
عليه صلى الله عليه وسلم، وبعض الروايات بدون الصلاة، ونحن يجب علينا أن
نصلي إذا ذكرنا اسمه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث: (رغم أنف امرئ
ذكرتَ عنده فلم يصل عليك) ، فإذا جاء اسمه صلوات الله وسلامه عليه في أي
مناسبة باسم (نبيٍ) أو (رسولٍ) أو (محمد) فإنه يجب عليك أن تصلي وتسلم
عليه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.
قوله: (وشر الأمور
محدثاتها)
قوله: (وشر الأمور محدثاتها) .
إذا جئنا إلى اللفظ الأول فإنه إذا كان خير الهدي هدي محمد صلوات الله
وسلامه عليه، فمفهومه أن شر الأمور ما خرج عن هدي محمد، كما جاء: (كل أمرٍ
ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود، ولكن هنا يأتي بالمعنى المفهوم صريحاً
فيقول: (وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها) .
والأمور جمع أمرٍ، ويجمع على (أمور) لا على (أوامر) ؛ لأن كلمة (أمر) تجمع
على (أمور) وهي الآحاد من الأحداث والوقائع، وتجمع على (أوامر) ، وهي صيغ
(افعل) : (اكتب واجلس واقرأ وأحفظ) ، فكل هذه أوامر.
فمعنى الأمور هنا: أحداث الحياة.
و (محدثاتها) : مأخوذة من أصل المادة: (حدث) ، والحدث والإحداث يقال: شيء
حادث، بمعنى: استجد بعد أن لم يكن، فشر الأمور بدون استثناء هي محدثاتها؛
ولكن يبنغي أن يعلم أن هذه الأمور المستحدثات التي هي شر كائنة في مقابل
الهدي، أي: الأمر الديني الذي يترتب عليه ثوابٌ أو عقاب.
فيقول هنا: (شر الأمور محدثاتها) ، فلا يدخل تحت هذا الشر من المستحدثات ما
كان من شئون الدنيا، وما كان لأهلها، فقد استحدثت صور عديدة في الحياة في
المآكل والملابس والمشارب والمراكب {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
[النحل:8] وجاءت أدوات ومستحدثات وصور أحدثها الإنسان استجابة لتطور
الحياة، فلا يقال: تلك المستحدثات شرٌ لأنها داخلة في عموم (شر الأمور
محدثاتها) ! إذ ينبغي أن يراعى أنه جاء اللام في (الأمور) في مقابل قوله:
(وخير الهدي هدي محمد) ، أي: في الدين.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك غاية الإيضاح، وذلك في قضية
تأبير النخل لما رآهم يؤبرون النخل بقلع الذكر، وقال: (لمَ تفعلون؟ قالوا:
لأن يلقح.
قال: إن أراد الله لكم شيئاً جاء، فتركوا التلقيح في ذلك العام، فجاء النخل
كله بثمرٍ شيص -أي: ليس ملقحاً- فلما قالوا له: يا رسول الله! تركنا وكان
كذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم) ، فأمور الدنيا لا تدخل في باب البدع، حتى
اللباس، فلكل إنسان أن يلبس على طريقته ما لم يكن شعاراً خاصاً بغير
المسلمين، كربط الزنار الأحمر الذي يشده أولئك الرهبان والقساوسة على
وسطهم.
وكذلك القبعة التي هي شعار للنصارى أو لغيرهم، فهذا شعارٌ لهم لا ينبغي
لمسلم أن يتزين به، أما بقية أنواع الأزياء، أو أنواع المآكل أو المشارب
فجائز ما لم يكن في محرم، كأن يستعمل أواني الذهب والفضة، فذلك ممنوع.
وعلى أي طريقة جلس فلا مانع، سواءٌ جلس على مائدة أو على خوانٍ في الأرض،
فكل ذلك لا حرج فيه، فقوله: (وشر الأمور محدثاتها) منصبٌ على من أحدث في
الدين ما ليس فيه.
ولهذا جاء عن إمام دار الهجرة رحمه الله مالك بن أنس قوله: (ما لم يكن
ديناً في أول الإسلام لن يكون ديناً في آخره) ، ويقول: (لا يصلح آخر هذه
الأمة إلا على ما صلح عليه أولها) .
قوله: (وكل بدعة
ضلالة)
قوله: (وكل بدعة ضلالة) : هناك جملة تأتي في بعض الروايات، وهي: (وكل محدثة
بدعة، وكل بدعة ضلالة) ليتم التركيب المنطقي كما يقولون، فتكون كل محدثة
بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فينتج أن كل محدثة في النار،
فهذا التركيب اختصره الراوي في هذه العبارة، وأسقط الجملة الوسطى: (كل
محدثة بدعة) ، وهذا يتوافق مع المعنى اللغوي؛ لأن الشيء الذي أحدث لم يكن
موجوداً، أي: ابتدع.
والبدعة مأخوذةٌ من الإبداع، والإبداع: إيجاد الشيء على غير هيئة سابقة،
كما في قوله سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، أي:
خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق حاكاه، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا
كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: ما أنا أول من جاء
بالرسالة، بل سبقني بالرسالات أنبياءٌ عديدون، وأنا جئت على أثرهم.
ويستوقفنا هنا مجيء الحديث الآخر: (من سنة سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل
بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ،
فقالوا: كيف يسن إنسان سنة حسنة؛ إذ يمكن أن يسن سنة سيئة، ولكن كيف يسن
سنة حسنة؟ والجواب: إن معنى (سن سنة حسنة) ، أحيا سنة تركها الناس، أو أتى
بعملٍ له أصلٌ في الإسلام.
وأصل هذا الحديث أنه لما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين ليتصدقوا
على الذين جاءوا مجتابي النمار وعليهم أثر الفاقة، وكان يوم الجمعة، فندب
الناس ليتصدقوا فجاء بعضهم بالسويق وجاء بعضهم بثوب، وجاء بعضهم بالدرهم،
إلى أن جاء رجلٌ بكيس يحمله في يده وألقاه بين يدي رسول الله وقد كادت يده
تعجز عن حمله، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وتتابع الناس بالمبالغ
الكبيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة) ، أي: صاحب هذا الكيس
سن سنة حسنة للمتصدقين، ونقلهم عن السويق والثياب وغير ذلك إلى المبالغ
الكبيرة، فهذا له أصل وهو الندب إلى الصدقة، والناس مشوا على القليل فسن
لهم سنة حسنة، فكان ممن سن سنة حسنة.
وقد جاء في الحديث أنه أحيلت الصلاة ثلاث مرات، ومما أحيلت فيه أنه كان
المسبوق يأتي ويسأل الرجل في الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه أنهم قد صلوا
واحدة أو اثنتين، فيأتي بالركعتين أو بالركعة التي فاتته، ويلحق الإمام في
الصلاة، ويسلم مع الإمام؛ لأنه أتم صلاته، فما كان فاته فقد أتى به ثم أدرك
الإمام ومشى معه، فقال معاذ: لن أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة
إلا وتابعته عليها، فجاء وقد صلوا بعض الصلاة، فدخل حالاً مع النبي صلى
الله عليه وسلم، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف معاذ ما الذي
بقي عليه من صلاته فقام وأتمه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن معاذاً قد سن
لكم في الصلاة سنة فاتبعوها) ، فهذه سنة أقرها رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وهنا يأتينا خبر عمر رضي الله عنه لما رأى الناس يصلون التراويح أوزاعاً،
فكل قارئ خلفه عدد من الناس، وكل قوم يتبعون أحسن الناس صوتاً وقراءة، فقال
عمر رضي الله عنه: (أرى لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً) ، فجمعهم على
إمام واحد، ثم ذهب إلى المسجد بعد ذلك فرآهم مجتمعين على إمام واحد فقال:
(نعمت البدعة) ، فكيف يقول عمر: نعمت -وهو وصف مدح- لبدعة وفي الحديث: (وكل
محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؟ فهل المعنى: نعمت الضلالة؟ حاشا وكلا.
ونقول: إن عمر رضي الله عنه سن سنة لها أصلٌ، وذلك أنه ثبت أن النبي صلى
الله عليه وسلم قام ذات ليلة من العشر الأواخر في رمضان، وصلى في المسجد
بعد أن انصرف الناس من صلاة العشاء، فكان يوجد بعض الناس فصلوا خلفه ثم
انصرفوا، فسمع الناس بصلاة بعضهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا
في الليلة الثانية عدداً كثيراً، فلما خرج صلى الله عليه وسلم صلى كما صلى
في الليلة الأولى، فصلى وراءه العدد الكثير ثم انصرف، ثم في الليلة الثالثة
تسامع أهل المدينة، فلما صلوا العشاء مكثوا في مكانهم، فقال صلى الله عليه
وسلم لـ عائشة: (ما بال الناس؟ ألم يصلوا العشاء؟ قالت: بلى.
قال: وما شأنهم؟ قالت: ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى الناس من
قبل، قال: قومي واطوي عنا حصيرك) وكانت تفرش له حصيراً في الروضة، فما خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حتى الصبح.
فهنا وقعت صلاة التراويح جماعة بإمام واحد وهو رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وما منعه من الاستمرار في ذلك إلا ما صرح به صلوات الله وسلامه عليه
بقوله: (ما خفي عليَّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً -لأنهم
كانوا يتنحنحون، ويأخذون الحصباء ويرمون بها باب الحجرة، كأنهم يقولون: نحن
هنا فاخرج إلينا- وما منعني إلا أني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم) ،
فترك الخروج من أجل العلة، وهي الشفقة عليهم من أن تفرض عليهم فلا يقدرون
عليها.
فلما انتهى عهد الفرض ونزول الوحي والتشريع من جديد وأمن ذلك، جاء عمر، فما
زاد على أن جمعهم على إمام واحد كما صلوا خلف إمامٍ واحد وهو النبي صلى
الله عليه وسلم، فهي سنة، ولكن عمر سماها بدعة من حيث اللغة، أي أنه أول من
جمع الناس على إمامٍ واحد، فكانت صورة مبتكرة، وإن شئت قل: مبتدعة، أي: لا
نظير لها من قبل، فلم ينصب رسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً للناس
فيها، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وكذلك عمر في أول خلافته، ولكنها في تلك
اللحظات وجدت، لعدم وجود نظيرها من قبل.
ومن هنا قيل: إن عمر حينما قال: (نعمت البدعة) أراد المعنى اللغوي، أي:
العمل الجديد الذي وجد، ولا يريد معنى البدعة التي استحدثت في الدين.
إذاً: كل محدثة أو كل أمرٍ محدثٍ بدعة، وتنصب على البدعة التي تقابل هدي
النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك مبحث طويل تكلم عنه صاحب الاعتصام وغيره في درجات البدع، فهناك بدع
مكفرة وهي التي تتعلق بالعقائد، وهناك بدع مفسقة وهي التي تتعلق بالعبادات،
وهناك بدع مخلة بالمروءة وهي ما كانت مغايرة للمندوب؛ فهي متفاوتة عند
الفقهاء بحسب موضوعها الذي يتعلق بها، فمن أراد التوسع في ذلك فليرجع إليه.
خلاف العلماء فيما
لو أتى الخطيب بمقدمة فيها معنى الحمد والثناء
قال رحمه الله تعالى: [وفي رواية له: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم
يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه) ] .
يقولون: إن عبارات النحت هي التحميد والتسبيح والتهليل والحوقلة، فالتسبيح:
سبحان الله، والتحميد: الحمد لله، والتهليل: لا إله إلا الله، والحوقلة: لا
حول ولا قوة إلا بالله.
ويبحث الفقهاء فيما لو أن الخطيب أتى بلفظ سوى الحمد يؤدي معناه الشكر لله
والثناء عليه، فالأئمة الثلاثة على أنه لا يجزئ، وعند الإمام أبي حنفية
رحمه الله أن أي عبارة تفيد الثناء فهي مجزئة، كالحال في تكبيرة الإحرام
(الله أكبر) حيث لا تنعقد الصلاة إلا بهذا اللفظ، عند الثلاثة خلافاً له.
فقوله: (يحمد الله) ، أي: يقول: (الحمد لله) ، وأحب أن أنبه على شيء كثر
استعماله، حيث نسمع كثيراً من الخطباء يقولون: (إن الحمدَ لله) ، وهنا ورد:
(الحمدُ لله) ، فهل جاء في القرآن (إن الحمدَ لله) أم أن كل الصيغ (الحمدُ
لله) كالتي في الفاتحة والكهف ونظائرهما؟ يقول العلماء: إن (أل) في (الحمد)
للاستغراق، فاستغرقت جميع المحامد، وحينما تقول: (الحمد لله) فهي إنشاء منك
بحمدك لله، وحينما تقول: (إن الحمدَ لله) فإن (إن) تدخل على الجملة
الخبرية، فالمبتدأ اسمها والخبر خبرها، فكأنك حين تقول: (إن الحمدَ لله)
تخبر بأن الحمد لله، فهل الذي يخبر بأن الحمد لله يثبت له أنه حمد الله أم
أن ذلك مجرد إخبار فلا يتناسب مع تقديس المولى سبحانه ولا مع أداء المعنى
المطلوب، فكونهم يجدون هذا اللفظ مستجداً ويستسيغونه لا يخرجه عن أن يكون
مغاير للمعنى الأصلي المراد بحمد الله سبحانه.
فقول: (إن الحمدَ لله) لا تؤدي المعنى الذي جاء في كتاب الله والذي جاء في
سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو (الحمدُ لله) .
وبجانب الحمد يأتي بذكر الثناء والشكر، فهن ثلاث كلمات، أما الشكر فهو في
مقابل النعمة، وفي الحديث: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) ، وفي الحديث:
(من صنع لكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى ترون
أنكم كافأتموه) .
أما الثناء فهو امتداح شخص فعل خيراً ولو لم يكن للذي يثني عليه، كما لو
سمعت بطبيب ماهر أجرى عملية جيدة لإنسان لا يتصل بك بصلة من الرحم ولا من
القرابة ولا غيرها، فإنك تثني على هذا الطبيب لمهارته في فنه بأنه أجاد
العمل، فأنت تثني عليه لمهارته في عمله.
أما الحمد فإنه امتداح لكمال ذات المحمود، لا لخيرٍ جاءك منه ولا لضرٍ دفعه
عنك، ولا مقابل جميل أو معروف أسداه لغيرك ومهر فيه، إنما هو لكمال الذات
ولو لم يصدر منها شيء، ولا يكون كمال الذات إلا لله سبحانه، ومن هنا قيل:
إن (أل) في الحمد للاستغراق، وتستغرق جميع المحامد التي تحتويها لغات
العالم، وتدركها قلوب الناس، فكلها مجموعة لله سبحانه، لكمال ذاته وتنزهه
سبحانه وتعالى.
ارتفاع صوت الخطيب
وعلاقته باتخاذ المبلغين
قوله: (ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته) وفي رواية له: (من يهد الله فلا
مضل له) .
حكم اتخاذ المبلغين
في المساجد
قوله: (وقد علا صوته) صوت الإنسان مهما علا له حدود، فاتخاذ مكبرات الصوت
ليعلو الصوت تابعٌ لهذا، وإلا فيحتاج إلى تأمل! فإن كان في حدود صوت
المتكلم فهذا مطلوب، ولا مانع من ذلك، وله أصلٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لما جاء في مرضه الأخير وجلس على يسار أبي بكر كان يصلي، ولما لم يكن
صوت النبي صلى الله عليه وسلم يسمع الناس كان أبو بكر يرفع صوته مبلغاً عن
رسول الله.
ومن هنا اتخذ المبلغ، وسميت المبلغة أو المكبر في المسجد النبوي بذلك؛ لأن
المبلغ يصعد عليها ويكبر تكبيرات الانتقال ليتابع المأموم حركات الإمام في
صلاته.
وكان في المسجد النبوي مكبرتان وكانت الثانية في مؤخرته، وتستعمل المكبرتان
وقت الموسم إذا كثر الناس، فإذا سمع من في المكبرة المتأخرة صوت المكبر في
المقدمة يبلغ الناس عن الإمام، وكان العلماء رحمهم الله في دروسهم إذا كبرت
الحلقة يتخذون مبلغين، فيقف شخص في الوسط من هنا ومن هنا ومن هناك، والشيخ
أو العالم يقرأ الحديث، والذين حوله يأخذون منه مشافهة ويكتبون أو يسمعون،
والمبلغون يعيدون لفظ الحديث لمن وراءهم فيأخذون الحديث بواسطة المبلغ.
قيام مكبرات الصوت
مقام المبلغ
وقد يقول قائل: لقد وجدت هذه الأجهزة وهي مبلغة عن الإمام في قراءته وفي
تنقله وحركات انتقاله، فلماذا نحتاج إلى المبلغ؟ ونقول: في بادئ الأمر كان
يقع في الموسم أنه قد ينقطع التيار، وقد يتعطل الجهاز فيقع ارتباك في
الصلاة في هذا المسجد بالذات، فوجود المبلغ أقل ما يقال فيه: إنه سنة
سابقة، وإذا وجد هذا الجهاز فيكون عن طريقه أيضاً وقع هذا التبليغ، وعدم
تغيير الشيء الثابت وعدم تغيير ما عليه الناس هو الأولى، كما قال مالك رحمه
الله: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، وكلٌ قد ذهب بما سمع من
رسول الله، وتغيير أو انتقال الناس عما كانوا عليه ثقيل، فلا بأس بإمرار
ذلك.
ولكن إذا كان الصوت مزعجاً، ومعنى الإزعاج أن يصدر فيه تشويش، فيعالج، وقد
جاء عن أحمد رحمه الله وعند المالكية تعدد المؤذنين للأذان الواحد للفريضة
الواحدة، وقد أنشأ عثمان رضي الله عنه الأذان الأول للجمعة لحاجة الناس
إليه، كما كان قد شرع أذان أول في صلاة الفجر في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم كي يرجع القائم ويتسحر الصائم، فكأن الأذان الأول في الفجر وجد
بعد أن لم يكن؛ لحاجة الناس إليه، وعثمان رضي الله عنه خليفة راشد، وفي
الحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ، فرأى من المصلحة أن يزيد
أذاناً قبل الوقت وفي السوق؛ ليعلم الناس بقرب الوقت.
فإذا دعت الحاجة إلى تعدد المؤذنين للوقت الواحد في المسجد الواحد فلا
مانع، حتى قيل: يجوز التعدد إلى سبعة أشخاص يؤذنون.
وأما كيف يؤذنون فقالوا: إن كان المسجد فسيحاً والبلدة منتشرة وقف كل واحد
في جانب، ويؤذن كل واحد إلى الجهة التي تليه.
وبعضهم يقول: يؤذن الأول، ثم الثاني ثم الثالث، إلا إذا كانت صلاة المغرب
فإنهم يؤذنون في وقت واحد ما لم يكن فيه تشويش، فإذا لم يكن تشويش فلا
مانع.
ونحن نقول أيضاً: إذا نظمت هذه الأجهزة بحيث لا يقع منها تشويش بعضها على
بعض، أو فيما كان مداه أبعد، فلا مانع في هذا.
وما يوجد الآن من بعض المساجد التي لها أجهزة تبليغ -وفي يوم الجمعة
بالذات- فلا ينبغي رفع الأصوات في تلك المساجد حتى تصل إلى مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأصل، وبها يقع التشويش على الناس.
فاتخاذ هذه الأجهزة له أصل في السنة، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته.
وأما إذا كان المستمعون لا يبلغهم صوت الإمام لكثرتهم، فالقول بأن عليه أن
يبلغ الجميع فوق طاقته.
وأما هل يتخذ مبلغين، فإنه لا يتخذ مبلغين، وما حدث ذلك في إبلاغ الخطبة
قط، ولكن: من كان يستمع فعليه الإنصات إلى ما يسمع، ومن لم يبلغه صوت
الخطيب فلم يسمع شيئاً فهناك من يقول: يصغي حتى لا يشوش على غيره.
وهناك من يقول: له أن يشتغل بالتلاوة بدلاً من ضياع الوقت.
فهناك حاجة إلى إبلاغ الصوت لجميع المستمعين، فاتخاذ هذه الأجهزة إنما هو
لإسماع وإبلاغ جميع الحاضرين خطبة الإمام، ولأن الخطبة إنما هي إبلاغ وبيان
لما ينبغي عليه بيانه، وفيها تلقي الموعظة والإرشاد في أمر ديني أو دنيوي
من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكان ذلك في مسجده صلى
الله عليه وسلم أم في أي منبر في العالم؛ فإنه تابع لمنبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم، أي: امتدادٌ لسنته في بقاع الأرض.
فإن الإنسان إذا سمع الموعظة، وسمع التوجيه من بيت من بيوت الله، وعلى منبر
يحكي سنة رسول الله، كان أدعى إلى قبولها، وكان أرجى إلى سماعها وتنفيذها،
والله تعالى أعلم.
الهداية وتعلقها
بإرادة الله سبحانه وتعالى
قال المصنف رحمه الله: [وفي رواية: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا
هادي له) ، وللنسائي: (وكل ضلالة في النار) ] .
يؤيد قوله: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) قوله تعالى:
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:28-29] ، فمن هداه الله سبحانه وتعالى فلا مضل
له، ومن أراد الله إضلاله فلا هادي له.
فإن هداه فبحكمته وفضله، وإن ضله فبحكمته وعدله، وليس لإنسان أن يقف يتساءل
لماذا فعل هذا؟ ولماذا فعل هذا؟ فهذه قضية منتهية في أمر العقائد؛ لأنه إن
هدى إنساناً فذلك فضل منه عليه، وإذا حرم إنساناً من الهداية فإنما أمسك
عنه حقه، أي: حق الله سبحانه، وليس لمخلوق أن يعترض على الله، وليس لك حق
في هذا، فالمسألة تبقى على عمومها: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا
هادي له) .
فـ أبو جهل وأبو لهب ما أراد الله هدايتهما، والرسول صلى الله عليه وسلم
يقول لـ أبي طالب: (يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله) ، ولو بذل كل
جهده ما وسعه ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجمعة [4]
حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة يوم الجمعة، وجعل ذلك من علامة
فقه الخطيب، وكان يخطب صلى الله عليه وسلم بسورة (ق) ، لكونها مناسبة
للموعظة.
وقد حث الشرع المصلين على الإنصات للخطبة حتى يتحقق الغرض المقصود بها من
الاتعاظ والاعتبار.
أهمية قصر الخطبة
يوم الجمعة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف
رحمه الله: [وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) رواه مسلم] .
الجمعة -كما نعلم- من شعائر الإسلام، وهي فرض عين، لا كما يظن بعض الناس
أنها سنة مؤكدة، وهي فريضة اليوم وليست نيابة عن الظهر، والعناية بيوم
الجمعة شديدة، وهي عيد من أعياد المسلمين يعود عليهم كل أسبوع، وفيه لهم
خيرٌ كثير، وقد جاء في كتاب الله من العناية بالجمعة وأدائها قوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ
فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10] .
وعاتب الله أقواماً خرجوا وانفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
قائم يخطب يوم الجمعة، وجاءت فيها آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله
صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على
قلوبهم) ، وجاء أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على
قلبه) ، وذلك أن في يوم الجمعة اجتماع المسلمين من أهل القرية أو المدينة،
وفيها يتعرف أهل البلد بعضهم على بعض، ويتفقد بعضهم أحوال بعض، فهو اجتماع
إجباري ومؤاخاة إلزامية.
ثم مع ذلك تلقى المواعظ من على المنبر في هذه الشعيرة العظيمة، وبهذا يتميز
الإسلام عن غيره، فمن خصائص الإسلام باب الإعلام، وهو إعلام إلزامي فرض في
كل يوم جمعة، يعلم الخطيب الحاضرين المصلين بما يراه من باب التوجيه والنصح
والإرشاد، ويعالج ما عساه أن يكون طارئاً موجوداً بين الناس.
وهنا يسوق المؤلف رحمه الله تعالى من مباحث يوم الجمعة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال مقارناً بين الصلاة والخطبة: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته
مئنة من فقهه) ، والمئنة: العقل والحلم، من التأني، وهذا بيان منه صلى الله
عليه وسلم في المقارنة بين الصلاة والخطبة أنه لا ينبغي تطويل الخطبة على
وقت الصلاة، وينبغي إطالة القراءة؛ لأن فيها فرصة إسماع المجتمعين آيات من
كتاب الله، وفيه كل خير، وأما قصر الخطبة فإنه علامة على بلاغة الخطيب وعلى
قدرته على التحكم في الكلام؛ لأنه كما قيل: خير الكلام ما قل ودل.
وقد جاء عن الصديق رضي الله عنه أنه سمع شخصاً يخطب وأطال فقال: يا هذا لا
تكثر فينسي آخر الكلام أوله، فإذا بدأت في موضوع ثم أطلت وتتبع المستمع معك
ما تورد عليه، فإنه بإطالة الخطبة يحتفظ بآخر الكلام ويكون قد نسي أوله.
وحقيقة الأمر في الخطبة أنها تشتمل على الموعظة وعلى آية من كتاب الله وعلى
الشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الموضوع
الذي يريد أن يتكلم فيه، فإذا ألم بالموضوع، وجمع أطرافه في كلمات موجزة
فقد أجاد، وقد قالوا: مقياس بلاغة الخطبة مطلقاً، أي: سواء أكانت في الجمعة
أم في غيرها، أنه إذا ما خرج مستمع وسأله من لم يستمع فقال: فيمَ كانت
الخطبة فإنه يستطيع أن يوجزها في جمل، فإذا كانت الخطبة في إصلاح ذات
البين، وذكر الخطيب الأحاديث في ذلك، وحث على السعي في ذلك، وبين أجر
الساعين فيه، فهذا موضوع متكامل أمكن للسامع استيعابه.
أما إذا أخذ الخطيب موضوعاً، وانتقل منه إلى موضوع آخر، ولم يستوف الموضوع
الأول، ثم انتقل من الثاني إلى الثالث، وهكذا يتنقل بين عدة مواضيع، وهو لم
يستوف موضوعاً بعينه، فيكون قد شتت على السامع ذهنه في عدة مواضيع، ولم
يعطه موضوعاً متكاملاً، فلو أنه قسم تلك المواضيع على خطب متعددة، ودار حول
الموضوع في أسبابه ونتائجه وعلاجه خرج المستمع بنتيجة مستوفاة، والذي
يستطيع أن يفعل ذلك من كان قادراً على التحكم في الكلام، حيث يجمل ذلك كله
ويوجزه ويعطيه للمستمع.
أما إذا لم يكن مستطيعاً ولا قادراً على البيان فإنه يحاول كالذي يحاول
صعود جبل وينزل، ويصعد عدة مرات من أجل أن يصل، وهذا بيان من النبي صلى
الله عليه وسلم في عمل ما يشبه المقارنة، فأي الأمرين يكون أطول من الآخر
الخطبة أم الصلاة؟ ولكننا في هذه الآونة نجد المتفشي خلاف ذلك، وكثيراً ما
نجد أن زمن الخطبة أطول من زمن الصلاة، وكأن الخطيب يراعي ما تعوده
السامعون من إطالة الخطبة وكثرة الكلام، ولو اختصر ربما اتهموه بالعيِّ
واتهموه بالعجز وعدم استطاعة الخطبة، ومن أجل هذا ربما يراعي مشاعر أو
اعتقادات الحاضرين، وهذا أعتقد أنه خلاف الأولى، فالأولى أن يكون حسب
السنة، وهو أن تكون الخطبة موجزة ليستوعبها الناس، ويعمد إلى موضوع معين من
أبرز ما يكون من قضايا المجتمع، سواءٌ من مواضيع الأسرة أم كان غير ذلك،
فيعالجه بعبارات موجزة، ولا مانع أن يقسم علاج الموضوع إلى عدة مراحل في
عدة خطب في عدة أيام من أيام الجمعة.
قراءة النبي صلى
الله عليه وسلم سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة
[وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما أخذت {ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) ، رواه مسلم.
] بعد أن ذكر المؤلف قصر الخطبة وطول الصلاة، ذكر عن أم هشام أنها تقول:
(ما أخذت سورة ق إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يخطب من
على أعواد المنبر) ، والكلام على هذا الحديث من جهتين:
لا معارضة بين حث
النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة وبين قراءته سورة (ق)
الجهة الأولى: المقارنة بينه وبين حديث بلال المتقدم في قصر الخطبة، فهل
تكون الخطبة قصيرة وقد قرأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (ق) ؟
الجهة الثانية: هل سورة (ق) لها مناسبة مع يوم الجمعة؟ فهاتان الجهتان هما
موضوع الحديث أو الكلام عن هذا الحديث النبوي الشريف.
أما قراءة السورة الكريمة مع الحث على قصر الخطبة فلا تعارض بينهما؛ لأنه
كان صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة، وقد جاء في بعض الروايات أنه كان
يُؤذن لصلاة الظهر، ثم تقام الصلاة، فيذهب الذاهب إلى البقيع ويتوضأ ويأتي
ويدرك الركعة الأولى، فإذا كان على هذا الحد وصلاة الظهر أربع ركعات،
فمعناه أنها بالنسبة إلى سورة (ق) تكون أطول، فهما ركعتان على هذه الحالة.
ثم هل كان صلى الله عليه وسلم يضيف مع سورة (ق) موعظة أخرى أو يكتفي بهذه
السورة؟ فبعضهم يقول: كان يكتفي بها بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول
الله والشهادتين، فيكتفي بسورة (ق) وهي كافية للموعظة.
وهنا يقال: إن الأساس في خطبة الجمعة والموعظة إحياء القلوب وجلاءها من
صدئها، وجلاءها عن عماها، وتنبيه الغافل، وتذكير الناس، والموعظة بما
يجعلهم يتابعون العمل، وكلما طال الزمن يأتي يوم الجمعة فيذكرهم، كما قال
تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ} [الحديد:16] ، {وَلا
يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ
الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] ، فترك الموعظة يترك القلوب
تكسل عن العمل فتقسو، ولكن مع تكرار الموعظة كل أسبوع، في كل جمعة، تصير
القلوب رطبة بذكر الله، ولذا جاء بعد هذا السياق قوله تعالى: {اعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] ، فكذلك يحيي
القلوب التي ماتت بالموعظة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكون مع الموعظة
التوجيه والإرشاد.
وقد كانت الخطبة تستعمل لغير الجمعة أيضاً، كما كان صلى الله عليه وسلم إذا
أراد أن يبلغ أمراً أو استجد أمر يقول: (احضروا المنبر) ، فيحضرون ويجتمعون
فيخطب، فيقول: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا) ، ويبين صلى الله عليه وسلم
ما يريد أن يبينه، ولم تكن الخطبة على المنبر خاصة بالجمعة، بل بكل إعلام،
وبكل توجيه وإرشاد، وما كانت معالجة القضايا خاصة بخطبة الجمعة، بل تعالج
في أي وقت، ولكن الناس الآن لم يألفوا ذلك، وأصبحت معالجتها في النوادي
والمؤتمرات وغيرها، فقراءة سورة (ق) من حيث إطالة الصلاة وقصر الخطبة لا
تعارض بينهما.
وفي قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله) نفهم منه أن أخذ
القرآن كله كان عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذه رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، وأخذه جبريل عن رب العزة سبحانه،
فسند القرآن الكريم سمعه أصحاب رسول الله من رسول الله بدون واسطة، وسمعه
رسول الله من جبريل بدون واسطة، وسمعه جبريل من رب العزة بدون واسطة.
وعلى هذا يكون سند القرآن بهذه المثابة من الوضوح والجلاء والقوة لا يتطرق
إليه شك، ونعلم أيضاً أن أخذ القرآن لا يكون وجادة أبداً، أي: لا يكون أخذه
من المصحف قراءة، بل لا بد من تلقيه سماعاً بسند متصل من قارئ عالمٍ بأحكام
القراءة، لأن هناك ما يسمى بالرسم العثماني في المصحف الشريف، والرسم
العثماني يختلف عن رسم الإملاء الموجود عند الناس اليوم، والقرآن تلاوة
وسماع.
وقد كتبوا الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء إنسان
ليقرأ من المصحف فقد يقرأ بعض الكلمات على غير ما أنزلت، وعلى غير ما سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما وقع الخلاف في القراءات وجاء حذيفة إلى عثمان رضي الله عنه قال: أدرك
الناس قبل أن يختلفوا في كتاب الله كما اختلفت اليهود والنصارى، قال: وما
ذاك؟ قال: كنت بأذربيجان واجتمع الجند من الشام ومن العراق، فأخذ بعضهم
يعترض على قراءة بعض.
فعمد عثمان رضي الله عنه وأخذ الصحف من عند حفصة رضي الله عنها التي كان
كتبها أبو بكر رضي الله عنه، وكانت عنده في خلافته، ثم انتقلت إلى حفصة زوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقل عثمان تلك الصحف وجعلها في مصحف واحد،
وكتب منها خمس نسخ أو ست نسخ، وأرسل بكل نسخة إلى مصر من الأمصار، ومع كل
مصحف قارئ يقرئ الناس ليأخذوا القرآن سماعاً وتلقياً.
وهكذا تخبر الصحابية الجليلة: أنها ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله
صلى الله عليه وسلم حينما كان يقرؤها كلها في الجمعة على أعواد المنبر،
والمنبر إنما صنع في السنة الثامنة من الهجرة، أي في أواخر حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
فهذا الجانب في أخذ الصحابية الجليلة رضي الله عنها لهذه السورة الكريمة،
وعلاقة قراءة سورة (ق) مع الحديث المتقدم.
حكم قراءة سورة (ق)
في خطبة الجمعة وعلاقتها بيوم الجمعة
وبقي حكم قراءة هذه السورة في الخطبة، وعلاقة هذه السورة بيوم الجمعة.
أما حكمها فيتفق الجميع على أنه ليس بواجب، وأنه من شاء قرأها ومن شاء قرأ
غيرها.
أما علاقتها فتقدم لنا في القراءة في فجر يوم الجمعة أنه جاء عنه صلى الله
عليه وسلم أنه كان يقرأ - أي: أحياناً - سورة السجدة وسورة (هل أتى على
الإنسان) ، وقالوا في ذلك: إن يوم الجمعة هو يوم أبينا آدم، وهو أول وجود
الخليقة؛ لأن آدم عليه السلام إنما خلق يوم الجمعة، وأسكن الجنة يوم
الجمعة، وسجد الملائكة له يوم الجمعة، وهبط إلى الأرض، وتيب عليه يوم
الجمعة.
فقالوا: يوم الجمعة يوم آدم، ويوم الإثنين للنبي صلى الله عليه وسلم، ففيه
ولد، وفيه أنزل عليه، وفيه دخل المدينة، وفيه توفي صلى الله عليه وسلم،
فقالوا: إن سورة السجدة و (هل أتى على الإنسان) فيهما قصة خلق الإنسان،
وفيهما ذكر المعاد والجزاء، فيذكر الإنسان بمبدئه ومعاده ليعمل لذلك اليوم،
فكذلك سورة (ق) ، في علاقتها بيوم الجمعة، وعلاقتها بيوم البعث، وقد ذكر
فيها أكثر علامات أو دلائل البعث على المنكرين.
سورة (ق) وما فيها
من فوائد وعبر
وانظر إلى مستهل السورة حيث يقول تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]
، والحروف المقطعة كـ (ق) و (ص) و (ن) و (طه) و (يس) و (ألم) سواءٌ كانت
حرفاً واحداً أم حرفين أم ثلاثة أم أكثر من ذلك، يعجز إنسان أن يقول فيها
قولاً قاطعاً؛ لأنها من أسرار ومعجزات الكتاب الكريم، وغاية ما قال العلماء
إنها حروف مقطعة بمثابة التحدي الرمزي، فلما تحدى الله العرب بقوله تعالى:
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:34] ، وعجزوا عن المماثلة بسورة
منه أخبرهم تعالى: أن هذا الذي عجزتم عنه ليس بغريب ولا بعيد عنكم، إنما
ألف من لغتكم العربية قرآناً عربياً مبيناً، ومجموع حروفه من تلك الحروف
التي تتكلمون بها، وتنظمون بها أشعاركم وخطبكم، فهو من (ق) و (ص) و (ن) و
(ألم) و (ألر) و (كهعيص) ، فكيف تعجزون عن هذه المادة الأساسية التي منها
نظم؟ وقالوا: هذا بمثابة من يأتي إلى أمة بجهاز ويقول: هذا جهاز يحفظ
الكلام، فيقول إنسان: ما الذي فيه؟ وهل يمكن أن نعمل مثله،؟ فقيل له: اعمل
مثله فعجز، فقيل له: لماذا تعجز فهذا الجهاز عبارة عن أسلاك، وقوى
مغناطيسية وشمعات، ثم أتي بالمواد الأساسية لجهاز مثله، وقيل له: اصنع
جهازاً مثله، فإذا به ينظر ويعجز أن يصنع مثله مع وجود المادة الأساسية بين
يديه.
وقد استدل العلماء على ذلك الاستنباط بأن سور القرآن التي تبدأ بالحروف
المقطعة غالباً ما يأتي ذكر القرآن بعدها كقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ} [ق:1] ، وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] ،
وقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1-2] أي: القرآن، وقوله تعالى: {يس *
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2] ، وقوله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [طه:1-2] ، فقالوا: يعقب تلك الحروف المقطعة الحديث
عن القرآن، فكأنه يقول في مثل قوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ} [يس:1-2] :
إن القرآن جمع من هذه الحرف.
والله أعلم بالحقيقة.
وفي قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] يقسم الله سبحانه
وتعالى بالقرآن مع أن منكري البعث ينكرون القرآن، فكيف يقسم لهم بما
ينكرونه؟ والجواب: أن ذلك من باب أن إنكارهم واهٍ وملغى لا قيمة له؛ لأنه
عن جهالة.
وقوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ} [ق:2] يعني ما كذبوا بالقرآن،
ولكن هذا إضراب {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:2] ، فعجبوا أن الوحي يأتي إلى
محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ
هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ}
[الزخرف:31-32] ، فالله يخبرهم أن الأكل والشرب الذي نهايته إلى فناء قد
قسمه بينهم، ورحمة ربك أعظم من ذلك فلن يتركها لاختيارهم {أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32] لا والله، فنحن قسمنا بينهم ما
هو أدنى من ذلك مقداراً وهو المعيشة {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] .
قال تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً
ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2-3] ، فقالوا: عجيب أن ينذرنا بالبعث، ثم
استنكروا فقالوا: (أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد) ، وقد أجاب الله
تعالى عن استبعادهم بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ
مِنْهُمْ} [ق:4] ؛ لأنهم يقولون: بعد أن نغيب ونضل في التراب ما الذي
يجمعنا؟ ومن ذلك ما ذكره تعالى في آخر سورة يس {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً
وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ،
فقد جاء هذا الرجل بعظم بال قد رم من طول الزمن، ثم فتته بيديه، ثم قال: يا
محمد! من يحيي هذه العظام؟ في موقف المتحدي المستبعد إحياء العظام وهي
رميم، وقال تعالى عنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78]
فنسي وجوده، ونسي كيف وجد، وبكل هدوء يجيء الجواب: {قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}
[يس:79] ، ثم ذكر الأدلة على قدرته على ذلك، ثم قال تعالى: {إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]
.
وهنا يقول تعالى عنهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ
بَعِيدٌ} [ق:3] فهم يستعبدون هذا؟ لأنهم صاروا تراباً، واختلط العظم
بالتراب، وذهب اللحم والدم في حسبانهم فلم يبق شيء، قال تعالى: {قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}
[ق:4] ، فعلم الله سبحانه بكل أجزاء الإنسان، وما تنتقصه الأرض من تلك
الأجسام، وما يغيب فيها وما يضل في ثراها، فالله سبحانه لديه كتابٌ حفيظ
بذلك كله.
فالله تعالى يقول: (قد علمنا) ولم يقل: (سنعلم) ، {قَدْ عَلِمْنَا مَا
تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] .
قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ
مَرِيجٍ} [ق:5] أي: مختلط عليهم.
ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] أي: ألا
ينظرون إلى هذا الخلق العظيم، فهذه السماء بنيت وزينت وليس فيها من شقوق
ولا فروج، فهذا الخلق متى رفع بغير عمدٍ ترونه؟ ومن الذي خلقه ورفعه،؟ قال
تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}
[غافر:57] .
قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}
[ق:7] ، وهذه الجبال من نصبها؟ ومن جمع حجارتها؟ قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7] صنف بهيج متغاير، فالتربة واحدة
والماء واحد ولكن النبات مختلف {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ} [ق:8] .
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا
بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ} [ق:9-10] فأنبت بهذا الماء جنات وحب الحصيد ونخلاً وزيتوناً
ورماناً، فالتربة واحدة والماء واحد، فمن الذي غاير بين هذه النباتات في
أشكالها وفي ثمارها وفي طعومها وفي أوضاعها؟ قال تعالى: {رِزْقاً
لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
[ق:11] أي: كما أحيينا البلدة الميتتة بالماء، كذلك خروجكم، فأقام الأدلة
على البعث.
وأدلة البعث في القرآن أربعة، وهنا جاء أكثرها وهي ثلاثة: فمن أدلة البعث
خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] .
ومن أدلة البعث خلق الإنسان، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ
خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78-79] .
ومن أدلة البعث إحياء الأرض بعد موتها، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ
الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس:33] ، والآية الأخرى: {فَإِذَا
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي
أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39] .
وهنا أيضاً قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:10] إلى قوله تعالى:
{وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] واسم
الإشارة (ذلك) راجع إلى المصدر الموجود في (أحيا) أي: أحيينا به بلدة ميتة،
ومثل ذلك الإحياء للبلدة للميتة يكون إحياؤهم.
وبقي من أدلة البعث: إحياء الموتى بالفعل، وقد جاء ذلك في قتيل بني إسرائيل
في قصة البقرة التي أمروا بذبحها، والألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت
فقال لهم الله: {مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] ، وطلب إبراهيم:
{رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] فهي عملية مشاهدة في
طيور متعددة.
والعزير وحماره وطعامه الذي لم يتسنه كذلك، وحوت موسى عليه السلام، الذي
كان قد طبخ ليتغدى به، فإذا به عند الماء يأخذ طريقاً في البحر سرباً.
في مقدمة هذه السورة الكريمة إقامة الأدلة على البعث من ثلاثة أوجه، وهي من
مجموع أربعة أوجه في كتاب الله، فمن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة
(ق) .
ثم تأخذ السورة بعد ذلك في بيان ذلك اليوم، وفي جزاء المحسنين، إلى آخر ما
في السورة الكريمة.
وهل كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها دائماً؟ قال بعض العلماء: في غالب
أحواله، ولم يكن ذلك بصفة دائمة، وكما قدمنا فإنه لا يتعين على كل خطيب أن
يقرأ بها، فإن قرأ بها فلا مانع، وإن قرأ ببعضٍ منها فلا مانع، وإن قرأ
غيرها فلا مانع، وبالله تعالى التوفيق.
ما يجب على
المستمعين حال الخطبة
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من
تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له
أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وهو يفسر حديث أبي هريرة
في الصحيحين مرفوعاً] .
بعدما فرغ المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإمام والخطيب فيما يتعلق بموضوع
الخطبة والمقارنة بينها وبين الصلاة، وما يتخيره الخطيب من المواضيع من
كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بما يتعلق
بالمستمعين، ويذكر لنا ابن عباس رضي الله عنهما ما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم في حق من يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة، والتقييد بيوم الجمعة ربما
يخرج غير الخطبة في يوم الجمعة كالاستسقاء وكالعيدين، وكالخطب العادية التي
هي لأمور اجتماعية.
وبعض العلماء يرى أن كلمة (يوم الجمعة) جاءت لقضية عينٍ، وليس لها مفهوم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب) ، معناه: أن الكلام قبل بدء
الإمام بالخطبة ليس ممنوعاً؛ لأن بعض الناس يقول: إذا صعد الإمام المنبر
امتنع الكلام، ومعلوم أنه حينما يصعد لا يبدأ بالخطبة، وإنما يسلم على
الحاضرين، ثم يقوم المؤذن فيؤذن بين يدي الخطيب، ثم يشرع الخطيب بعد ذلك في
خطبته، فبعض الناس كان يقول: يمنع الكلام حينما يصعد الإمام المنبر، كما
قالوا: إن مجيء الإمام يمنع الصلاة، وصعوده المنبر يمنع الكلام، والمعنى:
أن مجيئه يمنع الصلاة، كما في الحديث: (إذا أتى يوم الجمعة فليصل ما تيسر
له، فإذا صعد الإمام المنبر فلينصت) ، فبعضهم يقول: مجيء الإمام يمنع
الصلاة، وكان الإمام في المسجد النبوي يخرج من باب ما بينه وبين المنبر إلا
خطوات، فمعناه أنه لم يعد هناك وقت لمن يريد أن ينشئ صلاةً من جديد؛ لأنه
سيتعارض في صلاته مع بدء الإمام في الخطبة، فإذا كان الأمر كذلك فنعم،
فمجيء الإمام يمنع الصلاة أي النافلة.
ومن هنا قال العلماء: على إمام الجمعة وخطيبها إن كان بيته ملاصقاً للمسجد
-كما يوجد في بعض المساجد- أن لا يخرج إلى المسجد ولا إلى المصلين إلا بعد
أن يؤذن على السطح أو على المنارة الأذان الأول، فيخرج لوقته من أجل أن
يصعد إلى المنبر، وإذا كان بعيداً وأراد أن يبادر فإنه يجلس في مكان قريبٍ
من المنبر، حتى إذا قام من مكانه عرف المؤذن مكانه وجاء إلى المنبر.
وهنا نص الحديث: (والإمام يخطب) ، فقبل الخطبة لا مانع، ويقول صلى الله
عليه وسلم هنا في الحديث: (من تكلم والإمام يخطب) ، وهذا عام، ويستثنى من
ذلك من تكلم مع الخطيب، فإذا تكلم المتكلم مع الخطيب فليس داخلاً في هذا؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويقوم الرجل ويسأل ويجيبه صلى الله
عليه وسلم وهو يخطب، قالوا: لأن الحث على الإصغاء من أجل أن لا يفوت
المتكلم شيء من الخطبة، وهذا إنصات إجباري، وإلا فتلغى جمعته؛ لأنه لو تكلم
كل إنسان بكلمة لحصل اللغط، ولما سمعوا الخطبة، ولما كان للخطبة كبير
فائدة، فألزم الجميع بالإصغاء، وكلٌ يسكت نفسه، حتى إنك لا تقول لصاحبك:
أنصت، فما يجوز لك هذا، فأنصت أنت عن قولك لصحابك أنصت، فلو أن إنساناً قال
للثاني: أنصت أنصت.
لقال غيره: أنصت، ويلزم من هذا التسلسل إلى النهاية، فكلٌ شخص عليه أن يسكت
نفسه، فإذا ما أنصت الجميع أمكن للخطيب أن يوصل صوته إلى أكثر عدد، وأمكن
للجميع أن يستفيدوا من صوته.
أما إذا كان المتحدث مع الإمام فالإمام سيوقف الخطبة، ويتكلم مع من كلمه،
فلا يفوته ولا غيره شيء من كلام الخطيب؛ لأنه سيوقف الخطبة حتى يجيبه على
سؤاله أو كلامه، ثم يستأنف خطبته.
ونعلم جميعاً قصة الأعرابي الذي جاء ودخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم
يخطب، فقال: يا رسول الله ادع الله لنا أن يسقينا، وشكا له تقطع السبل
وجفاف الأراضي ونحو ذلك، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة
واستسقى وسقوا، ثم جاء بعد ذلك وقال: ادع الله أن يرفعها عنا.
فدعا الله وسأله، وقد كانوا لم يروا الشمس أسبوعاً، فانقشع السحاب وخرجوا
يمشون في الشمس.
وهكذا يأتي الرجل والرسول يخطب فيقول: يا محمد! علمني الإسلام، فيترك
الخطبة، وينزل إلى الرجل ويعلمه، ثم يصعد المنبر ويكمل خطبته.
فالكلام مع الخطيب ليس فيه شيء، وكذلك كلام الخطيب مع الحاضرين، فحينما دخل
رجل وجعل يتخطى الرقاب، ترك صلى الله عليه وسلم الخطبة وقال: (اجلس فقد
آنيت وآذيت) .
وآخر جاء وجلس، فترك الخطبة وسأله: (أصليت ركعتين -أي: التحية-؟ قال: لا.
قال: قم فاركعهما وتجوز فيهما) .
إذاً: فكلام الإمام مع المصلي أو أحد المصلين مع الإمام خارجٌ عن هذا
النهي؛ لأنه لا يفوت مصلحة، بل يأتي بمصلحة جديدة.
وتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم من تكلم والإمام يخطب يوم الجمعة بما شبه
به القرآن الكريم علماء بني إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها،
فحملوها بالقوة، ولكن لم يحملوها بالفعل، كمثل الحمار يحمل أسفاراً،
والأسفار: جمع سفر، وهي الكتب، كما أن الحمار يثقل ظهره ثقل الكتب، ولم
يستفد منها بشيء، وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق
ظهورها محمول فالإبل تحمل الماء فوق ظهرها وهي في الصحراء، وتموت من العطش
لأن صاحبها ما أعطاها الماء، فالماء على ظهرها ما نفعها، فكذلك علماء بني
إسرائيل لما حملوا التوراة ولم يعملوا بها كانت عليهم كمثل الأسفار على ظهر
الحمار، وهو أشبه ما يكون من ضرب المثل بالبلادة، فيثقل ظهره بحمله، ولا
يستفيد منه شيئاً.
فكذلك الإنسان حمل أمانة المجيء إلى الجمعة وفضلها كما في الحديث: (الجمعة
إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ، ومع أنه يحمل هذا العبء وهذه الأمانة ولم
ينتفع بها؛ لأنه يتكلم مع صاحبه والإمام يخطب، فبين يديه علم وهو إنما جاء
لخيرٍ، فلم يستفد منه، وهذا التشبيه -كما قال أحمد - مثل السوء.
فقد وقع الخلاف في الرجل يهب الهبة ثم يعود فيها، فتناظر أحمد مع الشافعي،
فـ الشافعي قال: ليس في ذلك شيء، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه) ، فإن الكلب لا تكليف عليه،
فلا حرمة في ذلك.
فقال أحمد: ولكن ليس لنا مثل السوء، فالرسول ضرب مثلاً بالكلب؟ لأنه مثل
سوء وتشبيه سيئ، فهل ترضى لنفسك أن تكون كالكلب؟ فاحتج أحمد على الشافعي
بهذا.
وكذلك هذا المثال فيه بيان لتقبيح الفعل ونهي عنه.
ثم جاء في تتمة هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت
يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) .
فالذي يتكلم كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: اسكت، مرتكب لمنكر،
فقوله: اسكت نهي عن منكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القمة من
العبادات؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الواجبات، ولكن في
هذا الوقت صار إنكاره منكراً؛ لأنه تلغى في حقه الجمعة، ويكلف بإعادة صلاة
الظهر، فتلغى الجمعة وينوب عنها الظهر، أو تلغى كونها جمعة بما فيها من أجر
كما في الحديث: (والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ، ويبقى إجزاء الفرض
وهو حكم الظهر، فيكون كأنه صلى الظهر في يوم السبت أو الخميس، أما فضيلة
الجمعة فلا يحصل عليها.
وبعضهم يقول: لا جمعة له ولا صلاة له، وعليه أن يأتي ببديل عنها وهو صلاة
الظهر.
والموضع موضع خلاف طويل، ولكن يهمنا مجمل هذا الموضوع.
ثم للعلماء مبحث آخر، وهو إذا كان الإنسان في مؤخرة المسجد فلا يسمع الخطيب
ولا يدري ماذا يقول، وكذلك إذا وجد المكبر وتعطل الجهاز فلم يسمع المصلي من
الخطيب، أيجوز له أن يتكلم؟ بعضهم يقول: له ذلك إذا كان بتلاوة القرآن،
وإذا كان بالتسبيح، وإذا كان بالاستغفار، لأنه ذكر، وقد قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .
والآخرون يقولون: ليس له ذلك؛ لأن البعيدين إذا اشتغلوا بالتلاوة أو بالذكر
ربما ارتفعت أصواتهم فيحصل اللغط على الذي يسمعون.
والصحيح أنه لا يجوز أن يقرأ أو يذكر الله، وأن عليه أن ينصت، وله أجر
المستمع في الخطبة إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجمعة [5]
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة ركعتين تحية المسجد، وإن كان الإمام
يخطب، فإنه لا تعارض بين الأمر بالإنصات وبين هذه الصلاة؛ فهي من ذوات
السبب التي حث عليها الشارع.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون؛
وذلك لمناسبتهما في الأمر بتعظيم هذه الصلاة، وترك التشبه بالمنافقين في
التباطؤ عن الصلاة وعدم التبكير لها، وترك التشبه باليهود الذين لم يلتزموا
بالتوراة ولم يعملوا بما فيها.
شرح حديث جابر في
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الداخل وقت الخطبة بالصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (دخل رجل يوم
الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: صليت؟ قال: لا.
قال: قم فصل ركعتين) متفق عليه] .
تقدم النهي عن الكلام وقت الخطبة، وأن من قال للمتكلم: أنصت فقد لغى، ومن
لغى فلا جمعة له.
ويأتينا هنا عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم
يخطب يوم الجمعة، ولم يسم الرجل، وعدم تسمية هذا الرجل لا يضر في الحديث؛
لأنه صحابي، والصحابة جميعاً لا يبحث عن عدالتهم، وأياً كان فهو رجلٌ من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعبرة بـ جابر، وهو معروف، وهو الذي
يروي القصة.
فدخل هذا الرجل -وقد سمي، وهو سليك الغطفاني رضي الله عنه- والنبي صلى الله
عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، والغالب أن تكون الخطبة للصلاة، وليست لأمر
آخر، وليست قبل الظهر أو بعد العصر أو غير ذلك، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم: (صليت؟) بحذف همزة الاستفهام، وفي بعض الروايات: (أصليت؟) أي:
أصليت ركعتين تحية المسجد؛ فقال الرجل: لم أصلهما، فقال صلى الله عليه
وسلم: (قم فصل ركعتي) ن، وفي بعض الروايات: (وتجاوز فيهما) يعني: خفف
القراءة وخفف الصلاة حتى لا تستغرق وقتاً طويلاً.
وهذا الحديث على وجازة لفظه، يتكلم عليه ابن حجر رحمه الله في فتح الباري
بما يقرب من أربع صفحات، ويبحثه من عدة جوانب.
حكم صلاة تحية
المسجد لمن دخل والإمام يخطب
وأهم ما يقال في هذا أن الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب جلس
فسأله، ثم أمره، فيأتي الكلام في هذا الحديث من جهة تحية المسجد، والصلاة
وقت النهي عن النوافل، والاشتغال عن الخطبة، وقد جاء به المؤلف بعد الأمر
بالإنصات والنهي عن تنصيته، فما حكم هذا الحديث مع ما تقدم؟ إن أكثر
العلماء جعلوا بين الحديث الذي معنا والذي قبله تعارضاً؛ لأن الأول فيه:
(والذي يقول أنصت ليست له جمعة) ، وهذا سيشتغل بصلاة ركعتين والإمام يخطب،
فهل أنصت؟ قالوا: اشتغل عن الإنصات والإصغاء للخطيب بالصلاة فحصل تعارض،
ومن هنا وقع الخلاف بين الأئمة رحمهم الله.
وابن حجر يقول: الشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون: يصلي لهذا النص،
ويجيبون عن حديث الإنصات بأجوبة أوصلها ابن حجر إلى تسعة أجوبة، والآخرون
وهم مالك ومن وافقه يقولون: لا يصلي.
فـ الشافعي عمل بهذا النص في هذا الموطن، ومالك وأهل المدينة جميعاً ما عدا
ابن المسيب عملوا بالأحاديث الأخرى، وقالوا: لو أن كل داخل سيكلمه الخطيب
بأن يقوم لاشتغل الخطيب بتنبيه الناس عن الخطبة، ولحصل تقطيع الخطبة وعدم
المتابعة، فقالوا: لا يصلي.
ثم بنوا الكلام على كون الإصغاء فرضاً أو ليس بفرض؟ ثم هل تحية المسجد
واجبة أو سنة؟ ثم على وقت النهي، ونحن نعلم أن أوقات النهي سبعة، منها حين
الخطبة.
ولكن الذين يقولون بحديث سليك قالوا: النهي عن الصلاة وقت الخطبة للحاضر
الجالس الموجود قبل أن يأتي الإمام، فلا يحق له بعد مجيء الإمام وصعوده
المنبر وشروعه في الخطبة أن ينشئ صلاة النافلة؛ لأنه مطالب بأن يصغي إلى
الإمام وأن ينصت، أما القادم من الخارج فهو خارج عن هذا النهي.
والآخرون أيضاً كـ الشافعي قالوا: إذا صح أن يصلي القادم وقت الخطبة وهي
وقت نهي فإن النهي لا يتناول عموم ذوات الأسباب، وجعلوه من أدلتهم؛ لأنه
أجاز له النبي صلى الله عليه وسلم، بل أمره أن يصلي وقت النهي وهو وقت
الخطبة، والجمهور قالوا: إن هذه قضية عين في هذا الشخص ولعل لها أسباباً.
وقالوا: من أسبابها أن سليكاً دخل بثياب رثة، والرسول صلى الله عليه وسلم
أراد له أن يقوم فيصلي فيراه الناس لعلهم يتصدقون عليه، وأجيب عن ذلك بأن
ذلك تكرر منه ثلاث مرات، وفي أول مرة تصدق عليه بثوبين، ففي المرة الثانية
جاء وعليه ثوبٌ منهما وقد تصدق بالثوب الثاني، فقيل له: لا تفعل.
أي: لا تتصدق وأنت محتاج، فحمل بعضهم قول (لا تفعل) على أن المراد: لا تجلس
حتى تصلي ركعتين وإذا جئنا إلى مجمل القول في تحية المسجد فإننا نعلم
جميعاً بأنها من السنن وليست من الواجبات.
وقد استدل ابن حزم وغيره بحديث الرجل الذي جاء من نجد وسأله: (ماذا فرض
الله عليَّ من الصلوات؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة) ، قالوا: لو أننا
جعلنا تحية المسجد واجبة كالظهر والعصر لكان المكتوب ستاً لا خمساً، بل قد
تكون عشراً، فكلما دخل وجب عليه أن يصلي، ولكن جنسها يكون سادساً مع الخمس.
فهي سنة وليست بواجبة.
حكم الإنصات للخطبة
والترجيح بينه وبين تحية المسجد للداخل
وأما الخلاف في الإصغاء أهو واجب أو ليس بواجب فالجمهور على وجوبه، بدليلٍ
أن الكلام يلغي فضل الجمعة، وأما هل تجزئه عن الظهر أو لا فهذا خلاف آخر.
فالإصغاء إلى الخطبة أهم من تحية المسجد، ولو كان الأمر كذلك لكان تقديم
الإصغاء على تحية المسجد مقدماً، ولكن -كما يقول العلماء- لا نقيس وعندنا
نص، فهذا رجلٌ دخل فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمره أن يقوم فيصلي،
وبذلك استدل أيضاً بعض العلماء على أن تحية المسجد لا تسقط بالجلوس؛ لأنه
بعدما جلس قال ل: (هقم فصل ركعتين) ، وبعضهم يقول: إلا يوم الجمعة.
فالخلاف في ذلك طويل، ومالك رحمه الله وأهل المدينة يعتبرون اتفاق أهل
المدينة على عدم الصلاة وقت الخطبة للقادم وللجالس على عموم النهي، ولكن
جاء أن أحد فقهاء المدينة السبعة سعيد بن المسيب رحمه الله ورضي الله عنه
دخل ومروان بن الحكم -وهو أمير المدينة- يخطب، فقام ليصلي ركعتين، فجاء حرس
مروان الأمير ليمنعوه، فلم يمتنع حتى صلى الركعتين، ثم قال: ما كنت لأدعهما
وقد سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بهما.
ثم الذين يقولون بهما قالوا: ورد الأمر بالإصغاء والإنصات هو حتى لا تشغل
غيرك، ولا تشوش على الآخرين، وهذا المصلي لم يتكلم مع غيره، ولم يشوش على
غيره، وصلاته لا تمنعه أن يسمع خطبة الإمام؛ لأنه يصلي صلاة سرية، والخطبة
تأتي إلى مسامعه، فقد يسمع ذلك ولا يفوته منها شيء.
ثم مراعاة للواقع جاء في الحديث: (وتجوز) ، ومعنى ذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم قد لحظ ما يجب على المصلي من الإصغاء، ولحظ ما ينبغي للقادم من
الصلاة، فجمع بين الأمرين: الإصغاء مع الصلاة، فالإصغاء في كونه يتجوز، أي:
يخفف ويقصر الزمن، فلا يفوته الكثير من الخطبة، ويأتي بتحية المسجد فلا
يضيعها، ويكون قد جمع بين الأمرين.
والجمهور على أنه يترك ولا يصلي، والشافعي رحمه الله على أنه يصلي ويتجوز
فيهما، وعلماء الحديث قاطبة على تقديم هذا الحديث على العمومات الأخرى،
قالوا: عمومات النهي يخصصها القادم يوم الجمعة وقت الخطبة، وأحاديث النهي
عن الصلاة في الأوقات السبعة على ما هي عليه، وهذه خصت كما خصت الصلاة بعد
العصر بقضاء الفائتة، وكما خصت غيرها بصلاة الكسوف أو غيرها في أوقات
النهي، فهذا الحديث يخصص عمومات النهي عن الصلاة في تلك الأوقات.
ومن أجوبتهم أيضاً: أن الحديث قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه دخل
رجل والنبي يخطب، وليس فيه ذكر يوم الجمعة، قالوا: فلعل ذلك يكون في غير
يوم الجمعة فيكون بعيداً من الوقت المنهي عنه.
ولكن أجيب عن ذلك بأنه صرح في الحديث أنه كان يخطب يوم الجمعة، ومعلوم
عندنا أن الجنس يقدم فيه أعلاه، فالخطبة أعلاها في الإسلام هي خطبة الصلاة
ليوم الجمعة، ولا يكون يوم الجمعة خطبة في العادة إلا للصلاة، وقد تكون
خطبة بعد العصر أو في الضحى لأمر آخر، لكن إذا أطلقت انصرف المعنى إلى خطبة
الصلاة وخطبة الجمعة بذاتها، وعلى هذا فالأنسب للقادم إلى المسجد والإمام
يخطب أن يصلي الركعتين متجوزاً فيهما.
وقوف المتأخر إلى
نهاية الخطبة الأولى ثم يصلي تحية المسجد
وقد نشاهد بعض الناس يظل واقفاً إلى أن ينتهي الإمام من الخطبة الأولى، ثم
ينشئ الصلاة، أو يجلس حتى إذا بدأ الإمام في الخطبة الثانية قام وصلى،
والخطبة الثانية والخطبة الأولى سواء، وما دام أنه قد أذن لنا النبي صلى
الله عليه وسلم بالصلاة حينما يدخل الإنسان وقبل أن يجلس، فليصلها ولا يظل
واقفاً، حتى إن بعضهم قال: لا يدخل المسجد حتى لا يتعارض وجوب الإصغاء مع
الأمر بالصلاة، وهذا شيء عجيب، فهو يفوت على نفسه سماع الخطبة ويخالف بذلك
الحديث.
وعلى من أتى الجمعة أن يحاول أن يبكر قبل أن يجيء الإمام؛ لأن هذا سنة، وقد
قيل: أول سنة تركت هي التبكير يوم الجمعة.
وعمر رضي الله عنه يعاتب عثمان رضي الله عنه حينما دخل المسجد وعمر يخطب،
فقال: أي ساعة هذه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين! ما لبثت أن سمعت النداء
فتوضأت فأتيت.
قال: والوضوء أيضاً؟ يعني: وأيضاً ما اغتسلت! فهنا عمر رضي الله عنه ما قبل
من عثمان أن يتأخر حتى يأتي وقت الخطبة، وهل عمر عاتب كل إنسان؟ وهل جاءنا
أن عمر عاتب كل من تأخر؟ والجواب: لا، فالناس لهم أعذارهم، ولكن عثمان من
أئمة الصحابة ومن قادتهم، وصدور الشيء من قادة الناس بخلافه من عامتهم، كما
قال عمر لـ طلحة وقد رآه لابساً ثوباً مصبوغاً: ما هذا يا طلحة؟ وقد علمت
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الصبغ بالورس والزعفران! -والورس
والزعفران يعطيان لوناً أحمر- قال: يا أمير المؤمنين! ما هو بورس ولا
زعفران، وإنما هي المغرة.
قال: يا طلحة! إنك من أصحاب رسول الله -أي: من طليعتهم ومن أكابر أصحاب
رسول الله- فلعل رجلاً يراك بهذا فيظن أنك صبغت بورس وزعفران، وأنتم أئمة
يقتدى بكم.
فلما كان طلحة من الذين يقتدى بهم كان عليه أن يتباعد عما فيه الشبهة؛ لئلا
يظن جاهل أنه ارتكب ما نهي عنه، فيقتدي به، وكذلك عثمان إمام يقتدى به،
فإذا كان عثمان يتأخر فمن سيتقدم؟ ولكن كما يقولون: الناس لها أعذارها.
ولذلك لما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه أنشأ أذاناً قبل الوقت على
الزوراء، والزوراء كانت عند باب الشام الذي فيه الآثار القديمة، ويبعد عن
المسجد النبوي حوالي أربعمائة متر، وكان في سوق كما يقال، أو عند مخازن
الزيت أو أحجار الزيت، وكان في وسط سوق المدينة، فكان المؤذن بأمر عثمان
يؤذن قبل الوقت لينقلب أهل السوق إلى بيوتهم ليتهيئوا للجمعة، وليحضروا إلى
المسجد قبل أن يدخل وقت الأذان الذي به تكون الصلاة، وذلك لأنه لما وقع
فيما وقع فيه قال: ما لبثت أن سمعت الأذان فتوضأت وجئت.
يعني: لو كان هناك تنبيه قبل هذا كنت جئت، فهو أحدث التنبيه السابق ليتهيأ
الناس قبل الوقت، وليأتوا متهيئين؛ لئلا يفوتهم أول خطبة الإمام يوم
الجمعة.
فالواجب على الإنسان التبكير، ويذكر بعض العلماء أن أهل المدينة كانوا ربما
قدموا إلى الجمعة ومعهم المصابيح تضيء لهم الطريق، أي: كانوا يجيئون فيصلون
الصبح ثم يقعدون، كما يحصل في صلاة العيد، حيث يبكر الناس لأجل الأماكن،
وقد جاء في الحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قدم بدنة ... ) إلخ،
فالواجب أن يبادر الإنسان إلى الجمعة، فإذا ما تأخر لعذر وجاء والإمام يخطب
فليصل ركعتين كما في هذا الحديث.
وبعضهم يجيب عن هذا الحديث بكونها قضية عين، ومعنى أنها قضية عين عند
الفقهاء أنها خاصة بشخص معين، وأنه حديث غير عام، فلم يقل: من أتى والإمام
يخطب فليركع ركعتين ويخفف فيهما، فلو جاء مثل هذا النص لكان تشريعاً عاماً،
فقالوا: هي قضية عين؛ إذ أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلفت الأنظار
إلى سليك ليتصدق الناس عليه.
فقالوا: لا يصلح هذا أن يكون دليلاً لجميع الناس، ولكن يجيب بعض العلماء
على أن قضية العين أعقبها تشريع عام، حيث قال: (قم فصل ركعتين وتجوز فيهما)
، ثم قال: (من أتى والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) ، فانتهت
قضية العين وأعقبها تشريع عام لكل من أتى، وبعضهم يقول: هذا الحديث ضعيف لا
يقاوم الأحاديث الأخرى.
والأرجح في ذلك العمل بهذا الحديث، فعلى الداخل أن يصلي ركعتين خيفيفتين،
والله تعالى أعلم.
قراءة النبي صلى
الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقين
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين) ، رواه مسلم] .
تقدم عن أم هشام قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين كان يخطب بها الناس على أعواد منبره يوم الجمعة) قالوا: إن
(كان) تدل على الدوام والاستمرار، فقال بعض العلماء: كان يقرأ دائماً،
وأشرنا إلى أن هذا ليس بلازم، فحيناً يقرأ بها وحيناً يقرأ بغيرها، فمن شاء
قرأها ومن شاء قرأ بعضها، ومن شاء قرأ غيرها من السور.
وهنا يأتينا المؤلف رحمه الله بحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة وسورة المنافقون، وسيأتينا
حديث آخر فيه أنه كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك) ، فليس هناك
ملازمة ولا مداومة ولا تعيين لسورة بعينها، ويكون ذلك من باب الأكثرية،
فأكثر ما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بهذه السور، ولهذا
أخذت عن لسانه على المنبر، وحفظ عند الصحابة رضي الله عنهم.
وقد أشرنا أن سورة (ق) اشتملت من أدلة البعث على ثلاثة من أربعة، وهنا
أيضاً يتكلم العلماء عن مناسبة سورة الجمعة -وهي باسم اليوم- وعن مناسبة
سورة المنافقون، فيقولون: قراءة سورة الجمعة تعزيز وتدعيم وتهييج وتقوية
وإثارة للمؤمنين بما فيها من توجيهات، وحث على الجمعة والمحافظة عليها،
وتعريض باليهود، وسورة المنافقون خاصة بهم، ففيها تحذير وكشف عن حقائقهم،
وكشف مواقفهم، ولهذا نحب أن نلم بالسورتين إلماماً سريعاً كما ألممنا
بمقدمة سورة (ق) .
قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما
في الأرض ... )
ففي مقدمة سورة الجمعة يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ} [الجمعة:1] ، وسورة الجمعة قبلها سورة الصف، وافتتحت سورة الصف
بـ (سبح) ، وهو فعلٌ ماض، وفي أول الجمعة (يسبح) ، وهو فعل مضارع، وهذا
الفعل -كما أشرنا إلى ذلك في تتمة أضواء البيان- جاء في القرآن الكريم بكل
تصاريفه، فجاء بالماضي وبالمضارع وبالأمر كقوله تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ
رَبِّكَ} [الأعلى:1] ، وبالمصدر، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى}
[الإسراء:1] ، فكل تصاريف هذه المادة جاءت في القرآن الكريم تنزيهاً لله
سبحانه وتعالى.
وقد جاء في هاتين السورتين -أي الجمعة والصف- ما يدل على عموم وشمول هذه
المادة لجميع الكائنات، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]
، وجاء التفصيل كقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ}
[الرعد:13] ، وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}
[ص:19] ، فجاء في حق الإنسان والملائكة والرعد والجماد وغير ذلك، وهذا
لعظيم شأنه سبحانه.
والتسبيح هو التنزيه، وقد أشرنا إلى ذلك في مدلول قول: (سبحان الله والحمد
لله) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيهما، قوله: (كلمتان خفيفتان على
اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده) ؛
لأنهما تجمعان طرفي التنزيه وكمال التوحيد، فـ (سبحان) تنزيه لله عن كل
نقص، وعن كل ما لا يليق بجلاله؛ لأن مادة (س ب ح) إنما وضعت للسباحة في
الماء، والسابح في الماء يبذل جهده لينجو من الغرق، فكذلك الذي يسبح ربه،
فهو يسبح في ملكوت الله، وفي علم الله، وفي مقدوره واعتقاده لينجو من هلكة
الشرك بأن ينسب إلى الله ما لا يليق به.
والحمد -كما قالوا-: هو الثناء على المحمود لكمال ذاته، وليس لما يصدر عنه
من نعم وغير ذلك، فجمع قوله: (سبحان الله وبحمده) طرفي التوحيد والكمال لله
تعالى.
وهنا يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [الجمعة:1] ، و
(ما) -كما يقال - تكون لغير العاقل، وتكون للجماد، ولا تستعمل للعاقل إلا
بالتنزيل، وهنا إثبات تسبيح عالم السماء وعالم الأرض لله الملك القدوس.
قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين
رسولاً ... )
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً} [الجمعة:2] ،
فبعد تسبيح الله جاء تكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقدر على
ذلك إلا الله تعالى؛ لأنه جعل من الأمي رسولاً إلى الأميين، وهم العرب؛
ولكن ما بعث في الأميين للأميين، وإنما بعث في الأميين للعالمين.
فبعث فيهم من جنسهم، ولكن للناس كافة، فقال تعالى: {رَسُولاً مِنْهُمْ}
[الجمعة:2] ، فهو أمّي ورسول، ومهمته هي كما قال تعالى: {يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
[الجمعة:2] ، فهذا أمّي في أمة أمية يصبح معلماً للكتاب، ويزكي الأمة،
ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويخرجهم من الضلال إلى الهداية، أليست هذه معجزة؟
بلى إنها معجزة.
فلو جيء بفيلسوف عبقري إلى جماعة يعلمهم ويرشدهم، لقيل: هذه فلسفة، ولكن
رسول الله صلى الله عليه وسم لم يقرأ ولم يكتب، لكن كل علوم الدنيا أنزلت
عليه في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء ليعلمهم الكتاب، ويعلمهم
الحكمة، ويزكيهم مما كانوا عليه {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ} [الجمعة:2] .
قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم
... )
ولم يقتصر تعليمه على من عاصرهم، بل قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] أي: لما يأتوا بعده ولما سئل صلى
الله عليه وسلم:: (من هم هؤلاء الآخرون يا رسول الله؟ وكان سلمان الفارسي
جالساً فوضع بيده على ظهره وقال: لو أن الإيمان في الثريّا لبلغه رجالٌ من
قوم هذا) يعني: هم فارس والروم، وفي ذلك الوقت ما دخل في الإسلام منهم أحد
سوى سلمان رضي الله عنه.
ومن العجيب أنه في صدر الإسلام يسوق الله من جميع الأمم والأجناس أصنافاً
تشترك في الإسلام، وتستظل بدوحة الإيمان، كـ سلمان الفارسي، وصهيب الرومي،
وبلال الحبشي، وكما يقال: الواحد بالجنس، فإذا أسلم واحد من الفرس أمكن
إسلام الجميع؛ لأنه واحد منهم، وإذا أسلم واحد من الروم أمكن إسلام الجميع،
وإذا أسلم واحد من الحبشة أمكن إسلام الجميع؛ لأن الذي يجري على واحد من
جنس يجري على جميع أفراد الجنس، فالإنسان -كما يقال- حيوان ناطق، فما يجري
على فرد من أفراد الحيوانات يجري على جميع أفرادها، فالحيوان يجوع ويعطش
ويشبع ويروى ويمرض ويموت، وكذلك جميع أفراد الحيوانات، فكذلك هذه الأجناس
البشرية جاءت منها نماذج واستظلت بدوحة الإيمان في الجزيرة العربية.
فمن كمال الرسالة ومن تمام النعمة أن الدعوة الإسلامية لم تقتصر على من
نشأت فيهم وبين أيديهم، ولكنها ستمتد وتأتي إلى آخرين لما يلحقوا ولم يأتوا
بعد، وقد جاء في الأثر -كما يذكر ابن كثير -: (إن في أصلاب رجال ونساء من
أمتي قوم سيدخلون في الإسلام) ، وفي الحديث أنه قال لأصحابه صلى الله عليه
وسلم: (أنتم أصحابي وسيأتي بعدكم إخوانٌ لنا.
قالوا: ألسنا بإخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواننا قومٌ لم يأتوا بعد،
آمنوا بي ولم يروني، يود أحدهم لو رآني بملء الأرض ذهباً) .
وهذا في سورة الحشر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}
[الحشر:10] ، وقد جاء رجل إلى الحسن رضي الله عنه، وتكلم عنده على ما حصل
من علي ومعاوية رضي الله عنهما، فقال: يا هذا أأنت من الفقراء المهاجرين؟
قال: لا.
قال: أأنت من الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟
قال: لا.
قال: ما أظنك أيضاً من الفرقة الثالثة: (الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإِيمَانِ) ، بل جئت تطعن فيهم، وجئت تتكلم عليهم فاخرج عنا.
ولذا جاء عن مالك رحمه الله أنه قال: من كره أصحاب رسول الله فليس له حظٌ
في الفيء.
ويهمنا هذا التقسيم الثلاثي الذي أشار إليه الحسن رضي الله عنه، فالمسلمون
إما مهاجرون، وإما أنصار تبوءوا الدار والإيمان من قبل مجيء المهاجرين،
وإما آتون من بعدهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ
لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] .
ومن هنا يعلم أن كل من كان في قلبه شائبة غل لأحد من أصحاب رسول الله، أو
من أتباعهم فليحذر، وليخش على نفسه، فإنه في موضع خطرٍ عظيم عليه.
وهنا يقول تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}
[الجمعة:3] ، و (لما) تأتي في اللغة للنفي مع ترجي الحصول، بخلاف (لم)
فقولنا: (لما يأت زيد) ، معناه: لم يحضر وسيحضر، كما في قوله سبحانه في حق
الأعراب: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}
[الحجرات:14] ، أي: لكن يطمع في دخوله.
ولذا تقول: أثمرت الشجرة ولما تونع الثمرة، أي: هي في طريقها إلى الإيناع.
قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
... )
قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4] .
(ذلك) اسم إشارة يرجع إلى ما قبله، فيشمل بعثة النبي الأمي من الأميين،
ويشمل شمول بعثته لتعليم الأميين الكتاب والحكمة وتزكيتهم مع الذين يأتون
من بعدهم.
فهو فضل نعمة النبوة على الأمة التي أنعم عليها بهذا النبي الأمي الكريم،
ونعمة امتداد الدعوة وشمولها لمن لم يشهد نزول الآية الكريمة، (ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ) ، ولهذا كان الإنعام على العبد بالإيمان محض نعمة من الله،
حتى قال العلماء: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها: إيجاده من العدم، ونعمة
الإسلام، ودخول الجنة.
وبيان ذلك أن الإنسان قبل أن يوجد في هذه الدنيا ويبصر بعينيه كان في
العدم، ولم يكن منه فعل يوجب خروجه إلى الدنيا؛ لأنه معدوم، والعدم لا يكون
منه وجود، وغاية ما يكون أن أبويه تزوجا واجتمعا، وليس كل اجتماع زوجين
يتأتى منه الولد، بل هي هبة من الله، كما قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ
إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ
قَدِيرٌ} [الشورى:49-50] .
فإيجاده نعمة من الله، وإلا فلو كان الأبوان عقيمين فمن أين سيأتي؟ فهي
نعمة من الله لم يكن للإنسان فيها كسب.
والنعمة الثانية: نعمة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد
على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، هذا الشخص الذي ولد
من أبوين مسلمين، لو قدر له أن يولد من أبوين نصرانيين أو يهوديين فينصرانه
أو يهودانه، مع أن أول مجيئه إلى الدنيا كان على الفطرة، فكون الإنسان يولد
من أبوين مسلمين لا كسب له ولا عمل له في ذلك.
وكذلك دخول الجنة، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (لن يدخل أحدكم
الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ،
فقوله تعالى: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) هي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
كانت فضلاً على الأمة التي بعث فيها، وعلى الذين يأتون بعد ذلك، فتعمهم
وتشملهم الدعوة.
وها نحن والحمد لله في القرن الخامس عشر بعد بعثة سيد الخلق صلى الله عليه
وسلم نقرأ القرآن الذي أنزل على رسول الله، والكتاب الذي علمه أصحابه،
ولكأنه نزل الآن، وكلما قرأناه فكأننا نقرأ شيئاً جديداً، وكلما نسمعه
كأننا نسمع شيئاً جديداً، فلا يخلق على طول الزمن، ولا يبلى على كثرة
التكرار، يصلي الإمام العشاء فيقرأ الفاتحة في الركعتين الأوليين، ويصلي
التراويح عشرين ركعة، ويصلي الوتر ثلاث ركعات، ويقرأ الفاتحة في كل ذلك،
وكما نسمعها في أول الصلاة في العشاء في الركعة الأولى نسمعها جديدة في آخر
ركعة في الوتر، لا تمجها الأسماع، ولا تستثقلها القلوب، بل يستأنس لها
الإنسان كلما سمعها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] .
قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ...
)
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] .
في هذا تعريض باليهود وهم موجودون ويسمعون، وكل التوراة أنزلت على موسى
وأتباعه من اليهود، وقد علموا أن هذا النبي الأمي للناس جميعاً، كما قال
تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ومع
ذلك يعرضون، فكأن خطبة الجمعة وصلاتها مقارع على رءوسهم، فهذه النعمة التي
فاتتهم، وهذا الفضل من الله الذي حرموه؛ مثلهم فيه كما قال تعالى: {مَثَلُ
الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة:5] .
ففيها تأييد للمؤمنين، وفيها تقريع لليهود، وتأتي بعدها سورة المنافقون
فتشمل القسم الثالث.
قال تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ
اللَّهِ} [الجمعة:5] أي: وهم يعلمون صدقها، ويعلمون صدق النبي صلى الله
عليه وسلم، وكانوا يستفتحون على الأوس والخزرج قبل البعثة بأنه سيبعث نبي
آخر الزمن ونتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] .
قوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا ... )
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ
أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ.
} [الجمعة:6] أي: أنتم تقولون: نحن أولياء الله، وتقولون: نحن أبناء الله
وأحباؤه، فإن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس -أي: من دون المسلمين-
فتمنوا الموت لأجل أن تذهبوا إلى من أنتم أولياؤه في زعمكم، فتجدون
الكرامة، وتجدون الحنان، وتجدون الرضا، وتجدون النعيم، فأنتم أولى به من
غيركم؛ وهذا قول بعض العلماء.
وبعضهم يقول: تمنوا الموت للظالم الضال، على حد قوله: {وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ، فواحد من
الفريقين هو الضال.
إذاً تمنوا الموت للفريق الضال ليصفو المكان وتبقى الولاية لكم: {إِنْ
كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6] أي: في زعمكم، والواقع هو قوله تعالى:
{وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة:7] ، فلا يمكن أن يتمنوه؛ لأنهم
يعلمون ماذا يكون مصيرهم إذا ماتوا.
وبعضهم يقول: هذه مباهلة مع اليهود، كما وقعت مع نصارى نجران حين قال تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ
ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل
عمران:61] ، فقال بعض السادات منهم: تعلمون -والله- أنه ما بوهل نبي إلا
أهلك من باهلوه، والله لو باهلتم رسول الله لرجعتم بغير مال ولا أهل.
فاعتذروا وقالوا: يا محمد! نعطيك ما تطلب وتتركنا على ما نحن عليه، ففرض
عليهم الجزية، ورجعوا على دينهم.
فمعنى (تمنوا الموت) اجتمعوا واطلبوا الموت لأضل الفرقتين.
وهناك من يقول: تمنوه لأنفسكم لتلحقوا بمن تزعمون، ولكن لعلمهم بحقيقة
الأمر فإنهم لا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم من التكذيب والتضليل وإضلال
الناس وكتمان الشهادة.
قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:7] فهم ظالمون،
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] ، فإذا كنتم خائفين من الموت فالموت لا بد منه،
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] .
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي
للصلاة من يوم الجمعة ... )
وبعد هذا التقريع الكامل لليهود وتحديهم رجع إلى تذكير المؤمنين فقال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
} [الجمعة:9] أي: فيا أيها المؤمنون! اعلموا أن اليهود حرموا من ذلك،
وفاتهم هذا الفضل من الله، أما أنتم فحافظوا عليه، فإذا نودي للصلاة من يوم
الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله.
ويرى بعض العلماء أن السعي سرعة المشي، والسعي: هو الأخذ بالأسباب، فالسعي
هنا هو الأخذ بالأسباب للذهاب إلى الجمعة، وليس الجري؛ للنهي عن ذلك في
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة
والوقار) .
قال تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوا البيع واذهبوا إلى
ذكر الله، وقدمنا مراراً التنبيه على أن هذا الموطن من هذه السورة الكريمة
يبين أن الإسلام يجمع بين منهجي الروح والمادة إشباعاً لحقيقة الإنسان
لتكوينه من روح وجسد، والجسد يحتاج إلى ما يقيم حياته وهو الأكل والشرب،
والروح تتطلب ما يقيم وجودها وهو ذكر الله.
فجمع بين الأمرين، خلافاً لليهود حيث غلبوا جانب المادة واحتالوا على ما
حرم الله في استباحة الصيد وجمع الشحوم وأكلها، وشغلوا عن غذاء الروح،
فكانوا على جانب واحد، والنصارى بالعكس، كما قال تعالى عنهم:
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا
ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}
[الحديد:27] ، فاليهود أخفقوا لترجيح جانب المادة، والنصارى أخفقوا لترجيح
جانب الروح، والإسلام جاء وسطاً وجمع بين الأمرين، فكان الدين الوسط، وكان
الجامع لما يقيم أمر الإنسان، فاستقام الإنسان على هذا الدين، وكان أتباع
الدين خير أمة أخرجت للناس.
قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة:9] أي: هذا للتشريع، فاتركوا
البيع واذهبوا إلى ذكر الله فهو خير لكم من بقائكم في البيع والشراء {إِنْ
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] .
قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة ... )
قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] فإذا أتيتم بالواجب عليكم من
طاعة الله، وأتيتم حظكم من الموعظة والتذكير وذكر الله، فانتشروا في الأرض
وابتغوا من فضل الله.
والانتشار: الاتجاه في جميع أرجاء الأرض، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}
[الملك:15] ، فذللها لهم.
فقوله تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)
معناه أنه ليس الكسب بجهدك وقدرتك، بل هو فضل من الله عليك، ومع ابتغائك من
فضل الله بفعل أسباب الرزق لا تنشغل عن ذكر الله، سواءٌ أكنت في مصنعك، أم
في مزرعتك، أم في بيعك وشرائك، ففي مزرعتك تبذر الحبة وتدفنها في التراب
وتسقيها الماء وتقول: يا رب: أنبتها واحفظها.
وتقول في متجرك: يا رب! ارزقني وبارك لي.
وتقول في مصنعك: يا رب أشهر صناعتي، ووفقني للابتعاد عن الغش، فمراقبتك لله
في وزنك وفي كيلك وفي زرعك وفي صناعتك كل ذلك ذكر لله فضلاً عن ذكر اللسان.
وفي أوائل الستينات كانت توجد هذه الصورة في المدينة المنورة، فتمر بالسوق
سواءٌ سوق العياشة أم سوق الحبابة أم سوق التمارة أم سوق البزازين أم سوق
الصاغة، إذ لكل طائفة سوق في مكانه معروف، فتأتي بعد العصر وكل في محله
الميزان أمامه والمصحف بين يديه يقرأ القرآن، فإذا جاء مشتر وضع علامة على
موضع القراءة ثم أغلق المصحف ليبيع للمشتري، ثم إذا فرغ رجع إلى مصحفه،
وهكذا كان القرآن بين أيدي الباعة خاصة في رمضان، وكنت تمر في أزقة المدينة
في الليل فتسمع القراءة كدوي النحل، ولم يكن ذلك قاصراً على الرجال، بل كان
النسوة والأطفال كذلك في بيوتهم.
فالبائع في دكانه يبتغي من فضل الله، ولم يغفل عن ذكر الله، حيث أمامه
المصحف والكتاب والميزان معاً، فالميزان لعمله، والكتاب لقراءته، فكان
تطبيقاً لقوله سبحانه: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الجمعة:10] .
قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً
انفضوا إليها ... )
ثم جاءت قضية عتاب الذين انفضوا عن رسول الله، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا
تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] ، وهذا حين كانت
الخطبة بعد الصلاة، وكانوا يظنون أن الخطبة نافلة فإذا تمت الصلاة فمن شاء
جلس أو استمع ومن شاء انصرف، ثم بعد ذلك انتقلت الخطبة قبل الصلاة لئلا
يذهب أحد.
ويبحث بعض العلماء في الضمير في هذه الآية، حيث يقول تعالى: (انفضوا إليها)
و (إليها) ضمير مؤنث، واللهو مذكر والتجارة مؤنثة، والضمير راجع إلى
التجارة، يقول بعض علماء اللغة: العود على أحد المذكورين يشمل الثاني، ولكن
لماذا رجع على المؤنث دون المذكر؟ والجواب: رجع على التجارة لأنها الأصل
وهي السبب؛ لأنه كان من عادتهم إذا قدمت تجارة أن يدقوا لها الطبول، وهذا
هو اللهو؛ ليعلم بقدومها التجار، فيجتمعون ويتساومون ويبيعون ويشترون، فلما
كانت التجارة هي الأصل رجع الضمير عليها.
قال تعالى: {انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] يقول
صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) ، فرحمهم
الله بهذا العدد الباقي.
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} [الجمعة:11] أي: مما دعاكم إليه {خَيْرٌ مِنَ
اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
[الجمعة:11] ، فأنتم خرجتم للتجارة تطلبون الرزق في البيع والشراء، وما عند
الله بالسمع والطاعة والبقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم مما
انصرفتم إليه، والله خير الرازقين، فالرزق عند الله ليس من عند هذه
التجارة.
وحاصل الكلام أن هذه السورة الكريمة بينت حق الله سبحانه وتعالى على
الكائنات، وأنه يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض.
ثم بين فضل النبي صلى الله عليه وسلم ونعمته عليه وعلى الأمة، وعلى من يأتي
بعد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ثم قرعت اليهود في كونهم يكتمون
الشهادة، وفي كونهم لم يؤمنوا أو لم يستفيدوا مما آمنوا به، وضرب لهم هذا
المثل السيئ، ثم ذكر المؤمنين وحثهم على الحفاظ على الجمعة وما فيها من فضل
لهم.
والسورة الثانية تعقبها مباشرةً في رسم المصحف، وهو سورة المنافقون، فبعد
أن بين حقيقة اليهود جاء إلى حقيقة المنافقين، وهي الطائفة الثالثة في ذلك
الوقت، فقد كان في المدينة مسلمون ويهود ومنافقون، فتكلم عن المنافقين وكشف
عن أحوالهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يقرأ في الركعة الأولى
سورة الجمعة، وفي الركعة الثانية سورة المنافقون؛ لاقترانهما وترتيبهما في
المصحف، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم ربما كان يقرأ في الجمعة (سبح اسم
ربك الأعلى) والغاشية.
فلهذه المناسبات، ولمضمون هاتين السورتين الكريمتين كان يقرأ بهما في صلاة
الجمعة، حيث يجتمع الجميع والكل يسمع في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجمعة [6]
من أحكام وسنن يوم الجمعة الترخيص لمن صلى العيد يوم الجمعة مع الإمام في
أن يتخلف عن صلاة الجمعة؛ لوقوع المقصود من صلاة ركعتي العيد والاستماع إلى
الخطبة، وأن يقرأ الإمام بسورتي الأعلى والغاشية كما فعل صلى الله عليه
وسلم.
قراءة النبي صلى
الله عليه وسلم لسورتي الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال:
(كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث
الغاشية) ] .
يقول المصنف رحمه الله: وله، أي: لـ مسلم الذي روى ما تقدم من أنه صلى الله
عليه وسلم: (كان يقرأ في الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقون) .
أنه كان يقرأ في الجمعة وفي العيدين (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (هل أتاك
حديث الغاشية) .
ولا حاجة إلى تتبع السورتين في بيان المناسبة، فقد ذكرنا فيما يتعلق بسورة
الجمعة والمنافقون ما يكفي من بيان مناسبة اختيار هاتين السورتين في يوم
الجمعة، وكذلك هاتان السورتان، أي: الأعلى والغاشية.
والجمعة والمنافقون متتاليتان في المصحف، وكذلك سبح والغاشية متتاليتان في
المصحف، وكل من الثانية تكمل موضوع الأولى.
ويهمنا هنا زيادة [في الجمعة والعيدين] ، وربط الجمعة بالعيدين هو لأن يوم
الجمعة عيد من أعياد المسلمين، والعيدان هما عيد الفطر وعيد الأضحى، وسمي
العيد عيداً لعوده، أي: لمجيئه وعودته في كل سنة.
وهنا لفتة بسيطة فيما يتعلق بالعيد في الإسلام.
فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم وللناس أعياد كثيرة، فقال صلى الله عليه
وسلم: (إن الله أبدلكم بأعياد الجاهلية عيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى) ،
وبالتأمل في هذين العيدين نجدهما يتميزان، أو أن العيد في الإسلام يتميز عن
العيد في غير الإسلام بأمر عملي؛ لأن الأعياد في غير الإسلام إنما هي
ذكريات لا حقائق، بمعنى أن أعياد غير المسلمين لأحداث قد وقعت ثم انتهت،
فإذا جاء موعدها من السنة الثانية عيدوا ذكرى لما تقدم، فمثلاً صوم يوم
عاشورا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه قالوا: هو يوم نجى الله
فيه موسى من فرعون، فصامه موسى شكراً لله، وصامه اليهود، ويعيدون صومه كيوم
عيدٍ عندهم، وذكر الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل مع نبي الله عيسى
قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً}
[المائدة:112] قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين.
قالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا}
[المائدة:113] ، فالمسألة مسألة أكل وشرب، فقال عيسى فيما حكى الله تعالى
عنه: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ
تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114] .
فكانوا يجعلون يوم نزول المائدة عيداً، والمائدة نزلت مرة واحدة، وكانوا
يعيدون في يومها من كل سنة، فالأعياد التي جاءت بعد يوم نزول المائدة ليس
فيها مائدة، ولكن ذكرى المائدة، وكذلك الأعياد والطقوس والعادات عند الناس.
أما أعياد الإسلام فهي حقيقة، وليست ذكريات؛ لأن كل سنة يأتي فيها العيد
بموجبه ومسبباته، فعيد الفطر سببه أنه لما أكرم الله المسلمين بأداء واجب
صوم هذا الشهر المبارك، جعل لهم ختام صيامهم عيدا، فعيد الفطر في كل سنة
ذكرى لحدث حاضر يتجدد في كل سنة بذاته، فكل عيد فطرٍ في الإسلام مستقل،
وليس لذكرى ماضية، وكذلك عيد الأضحى، فلما منّ الله على المسلمين بالحج
وجاءوا من كل فج عميق، وأمّن لهم السبيل، وأمّن لهم الطعام، وأدوا مناسكهم
قال: هلم إلى المائدة.
ومائدة الإكرام ثلاثة أيام، فالموائد يطعمون منها ويأكلون ويطمعون القانع
والمعتر أيام منى.
ومن هنا كان الصائم يوم العيد معرضاً عن ضيافة الله.
فالعيد في الإسلام حقيقة، والأعياد في غير الإسلام من باب الذكرى.
ومن هنا شرفت الأعياد في الإسلام بشرف أسبابها ومسبباتها، وسن النبي صلى
الله عليه وسلم في صلاة العيدين أن يخرج جميع الناس حتى النساء والحيض
وربات الخدور، فاللواتي لا يخرجن من بيوتهن يخرجن، والحيض يحضرن ويعتزلن
المصلى، ويشهدن بركة ذلك الجمع بالدعاء بالخير تكثيراً للمسلمين.
ومن هنا كان التدرج في اجتماع المسلمين، فيجتمع أهل الحي في خمس صلوات خمس
مرات للجماعة، ويجتمع أهل القرية كل أسبوع مرة للجمعة، ويجتمع أهل المصر
والقطر وضواحي القرية والمدينة في عيدٍ في صعيد واحد في الخلاء، ويجتمع
العالم الإسلامي ممثلاً في أفراده الذين يأتون رجالاً وعلى كل ضامر من كل
فج عميق، في الحج الأكبر أو في يوم عرفة.
فدين الإسلام دين اجتماعي، ودين جمع الأمة وتوحيدها، فكان صلى الله عليه
وسلم بمناسبة هذا الجمع في الجمعة يقرأ هاتين السورتين (سبح والغاشية) .
الرخصة لمن صلى
العيد يوم الجمعة ألا يحضر الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: (صلى
النبي صلى الله عليه وسلم العيد، ثم رخص في الجمعة، ثم قال: من شاء أن يصلي
فليصل) رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة] .
يأتي المصنف رحمه الله تعالى بعد بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في
الخطبة سورة (ق) ويقرأ في الصلاة تلك السور الأربع، ببيان ما إذا اجتمع عيد
الأضحى أو الفطر ويوم الجمعة، فالجمعة عيد مستقل، والأضحى والفطر عيد
مستقل، وصلاة الجمعة مرتبطة باليوم لا تنفك عنه، فلا تصلى الجمعة في السبت
أو في الخميس، فهي مرتبطة بيومها، ولكن عيد الفطر وعيد الأضحى إنما يدوران
في الزمن مع القمر، فالأيام تدور دورة شمسية، والأشهر تدور دورة قمرية،
فدورة الشمس في أربع وعشرين ساعة، فتأتي بالأيام وبالصلوات الخمس، ودورة
القمر في فلكه تأتي بالأشهر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته) ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] .
فهي أشهر قمرية وأيام شمسية، لا تتغير الأيام منذ خلقها الله، فالعيدان
مرتبطان بالقمر، فيأتي عيد الفطر في صيف أو في شتاء أو في خريف في أي يوم
من الأيام حسب الشهور، وكذلك عيد الأضحى.
وما دام العيدان متنقلين فيمكن أن يوافقا يوم الجمعة، فيجتمع عيدان: عيد
الجمعة ليومها، وعيد الفطر أو عيد الأضحى لمناسبته، وكل منهما يحتاج إلى
اجتماع وإلى خطبتين، وإلى صلاة ركعتين، فهل نصلي العيدين معاً الجمعة
والعيد الذي حضر، أو نكتفي بواحد منهما؟ فجاء المصنف بهذا الحديث ليبين
ماذا يكون على الناس إذا اجتمعت الجمعة مع أحد العيدين، فقال: (صلى النبي
صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة) .
و (ثم) للترتيب والتراخي، فصلى العيد في يوم العيد ورخص في الجمعة بعد ذلك.
قوله: (ثم رخص) الرخصة عند الأصوليين مأخوذة من المعنى اللغوي، أي: الشيء
اللين، كما قال الشاعر: ومخضب رخص البنان.
ومنه الثمن الرخيص؛ لأن العيشة فيه تكون لينة، بخلاف الثمن الغالي حيث تكون
شديدة، فرخص البنان: لينه، ورخص السعر لين العيش، فرخص معناه: ليّن وخفف في
الحكم، ولذا تكون الرخصة مع الشدة، والشدة تقتضي الترخيص، ولذا حينما تقع
مجاعة أو يكون الإنسان في خلاء، ويشتد عليه الجوع، ولم يجد إلا الميتة
-والميتة محرمة- رُخص له أن يأكل الميتة تخفيفاً عليه من حكم المنع الذي
يؤدي إلى وفاته.
فالرخصة: رفع حكم بحكم آخر مع بقاء الحكم الأصلي، أو: إباحة ممنوع بنص
متجدد بعد المنع مع بقاء حكم المنع، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] مع قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، فلما أباح
الله ورخص للمضطر أكل الميتة أبقى الحكم على التحريم، وأعطى المضطر رخصة
الأكل منها حتى يجد كفاف العناء، فهي في الحال محرمة، ولكن أبيح له، ولذا
قالوا: الحدث يمنع الصلاة، وقد لا يجد الإنسان ماء أو قد يجده ويعجز عن
استعماله، فجاء التيمم بديلاً عن الوضوء، فهل التيمم يرفع الحدث الذي كان
يتطلب الماء، أو أنه أباح له الصلاة مع وجود الحدث؟ فالجمهور على أنه أباح
له الصلاة والدخول فيها رخصةً، لكن المنع الأساسي موجود، والحدث باق، ومنهم
من يقول: التيمم يرفع الحدث.
والصحيح أنه مبيح له مع بقاء الحدث، والدليل على ذلك أن رجلاً كان في غزوة
مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل الصبح، فمضى إليه رسول الله، فقال له:
ألست مسلماً؟! قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، ثم جاءت
قضية التيمم فتيمم وصلى، فلما جيء بالمرأة ومعها المزادتان قال: أين صاحب
الجنابة؟ قال: أنا.
قال: خذ فأفرغه على جسمك.
أي: من حدث سابق، فهو تيمم رخصة للصلاة، ولكن تيممه الذي صلى فيه لم يرفع
عنه الحدث، بدليل: (خذ فأفرغه على جسمك) .
فالرخصة: إباحة الممنوع مع بقاء حكم المنع.
فحكم الجمعة باق، ولذا من أتى الجمعة مع صلاة العيد أجزأته.
وفي بعض الروايات: (وإنَّا لمجمِّعون) .
وعند مالك في الموطأ أن عثمان رضي الله تعالى عنه: اجتمع في عهده العيد
ويوم الجمعة، فصلى العيد، ثم رخص لأهل العالية، وأهل العوالي كانوا يأتون
يصلون الجمعة في المسجد النبوي في المدينة، فلما اجتمع العيد ويوم الجمعة
في عهد عثمان رضي الله عنه صلى العيد بمن حضر، ثم رخص لأهل العوالي إذا
رجعوا ألا يرجعوا مرةً أخرى؛ لأن فيه مشقة في الذهاب والمجيء مرتين للعيد
وللجمعة، وهنا رخص صلى الله عليه وسلم في الجمعة.
وجاء في بعض السنن أن في خلافة ابن الزبير -وكان في مكة- اجتمع العيد
والجمعة فصلى العيد بالناس، ثم جاء الناس للجمعة فلم ينزل إليهم، وطلبوه
للجمعة فلم يأت، وكان ابن عباس بالطائف، فلما جاء أخبروه بما فعل ابن
الزبير، فقال: أصاب السنة.
خلاف العلماء في
سقوط الجمعة يوم العيد
ويبحث العلماء في قوله: (رخص في الجمعة) ، فإذا جاء وقت الجمعة ولا جمعة
فهل يصلون ظهراً أو أن الجمعة هي فرض اليوم وقد رخص رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيها؟ فمنهم من يقول: لما رخص في الجمة سقطت وسقط فرض الظهر في
ذلك اليوم؛ لأن الجمعة هي فرض يوم الجمعة، ويكون الظهر لمن لم يدرك الجمعة،
أو كان من أهل الأعذار كالمريض والنساء والعبيد والصبيان والمسافر، فإذا
سقطت الجمعة عن أهل الأعذار لأعذارهم صلوا ظهراً، وهولاء رخص لهم في تركها.
فمن نظر إلى أصل الرخصة قال: رخص لهم وبقي الأصل، فيصلون الظهر، واستدلوا
بما فعل أصحاب ابن الزبير، فإنهم صلوا وحداناً، وقالوا: كيف يترك -وهو إمام
وصاحب بيعة- المجيئ إليهم؟ فقالوا: لعله صلى الظهر في بيته.
ولما لم يخرج إليهم وصلى الظهر جماعة يكون قد سن ظهراً يوم الجمعة، وهذا
ممنوع.
وهل الرخصة في ترك الجمعة يوم العيد لمن كان من الضواحي كأهل العالية كما
فعل عثمان، أو أنه على عمومه ويترك الجميع حتى الإمام كما فعل ابن الزبير؟
فهناك من يقول: يرخص لعامة الناس، ما عدا من يحضر مع الإمام لإقامة شعار
الجمعة، وهناك من يقول: إنما يكون الترخيص لمن كان بمثابة أهل العالية،
وهناك من يقول: رخص ولكن نصوص الجمعة الواجبة والتحذير منها تعارض هذا
الترخيص، فعلى الناس أن يصلوا عيداً وجمعة، كما قال الشافعي رحمه الله.
والراجع أن الترخيص في ترك الجمعة لمن كان يتكلف المجيئ إلى الجمعة كتكلفه
المجيئ إلى العيد، أما من لم يتكلف ذلك، فالله تعالى أعلم.
فالتعارض قائم، والأحوط المجيء، ولكن الذي عليه الجمهور أن على الإمام أن
يصلي الجمعة حضر معه من حضر، ومن لم يأتِ الجمعة وقد حضر العيد فلا يعنف،
ولا يقال له: لم تركت؟ فله من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرج،
والله تعالى أعلم.
[ثم قال: (من شاء أن يصلي فليصل) ] .
قوله: (من شاء) ، أي: من شاء أن يصلي الجمعة، فالتخيير قائم مع وجود
الرخصة، فمن شاء استعمل الرخصة، ومن شاء تركها ورجع إلى الأصل، وهذا هو
أرجح الأقوال.
السنن الواردة بعد
صلاة الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) رواه مسلم] .
هذا شروع في بيان السنة يوم الجمعة، والسنة يوم الجمعة نجد فيها خلافاً،
فهناك من يقول: ليست هناك سنة راتبة.
وفرق بين السنة الراتبة والسنة المطلقة، وقد جاء في السنن الرواتب حديث ابن
عمر أنه حفظ عن رسول الله عشر ركعات، وجاء حديث آخر فيه: اثنتا عشرة ركعة،
قبل الصبح ركعتان، وقبل الظهر أربع وبعده ركعتان أو أربع، وأربع قبل العصر،
وبعد المغرب ركعتان وركعتان بعد العشاء، فهذه سنن راتبة مترتبة مع الفريضة،
لكن سنة الضحى ليست مرتبة مع غيرها، ولكن قائمة بذاتها، وكذلك صلاة الليل
نافلة مطلقة.
أما الجمعة فبعض العلماء -كالأحناف- يقولون: راتبة الجمعة كراتبة الظهر،
أقلها ركعتان قبلها، وركعتان بعدها، ولكن الحديث فيه: (من بكر وابتكر، وغسل
واغتسل، وصلى ما تيسر له ... ) ، فقال: (ما تيسر) ، وليس فيه عدد معين.
ولذا قال الآخرون: لا راتبة للجمعة.
قالوا: إذا جاء مبكراً فله أن يصلي ما تيسر له، سواءٌ أصلى ركعتين أم صلى
أربعاً، أم صلى ستاً، أم صلى أكثر من ذلك، فليس هناك شيء محدود قبلها.
ولكن جاء في الحديث هنا أنه يصلي بعدها أربعاً، وجاء التفصيل بين أن يصلي
في المسجد وأن يصلي في بيته، فإذا صلى نافلة بعد الجمعة في المسجد فليصل
أربعاً لهذا الحديث، وإن لم يصل في المسجد وصلى في بيته صلى ركعتين.
فالحديث عامٌ، ولكن يحمل على ما جاء في الحديث الآخر، فمن تنفل للجمعة
بعدها في المسجد صلى أربعاً، ومن أخر تنفل الجمعة إلى البيت اجتزأ بركعتين،
كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها، وبهذا تكون الراتبة أو
النافلة بعد الجمعة بحسب ما سيصيلها فيه، فإن كان في المسجد فأربعاً، وإن
كان في البيت فركعتين، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: كيف تجزئ ركعتان في البيت عن أربع في المسجد؟ ولماذا لا تكون
أربعاً في المسجد أو في البيت، أو ركعتين في البيت أو في المسجد؟ والجواب:
أنه قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع من باب الإيماء
والتنبيه قوله: (خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة) ، فالتي في البيت
معها الأفضلية، وما دام أن معها الأفضلية فإن ركعتين تساويان الأربع.
وقالوا أيضاً: صلاة المرء في بيته فيها فوائد جانبية: أولاً: التماس البركة
بذكر الله والصلاة في المكان؛ لأن البيت الذي لا صلاة فيه ولا تلاوة فيه
كالقبر المهجور.
ثانياً: أن في البيت أطفالاً ونسوة يعلمهم الصلاة، وفيه كذلك حث الأهل
الموجودين الذين لم يصلوا على الصلاة، وحث للنسوة اللواتي ما عليهن جمعة أن
يصلين الظهر، وذلك حينما يأتي ويصلي النافلة.
فما دامت الصلاة في البيت لها عدة فوائد عامة وخاصة فتكون لها الأولوية،
ويجزئ فيها الركعتان بدلاً عن الأربع في المسجد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: [ (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) ]
هل معناه: فليصل بعدها فوراً، أم أن قوله: (بعدها) يصدق على التسويف.
والواقع أننا نجد أحاديث وآثاراً في أن الإنسان لا يصل النافلة بالفريضة،
وجاء عن بعض السلف: أن لا يتنفل حتى يتكلم، ويرى بعض العلماء أنه يندب له
أن يتحول من مكانه، أي أنه يُوجِد فاصلاً حسياً بين الفريضة والنافلة، حتى
لا يظن ظان أن هذه النافلة متممة لتلك الفريضة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) ليس
معناه بعدها على الفورية والمتابعة حتى تكون كجزء منها، بل يفصل بين
النافلة والفريضة بفاصل محسوس، إما بكلام، وإما بانتقال إلى مكان آخر.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجمعة [7]
جمع حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صلاة الجمعة جملة من الآداب المطلوبة
يوم الجمعة، وبين أن الذي يمتثلها ينال الأجر والثواب والمغفرة من الله
سبحانه وتعالى، ومن هذه الآداب: فمنها الاغتسال للصلاة، والتبكير إلى
المسجد، ثم الانشغال بالصلاة حتى يخرج الخطيب، فإذا خرج أنصت واستمع
للخطبة، مع الحرص على اغتنام الساعة التي يستجاب فيه الدعاء يوم الجمعة.
تابع أحكام صلاة
الجمعة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن
والاه، وبعد:
الغسل يوم الجمعة
ووقته عند العلماء
فيقول المصنف رحمه الله: [وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن معاوية رضي
الله عنه قال له: (إذا صليت الجمعة فلا تصلها بالصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ألا نصل صلاةً بصلاةٍ حتى
نتكلم أو نخرج) رواه مسلم] .
المؤلف لما جاء بحديث: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) أراد أن
يبين لنا البعدية هذه بما جاء عن معاوية رضي الله عنه في قوله لمحدثه: لا
تصل نافلة بالفريضة، وبيّن له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تصل
نافلة بفريضة حتى تتكلم بكلامٍ خارج عن الصلاة يعلن انتهاءها، أو تخرج من
المسجد فتصلي في بيتك، وهذا هو الذي أشرنا إليه سابقاً.
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من
اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم
يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) رواه مسلم] .
هذا المبحث أطال فيه العلماء الكلام، ونصيحتي للإخوة طلبة العلم أن يرجعوا
في هذا المبحث إلى فتح الباري.
وسنأخذ الحديث كلمة كلمة، وتحت كل كلمة مبحث كامل.
قوله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل) : الغسل معروف بصورته وهيئته، وفي بعض
الروايات: (كغسل الجنابة) ، حتى يرفع احتمال الوضوء؛ لأن الغسل والوضوء
كلاهما يدخل في عموم النظافة، فقوله: (من اغتسل) يراد به الغسل الكامل
الشبيه بغسل الجنابة.
قوله: (اغتسل ثم أتى) ، ثم للعطف والترتيب والتراخي، فيبحث العلماء في وقت
الغسل يوم الجمعة.
وقد جاء في صحيح البخاري ما يشعر بأن الغسل يوماً في الأسبوع حق على كل
مسلم، ويأتي الحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، وعقد العلماء
البحث في: هل الغسل لليوم أو للجمعة؟ فقال داود الظاهري وابن حزم: الغسل
لليوم، فمن اغتسل بعد الفجر أو قبل غروب الشمس أجزأه.
وجاء في صحيح البخاري: (حق لله على كل مسلم أن يغتسل لكل أسبوع مرة) ،
فالإسلام دين النظافة، وهذا الحديث يجعل هذه الطهارة طهارة واجبة ولو لم
تكن جنابة.
وفي رواية لـ مالك: (ثم راح) بدل: (أتى) فالغسل قبل الرواح، فلو اغتسل بعد
الفجر ثم -بعد التراخي- نودي للصلاة فذهب فإنه يصدق عليه أنه اغتسل ثم راح.
وقد وقع الخلاف في تعيين الوقت الذي يغتسل فيه؛ لقوله: (اغتسل ثم أتى
الجمعة) ، والإتيان يصدق على أي جزء من النهار قبل الجمعة، ومالك رحمه الله
قال في قوله: (ثم راح) ، إن الرواح والغدو اسمان للسعي قبل الزوال وبعده،
فيقال للزمن قبل الزوال: الغدو، ويقال لما بعد العصر العشي، ويقال لما بعد
الظهر: الرواح، وبعضهم يقول: العشي يدخل من بعد الزوال، فرواية مالك: (ثم
راح) تدل على أن الغسل يكون قبل أول النداء، وأن يذهب بهذا الغسل إلى
الصلاة، أي أنه إن اغتسل في أول اليوم ثم انتقض وضوؤه سن له أن يجدد الغسل
ويصلي الجمعة بطهارة الغسل؛ لأن الرواح يكون بعد الزوال، فيغتسل ويذهب،
وسيأتي عند مالك أن الساعة الأولى والساعة الثانية ساعات لغوية، أي: لحظات
متقاربة تبدأ من بعد الزوال.
والجمهور على أنها ساعات توقيتية، والنهار اثنتا عشرة ساعة، والساعة الأولى
من النهار والثانية منه مقدرة على الساعة الزمنية التوقيتية.
فقوله: (ثم أتى) يصدق على الإتيان للجمعة في أي وقت قبل النداء، ولذا قال
الجمهور: من اغتسل بعد الفجر من يوم الجمعة أجزأه، ويقول مالك: لا يكون
الغسل إلا عند الرواح للصلاة، فيصلي به الجمعة، وسيأتي زيادة إيضاح لهذه
المسألة.
وفي قوله: (ثم أتى الجمعة) يقال: هل الإتيان للجمعة أم لمكان الجمعة؟ فهما
متلازمان، فالجمعة لا بد لها من مكان، والمكان لأجل الجمعة، فيقال: أتى إلى
المسجد في صلاة الجمعة.
ما يفعله من دخل
المسجد يوم الجمعة قبل دخول الإمام
قوله:: [ (فصلى ما قدر له) ] .
يفهم منه أن إتيانه إلى الجمعة بعد أن يغتسل يكون قبل وجوب الصلاة والأذان
لها، لا بعد وجوب الصلاة، والدليل قوله: (فصلى ما قدر له) ، فلو أنه أتى
إلى الجمعة بعد النداء، فليس بعد النداء صلاة نافلة، وإنما الواجب الإصغاء
بعد النداء لخطبة الإمام، ويستثنى الداخل بعد ذلك، فيركع ركعتين ويتجوز
فيهما.
فإتيانه في هذا الحديث إتيان قبل الزوال، وقبل الأذان الذي للوقت.
وقوله: (فصلى ما قدر له) .
أي: كل واحد بحسب ما يتيسر له.
وقوله: (ثم أنصت) ، أي: إلى الإمام حينما يصعد المنبر حينما ينادى للجمعة
عند دخول الوقت، أي عند الزوال.
قوله: (ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته) ، أي: أنصت وقت الخطبة، وقبل
الخطبة لا مانع أن يتكلم، ولا مانع أن يصلي بعد الخطبة، وبعض الناس يتحرج
من الكلام بعد فراغ الإمام من الخطبة حتى يدخل في الصلاة، وهذا ليس بصواب،
فالمنهي عنه يكون من شروع الخطيب في الخطبة إلى أن ينتهي، وقبل ذلك وبعده
لا حرج فيه.
قوله: (ثم يصلي معه) أي: لا يسمع الخطبة وينصرف قبل أن يصلي معه.
قوله: (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) ، هذا الحديث
صالح لبيان فضيلة الغسل يوم الجمعة، وفضيلة الجمعة في ذاتها، فمن اغتسل يوم
الجمعة، ثم أتى الجمعة، ثم أنصت للإمام، ثم صلى مع الإمام، غفر له ما بين
الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، والأسبوع سبعة أيام، والحسنة بعشر
أمثالها، وزيادة ثلاثة أيام على الأسبوع يصير بها اليوم عن عشرة أيام،
والحسنة بعشر أمثالها.
ونقف هنا وقفة بسيطة، فبعض المسلمين -هداهم الله- قد يتساهلون في حضور
الجمعة، ويجعلون يوم الجمعة للتنزه، وكأن يوم الجمعة ليس له أثر، وكل ما
عندهم من أعمال في الأسبوع يؤخرونها إلى يوم الجمعة، ويشتغلون يوم الجمعة،
ويضيعون الجمعة، فلا يبكرون، ولا يصلون ما تيسر لهم، فأي فضيلة بعد ذلك؟
والذي ينبغي هو أن يتنظف الإنسان، ثم يأتي المسجد فيصلي ما تيسر له، فهو
يستريح من عناء العمل الذي كان فيه، فالموظف مع مراجعيه، والصانع مع عماله،
والزارع في مزرعته، وكل إنسان طيلة الأسبوع في جهد بدني وفكري، فشرع الله
له يوم الجمعة ليستريح ويتنظف ويسترجع قواه، فتجدد العافية، ويتغذى لروحه،
ويحصل على مغفرة عشرة أيام، فأكبر تاجر في البلد يوم الجمعة لا يحصل من
تجارته مثل ما يحصل يوم الجمعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً
أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] .
فالعاقل لا ينبغي له أن يتهاون بأمر الجمعة ما دامت فيها هذه الفضيلة،
وكذلك الغسل، وسيأتي في الحديث عند البخاري: (ومس من طيب أهله) .
وقد جاء في حديث آخر: (غسَّل واغتسل) يقول بعض العلماء: غسل ثوبه واغتسل في
بدنه.
وبعضهم يقول: (غسَّل واغتسل) لفظ يفيد اشتراك طرفين.
فيستحب يوم الجمعة أن تغتسل، وأن تتطيب وتلبس أحسن ما عندك من الثياب،
وتأتي لتقابل إخوانك.
فكيف تشتغل عنها وتتركها؟ نسأل الله السلامة والعافية.
ومن المباحث الغسل يوم الجمعة والمقارنة بينه وبين الوضوء، لحديث: (من توضأ
يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) وقد أطلق الاغتسال في قوله
صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة) وبعض العلماء يقول: لو أن شخصاً
أجنب فأوقع غسل الجنابة بعد طلوع الفجر، ونوى بهذا الغسل رفع الجنابة وسنة
اغتسال الجمعة، فإنه يجزئه عند من يقول الغسل سنة، ومن يقول الغسل واجب
يقول لا يجزئ واجب عن واجب، فيغتسل للجنابة ثم يغتسل إذا راح إلى الجمعة،
ويكون غسل الجمعة مستقلاً.
ولكن الجمهور على أن المراد اغتسال يوم الجمعة بسبب أو بغير سبب، ونظروا
كما يقول الشافعي وغيره إلى علة الغسل يوم الجمعة -وهو سنة- فهو معلل بالحث
على النظافة في هذا الاجتماع، كما قال ابن عباس: كان الناس يعملون لأنفسهم،
ويلبسون الصوف والخشن من الثياب، فيأتون من أعمالهم والمسجد ضيق والجو حار،
فيعرقون فيؤذي بعضهم بعضاً.
وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الناس عمال أنفسهم، وكانوا يأتون
من عملهم في الغبار ويعرقون، فدخل أحدهم على رسول الله وهو عندي، فقال:
(غسل يوم الجمعة واجب) ، فأمر بالغسل، فقالوا: إن الأمر بالاغتسال يوم
الجمعة من أجل النظافة.
والجمهور قالوا: إن كانت العلة النظافة فقد صار مشروعاً لذاته، فلو أن
إنساناً في الظل، وعلى فراش النعيم، وفي بعد عن الغبار، وأراد أن يأتي
الجمعة، فإن عليه أن يغتسل للجمعة، كما أنه لو كان قبل الجنابة في الحر
الشديد ودخل الحمام واغتسل للتبريد ثم جاءت الجنابة بعد الغسل بدقائق فلا
يكفيه الاغتسال الذي قبل الجنابة، فالجنابة جاءت بوجوب الغسل، فكذلك الجمعة
جاءت بسنة الغسل، وكثير من الأشياء تشرع لأسباب فتزول أسبابها وتبقى
المشروعية.
فالهرولة في الطواف كان سببها لما دلس إبليس على المشركين ووسوس لهم وقال:
لو ملتم عليهم ميلة رجل، فقد أنهكتهم حمى يثرب والسفر فلما هرول الصحابة
وأظهروا القوة قالوا: والله إنهم لكالجن، ثم جاءت السنة الثامنة وفتحت مكة،
وأمن المسلمون، وجاء المصطفى صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حاجاً
فهرول، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه: كنا نهرول عند الخوف وقد أمنا
فعلام نهرول؟ قال: يا ابن أخي! سألتني فيما سألت فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
أو قال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهرولنا، ثم حج فهرول ونحن في
أمن فهرولنا.
فالعلة وجدت ثم زالت وبقيت المشروعية.
وكذلك رمي الجمار، فإبراهيم عليه السلام حصب الشيطان لما جاءه ووسوس له:
كيف تذبح ابنك؟ فقال: اخسأ يا لعين! ورماه بالحصيات، والآن ما عندنا شيطان
يوسوس، ولا أحد يذبح ولده، ولو كان ولده أتقى خلق الله فلن يطيع الله في
ذبح الولد حتى لو قال له: اقطع يده فلن يقطعها إلا أن يشاء الله.
وبعض الصحابة قيل له: أكنتم تطيعون رسول الله في كل شيء؟ قال: نعم.
والله لو أمرنا بقتل أنفسنا لقتلنا أنفسنا.
وهذا ليس من الطاعة العمياء بل هي الطاعة المبصرة؛ لأنه يعلم أنه يطيع
الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] .
ومما شرع لعلة ثم بقي مع زوالها القصر لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] .
فإذا كنا آمنين مطمئنين حال سفرنا من مكة إلى المدينة فلنا أن نقصر الصلاة،
فزال السبب وبقيت المشروعية.
فكان السبب في اغتسالهم يوم الجمعة كونهم يعرقون وتخرج منهم روائح العمل
والغبار.
ولذا جاء في الحديث: (فلما كفوا المئونة) ، أي: لما جاءت الفتوحات، وجاءتهم
العلوج -أي: العبيد- وكفتهم المئونة رخص لهم في ترك الغسل.
ونقول: الترخيص بنص؛ لأنه جاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت،
ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، فالأمران مشتركان في الأفضلية، وعثمان رضي الله
عنه لما دخل رضي الله عنه وعمر يخطب فقال: أي ساعةٍ هذه؟ قال: ما إن سمعت
الأذان أو النداء حتى توضأت وأتيت.
فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ وأقره على الوضوء جميع الصحابة الحاضرين الذين
يسمعون عمر، فالجمعة تصح بالوضوء، ولكن الغسل من أجلها أفضل.
ساعة الإجابة وخلاف
العلماء في تعيين وقتها
[وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال:
(فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا
أعطاه إياه وأشار بيده يقللها) متفق عليه.
وفي رواية لمسلم (وهي ساعة خفيفة) ] هذا الحديث من خصائص يوم الجمعة
وفضائله، وهو ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم ذكر الجمعة فذكر فيها ساعة لا يصادفها عبدٌ مسلم قائم يصلي يدعو الله
أو يسأل الله إلا أعطاه إياه.
ثم جاء المؤلف رحمه الله تعالى بعد ذلك بتوقيت هذه الساعة، وأنها بعد صلاة
العصر إلى غروب الشمس، أو من حين يصعد الإمام المنبر إلى أن تتم الصلاة،
ويذكر غيره أن الأقوال فيها متعددة، وقد ذكر المؤلف نفسه في فتح الباري
ثلاثة وأربعين قولاً في تعيين هذه الساعة.
ويقول ابن عبد البر: أجمع حديث وأصحه فيما يتعلق بهذه المسألة ما جاء في
رواية مالك رحمه الله تعالى، وتعرف هذه الساعة عند الفقهاء بساعة الإجابة.
ورواية مالك التي قال عنها ابن عبد البر: إنها أشمل وأجمع، هي رواية أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرجت إلى الطور - يعني: يصلي فيه - فلقيت
كعب الأحبار، فجلسنا فحدثني عن الكتاب - يعني: عن التوراة - وحدثته عن سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما ذكرت له: أن النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر في الجمعة ساعة ثم بين تلك الساعة وقللها، فقال: كعب الأحبار: إنها في
السنة مرة.
قال: فلقيت عبد الله بن سلام وكعب الأحبار من أحبار اليهود أسلم وحسن
إسلامه في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، أما عبد الله بن سلام فهو صحابي
أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له ما كان بيني وبين كعب الأحبار فقال:
كذب -أي: في قوله: إنها في جمعة واحدة في السنة- إنها في كل جمعة، ثم قال
عبد الله بن سلام: وإني لأعلم أين تلك الساعة، قال: أبو هريرة فقلت له:
أخبرني بها ولا تضن عليّ قال: إنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، قال
أبو هريرة: فقلت لـ عبد الله بن سلام إنها ساعة لا يصلى فيها! أي: لنهي
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ،
وهذا استدلال صحيح، فقال عبد الله: صدقت! أو لم يقل رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (من صلى صلاة وبقي في مجلسه فهو في صلاة) قلت: بلى.
قال: هو ذاك.
يقول ابن عبد البر في الجزء الثالث والعشرين من التمهيد: إن هذه المناظرة
بين أبي هريرة وعبد الله بن سلام وما ذكر له تعطينا أصل المذاكرة بين
العلماء والمفاهمة، والأخذ عن أهل التوراة إذا علم صدقهم وأمن الكذب فيهم.
ثم يقول عبد الله بن سلام: (لقد ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنا نجد في
الكتاب -يعني: في التوراة- أن في الجمعة ساعة لا يصادفها عبدٌ يصلي يدعو
الله إلا أعطاه سؤله، فقال صلى الله عليه وسلم: أو بعض ساعة؟) قال عبد
الله: نعم والله يا رسول الله أو بعض ساعة.
ثم قال: أخبرني أي ساعة هي يا رسول الله؟ قال: (ما بين صلاة العصر إلى غروب
الشمس) ، وهكذا يسوق مالك هذا الحديث.
ومما ساقه أيضاً أن أبا هريرة في عودته من الطور لقي غلام أبي بصير الغفاري
فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور، قال: لو أني أدركتك قبل أن تخرج ما
خرجت.
قال: ولماذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم
يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد، النبي
صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى) .
ومما ساقه مالك أيضاً في هذا السياق أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:
(أفضل يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) ، أو: (إن يوم الجمعة خير يوم طلعت
عليه الشمس، فيه خلق آدم، وفيه أسجد إليه، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط من
الجنة إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة في الأرض
إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الصبح إلى شروق الشمس شفقاً من قيام
الساعة) .
وذكر صاحب منتقى الأخبار -الذي شرحه الشوكاني في نيل الأوطار- رواية فيها:
(إن السماء والأرض والملائكة والرياح لتشفق في ذلك اليوم من يوم الجمعة) ،
ويقول صاحب القبس: إن الله سبحانه وتعالى يخلق في البهائم فزعاً يوم
الجمعة.
والذي يهمنا في هذه الساعة ما أشار إليه ابن حجر من اختلاف الناس في تعيين
أوقاتها، وإذا كان اليوم اثنتي عشرة ساعة، فهي ساعة من هذا اليوم.
واختلفت الأقوال ابتداءً من أذان الفجر إلى طلوع الشمس، ومن طلوع الشمس إلى
الضحى، ومن نهاية الساعة الثالثة من يوم الجمعة إلى زوال الشمس، ثم إلى
أذان الجمعة، ثم إلى جلوس الإمام على المنبر حتى يفرغ من الخطبة، وحتى
تنتهي الصلاة إلى ما بعد صلاة العصر، ثم إلى أن يكون ظل الشيء مثليه، ثم
إلى أن تصفر الشمس، ثم إلى أن تضيف الشمس للمغيب.
وكل هذه الأوقات جاءت فيها الأخبار بأنها موضع تلك الساعة، حتى قال ابن حجر
وابن عبد البر: اختلف الناس فيها هل هي باقية أم نسخت؟ ويردون قول من يقول:
إنها رفعت وانتهت.
ثم يقولون: أهي جمعة في السنة، أم في كل جمعة؟ ويرجحون بأنها في كل يوم
جمعة، ثم هل هي ثابتة في يوم الجمعة أو تتنقل فأحياناً قبل الصلاة وأحياناً
بعدها، وأصح ما في ذلك حديث أبي موسى الأشعري -كما قال الشوكاني رحمه الله-
وهو أنها بعد العصر.
وابن عبد البر ساق في التمهيد ما يزيد على ستة أصول أو سبعة في أنها بعد
العصر، ثم قال: إن المذاكرة بين أبي هريرة رضي الله عنه وبين عبد الله بن
سلام في كلمة (قائم يصلي) لم يثبتها بعض العلماء، وأن اللفظ: (لا يوافقها
عبد يسأل الله حاجة إلا أعطاه الله إياها) ، ولم يذكر قيد (قائم يصلي) بل
قال: إن بعض الشيوخ كان يأمر طلابه أن يحذف لفظ (قائم يصلي) من الحديث، ثم
ساق النصوص التي تثبتها، وقال: إن الصحيح أنها ثابتة، وأن الرسول صلى الله
عليه وسلم قالها، فيصلي ويسأل الله حاجته.
ثم رجح ابن عبد البر أن معنى (قائم) أن عنايته واجتهاده من أجلها، كما
تقول: قام فلان بالأمر حتى أتمه، وكما تقول: قمت بعمل واجتهدت فيه.
أو: قمت بتأليف هذه الرسالة، أو: قمت بكتابة هذه المقالة، وليس الأمر
بالقياس حتى يكون المراد الانتصاب الذي هو ضد الجلوس.
يقول ابن عبد البر: لولا سلامة التأويل الذي أورده عبد الله بن سلام على
أبي هريرة ما سلم به أبو هريرة؛ لأن أبا هريرة لم يجادله في ذلك، بل قبله
وقنع به.
وعلى هذا فبعض العلماء يذهب إلى الترجيح، وبعضهم ويذهب إلى النسخ، والصحيح
الترجيح.
وبعضهم يقول: الأنسب أن يكون الدعاء وقت الخطبة إلى أن تتم الصلاة، قالوا:
وكيف يدعو في ذلك الوقت وهو يصغي إلى الإمام؟ فقالوا: إنها ساعة خفيفة، كما
قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (وأشار بيده صلى الله عليه وسلم يقللها)
، فبعض الناس قالوا: لفظة (وأشار بيده يقللها) من الراوي، وبعضهم قال: إنها
من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما قال له عبد الله بن سلام: إنها ساعة في الكتاب قال صلى الله عليه
وسلم: (أو بعض ساعة) قال بلى يا رسول الله: أو بعض ساعة! فقال بعض العلماء:
وضع صلى الله عليه وسلم الأنملة على الوسطى أو الخنصر، يعني: كأنها قليلة،
وبعضهم قال: قبض يديه وقلب هكذا، وهكذا أي: معنى التقليل، أي: ليست ساعة
زمنية محددة بستين دقيقة كما هو المتعارف عليه.
قال بعض العلماء: لقد رأيت شاباً يعتكف في بيت المقدس يوم الجمعة من بعد
صلاة الفجر إلى الضحى، والجمعة الثانية من الضحى إلى زوال الشمس إلى صلاة
الجمعة، وفي الجمعة الثالثة من بعد الجمعة إلى العصر، وفي الجمعة الرابعة
من بعد العصر إلى غروب الشمس، يتحرى تلك الساعة على اختلاف تلك الأقوال.
فقال له قائل: وما يدريك لعله يصادفها إذا كانت تتنقل؟! فقد تكون في اليوم
الذي اعتكف فيه من الصبح إلى طلوع الشمس بعد العصر.
ويهمنا في هذا ما قاله ابن عبد البر رحمه الله: إن هذه الساعة لا شك في
فضلها، فينبغي للإنسان إن يجتهد طيلة يوم الجمعة، وأن يبذل جهده ما استطاع،
وخاصةً في الأوقات التي هي مظنة لها، وأكثر الأحاديث أو أصحها أنها فيما
بين صعود الإمام أو جلوس الخطيب على المنبر إلى أن تنتهي الصلاة، وأحاديث
ما بعد العصر.
وأما كيف يجمع بين قوله: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) ، وما جاء
أن خير يوم هو يوم عرفة؛ فقد قالوا: إن الساعة التي في يوم الجمعة، وليلة
القدر التي في شهر رمضان، ويوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر كل هذا
لا معارضة ولا منافاة فيها.
فقالوا: إن يوم الجمعة هو أفضل الأيام بالنسبة لأيام الأسبوع، فهو أفضل من
السبت والأحد والأربعاء والخميس، والساعة التي في يوم الجمعة أبهمت ليجتهد
الناس، كما أن ليلة القدر أبهمت أولاً في كامل رمضان، ثم أبهمت في العشر
الأواخر ليجتهد الناس، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خير يومٍ طلعت عليه
الشمس يوم عرفة) أي: بالنسبة لأيام السنة كاملة.
وعلى هذا فلا منافاة، فيوم الجمعة أفضل بالنسبة لأيام الأسبوع، ويوم عرفة
بالنسبة لأيام العام كله، وكذلك العيد لفضيلته.
فتلك الأقوال بكاملها
شرف يوم الجمعة
وقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم ذكر خلق آدم يوم الجمعة، وكانت خلقة
الأنبياء في أيام متعددة، فخلق آدم ما فضيلته؟ قالوا: لأنه بخلق آدم وجد
الإنسان، وبوجود الإنسان كان التكليف، وبوجود التكليف كان التوحيد، فعبد
الله، وأرسلت الرسل، وجيء بالكتب، وكل ذلك نتيجةً لخلق آدم ابتداءً، فخلق
آدم كان أساساً لوجود الخلائق، وسبباً لوجود التكليف وإرسال الرسل وإنزال
الكتب.
وقالوا: إن كان آدم سبباً في هذا الخير فإن من أبناء آدم من جاءوا بالمعاصي
ملء البحر والأرض، فقالوا: ساعة من ساعات من توحيد رب العالمين خير من ملء
الأرض كلها من المعاصي.
ولذا جاءت الآية بأن الله سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء، وجاء: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك
بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة) .
فمهما كان عند العبد من عصيان، أو ما يقع في الأرض من عصيان، فإن ما يوجد
في الأرض من طاعة وعبادة وتوحيد خير من الدنيا وما فيها.
فوجود آدم في هذا اليوم سبب في هذا الخير الكثير، وبه عرف الله سبحانه
وتعالى، كما جاء في الحديث القدسي: (خلقت خلقاً وبه عرفوني) ، ويقولون: إن
ثلاثة أشياء خلقها الله بيده، وبقية الكائنات قال لها: (كوني) فكانت، فقال
للسماوات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا: أتينا طائعين, وقال للجبال:
(كوني) فكانت، ولكن خلق آدم بيده، كما قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وأيضاً غرس جنة عدن بيده،
وكتب الألواح لموسى بيده، فقالوا: هذه ثلاثة أشياء أوجدها بيده، فشرفت
لذلك.
ولا يقال: كيف خلق آدم بيده؟ وكيف غرس الجنة بيده؟ وكيف كتب الألواح لموسى
بيده؟ فالكيف لا يرد على الله سبحانه أبداً في أي شيء كان، قال تعالى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
ثم بعد ذلك شرف آدم بأن أسجد الله الملائكة له، وهل سجدوا له ابتداءً أو
سجدوا له بعد أن أظهر الله شرفه؟ بعد أن أظهر الله شرفه بتعليمه، كما قال
تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا
عَلَّمْتَنَا} [البقرة:31-32] ، فلما أنبأهم كانت النتيجة أن أسجد الله
الملائكة له تكريماً، وليست عبادة كما يظن الجهلة، بل تكريماً له على
العلم.
وقد وجدنا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية أن العلم يكرم أهله،
وبالتأمل نجد أن العلم يكرم المتعلم، ولو كان حيواناً ولو كان طائراً،
فالهدهد لما غاب عن نبي الله سليمان، وتفقد الطير فقال -كما حكى الله تعالى
عنه-: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20] قال الهدهد: {أَحَطتُ
بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] فكأنه ألغى العلم بالوحي، وكل ما
يأتيه، والجن يعملون بين يديه، وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22] ، وذكر له أمر بلقيس
وشأنها بعد ما قال نبي الله: {لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21] .
فلما جاء بهذا السلطان، وتوسم فيه نبي الله الصدق قال: (سننظر) فتراجع عن
تنفيذ الحكم، أو أوقف التنفيذ، وهذه الحكمة والسنة تجب على العالم
الإسلامي، خاصة طالب العلم، فإذا جاءه أمر مستغرب لم يقف على حقيقته لم
يبادر في الإنكار، ولا يسارع بالقبول، بل يقول كما قال نبي الله سليمان، مع
أن لديه وسائل الاكتشاف والاطلاع، فالريح غدوها شهر ورواحها شهر، ومع ذلك
قال: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) ، وقدم الصدق لأنه وجد مخايل الصدق
في تأكيد الهدهد على خبره، فقال: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا} [النمل:28] .
فهذا طائر لم يتعلم، ولم يدرس أصول الفقه ليستنتج، وهو في طيرانه اكتشف ما
كانت تعبده بلقيس، فرجع يخبر عنها، فما أعمل المقاييس ولا أعمل الأجهزة،
ولا استنتج النتائج، فجاء ونجا من الذبح ومن القتل، وبعد أن كان في تلك
الحالة أصبح كبيراً مفوضاً من نبي الله سليمان إلى الملكة، وجاء بها مسلمة.
وما أكل السبع فهو ميتة إلا ما أدركته وذكيته، بينما الكلب يمسك عليك،
وتأكل مما أمسك إذا أطلقته وسميت اسم الله عليه، كما إذا رميت بالسهم وسميت
اسم الله عليه، ولو أن الكلب كان غير معلم فهو سبع، لكن إذا أصبح معلماً
فإذا أرسلته انطلق وإذا دعوته أجابك، ولا يأكل لنفسه، حلَّ صيده وما يمسكه
عليك فهو لك حلال تأكله، وما أصابه الأسد -وهو سيد الوحوش كما يقولون- فإنه
ميتة، إلا أن تذكيه أنت فيحل بتذكيتك إياه.
وهكذا العلماء، فهم كما قال صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء.
فلما علم الله آدم الأسماء، وعرضهم على الملائكة فلم يعلموها اعتذروا إلى
الله -ولهم الحق- فقالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}
[البقرة:32] ، وهذا منهج لطالب العلم، فإذا سئل عما لا يعلم قال: لا علم
لي، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع، ولا يقتحم أبواب النار، وقد قيل: اشد
الناس اقتحاماً للنار أجرؤهم على الفتوى؛ لأنه قد ينطق بغير علم، ولا ينبغي
للإنسان أن يفرح بسؤال يرد عليه ويفرح بالإجابة، إلا إذا كان موقناً
كإيقانه بوجود الشمس.
وكانت الفتوى تأتي إلى علماء المدينة السبعة ويتدافعونها كلٌ يحيل على
الآخر حتى ترجع إلى الأول، كل ذلك فراراً وخشية من الإفتاء بغير علم.
فشرف يوم الجمعة بخلق آدم، وتشرف آدم بالعلم، ثم أسكنه الله الجنة، قال
تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] ، والجنة
كانت كلها مباحة له غير هذه الشجرة، وتلك حكمة الله، وكما يقول بعض
المحققين: الله خلق آدم ليعمر الأرض، كما هو الواقع، فإذا قال له: ادخل
الجنة فإنه سيأتي وقت يدعى فيه للنزول إلى الأرض وهذا لا يكون من طبع
الكرماء، فلو كان عندك ضيف وأنت كريم، ومكث عندك فإنك تستحيي أن تخرجه دون
أن يخرج، لكن جعل الله سبحانه وتعالى تلك الشجرة حتى يشعر آدم بذنبه، فإذا
قيل له: اهبط إلى الأرض عرف لماذا أهبط، فلا يكون بخلاً من المولى عليه،
ولا يكون تقتيراً عليه، ولا يكون إخراجاً بغير سبب، على أن هذه أمور لا
ينبغي الخوض فيها.
فنزل إلى الأرض يوم الجمعة، واستغفر ربه، وسأل الله التوبة والمغفرة وأناب،
فاجتباه ربه فهداه، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] ، فتيب عليه يوم الجمعة، ونحن
أيضاً في حاجة إلى عرض التوبة وإلى تكرارها، وقد ندب صلى الله عليه وسلم
إلى كثرة الصلاة والتسليم عليه صلوات الله وسلامه عليه، وإلى الاستغفار
وكثرة العبادة، حتى قيل: إن الصدقة تضاعف في يوم الجمعة.
وفي الحديث الذي في الموطأ: (وما من دابة على وجه الأرض.
إلخ) .
عموم الدواب، فما من دابة إلا وتدخل في هذا العموم أياً كانت، حتى الطير
الذي يطير بجناحيه ويدب على وجه الأرض.
ومعنى: [تصيخ] بالخاء أي: تصغي سمعها يوم الجمعة.
والإنسان والجان لا يصيخون، فالحيوانات تدرك يوم الجمعة وتميزه عن الخميس
والسبت وتصيخ بسمعها، قال ابن عبد البر: إن الله يخلق لها ما يروعها أو
يفزعها.
وهذا شي لا ندخل فيه، فالله أعلم بأي كيفية تصيخ؛ لأن لله تعالى سره في
خلقه، فجميع الكائنات تعرف ربها، وجميع الكائنات تسبح لله، قال تعالى:
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فهذا الحال فوق طاقتكم، وفوق عقولكم، ومرجعه
إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا ينبغي على العاقل أن يجعل له من يوم الجمعة -كما يقال- نصيباً
يجتهد فيه، فعنده ستة أيام يعمل فيها لدنياه، وعنده يوم الجمعة الوحيد، وقد
يعمل فيه إلى أن ينادى للصلاة، فليكن سعيه يوم الجمعة باستغراق وتفرغ،
ويبكر قبل ذلك ما شاء الله له، كما في الحديث الآخر: (من راح في الساعة
الأولى فكأنما قرب بدنة) إلخ، ويجعل يوم الجمعة للأمور الآتية: أولاً:
يستريح فيه من عمل الدنيا.
ثانياً: يروح على نفسه من هذا العناء.
ثالثاً: يتذوق فيه العبادة والذكر والدعاء، وقد حث صلى الله عليه وسلم على
كثرة السلام عليه.
كما يجعله لقراءة القرآن والتسبيح والاستغفار، وكل ذلك مما يتهيأ به
الإنسان ويتزود.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه وبالله التوفيق.
كتاب الصلاة - باب
صلاة الجمعة [8]
مما يتعلق بصلاة الجمعة اختلاف العلماء في عدد من تنعقد بهم الجمعة، وفي
المعذورين ممن لم يحضرها، وهل تنعقد بهم إذا حضروها، وكذلك آداب المستمعين
في الجلوس وقت الخطبة، ومشروعية اتخاذ الخطيب عصا أو قوساً يتكئ عليه حال
الخطبة.
وقت الساعة التي
يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي
يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه أياه، وأشار بيده يقللها) متفق عليه، وفي
رواية لـ مسلم: (وهي ساعة خفيفة) ] .
قوله: (خفيفة) كأنها تفسير (يقللها) ، وذكروا أنه صلى الله عليه وسلم وضع
طرف الإبهام على الوسطى أو الخنصر، أي: أنه شيء قليل جداً، فليست ساعة من
الساعات الزمنية المعروفة التي ينقسم النهار إلى اثنتي عشرة ساعة منها.
[وعن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة) رواه مسلم، ورجح
الدارقطني أنه من قول أبي بردة.
وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه عند ابن ماجة وعن جابر رضي الله
عنه عند أبي داود والنسائي: (أنها ما بين صلاة العصر وغروب الشمس) وقد
اختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً أمليتها في شرح البخاري.
] .
هذان الحديثان يعتبران أصح الأقوال التي قيلت من ثلاثة وأربعين وقتاً، وابن
عبد البر رحمه الله أورد تلك الأقوال بأسانيدها، ومن يقول بها، وهذا شيء لا
نستطيع أن نحفظه ولا نستطيع أن نورده بكامله، ولكن نرشد طالب العلم إلى
محله وهو في الجزء الثالث والعشرين من التمهيد، لمن أراد أن يرجع إليه.
ويهمنا باتفاق العلماء بأن كل الأقوال التي جاءت بتحديد وقت قبل جلوس
الإمام أو قبل الأذان للجمعة كلها مردودة أو ضعيفة، ولكن الأحاديث الصحيحة
التي يعوّل على أسانيدها هو هذا الذي جاء ما بين أن يجلس الإمام على المنبر
إلى أن تتم الصلاة، وهناك من يقول: إلى أن تتم الخطبة، ولكن نقول: إن
التمديد إلى الصلاة أشمل؛ لأنها تجمع الخطبة معها.
والقول الثاني: حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: أن وقتها ما بعد صلاة
العصر، ثم ما بعد صلاة العصر فيه عدة أقوال، حتى قيل: حينما يشرع القرص في
الغروب، وقالوا: إن فاطمة رضي الله عنها كانت تأخذ بهذا القول، وتوصي
غلاماً لها ينظر لها قرص الشمس إذا أخذ في الغروب أخبرها فقامت تدعو.
وقالوا: كان أحد السلف إذا صلى العصر جلس ولم يكلم أحداً إلى أن تغرب
الشمس، يدعو الله سبحانه وتعالى انتهازاً أو تحرياً لتلك الساعة إلى غروب
الشمس.
ثم إن بعضهم يقول: حتى يكون الظل كذا حتى تصفر الشمس حتى يغرب القرص، فكان
ما بعد صلاة العصر يجلس في مكانه إلى أن تغرب الشمس، والله تعالى أعلم.
العدد المعتبر الذين
تنعقد بهم الجمعة
[وعن جابر رضي الله عنه قال: (مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة)
رواه الدارقطني بإسناد ضعيف] .
هذا الحديث موضوعه في عدد الذين تنعقد بهم الجمعة.
وأعتقد أنه تقدم الكلام في مثل هذا، ومن رجع إلى تتمة أضواء البيان عند
الكلام على سورة الجمعة يجد الأقوال هناك متفاوتة، ولم يصح نص عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في عدد الجمعة.
والمتأمل يجد أن هناك من يقول: ثلاثة أشخاص مع الإمام، أو شخصان مع الإمام،
وهناك الإمام والمؤذن أخذاً من قوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ} [الجمعة:9]
فهناك منادِ {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وهناك من
يسعى، {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وهناك من يذكر الله، فقالوا: إذاً
هناك المنادي وهو المؤذن، وهناك من يذكر الله وهو الإمام، وهناك من كلف
بالسعي، وأقل الجمع ثلاثة.
فقوله: (فاسعوا) يصدق على الواحد والثلاثة، فإذا كانوا ثلاثة يسعون وواحد
يؤذن وواحد يذكر الله، فهؤلاء خمسة، فإذا وجد خمسة أشخاص وجبت عليهم
الجمعة.
وهناك من قال: أقل عدد يكون اثني عشر أخذاً من قصة التجارة، لما كان صلى
الله عليه وسلم يصلي الجمعة وكانت الخطبة بعد الصلاة، ثم قام يخطب فجاءت
التجارة، ودقت لها الطبول، فخرج الناس إليها ولم يبق ممن كان عند النبي صلى
الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال الوادي عليهم ناراً) ،
فقالوا: هذا العدد حفظ الله به الصحابة من أن يهلكوا، وسماع الخطبة جزء من
الجمعة حتى أنهم قالوا: هي بدل الركعتين الأخريين، ويأتي الخلاف في سماع
الخطبة هل هو واجب أو سنة، وهل تصح الصلاة بدونه أو لا تصح؟! وأجيب عن هذا
وذاك: أن أول جمعة أقيمت في المدينة المنورة كانوا نحواً من أربعين رجلاً،
فقالوا: كون الذين بقوا عند مجيء رسول الله وقت الخطبة عند مجيء العير
للتجارة اثني عشر، هذه خطيئة وقعت فجأة ويمكن كان أن يبقى عشرون، ويمكن أن
يبقى عشرة أو خمسة، فهذا ليس منضبطاً بعدد، إنما صادف أن الذين بقوا اثنا
عشر رجلاً، كذلك صادف الذين صلوا الجمعة أول ما كانوا أبعين رجلاً، ثم جاء
خبر جابر، ولكن نبه المؤلف رحمه الله على ضعف هذا الحديث.
فالذي قال ثلاثة أبو حنيفة رحمه الله، والذي قال اثنا عشر رجلاً أحمد ومن
وافقه، والذي قال أربعون الشافعي رحمه الله، والذي قاله مالك هو ما يمكن أن
يكون كقاعدة عامة ليست مرتبطة بعدد هندسي ولا حسابي، فقال: كل جماعة أقامت
في قرية واستقرت، وفيها أميرها وسوقها وجبت عليهم الجمعة سواء كانوا كثيراً
أو قليلاً؛ لأنها وحدة سكنية قائمة بذاتها.
وأشرنا سابقاً -أيها الإخوة- بأن هذا القول هو الذي يفيده السياق في آخر
السورة الكريمة؛ لأن الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، أي: اتركوا البيع، فلو كانوا
اثنين أو ثلاثة لم يكن هناك بيع كثير حتى يحتاج أن نقول: اتركوه؛ لأنها صفة
حصلت وأنت ماش ما تستغرق شيئاً، لكن تدل على وجود سوق وأن البيع قائم،
والناس يتبايعون ويُشغلون عن الجمعة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] .
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] هل يقال لاثنين
وثلاثة: انتشروا؟! الانتشار يكون للعدد الكثير.
إذاً: هل وجدتم سوقاً قائماً في الخلاء أو في الفلاة دون وجود قرية لها
رئاسة؟! لابد من وجود خادم ووجود ولي أمر وحاكم ليفض النزاعات التي تقع في
الغالب بين المتبايعين في الأسواق وإلا حلت الفوضى.
إذاً: هذه وحدة قروية كما يقال مستكملة وقائمة بذاتها، فهذه المجموعة عليها
أن تصلي الجمعة سواء كانت عشرين أو مائتين أو أكثر أو أقل، وعلى هذا يضيف
المالكية: ويمكن لهذه الجماعة أن تدافع عن نفسها، بمعنى: لو داهمها حيوان
أو وحش أو قطاع طرق لكانوا بمجموعهم يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، ولذا
قال: تجب الجمعة على قرية يستقرون فيها احتياطاً من بيوت الشعر، وهم الذين
يتبعون القطر والغيث والمرعى فلن يستقروا في مكان، فهؤلاء ليست عليهم جمعة
كما يقول مالك رحمه الله.
إذاً: قضية العدد ليس فيها نص، وإنما كلها اجتهاديات، وأولى الأقوال في ذلك
ما جاء عن مالك رحمه الله؛ لأنه كلام من واقع الحياة ومن وجود القرى
والمستوطنين فيها، والله تعالى أعلم.
من آداب الخطبة
استغفار الخطيب للمؤمنين والمؤمنات
[وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر
للمؤمنين والمؤمنات في كل جمعة) رواه البزار بإسناد لين.
] الغرض هنا الدعاء في الخطبة (للمؤمنين المؤمنات) أي: على العموم، وقد كان
صلى الله عليه وسلم يستغفر لآحاد الناس، وهذه سنة للخطيب أن يستغفر في
خطبته للمؤمنين والمؤمنات، ونتناول موضوع دعاء الخطيب لولي أمر المسلمين.
فبعضهم يقول: لا مجال له، لأن هذه عبادة لله، ولا ينبغي تعظيم غير الله.
وقال الآخرون: إن الدعاء لإمام المسلمين بالصلاح والإصلاح والبطانة
الصالحة، هو خير للمسلمين جميعاً، كما قال أحمد رحمه الله: لو كانت لي دعوة
مستجابة لجعلتها إلى ولي أمر المسلمين؛ لأن في إصلاحه صلاح المسلمين.
إذاً: لا مانع أن يدعو الخطيب لما يصلح الإمام في الدين والدنيا لا في
مصالحه الخاصة والشخصية، ولكن لمصلحة عموم المسلمين، فعندما يقول: اللهم
وفقه لما فيه الخير، اللهم سدد خطاه، اللهم انصر به الإسلام والمسلمين،
اللهم اجعله عوناً على طاعتك، وأيد له بطانة تدله على الخير وتعينه عليه،
فهذه كلها دعوات ليست راجعة لنفس ولي الأمر في ذاته، بل راجعة لعامة
المسلمين.
إذاً: لا مانع في ذلك وهذا الحديث أصل في هذا وبالله التوفيق.
قراءة النبي صلى
الله عليه وسلم الآيات في خطبة الجمعة
[عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في
الخطبة يقرأ آيات من القرآن؛ يذكر الناس) رواه أبو داود وأصله في مسلم.
] تقدم معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (ق) على المنبر،
وهنا أتى بهذا الحديث ليبين أن من شروط الخطبة: أن يأتي بآيات من كتاب الله
فيها موعظة وتوجيه وآداب، فسورة (ق) طويلة وكلها مواعظ، وفيها إثبات البعث
وفيها خلق الإنسان وغير ذلك.
ولا يستطيع كل إنسان في كل جمعة أن يقرأها، فربما يطول الأمر على الناس،
لكن لابد للخطيب أن يأتي بآية من كتاب الله في الخطبة، وجعلوها ركناً من
أركان الخطبة التي هي: حمد الله، والشهادتان، والصلاة والسلام على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وآية من كتاب الله، ثم يأتي بالموضوع الذي يريده.
الأشخاص الذين لا
تجب عليهم صلاة الجمعة
[وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك، وامرأة، وصبي،
ومريض) رواه أبو داود وقال: لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم،
وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى] .
هذا الحديث يبين حكم الإتيان إلى الجمعة وأهل الأعذار الذين تسقط عنهم؛ لأن
هذين الأمرين متلازمين وهنا: (الجمعة حق على كل مسلم) ، ثم جاء الاستثناء
لأربعة، وجيء بخامس وهو المسافر، وكل هذه الأصناف لها بحثها إن شاء الله،
لكن يهمنا قوله: (حق على كل مسلم) ؛ لأن الموجود في أذهان كثير من الناس:
أن إتيان الجمعة مندوب أو سنة مؤكدة، ولكن ليعلم الإخوان بالتتبع، ومن أراد
فليرجع إلى تتمة أضواء البيان عند هذا المبحث، فسيجد نقول المذاهب الأربعة
على أن الجمعة فرض عين على كل مكلف ممن لم يستثن ولم تسقط عنه الجمعة من
الأصناف الأربعة أو الخمسة.
ويكفي وعيداً في عدم المجيء إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة
ثلاث مرات بغير عذر طبع الله على قلبه) ، وهذا ما جاء إلا في المنافقين
والعياذ بالله، وكما قالوا رحمهم الله في الاتفاق: هي فرض يومها، أما الذين
سقطت عنهم أو لم يدركوها سواء كان بعذرٍ قام بهم كالمملوك والمرأة والصغير
والمريض والمسافر، أو لشيء نقص عليه وهو مستكمل الشروط، كأن غلب عليه نوم
أو شغل أو بعد عليه السبب أو المسافة، فحينئذٍ يصلي الظهر، إذاً: القادر
المستطيع الذي يدخل تحت تكليف يوم الجمعة واجب عليه أن يأتيها.
وقد كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يأتون إليها من العالية ومن
قباء، وكان يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا لصلاة الجمعة بالمسجد
النبوي الشريف، ثم بعد ذلك أذن لهم لما كثر الناس وشق عليهم النزول، وصار
الأمر على خلاف ما كان سابقاً، وتقام كل جمعة في نفس القرية لا في قرية
أخرى وهذا سيأتي عليه بحث آخر إنشاء الله.
إذاً: الجمعة حق على كل مسلم وفرض عين كالعصر والمغرب والعشاء والظهر في
غير يومها.
أما من تسقط عنهم الجمعة فمنه ما هو موضع اتفاق ومنه ما هو موضع خلاف.
[وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس
على مسافر جمعة) رواه الطبراني بإسناد ضعيف.
] تقدم الكلام على مقدمة هذا الحديث من حديث طارق أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم) ، واستثنى الأربعة من عموم
المسلمين: المملوك والمرأة والصبي والمريض، وسمعنا المؤلف رحمه الله يقول:
إن الحديث ضعيف، وقالوا: إن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم،
فيكون الحديث مرسلاً؛ لأن طارقاً تابعي، وبعضهم يقول: رأى النبي صلى الله
عليه وسلم ولكن لم يسمع منه فيكون حديثه مرسلاً، ولكن قالوا: جاء الحديث
برواية طارق عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث تلقى بالقبول وعليه العمل، ولكن الخلاف في بعض تلك الأصناف وفيها
تفصيل، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في
جماعة) ، فهذا تقدم الكلام عليه من أن الجمعة في يومها فرض عين، وهي فريضة
اليوم وقوله: (في جماعة) شرط في الجمعة، أي: لا تصح فرادى، ومن فاتته لعذر
أو غير ذلك فلا يصلي جمعة وإنما يصلي ظهراً، والأصناف التي استثنيت هي كما
يلي:
أولاً: المملوك
والمملوك يصدق على الذكر والأنثى الأمة والعبد، وهو المعبر عنه بملك
اليمين، وهذا أمر مفروغ منه، وفيه خلاف بين الجمهور والظاهرية؛ لأن داود بن
علي رحمه الله يقول: إنه عليه الجمعة مستدلاً بعموم قوله سبحانه: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقال: إنه من
عموم الذين آمنوا، وأخذ بذلك ابن حزم رحمه الله، يقول ابن قدامة في المغني:
هي رواية عن أحمد.
ولكن الجمهور والرواية الأخرى عن أحمد أن المملوك في حكم مالكه ومنفعته
لسيده فلا تجب عليه؛ لأنه مطالب بحق آخر، وإذا أذن له سيده فعليه أن يحضر،
وإذا حضر أجزأت عنه وأغنت عن الفريضة يومها.
إذاً: الجمهور على أن المملوك لا جمعة عليه أساساً، وإذا إذن له سيده بحضور
الجمعة أجزأته، ولكن يرى الجمهور أن حضوره لا يمكن أن يعتبر في تمام العدد
عند من يشترط عدداً معيناً، فمن يشترط اثني عشر رجلاً قال: لا يكون فيهم
مملوك، ومن اشترط الأربعين قال: لا يكون فيهم مملوك، بل يكون المملوك
زائداً عن عدد الأربعين، وزائداً عن عدد الاثني عشر أي: يجب أن يوجد ممن
تجب عليهم الجمعة ابتداءً العدد المطلوب.
ثانياً: المرأة
النوع الثاني: المرأة، وهذا بالإجماع، ولكن بعض العلماء يقول: المرأة إذا
أرادت أن تحضر الجمعة لسماع الموعظة أو لتتثقف في دينها، فإنه ينظر: إن
كانت امرأة كبيرة في السن فلا مانع، وإن كانت شابة يخشى فتنتها فلا تحضر.
والآخرون يقولون: مطلق امرأة إذا أذن لها زوجها أو وليها، بالشروط المعتبرة
في خروج المرأة كالتستر الكامل الذي تصح به صلاة المرأة وهو أن تكون لابسة
درعاً وخماراً سابغاً، أي: أن الدرع يغطي ظهور القدمين، وكذلك عدم التعرض
للطيب، ولا لمواطن الزحام، فإذا أمنت من هذه الجوانب وحضرت الجمعة فإنها
تجزئها ولا تطالب بظهر.
ثالثاً: الصغير
والثالث: الصغير: وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الصغير دون سن التكليف ليس
بواجب عليه أن يحضر الجمعة، وإذا حضرت المرأة أو حضر الصغير أيضاً فلا يحسب
في العدد الذي تصح به الجمعة.
ويكون حضور المرأة أو الصغير أو المملوك زائداً عن العدد الذي يشترطه من
يشترط عدداً معيناً.
رابعاً: المريض
الرابع: المريض: قالوا: والمريض على قسمين: - مريض يمكن أن يتحمل ويأتي
الجمعة، فإذا حضرها أجزأته، وعد من العدد المطلوب؛ لأن سقوطها عنه ليس
أصالة كالصبي أو كالمرأة، ولكن سقوطها عنه لمرضه تخفيفاً عليه، فإذا تحمل
وحضر يكون قد تحمل في سبيل حضورها وهو أصلاً من أهلها، فحينئذٍ تصح منه
وتنعقد به.
- أما إذا كان المرض ثقيلاً يشق عليه الحضور سقطت عنه الجمعة.
خامساً: المسافر
ثم يأتي بالرواية الأخرى ويضيف إلى ذلك خامساً وهو: المسافر.
والمسافر في الجملة حصل الاتفاق على أنه لا جمعة عليه، وذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم سافر في غزوات عدة ولم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم في
أي غزوة ولا في أي سفرة صلى جمعة، بل بالإجماع كان السفر للحج والوقوف
بعرفة في حجة الوداع يوم الجمعة، ولم يثبت أنه صلى الجمعة، بل صلى الظهر
ركعتين قصراً والعصر ركعتين وجمع بينهما.
ولما جاء أبو يوسف ولقي مالكاً رحم الله الجميع وتذاكرا هل صلى النبي صلى
الله عليه وسلم بعرفات جمعة أم صلى ظهراً؟ فقال مالك: صلى ظهراً.
فقال أبو يوسف: ألم يصل ركعتين ويخطب بالناس؟ قال مالك: بلى.
قال: هذه هي الجمعة ركعتان مع الخطبة.
قال: أرأيت جهر بالقراءة أم أسر بها؟ قال: أسر بها.
قال: هذا الظهر، والجمعة يجهر فيها بالقرآن، وهكذا أيها الإخوة أسلوب
العلماء في المذاكرة دون مناكرة أو شقاق أو غضب أو شيء من ذلك، فرجع كل إلى
الأصل واقتنع أبو يوسف رحمه الله أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم
عرفة كانت ظهراً، وبهذا اتفقوا في الجملة على أن المسافر لا جمعة عليه.
ولماذا لا جمعة عليه؟ قالوا: لأن المسافر تلحقه مشقة، ومن عناء السفر قصرت
عليه الصلوات الرباعية فهو في حاجة ومشقة، فتكليفه بحضور الجمعة بما لها من
شروط قد يلحق به مشقة زائدة.
ولهذه النظرة نجد بعض الفقهاء يفصل قالوا: المسافر على حالتين: - مسافر
عابر سبيل، نزل بقرية في يوم الجمعة وهو على نية الرحيل في يومها، أي: أنه
على ظهر طريق، فهذا يتفقون على أنه لا جمعة عليه.
- مسافر نزل في قرية قبل الجمعة بيوم أو يومين وسيستمر بعد الجمعة بيوم أو
يومين فقالوا: هذا مسافر، ولكن نزل واستقر، فانتفت عنه مظنة التعب والمشقة،
فهذا عليه أن يأتي، والجمهور قالوا: مادام أن له حكم المسافر وله يقصر
الصلاة على ما تقدم في مدة المقيم إقامة مؤقتة، فحينئذٍ حكم السفر مازال
معه واليوم كاليومين إلى الأربعة الأيام سواء.
إذاً: المسافر والذي نزل نزولاً مؤقتاً في طريقه فإنه لا جمعة عليه، وإذا
حضر، قالوا: إذا حضر تحتسب له وتجزئه عن يومها، ولكن لا يكون في عدد الجمعة
لماذا؟ لأن الأصل سقوطها عنه.
إذاً: هؤلاء الخمسة الأشخاص لا جمعة عليهم.
نجد أن هناك قولاً منفرداً، وهو يأتي عن أبي يوسف رحمه الله صاحب أبي حنيفة
رحمه الله؛ يقول: يلحق بهؤلاء الخمسة الأعمى؛ لأنه تلحقه المشقة في حضور
الجمعة، ولكن كما قال ابن قدامة في المغني: هذا قول شاذ؛ لأن الأعمى جاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر عن حضور الجماعة وقال: بيني وبين هذا
المسجد هذا الوادي وليس لي قائد، وفي الطريق كذا وكذا واسترخص بأن يصلي في
بيته فأذن له، وبعد أن أدبر دعاه فقال: أتسمع النداء؟ قال: بلى قال: أجب،
فيقول الجمهور: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في ترك
الجماعة في الصلوات الخمس، والجمعة آكد، فلأن لا يرخص له في الجمعة من باب
أولى.
إذاً: الذي عليه الجمهور هو أن الجمعة تسقط عن خمسة أصناف: المملوك والمرأة
والصبي والمريض والمسافر على ما تقدم، وبالله تعالى التوفيق.
من آداب المستمعين
مع الخطيب استقباله بوجوههم
[وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا) رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وله
شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة.
وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه
وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ) رواه أبو داود] .
بعد أن بين وجوب الجمعة على الأعيان وأنها فرض عين، ومن استثنى من ذلك من
تلك الأصناف الخمسة ذكر آداب المصلين مع الخطيب فقال: إذا جلس صلى الله
عليه وسلم على المنبر -أي: للخطبة- استقبلناه بوجوهنا.
العادة الطبيعية أن المصلين مستقبلون القبلة، والمنبر في قبلية المسجد،
فإذا صعد الإمام اتجه إلى الشمال والمصلون متجهون إلى القبلة، فهم مستقبلون
بوجوههم، ولكن هذا يصدق لمن هو باتجاه المنبر سواء، أما ميمنة الصف وميسرة
الصف فليسوا مستقبلين، إذاً: على من يكون في الميمنة أو في الميسرة أن
يستدير ويستقبل الخطيب بوجهه، وليس بلازم أن يستدير بجسمه كاملاً بأن يكون
واجهته إلى المنبر.
ولو كان جالساً وأدار وجهه إلى الخطيب مستقبلاً القبلة بصدره، ومديراً وجهه
إلى الإمام على المنبر مستقبلاً إياه بوجهه، فهذا من علامات الأدب
والإصغاء، والنظر إلى الخطيب وهو يخطب ومتابعته في هذه الحالة توكيد للسماع
وتقوية للمعنى؛ لأن حواسه كلها مع الخطيب يسمع بأذنه ويرى بعينه.
وعلى هذا تكون السنة ونحن بالمسجد النبوي فيها مشكلة؛ لأنه دون بقية
المساجد، فالمنبر يوجد في حد المسجد النبوي الأول في عهده صلى الله عليه
وسلم، ثم جاءت الزيادة التي في القبلة على سمت باب السلام إلى الحجرة،
وكانت تسمى الطُرقة (طُرقة باب السلام) طرقة المُسلّمين على رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
والآن مكان المنبر لا يمكن أن يغير؛ لأنه موضوع على ما وضعه رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وخلف المنبر إلى القبلة عدة صفوف أربعة خمسة ستة على حسب
الزحام، ماذا يفعل أولئك الذين في جلوسهم مستدبرين المنبر؟ السنة أن
يواجهوا الخطيب بوجوههم ولا يعطونه ظهورهم؛ لأن هذا من علامات الإعراض،
وبعضهم يقول: كيف نستدبر القبلة ونستقبل المنبر، ولكن لم أجد من استثنى ذلك
المكان، فاستقبال الخطيب بالوجه في عامة المساجد هي السنة، ولا يوجد تساؤل
إلا في هذا المسجد النبوي وبالنسبة لطرقه فقط.
كذلك الخطيب في مكة المصلون مستقبلون المنبر طبيعياً؛ لأنهم يستقبلون
الكعبة بشكل دائمٍ، والمنبر لاصق بالكعبة، فغاية ما هناك أن الذين تقع
الكعبة بينهم وبين المنبر لا يستطيعون أن يتطاولوا عليها ولا أن يزيلوها،
لكنهم استقبلوا الخطيب بوجوههم، فسواء حصل حاجز أو لم يحصل فذلك ليس
بأيديهم.
إذاً: السنة في المستمع أن يستقبل الخطيب بوجهه.
ولذا اتفق الجميع -ما عدا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله ولكن الصحيح عنه
كقول الجمهور- أن السنة في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أن تستقبله
بوجهك وتستدبر القبلة؛ لأن أدب الخطاب أن تواجه من تخاطب، وجاء عنه صلى
الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي فأرد عليه
السلام) ، فهل تريد أن يرد عليك السلام وأنت مدبر عنه؟ وعند الإمام أبي
حنيفة كما ينقلون عنه: إن الأدب أن يقف بجانب الحجرة فيجعلها عن يساره أو
عن يمينه، ويستقبل القبلة عند السلام؛ لأن السلام قربة وعبادة، وقبلة
القربة والعبادة الكعبة، فيستقبل الكعبة بوجهه ويسلم على النبي من جانبه
كما يحدث شخص إنساناً آخر عن جانبه، ولكن الذي رأيناه في مسند أبي حنيفة
رحمه الله -وهو مطبوع مع مسند الشافعي رحمهما الله- رواية أبي حنيفة أن
السنة والأدب أن تستقبل النبي صلى الله عليه وسلم أي: الحجرة الشريفة عند
السلام عليه.
فيكون قد وافق الجمهور في أن الأدب عند السلام على النبي صلى الله عليه
وسلم أن يستقبل الحجرة الشريفة فيستقبل وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
اتكاء النبي صلى
الله عليه وسلم على العصا والقوس وقت الخطبة
[وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه
وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ) رواه أبو داود] .
توكؤ الخطيب على شيء في يده مظهر من مظاهر الخطابة عند العرب قبل وبعد
الإسلام، فكانوا إذا كان الخطيب في قوم لابد أن يكون على نشز مرتفع أو على
ظهر ناقته أو جواده؛ لأنه بارتفاعه يشرف على أكثر عدد ممكن، وبارتفاعه يبلغ
صوته أكثر مما لو كان منخفضاً.
ومن هنا كانت الخطبة على المنبر، وإن كان أصل المنبر في المسجد النبوي
الشريف شفقة بطول قيام رسول الله، كان صلى الله عليه وسلم يقوم على قدميه
في الروضة فيخطب متكئاً على جذع، فكان يتكئ عليه ويخطب، فرأت امرأة من
الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف ويطيل القيام، ويبادل بين قدميه
لطول الوقوف، فقالت: يا رسول الله! إن لي غلاماً نجاراً فهل تأذن له أن
يصنع لك منبراً تجلس عليه حين تقوم، فأذن له، فذهب الغلام وجاء بأعواد من
الطرفة من الغابة عند ملتقى الأسيال وراء بئر رومة وصنع المنبر من ثلاث
درجات، درجة أولى، والدرجة الثانية عليها القدمان، والدرجة الثالثة يجلس
عليها، فانتقل صلى الله عليه وسلم من موقفه واقفاً إلى موقع المنبر للجلوس
عليه.
وكان من شأن الجذع أن حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع المصلون حنين
الجذع لرسول الله ونزل إليه فالتزمه كما يهدئ الأب ولده أو الأم طفلها
وقال: (إن شئت أخذتك فغرزتك فأورقت وأثمرت وأينعت، وإن شئت كنت من غرس
الجنة؟ قال: أريد أن أكون من غرس الجنة، فدفنه صلى الله عليه وسلم في
الروضة في أصل المنبر) .
إذاً: صنع المنبر ابتداءً لراحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من
ثلاث درجات كما هو معلوم، فجاء الناس وصنعوا المنبر واعتبروه من جهة راحةً
للخطيب ومن جهة للإشراف عليهم ليكون أدعى لانتشار الصوت وبعده.
ولهذا كانت السنة أن الخطيب يكون على مكان مرتفع فإلم يكن فعلى ظهر بعيره،
وإلا فعلى ظهر فرسه، فجاء الإسلام وجعل المنبر للخطيب، وكان الخطيب يعتمد
على قوسٍ أو عصا، فالقوس من أدوات القتال والعصا من أدوات التوكؤ فيقول
الأدباء: إذا كان موضوع الخطبة يتعلق بالقتال والجهاد من هذه الناحية كان
الاتكاء على قوس إشعاراً بجدية الموضوع، وإن كانت الخطبة مثلاً في أمور
سلمية اتكأ على عصا؛ لأن العصا تشعر بعدم الحرب، والقوس يشعر بالشدة
والقتال.
فهنا كلمة (أو) تكون مشعرة بالشك، أو أنه أحياناً يتكئ على قوس وأحياناً
على عصا، فأحياناً صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويهيئ الجيوش فيندبهم إلى
القتال، والذي يناسب في هذه الحالة أن يكون متكئاً على قوس.
وأحياناً يخطبهم ويبين لهم بعض ما يرد عليه أو بعض ما يعرض لهم من إشكالات
وأحياناً يقول: أيها الناس! احضروا المنبر، ويكون لأمر دنيوي أو تشريعي
فيكون الاعتماد على عصاً، ولو كان على المنبر، والاتكاء -أيها الإخوة-
أثناء الخطابة يساعد الخطيب على استرساله في موضوعه.
ومن العجيب أنهم كانوا في أثناء القتال في التاريخ الأول يأتي الخطيب وبيده
السيف، فيصعد المنبر وهو مستل سيفه يتكئ عليه، فيخطب وهو متكئ على السيف
بدلاً عن القوس وإذا جئت إلى بعض مساجد الأرياف خارج المملكة تجد السيف
مصنوعاً من خشب على المنبر يحاكي ما كان سابقاً فيأتي الخطيب ويصعد المنبر
وبيده سيف من خشب، لا حول ولا قوة إلا بالله! تقليد! والسيف الخشب سيشعر
بقتال.
إذاً: انتقلت تلك العادة حتى أدت إلى هذا التقليد بهذه الحالة، ولكن لابد
إما أن يكون عصاً فعلاً وإما أن يكون قوساً، فإذا لم تدع الحاجة لذلك ولا
يوجد، ولا تعود الناس على ذلك صعد وأمسك بيده جانب المنبر، وبعضهم يقول:
يضع اليمنى على اليسرى، وبعضهم يقول: اليدين على جانبي المنبر إلى آخره.
ويذكر بعض الأدباء في عادة الخطباء أنه لابد أن تكون يده في شيء محسوس.
وبعض النكت عن بعض الأدباء يقولون: مفتاح عقل الخطيب في شيء يتعوده، وذكروا
عن خطيب غير عربي كان بليغاً جداً، ولاحظ شخص أنه عند الحديث يمسك زرار
السترة، ويعبث به طيلة ما يتكلم، فجاء إنسان وعند بدئه للصعود للخطبة قطع
هذا الزرار، فوقف ليخطب فأخذ يحسس ويطلب الزرار فلم يجده فضاع عليه
المفتاح، فلعله من باب شيء في يده محسوس على حسب ما تعود يساعده حتى يسترسل
في موضوعه إلى غير ذلك، لكن الأصل كما يقول الأدباء: أن يعتمد الخطيب على
شيء إما عصا أو قوس وذلك بحسب مناسبة الخطبة، وكما يقال: لكل مقال مقال.
وهنا يا إخوان ينبه العلماء: أنه إن اعتمد على عصا أو قوس إنما يكون لمجرد
الاعتماد، لا أن يرفعها للتهديد أو يدق المنبر بها، إنما تكون في يده يعتمد
عليها، إذاً: عمل للعصا ولا للقوس، وإنما هي اتباع لسنة النبي صلى الله
عليه وسلم دون أن يدق بها درج المنبر أو يشهرها على الناس أو يهدد بها.
|