شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصلاة - باب
صلاة المسافر والمريض [1]
إن الدين يسر، ومن يسره تخفيف الصلاة على المسافر بالجمع والقصر، وهذه
المسألة قد تكلم فيها العلماء ودققوا في فروعها، وناقشوا أدلتها مناقشة
دقيقة.
حكم القصر في الصلاة
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حديث: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ... )
فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما فرضت
الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) متفق عليه، وللبخاري:
(ثم هاجر، ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر على الأول) ] .
هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن القصر في السفر واجب.
فقولها في الحديث: (ثم) للتأخير والتسويف.
إذاً: حينما نسافر نرجع إلى الأصل، والأصل ركعتين، وهذا قول قوي.
لكن الآخرون يجيبون عن ذلك: بأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} [النساء:101] ، فالقصر يكون من تمام
الكمال.
إذاً: قول عائشة رضي الله تعالى عنها ليس فيه رفع إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فهي لم تقل: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، بل قالت: (أول
ما فرضت الصلاة) ، فقالوا: هذا قول واجتهاد منها رضي الله تعالى عنها، ولم
تسند ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأت عن غيرها من الصحابة، ولو
كان الأمر كذلك لاستفاض ونُقل عن غيرها معها، فقالوا: هذا يجعل الأخذ به
فيه ضعف.
فهنا: أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم حصل تغيير فأتمت صلاة الحضر أربعاً،
وبقيت صلاة السفر على ما هي عليه.
ورد القائلون بأن القصر رخصة وليس بواجب فقالوا: أخبرونا عن هذا المسافر
الذي تفرضون عليه ركعتين فقط: إذا ائتم بمقيم فهل: يتم أربعاً تبعاً
لإمامه، أو يقتصر على ركعتين؟ وإجماع الفقهاء على أن المسافر إذا ائتم
بمقيم في الرباعية فعليه أن يتم، فلو أدرك مع الإمام المقيم الركعتين
الأخيرتين فلا يحق له أن يسلم معه، بل يقوم ويأتي بالركعتين اللتين فاتتاه،
فلو أن صلاة السفر تجب ركعتين لكان أحد أمرين: إما أن يمتنع المسافر من
الائتمام بالمقيم حتى لا يلزم بالأربع، وإما أن يسلم من ركعتين التي هي
فرضه، فلما لم نجد شيئاً من ذلك، ووجدنا أن المسافر يأتم بالمقيم فيتم،
تبين لنا أن صلاة السفر يمكن إتمامها.
حديث: (ثم هاجر ففرضت أربعاً ... )
قال المصنف: [وللبخاري: (ثم هاجر ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر على
الأول) ، وزاد أحمد: (إلا المغرب فإنها وتر النهار، وإلا الصبح؛ فإنها
تُطَّول فيها القراءة) ] .
لما ذكرت رضي الله تعالى عنها أن صلاة السفر فرضت ركعتين، وقصرت الرباعية،
جاء المؤلف رحمه الله بخبر أحمد ليبين أن القصر لا يشمل الصبح فيصبح ركعة
واحدة، ولا يشمل المغرب؛ لأنه ليس هناك صلاة ركعة ونصف، ولا أن يسقط النصف
وتكون ركعتين، وبيّن العلة؛ لأن المغرب وتر النهار، فلما كانت صلاة النهار
كلها شفع، الصبح اثنتين، الظهر والعصر أربعاً أربعاً، وكان المغرب ثلاثاً
فكان وتراً لصلاة النهار، وأما الصبح فتطول فيه القراءة: {وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] .
حديث: (كان يقصر في
السفر ويتم)
قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر) رواه الدارقطني، ورواته ثقات إلا أنه
معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها] .
الذين يقولون بأن القصر رخصة يستدلون أيضاً بهذا الحديث الذي رواه
الدارقطني ورواته ثقات، ويقولون: إنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه: صام
وأفطر في السفر، وأتم وقصر في السفر.
إذاً: الإتمام والقصر جائز جوازاً مستوي الطرفين، ولكن أجيب عن ذلك: بأنه
لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتم صلاة في السفر قط.
إذاً: هذا معارض بفعله صلى الله عليه وسلم، أما أنه كان يصوم ويفطر فهذا
ثابت، فقد صام في فتح مكة حتى بلغ كراع الغميم ثم أفطر بعد ذلك وأفطر الناس
معه.
[ورواته ثقات، إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها] .
يقول المصنف: إن رواية الدارقطني رواتها ثقات ولكنها معلولة، وذكر العلة في
الشرح بأن فيه رجلاً سماه وهو مجهول، أو أنه يروي عن غير الثقات، أو أنه
غير ثقة، وإذا كان الحديث معلولاً ومخالفاً لما هو المشهور، فلا حاجة إلى
الاحتجاج به، وزاد تأكيداً على رده أن هذا الذي يقولون فيه عن عائشة كان
صلى الله عليه وسلم يتم ويقصر، فهي التي قالت: شرعت صلاة السفر ركعتين،
فكيف تقول لنا: إن أصل صلاة السفر ركعتين ثم تقول: إن الرسول صلى الله عليه
وسلم يتم، وهذا مغاير لروايتها الأخرى! فاجتمع فيه: أولاً: مغايرة عائشة
رضي الله عنه لروايتها الأخرى: (أقل ما فرضت الصلاة ركعتين) .
ثانياً: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم في سفر أبداً.
ثالثاً: أنه معلول.
إذاً: لا يتحج به.
ولكن المؤلف كما قدمنا إنما يورد النصوص التي يحتج بها من يحتج ويترك
الترجيح والنظر للناظر فيها.
قال المصنف: [والمحفوظ عن عائشة من فعلها] .
يعني أن: عائشة كانت تتم وتقصر، وليس ذلك إسناداً إلى فعل النبي صلى الله
عليه وسلم، وفعلها لا يستوي مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أن
ابن عمر لما سئل عن فعلها قال: (لقد تأولت كما تأول عثمان) ، وجاء عنها
أيضاً: أنها كانت تصوم وتفطر في السفر وتقول: (لا يشق عليّ) ، وسيأتي لها
رواية، ويناقش العلماء في ألفاظها وفي سندها.
فهنا: فعل عائشة رضي الله تعالى عنها من تمام القصر في السفر، والصوم
والفطر في السفر اجتهاد منها، وكما قال ابن عمر: (تأولت كما تأول عثمان) فـ
عثمان رضي الله تعالى عنه كان يقصر الصلاة في السفر ست سنوات من خلافته،
وقال البعض: بل طيلة خلافته، ولم يتم إلا بمنى في أخريات خلافته، -أي: كان
يقصر بمنى وفي غير منى- فقيل له في ذلك؟ فقال أحد جوابين: لقد تزوجت بمنى،
وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تزوج المسافر في بلد فليتم
صلاته) .
وبعضهم يقول: قال: لقد وجدت الأعراب فأردت أن أعلمهم أن الصلاة رباعية،
لأنهم إذا جاءوا إلى الحج ووجدوا الخليفة يصلي ركعتين ركعتين رجعوا إلى
ديارهم وربما اعتقدوا أن الصلاة كلها ركعتين ركعتين، فقال: أتممت لأعلم.
هذا هو تأويله: إما أنه تأول إتمام الصلاة ليعلم الأعراب، أو أنه أخذ
بالنص: (من سافر فنزل في بلدة فتزوج بها فليتم الصلاة) ، فجاءت عنه
الروايتان.
وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تأولت بأن الرخصة للمشقة، فقالت: (وأنا
لا يشق عليّ) والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فتأولت أنه إذا انتفت
المشقة انتفت الرخصة، ولا حاجة للأخذ بها.
حديث: (إن الله يحب
أن تؤتى رخصه)
قال المصنف: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)
رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه)
.
] جاء المؤلف رحمه الله أولاً بما يشعر بالوجوب فذكر حديث عائشة (أول ما
فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) أي: بقيت
صلاة السفر على الأصل، وهذا من أدلة الوجوب، وجاء بعد ذلك بهذا الحديث: (إن
الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه) وهذا الحديث قاعدة عامة.
ما هي الرخصة؟ يقولون في فقه اللغة: إذا نظرت إلى المادة (الراء، والخاء،
والصاد) بمعنى الرُّخص والرَّخص، رخص الأسعار يدل على على الرخاء والهدوء،
وشيء رخص أي: لين رطب، واستدلوا بقول الشاعر: (ومخضب رخص البنان كأنه) (رخص
البنان) يعني: لين الأصابع، وهذا وصف الفتيات والنسوة، فالرخص هو اللين،
وكذلك الرخصة؛ لأن ألفاظ الشارع تنقل ألفاظ اللغة إلى ما يناسبها من
التشريع، كما نقلت كلمة الصلاة من الدعاء إلى الصلاة ذات الركوع والسجود،
وكما نقل الصوم وهو الامتناع عن الكلام إلى الصيام في الإسلام، وهكذا الحج
وهو القصد، والعمرة: الزيارة.
فقالوا: الرخصة: هي جلب الإرفاق أو دفع المشقة، أو إباحة ما جاءت الرخصة به
مع بقاء الحكم الأصلي.
أو هو حكم لاحق فيه إرفاق بالمسلمين، أو بالمكلف مع بقاء الحكم الأصلي الذي
جاءت به الرخصة.
مثال ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}
[المائدة:3] ثم أباح الله تبارك وتعالى للإنسان في حالة المخمصة أن يتناول
الميتة، فقال: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة:3] أي: عند
الاضطرار يباح أكل الميتة.
هل حينما أبيحت الميتة للمضطر رفع عنها حكم التحريم السابق أم هو باق؟ بل
هو باق؛ بدليل أنه حينما ترفع عنه المخمصة أو يجد غير الميتة لا يحل له
أكلها.
إذاً: الحكم الأصلي باق، ولكن الرخصة جاءت مؤقتاً لإيقاف العمل بالنص في
التحريم، والنص قائم والحكم موجود.
إذاً: إن قلنا بأن القصر رخصة يبقى الحكم الأساسي هو الإتمام؛ لأن القصر
جاء تخفيفاً، مع بقاء حكم الأصل وهو الإتمام.
وكذا الفطر في رمضان، ينتهي صيام الواجب، فيقول: يا عبادي! يوم العيد أنتم
في ضيافتي ومكرمتي، فمن صام يوم العيد كأنه معرض عن ضيافة الله، ولو أن
شخصاً آخر دعاك إلى مكرمة وقلت: أنا في غنى عنها لا أريدها، لم يكن هذا من
الأدب.
فهذا الحديث وإن كان يشعر بأن القصر رخصة لكن الله يحب أن يؤتى بها، ومن
هنا قال مالك رحمه الله: القصر رخصة والأفضل العمل بها تمشياً مع هذا النص
المحكم: (يحب أن تؤتى رخصة) (صدقة تصدق بها عليكم) ، إذا كنت تعرف إنساناً
فقيراً، وجئت بصدقة مالك إليه، وقال: أنا لا أريدها، وأنت تعرف أنه محتاج
ويقبل من غيرك، فإذا كان يقبل من غيرك صدقة ماله ويرفض أن يأخذ صدقتك فإنك
تستغرب وتفتش عن السبب، فإذا كان الأمر من المولى سبحانه وتصدق علينا، ورخص
لنا، فالواجب علينا أن نقبل صدقة الله ورخصته، وهذا أحسن ما قيل في ذلك،
ولهذا تجدون الشارح الإمام الصنعاني يقول في العدة تعليقاً على العمدة لـ
ابن دقيق العيد: وقد كتبت رسالة في ذلك، وحققت أن الصحيح والراجح في
المسألة أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها، وهذا أحسن ما يقال في هذا الباب،
والله تعالى أعلم.
قال المصنف وفي رواية:: [ (كما يكره أن تؤتى معصيته) .
] معناه: أن الله يحب أن تؤتى الرخص بقدر ما يكره أن تؤتى المعصية، وإذا
نظرنا إلى المقابلة: بقدر ما يكره المولى إتيان المعصية بقدر ما يؤخذ
بالرخصة، وكأن الذي يرفض الأخذ بالرخصة يقدم على فعل المعصية، والعكس
بالعكس، والقياس العكسي يؤدي إلى هذا.
إذاً: أحسن ما قيل في هذه المسألة هو ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ونبه
عليه الشارح الإمام الصنعاني هنا بأنه كتب رسالة في ذلك، وبين أن الراجح هو
أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها.
قال المصنف: [وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه) ] .
هذه الرواية مقابلة لتلك (كما يكره أن تؤتى معصيته) لأن كره المعصية
يقابلها: حب العزيمة، فيحب الأخذ بالرخصة كما يحب الأخذ بالعزيمة، وكلاهما
مطلوب.
متى يقصر المسافر
قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين) .
رواه مسلم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ
صلى ركعتين: هناك من أخذ هذا النص وجعل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ هي مدة
السفر التي تقصر فيه الصلاة، وهذا خطأ، والصحيح في ذلك يؤخذ من قوله: (إذا
خرج) فلم يقل: إذا سافر، ولاحظوا الدقة في التعبير، وكأن السفر غير الخروج.
فيقول: إذا خرج في سفر طويل، وقطع من السفر الطويل ثلاثة أميال أو ثلاثة
فراسخ -شك من الرواي- صلى ركعتين، يعني أنه يشرع في قصر الصلاة في السفر
الطويل بعد أن يقطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -على الشك- ولا يشرع في قصر
الصلاة من بيته؛ هذا حاصل هذا الحديث.
قال المصنف: [وعنه رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول لله صلى الله عليه
وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة)
.
متفق عليه، واللفظ للبخاري.
] .
قبل الشروع في شرح الحديث أحب أن أنبه بأن أهم المراجع التي يمكن أن يرجع
إليها طالب العلم في هذه المسألة: أضواء البيان لوالدنا الشيخ الأمين رحمة
الله تعالى علينا وعليه، فقد ذكر كل ما تقدم من خلاف، وله رأي في الترجيح،
وأنا لا أقول شيئاً في ذلك، ولكن أحب أن أقول أيضاً بأنه عرض إلى ما عرض
إليه الفخر الرازي في التفسير في نوعية القصر، ما هو القصر هل القصر في
الكيفية أم في الكمية؟ ومعنى القصر في الكيفية: هو إتيان الصلاة على ما هي
عليه أربعاً، ولكن مع التخفيف في الأركان.
يعني: تقرأ الفاتحة فقط، وتسبح مرتين أو ثلاثاً فقط، وهناك من يقول بذلك،
وقالوا: صلاة السفر تقصر ركعتين، وصلاة الخوف تكون ركعة واحدة، وبعضهم
يقول: قصر الصلاة مع الخوف ركعة، ومع الأمن ركعتين، ولكن لم يأخذ بهذا
التفصيل أحد من الأئمة الأربعة، فإذا مر عليها الطالب فلا يقف عندها
طويلاً، اللهم إلا إذا كان استيعاباً للخلاف الموجود في المسألة، أما إذا
أراد فقه المسألة وتحقيقها فليتجاوز هذه المرحلة في أول بحث الشيخ رحمه
الله، ثم يأتي إلى الفروع التي أوردها في المسألة، وأقوال الأئمة رحمهم
الله في تلك المسألة التي يتعلق بها الحكم.
والله تعالى أعلم.
المسافة التي يجوز
فيها القصر
حديث أنس رضي الله عنه يشير إلى مدة نهاية القصر، ومسافة القصر التي قدرت
-وسيأتي التنصيص عليها بأربعة برد، والعبرة فيها بالمسافة البينية، أي: ما
بين مسيره ومنتهاه، فإذا كانت الأربعة برد للذهاب والإياب بأن كان سفره
مثلاً إلى بريدين وسيرجع بريدين، والمجموع أربعة برد فلا قصر؛ لأن العبرة
فيما بين بلده وبين غايته من السفر، فإذا كانت المسافة بين بلده وبين
الغاية من سفره أربعة برد قصر، وإذا كان الذهاب والإياب أربعة برد فلا قصر.
إذا أقام المسافر
أربعة أيام أو أقل فله القصر
وهنا يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
إلى مكة، فلا زال صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة أو يصلي ركعتين حتى رجع
إلى المدينة) .
إذاً: المسافر الذي استوفى شروط السفر يقصر، ومما يذكر في جواز القصر في
السفر أن يكون السفر مباحاً أو سفر طاعة، وهناك من يقول: بل مطلق سفر ولو
حتى في غير طاعة ولا مباح، وإن كان سفر معصية فمعصيته على نفسه، وله رخصة
السفر في هذا، والجمهور يقولون: إن الله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ} [المائدة:2] فإذا كان سفره سفر معصية فلا يأخذ بالرخصة، ولا يفتي
بذلك لأنه يساعده على معصيته.
إذا استوفى المسافر الشروط وكانت المسافة مكتملة، والسفر مباحاً فلا يزال
يقصر حتى يرجع إلى بلده.
ولكن قد تطرأ في أثناء السفر إقامة، فما حكم تلك الإقامة التي تخللت سفره
حتى يرجع؟ من هنا: جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا بحديث ابن عباس رضي الله
عنه.
والسفر الذي ذكره أنس رضي الله عنه إلى مكة مع إقامته صلى الله عليه وسلم
هناك فيه عدة أحكام في عدة مواقف، وكان سفره صلى الله عليه وسلم إلى مكة
عام الفتح وعام الحج، وكل منهما يختلف حاله؛ لأن عام الفتح له ظروف، وعام
الحج له ظروف، وسنتناول حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بروايته، مع
الإلمام الخفيف عن الفرق بين سفرة الحج وسفرة الفتح.
ففي سفرة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبدأ سفره صائماً حتى بلغ
كُرَاعَ الغميم، وهناك أفطر وندب الناس إلى الفطر وموضوع الصوم لا يخصنا
-وكان يقصر الصلاة من ذي الحليفة إلى أن رجع إلى المدينة، ولما وصل مكة
وفتح الله له مكة انتظر هناك تسعة عشر، أو عشرين، أو ثمانية عشر يوماً
-أكثر أو أقل- وهو يقصر الصلاة ويقول لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم
سفر) .
فقوله: (مكث ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرين -أكثر أو أقل- وهو يقصر، ما الذي
أجلسه صلى الله عليه وسلم تلك المدة وقد أنعم الله عليه بالفتح؟ نعلم
جميعاً أن بعد الفتح كانت غزوة حنين، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم أن
هوازن تجمع له، علم أن فتح مكة لم ينته، وبقي في مهمة الفتح أو الغزو تلك
اللحظات، فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى هوازن.
إذاً: كانت مدة إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح مدة جهاد، ولا نقول:
إنه مقيم، ولا تمت له إقامة، ولا نوى إقامة واستيطاناً.
إذاً: ما دام الأمر كذلك فهو على سفر، وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة
حتى رجع من هوازن ورجع إلى المدينة.
أما سفرة الحج فيتخللها إقامة محددة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: (قدموا صبح رابعة) أي: وصل النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم
الرابع من ذي الحجة، وإذا كان وصل يوم أربعة في ذي الحجة، فالوقوف بعرفة
يكون يوم تسعة، فيضطر أن ينتظر في مكة إلى يوم عرفات خمسة أيام، وفي هذه
المدة قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه نووا الإقامة حتى يأتي
يوم الثامن فيرحلون إلى منى ثم عرفات، فهذه المدة التي حصلت فيها الإقامة،
كان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة فيها ولا يتمها؟ كم مكث النبي صلى الله
عليه وسلم في مكة قبل عرفة؟! الجواب: ارتحل صلى الله عليه وسلم إلى منى
ضحى، وصلى الظهر يوم الثامن في منى، ومكث إلى صلاة الصبح في منى، فلما
أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات، فكانت إقامته صلى الله عليه وسلم خمسة أيام
بحساب يوم الدخول ويوم الطلوع إلى منى، والإمام أحمد رحمه الله قال: من
أقام أثناء سفره لمدة عشرين صلاة، أي: عشرين فرضاً على اعتبار أن كل يوم
فيه خمسة فروض؛ فإن حكم السفر يظل مصحوباً معه فيقصر، أما إذا نوى الإقامة
أكثر من ذلك كأن ينوي الإقامة عشرة أيام محددة معلومة، أو ستة أيام محددة
معلومة؛ فحينئذٍ يتم من أول يوم يصل، لماذا؟ قال الإمام أحمد: الأربعة
الأيام قصيرة، وتعب السفر لازال موجوداً، وهو يتهيأ لسفر لاحق، ولا يزال
مصطحباً حكم السفر معه في هذه المدة المحدودة.
وكذلك فإن أصل القصر رخصة، والرخصة لا اجتهاد فيها، إنما الرخص جميعها
توقيفية، ولا تتعدى محلها، فقالوا: ما دمنا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم
في أثناء سفره أقام بنية معينة، فكذلك نحن إذا أقمنا أثناء السفر مدة معينة
نظرنا: إن كانت المدة مثل المدة التي نزلها وأقامها صلى الله عليه وسلم
فنقصر كما قصر، وإن كانت أقل فمن باب أولى، أي: لو أردنا الإقامة يومين أو
ثلاثة فإنا نقصر من باب أولى.
يقولون: السنة جاءت بأربعة، ولا نزيد على ذلك، ولهذا يتفقون بأن من نوى
الإقامة أربعة أيام فإنه له أن يقصر، وهناك أقوال أخرى كما عند الأحناف
أنها خمسة عشر يوماً، ويقولون: هذه مدة الطهر بين القرئين، وهذه المدة جاءت
بها الأخبار والآثار، على ما سيأتي في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
إذاً: المسافر إذا نزل نزولاً مؤقتاً، سواء في نهاية غايته أو في أثناء
طريقه، وكان نزوله وإقامته محددة بأربعة أيام فأقل فله أن يديم القصر حتى
يرحل، وإن كانت إقامته محددة معلومة أكثر من أربعة أيام فعليه أن يتم أول
ما يصل.
إذا أقام المسافر متردداً فإلى أي مدة
يقصر؟
إذا كانت إقامته غير محدودة ولا يعلم متى سيرحل، فما حكمه في تلك المدة؟
سيأتي بيان ذلك في روايات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سواء كانت في مكة
أو في تبوك.
قال المصنف: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه
وسلم تسعة عشر يوماً يقصر) ، وفي لفظ: (بمكة تسعة عشر يوماً) .
] كم كانت إقامته صلى الله عليه وسلم في الحج؟ أربعة أيام، ثم بعدها سفر
متواصل إلى منى، فعرفات، فمزدلفة، فمنى ثلاثة أيام، فالعودة إلى المدينة،
فأطول مدة أقامها صلى الله عليه وسلم في سفر الحج هي ما بين وصوله إلى يوم
التروية، وهو اليوم الثامن، والباقي كله سفر متواصل، وهنا أقام في مكة تسعة
عشر يوماً.
فيكون قطعاً ليس في الحج، إنما هو في الفتح.
هل ظل صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة تسعة عشر يوماً، ولماذا؟ نعم.
ظل يقصر خلال هذه المدة.
قالوا: لأنه لم ينو إقامة ولم يحدد مدة، ولم يكن يعلم متى سيرجع.
إذاً: لم يكن هناك تحديد للمدة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم متى ينتهي
الموقف، ولكنه صلى الله عليه وسلم انتهى من فتحها -مكة- في يومها والحمد
لله وتم الأمر، ولكنه لم يعلم متى ينتهي من الذين جمعوا له من هوازن، ومن
هنا انتظر يعبئ الجيش ويهيئه للقتال وخرج معه عشرة آلاف مقاتل، وهناك من
مكة خرج معه ألفان من مسلمة الفتح ومن غير المسلمين، حتى أن من المشركين من
خرج مع المسلمين حمية ودفاعاً عن مكة.
ولما انتهى من أمر هوازن ونصره الله عليهم وغنم غنائم حنين، ورجع إلى مكة
توجه إلى المدينة حالاً.
إذاً: هذه المدة -التسعة عشر يوماً- لم تكن مقررة من قبل، إنما قررها
الواقع، ولما انتهت المهمة ولم يبق للإقامة حاجة عاد صلى الله عليه وسلم
راجعاً إلى المدينة.
وهنا نجد الروايات: (تسعة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، خمسة عشر) كل هذه
الروايات جاءت فيما يتعلق بالمدة التي أقامها صلى الله عليه وسلم في مكة،
وجاءت أيضاً في تبوك عشرين يوماً، أما روايات ابن عباس في مكة -تسعة عشر
سبعة عشر خمسة عشر ثمانية عشر فيقولون: إن البيهقي رحمه الله جمع بين تلك
الروايات وقال: لا تعارض بينها، فمن قال: تسعة عشر يوماً حسب يوم الدخول
وحسب يوم الخروج، ومن قال: سبعة عشر يوماً أسقط يوم الدخول ويوم الخروج،
فلا تعارض حينئذٍ، ومن حسب ثمانية عشر يوماً أسقط يوم الدخول يوم الخروج أو
العكس، والذي قال: خمسة عشر؟ قالوا: هي الرواية صحيحة، ولكنها في علم
الحديث شاذة، لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين سبعة عشر، وتسعة عشر) .
وعلى هذا: وجد عندنا إقامة بدون تحديد مدة وفيها القصر إلى تسعة عشر يوماً،
فهناك من العلماء من قال: إذا أقمنا في أثناء السفر إقامة غير محدودة ولا
معلومة النهاية قصرنا تسعة عشر، والآخر يقول: قصرنا خمسة عشر يوماً
احتياطاً، وعدنا إلى إتمام الصلاة، ولكن أكثر العلماء على تسعة عشر، وربما
نجد من يروي عن بعض العلماء غير الأئمة الأربعة شهراً، على ما جاء في رواية
عن علي رضي الله تعالى عنه، وربما وجدنا من يقول: إذا كانت الإقامة غير
معلومة ولا محددة فظلت أطول من تسعة عشر أو عشرين، أو ثلاثين يوماً، فيظل
المسافر يقصر حتى يعود إلى بلده، وهذا كما يقولون في شرح الحديث: مذهب أبي
حنيفة رحمه الله، وهو المنصوص عليه في فتح القدير شرح الهداية قال: (قصر
ولو سنين) .
والجمهور يقولون: لابد من اعتبار الرخصة في أساسها، وإذا كان الأصل في
الصلاة إتمامها وجاء القصر رخصة: (تصدق الله عليكم بها فاقبلوا صدقته) ،
والرخص إنما هي توقيفية فلا تتعدى محلها، ووجدنا من فعل النبي صلى الله
عليه وسلم في حالة الإقامة المعلومة المحدودة أنه يقصر الأربعة الأيام فنحن
كذلك نقصر، فإذا زدنا في مدة معلومة عن الأربعة رجعنا إلى الأصل فأتممنا من
أول يوم، فكذلك في الحالة التي لا يعلم فيها متى تنتهي الإقامة نقف عند
المدة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، وهي تسعة عشر يوماً.
ويقول الشوكاني: نحن قد وقفنا على الرخصة من فعله صلى الله عليه وسلم في
المدة التي لا تحديد لها إلى تسعة عشر يوماً إلى عشرين، فإذا قصرنا في مثل
هذه الحالة نكون مقتدين آخذين وعاملين بالسنة التي وردت لنا من فعله صلى
الله عليه وسلم، فإذا أقمنا أكثر من عشرين يوماً كخمسة وعشرين يوماً،
فالعشرون يوماً أخذنا بها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخمسة إذا
قصرنا فيها لم تكن داخلة في الرخصة.
فـ الشوكاني رحمه الله يقول: ما زاد عن الأيام التي ثبتت عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليست داخلة في الرخصة، ومن قصر أكثر من تلك المدة يكون
عاملاً بغير دليل ولا مستند، ثم يقول: لو قدر أن إقامته صلى الله عليه وسلم
طالت في مكة أو في تبوك فوق العشرين يوماً فهل نعلم ماذا كان سيفعل بعد
العشرين؟ هل يستمر على القصر أم يرجع إلى الإتمام؟ فالأمر محتمل للاتمام
والقصر، فإذا كان الأمر محتملاً في التقدير العقلي فممكن أن يظل يقصر
مستصحباً حكم السفر، وممكن أن يرجع إلى الأصل مكتفياً بهذه المدة، فما دام
الاحتمال قائماً، على قدم المساواة، وليس عندنا ما يرجح واحداً منهما،
فحينئذٍ إذا تعادل الاحتمالان نرجع إلى الأصل الذي لا احتمال فيه، فنرجع
إلى إكمال الصلاة ونصلي أربعاً، ونأخذ المدة التي ثبتت عنه صلى الله عليه
وسلم، ثم بعدها نرجع إلى الأصل؛ لأنه ليس عندنا نص نعتمد عليه أكثر مما ثبت
عنه صلى الله عليه وسلم.
كتاب الصلاة - باب
صلاة المسافر والمريض [2]
لقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده قصر الصلاة في السفر، وجاء هدي النبي
صلى الله عليه وسلم يبين لنا هذه الرخصة والصدقة من المولى جل وعلا،
وللعلماء في هذه المسألة أقوال مختلفة.
حكم القصر لطلاب
البعثات الدراسية والدورات التدريبية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
وبعد: فقد ورد أن هناك من يرى أن المسافر مهما كانت ظروفه فله أن يقصر حتى
يرجع إلى بلده كما فعل صلى الله عليه وسلم حتى رجع إلى مكة، ولكن ينبغي
التأمل؛ لأنهم ينزلون هذا الحكم على صور لا تنطبق عليها أحكام السفر،
ولعلنا سمعنا من البعض أنه يفتي الطلاب الدارسين في الخارج أن لهم الحق في
الفطر في رمضان وقصر الصلاة حتى يعودوا إلى بلادهم، وهذا لا يتمشى مع قواعد
السفر، لماذا؟ لأنهم متفقون على أن من كان مسافراً ونوى إقامة، فإن نية
الإقامة تقطع حكم السفر، وخالف في ذلك الأحناف فهم يقولون: البدو الذين
يتتبعون مواقع القطر نية إقامتهم في موطن من المواطن لا تقطع عنهم حكم
السفر؛ لأنهم في ترحال دائم، إلا إذا بنوا خيامهم ومساكنهم فتكون نية
الإقامة مصحوبة بالفعل.
وهؤلاء الذين يذهبون إلى الدراسة أو إلى الدورة العلمية لا يجهلون متى
تنتهي دراستهم أو متى تنتهي دورتهم التدريبية، فهم قبل أن يخرجوا من بيوتهم
يعلمون المدة التي سيمكثونها كأن تكون الدورة محددة بكذا أسبوع أو بكذا
يوم، أو بكذا شهر، وإن كانت دراسة فالسنة الدراسية معلومة.
إذاً: لا ينطبق عليهم حالة الإقامة المجهولة الأمد، فهي معلومة عندهم،
والإقامة المعلومة عندنا ليس رخصة فيها عندنا إلا أربعة أيام.
إذاً: كل من سافر لمهمة ويظل غائباً في سفرته إلى مدة يقال له: إن كانت مدة
سفرك معلومة ومحددة بأربعة أيام فلك أن تقصر حتى ترجع، إن كانت محددة بأكثر
من أربعة أيام فعليك أن تتم من أول يوم تصل فيه، وإذا كانت غير معلومة فلك
الحق في القصر في مثل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، والزائد عن ذلك حكمه
الإتمام.
إذا كان كل من خرج في بعثة أو في انتداب أو في دورة يعلم مدة إقامته في ذلك
المكان، فقد خرج عن كونه مجهول المدة، فلا يحق له أن يقصر نظراً لهذه
الملابسات.
وإن كان خلاف هذا فقد قيل عن أبي حنيفة رحمه الله أو المذهب الحنفي بالرخصة
إذا كان لا يعلم متى سيخرج، ويمثلون لذلك بالجيش المحاصر لبلدة ولا يعلمون
متى سينتهي الحصار، فلهم أن يقصروا إلى العشرين يوماً، والأحناف يقولون:
يقصرون حتى تنتهي المدة، ولو كانت شهراً أو شهرين أو أكثر أو أقل.
وهناك من يحتج بخبر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: جاء رجل
فسأل: ما حكم المسافر وإنا نقيم هناك العشرين يوماً نبيع ونشتري.
فقال ابن عمر: أو ما علمت، لقد كنا بأذربيحان، وكنا قد حاصرنا الثلج،
ووجدتهم يقصرون ستة أشهر.
هنا قال بعض العلماء: هؤلاء أقاموا مدة ليست معلومة وقصروا ستة أشهر.
ولكن الجمهور يجيب عن ذلك ويقولون: أذربيجان ليست مدينة معينة، ولكنها
إقليم، وهذا الإقليم متسع، كما لو قائل: كنت بالكوفة، كنت بالبصرة، كنت
بالعراق، كنت بالشام، كنت بمصر، والغزاة هناك ليسوا مرابطين في مكان واحد،
إنما هم يتجولون، فإذا انتقل في أذربيجان مسافة توجب القصر أو تبيح القصر
كان دائم السفر.
فلو أن إنساناً سافر إلى الشام في مهمة، تقتضي أن يتنقل من دمشق إلى حمص،
ومنها إلى حلب، وهكذا بين مدن الشام؛ فهو مسافر.
لو جاء الحاج إلى مكة والمدينة أو جدة، فمجيئه إلى جدة سفر، ومن جدة إلى
مكة سفر، ومن مكة إلى المدينة سفر، ولو أراد أن يسافر من المدينة إلى
الرياض أو إلى القصيم أو إلى الطائف، فكل هذا يسمى في حقه سفراً، وله أن
يقصر فيه؛ لأنها أسفار ومسافات تبيح له القصر.
إذاً: كل الصور الموجودة في بعثات دراسية أو نحوها مدتهم معينة فلا يدخلون
في الخلاف أبداً، ولا حتى عند الأحناف، أما إذا كانوا في مدد غير محددة
فالأحناف يرخصون: لهم أن يقصروا، والجمهور يقولون: لا يزيدون عن المدة التي
ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا جئنا بشخصين أقاما خارج البلد لمهمة طويلة ومضت المدة، وأحد الشخصين
أتم الصلاة، والآخر استمر على القصر، فنقول: يا فلان! عودك إلى الإتمام
عودة إلى الأصل، وأنت يا فلان! استمرارك على القصر على أي أساس؟ وما هو
الأحوط في حق الصلاة: العودة إلى الإتمام، أو البقاء على القصر بدون أصل
يعتمد عليه؟ إذاً: العودة إلى الإتمام والرجوع إلى الأصل على سبيل الاحتياط
يكون أولى، وهذه المسألة كما ذكرت كثر النقاش والكلام فيها قديماً وحديثاً،
في هذا ما أحببنا التنبيه عليه لم هذه الحالة، ونسأل الله لنا ولكم
التوفيق.
الاختلاف في روايات
مدة قصره صلى الله عليه وسلم وجمع الإمام البيهقي بينها
قال المصنف: [وفي رواية لـ أبي داود: سبعة عشر، وفي أخرى خمسة عشر] .
ما صنعه البيهقي رحمه الله هو -كما يقال- منهج علمي لطالب العلم ليخرج من
مأزق اختلاف الروايات بما يمكن من الجمع بينها، فقد ورد: (تسعة عشر، سبعة
عشر، خمسة عشر) فما هي الحقيقة؟ الكل حقيقة، باعتبار احتساب يومي الدخول
والخروج في العدد، أو إسقاطهما، أو إسقاط أحدهما، وبقيت الخمسة عشر على
أصول علم الحديث شاذة؛ لأنها خالفت الثقات.
ونظير هذا أيضاً في الحج: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال:
يا ابن عباس: عجبت من أمر الناس، لم يحج الرسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا مرة واحدة، وأراهم يختلفون من أين أهلَّ، فمن قائل: أهلَّ في مكانه وفي
مصلاه في ذي الحليفة، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحتله، بعد ما صعد
الناقة وقامت ونهضت، ومن قائل يقول: أهل بالبيداء، والبيداء المحل المرتفع
فوق ذي الحليفة بمسافة قريبة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن أخي!
أنا أخبرك، أهل في البيداء، وعلى راحتله، وفي مصلاه، والكل صادق! هذه مواطن
مختلفة، ومن قواعد الخلاف اختلاف الزمان والمكان، فقال ابن عباس رضي الله
عنهما: أنا أخبرك، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح أو الظهر -على خلاف
في الروايات- وأهلَّ من مصلاه، فسمع ذلك قوم وأخبروا بما سمعوا، فلما ركب
راحلته ونهضت به أهل، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا، ولم يكونوا سمعوا
ما قبلها، فلما استوى على البيداء أهلَّ، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا
ولم يكونوا قد سمعوا ما قبلها، والكل صادق.
ولا معارضة في ذلك.
وعلى هذا فالواجب على طالب العلم حينما يمر بحديث ويأتي حديث آخر فيه شبه
التعارض مع الحديث الذي مر عليه، فلا ينبغي أن يستقل بنفسه، ولا أن يقف بين
الحديثين موقف المتردد أمام نصين شبه متعارضين عنده، وواجب عليه شرعاً ألا
يتكلم في شيء من ذلك حتى يرجع إلى ذوي الشأن، وهم العلماء الذين جمعوا
أطراف الأحاديث، ونظروا في الخلاف بينها، ثم جمعوا بين المختلف وبينوا لنا
المنهج والطريقة، وهذا هو الذي يسلم به طالب العلم ويكون على بينة من أمره.
قال المؤلف: [وله عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (ثماني عشرة) وله عن جابر
رضي الله عنه: (أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) ورواته ثقات، إلا أنه
اختلف في وصله.
] الرواية المشهورة في تبوك: أنه مكث عشرين يوماً، سواء اختلف في وصله أو
انقطاعه؛ فإن الروايات الأخرى عن ابن عباس وغيره أنه مكث عشرين يوماً، وإذا
وقع خلاف في العدد فيكون على ما جاء في خبر مكة: تسعة عشر، ثمانية عشر،
سبعة عشر إلى آخره.
إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك كانت للجهاد وكان قد علم الروم
جمعوا وأنذروا وتواعدوا في تبوك، ونعلم أن تبوك هي منطقة الحدود بين الحجاز
وبين الشام -موقع الروم- لأنه ليس بعد تبوك إلا الشام، فخرج صلى الله عليه
وسلم حسب الوعد، في حالة شدة وحرارة، وقد بدأت الثمار بالنضوج وعنايتها
مطلوبة، والناس يعانون من قلة ذات اليد، فندب النبي صلى الله عليه وسلم
الناس إلى تجهيز الجيش، فقام عثمان رضي الله تعالى عنه وقدم المئات والآلاف
من الإبل بأقتابها ولوازمها، وقيل: جهز جيش العسرة، فقال صلى الله عليه
وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل اليوم) .
ويهمنا أنه خرج صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة إلى تبوك، وكان من عادته
صلوات الله وسلامه عليه في الغزوات إذا أراد غزاة أن يوري بغيرها، فإذا
أراد أن يغزو في الشرق يتساءل عن أحوال أهل الغرب، وإذا أراد أن يغزو في
الغرب يتساءل عن أحوال وعن طرق أهل الشرق، حتى يظن الناس أن عنده سفرة إلى
الشرق وهو يريد الغرب، وهذا كما يقال: من السياسة في الحرب، والحرب خدعة،
وكما جاء في فتح مكة: اللهم عم عليهم الأخبار؛ حتى باغتهم في مكة.
هكذا كانت عادته صلى الله عليه وسلم إلا هذه الغزوة؛ لطول المسافة، ولشدة
الجهد وشدة الحر، أعلمهم قبلها بشهر، فقال: الموعد إلى تبوك في الوقت
الفلاني، فأخذ الناس يتجهزون عياناً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك
ومكث فيها عشرين يوماً ينتظر الروم، فلما بلغه أن الروم لن يأتوا قفل
راجعاً إلى المدينة.
هذه الغزوة كانت غزوة مباركة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صالح كل القبائل
التي في طريقه وحولها، فأمن الحدود بالصلح مع تلك القبائل، ورجع بسلامة
الله، والحمد لله.
والدارس لهذه الغزوة يجد أشياء عديدة: منها المبشرات: لما رأى أحداً من
بعيد أسرع وقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه) ، ثم كانت حادثة مسجد الضرار، وأرسل
صلى الله عليه وسلم من سبقه إليه فأحرقه على قضايا كانت قبل الذهاب وقبل
الخروج.
ويهمنا هنا: مكثه صلى الله عليه وسلم في تبوك، فقد كان على غير تحديد
للمدة؛ لأنه كانت ينتظر العدو، ولم يعلم متى يأتي هذا العدو، والله تعالى
أعلم.
مناقشة في مسألة قصر
الصلاة في السفر
أيها الإخوة: قبل أن ندخل في مبحث الجمع لعلنا نناقش بعض الأسئلة في مسألة
القصر من باب الاستذكار: السؤال: ما نوع القصر في السفر: هل هو قصر كيفية
أو قصر كمية بالعدد؟ الجواب: قصر كمية.
السؤال: هل هناك قصر كيفية أم لا؟ الجواب: الموجود ومحل البحث عند الجمهور
قصر الكمية، بحيث تقصر الركعات إلى اثنتين.
السؤال: هل هناك من يقول بقصر الكيفية أم لا؟ الجواب: نعم.
هناك من يقول بقصر الكيفية كما ذكره الفخر الرازي في التفسير والشيخ الأمين
في أضواء البيان.
السؤال: كم طول السفر الذي يكون فيه القصر؟ الجواب: أربعة برد.
السؤال: كم مقدار البريد؟ الجواب: أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال،
والميل كيلو ونصف تقريباً.
إذاً: الأربعة البرد ستة عشر فرسخاً، وستة عشر فرسخاً تساوي ثمانية وأربعين
ميلاً والثمانية والأربعون ميلاً تساوي حوالي اثنين وسبعين كيلو متراً.
إذاً: المسألة تقريبية.
السؤال: متى يشرع المسافر في القصر؟ الجواب: يشرع للمسافر القصر إذا خرج من
البلد التي هو فيها.
السؤال: وكيف يعرف أن قد خرج من بلده؟ الجواب: عند آخر معالمها.
أي: نستطيع أن نقول: عند نهاية الخدمات الاجتماعية، فإذا خرج الإنسان عن
تلك المناطق التي تشملها الخدمات العامة في البلد من كهرباء ومياه وصرف صحي
وغيرها، فقد خرج من البلد.
السؤال: هل مسافة الاثنين والسبعين كيلو تشترط في الذهاب والإياب أم في
الذهاب فقط؟ الجواب: الذهاب فقط، فلو أن السفر ذهاباً وإياباً مجموعه اثنين
وسبعين كيلو فلا يصح فيه القصر.
السؤال: هل يكون القصر لضرورة كما جاء في الآية: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] أم يجوز القصر مع الأمن
والاستقرار والطمأنينة؟ الجواب: يجوز مع الأمن.
السؤال: هل القصر رخصة أم عزيمة؟ الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: إنه عزيمة، وهذا بناء على أن قصر الصلاة في السفر واجب.
والقول الثاني وقال به الجمهور: إنه رخصة، واختلف هؤلاء، فمنهم من قال:
رخصة والإكمال أتم، ومنهم من قالوا: رخصة والأخذ بالرخصة أفضل، وهم الإمام
مالك وأحمد رحمهما الله.
الحمد لله على هذه النعمة، ونسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا، وأن
يذكرنا ما نسينا، ونسأل الله أن يشرح صدورنا، وينير بصائرنا، ويفقهنا في
ديننا، إنه على كل شيء قدير.
الفرق بين تحقيق
المناط وتنقيح المناط
الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط: قلنا: إن الأصوليين يقولون: تحقيق
المناط هو التحقق من تطبيق النص على الجزئيات، ويقولون في قوله سبحانه:
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ}
[المائدة:95] ، فالحكم الأساسي في قتل الصيد أن من اصطاد شيئاً من النعم
وهو محرم في الحرم، أنه يكلف بمثله، هذا الحكم هو حكم شرعي.
إذاً: تحقيق المثلية هو تحقيق المناط، وقلنا: من قتل غزالاً فالمثلية تكون
بشاة، ومن قتل بقر الوحش فتحقيق المثلية في البقرة الأهلية، من قتل نعامة
فتحقيق المناط فيها بدنة.
إذاً: تحقيق المناط، يعني: تطبيق الجزئيات على الحكم العام.
أما التنقيح فهو التصفية، مثلاً: إذا جمعت الحب ولم تنقه وجدت فيه -إن كان
براً مثلاً- التبن والحصى، فيأتي الرجل المتخصص بهذا ويأخذ الغربال وينقح
الحب، بمعنى: أن يطرد الشوائب الغريبة ليبقى الحب صافياً، فكذلك الأحكام
الشرعية فيها تنقيح.
أي: تصفية الأوصاف الطردية التي لا اعتبار لها ولا تأثير في الحكم، وإبقاء
الحكم للوصف المعتبر المراد، الذي هو علة الحكم.
ويمثل الأصوليون بالأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب
صدره، ينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت -كل هذه صفات- فسأله الرسول صلى الله
عليه وسلم: (ما الذي أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان، قال: تعتق رقبة،
قال: ما أملك إلا رقبتي هذه، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أوقعني في
المهلكة إلا الصوم، قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ليس عندي ما أطعم ... )
يهمنا هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رتب عليه الكفارة، عتق صيام
إطعام.
إذاً: هذه الكفارة التي رتبها صلى الله عليه وسلم هل رتبها على كونه
أعربياً يضرب صدره وينتف شعره، أم على كونه واقع أهله؟ فهنا يأتي العلماء
ويقولون: ننقح وننظر: فكونه أعرابياً لا يؤثر في الحكم، فلا فرق بين
الأعرابي والحضري، إذاً تعليق الحكم على وصف الأعرابي بأعرابي يلغى؛ لأننا
وجدنا الشرع لا يعتبر ذلك في الأحكام، فلا فرق بين أعرابي وحضري وتركي
وزنجي.
ووصفه: (يضرب صدره وينتف شعره) هل الكفارة فرضت عليه لكونه كان يضرب صدره
وينتف شعره؟ الجواب: لا.
إذاً: هذه أوصاف لاغية.
وبقي من الأوصاف قوله: (واقعت أهلي) .
فأهله لو كانت جارية مملوكة فماذا يكون الحال؟ قالوا: إذاً: الكفارة أنيطت
بعد التنقيح بالوقاع، فمن واقع في نهار رمضان زوجة أو مملوكة فعليه كفارة.
والإمام مالك رحمه الله أتى بغربال أنعم من هذا وزاد في التنقيح وقال: يلغى
وصف (كونه واقع) ، ويجعل الوصف المؤثر.
هو الفطر عمداً؛ لأنه بوقاعه أفطر عمداً فهو الوصف المناسب للحكم، فقال
رحمه الله: من أفطر في رمضان عمداً فعليه كفارة، سواء كان بالوقاع أو كان
بغيره؛ لأنه ألغى الوقاع في التنقيحة الأخيرة، وإذا ألغي الوقاع في هذه
التنقيحات فلا يبقى إلا انتهاك حرمة رمضان بالفطر، والفطر كما يكون بالوقاع
يكون بالأكل والشرب.
ولهذا تجدون أن من فقه مالك في الموطأ أنه أتى بحديث أبي هريرة: (أن رجلاً
أفطر في رمضان، فأمره بالكفارة، وساق بعده قصة الأعرابي، فكأنه يقول: الأصل
في ذلك الفطر، ثم يأتي بالحديث الآخر الذي عليه الجمهور.
إذاً: هذا يسمى تنقيح المناط.
الجمع في السفر
قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا ارتحل في سفره قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر) .
] .
قال أنس رضي الله تعالى عنه: (كان) وكان هنا تدل على التكرار والاستمرار.
أي: كان من شأنه ومن عادته إذا سافر.
وقوله: (سافر) المقصود بالسفر هنا ما تقدم بحثه في قصر الصلاة، يعني: إذا
سافر سفراً تقصر فيه الصلاة، ويبدأ المسافر الشروع في القصر إذا جاوز ثلاثة
فراسخ أو ثلاثة أميال، ووقع التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع، لما صلى الظهر في هذا المسجد المبارك أربعاً تامة، وخرج من وقته
ووصل إلى ذي الحليفة فصلى العصر هناك ركعتين.
يعني: بدأ في إنشاء القصر بعد أن غادر المدينة، وهذه هي القاعدة في ابتداء
القصر، وكذلك الجمع.
الصلوات التي تجمع
في السفر
قال العلماء: الجمع يكون لكل صلاتين اشتركتا في الوقت، فالظهر والعصر
مشتركتان في الوقت، والمغرب والعشاء مشتركتان في الوقت، فلا يجمع عصر مع
مغرب، ولا عشاء مع صبح، ولا صبح مع ظهر.
وبحث الجمع يدور حول صلاتي النهار: الظهر والعصر، وصلاتي الليل: المغرب
والعشاء، هذا هو محل البحث في الجمع بين الصلاتين، بإجماع الأمة، فيقول أنس
رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم (كان) وهذه حكاية فعل
النبي صلى الله عليه وسلم.
الاقتداء بالفعل
أقوى من الاقتداء بالقول عند ابن عبد البر
يقول ابن عبد البر: إن الاقتداء بالفعل قد يكون أكثر أثراً من الاقتداء
بالقول؛ لأن الفعل ليس فيه احتمال.
ويستشهدون لذلك بقضية الحديبية، فإنه لما تم الصلح بين المسلمين والمشركين
على أن يتحلل المسلمون في مكانهم، ويرجعون ولا يدخلون مكة، وفي العام
القادم يأتون ولهم البقاء في مكة ثلاثة أيام يؤدون عمرتهم، فقال لهم النبي
صلى الله عليه وسلم: لقد اصطلحنا على أن نتحلل فتحللوا، فلم يبادر أحد،
وتأخروا لا بقصد عدم الطاعة ولكن لأنهم كانوا يؤملون أن يتم لهم الوصول إلى
مكة وقد وصلوا إلى مشارف الحرم.
بعض العلماء يقول: كانت خيامهم في الحل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد
الصلاة دخل إلى حدود الحرم وصلى في حدود الحرم؛ لأن الحديبية في حدود الحرم
من جهة المشرق.
إذاً: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبادروا إلى الامتثال، ولما دخل
على أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهو مغضب، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟
قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: قد
انتهينا مع أهل مكة على الصلح على كذا وكذا، وأمرتهم بالتحلل فلم يمتثلوا،
قالت: اعذرهم، أتريد أن يفعلوا ما تحب؟ قال: بلى، قالت: خذ المدية أو
السكين واخرج ولا تكلمن أحداً أبداً، واعمد إلى هديك فانحره، وادع الحلاق
ليحلق لك، ثم الزم خيمتك.
وهذه سياسية لطيفة جداً، سياسة الرفق في الدعوة، بخلاف ما كان من عمر، فهو
يقول: علام نعطي الدنية في ديننا، ألسنا على الحق وهم على الباطل، أليس
قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فكان يريد أن يقاتل، والذي يذهب إلى
الجنة يذهب، والذي يذهب النار يذهب، ولكن أم سلمة رضي الله عنها جاءت بحل
سلمي، وهو صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها: أنت لا تعلمين شيئاً، أو ليس لك
شغل في هذا، بل وجد صلى الله عليه وسلم أن الرأي مقبول، وهذا هو الواجب على
طالب العلم، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الذي يأتيه الوحي من
السماء يقبل بالرأي الصائب فكيف بنا؟ فأخذ السكين وخرج إلى هديه فنحره،
ودعا الحلاق وقال: احلق، فلما رأى الصحابة ذلك لم يبق لهم مطمع في الدخول
إلى مكة، وما كان منهم إلا أن بادروا حتى كادوا يهلكون من تزاحمهم على
النحر والحلق.
إذاً: اتباع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم للفعل أسرع منهم اتباعاً
للقول.
جمع التأخير إذا دخل
الوقت والمسافر مرتحل
هذا أنس رضي الله عنه يقول: (كان) يحكي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا سافر.
قوله: (إذا ارتحل) أي: شد الرحل على الناقة، وهي كناية عن بداية الرحلة.
قوله: (كان وقت ارتحاله في النهار) (قبل أن تزيغ الشمس) : عادة المسافرين
أنهم يصلون الصبح وينطلقون؛ لأن في ذلك الوقت بركة، وتكون الإبل مستريحة
طوال الليل فيمشون إلى وقت الضحى، كما يقولون: (نضحي) أي: ننزل نضحي،
فالضحوة قبل الظهر، (ونعشي) أي: بعد العصر قبل المغرب، فيريحون الإبل إلى
أن يصنعوا عشاءهم ويدخل المغرب فيصلون.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صادف أن ارتحل في النهار إما أن يكون
قبل الزوال وإما أن يكون بعد الزوال.
وقوله في الحديث: (تزيغ الشمس) بمعنى: تزول عن كبد السماء، يقول أنس رضي
الله عنه: إن كان ارتحاله قبل الزوال -يعني: قبل مجيء وقت الظهر- وليس هناك
صلاة لا تقديم ولا تأخير، فإنه يؤخر الظهر إلى التي تليها وهي العصر، ثم
بعد ذلك ينزل، يعني: بعد أن يدخل وقت الظهر وهو في سفره، ثم يدخل وقت العصر
وهو في سفره، فيصليهما جميعاً.
وعلى هذه الصورة يعتبر في هذه الحالة جمع تأخير.
يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (فإن كان ارتحاله بعد أن زاغت الشمس) أي: بعد
دخول وقت الظهر (صلى الظهر ثم ركب) أي: لم يجمع إليها العصر.
إذاً: في حديث أنس: الجمع جمع تأخير، وليس فيه جمع تقديم.
صور الجمع
ومن هنا نشير إلى موقف العلماء من صور الجمع وهي ثلاث صور: جمع تأخير، وجمع
تقديم، وجمع صوري.
ويتفق العلماء أو الباحثون أو شراح الحديث على أن جمع التأخير الذي في حديث
أنس يقول به داود الظاهري وابن حزم، ولا يقولان بغيره.
إذاً: جمع التأخير فقط هو مذهب داود وابن حزم لحديث أنس؛ لأن أنس ذكر لنا
الحالتين، يرتحل بعد أن تزيغ، يرتحل بعد أن تزيغ، وهما حالتان متعادلتان،
وذكر لنا جمع التأخير ولم يذكر لنا جمع التقديم، ورجح ابن حزم ما ذهب إليه
في جمع التأخير، فقال: إن تأخير الظهر عن وقتها قد يكون عادة عند بعض الناس
حيث ينامون عنها أو ينسونها، فإذا نام إنسان عن صلاة حتى خرج وقتها فإنه
يقضيها في وقت الثانية.
قال: إذاً: هذه لها أصل، وكونه يقضيها في وقت الثانية يؤيد جمع التأخير،
لكن لا يجوز أن نقدم صلاة عن وقتها.
فهذا الحديث أخذ به داود وابن حزم، ولم يقولا بغيره من صور الجمع.
دليل جواز جمع
التقديم
ولكن المؤلف رحمه الله لما أتى بحديث أنس وهو متفق عليه أتبعه بما يوجد من
النصوص لما ينبغي النظر فيه من حيث صناعة علوم الحديث؛ ليبين مواقف الأئمة
أو العلماء الآخرين من حديث أنس هذا، وهل حديث أنس مقتصر على ذلك أم له طرق
أخرى وزيادات؟ فجاء المؤلف بما يزيد على قول أنس رضي الله عنه.
فقال: [وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر والعصر ثم
ركب) .
وفي رواية لحديث أنس عند غير البخاري ومسلم، أتى بها الحاكم في مصطلح
الحديث شأنه عجيب، يقولون: الحافظ من حفظ مائة ألف حديث، والحجة من حفظ ألف
ألف حديث، والحاكم من حفظ كل ما يؤثر عن رسول الله، ونحن كم حفظنا؟ والله
نحن صفر في الخانة الرابعة على الشمال، لأنا ما حفظنا شيئاً، وأعتقد أن
الذي يدعي في الوقت الحاضر أنه من أهل الحديث قد ظلم نفسه، ولا أقول: ظلم
الحديث بل ظلم نفسه.
فـ الحاكم روى حديث أنس، والحاكم حافظ استوعب كل شيء، فهو يروي حديث أنس
الذي رواه الشيخان، وهل رواية الشيخان للحديث تمنع أن يرويه غيرهما؟ لا،
لأنهما ما قالا: قد استوعبنا كل ما يمكن أن يكون على شرطنا، فقد يتركون من
الأحاديث ما استوفى شرطهما من اللقاء أو احتمال اللقاء، مع الثقة والعدالة
والحفظ في كل راوٍ، لكن ما استوعبا كل هذه الأوصاف، بل اختاروا وانتفيا.
إذاً: البخاري ومسلم ساقا لنا حديث أنس على هذا الوضع، وغيرهم ساق لنا
الحديث برواية أخرى.
قوله: [وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر) ] وورودها
بإسناد صحيح، معناه أنه ليس لأحد أن يناقش فيها بعد ذلك.
إذاً: الحاكم حكم بأن إسناده صحيح فمن يقدر أن يعارض، فحكم الحاكم يرفع
الخلاف.
إذاً: وفي رواية للحاكم في الأربعين التي اختارها بإسناد صحيح.
(صلى الظهر والعصر ثم ركب) .
كأن أنساً رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر
فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر وصلاها مع العصر، وإذا ارتحل بعد أن
تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب.
إذاً: الفرق بين رواية الحاكم ورواية الشيخين في حديث أنس هي: ذكر العصر مع
الظهر في وقت الظهر.
إذاً: سكوت الشيخين في رواية أنس عن تقديم العصر يأتي في رواية الحاكم
وتثبت ما أسقطه الشيخان، فهذه زيادة عما في الصحيحين، والزيادة من ثقة،
وزيادة الثقة عن المحدثين مقبولة.
إذاً: المؤلف رحمه الله بفعله هذا بين لنا صناعة الحديث، أن حديث أنس في
رواية الشيخين اقتصر على الظهر فقط في وقت الظهر، وجاءنا غيره برواية ثقات
بزيادة العصر معها.
إذاً: عند الحاكم جمع تقديم وتأخير، وليس جمع تقديم فقط.
وهنا وقفة أيضاً: أخذ الشافعي وأحمد أن الجمع بين الصلاتين المشتركتين في
الوقت سنة عنه صلى الله عليه وسلم، إن شئت في التقديم وإن شئت في التأخير،
ولكن على هذا الترتيب: إن كان الرحيل بعد دخول وقت الأولى صلاها وقدم
الثانية معها، وإن كان الرحيل قبل دخول الأولى أخر الأولى إلى وقت الثانية
وصلاهما معاً، فهذا قال أحمد الشافعي، وقد انتهينا من ابن حزم في قوله بجمع
التأخير فقط، وجاءنا هنا أحمد والشافعي رحمهما الله بقول في رواية الحاكم
بأنه كان يجمع الظهر والعصر إذا دخل وقت الظهر قبل أن يرحل، وأخر الظهر مع
العصر إذا ارتحل قبل دخول الظهر، وقالوا: لك أن تجمع على أي صورة شئت
تقديماً أو تأخيراً.
كتاب الصلاة - باب
صلاة المسافر والمريض [3]
لقد رخص لنا الشارع الحكيم بجمع الصلوات إلى بعضها في السفر وجاء هدي النبي
صلى الله عليه وسلم يبين لنا كيفية هذا الجمع ومدته وأسبابه، وكذلك رخص
الشارع للمريض في الصلاة أن يصليها على الهيئة التي يستطيعها إما قائماً أو
قاعداً أوعلى جنب.
الترجيح بين الأقوال
المختلفة في جمع الصلاة في السفر
قال المصنف: [ولـ أبي نعيم في مستخرج مسلم: (كان إذا كان في سفر فزالت
الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل) ] .
زادنا المصنف رحمه الله أيضاً رواية أخرى في المستخرج على مسلم مثل ما
جاءنا به عن الحاكم، والحمد لله.
قال المصنف: [وعن معاذ رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه
وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء
جميعاً) رواه مسلم] .
هذه عجيبة! فبعدما أتى بحديث أنس في الصحيحين ورواية الحاكم والمستخرج على
مسلم، جاءنا بحديث معاذ يروي: (أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان
يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) فقوله: (جميعاً) هل هي
جمع تقديم أم جمع تأخير؟! الجواب: يحتمل الاثنين! إذاً: إذا وجد احتمال بطل
الاستدلال.
ولكنهم يقولون: ومع الاحتمال فإن قوله: (صلى الظهر والعصر جميعاً) يشعر
بالتأخير، (وصلى المغرب والعشاء جميعاً) يشعر بالتأخير، وبعضهم يقول: بل
يُشعر بالتقديم.
إذاً: حديث معاذ لم يعين حقيقة الجمع ما بين تقديم أو تأخير، لكنه يثبت
عموم الجمع (جمع الظهر والعصر جميعاً) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير،
(والمغرب والعشاء جميعاً) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير.
إذا: حديث معاذ يثبت وجود الجمع بين الصلاتين.
أدلة القائلين بمنع
الجمع مطلقاً
وهنا يسوق المؤلف حديث معاذ رضي الله عنه رداً على الإمام أبي حنيفة رحمه
الله؛ لأنه يقول بمنع الجمع مطلقاً لا تقديم ولا تأخير، فإن قيل له: وهذه
النصوص ما تعمل بها؟ قال: إنما كان جمعاً صورياً.
معاذ رضي الله عنه لم يقل: أخر وقدم، أو: صلى في آخر هذه وأول هذه بل قال:
(صلى الظهر والعصر جميعاً) وجميعاً تدل على أنهما مجموعتين في وقت إحداهما،
وهذا هو الظاهر.
وهنا يقال: بم استدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله على منع الجمع مطلقاً وحمل
الحديث على الجمع الصوري؟ يقول الأحناف: الأصل في الصلوات الخمس أن تصلى في
أوقاتها: (أفضل الأعمال إلى الله: إيمان بالله، والصلاة على وقتها) ، وقال
تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً
مَوْقُوتاً} [النساء:103] .
وجبريل عليه السلام نزل وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات في أوقاتها،
والأعرابي الذي جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أوقات الصلاة فقال
له: (صل معنا اليوم وغداً) ، وصلى، فأوقع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات
الخمس في اليوم الأول على أول وقتها، وأوقع الصلوات الخمس في اليوم الثاني
على آخر وقتها، إلا المغرب صلاه في اليوم الثاني في الوقت الذي صلاه في
اليوم الأول، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول
الله، قال: (ما بين هذين وقت) يعني: جعل كل صلاة في وقتها، وبيَّن المسافة
بين أول الوقت وآخره.
فقالوا: هذه أمور قطعية بإجماع الأمة، فالخروج عنها يحتاج إلى قطعي مثله،
وهذه الأحاديث كحديث معاذ وغيره أحاديث آحاد، ولا يمكن ترك القطعي إلى
الآحاد.
واستدلوا بقول عبد الله بن مسعود وهو أكثر الناس تمسكاً بما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً؛ فقد جاء عنه عند بعض أصحاب الحديث:
(والذي يحلف به ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة لغير وقتها إلا الظهر
والعصر في عرفات، والمغرب والعشاء في جمع، والصبح صلاّه في أول وقته)
فأخذوا بهذا الحديث، وقالوا: هذا يحلف أنه صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة
في غير وقتها، وأنتم تقولون: قدموا وأخروا.
الرد على أدلة
المانعين من الجمع
والجمهور يقولون: صح من فعله صلى الله عليه وسلم بهذه النصوص الصحيحة، أنه
كان يجمع بين الصلاتين.
وقالوا: إن أحاديث الجمع بين الصلاتين تقيد المطلق من تلك النصوص القطعية
التي جاءت في بيان أوقات الصلوات الخمس، فهذه خصصتها.
أي: أن تلك الأوقات في الصلوات الخمس في الحالات العادية، وأن الجمع في
خصوص السفر، وحالة السفر خاصة من عموم حالات الصلاة العادية، وبهذا أخذ
الجمهور بجواز الجمع بين الصلاتين، ولكنهم يختلفون بين أن يكون جمع تقديم
أو جمع تأخير.
فـ ابن حزم قال بجمع التأخير فقط، وأحمد والشافعي قالا بالجمع في الحالتين
تقديماً وتأخيراً.
وأبو حنيفة رحمه الله ليس عنده جمع إلا في الحج، فقال: الجمع بعرفات
والمزدلفة ثابت وصحيح، وقال: إن الجمع في عرفات وفي مزدلفة من مناسك الحج
وليس من أجل السفر، واستدل بفعل أهل مكة معهم، فقال: أهل مكة ليسوا
بمسافرين، وقال: حتى من كان يسكن في أرض عرفات فله أن يجمع مع المسلمين إن
كان حاجّاً، فمن حج من أهل منى، ومن حج من أهل المزدلفة، ومن حج من أهل
عرفات فله أن يجمع مع الحجاج؛ لأن الجمع نسك عند الأحناف.
والجمهور يقولون: الجمع من أجل السفر وليس من أجل الحج.
مذهب الإمام مالك في
الجمع
وهناك بقي علينا مذهب مالك، فـ مالك رحمه الله جاءت عنه روايات: أولاً:
رواية كراهية الجمع، فقال: أن يصلي كل فرض في وقته في سفره أولى.
والرواية الثانية: الجمع بدون كراهية، ولكن قال: لا يجمع إلا لحاجة، كخوف
أن تفوته مصلحة.
ورواية ثالثة: يجمع جمع تأخير فقط، كما قال ابن حزم ورواية رابعة يجمع جمع
تقديم وتأخير بلا كراهية ولا حاجة.
إذاً: مالك له روايتان في الجمع: رواية المنع ورواية الجواز، ومع هذا
تفصيل، وهذا التفصيل ذكره عنه ابن عبد البر في التمهيد، فمن أراد أن يرجع
إليه فهو في الجزء الثاني عشر، وذكره أيضاً الخرشي على خليل في تفصيل مذهب
المالكية.
إذاً: هناك من قال: هو جمع صوري ولا يوجد جمع تقديم ولا تأخير.
وهناك من قال بجمع التأخير فقط ولا يوجد جمع تقديم عنده.
وهناك من قال بالجمع مطلقاً تقديماً وتأخيراً.
وهناك من جاء عنه التفصيل فيما يتعلق بالكراهية وعدم الكراهية، كما هو عند
مالك.
نقض ابن عبد البر
على من قال بالجمع الصوري
نرجع إلى من يقول: إنه جمع صوري، يقول بعض العلماء رداً على ذلك، وخاصة ابن
عبد البر فقد ناقش المسألة نقاشاً دقيقاً وطويلاً، قال: إن القول بجمع
الصلاتين تخفيف، وإن تحري آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية فيه مشقة كبيرة.
والآخرون يقولون: المسألة ليست مسألة هندسية على الصفر والزاوية، بل
المسألة تقريبية في الأوقات، فإذا نزل في آخر وقت الأولى وصلاها وتحرى دخول
الثانية وهو في مجلسه ففيه تخفيف من كونه يتهيأ للصلاة مرة واحدة بوضوء
واحد، ويأتي إلى محل الصلاة، فإذا كانوا جماعة فإنهم يجتمعون للصلاة جماعة،
ويكون اجتماعهم واحداً، ففيه أيضاً إرفاق، كما جاء في المستحاضة حيث، أمرها
النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع الصوري.
وهنا يقول ابن عبد البر -ولم أره لغيره أبداً- إن القول بالجمع الصوري
يتبعه منع الجمع الصوري في غير هذه الصور.
فمثلاً: إذا قلتم: إن الجمع الصوري للتخفيف، وحقيقة الحال أن كل صلاة وقعت
في وقتها، فيجوز أن يؤخر العصر لآخر وقتها، ويقدم المغرب لأول وقتها، ويجمع
بينهما جمعاً صورياً، وسيوقع كل صلاة في وقتها، وأنتم تمنعون ذلك، فلم
المنع؟ فإن قلتم: لأنها لا تشترك معها في الوقت؟ قلنا: نحن لم نجمع حتى
تقولوا ذلك، وطالما أنكم قلتم إن الجمع صوري فندعها على الصورية هذه، وما
دام أن كل صلاة وقعت في وقتها فلا جمع، والإنسان لو أخر صلاة العصر إلى آخر
وقتها، ولم يبق عن غروب الشمس إلا مقدار ركعتين، فصلاته أداء، فإذا دخل وقت
المغرب صلاه في أول وقته وأنتم تقولون: إذا أخر صلاة العصر لشغل أو نسيان
كما لو نام وقام قبل الغروب بما يسع ركعة فإنها تعتبر أداء وليست قضاءً،
فلماذا هنا لا تتركونه يأتي بالمغرب في أول وقتها والعصر في آخر وقتها؟
قالوا: هذه بعذر، ولماذا يأتي بها في أول الوقت بدون عذر؟ ونحن هنا لا
نناقش المسألة، لكن نورد كلام ابن عبد البر، وهو كلام دقيق جداً، فإذا كانت
القضية ستدور على الجمع الصوري وكل صلاة ستقع في وقتها، فما الذي يمنع أن
يجمع جمعاً صورياً بين العصر والمغرب، وأنتم تمنعون ذلك بالإجماع؟! إذاً:
الجمع الصوري لا قيمة له، ولا يتمشى مع هذه النصوص الموجودة، لأنه لو كان
على الصورة فالصورة تقع في غيرها، وأنتم لا تقولون بذلك.
إذاً: الجمع الصوري لا وجود له في الحالات العادية، أما المستحاضة فلمرضها،
وسيأتي التنبيه على هذه القضية؛ فالمرض أو الحاجة في حديث ابن عباس يأتي
فيما بعد إن شاء الله.
إذاً: الجمع بين الصلاتين في السفر جائز أم ممنوع؟ جائز جاءت به السنة، وله
صور ثلاث: الأولى تقديم، والثانية تأخير، والثالثة صوري، والذي قال بجمع
التأخير فقط ابن حزم وشيخه داود، وقال بجمع التقديم والتأخير معاً أحمد
والشافعي، والذي منع من الجمع وقال بالجمع الصوري أبو حنيفة، ومالك رحمه
الله جاءت الرواية عنه مختلفة.
حكم الجمع للمسافر
إذا أقام مدة معلومة أو مجهولة
قبل أن ننتقل من مسألة الجمع نقول: إلى متى يجمع، ومتى يُكف عن الجمع؟ هناك
من يقول: الجمع لا يكون إلا عند جد السير، أما إذا نزل في طريقه يوماً أو
يومين أو ثلاثة أو أربعة على ما قلنا في قصر الصلاة بنية إقامة محددة أربعة
أيام، أو بإقامة غير معلومة إلى عشرين يوماً، فهل يجمع في إقامته تلك مع
قصر الصلاة أم يقصر فقط؟ هناك من يقول: لا يجمع إلا إذا جد به السير، وهذا
القو لـ مالك ومن وافقه كـ الشافعي وغيره.
وهناك من يقول: يجمع سواءً جد به السير أو نزل نزولاً مؤقتاً.
ومن رجع إلى موطأ مالك وجد حديث معاذ بن جبل، وفيه بعض الروايات في غزوة
تبوك تدل على ما يستدل به من يقول: يجمع ويقصر سواء جد به السير أو نزل
نزولاً مؤقتاً على ما تقدم في التوقيت بنية الإقامة، أو لانتظار قضاء
حاجته، فمدة وجود رخصة القصر تكون رخصة الجمع.
والله تعالى أعلم.
والشافعية أيضاً يقولون: لا يحق لإنسان أن يجمع جمع تقديم إلا إذا كان ذلك
عند صلاة الأولى، ولا جمع تأخير إلا في وقت الثانية، وأن ينوى تأخيرها إلى
التي بعدها قبل أن يحل وقتها، فإذا أخرها وصلاها كانت أداء ولا إثم عليه
بالتأخير، وإذا لم ينو حتى خرج وقتها كان آثماً بتأخيرها، ولكن صلاته
صحيحة.
حديث: (لا تقصروا
الصلاة في أقل من أربعة برد)
قال المصنف: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان) رواه
الدارقطني بإسناد ضعيف، والصحيح أنه موقوف، كذا أخرجه ابن خزيمة.
] .
عوداً على ما تقدم من المسافة التي تقصر فيها الصلاة، ولعل المؤلف رحمه
الله أتى بهذا النص هنا عقب الجمع ليبين لنا أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة
هو السفر الذي تجمع فيه الصلاة.
وحديث: (لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد) يروى مرفوعاً إلى النبي صلى
الله عليه وسلم لكن بسند ضعيف، والتحقيق عند علماء الحديث وفي موطأ مالك
رحمه الله أن هذا من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وهل ابن عباس يشرع للناس ويؤقت؟ يقول العلماء في مثل هذا -أي: ما يتعلق
بالتشريع والعبادات وبالصلاة أهم أمر الإسلام-: إنه لا يقال فيه بالرأي،
ولا يكون ابن عباس قال ذلك إلا عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن
ابن عباس لما قال ذلك لم يقل: سمعت رسول الله، ولم يقل: قال رسول الله كما
في الخبر الذي تكلم فيه ابن عباس، ولم يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم باللفظ، فنأخذه عن ابن عباس موقوفاً عليه، ويحكم له بالرفع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم الكلام في الأربعة البرد.
حديث: (خير أمتي
الذين إذا أساءوا استغفروا)
[عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله لعيه وسلم: (خير
أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا فأفطروا) أخرجه
الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، وهو في مسند سعيد بن المسيب عند البيهقي
مختصراً.
] .
هذا الحديث لا أدري كيف ساقه المؤلف على الضعف الذي فيه، ولكن بعضهم يقول
يشهد لهذا المعنى العام، فقوله: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا) يشهد
له قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، فهذا
يتذكر إذا أصابه لمم من الشيطان، وقوله: (مبصرون) بمعنى: استغفر وتاب.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا أساء العبد أو أخطأ فاستغفر غفر
الله له) ، أو الحديث القدسي: (غفرت له على ما كان منه ولا أبالي) كمافي
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
أما قوله: (إذا سافروا قصروا وأفطروا) فهذا موضع النزاع، وضعف الحديث يوجب
ألا يعول عليه في الاستدلال على قضية كهذه.
صلاة المريض
جواز القعود للمريض
في الصلاة إن عجز عن القيام
قال المصنف: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (كانت بي بواسير، فسألت
النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع
فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري] .
بدأ المؤلف بالشطر الثاني من العنوان: (صلاة المسافر والمريض) ونبهنا في
الأول على أنه جمعهما لجامع رفع المشقة، لأن قصر الصلاة وجمعها تخفيفاً على
المسافر ورفعاً لمشقة السفر، وكذلك التخفيف على المريض في أداء الصلاة.
وفي الحديث أن الرجل اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن عنده بواسير
-عافانا الله وإياكم- وهي قد تحول دون القيام أو الركوع، وهذا كمثال فقط،
وإلا فمراحل هذا المرض عياذاً بالله متفاوتة، فقد يكون في بدايته لا يعيق
الإنسان عن أي شيء، وقد يكون مشتداً، وقد يؤدي إلى نزيف.
وهنا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل قائماً) لاحظوا في
الجواب هو شكا إليه يطلب التخفيف أو الرخصة، فيأتيه صلى الله عليه وسلم
بالمبدأ ويبني عليه، فيقول: (صل قائماً) أي: هذا هو الأصل، فإن لم تستطع
القيام فصل قاعداً، فإن لم تستطع قائماً ولا قاعداً فعلى جنبك.
يقولون باتفاق: يصلي على جنبه الأيمن مستقبلاً القبلة، فإن لم يستطع على
جنبه فمستلقياً على ظهره، وإذا كان مستلقياً على ظهره فقدماه إلى القبلة
ورأسه إلى عكسها؛ لأنه إذا كان القدمان إلى القبلة فاستطاع أن يجلس أثناء
الصلاة سيستقبل القبلة، والله تعالى أعلم.
زيارة النبي صلى
الله عليه وسلم للمرضى
قال المصنف: [وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (عاد النبي صلى الله عليه
وسلم مريضاً فرآه يصلي على وسادة، فرمى بها وقال: صل على الأرض إن استطعت،
وإلا فأومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك) رواه البيهقي وصحح أبو حاتم
وقفه] .
وهذا الحديث أيضاً في صلاة المريض، فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم
مريضاً لم يسمه الراوي لنا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى،
ولم يقتصر ذلك على أصحابه رضوان الله عليهم، بل عاد خادماً له كان يهودياً
كما جاء في الخبر: أنه تأخر عنه غلامه اليهودي فسأل عنه، فقالوا: إنه مريض،
فقال: قوموا بنا نعوده، وذهب صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى هذا الغلام
الخادم، فوجده في ساعته الأخيرة، فجلس إلى جنبه وقال: (يا غلام! قل لا إله
إلا الله محمد رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه اليهودي عند رأسه، فقال
اليهودي لولده، يا بني! أطع أبا القاسم، فنطق بالشهادتين ومات في الحال،
فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تولوا أنتم أمر صاحبكم) .
انظر إلى عظمة الإسلام! في آخر لحظة من حياته، وفي آخر نفس من أنفاسه، ينطق
بالشهادتين، فتثبت له الصحبة لرسول الله صلى الله، والأخوة للمسلمين،
وانقطع ما بينه وبين أبيه.
المانع عظيم جداً: (تولوا أنتم أمر أخيكم) متى كان أخي وهو يهودي! ولكن: بـ
(لا إله إلا الله محمد رسول الله) صار أخاً لنا، وانظروا كم في هذه الزيارة
من البركة، حيث أنقذ الله بها إنساناً من النار ونقله إلى الجنة، ولم يركع
ركعة ولم يسجد سجدة لله.
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يعود المرضى، وهذا منه صلى الله عليه وسلم
فيه تألف لغير المسلمين، وبيان مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
يذكر ابن شبة في تاريخ المدينة: أنهم أول مجيء المهاجرين في الهجرة كانوا
إذا مرض الواحد من المسلمين واشتد به المرض واحتضر، آذنوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأتاه إلى بيته، وحضر تغسيله وصلى عليه، ثم يذهب معهم
لدفنه، فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله وشققنا عليه، لو أننا تركنا
إخباره وقمنا على ميتنا فجهزناه ونقلناه إلى رسول الله يصلي عليه في بيته،
فتركوا الإخبار، وكانوا يجهزون الموتى ويأتون بهم، ويضعون الجنازة في الجهة
الشرقية من المسجد -وتسمى إلى الآن: مصلى الجنائز، ودرب الجنائز أي: الطريق
الذي يأتي من قبلي المسجد- وتوضع في فرش الحجر، وهو السور الموجود الآن
حالياً ما بين باب جبريل وباب البقيع الجديد، فكانوا يأتون ويضعون الجنازة
ويخبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرج ويصلي على ميتهم.
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يذهب إليهم في بيوتهم، وهذا فيه من جبر
الخاطر وتطييب النفس الشيء الكثير.
صفة جلوس المريض إذا
صلى قاعداً
[وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي
متربعاً) .
رواه النسائي وصححه الحاكم] أتى المؤلف رحمه الله بحديث عمران بن حصين في
صلاة المريض، وعرفنا كيف يصلي قاعداً، وعلى جنبه، أو مستلقياً على ظهره.
وقوله: (صل قاعداً) : القعود له عدة صور وحالات: قعود في الصلاة للتشهد،
وبين السجدتين، وقعود في غير الصلاة متربعاً متوركاً، فعلى أي الحالات يصلي
العاجز عن القيام قاعداً؟! يأتي المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله
عنها: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً متربعاً) .
متى صلى قاعداً؟ في النافلة خاصة، وفي مرضه، وتقول: كان يقوم ويقرأ ما
تيسير من القرآن، فإذا تعب جلس أو ركع ثم جلس، وسجد من جلوس، المهم عندنا:
أنه في حالة صلاته جالساً يكون متربعاً.
والتربع: وضع كل من الساقين تحت الأخرى.
وهل يضم في الصلاة كما لو كان قائماً أم يضع يديه على فخذيه؟ هناك من يقول:
يضع يديه على صدره، قالوا: هذه صورة القيام، وهناك من يقول: يضع يديه على
فخذيه، وقالوا: هذه صورة التشهد، قالوا: لكن هي الأقرب.
وبعضهم يقول: إن المالكية أخذوا السدل في الصلاة من صلاة الجالس وأنه لا
يقبض ويضع يديه على فخذيه، لكن الشأن في القياس أن يستوي الأصل والفرع في
الحكم، وهذان لا يستويان، فهذه نافلة وهو قاعد، وتلك فريضة وهو قائم.
إذاً: القياس هنا ليس له محل، لكن هذه الصورة اختارها كثير من العلماء.
والبعض قال: يجلس جلسة التشهد؛ لأنها جلسة من ضمن الصلاة، فإذا عجز عن
القيام فإنه يصلي قاعداً على حالته التي يقعدها في الصلاة لجزء من الصلاة
وهو التشهد.
وبعضهم قال: يجلس متوركاً كما في التشهد الأخير، وباتفاق: أنه كيفما جلس
وصلى قاعداً على الحالة التي يستريح إليها فصلاته صحيحة؛ لأنه ما رخص له في
الصلاة قاعداً إلا لرفع المشقة عنه، وهي رخصة له، فإذا كان تربع وهو بدين
ومتين وساقاه ثقيلان، فذلك سيؤلم أعصابه، وإذا لم يستطع التربع ولا جلسة
الصلاة فليمد رجليه وهو جالس، ولا مانع من ذلك.
إذاً: يأخذ بما هو الأيسر له، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك
على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
حكم الجمع للمريض
وهناك حديث تركه المؤلف هنا أو لم يأت به بالكلية، وهو حديث ابن عباس: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر) ويقول ابن عبد
البر: جاءت الرواية: (من خوف ولا سفر) .
وتتمة لهذه الفائدة أو لهذا الموضوع يذكر العلماء الشيء الكثير في هذا.
فبعضهم يقول: قد نسخ، ولا ينبغي الجمع في الحضر أبداً، وبعضهم يقول: للمطر
والبرد الشديد والطين والوحل.
وبعضهم يقول: هذا في المغرب والعشاء فقط كما قال مالك؛ لأن فيها المشقة.
وبعضهم يقول: هذا خاص بالمسجد النبوي فقط؛ لأن الناس تحرص على الصلاة فيه
لفضله، ويأتون إليه من بعيد، وتلحقهم المشقة إذا جاءوا لجميع الصلوات.
وأحب أن أقول: إن هذا الجمع في الحضر يكون للمريض الذي لا يجد من يوضئه في
الأوقات كلها، وكذلك الآن من كان مقدماً على إجراء عملية في وقت الأولى،
وسيظل في البنج إلى الثانية فله أن يقدم الصلاة الثانية حتى لا تضيع عليه.
والحمد لله رب العالمين.
|