شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الجنائز
[1]
خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وجعلها دار ابتلاء واختبار، بعدها ينتقل
المرء إلى ربه، فعلى المسلم ألا يغتر بالدنيا، وأن يزهد فيها دون رهبانية
ولا تواكل.
وعلى المرء أن يستعد للموت بتذكره، وبزيارة المرضى، وزيارة القبور، وذلك
يتطلب أن يتعرف الإنسان على آداب زيارة المريض، وزيارة المقابر، وغير ذلك
مما لا ينبغي أن يجهله المسلم.
كفى بالموت واعظاً
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكثروا
ذكر هاذم اللذات الموت) رواه الترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان.
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث تنبيهاً للحي، كي يتعظ بالموت
(أكثروا ذكر هاذم اللذات) وهاذم اللذات كما تبين هو الموت؛ لأن كل إنسان
مهما كانت حياته منعمة إذا كان في القمة في العالم كله أغنى أغنياء العالم
أقوى أقوياء العالم أسعد سعداء العالم، حينما يتذكر الموت فإنه تنهزم أمامه
كل لذة، ولو ذكر العريس ليلة عرسه الموت لما دخل على عروسه.
فذكر هاذم اللذات الذي هو الموت هو أكبر واعظ، وأكبر زاجر، وأكبر دافع لفعل
الخير.
وبعض العلماء يفتتح هذا الباب بغير هذا الحديث، ولكن المؤلف من فقهه افتتح
كتاب الجنائز بهذا الباب.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بزيارة القبور أنه قال: (كنت
نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة)
وجاء في بعض الروايات: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات؛ فإنه ما ذُكر في قليل
إلا كثره، ولا ذُكر في كثير إلا قلله) بمعنى: إنسان يعيش عيشة كفاف، ولديه
القليل القليل من متاع الدنيا، فإذا ما تذكر الموت رأى أن الذي عنده كثير؛
لأنه لا يدري متى يأتيه الموت، وإذا كانت عنده كنوز قارون، وتذكر الموت؛
صارت قليلة في نظره، ماذا يفعل بها؟! لا تنفعه في شيء، وليس هناك أنفع
للإنسان من دوام ذكر الموت، يهوّن عليه مصائب الدنيا وشدائدها.
وكنت دائماً أسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يزهد
في الدنيا، ويبسط أمرها في قوله: الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر
حسرتي ووساوسي كأن الدنيا ما لها قيمة.
وكذلك الإنسان فيما أعطاه الله، إن كان مريضاً مبتلىً متألماً وذكر الموت
هان عليه المرض والألم، وإن كان متعافياً وينظر إلى نفسه في حالته، فذكر
الموت قامن من رأسه وقامن من تطاوله.
وهكذا أيها الإخوة: المؤمن لابد أن يؤمن بما وراء الموت، فإن الدنيا مزرعة
حصادها في الآخرة، والإنسان ما بين أمرين: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بشر خاب مسكنه وإن بناها بخير طاب
بانيها وكما قال بعض الناس في الزهد وفي الترهيب: إن لله عباداً فطنا طلقوا
الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة
واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
الأمة أمة وسط بين
الأمم
الدنيا دار ممر، ولكن ليست رهبانية كما عند النصارى، فنترك الدنيا دون أن
نعمرها، وأن نسخرها، وأن نستسخر ما فيها، وليست مادية وانهماكاً في موادها
أو في مادياتها، بل هو الوسط والاعتدال، والله سبحانه وتعالى قد جعل هذه
الأمة أمة وسطاً، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً} [البقرة:143] ، وسطاً بين أمتين: أمة غلبت عليها المادية، وأفلست
في المعنوية، وأمة غلبت عليها المعنوية، وأفلست في المادية، وفي سورة
الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
[الفاتحة:6-7] ، والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى اليهود
مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا ولم يعملوا، والنصارى عملوا بغير علم، فأولئك
استحقوا الغضب، وأولئك وصفوا بالضلال، وجاءت هذه الأمة فعلمت وعملت.
فالإنسان مكون من عنصرين اثنين: جسم وروح، والجسم مادي منشؤه التراب
{إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص:71] ، والعنصر الثاني الروح
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ، فبمجموع
الأمرين كان هذا الإنسان، وكل عنصر فيه له مقوماته ومتطلباته، فالعنصر
المادي يرجع إلى المادة، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً}
[نوح:17] ، ليست له حياة إلا من الأرض، وهو يخلد إليها، والعنصر الروحي
عالم ملكوت الملأ الأعلى، بالعبادات وبمعرفة الله يسمو إلى أعلى.
فاليهود أمعنوا في خدمة البدن بالماديات، وأهملوا جانب الروح في العبادات،
والنصارى عنوا بجانب الروح والعبادات والرهبانية، وفرطوا في جانب المادة،
وتركوا الدنيا، وكانت هذه الأمة الوسط بين الطرفين لا مادية لاهية، ولا
رهبانية طاغية.
فمثلاً: ونجد قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة:9] هذه روحانية
{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة:10] ، فالاستجابة
إلى النداء لذكر الله غذاء للروح، والانتشار في الأرض بعد الصلاة لمتطلبات
البدن، وخدمة الحياة، ومع ذلك تطلب الرزق من فضل الله وتذكر الله وأنت في
عملك، تجمع ديناً ودنيا، ومن هنا كانت هذه الأمة هي الوسط بين الأمتين،
وكانوا شهداء على الناس، كل المفسرين يقولون: شهداء يوم القيامة على إبلاغ
رسلهم رسالة ربهم، ويقولون أيضاً: لا مانع أن يكونوا شهداء على الأمم بأنهم
استطاعوا أن يطبقوا عملياً وفاء الإنسان والنفس في جانبي المادة والروح،
فاليهود عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، والنصارى عجزوا عن أن
يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، كالطائر يتعطل أحد جناحيه فيجنح ويميل.
أما هذه الأمة فلم يتعطل جناحاها، كلاهما معتدل، فسارت سيراً متوازياً منذ
أن جاءها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
وهي مستقيمة مستقرة في مسيرتها، فهم شهداء على الناس في تطبيق المنهج
الإلهي الحق الذي يوفي الإنسان حقه من الجانبين، ولا يطغى جانب على جانب،
في الوقت الذي أفلست فيه الأمم التي من قبلنا لتكونوا شهداء على الناس في
الدنيا، كما تكونون شهداء على الناس في الآخرة.
وعلى هذا لا يكون الإنسان المسلم مستقيماً في حياته إلا إذا أيقن بأن
الدنيا وراءها آخرة، وأن ما يتصرف به في دنياه سيلقاه في آخرته، أما الذي
لا يؤمن ببعث، ولا يؤمن بجزاء، غاية ما عنده دنياه، فهو يريد أن يحصل فيها
على كل ما يريد ولو على حساب الآخرين؛ لأنه ليس عنده رقيب ولا حسيب، ولا
ينتظر يوم الدين الذي فيه الجزاء وفيه الحساب.
ولهذا نجد بعد قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الرد إلى الإيمان بالغيب والبعث: {الم * ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] من هم؟
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] وهو كل ما غاب عنك، وما
جاءت أخباره عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة}
[البقرة:3] ، إيمان بالغيب وعمل في الحاضر {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى
هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:3-5] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
[الفاتحة:6] {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] وهكذا
القرآن يفسر بعضه بعضاً.
زيارة المريض حكمها
وآدابها
المؤلف هنا بدأ الباب بهذا الحديث: (أكثروا) ، وهناك من العلماء من يبدأ
هذا الباب بالحث على عيادة المريض، وعيادة المريض حق للمريض، ولكن هنا حق
للإنسان في نفسه، ثم بعد ذلك لما يأتي المرض نقول له: اذهب فعده، ولذا
المؤلف كان دقيقاً جداً في ترتيبه وإيراده هذا الباب، وجمعاً بين المنهجين
إذا مرض الإنسان كان حقاً على أخيه المسلم أن يعوده، وقد جاء عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قاله: (حق المسلم على المسلم ست -وذكر منها-: وإذا مرض فعده،
وإذا مات فاتبعه) بدأ بالسلام، ثم بالإجابة إلى الوليمة، ثم بالنصح إلى
آخره.
وجاء في عيادة المريض عدة أحاديث، كما يذكر البخاري في الأدب المفرد (من
زار مريضاً في المساء خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى الصباح، ومن عاد مريضاً
صباحاً خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى المساء) وجاء في الحديث أيضاً (من عاد
مريضاً فإنما يمشي في مخرفة من الجنة) والمخرفة هي: الأشجار المثمرة تذهب
فتخرفها، تمشي بين أشجار من أشجار الجنة المثمرة، تخرف منها من الثمار ما
شئت.
آداب زيارة المريض
ذكر العلماء في آداب عيادة المريض أن على الزائر أن يغلب عند المريض جانب
البشرى، وآمال العافية، وأن يرقيه، ويفسح له في الأجل.
وألا يتبع نظره أثاث البيت الذي هو فيه؛ فإنه ربما تكون الحال متوسطة، أو
دون ذلك، فيستضر صاحب البيت من أن تتأمل حالته بأنها رديئة أو قليلة أو غير
ذلك.
وألا يطيل الجلوس عنده، فقد يكون في حاجة إلى خدمة أهله فتحجبهم عنه، وقد
جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعود المريض بعد ثلاثة أيام؛
لأنه في أول يوم يمكن أن تكون وعكة خفيفة وتذهب، فليس هناك حاجة في أن تثقل
عليه، أو تعطل نفسك، فتكون الزيارة بعد ثلاثة أيام.
ويقول بعض العلماء: لا بأس أن يزور المسلم المريض الكافر لعله يعرض عليه
الإسلام في آخر لحظة فينفعه الله بذلك فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه
كان له خادم، يهودي، فغاب الخادم فسأل عنه صلى الله عليه وسلم فقيل: مريض،
قال: قوموا بنا نعوده، فيذهب صلوات الله وسلامه عليه إلى خادم، ليس إلى
أمير أو رئيس أو نحوه، بل خادم ويهودي!! أي أنه جمع النقيصتين، فلما أتاه
وجلس عنده، وكان في لحظاته الأخيرة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه، وكان عند رأسه -كأنه
يستشيره- فإذا بالأب يقول: أطع أبا القاسم يا بني!) الله أكبر! وأنت لماذا
لا تطعه؟ لنعلم يا إخوان أن قضاء الله، وقدر الله فوق كل شيء، الولد في
حالة الاحتضار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الإيمان، فيلتفت إلى
أبيه كالمستشير، فإذا بالأب يشير عليه أن يطيع الرسول، فلم يقل له الرسول:
وأنت أيضاً أطعني، عملاً بسنة التدرج، فقالها الغلام، وسمعها رسول الله صلى
الله عليه وسلم والحاضرون من الصحابة، ثم فاضت روحه، فقال صلى الله عليه
وسلم لمن معه من المسلمين: (تولوا أنتم أمر أخيكم) انظر محاسن الإسلام!
انظر فضل الله على عباده! مجرد أن نطق بها صار أخاً من إخوانهم، صار
صحابياً بين يدي رسول الله، وهذا من بركة زيارته صلى الله عليه وسلم.
وهذا باب كما يقولون يأتي في الآداب والأخلاق وحقوق الجوار.
إلى آخره.
زيارة القبور
نأتي إلى هذا الباب الذي معنا: (أكثروا) وهذا عام للرجال وللنساء، حتى إن
العلماء عندما اختلفوا في زيارة النساء للقبور لحديث: (لعن الله زوارات
القبور) وجاء حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) واو الجماعة
في قوله: (فزوروها) هل يشمل النسوة، أو يبقى النسوة على المنع؟ فقالوا: إن
في الحديث معنى يجمع بين الرجال والنساء وهو قوله: (فإنها تزهد في الدنيا
وتذكر بالآخرة) فكما أن الرجل في حاجة إلى ذلك فكذلك المرأة في حاجة إلى ما
يذكرها بالآخرة، فتكون مشمولة بالإذن، والمعروف عند علماء اللغة أنه لو وجد
ألف امرأة ورجل واحد فإنهم يخاطبون جميعهم بواو الجماعة تغليباً للمذكر.
وكلمة: (أكثروا) تفيد الأمر بالتكرار، ولا تكون للغفلة، لكن من الصعب أن
يوضع شريط على أذن الإنسان ليظل يذكره: اذكر الموت اذكر الموت ولكن لا تطل
الغفلة، ومن هنا كلما صلينا على جنازة، فتلك دقة جرس جديدة، وتنبيه جديد،
إذاً: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) ألا وهو الموت.
وإذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى إلزام الخلق بحق الخالق سبحانه، فلن نجد أقوى
من الموت: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ
* فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] ولن يستطيعوا إرجاعها: {فَإِذَا جَاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]
ويقصد المعنى اللغوي بالساعة ستين دقيقة بل تصدق على لحظة، فلا يملكون حتى
التأخير ولا التقدم، وأنت لو جلست وتأملت وتذكرت هذه الآية الكريمة
{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] فهناك الحشرجة في
الصدر؛ لأن الموت يبدأ من القدمين، ثم يسري إلى الساقين إلى الفخذين إلى
البطن إلى الصدر فتحشرج الروح أو النفس في صدره وحلقه، ثم تفيض إلى باريها،
في تلك الحالة وهم حوله ينظرون، ولا يملكون له من قطمير، ولا نَفَساً
واحداً يستطيعون أن يزيدوه: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}
[الواقعة:86] مدينين يعني: مغلوبين، مدانين، عاجزين، ومنه: {مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ} [الفاتحة:4] يوم الحساب والجزاء {إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ
مَدِينِينَ} [الواقعة:86] غير ميتين ولا محاسبين، {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا
تُبْصِرُونَ} [الواقعة:84-85] صحيح نحن لا نرى، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] .
{فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ} [الواقعة:86-87] لا والله لا تستطيعون إرجاعها، {فَأَمَّا إِنْ
كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88] ما مصيره؟ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ *
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:89-91] يقول المفسرون:
منذ أن تفيض روح المؤمن ويرى النعيم، يسلم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ لأنه عن طريقه وصل إلى هذا الحد، وبعضهم يقول: هذا سلام من الله باسم
رسوله يأتي من الموتى، والأول أظهر وأوضح، والله أعلم.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92]
عافانا الله وإياكم.
إذاً: أكثروا من ذكر هادم اللذات.
باب كراهة تمني
الموت
حكم تمني الموت
لنزول الضر
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين
أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت
الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي) متفق عليه.
(لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به) لأن تمني الموت لنزول الضر معناه عدم
الرضا بالقضاء والقدر، ومعناه عدم الاستسلام لأمر الله، ومعناه الجزع وعدم
الصبر، وهذا لا يتناسب مع الإيمان بالله، وإما إذا كان تمني الموت مخافة
فتنة في الدين فبعضهم يقول: لا مانع؛ فإن تمني الموت لميتةٍ كريمة كالشهادة
في سبيل الله لا مانع منه.
وقد ورد أن عمر رضي الله تعالى عنه في حجته الأخيرة جاء الأبطح واستلقى على
ظهره فسمعه أحدهم يقول: [اللهم كبرت سني، وضعف عظمي، واتسعت رعيتي؛ فاقبضني
إليك غير مفتون] .
ما طلب لشيء نزل به، لا، إنما خاف من فتنة في الدين، أو على المسلمين، وقد
أصبح الأمر ثقيلاً عليه، فطلب لقاء ربه.
فمثل هذا ليس داخلاً في هذا الأمر، أما لضرٍ نزل به: فقر، مرض مزمن، مضايقة
من أي جهة من الجهات، فلا ينبغي أن يتمنى الموت بسبب ذلك، بل يصبر ويحتسب.
والعجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل في رسله النماذج للمثاليات الكاملة في
كل شيء، فجعل -مثلاً- نأخذ من إبراهيم عليه السلام صبره وصموده؛ حتى كان
أمة، وشدة توكله على الله عندما ألقي في المنجنيق ليلقى في النار، فيأتي
جبريل يقول له: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وإلى ربي بلى.
مثال في أعلى ما يمكن من اليقين بالله والتوكل عليه.
تأتي إلى نوح في صبره، وعزمه، وطول أجله, و.
إلخ.
تأتي إلى موسى تأتي إلى يوسف عليه السلام مثالية نموذجية إلى أقصى ما يمكن
أن يتصوره العقل البشري في العفة والطهارة: {وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] .
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل الجوانب، ولا شك في ذلك،
كذلك نبي الله أيوب أصبح مثالاً عند الناس في الصبر، صبر على الابتلاء،
وعلى فقد أهله، وعلى فقد ماله، و.
و.
والملائكة تقول: يا رب! ارحم عبدك، فيقول: إذا اشتكى لكم فأغيثوه، إن شكى
لكم فأجيبوه، وهو ما زال يقول: ما دام قلبي سليماً لا يفتر عن ذكر الله
وأخيراً: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]
فكان المثل.
فالمؤمن عندما يبتلى بمرض، أو أي شيء الصبر أفضل له، وقد جاء في الحديث:
(إن الله ليكتب للعبد المنزلة فلا يصلها بعمله، فيصيب منه ليبلغ تلك
المنزلة) يكتب له الأجر مائة في المائة، ولكن عمله خمسون في المائة فليس
قادراً أن يصل إلى هناك، فيبتليه بالمرض ليصبر، وليصعد الباقي بالصبر على
مرضه.
إذاً: ليس هناك شر عليه، وإذا صبر وجد الخير، وفي بعض الروايات أيضاً أن
المريض يئن لمرضه، فالملائكة تقول: (يا رب! عبدك كان يقوم الليل، كان يصوم،
كان يفعل، كان يذكر وهو الآن عاجز، فيقول: أنينه -هذا العبد الصالح- في
مرضه خيرٌ من صوت الآخرين بالذكر والعبادة) إذاً: لا ييأس الإنسان ولا
يجزع، وليعلم أن ربه أرحم به منه، وإذا كان سيد الخلق: {النَّبِيُّ أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6] هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك برب
النبي؟! إذاً العاقل المؤمن يسلم أمره لله، ويحمل نفسه -عقلاً وإيماناً
وعقيدة- بأن ما أتاه الله به فهو الخير؛ لأنه أعرف بعبده من نفسه، ولهذا:
لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به, ولكن إذا ضجر وكان تنفيساً له، فليقل
مفوضاً الأمر لله الذي أنزل به الضر: (اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً
لي) لم يقل: أحيني لأن الحياة خير لي، لا، أنت الذي تعلم إن كانت الحياة
خيراً لي، أي: يطول العمر، ويستقيم في العبادة، ويعمل صالحاً، فخيركم من
طال عمره، وحسن عمله.
فقد كان هناك أخوان صالحان، فمات الأول قبل الآخر، وكان الأول أصلح من
الآخر، فبقي الآخر بعده، فذكروا ذلك لرسول الله، قالوا: (والله مات الأخ
الصالح، قال: والثاني، قالوا: ليس مثل الأول، قال: لعله يصلي بعده، ويصوم
بعده، ويذكر الله بعده فيلحقه) إذاً: (اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً
لي) أي: وأنت الذي يعلم ذلك، (وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي) حتى لا
أفتن؛ لأن الذي يعلم ذلك هو الله، فكأنه أيضاً رجع إلى الله سبحانه وتعالى.
باب صفة النزع
للمؤمن
شرح حديث: (المؤمن
يموت بعرق الجبين)
وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يموت
بعرق الجبين) رواه الثلاثة وصححه ابن حبان.
بعدما قدم المؤلف رحمه الله تعالى في أوائل كتاب الجنائز حديث: (أكثروا من
ذكر هاذم اللذات) وحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان لابد
متمنياً أو لا محالة فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني
إن كان الممات خيراً لي) وقد تقدم الكلام على هذين الحديثين أعقب ذلك ببيان
حالة موت المؤمن، فأورد قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يموت بعرق
الجبين) هذه حالة يبينها صلى الله عليه وسلم من غالب وأكثر حالات الموتى
المؤمنين، ثم نجد العلماء يذهبون في تفسير عرق الجبين إلى جانبين: جانب
لفظي في موضعه، ومعروفٌ الجبين، وعرق الجبين يكون في حالة الشدة عند النزع.
وقومٌ يفسرونه بجانب آخر وهو: الكد والكدح، أي أن المؤمن يسعى ويكدح ويعمل
حتى يعرق جبينه فيأتيه الموت وهو على هذه الحال، سواءً كان هذا العمل لكسب
الرزق، أو كان هذا العمل للعبادة، ولكن هذا الوجه ضعيف، والصحيح الأول؛ لأن
الموت له شدة، وقد جاء: (اللهم هوّن علينا سكرات الموت) ولما دخلت فاطمة
رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في النزع قالت:
(واكرباه عليك يا أبتي! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا ابنتي) وتقول
أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم مخضب فيه ماء -إناء صغير- إذا اشتد عليه أمر الموت غمس يده في
الماء، ثم مسح بها جبينه) وذلك لشدة ما يعاني.
وجاء عند الترمذي: (نفس المؤمن تخرج رشحاً) والرشح وعرق الجبين سيان، فهذا
مما يؤيد المعنى الأول، وهو عرق الجبين كناية عن شدة المعاناة، وكذلك أيضاً
عن سرعة النزع فلا يطيل إطالةً شديدة حتى يتعذب في ذلك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (إن نفس المؤمن تخرج رشحاً،
وأعوذ بالله من موتةٍ كموت الحمار، قيل: وما موت الحمار يا رسول الله؟!
قال: موت الفجأة) فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ميتة المفاجأة.
وقد بين العلماء بأن مفاجأة الموت تفوت على الإنسان أشياء كثيرة؛ فقد يكون
في حاجة إلى أن يوصي، فتفوته الوصية، قد يكون يعمل في عمل دنيا بعيد عن ذكر
الآخرة أو الموت، فيفوت عليه أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، وبعض
الناس يرى موت الفجأة راحة من آلام النزع، وهذا خطأ؛ فإنه وإن كان في النزع
شدة ولكن كما قيل: تزول، فهي آلام مؤقتة، ولكن يكون عند المؤمن فرصة في هذا
الوقت الحرج بأن يوادع الدنيا بوصية صالحة، ويستقبل الآخرة بشهادة لا إله
إلا الله محمد رسول الله.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر قوله أو كلامه من الدنيا لا
إله إلا الله دخل الجنة) وسيأتي الكلام عليها فيما بعد كما سمعنا إن شاء
الله.
إذاً: المؤمن يموت بعرق الجبين، كناية عن الشدة والحالة التي تعتري الإنسان
في حالة النزع وخاصةً المؤمن، وقد جاء في الحديث في الابتلاء: (أشد الناس
بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) وهكذا جاء في بعض الآثار (أنه صلى الله
عليه وسلم كان يعاني أشد ما يعاني أشد الرجال) وكان صلوات الله وسلامه عليه
يصبر على ذلك ويسأل الله سبحانه وتعالى التخفيف.
كتاب الجنائز [2]
الموت حق، وهو حتم واقع على كل إنسان، وحدث يتردد على بيوتنا وجيراننا بين
الحين والآخر؛ فلذلك كان من الواجب علينا أن نتعلم الأحكام المتعلقة به،
لنتمكن من توديع موتانا ودفنهم وفقاً للسنة، ولنتجنب البدع التي كثرت في
العهود المتأخرة في مراسم الموت.
وعلى هذا فإن هناك أحكاماً كثيرة متعلقة بالاحتضار، والتجهيز، والدفن،
والتلقين، والقراءة للميت، والصدقة عنه وغير ذلك من الأحكام؛ موضحة أحسن
توضيح، مدعمة بالأدلة الشرعية، مردفة بأقوال الأئمة والفقهاء.
باب تلقين الموتى لا
إله إلا اله
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) رواه مسلم والأربعة.
التلقين بين حقيقة
الموت ومجازه
في هذا الحديث: (لقنوا) التلقين هو أن تقول الشيء ويقوله غيرك من بعدك،
يقول صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم) وموتانا جمع ميت، والميت حقيقة من
فارق الدنيا وفاضت روحه، فهل هنا موتاكم على حقيقتها بعد الموت، أو على
المجاز: ما قارب الشيء يعطى حكمه باعتبار ما سيكون؟ وعلى هذا يقول بعض
العلماء: لقنوا موتاكم، أي: من حضره الموت؛ لأن الذي مات وانتهى وفارق
الحياة لا يسمع التلقين، ولا يستفيد منه، ولا يفيده بشيء، إذن الذي يستفيد
من موتانا التلقين هو الذي حضره الموت، والذي يمكن أن يسمع التلقين ويعيه
ويتلقنه ويقوله، وهذا هو الصحيح.
آداب كيفية تلقين
الميت لا إله إلا الله
والعلماء في كيفية التلقين يبينون أن السنة في ذلك ألا تتوجه بالأمر فتقول:
يا فلان! قل لا إله إلا الله، بخلاف ما يقوله بعض المتأخرين في بعض كتبهم،
فإن علماء السلف يقولون: إذا كان الميت مشغولاً بسكرات الموت أو غافلاً عن
ذلك مشغولاً بنفسه فحينئذ يذكّر حتى يقول: لا إله إلا الله.
ويقولون: لا ينبغي التكرار المتوالي، ولا ينبغي توجيه الأمر إليه بقل؛ لأن
الإنسان في حال الحرج والضيق لا يتحمل؛ لأن صدره ضيق، وهو مشغول بنفسه،
فإذا أكثرت عليه ربما ضجر لهذا الإكثار، وربما كره أن يقول ما تلقيه عليه،
وربما تكلم بكلام من منطلق تعبه وضجره فتكون أنت السبب، فقالوا: لا ينبغي
أن يوجه إليه الأمر، ولا ينبغي أن يكثر عنده.
وإذا قال: لا إله إلا الله، تلقيناً من الحاضر وسكت بعدها فإنه لا ينبغي أن
يعاد التلقين؛ فإن مات في هذا السكوت كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا
الله، أما إن تكلم بعد ذلك وأطال الكلام فإنك تعيدها وتقولها أيضاً دون أن
توجهها بأمرٍ إليه، ودون أن تكثر عنده.
ولهذا على من يحضر عند الميت أن يكون حكيماً رفيقاً، حتى قالوا: ينبغي له
أن يعرض على الميت محاسن أعماله؛ ليعظم جانب رجائه فقد ورد عند الترمذي أن
الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو يحتضر فقال: (كيف أجدك يا غلام؟
قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، قال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع هذان في مثل
هذا الموطن في قلب رجل إلا أعطاه الله مأمنه، أو أعطاه الله مطلبه) والذي
ينبغي على الإنسان في تلك اللحظات أن يغلّب دائماً جانب الرجاء، يقول
العلماء: الإنسان في حياته دائماً وأبداً بين الخوف والرجاء، بين الطمع
والعطاء، فهو يخاف من الشر ويرجو الخير، فإذا كان الأمر كذلك فهو يعمل
لتحقيق ما يرجوه ويعمل لاتقاء ما يخافه، فإذا كان في سعةٍ من الدنيا
فالأولى أن نغلّب جانب الخوف؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المنافع، فإذا
قدم جانب الخوف كان دائماً وأبداً على حذر {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] .
وإذا كان في اللحظات الأخيرة يجب أن يغلب جانب الرجاء؛ لأن الخوف الآن ليس
له مجال، وقد جاء في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي) وجاء في الأثر
أيضاً: [إذا عرجت الملائكة بروح العبد وصحيفته فكان في أولها كلاماً حسناً
وفي آخرها كلاماً حسناً يقول الله سبحانه: أشهدكم بأني قد غفرت له ما بين
هذين] وهكذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلَّب للغلام جانب الرجاء،
ما اجتمع هذان في قلب مؤمن في هذا الوقت إلا أعطاه الله ما أنال وإلا غفر
له.
فجانب الرجاء مقدم في تلك اللحظة.
ولما أصيب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه دخل عليه شاب قال: يا أمير
المؤمنين! والله لا أسفاً على أمرك، إنك قسمت بالسوية، وعدلت في الرعية.
وكذا وكذا، وذكر له محاسن أعماله، وعزاه في نفسه في حياته بحسن فعاله، فلما
ولى الشاب قال: ردوه، فجاءه قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك -لأن ثوبه طويل،
تحت الكعبين-؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
أنقى للثوب؛ لأنه إذا جره على الأرض فإنه يجمع كل ما علق به، وأتقى لربه؛
وفي الحديث: (ما جاوز الكعبين فهو في النار) فـ عمر وهو في تلك الحالة لم
يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أن الشاب جاء يعزيه بأحسن شيء،
وما جامله في أمر نفسه بل نصحه أيضاً.
ونحن يهمنا في هذه الحال أنه يجب على من يحضر الميت من أن يغلب عنده جانب
الرجاء، يذكره بحسن أفعاله التي يعرفها عنه، يذكره بأن رحمة الله وسعت كل
شيء، يذكره بأن يحسن الظن بالله، ويتحين الفرص لتلقينه: لا إله إلا الله.
التزام الحكمة
والصبر وقول الخير عند خروج الروح
من الآداب أيضاً أنه حينما تصعد الروح إلى باريها ينبغي على الموجودين
تعزية الحاضرين وحثهم على الصبر، وعدم التكلُّم بكلمات غير لائقة؛ لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم قال (قولوا خيراً، ولا تقولوا إلا الخير؛ فإن
الملائكة تؤمن على ما تقولون) وقد جاء عن بعض السلف بأنه كان يحذر وينهى
ويوصي أهله إذا هو مات ألا ينعوه نعي الجاهلية، وجاء عن ابن رواحة رضي الله
تعالى عنه لما أغمي عليه ثم أفاق أنه رأى الملائكة تقول له ما كان يقوله
بعض أهله: كنت لنا كنت لنا كنت لنا، أهكذا كنت؟ أهكذا كنت؟ يعاتبونه على
ذلك، فلما أفاق نهاهم عن هذا كله.
إذاً: ينبغي على الحاضر أن يلتزم الحكمة والصبر، وحسن اللفظ، وتثبيت
الحاضرين، وأن يقول قولاً طيباً، وأن يحملهم على الصبر وحسن العزاء.
والله تعالى أعلم.
حكم التلقين للميت
بعد الدفن
يقول بعض الناس بعد الدفن: يا فلان ابن فلان! اذكر ما كنت عليه عندنا في
الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذا أتاك ملكان
يسألناك: من ربك؟ وما نبيك؟ وما دينك؟ .
إلى آخره، فيرى بعض الناس أن هذا من البدع، وينهى عن ذلك، وربما تخاصموا في
المقبرة، في الموضع الذي تذرف فيه الدموع، والذي تخشع فيه القلوب، والذي هو
موضع الموعظة والعبرة (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فتجدهم يتخاصمون،
ويتناكرون في أمر هل هو سنة أم بدعة؟ والسلف رضوان الله تعالى عليهم منهم
من فعل هذا ومنهم من تركه، ويروون عن أحمد رحمه الله أنه مر على رجل يلقن
إنساناً فقال: أسكتوه، ثم أدركه رجل وقال: إن شعبة قد فعل، وسفيان قد فعل
وكذا، قال: اتركوه يقول ما يقول.
فالمسألة خلافية من سابق الأمر، وجاء في العموم أنه صلى الله عليه وسلم لما
دفن الميت قال: (سلوا الله له الثبات؛ فإنه الآن يسأل) فهذه وصية من رسول
الله صلى الله عليه وسلم بأن نسأل الله أن يثبته عند السؤال: اللهم ثبته،
اللهم ارحمه، اللهم أفسح له في قبره، على ما سيأتي من دعاء النبي صلى الله
عليه وسلم لـ أبي سلمة عندما أغمض عينيه، ودعا له الدعوات الكريمات، وسواء
فعل ذلك بعض السلف أو لم يفعلوه، وقد جاء عن عمرو بن العاص أنه طلب من أهله
فقال: [إذا مت ودفنتموني فانتظروا عند قبري قدر ما تنحر الجزور وتقسم؛ فإني
أستأنس بوجودكم عند سؤال الملكين] ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن
الميت ليسمع حفيف نعالكم) إذاً: هناك عمومات صريحة أن ندعو للميت بأن الله
يثبته.
وبعض السلف أوصى أن ينتظر عند قبره بقدر قراءة سورة (يس) ، وسيأتي الكلام
على قراءة (يس) .
حكم قراءة يس على
الموتى
أما حديث (اقرءوا يس على موتاكم) فقد جاء الخلاف: هل نقرأه على موتانا بعد
أن يموت، أو نقرأه على موتانا بعد أن يدفن، أو نقرأه على موتانا حينما
يحضره الموت؟ جاءت بعض النصوص تؤيد المعنى الثاني، وهو (ما من إنسان يحضره
الموت وتقرأ عنده (يس) إلا خفف الله عنه النزع) إذاً: قراءة (يس) على
موتانا تكون على من حضره الموت.
والحكمة في ذلك أن الروح تنشط ويخف عليه نزعات الموت، ويكون أخف عليه مما
لو ترك.
إذاً: (موتاكم) هنا تصرف إلى المعنى الثاني المجازي بقرينة يخفف عنه سكرات
الموت، أما أن نذهب إلى الميت، أو إلى القبر ونقرؤها فبعض العلماء يقول:
كان بعض السلف يحب أن يقرأ عنده يس، وبعضهم يحب أن تقرأ عنده سورة الرعد،
وبعضهم سورة البقرة، كل ذلك من أقوال السلف ومن أفعالهم، فلا ينبغي الإنكار
في ذلك إلى حد الخصومة، ولو أن إنساناً عرض وجهة نظره واكتفى بذلك فقد أدى
ما عليه، لكن أن تؤدي إلى الخصومة والمنازعة والمدافعة فهذا ليس من سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان، وفي الدعوة إلى الله أو إلى سنة
رسول الله.
حكم إهداء ثواب
الأعمال من الحي إلى الميت
هل يستفيد الميت من قراءة الحي لـ (يس) أو غيرها أم لا؟ هذه مسألة يمكن
إدراجها تحت عنوان: ما علاقة الميت بفعل الحي؟ هناك فريقان: أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها ومن وافقها أخذوا بقوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ
لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] فليس للميت من الحي أي شيء إلا
ما جاء به النص.
وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو
صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له) فقال أولئك: ينتفع بهذه الثلاث: ولد صالح
يدعو له، صدقة جارية، علم ينتفع به.
وجمهور العلماء يقولون: إن عمل الحي -كما هو معروف- في العبادات ينقسم إلى
قسمين: - عمل بدني محض: كالصلاة، والصيام وقراءة القرآن، والدعاء.
- وعمل مالي بحت: كالصدقة، والكفارة، وسداد الدين، والحج يجمع بين الأمرين.
حكم وصول العبادات
المالية إلى الميت
قال بعض العلماء: ما كان من عمل مالي فهو يصل إلى الميت قطعاً، فهو داخل في
عموم الصدقة، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه بعد الهجرة ربما ذبح الشاة
وقسمها صدقة عن خديجة لصاحباتها، حتى قالت عائشة رضي الله تعالى عنها:
خديجة، حتى بعد الممات خديجة.
فهذا فعله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك سداد الدين؛ فإن المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
حجها عن أمها: [إن فريضة الله في الحج، أدركت أمي أفأحج عنها؟] كان الجواب
يكفي: نعم أو لا، ولكن يأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام
بقياس؛ لنأخذ نحن الحكم من أنفسنا: (أرأيتِ -أخبريني وأعلميني- لو أن على
أمك دين فقضيتيه -أي: عنها- أكان ينفعها؟ قالت: بلى.
قال: كذلك فدين الله أحق) إذن قضاء الدين ينفع.
وكما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان في بادئ الأمر إذا قدمت جنازة
يسأل: (هل على ميتكم دين؟ إن قالوا: نعم، قال: صلوا عليه أنتم، وإن قالوا:
لا.
صلى عليه.
فأتي بميت فسأل قالوا: عليه ديناران، قال: صلوا عليه، قال أبو قتادة: يا
رسول الله! صلِّ عليه وديناراه عليَّ أنا، قال: في ذمتك؟ قال: نعم.
قال: برئت منهما ذمة الرجل؟ قال: بلى.
قال: عليك أنت؟ قال: نعم.
فصلى عليه) فهنا بين يدي رسول الله لم يسدد، لكن التزم واعترف وقال: (برئت
منهما ذمته - أي بضمانك وكفالتك؟ - قال: بلى) وفي نفس الخبر أنه لقيه رسول
الله من الغد فقال له: (ماذا فعل الديناران؟ قال: يا رسول الله! الرجل مات
-بالأمس فقط- من الغد، قال: ماذا فعل الديناران؟ -يعني يطالبه- قال:
سددتهما، قال: الآن بردت جلدته من النار) لأن الميت يرهن في قبره بدينه.
ثم لما وسع الله على المسلمين وجاءت الفتوحات والغنائم، وبقي عند المسلمين
بيت مال، قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وله مال فماله لورثته، ومن مات
وعليه ضياع أو دين فعليَّ) فكان صلى الله عليه وسلم يصلي على المدين وغير
المدين، والمدين يوفي دينه من بيت مال المسلمين.
والذي يهمنا هنا بيان أن العبادة المالية: الصدقة سداد الدين الكفارات
المالية.
إلى غير ذلك، تصل إلى الميت.
حكم وصول العبادات
البدنية إلى الميت
العبادات البدنية تبدأ من الذكر باللسان: الدعاء، الاستغفار، تلاوة القرآن،
البدن: صلاة، صيام، فجاءوا في الأذكار والدعاء وقالوا: لا شك أن الدعاء يصل
الميت، وقد وجدت للإمام ابن تيمية نحواً من المائة صفحة في هذا الباب يدلل
على وصول عمل الحي للميت بدنياً كان أو مالياً، والدعاء -يقول- أكبر شاهد،
حيث إنه يؤتى بالميت ونقوم فنصلي عليه، وفيها قراءة الفاتحة، والصلاة
والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ندعو للميت، ولولا أن الميت
ينتفع بدعاء المصلين له لما كان له فائدة {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} [الحشر:10]
إخواننا من؟ {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] يدعون الله
بالمغفرة لهم ولمن سبقهم من إخوانهم بالإيمان، فهذا نص القرآن الكريم بأنهم
يدعون لأنفسهم بالمغفرة، ولمن سبقهم من إخوانهم بالإيمان، أي: الذين ماتوا
قبلهم، فالدعاء لا شك فيه ولا غبار.
أما الصلاة فجاء الحديث: (كان لي أبوان أبرهما في حياتهما فكيف لي ببرهما
بعد موتهما؟ فذكر صلى الله عليه وسلم: تتصدق عنهم، وتدعو لهم مع دعائك،
وتصلي لهم مع صلاتك) فقالوا: هذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنه يصلي
لوالديه مع صلاته.
ونجد في الحج أن يُحج عن الميت، وبعد الطواف هناك صلاة ركعتي الطواف، فهذا
طواف عن الميت، وهذه الصلاة عن الميت، نقول: هو الذي طاف، ليس هناك مانع،
لكن باسم غيره.
أما الصوم، فقد جاء في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)
وعليه الأئمة الثلاثة ما عدا المالكية يقولون: إن كان الصوم نذراً فإنه هو
الذي أوجبه على نفسه فيقضيه، أما إذا كان صوم رمضان فالله هو الذي كلفه وهو
الذي أماته فليس عليه قضاء، لكن الحديث عام وصريح: من مات وعليه صوم}
بالتنكير دون تعيين نوع من أنواع الصيام.
والحج جاء فيه: (أحج عن أبي؟ قال: بلى) (أمي ماتت أحج عنها؟ قال: نعم ... )
والحج عن الغير أمر مشهور عند الجميع.
لكن بقي الخلاف والنزاع الطويل في قراءة القرآن، فمن يرجع إلى الإمام ابن
تيمية رحمه الله في المجموع وفي كتاب الجنائز يجده رحمه الله يرتب الموضوع
فيقول: نحن اتفقنا على أن الميت ينتفع بدعاء الحي: اللهم اغفر له، اللهم
ارحمه، وهذا متفق عليه، ما معنى: اللهم ارحمه؟ معناه: يا رب! أنا ليس عندي
شيء، ولكن أتوجه إليك، وأسألك من عندك رحمة للميت، فإذا كان الله سبحانه
يرحم الميت برحمة من عنده بسؤالك أنت إياه، فرحمة الله نزلت على الميت
فضلاً من الله وليس لك في ذلك شيء إلا المسألة، فالرحمة من الله لعبده ماذا
فعلت أنت؟ دعوت.
يقول: نأتي إلى القراءة حينما تقرأ الفاتحة يس آية من كتاب الله، لك بكل
حرف عشر حسنات، فأنت عملت وبعملك وعدك الله الأجر، فأصبح لك -بمقتضى وعد
الله وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم- بكل حرف عشر حسنات تكتب في
صحيفة أعمالك، فأنت تقول: يا رب! هذا الذي عملت، وهذا الذي وعدتني وهو حق
لي، أسألك أن تعطيه لفلان، فإذا كان الدعاء وهو طلب الرحمة من الله وأنت لا
تملك منها شيء يصل إلى الميت، فكيف بالحسنات التي استحققتها أو التي وعدت
بها وتكتب في صحيفتك فأنت تقول: أنت وعدتني به وأنا أتبرع به للميت، أيهما
أولى بالقبول الشيء الذي كان عن عمل منك، أو الشيء الذي هو مجرد سؤالك رحمة
من الله؟ الذي كان عن عمل منك؛ لأنك عملته، وبوعد من الله كنت تستحقه،
ويكتب لك في صحيفة أعمالك، فهو موجود عن سبب منك أنت.
وبهذا المنطق يسترسل رحمه الله في إثبات انتفاع الميت بعمل الحي.
ثم نحن نقول: هل نحن نحجر فضل الله؟ هل نمنع رحمة الله عن عباده؟ فإنك إذا
ما عملت عملاً وطلبت من الله أن يجعل ثوابه لوالديك أو لمن شئت من
المسلمين، فإنه يكون صدقة جارية ذا ثمرة تدوم بعدك، مثل بناء مدرسة، أو
مسكن للمساكين، أو حفرت قناة، أو بنيت جسراً، أو مهدت طريقاً، أو بنيت
مسجداً، أو ورثت مصحفاً، فأنت بصلاحك وبفعلك الخير لهذا الرجل بقي من أثر
عملك عنده ما جعله يدعو الله لك، إذن لك أثر في هذا العمل؛ لأنه لا يوجد
أحد يقرأ لك قرآناً ويهب ثوابه إليك وبينك وبينه عداوة، بل لابد أنه كانت
هناك صلة، كان لك عمل من الخير يجعله باقٍ عنده يعطفه عليك حتى يهب لك من
عمله الخير.
إذاً: الصدقة الجارية باقية.
وكذلك عمل الولد: (ولد صالح يدعو له) (ولد الرجل خير كسب أبيه) فإذا دعا
الولد أو عمل الولد صالحاً فإنه داخل لا يمنعه.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39]
فقد أجاب ابن تيمية رحمه الله حيث قال: الآية تقول: {وَأَنْ لَيْسَ
لِلإِنسَانِ} [النجم:39] أي: من نفسه إلا ما سعى هو به، فالآية ما منعت أن
يكون له من سعي غيره، نعم.
سعيه انقطع لحديث: (إذا مات العبد انقطع عمله) لكن إذا انقطع عمله فإنه لا
يمنع أن يستمر له عمل من غيره، إذن الميت انقطع عمله، لكن هذا لا يمنع أن
يأتيه من عمل الغير خير له.
وأرجو من كل طالب علم أن يرجع من هذا الموضوع إلى هذا المرجع المجموع ليرى
الأسلوب والمنهج والهدوء، وعدم الخصومة، وعدم النزاع، وليرى أسلوب السلف في
معالجة الأمور، وكيف كانوا يقيمون الأدلة عليها، وأرى إن شاء الله أنه ما
من طالب علم يقرأ هذا البحث إلا سيجد الخير الكثير، وبالله تعالى التوفيق.
باب القراءة عند
الميت
وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا على موتاكم يس)
رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان.
على ما تقدم في معنى (موتاكم) أنه حين الاحتضار أو بعد الوفاة، والجمهور
على أن هذا الحديث بالذات إنما يراد به عند الاحتضار؛ لأن القرائن في
النصوص الأخرى تؤيد ذلك (فإنه ما قرئت يس عند محتضر إلا خفف عنه) وهذه
قرينة على أنها تقرأ عند احتضار الموت وعند النزع.
تسبيح الجمادات
قد يتوقف بعض الإخوان في بعض النصوص، ولكن أكرر وصيتي مرة أخرى لكل طالب
علم أن يرجع في البحث إلى الإمام ابن تيمية رحمه الله.
مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في
كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر -أو لا يستنزه- من بوله،
وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) إلى هنا الحديث متفق عليه، وهناك زيادة في
الحديث: (فأخذ جريدة رطبة فشقها ووضع على كل قبر شقاً منها وقال: لعله يخفف
عنهما ما لم ييبسا) فقالوا: هذا يدل على انتفاع الميت بشيء خارج عن عمله،
وأين عمل الغير؟ وإنما هو انتفاع بالرطوبة الموجودة، وقالوا: إن النبات
والشجر ما دام رطباً يسبح الله، فلعل الله يخفف عنهما بالتسبيح الصادر من
هذه الأغصان، مع أنه جاء في القرآن الكريم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ}
[الإسراء:44] أخضر أو يابس، نبات أو جماد أو حيوان أو أياً كان: {إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]
.
وجاء عند بعض السلف أنهم كانوا جالسين على خوان فقال أحدهم لصاحب البيت:
أيسبح هذا الخوان؟ -على عموم قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]- قال: نعم.
كان يوماً يسبح، يعني حينما كان نباتاً أخضر.
وقد جاءتنا حادثة معجزة محسوسة ملموسة شاهدها الناس، وسمعوها بآذانهم، وهي
حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم نطق الحصى وسبح في كفه صلى الله عليه
وسلم، وأيضاً لما كان يخطب متكئاً على الجذع ثم انتقل إلى المنبر، فلما
تحول صلى الله عليه وسلم إلى المنبر حن الجذع لرسول الله حنين الناقة
العُشَراء، حتى سمعه كل من في المسجد، فأتى إليه صلى الله عليه وسلم وربت
عليه وقال: (إن شئت أخذتك فغرستك فعدت نخلاً غضاً تثمر، وإن شئت كنت من غرس
الجنة، فقال: -والكل يسمع- بل أكون من غرس الجنة، فحفر له في أصل المنبر
ودفنه) فهذه الجمادات الله سبحانه وتعالى أعلم بأمرها، ولكن ثبت في العيان
أنها تسبح الله، وأنها تتكلم ويسمعها الناس، أنطقها الله الذي أنطق كل شيء
إذاًَ: نترك الأمر لله سبحانه وتعالى.
باب إغماض عيني
الميت
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، وقد
جاء ناس من أهلي فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة تؤمن
على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين،
وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه) رواه مسلم.
الصلاة على الجنازة
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ابن أبي شيبة في تاريخه: كانوا في سابق الأمر، أول مجيئهم إلى
المدينة، إذا مرض إنسان واحتضر آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره،
فيأتي إلى بيته، ويجلس معهم ينتظر، فإذا ما قضى الله أمره، جهزوه، وصلى
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في محله، وذهبوا إلى دفنه، فقالوا: لقد
أكثرنا على رسول الله، وقد يحضر الميت الوفاة بالليل، فيشق ذلك عليه صلى
الله عليه وسلم، ولكن لندع رسول الله يستريح، وإذا ما جهزنا ميتنا حملناه
إليه، وهناك يصلي عليه.
فكان بداية مصلى الجنائز من ذلك الوقت إلى الآن، ومصلى الجنائز هو السور
الصغير، أو الحوش الصغير الذي ما بين باب جبريل، وغرفة المشايخ التي يصلي
فيها الإمام هناك، وهو الجانب الشرقي من المسجد.
حقيقة الروح
حضر صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة، فأغمض عينيه، وبيَّن: (إن الروح إذا
قبض تبعه البصر) وهنا وقفة استسلام ماذا يرى هذا البصر؟ يرى الروح، {قُلْ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وهل الروح جرم وجسم له حيِّز
يرى، أم أنها أمر معنوي لا نعلم كنهه، أم هي جسم شفاف، أم هي متوزعة في
جميع خلايا الجسم، تحت كل شعرة جزء منها، وتكون بها الحياة، أم ما أمرها؟
نقف موقف العاجز الذي لا يدرك، كما قال سبحانه: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي} [الإسراء:85] .
جميع ما يتعلق بها: بكنهها بتصرفها في الجسم بخروجها منه بمصيرها إلى
الآخرة كل ذلك من أمر ربي؛ قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ، النفخ من روحه سبحانه وتعالى، وهو نفخ
جبريل أو أن (روح) مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، كل ذلك أمره ومرجعه إلى
الله.
استحباب تغميض الميت
عند خروج الروح والحكمة منه
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا عملياً أن نغمض العينين عند تلك
الحالة، قبل أن تستكمل الروح خروجها؛ لأن العين إذا شخصت وذهب أثر الحياة
منها، يصعب أن تنطبق؛ لأن الباقي جرم مادي ليس فيه أثر الحركة، فلا يمكن أن
يرجع الجفن على ما كان عليه، وإذا بقي الميت على تلك الصورة ربما أفزع
النساء أو الأطفال أو بعض الأشخاص، فالنبي صلى الله عليه وسلم أغمض عينيه؛
ليبقى في صورة النائم على وضع طبيعي، وقال: (إن الروح إذا قبض) إذاً: الروح
تصعد إلى الله، وكل روح تصعد سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن هناك روح
تتفتح لها أبواب السماء، حتى تصعد إلى الجنان، ويأمر الله بها أن توضع في
طيور خضر.
إلخ، وهناك -عياذاً بالله- من توصد دونها الأبواب، وترد إلى سجين.
إذاً: ينبغي على الحاضر عند الميت أن يلاحظ تلك الحالة، فإذا وجد الميت
يشخص ببصره إلى السماء، في تلك اللحظات يغمضه برفق، لا بشدة ولا بعنف، حتى
يصبح الميت كأنه إنسان نائم.
حقيقة الموت
ما هي حقيقة الموت؟ نجد أن الأطباء يقولون: الموت موت الدماغ، وليس موت
القلب؛ لأن القلب عضو يعمل آلياً، وبقية الأعضاء تعمل ميكانيكياً، بمعنى:
أن اليد منفردة لأن العضلة منبسطة، فإذا أراد الله لليد أن تنقبض جاءت هناك
عملية مواصلات واتصالات، فتنقبض العضلة فتسحب الذراع، كما لو كان هناك ذراع
مربوط ببكرة بها حبل، فإذا ارتخى الحبل نزل الذراع، وإذا شُدَّ الحبل
ارتفع، فهذه عملية ميكانيكية، وكذلك الحاجب، فكل عضو متحرك إلا القلب فإنه
يعمل آلياً، أي: أن حركته منبعثة من داخله هو، وليس هناك عضو يسيطر عليه؛
لأن حياة الإنسان بحركة القلب، فإذا ما توقف لحظات مات الإنسان.
وآخرون يقولون: يعمل آلياً بعمل الروح، والروح ساكنة في القلب، ومنتشرة في
الجسم كله بأحاسيس.
إلخ، وهذا أمر في التشريح لا ندري عنه.
إذاً: هم يقولون: حقيقة الموت موت الدماغ، وذلك بأن يصبح الدماغ لا يدرك
ولا يدير شيئاً في الجسم، وتتعطل إشاراته إلى الأعضاء، أما القلب فهو مضخة
تعمل، يجمع الدم ويدفعه، مثل أي دينامو يسحب من الخزان الأسفل ويدفع للخزان
الأعلى، ومن هنا يمكن الاستعاضة عن القلب في الجسم بقلب صناعي، ويكون القلب
الصناعي يعمل دورة في الدم في الجسم بدلاً من القلب الطبيعي، وعلى هذا
باستطاعتهم الآن تحت آلات الإنعاش أن يديموا حركة القلب بعد وفاة الدماغ
لمدة يوم إلى أسبوع إلى شهر، ولعلكم سمعتم عن بعض العظماء في أنفسهم أو عند
قومهم، أنه عند وفاة أحدهم بقي قلبه يعمل تحت الآلات إلى ستة أسابيع،
وأخيراً ليس هناك أي فائدة، ما دام أن الدماغ قد مات فإن الحياة قد انتهت.
علامات الموت
للموت علامات عند الفقهاء تدل عليه، حيث لم يكن عندهم موت الدماغ ولا موت
القلب، إنما إذا توقف النفس علموا أن الموت قد حصل، إلا موت الفجأة،
فينتظرون له ست ساعات أكثر أو أقل، وأحياناً يأتون بالمرآة ويضعونها عند فم
الميت، فإذا كان هناك نفس فإن البخار يتكاثف على المرآة في شكل الماء،
فيعلمون أن النفس ما زال موجوداً وأحياناً يضعون آذانهم على القلب لعلهم
يسمعون شيئاًً، وهو بدل السماعة وأحياناً تميل أرنبة الأنف إلى جانب، أو
تظهر زرقة في الأنف، أو زرقة في القدمين، أو تميل القدمان إلى غير ذلك من
العلامات التي يعرفونها بالعادة، وهذا كله راجع إلى التجارب.
إذاً: من حضر عند المريض وهو في آخر اللحظات، ورأى بصره شاخصاً، فعليه أن
يغمض عينيه، وذلك حينما يرى تلك العلامات أو تلك الأمارات.
إحساس بعض العباد
بدنو أجله
من نوادر الأمور: أن الله سبحانه قد يجعل عند بعض الأشخاص إحساساً بقدوم
الوفاة، فقد جاء في بعض التراجم لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنها في يوم وفاتها بعد أن صلت العصر حضَّرت الماء، واغتسلت، ولبست ثيابها
النظيفة أو الجديدة، وقالت لمن عندها: لقد اغتسلت والآن قد حضر الموت.
ثم نامت على فراشها بثيابها، وما أذن المغرب إلا وفاضت روحها.
ويذكرون أخباراً نسمعها من أناس كثيرين، يقول بعضهم: يا بني! قد حضر الأوان
يا بني! إن الشمس على أطراف الجريد يعني في آخر النهار وهكذا.
وهذه أمور نوادر قد يطلع الله بعض عباده بشيء من الإحساس بشيء من الخواطر
بشيء مما يكشفه لبعض العباد، وهذه أمور لا حكم لها؛ لأنها نوادر، وقد
يجعلها الله إكراماً لمن شاء من عباده.
ثم قال: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) .
الروح إذا قبضت صعدت، وتبعها البصر إلى أعلى.
كراهية البكاء
والعويل عند الميت
قالت أم سلمة: (فضج ناس من أهله) لما رأوه يغمض بصره عرفوا أنه قد مات
فضجوا، فهناك قال لهم: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) أي: لا تقولوا إلا
خيراً، كما في بعض الروايات: (لا تقولوا إلا خيراً؛ فإن الملائكة تؤمن) أي:
أن الملائكة تحضر عند الميت، إما ملائكة الرحمة، وإما ملائكة العذاب،
عياذاً بالله! إذاً: الملائكة تحضر عند الوفاة، وتؤمن على ما يقول أهل
بيته.
الدعاء للميت
ثم دعا لـ أبي سلمة فقال: (اللهم اغفر لأبي سلمة) وههنا لطيفة، وهي أنه كان
يمكن أن يقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه ولكنه سماه باسمه فكأنه نوع من
التلطف، ونوع من المواساة، بحيث أبرز الظاهر بدل الإضمار عنه، وهذا فيه شدة
عناية به؛ لأنه يحب أبا سلمة.
ولا شك أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، ولهذا قال بعض الصحابة
لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لميت: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت.
وذلك لمكان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شرح قوله صلى الله
عليه وسلم: (وارفع درجته في المهديين)
ثم قال: (وارفع درجته في المهديين) .
من هم المهديون؟ لو تأملنا قوله تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
[الفاتحة:6-7] أي: أنعمت عليهم بالهداية، وقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ
رَفِيقاً} [النساء:69] .
فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا لـ أبي سلمة أن يرفع الله درجته في
المهديين، ليس فقط: وألحقه بهم، أو أن يكون معهم، بل أن يكون معهم في درجة
رفيعة، وهذا والله هو سيد الدعاء.
وفاز بها أبو سلمة رضي الله عنه، وهو حري بذلك، ومن قرأ ترجمته في هجرته
وفي حياته وجهاده عرف أنه يستحق فعلاً (وارفع درجته في المهديين) .
شرح قوله صلى الله
عليه وسلم: (وأفسح له في قبره)
ثم قال: (وأفسح له في قبره) .
القبر محدود، وهو على قدر الإنسان، فكيف يفسح له فيه أو يضيق عليه؟ هذا أمر
غيبي، وأمور البرزخ غيبية لا يمكن إدراك شيء منها قط.
وهناك محاولات عديدة رغبة في الاستطلاع، ولكنها باءت بالفشل.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن القبر أنه بين أحد أمرين: إما روضة من رياض
الجنة، ورياض الجنة لن تكون ضيقة بل فسيحة، وإما حفرة من حفر النار، عياذاً
بالله! ولا مجال للعقل أن يتدخل في الكيفيات، لكنه يتدخل في التصور، فيتصور
روضة الجنة، ويتصور حفرة النار، لكن كيف يصير القبر واحدة من هاتين؟ هنا
يعجز العقل؛ لأننا نجد الموتى في المقبرة متجاورين، وهذا في نعيمه وذاك في
جحيمه، عياذاً بالله! فدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفسح الله له في
قبره يدل على أن هذا ممكن؛ لأنه لو لم يكن ممكناً لما كان لسؤاله حاجة.
وقد ذكرنا فيما سبق ما جاء عند ابن كثير في قصة العلاء بن الحضرمي، لما رجع
من البحرين، وفتح الله على يديه، أصيب بعد عبور النهر، فتوفي فدفنوه في
مكانه، فأتاهم أناس من أهل ذلك المكان وقالوا: إن كان صاحبكم عزيزاً عليكم
فلا تتركوه في هذا القبر، فإن هذه الأرض لا تقبل الموتى، تلفظهم على
وجهها!! ماذا فيها؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ
كِفَاتاً} [المرسلات:25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:26] ؟ فالله
جعل الأرض أماً للإنسان، في حياته تطعمه وفي مماته تؤويه، وهذه الأرض خرجت
عن القاعدة، فكيف أعطاها الله هذه الحالة؟ لا ندري، فقالوا: والله ما من حق
ابن الحضرمي أن نتركه نهباً للسباع.
ما دامت الأرض سوف تلفظه ستأتي السباع وتأكله، ومن حقه علينا أن نكرمه،
فرجعوا إلى القبر وحفروه وهم حديثو عهد به، فلما فتحوا القبر لم يجدوا فيه
أحداً، ووجدوا القبر ممتداً على مرمى البصر.
وقد ذكرت لكم مصدر هذا الخبر؛ لأن الروايات التاريخية مبناها على الإثبات،
وابن كثير ليس رجلاً عادياً، بل هو محدث، ومفسر، وهو سلفي، وبعيد عن
الترهات.
وقد جاء في الحديث الآخر ما يتعلق بسؤال الملكين، وأنه أول ما ينزل الإنسان
القبر يأتيه الملكان ويسألانه، ثم إن كان صالحاً فتحت له نافذة إلى النار،
وقيل له: هذا مكانك لو لم تؤمن، ثم تغلق، وتفتح له نافذة إلى الجنة، ويقال
له: هذا مكانك، ويفسح له في قبره مد البصر، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم
الساعة.
فجاء الإخبار عنه صلى الله عليه وسلم بأن القبر يفسح فيه ويضيق، وهنا يدعو
النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة أن يفسح الله له في قبره.
شرح قوله صلى الله
عليه وسلم: (ونور له فيه)
ثم قال: (ونور له فيه) .
لا شك أن القبر مظلم، وهو أشد ظلمة من ظلمات الدنيا، لا يأتيه ضياء ولا
هواء، إلا رحمة الله، وهنا يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة أن
ينور الله له في قبره ومن أين يأتي هذا النور؟ لا توجد شمس، والعالم كله
يقول بأن الشمس هي مصدر النور، حتى القمر يقولون: يستمد ضوءه من الشمس، وقد
خالف في ذلك بعض العلماء، ونحن لسنا بفلكيين في هذا الموضوع.
وقد جاء عن علي رضي الله عنه لما رتب أمير المؤمنين عمر صلاة التراويح في
المسجد جماعة، وأمر بإسراج المساجد في رمضان، فدخل علي رضي الله عنه فقال:
نور الله عليك قبرك يا ابن الخطاب كما نورت مساجدنا.
وتنوير القبر إنما هو من رحمة الله، فنحن لا ندري، وليس لنا طريق أن ندري
كيف يكون نور القبر؟ إنما هو من رحمة الله بالعبد، وما دام أن قبره روضة من
رياض الجنة فإن الجنة ليس فيها ظلام.
إذاً: يأتيه النور من رحمة الله وجزاءً لحسن عمله، وهو إكرام من الله مهما
يكن له من عمل، وهذا النور إلى أن تقوم الساعة، ولو حسبنا كل أربعة وعشرين
ساعة بدرهم لما وفى حقها، لكنها رحمة الله.
هذا هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل في جهره صلوات الله وسلامه
عليه بالدعاء ليسمعه الحاضرون فيتذكروا ويعلموا أن الإنسان أحوج إلى أن
يكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، وأن أخوف ما يكون
عليه ضيق القبر وظلمته، كي يعمل لذلك اليوم، ويرجو في الله خيراً.
وقد جاء عن بعض السلف أنه كان يداوم على صلاة ركعتين من صلاة الأوابين، وهي
كما قيل ما بين المغرب والعشاء، فكان يصليها بنية أن ينور الله عليه قبره.
ومهما يكن من شيء؛ فقد جاء الحديث يبين حالات غيبية من خصائص ذلك اليوم،
وجاء القرآن {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ، وجاء
الحديث: (إن أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) وتتمة
الآية: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا
وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ}
[الحديد:13] .
إذاً: الله سبحانه وتعالى ينير القبر للمؤمن، ويرزقه نوراً يوم القيامة،
وكذلك تنور مواطن الوضوء، نسأل الله أن يرحمنا جميعاً.
شرح قوله صلى الله
عليه وسلم: (واخلفه في عقبه)
ثم قال: (واخلفه في عقبه) دعا له بشخصه بالرحمة، وبسعة القبر وبنوره، فلا
تحزن - أبا سلمة - فالقبر فسيح، ولا تخف فالقبر مضيء لك لا تخف فإن دعوة
رسول الله لك بالرحمة مستجابة.
وأهلك وعقبك لا تخف عليهم، فإن الله يخلفك فيهم، ومن أخلفه الله في عقبه
فلن يضيعوا.
ولقد خلفه الله في عقبه، نعم.
إنه تصديق للدعوة؛ فإنه لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة،
وقال لها: (قولي: اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها، قالت في
نفسها: ومن سيكون خيراً من أبي سلمة؟) ولكن امتثالاً وطاعةً قالتها،
فأخلفها الله خيراً من أبي سلمة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد حقق بعض هذه الدعوات المباركات؛ فإنه دليل
على تحقيق بقية الدعوات التي صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي
سلمة.
تعامل النبي صلى
الله عليه وسلم مع أصحابه
نظرة سريعة أيضاً في أمر أبي سلمة، لنرى الروابط والصلة الإسلامية والدينية
والروحية بين سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأفراد أمته: لو أن إنساناً قرأ
جميع سجلات التاريخ في العالم، فلا يمكن أن يشم رائحة هذا العطف، ولا هذا
التراحم، والتلاحم، بين قمة الأمة وأفرادها وآحادها، كما نجد هنا من رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا في عيادة المريض من مكارم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان
له خادم يهودي ذمي، وأنه مرض، فكان يذهب إليه ليزوره، ويعرض عليه الإسلام،
ويكرم الله ذلك الغلام بالإسلام بعرض رسول الله عليه فمن يفعل هذا؟! أعتقد
أنه لو لم يأت نص في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، ولا وصية من صحابي
من أصحاب رسول الله بوجوب محبة رسول الله على النفس والمال والولد؛ لكان
حرياً بذلك، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .
كتاب الجنائز [3]
من أصابته مصيبة، أو مات له قريب، فليتذكر مصابه برسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإنها مصيبة عظيمة، وفيها من العبر والعظات ما يذكر المرء بحقارة
الدنيا.
وقد استنبط الفقهاء من حادثة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من
الأحكام الشرعية في أبواب الجنازة.
ومن الأمور التي لابد للمسلم من الاهتمام بها، قضاء دينه قبل موته أو
الوصية بذلك، ودين الميت تتعلق به أحكام وضح الشيخ حفظه الله كثيراً منها
في هذه المادة.
باب تسجية الميت
شرح حديث استحباب
تسجية الميت
عن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي
ببرد حبرة) متفق عليه.
ننتقل إلى شرح هذا الحديث وهو إخبار أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض سجي ببرد حبرة، والتسجية هي:
التغطية، بـ (برد حبرة) : هو نوع من نسج اليمن فيه خطوط، وكانت -كما يقول
بعض العلماء- من أحب أنواع اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسنة في الميت أن يُسجى من قدمه إلى شعره، بحيث يُغطى جميعه؛ وذلك أستر
له وأوقى وأحفظ، سواء سجي ببردٍ، أو سجي بقطن، أو سجي بصوف أو بأي شيء
موجود -ما لم يكن الحرير؛ فإنه محرم على الرجال.
شرح حديث: تقبيل أبي
بكر للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته
وعن عائشة: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم
بعد موته، رواه البخاري.
هذا الأثر ساقه المؤلف رحمه الله في باب الأحكام، وهو يدل على جواز تقبيل
الميت بعد موته، وهذا موقف تتحكم فيه العاطفة؛ لأنها أواخر لحظات الميت من
أهله، والعاطفة تدفع أهل الميت لتوديع صاحبهم؛ فلا مانع أن يقبل الإنسان
الميت في الموضع الذي قبل فيه النبي أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
بل في الموطن هذا -أيضاً- حديثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قبل عثمان
بن مظعون وقال: أخي، وقال: رحمه الله) .
إلخ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه فعل
ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت نصوص في صفة ذلك بأن أبا بكر رضي
الله تعالى عنه قبل بين عينيه ثلاثاً، وقبل رأسه ثلاثاً، إلى غير ذلك.
وهذا المشهد في الواقع لا يكفي أن يمر عليه الإنسان، ولكن لابد أن يعرف
دواعي هذا التقبيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما آنس الوجع، تقول عائشة
(كان صلى الله عليه وسلم يمر بي -أي: في غير نوبتها- فيقول كلمة ينفعني
الله بها -سواء مؤانسة في الدنيا، أو تنبيهاً للآخرة- فمر مرةً فلم يقل
شيئاً، ومر ثانية فلم يقل شيئاً، فأخذت في نفسي؛ فقلت: يا جارية! قدمي
الوسادة عند الباب، وشددت عصابة على رأسي -استدراراً للعطف- فمر فرأيته؛
فقلت: وارأساه؛ فقال: يا عائشة! وارأساه أنا، وتكلم خيراً وذهب، ثم نزل به
المرض، ثم استأذن أن يكون عند عائشة رضي الله تعالى عنها) ثم أمر أبا بكر
أن يصلي بالناس، وقال في أول الأمر: (مروا من حضر للصلاة، فأمروا عمر، ولم
يكن أبو بكر موجوداً، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت عمر حينما
كبر، فرفع الستار وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر -ثلاث مرات- ثم
جاء بعد ذلك أبو بكر، وأخذ يصلي بالناس) كم صلى أبو بكر رضي الله عنه؟
خلاف: فقيل: خمس صلوات، وقيل: عشر صلوات، وقيل: عشرين صلاة، وفي يوم
الإثنين في اليوم الذي قُبض فيه صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر يصلي صلاة
الصبح، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار، وتبسم معجباً بما يراه من
انتظام المسلمين في الصلاة، نعم إنها بمثابة الثمرة لجهاد ظل ثلاثاً وعشرين
سنة، من أول البعثة إلى ذلك التاريخ، وإذا بالأمة قد تقبلت الإسلام، وإذا
بأصحابه قد قاموا بواجبهم على أكمل صورة.
نعي النبي صلى الله
عليه وسلم في سورة النصر
في حجة الوداع نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}
[النصر:1] ، وهنا لفتة بسيطة عن ترتيب السور، لو قرأ.
بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ثم: {إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] لو تأملنا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وجدناها تميز الأمة الإسلامية عن غيرها من
الأمم، ففيهما: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] {وَلا أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] أي: كل في جانب، وبعد التميز ما
كانت النتيجة يأتي نصر الله والفتح.
وتقدم مراراً ما قاله ابن عباس في تفسير سورة النصر لما سأله عمر بحضرة
الشيوخ الكبار من الصحابة؛ فقال: نعي لنا فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو بين أظهرنا، قال: وكيف ذلك؟ قال: قد جاء بالرسالة، فبلغها، وأدى
الأمانة، وانتشر الإسلام، وأصبح الناس يدخلون في الدين أفواجاً، فلم يبق
إلا أن يلقى ربه؛ فيجتهد في عبادته لله، ولذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] ، قال عمر: وأنا أقول ذلك.
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: لما رفع الستار تبسم ضاحكاً
استحساناً لما يفعل المسلمون، فسمع الناس ذلك، فكادوا أن تصيبهم فتنة؛
فرحاً بسماعهم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأشار إليهم أن مكانكم،
وأتموا صلاتهم، وكان آخر عهد العامة به صلى الله عليه وسلم.
موت النبي صلى الله
عليه وسلم كما روته عائشة رضي الله عنها
أما أبو بكر رضي الله تعالى عنه؛ فإنه لما صلى الصبح دخل بيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما أرى رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلا بارئاً، وقال: يا رسول الله! أراك بخير والحمد لله، إن
هذا اليوم يوم بنت خارجة -زوجه التي تزوجها من الأنصار- أفأذهب إليها؟ قال:
نعم) وكانت زوجته رضي الله عنه بالسنح، والسنح من العوالي، وهو في المثلث
ما بين ما يسمى اليوم بمستشفى الزهراء وبلاد السديري، وبلاد الخريجي -في
هذا المثلث تقع السنح- فذهب بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في
ضحى ذلك اليوم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الخبر إلى أبي بكر
فأسرع بالعودة.
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحكي أحداث ذلك اليوم، فتقول:
مات في يومي، في بيتي، لم أظلم فيه أحداً، أي: لم يكن في نوبة واحدة أخرى
وهو عندها في بيتها، مع أنه صلى الله عليه وسلم من وفائه ومكارم أخلاقه لما
اشتد به الأمر، استأذن زوجاته أن يمرض عند عائشة فأذنّ له، وكن يأتين
لزيارته عندها.
وتقول: قُبض في دولتي ما ظلمت فيه أحداً، ومات بين سحري ونحري.
وتذكر قضيتها مع السواك؛ فتقول (سمعته يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق
الأعلى، ويشخص بصره إلى السماء، وقلت: والله لقد خير ولن يختارنا أبداً،
وذلك أنها سمعت منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقول: ما قبض الله نبياً
إلا بعد أن خيره وأراه مصيره، فقالت: والله لقد خُير، ووالله لن يختارنا
بعد ذلك أبداً؛ فعلمت أنه ميت) وهكذا ذكرت وفاته صلى الله عليه وسلم، ومن
أراد زيادة التفصيل فليرجع إلى كتب السيرة في هذا الحدث، وأكثر من ذكر
الأخبار والصور والأحداث ابن كثير في التاريخ.
موقف أبي بكر الصديق
رضي الله عنه من خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
من خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه -من شدة هول المصيبة على المسلمين- أنه
حينما جاء إلى المسجد، ليدخل إلى حجرة عائشة وطريقها من المسجد، وجد الناس
مضطربين، وعمر قائم يقول: والله ما مات رسول الله، وإنه غاب كما غاب موسى
عن قومه وسيرجع، وسيقطع أيدي وأرجل رجالٍ قالوا إنه مات، ولن يموت حتى يقضي
على المنافقين، فلما سمع أبو بكر ذلك ورأى تلك الحالة، ترك الناس ودخل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات: وحوله نسوة، فخمرن
وجوههن، إلا ما كان من عائشة؛ لأنها ابنته، وهذه الكلمة يستفاد منها في
مسألة كون الوجه عورة أو ليس بعورة- فكشف الحبرة ونظر إليه، وقبل الرسول
صلى الله عليه وسلم بين عينيه، ثلاث مرات على الجبين والرأس إلى أن رق ورد
الغطاء كما كان، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أما الميتة التي قد
كتبها الله عليك فقد متها، ودعا بخير.
ثم خرج، فوجد عمر على حاله والسيف بيده، فقال: اجلس يا عمر! فلم يجلس، ثلاث
مرات، فوقف عند المنبر، وقيل: صعد المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
[أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن
الله حي لا يموت، وإنا والله لعلى ما كنا عليه مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فمن بغى أو حدَّثته نفسه شيئاً لنقاتلنه كما قاتلنا مع رسول الله،
ولسيوفنا بأيدينا -هذا موقف الثبات- ثم تلا قوله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] إلى آخر السياق،
فيقول عمر: هي في كتاب الله؟ والله لكأني لم أسمعها إلا اليوم، وعقرتني
قدماي] أي: سقط من شدة ما سمع.
وفي هذا الموقف يقال: هل عمر ينكر الموت؟ الجواب: لا، ولكن عظم عليه المصاب
في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصيبة إذا عظمت أذهلت، وقد يتوقف
العقل -كما يقولون: انشل التفكير- وعمر له نظرة بعيدة فيما يتعلق بنصرة
الدين، ويرى في موت رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة المصاب، يقول بعض
الصحابة -وأظنه أبو سعيد -: [لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
فأنارت واستنار فيها كل شيء، وقُبض فأظلمت وأظلم منها كل شيء، والله لقد
أنكرنا قلوبنا قبل أن نفيض التراب عليه] .
فلا شك أن وجوده صلى الله عليه وسلم في أصحابه له أثر عظيم، فقد كان مرجع
أصحابه في جميع أحوالهم، فهذا حنظلة يأتي ويقول (نافق حنظلة -لماذا؟ - قال:
يا رسول الله نكون عندك فتذكرنا، فتخشع قلوبنا، وتذرف عيوننا، فإذا انقلبنا
إلى أهلينا، وعافسنا أموالنا ذهب عنا كل ذلك، قال: ساعة فساعة، لو دمتم على
ما كنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولزارتكم في بيوتكم) فلا
يمكن للإنسان أن يقوى على تلك الحال.
وهذا عمر لما سمع قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ.
} [آل عمران:144] قال: ما كنت أظن أنها آية من كتاب الله، وما كأني سمعتها
قبل ذلك.
ذهل عنها.
ثم بعد ذلك شرعوا في تجهيزه صلى الله عليه وسلم، وقيل: قد بايع البعض أبا
بكر في ذلك الوقت، ثم كانت سقيفة بني ساعدة، ثم كان تجهيزه صلى الله عليه
وسلم وتتمة البيعة، وهذا خبر طويل، ويهمنا أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن
حاضراً ساعة وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان قد ذهب لزوجه، واستأذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حينما رآه نشطاً، وفي حالة أحسن من ذي قبل، ثم لما
قدم كان منه ما ذكر لنا المؤلف رحمه الله أنه قبّل رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين عينيه.
وهنا يقول الفقهاء: إذا مات الميت، وأراد أهله أن ينظروا إلى وجهه ويقبلوه
فلا يمنعون من ذلك، وخاصة من كان غائباً فحضر، فهذا مشروع من فعله صلى الله
عليه وسلم ومما فعله أبو بكر برسول الله صلى الله عليه وسلم.
باب نفس المؤمن
معلقة بدينه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن
معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وحسنه.
بعد أن بين المؤلف رحمه الله تعالى حق الميت عند احتضاره من تلقينه لا إله
إلا الله، وإغماض بصره، وجواز تقبيله، وقد يذكر بعض الناس استقباله إلى
القبلة، أي: جعل قدميه إلى القبلة، ومنهم من ينكر ذلك، إلى آخر هذا مما
ينبغي أن يعمل للميت في شخصه وذاته انتقل المؤلف رحمه الله إلى حقوقه، وما
ينبغي للأحياء بالنسبة لميتهم، فجاء بهذا الحديث، وهو أنه صلى الله عليه
وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة في دينه)
الخلاف في النفس
فقوله: (نفس المؤمن) يحتار العلماء في مدلول النفس، فمثلاً: {وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
[آل عمران:185] أهو البدن أم البدن مع الروح؟ الله تعالى أعلم، وقوله: {يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ}
[الفجر:27-28] هل ترجع الروح والبدن أم الروح فقط؟ وكذلك السؤال، العذاب،
النعيم هل هي للروح فقط، أم للروح والبدن؟ تجدون الكلام في هذا كثير، ولكن
الذي يعنينا هنا أن المؤمن مرهون بدينه، والتعبير بالنفس ليشمل الروح، وأما
البدن فقد يفنى، ولكن الله سبحانه وتعالى يجمعه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا
تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] .
والرجل الذي أوصى أهله إن هو مات أن يحرقوه، ثم يسحقوه، ثم يأتون به في يوم
شديد الريح، وعلى حافة البحر فيذرونه في الهواء، فجمع الله جسده، وقال له:
ما حملك على هذا؟ قال: يا رب! خوفاً من عذابك، قال: قد غفرت لك، فمهما تنقص
الأرض من أجسادهم يجمعها الله، نحن نعلم شخص المؤمن بروحه وببدنه، ولكن
النقاش قائم فيما يتعلق بعذاب القبر وفي نعيمه إلى أن تقوم الساعة، أعني:
هل هو للروح أم للبدن، ما عدا الشهداء والأنبياء؛ لأن الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم لا تأكل الأرض أجسادهم، وحياتهم في قبورهم فوق مستوى الإدراك،
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج أنه لقي جميع
الأنبياء، بل أكثر من هذا: مر على موسى وهو قائمٌ يصلي في القبر الذي هو
ذارع في ذراع! أي أنه وسع له في قبره! ثم إذا به يلقاه مع الرسل في بيت
المقدس، ثم لقيه في السماء السادسة حينما عرج به، فهل عنده براق آخر وبأي
صفة بروحه فقط وبدنه؟! كان قائماً يصلي ببدنه أمور لا دخل للعقول فيها،
وهذا خصوصية المؤمن؛ أن لديه علوماً كثيرة جداً لا يمكن أن يصل إليها غيره؛
لأنها تأتيه عن الله بالوحي.
في هذا المسجد، وفي هذه الروضة أيام وقعة الحرة سنة ستين من الهجرة، خلت
المدينة، وتعطل الأذان والصلاة ثلاثة أيام في هذا المسجد خوفاً من الجيش
الغازي، إلا سعيد بن المسيب فإنه ما خرج ولا هرب، ولا ترك المسجد، وكان
يأتي وحده، ويجلس بجوار الحجرة الشريفة في الروضة، فيسمع الأذان من الحجرة
في الأوقات الخمسة، فمن الذي كان يؤذن هناك بلال هاجر إلى الشام، وأكرر
وأقول: لا تحاول أن تسمح للعقل أن يتحكم في هذا ويكفيك أن تؤمن وتسلم لذلك،
ولما انتهت الأزمة ورجع الناس، وأذن المؤذن في المسجد اختفى الصوت.
إذاً: هذه أمور لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فنفس المؤمن مرهونة،
وهذا عام لا يخرج منه أحد، حتى المجاهد في سبيل الله يكون شهيداً لكنه
محبوس.
الحث على قضاء الدين
وعدم التهاون به
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً سأله عن الشهادة وما تكفر من
الذنوب فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ قال: نعم، إن
قتلت وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل
الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا
الدين؛ فإن جبريل قال لي ذلك) فلو تأملنا يا إخوان! لوجدنا أن الدنيا
بكاملها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فمؤمن يكون مديناً لمؤمن آخر بعشرة
دراهم، أو درهمين، أو درهم، يحبس فيها؟! يا سبحان الله! إذا كان الأمر كذلك
فينبغي على المؤمن أن يتحرى، وأن يفك نفسه قبل أن يحتاج إلى من يفكه، وإن
كان عاجزاً أوصى.
وتقدم لنا أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على الموتى في أول الأمر، وسؤاله
عن الميت فإن كان عليه دين، قال لأهله: (صلوا عليه) حتى جيء بميت وقالوا:
عليه ديناران، فقال أبو قتادة: هما عليَّ، وتأكد منه صلى الله عليه وسلم
فلما تحملها أبو قتادة صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
الحقوق المتعلقة بتركة الميت خمسة، حق الميت في تجهيز كفنه وما يلزم لذلك
حتى يدفن حقوق دينية، وتنقسم إلى: دين للعبد، ودين لله سبحانه وتعالى،
وسواء كان دين العبد موثقاً برهن أو غير موثق، فعند الشافعي رحمه الله يقدم
على كل شيء سداد دينه، حتى يقدم على تجهيزه، وتجهيزه يكون من بيت مال
المسلمين، وذلك لأنه لو كان في الحياة معدماً ليس معه ما يأكل، فنفقته من
بيت مال المسلمين.
وقال أحمد: يقدم تجهيزه؛ لأنه أحق بنفسه، كما لو كان مفلساً فللغرماء بيع
ما عنده ولكن تترك له ثيابه.
إذاً: قضاء الدين أحق، قال به الشافعي، ابدأ بنفسك قال به أحمد، إلى غير
ذلك، ثم تأتي بقية الحقوق من وصية وميراث.
فيبادر بسداد دينه قبل تجهيزه عند الشافعي، وإذا كان المال موجوداً فباتفاق
الجميع لا نجعله مرهوناً بدينه بل ينادى في الناس: من كان له حق عند فلان
فليتكلم، وهذا الذي ينبغي على أولياء الميت أن يبادروا به ليفكوه.
وقضاء الدين له شواهد كثيرة تؤكد أهميته، فهذا ثابت بن قيس خرج في غزوة كان
يقودها خالد بن الوليد، فجاء إلى رجل وأيقظه من النوم، قال: يا فلان! أنا
فلان فاسمع مني، إن فلاناً مر عليَّ وقد خلع عني درعي، فوضعه في آخر
المعسكر، ووضع عليه برمة، وعلى البرمة رحله، فمر خالداً فليأخذ درعي من
عنده، وإذا جئت إلى المدينة فأخبر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن لفلان
عندي عشرة دراهم في قرن، وعبدي فلان عتيق، فجاء الرجل إلى خالد وأخبره،
فدعا الرجل الذي سماه وقال: أين رحلك؟ قال: في مكان كذا، فأرسل خالد رجلاً
من الحاضرين وقال: اذهب إلى رحل فلان وانظر ماذا تحته، فذهب فوجد الدرع،
فجاء به، فقال خالد: هذه قرينة، فكتب إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه: لقد
حدث كذا وكذا، فاستدعى أبو بكر رضي الله عنه الرجل وسأله: ألك دين عند
فلان؟ قال: بيني وبينه الله، وقد سامحته فيه، قال: أخبرنا ما هو؟ فأخبره
أنه عشرة دراهم، فأمر بسدادها حالاً، ثم دعا العبد فأعتقه.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: وهذا من فقه أبي بكر عنه؛ أن أنفذ
وصية الميت لما رأى من القرينة.
وهكذا أيها الإخوة! ينبغي على الإنسان أن يعنى بنفسه وأن يتخلص من دينه
أولاً وقبل كل شيء، فإذا لم يكن عنده سداد وجب عليه أن يكتب، وهذا من دواعي
كون الوصية واجبة، فإنها تكون واجبة، وتكون مندوبة، فحين تكون هناك ودائع،
كديون ليس فيها سندات، ولا صكوك، ولا شهود، فعليه أن يكتب ذلك ليتولى أهله
إنفاذها.
كتاب الجنائز [4]
من إكرام الميت أن يغسل بعد موته، فلا يدخل قبره إلا طيباً، وهذا التغسيل
واجب على الأحياء بالقدر الذي يطهر به بدن الميت، ويكون على الصفة الواردة
في السنة في الرجل أو المرأة.
غسل الميت المحرم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي سقط
عن راحلته فمات (اغسلوه بماءٍ وسدر وكفنوه في ثوبيه) متفق عليه.
حكم الغسل والتطيب
وتخمير الرأس لمن مات محرماً
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب -كتاب الجنائز- أن رجلاً سقط عن
راحلته فوقصته فمات، فقال صلى الله عليه وسلم (غسلوه وكفنوه ولا تخمروه ولا
تحنطوه وكفنوه في ثوبين) والرواية الأخرى: (في ثوبيه) .
هذا الحديث يسوقه المؤلف رحمه الله تعالى من قصة مشهورة، ذلك أن هذا الرجل
كان محرماً وواقفاً بعرفات، فسقط عن راحلته، فوقصته راحلته -أي: رمحته-
فمات وهو محرم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعامل معاملة الموتى بأن
يغسل ويكفن، ثم نهى عن إلحاق هذا المحرم بعامة الموتى، وألا يقرب بما لا
يجوز للمحرم من جانب الطيب وتخمير الرأس، واستدلوا على أن الوجه من الرأس؛
لأن بعضهم يذكر: (ولا تخمروا رأسه ووجهه) والخلاف في ذلك عن عثمان رضي الله
تعالى عنه أنه كان إذا نام وهو محرم خمر وجهه، والجمهور على أنه لا يخمر
الرأس ولا الوجه، فقد جاء في الحديث: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) وهذه
التتمة تبين العلة في سبب النهي عن تغطية الرأس، وكذلك النهي عن الطِيب كما
ينبغي التنبيه في الوقت الحاضر على ما يقع من حوادث السيارات -عافانا الله
وإياكم- لبعض الحجاج، أو المعتمرين، وينتج عن ذلك الوفاة، فنجد البعض يجهز
هذا الميت المحرم، ثم يكفنه ويغطي الرأس ويحنطه كما يحنط الموتى، وهذا لا
ينبغي؛ لأن من مات قبل أن يقضي نسكه فإنه يعامل معاملة المحرم الحي، من حيث
اجتناب الطيب، وعدم تغطية الرأس.
وقال بعض العلماء: إن هذه إكرامية للمحرم، مثلما أن الشهيد لا يغسل ولا
يذهب عنه الدم؛ لأنه يكون شهادةً له عند الله؛ كما جاء في الحديث: (يبعث
يوم القيامة، اللون لون الدم والريح ريح المسك) فقالوا كذلك من مات متلبساً
بعبادة فإنه يبعث يوم القيامة عليه أثر تلك العبادة، والله تعالى أعلم.
إذاً من مات وهو محرم يغسل ويكفن.
صفة الكفن لمن مات
محرماً
قال في الحديث: (وكفنوه في ثوبيه) بالإضافة إليه، والمحرم ثوباه الإزار
والرداء، فبدأ المؤلف أيضاً ليبين بأنه يمكن الاكتفاء في الكفن بثوبين،
وكلمة (ثوب) هنا مجاز، ولكن قالوا: هذا لباس المحرم، ويكفن فيهما ما دام
يمكن ستره في ذلك من قدمه إلى رقبته.
وجاء في رواية أخرى: (في ثوبين) وروايتان: (في ثوبين) ، (وفي ثوبيه) لا
مغايرة بينهما، ولكن (ثوبيه) إشعار بأنه يكفن في هذا اللباس الذي خالط
جزءاً من تلك العبادة، فهو أولى من ثوب جديد لم يشارك في تلك العبادة بشيء،
كما في وصية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن يكفن في ثوبه، ويؤتى بثوبين
آخرين ويكفن فيها، فقالوا: ربما أوصى بذلك لخصوصيةٍ في هذا الثوب، إما أن
يكون قد شهد العبادات معه، وإما أنه كان قد أعطاه إياه رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيكون تبركاً، أو غير ذلك على ما سيأتي الكلام عنده.
ويستدل أيضاً بقوله: (بثوبيه) أنه كفن في ثوبين ليس فيها قميص، ولا عمامة،
كما جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم كفن في
ثلاثة أثواب، ليس فيها قميصٌ ولا عمامة، وسيأتي الكلام عليه، (ليس فيها)
أي: ليس في العدد ثلاث وتكون العمامة والقميص زيادة عن الثلاث، ولكن ليست
معدودة فيها، أو ليست فيها بالكلية، فلم يعمم ولم يلبس قميصاً، بل في ثلاثة
أثواب.
وسيأتي بيان الكفن في ثلاثة أثواب أو في أكثر من ذلك عند النصوص الأخرى إن
شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.
المحرم الميت يبعث ملبياً يوم القيامة
في الحديث أن هذا الميت قد مات وهو متلبس بهذه العبادة، فإذا بعث يوم
القيامة بُعث ملبياً، وفي ذلك إشعار بأنه إظهار لعمله يكون ذلك كرامةً له،
وامتداداً لعمله في الدنيا، ويكون في ذلك إمتاعاً له بأنه يلبي كما كان
يلبي في الدنيا.
وقد يقول قائل: التلبية عبادة، والعبادة تكليف، والآخرة ليست فيها عبادة
ولا تكليف، فكيف يلبي؟ ويجاب عن ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى أهل
الجنة في الجنة ما تشتهيه الأنفس، فلو أن إنساناً في الجنة اشتهى أن يصلي
ركعتين فإن الله يعطيه الصلاة؛ لأنه من توابع إرضائه وإكرامه لعبده، ولو أن
إنساناً تمنى أو اشتهى أن يقرأ القرآن فإن الله يعطيه أيضاً قراءة القرآن،
وقد يؤيد ذلك ما جاء في الحديث: (يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق) (اقرأ)
(ارق) هذا تكليف، لكن الغرض منه ليس القراءة، ولكن إلى حيث ينتهي في قراءته
ينتهي رقيه في درجاته في الجنة.
إذاً قد تكون هناك قراءة قرآن أو صلاة في الجنة، لا على التكليف بالثواب
والعقاب في الامتناع، ولكن تتمةً أو إرضاءً أو إكراماً أو تحقيقاً لما
تشتهيه الأنفس، حتى قال بعض العلماء: لو اشتهى الفلاحون أن يزرعوا لمكَّنهم
الله من أن يزرعوا ويحصدوا.
إلى غير ذلك من الأقوال.
إذاً المحرم يبعث يوم القيامة ملبياً إكراماً له وإتماماً لعمله وقد يكون
إرضاءً له فيما تشتهيه نفسه أن يكمل نسكه، وإن كانت بقية المناسك قد انتهت،
وليس هناك مكانٌ لها.
والله تعالى أعلم.
تغسيل رسول الله
بعدما قبض
اختلاف الصحابة في
تجريده من ثيابه أثناء غسله عليه السلام
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه
وسلم قالوا: والله ما ندري نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد
موتانا أم لا؟ الحديث) رواه أحمد وأبو داود.
يأتي بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بأنهم لما أرادوا غسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي بعدما قُبض صلى الله عليه وسلم- وأخبرتنا
رضي الله تعالى عنها بأنه خُير فقال: (إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق
الأعلى) فالصحابة عندما أرادوا أن يغسلِّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ترددوا فيما بينهم، فهم يعلمون من حالة الموتى أن يجردوا من الثياب
ويغسلوا، وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجي ببرد حبرة -والتسجية:
التغطية من الرأس إلى الظفر- والتسجية عادةً تكون بعد تجريد الميت من ثيابه
العادية، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجردوه في تلك الحالة، بل
سجي مع ثيابه.
والصحابة يعلمون أن من حالات الموتى عموماً أن يجردوا ويغسلوا، ومع التجريد
يجعل على العورة ما يسترها، وكان الحاضرون من ذوي القرابة المعروفون
بالأمانة، … إلخ، فتهيبوا أن يجردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل سنة نبينا كسنة بقية الموتى في التجريد والتغسيل، فنغسله كما نغسل
الموتى؟ إن كان الغسل للنظافة فهو أنظف الناس، وإن كان للطهارة فهو أطهر
الخلق، وإن إلخ، أم ماذا؟ هل له خصوصية؟ فترددوا؛ لأنه ليس عندهم سنة في
ذلك ولم يسبق لها نظائر، ولم يسبق لهم من سمع من رسول الله صلى الله عليه
وسلم شيئاً يخبرهم به.
والواقع -يا إخوان- أنه وقع للصحابة رضوان الله تعالى عليهم في ذلك اليوم
اختلافٌ وترددٌ في ثلاث حالات: الحالة الأولى: عندما اختلف الصحابة في
تجريد الرسول من ملابسه فجاءهم الحل كما يقول الحديث: (فألقى الله على
الحاضرين جميعاً النعاس، ولم يبق أحد منهم إلا وذقنه في حجره -ناموا
جميعاً، سبحان الله! - ثم سمعوا من يخاطبهم من جانب البيت ولا يعلمون من
هو) هل نستطيع أن نفسر هذا أم لا نستطيع؟ لا شك أنه ملكٌ أرسله الله سبحانه
وتعالى يخبرهم، فسمعوا من يقول لهم ولم يعلموا من هو: (غسلوا رسول الله ولا
تجردوه) كان من الممكن أن يعفى من التغسيل كما يعفى الشهداء؛ لأن الشهيد لا
يغسل، وهو سيدهم وإمامهم، ولكن لما التبس الأمر جاء بالأمرين: الغسل، وعدم
التجريد: (غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجردوه) فغسل صلى الله
عليه وسلم من فوق القميص، والمغسل يحرك يده فوق القميص، وغسله علي، والفضل
بن العباس، وأسامة بن زيد، وكان العباس حاضراً ولم يشارك، وهؤلاء خاصته وآل
بيته، فغسل صلوات الله وسلامه عليه من فوق القميص دون أن يجردوه، هذه
واحدة.
اختلاف الصحابة في
موضع دفنه عليه السلام
الحالة الثانية: لما أرادوا مكان القبر قالوا: أين ندفن رسول الله؟ هل نرده
إلى مسقط رأسه مكة عند إسماعيل، أو نرده إلى الشام عند أبيه إبراهيم، أو
نرفعه إلى مقبرة موتى المسلمين في البقيع، أم ماذا نفعل؟ حتى قال الصديق
رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض الله روح
نبي إلا في المكان الذي يدفن فيه) يعني: إذا أريد دفنه لا ينقل من مكان
موته إلى مكان آخر؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختار له المكان الذي يدفن فيه
ويقبض روحه فيه، فعزموا على أن يدفن في مكانه الذي قبض فيه وهو حجرة عائشة
رضي الله تعالى عنها.
اختلاف الصحابة في
نوع دفنه عليه السلام
الحالة الثالثة: عرفنا كيفية الغسل، وتعين مكان الدفن، بقي نوع الدفن، وكان
في المدينة طريقتان: طريقة الشق، وطريقة اللحد.
والشق هو: أن يحفر وينزل بعمق في الأرض إلى مستوى -كما يقولون- صدر الرجل
العادي، فيوضع الميت في هذا الشق، ويبنى عليه باللبن على هيئة العقود? ثم
يهال التراب فوق تلك اللبنات.
أما اللحد: فبعد أن ينزلوا بالحفر إلى المستوى المطلوب يأتون إلى أحد
الجانبين في القبر -وغالباً يوضع الميت على شقه الأيمن ما بين الغرب والشرق
في المدينة والقبلة أمامه- فيحفرون من جانب القبر الشمالي بقدر ما يسع جسم
الميت، ويدخلونه تحت هذا اللحد المائل، وإذا ما أدخلوه في هذا اللحد وصار
مسامتاً لحافة القبر في الشق، سدوا هذا اللحد باللبن، وأصبح الشق خالياً
والميت تحت الأرض من جهة ما ألحدوا له، ثم أهالوا التراب في الحفرة على ما
كان.
وهنا قالوا: ماذا نفعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشق له شقاً، أم
نلحد له لحداً؟ لأن الحالتين كانتا موجودتين في المدينة، بعد أن فكروا في
هذا -وليس عندهم أيضاً خبر يقفون عليه ليعملوا بمقتضاه- قالوا: أرسلوا
رسولاً للذي يشق ويدفن في الشق، وأرسلوا رسولاً للذي يلحد ويدفن في اللحد،
أيهما جاء أولاً يبدأ في الحفر، فجاء صاحب اللحد، فلحدوا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم.
تعيين مكان قبره
عليه السلام
وإلى هنا -أيها الإخوة- يكاد يكون إجماع الإجماع -يعني فوق الإجماع بإجماعٍ
آخر- تعيين مكان قبره صلى الله عليه وسلم، ولذا يقال: لا يُعلم على سبيل
الجزم على وجه الأرض قبرٌ معين بذاته سوى قبر النبي صلى الله عليه وسلم،
وجميع الأنبياء وجميع الرسل لا يُعلم بالتحديد، قد يقال: هذا قبر الخليل،
وهذا قبر يوسف، وهذا قبر فلان، وهذا قبر كذا، لكن على سبيل التعيين لا على
سبيل اليقين، بخلاف قبره صلى الله عليه وسلم فهو على التحديد يقيناً في
حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.
ثم جاء الصديق رضي الله تعالى عنه، وجاء الفاروق رضي الله تعالى عنه وعُينت
أيضاً مواقع القبرين الشريفين من قبره صلى الله عليه وسلم، من أن قبر أبي
بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل إلى جهة الشرق بحيث يكون رأس أبي
بكر عند كتف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عمر وراء أبي بكر ووضع رأس عمر
تحت كتف أبي بكر بقليل.
وضعوا بهذا الترتيب حتى لا يكونوا على قدم المساواة، وبهذا تتعين هذه
القبور الثلاثة يقيناً جزماً بدون أي ريبٍ ولا شك.
حكم تغسيل الميت
يهمنا في موضوع الباب: أنهم عندما سمعوا من يقول لهم (غسلوه ولا تجردوه)
فأصبح الغسل هنا واجباً، وهو فرض كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين،
وقد نجد من يورد بأن الغسل سنة وليس بواجب، ولكن كما قال بعض العلماء: إذا
لم يكن واجباً فلماذا هو سنة؟ قالوا: للتطهير والتنظيف -على ما سيأتي
(وجعلنا فيه سدراً وكافوراً) ولكن يقول بعضهم: إذا كان سيد الطاهرين، وسيد
الطيبين قد غسل ما قيمة الكلام والخلاف في ذلك؟ إذاً: غسل الميت واجبٌ وهو
فرضٌ كفائي إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.
أولى الناس بتغسيل
الميت
من أولى الناس بتغسيل الميت: نجد هناك من يقول: إن كان قد أوصى بأن يغسله
شخصٌ بعينه لا مانع، والفكرة العامة أن يكون أولى الناس به آمنهم وأتقاهم؛
لأن الميت بين يديه أمانة، وقد يوجد من الميت ما لا يحب الميت لو كان حياً
أن يرى منه، فينبغي على من يغسل الميت أن يكون أميناً لا يفشي سر الميت،
وهذا لا يكون إلا ممن كان أولى الناس به.
ومن الناحية التكليفية، أو ناحية الجواز قالوا: أولى الناس بتغسيل الميت
الزوجان أحدهما للآخر، الزوج يغسل زوجته، والزوجة تغسل زوجها، على خلاف عند
الأحناف، وأما الحنابلة فقالوا: هو يغسلها وهي لا تغسله؛ لأنها لو قدر
بأنها في الحياة وفارقها فإنها في العدة، وفي العدة تكون تابعة للزوجية،
والآخرون قالوا: العكس، والأحناف قالوا: إنه بالموت انقطعت الصلة، وأجابوا
عن ذلك بأجوبة نقلية وعقلية.
أما انقطاع الصلة فليس بصحيح؛ لأن الميراث عقب الوفاة بصلة الزوجية، ولأنه
جاء عنه صلى الله عليه وسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها
قالت: (رجع النبي صلى الله عليه وسلم من جنازة بالبقيع فمر عليَّ فقلت:
وارأساه، قال: بل أنا يا عائشة وارأساه، وماذا عليكِ لو مت قبلي فقمتُ
عليكِ فغسلتكِ وكفنتكِ وصليتُ عليكِ ودفنتكِ) فهذا نصٌ صحيح صريح في أنه
صلى الله عليه وسلم يغسل زوجه، وجاء عنها رضي الله تعالى عنها قالت: (لو
استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه) .
وجاء عن أسماء بنت عميس زوج أبي بكر رضي الله تعالى عنهما لما توفي وغسلته
هي وخرجت على الناس في يومٍ شديد البرد فقالت: (ماذا ترون، هل عليَّ من
غسلٍ وقد غسلت أبا بكر؟ قالوا: لا.
ليس بواجبٍ عليكِ) وقد جاء في ذلك حديث متكلم فيه: (من غسل ميتاً فليغتسل،
ومن حمله فليتوضأ) فـ أسماء أخبرت بأنها غسلت زوجها، وهذه أم المؤمنين
تقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا زوجاته) وهو
صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة (وماذا عليكِ لو متِ قبلي وقمتُ عليكِ
فغسلتكِ وكفنتكِ وصليتُ عليكِ) فهذا منه صلى الله عليه وسلم لزوجه.
إذاً: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى غسله خواص آل بيته.
ابنا عمه علي رضي الله تعالى عنه، والفضل، وأسامة حِب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وابن حبه، والعباس عمه كان حاضراً، ولهذا قالوا: يغسل الميت أولى
الناس به، وإذا لم يكن من أهل الميت من يحسن تغسيل الميت؛ لأنه في بعض
البلاد لا تجد في القرية بكاملها من يحسن تغسيل الميت إلا شخصاً واحداً أو
شخصين، والبقية لو مات عندهم ميت لا يعرفون كيف يغسلونه، وهذه من المشاكل.
إذاً: يتعين على كل مسلم ما دام أنه واجب كفائي أن يتعلم تغسيل الميت؛ لأنه
قد يصادف أنك تجد ميتاً فيكون متعين عليك أنت غسله، أو كان هناك ميت ولا
أحد يحسن التغسيل، فكن أنت متعلماً عارفاً، وعلى هذا سيأتي بيان كيفية
تغسيل الميت في تغسيل ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
باب كيفية غسل الميت
.
عدد غسلات الميت
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن
نغسل ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك
بماءٍ وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور) يأتي المؤلف رحمه
الله -بعدما قدم لنا ما يتعلق بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم في غسله وعدم
تجريده- بما يتعلق بغسل عامة المسلمين، ويأتي بحديث أم عطية رضي الله تعالى
عنها، قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته) .
فهل معنى قولها: (دخل علينا) أي: عندها، ينظر إليها وهي تغسل؟! لا، بل معنى
(دخل علينا) يعني البيت الذي نحن فيه، فقال لهن: (اغسلنها -كم؟ - ثلاثاً،
أو خمساً، أو سبعاً إن رأيتن ذلك) وهي بعض الروايات أو أكثرها، وهي دليل
بعض العلماء حيث يقول: السنة في تغسيل الميت هو تغسيله ثلاثاً، وهذه السنة
في الطهارة للحي، وسنة الوضوء التثليث، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه
توضأ فغسل مرةً مرة -غسل كفيه مرة، وتمضمض مرة، واستنشق مرة، وغسل وجهه
مرة، ويده اليمنى مرة… وهكذا- وقال: هذا الوضوء الذي لا يقبل الله صلاةً
بدونه.
-فلا يصح الوضوء بأقل من مرة- ثم توضأ فغسل مرتين مرتين، ثم قال: هذا وضوء
الأنبياء قبلي، ثم توضأ وغسل ثلاثة، فقال: هذه سنتي) فتثليث الغسل في
الوضوء وغسل الجنابة بأن يفرغ الماء عليه ثلاث مرات -على ما جاء في تفسير
الغسل فيبدأ بما ينبغي إزالته، ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، ثم يفيض الماء على
شقه الأيمن ثم الأيسر… إلخ ثلاث مرات.
وهنا قال لـ أم عطية ومن معها: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً) .
يقول بعض العلماء: خمسة أو سبعة تكريم أو أفضلية أو موجب، قالوا: لقد قال
صلى الله عليه وسلم: (إن رأيتن) ، كأن الزيادة عن الثلاث مرهونة برأي من
يتولى التغسيل، على ما يطرأ له حتى يزيد، المهم أن يكون الغسل وتراً:
ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو تسعاً، قالوا: إذا غسلوا الميت ثلاثاً ثم
كان في حالة ربما خرج منه شيء يحتاج إلى غسل؛ فيعيدون الغسل ويزيدون رابعاً
وخامساً؛ فإذا انتهوا ثم رأوا شيئاً آخر، ورأوا أن يزيدوا في الغسل إكراماً
للميت وأداءً للواجب، زادوا غسله وتراً بحيث تصير سبعاً… وهكذا، لقوله: (إن
رأيتن ذلك) .
الحد الأدنى للغسل
إذاً: الحد الأدنى كما يقول بعض العلماء: ما يؤدي الواجب غسله وهو واحدة،
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا (اغسلنها ثلاثاً) فنقول: ثلاثاً،
وجعل الزيادة عن الثلاث لرأي الذين يقومون بعملية الغسل، إذا اقتضى حال
الميت أن يزاد في غسله مرة أو مرتين زيادة عن الثلاث إلى خمس أو سبع، ولا
يزيدون عن السبع كما يقول البعض، ثم بعد ذلك يتولون ويدبرون أمرهم بما يمكن
عمله.
وللعلماء والفقهاء تفصيلات فمن أراد الاستزادة فليرجع لها في كتب الفقه.
واستعمال الطين الحلو، والقطن، والكافور.
إلى غير ذلك في تلك المواطن.
مادة السدر وحكم قلع
شجرها
ثم قال صلى الله عليه وسلم (واجعلن فيه سدراً) السدر: هو شجر النبق،
والمراد بالسدر الورق، وهنا تكلم الفقهاء عن حكم الماء الذي خلط بالسدر،
وكيف نعمل بالسدر؟ فبعضهم قال: يفرك باليد حتى يكسر، وبعضهم قال: يدق،
وبعضهم قال: يجعل في الماء ويخبط خبطاً شديداً، والسدر من طبيعته أن يخرج
رغوة، وهو من أدوات التنظيف، وبعضهم يقول: السدر فيه بركة، وجاء عند ابن
ماجة النهي عن قلع شجرة السدر، إلى غير ذلك.
بعض خصائص السدر
ذكر ابن القيم رحمه الله في باب فك السحر أن من أخذ عن زوجه أو ظهر به سحرٌ
فليأخذ سبع ورقات من سدرٍ ويدقها بين حجرين، ثم يجعلها في ماء ويخبطها
ويغتسل به، ثم يكرر ذلك من ثلاث إلى سبع وسوف يفك الله عنه السحر.
إذاً: للسدر خصائص.
هل الماء المخلوط
بسدر يجزئ في الوضوء؟
وأما كلام الفقهاء عن جعل السدر في الماء، أي: الماء إذا كان مخالطاً هل
يرفع حدثاً؟ أو أنه يصبح متغيراً طاهراً غير طهور؟ ويقولون في الماء
الطهور: هو ما بقي على خلقته في لونه وطعمه وريحه، ونحب أن نقول للإخوان
بأن أوراق السدر لا يغير صفة من صفات الماء، لا ريح له، ولا طعم فيه، ولا
لون.
قاعدة حول تغير
الماء بالمجاورة أو المخالطة
إذاً فالسدر من المجاور لا المخالط، والفقهاء عندهم قاعدة: إذا تغير الماء
بمجاور فلا يسلب الماء حكم الطهورية، وإذا تغير بمخالط سلبه، ومثال هذه
المجاورة: لو أن هناك -كما يقولون- غديراً صغيراً وعليه أشجار، فتساقط ورق
الشجر فيه، فتعفن، هذا الورق لم يخالط الماء ولم يمتزج بذرات قطرات الماء،
ولكنه بجواره فتغير برائحته، قالوا: هذا متغير بمجاور وليس بمخالط فلا
يسلبه الطهورية.
وقالوا كذلك في النفط، لو وقع القاز في الماء فلا يسلبه الطهورية، وكذلك لو
وقع الأزفلت، وكذلك الكافور، فإنه لا يذوب في الماء، وجميع الزيوت لا تذوب
في الماء، إنما تكون على وجهه، أو في جانب من جوانبه، ولا تمتزج بالماء
أبداً، إلا بطريقة معينة يعرفها أهل الاختصاص في الصيدلة لها طريق خاص،
فعلى هذا قالوا: الماء المتغير بمجاور لا يسلبه الطهورية.
إذاً: النقاش في كون السدر في الماء عند غسل الميت يسلبه الطهورية ويجعل
الغسل للنظافة لا محل له أبداً, فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنظف الناس،
وقد غسل على تلك الحال.
وهناك من يقول: الأمر تعبدي؛ لأننا لا ندري ما الحكمة، وكونه يقول (اجعلن
في الأخيرة كافوراً) لماذا خص الكافور بالأخيرة؟ الآن له رائحة؟ ورائحته
نفاذة قوية، كما يقولون: عطر طيار يطير في الهواء، لو تركت قطعة دهن
الكافور معراة للهواء فإنك بعد فترة لا تحصلها، مثل (النفثالين) الذي
يضعونه لحفظ الصوف، لو تركته لتبخر مع الهواء، فيقول بعض العلماء: إنما جعل
في الأخيرة بعد أن استوفى الغسل المشروع بغسلات ماء طهور.
وبعضهم يقول: لأن الكافور له خصوصية تتناسب مع حالة الميت، منها: أنه يلين
الجلد، ومنها: أنه يحفظ الجلد من التأثر، ومنها: أن رائحته لا تقوى عليها
الحشرات، فلو تأخر دفن الميت وقد جعل في تغسيله كافور فلا تقربه الحشرات،
لا نمل ولا ذر ولا شيء يقترب منه؛ لأن رائحة الكافور تطردها.
إلى غير ذلك من التعليلات التي من أجلها جعل الكافور في غسل الميت وفي
الغسلة الأخيرة.
والله تعالى أعلم.
نقض شعر الميت إذا
كان له ظفائر
ثم قالت (ثم ظفرنا شعرها ثلاثة قرون) وفي بعض الروايات (فنقضنا شعرها) أي:
أنه كان مظفوراً، وصار شعراً مرسلاً، وبعد أن غسِّل وسرِّح ورجِّل ظفرنه
ثلاث ظفائر.
فهنا يقول العلماء: إذا كان الميت رجلاً أو امرأة وله شعر مظفر -بعض أهل
البادية قد يعنى بشعره- وكان له ظفيرتان كظفيرتي المرأة، أو ظفيرة واحدة،
فإذا كان للمرأة شعرٌ مسترسل ومظفر نقض، ومن المعلوم أنه في غسل المرأة من
الجنابة لا تنقض المظفور، بل تجمعه بين كفيها وتضغطه حتى يتخلل الماء بين
الشعر، أما في غسل الحيض فإنها تنقضه.
وهنا تقول أم عطية رضي الله تعالى عنها: (فنقضنا شعرها) .
إذاً: غسل الميت آكد من غسل الجنابة؛ لأن نقض الشعر لا يكون في غسل
الجنابة، ولكن يكون في غسل الحيض.
تظفير شعر المرأة
بعد غسلها
ثم بعد ذلك ظفرنه، وهذا يذكرونه خلافاً للأحناف الذين يقولون: إنه لا
يظفَّر بعد الغسل، ويلقى على وضعه الطبيعي من جوانبها، أو من خلفها، أو من
أمامها؛ حتى ولو على وجهها، ويقولون: هذا فعل صحابية ولا نص عليه من رسول
الله، ولكن يقال: لم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وكذلك
الحاضرات ما أنكرن عليها، وإذا كان الأمر يدور بين اجتهاد شخصٍ عادي، وبين
فعل صحابية أو صحابيات، فالأولى الأخذ بقول الصحابية أو الصحابيات، كما هو
معلوم عند الأصوليين، أن قول الصحابي إذا لم يوجد له مخالف فهو أصل يتبع.
والله تعالى أعلم.
استحباب البداية في
غسل الميت بالميامن ومواضع الوضوء
وقال في الحديث (ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها) التيامن مطلوب في كل
شيء، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي تعالى عنها (أنه صلى الله عليه
وسلم كان يعجبه التيامن في كل شيء) فكان يتيامن في لبس النعلين، ويتيامن في
لبس القميص فيدخل يده اليمنى، ويتيامن في أول نومه فينام على شقه الأيمن،
ويتيامن في أكله الطعام وتناول الشراب بيده اليمنى، ثم قالت (وفي شأنه كله)
وهنا قال صلى الله عليه وسلم (ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها) وهذه
سنة -أيضاً- في غسل الجنابة والحيض، فقد تقدم معنا في باب الغسل أن الإنسان
لا يفيض الماء على جسمه مرة واحدة، ولكن يبدأ -كما في غسل الجنابة- بغسل
فرجه، ثم يضرب يده بالتراب في الأرض، ثم يتوضأ، وجاء في بعض الروايات
(وضوءه للصلاة) وجاء في بعض الروايات: ويؤخر غسل قدميه حتى ينتهي من إفاضة
الماء، ثم يتحول من مكانه الذي هو فيه إلى مكان آخر؛ فيغسل قدميه.
إذاً: الوضوء مقدمةٌ للغسل، فهنا أمرهن أن يوضئنها، أي: يبدأن في تغسيلها
بالوضوء، وعند الغسل يبدأن بالميامن، ثم يكملن الغسل على ما بين لهن،
ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر، قال: (إن رأيتن ذلك) .
ثم قال (فإذا فرغتن فآذنني) من آذن يؤذن، والإذن كله راجع في اللغة إلى
مادة الأذن؛ لأن اللغة أول ما توضع توضع للمحسوسات المادية، ثم تنقل إلى
المعنويات.
قالت (فلما فرغنا آذناه، حقوه) أي: الإزار الذي على الحقو، والحقو هكذا،
محل عقد الإزار، ثم قال (أشعرنها به) وهذا منه صلى الله عليه وسلم عطفاً
عليها، وشفقة بها، والتماساً لبركته معها؛ لأن هذا الحقو قد خالطه، وقد
يكون مس من عرقه أو غير ذلك.
إلخ، على ما سيأتي في أمر بن أبي، وهذه ابنته رضي الله تعالى عنها زينب،
وعطفه على ابنته لا شك فيه، ففعلن وأشعرنها، أي: اللباس يكون قسمين: شعارٌ
ودثار، كما جاء في حديث الأنصار لما رجعوا من فتح مكة، وقسم النبي صلى الله
عليه وسلم الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فبلغته
مقالة؛ فجمعهم، ثم قال (ما مقالة بلغتني عنكم يا معشر الأنصار؟! أتأخذون
عليَّ في لعاعة من الدنيا أتألف بها قلوب أقوامٍ، إني لأعطي أقواماً
أتألفهم على الإسلام، وأترك أقواماً لما وقر في قلوبهم من الإيمان، والله
يا معشر الأنصار! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، الأنصار شعار، والناس
دثار، لو سلك الناس وادياً وطريقاً، وسلك الأنصار وادياً وطريقاً، لسلكت
وادي الأنصار وطريقها) فقوله صلى الله عليه وسلم: (الأنصار شعار) .
الشعار: هو الثوب الذي يلاصق شعر الجلد على الإنسان، والدثار هو ما يتدثر
به فوق الثياب، كالمشلح، أو العباية، أو البالطوا، أو أي شيء آخر، هذا دثار
يتدثر به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] أي:
المتغطي، والدثار هو الغطاء فوق اللباس.
فأشعرنها إياه، وكما أشرنا أن هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته
ورغبته في إنالة ابنته البركة.
كتاب الجنائز [5]
من الآداب الشرعية الواجبة على الأحياء للميت تكفينه في أثواب تستره، على
تفصيل فيما يكون للرجل وما يكون للمرأة، مع استحباب أن تكون بيضاء واسعة
بدون مغالاة ولا مباهاة.
كفن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض
صفة كفن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعن عائشة رضي الله عنها قالت (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة
أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة) متفق عليه.
الفرق بين الثوب
والقميص
هذا شروع من المؤلف في بيان كيفية الكفن للميت، وبدأ ببيان كفن النبي صلى
الله عليه وسلم، وجاء بحديث أعرف الناس بذلك، وهي أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها قالت (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ
سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة) ثلاثة أثواب ثم بعد ذلك تقول:
(ليس فيها قميص) مما يدل على أن المراد بالثوب هو اللفافة التي يلف فيها
الميت، والقميص هو ما كان مخيط الطرفين، أي: لو جئت بطرفٍ من القماش على ما
هو معروف الآن، القماش الأبيض عرضه -كما يقال: ياردة (تسعون سنتيمتراً) ،
أو عرضه متر، وأخذت منه بقدر طول الإنسان مرتين، أي: أخذت ثلاثة أمتار
وثنيت طرفيها معاً ثم جئت في الوسط حيث ثنيت وفتحت فتحة تُدخل الرأس،
فأدخلت رأسك -وأنت إنسان على قيد الحياة- وصار النصف أمامك والنصف وراءك،
إذا خطت الطرفين من اليمين والطرفين من اليسار، وتركت موضع اليدين سمي
قميصاً، فإذا لم يكن مخيطاً لا يسمى قميصاً، فالقميص هو ما كان مخيط
الطرفين.
والأثواب: يمكن أن يقال في كل قطعة من لباس المحرم، -الإزار والرداء- أنه
ثوب، كما تقدم لنا في الحديث في الرجل الذي سقط عن راحلته فوقصته فقال صلى
الله عليه وسلم: (كفنوه في ثوبيه) وثوباه وهو محرم هما عبارة عن الإزار
والرداء، أما ما يطلق الآن على الثوب الذي يلبسه عموم الناس فهذا اصطلاح
آخر.
قميص طويل، وعند بعض الناس قميص قصير قميص نصف كم قميص كم كامل، فالقميص
لغة هو ما كان مخيط الطرفين، وأصبح محيطاً بالجسم بالخياطة.
كيفية تكفين الميت
وهنا الثلاثة الأثواب التي تقول عنها أم المؤمنين رضي الله عنها ليس فيها
مخيط، لا قميص ولا سروال ولا شيء من ذلك، كيف تكون الثلاثة الأثواب.
يقول ابن قدامة في المغني: يؤتى بالثلاثة الأثواب بعد أن ينتهى من تغسيل
الميت، ومما ينبغي التنبيه عليه أن يغسل الميت على شيء مرتفع، لا على الأرض
مباشرة، فإذا ما غسل جفف أو نشف، وكذلك يحسن ألا يغسل تحت السماء في الكشف
مباشرة، بل يكون تحت سقف في غرفة أو في صالة، وإذا لم يكن ففي خيمة، وإذا
لم يكن ظلل بغطاء يحجب بينه وبين السماء، فلا يكون مكشوفاً إلى السماء
مباشرة، فإذا ما غُسِّل -على طريقة الغسل التي لها تفصيلات عديدة لم
نذكرها، وهي مدونة في كتب الفقه- وانتهوا من تغسيله، نشفوه، فإذا ما انتهوا
من تنشيفه، وكان المكان الذي هو عليه مبللاً بسبب الغسل، فإنه يوضع في مكان
آخر أو يفرش له فراش في الأرض، ويؤتى بالثلاثة الأثواب، فإن كانت متفاضلة
-أي: بعضها أفضل من بعض في الجودة- يجعل الأفضل منها أولاً، ثم يؤتى
بالثاني فوقه، ثم يؤتى بالثالث فوقه، فتكون الأثواب الثلاثة قد رصَّت على
المكان الذي ينقل إليه، أو على فراش على الأرض، وكل واحد من الثلاثة يسمى
ثوباً.
فينقل الميت من موضع غسله، إلى هذه الأثواب الثلاثة، فتؤخذ اللفافة الأولى
-أي: الثوب الأول الذي هو ثالث الأثواب من جهة الأخذ- فيثنى عليه الطرفان،
فما كان في جهة اليمين، يؤتى به إلى اليسار، وما كان في اليسار يؤتى به إلى
اليمين، ويصبح ملفوفاً في الثوب الأول، ثم يجعل فوق هذا الثوب الأول حنوط
وطيب وكافور، ثم يؤخذ الثوب الثاني أي الوسط فيفعل به كذلك أيضاً، القسم
الذي إلى اليمين يجعل إلى اليسار، والقسم الذي على اليسار يجعل إلى اليمين،
وتكون تلك الأثواب الثلاثة زائدة عن طول الميت تتجاوز القدمين وتتجاوز
الرأس، ويكون الجزء المتجاوز للرأس أطول من الجزء المتجاوز للقدمين، فلو
جعلنا زيادة على القدمين عشرين سنتيمتراً، نجعل أربعين سنتيمتراً من جهة
الرأس، ونأتي أيضاً بالحنوط ونجعله على اللفافة الثانية الذي هو الثوب
الوسط، ثم يؤتى باللفافة الثالثة وهي الأخيرة وتكون أفضلها وأحسنها أي موضع
تجملٍ للكفن، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (من كفن أخاه فليحسن تكفينه)
وجاء في هذا (من كفن مسلماً كان كمن كساه إلى يوم القيامة) وعلى هذا يؤخذ
الثوب الثالث الذي هو الأخير، ويفعل به كذلك ويلف على الميت الطرف الأيمن
يرفع ويجعل إلى اليسار، والطرف الأيسر يرفع ويجعل إلى جهة اليمين.
إلى الآن أصبح الميت مندرجاً في ثلاثة أثواب، يؤتى بعد ذلك إلى جهة القدمين
فتجمع تلك الزوائد بعضها فوق بعض، وقيل: تربط، وقيل: تلف، ثم توضع تحت
القدمين، وكذلك من جهة الرأس، تجمع تلك الزوائد بعضها فوق بعض، وتلف من عند
الرأس، وتثنى تحت رأسه، أو تربط حتى لا تنفك، حينما يحمل وحينما ينزل في
القبر، وحينما يوضع على شقه الأيمن في اللحد، هذه كيفية تكفين الميت في
الأثواب الثلاثة.
تفصيل الروايات في
كفن الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا هو أصح الروايات في تكفينه صلى الله عليه وسلم، وهو أعدل الأقوال
وأفضلها عند الجمهور، وقد اتفقوا على أنه عند الحاجة إذا اقتصر على لفافةٍ
واحدة على هذا الوضع وسترته من رأسه إلى ظُفر قدمه أجزأت، يعني: أقل المجزء
في الكفن ما يستره، والثلاثة هي أقل الكمال، وبعضهم قال هي نهاية الكمال،
أي الأفضل.
وكما يقول العلماء، لا ينبغي لأحد أن يزيد في الكفن على كفن النبي صلى الله
عليه وسلم، وهناك روايات جاءت في كفنه صلى الله عليه وسلم سوى ذلك ولم تسلم
من مقالات.
ستجدون في كتب الحديث وفي حديث عائشة هنا (.
ثلاثة أثواب سحولية من كرسف) الكرسف: القطن، سحولية: نسبة إلى قرية، وهي
ثياب بيض، وهذا صفة الكفن أو أثواب الكفن وأنها من القطن.
قولها هنا: (ليس فيها قميص ولا عمامة) يقولون ليس فيها: يعني في العدد، فهي
ثلاثة فقط من غير أن نحسب القميص والعمامة، فيكون القميص والعمامة موجودين
لكن ما عدتهم، أو ليس فيها: في جنسها، ولم يتجاوز الكفن الثلاثة الأثواب،
والجمهور على أن ظاهر اللفظ ليس فيها -أي في الأثواب الثلاثة- قميص ولا
عمامة، يعني ليس قميص وعمامة يكملان العدد، لا.
بل القميص والعمامة منفية الوجود بالفعل.
وسيأتي في بعض الروايات: (كُفِّن في قميصه الذي مات فيه) وفي روايات أخرى:
(كفن في حلة حبرة) وفي بعض الروايات: (كفن في حلة لـ عبد الرحمن بن أبي
بكر) ولكن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تبين لنا تلك الروايات.
أما موضوع القميص فقالوا: إنه جرد عنه، أي بعد ما غسل وسجي، وبعضهم يقول:
موجود، والبعض الآخر يقول: أما الحلة فإن عائشة رضي الله عنها قالت (لقد
جيء بالحلة فردوها) إذاً: عند الكفن جيء بالحلة لتجعل في كفنه، ولكن الذين
قاموا بتكفينه صلى الله عليه وسلم ردوها، ولم يجعلوها في الكفن، وفي بعض
الروايات: (فنشفوه بها، ثم ردوها) إذاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
تبين قضية الحلة فيما يتعلق بالكفن وأنها فعلاً جيء بها، ولكن لم تكن في
الكفن؛ لأنهم ردوها ولم يكفنوه فيها.
وهناك من يقول أن النبي كفن في سبعة أثواب: الثلاثة الأثواب التي في حديث
عائشة، والقميص الذي مات فيه، والعمامة والحلة، والحلة من قطعتين، إذاً: مع
هذه الروايات ومع توضيح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في خبر الحلة نعلم
بأنه ما كان الكفن إلا ثلاثة أثواب.
والذين يقولون بالقميص، يقولون: تجعل اللفافات اثنتين، ويؤتى بدل الثالثة
التي هي الأولى أي التي تكون في الأعلى، والتي تكون كما وصفنا من القماش
طول الإنسان مرتين، ويجعل فتحة في وسطه عند الثنية، ويدخل فيها الرأس ويثنى
عليه طرفاها، كما يثنى الثوب على التفصيل المتقدم.
ومن يضيف السروال، يقول: يؤتى أيضاً بقطعتين من القماش، ولكن يفتح كما تلك
الفتحة ويدخل من الرجلين إلى الحقو، ويكون طرفا القماش واحدة تلف على الساق
اليمني والأخرى تلف على الساق اليسرى دون أن تجعل مثل الكم للرجل، أي: لا
يوجد خياطة، فعلى هذا الجمهور يقولون: (لا ينبغي التعمق ولا التزيد في
الكفن ولا المغالاة) وكما ثبت في أصح الروايات في كفن النبي صلى الله عليه
وسلم، الثلاثة الأثواب السحولية البيض التي ذكرتها أم المؤمنين رضي الله
عنها.
كفن المرأة والصغير
بقي فيما يتعلق بالصغير والمرأة: قالوا: الصغير أي لفافة يلف فيها تجزئه،
والمرأة يزاد فيها القميص والمقنعة، والخمار وثالث يلف على وسطها ويربط،
فتكون في خمسة: الثلاثة الأثواب المذكورة، والخمار على رأسها وشعرها
ووجهها، والثالث في وسطها يشد ويلف عليها، حفظاً لها وصيانة، هذا ما يتعلق
بموضوع الكفن.
حكم المغالاة في
الكفن
واتفقوا على أنه لا يجوز المغالاة في نوعية القماش، فلا نذهب إلى القماش
الفاخر الغالي الذي صفته كذا، ونقول إكراماً للميت واعزازاً، لا.
فكل ميت ليس أكرم من رسول الله على الله، ويكفي أنه كفن في هذه الثلاثة
الأثواب البيض السحولية كما قالت أم المؤمنين عائشة.
هناك اجتهادات للفقهاء رحمهم الله، في نوعية الثياب، على ما سيأتي التنبيه
عليه عند ذكر كفن أبي بكر رضي الله عنه.
التبرك بثياب
العبادة واتخاذها كفناً
قالوا: لو أن إنساناً، تخير ثوباً يكون لكفنه من الثياب المعتادة، سواء
أكان إزاراً ورداء أو قميصاً يلبسه، ثم لبسه ليصلي فيه عدة صلوات، ثم خلعه
وركنه ليكون كفنه، وتكون صلاته فيه من باب التبرك ويشهد له، سئل أحمد رحمه
الله عن ذلك قال: (لا بأس) وكذلك ما سيأتي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى
قميصه لـ عبد الله بن عبد الله بن أبي من أجل أن يكفن فيه والده، هذا من
سبيل التبرك أو على ما سيأتي العلة مع ابن أبي بأنه كان قد كسى العباس
قميصاً حينما جيء به أسيراً من بدر، سيأتي الكلام عليه في محله.
لكن قالوا: لو أن الإنسان اختار ثوباً لكفنه وعمل فيه من القربات، ثم كفن
فيه لذلك فلا مانع.
وقد كان كثير من الحجاج قديماً يأتي بكفنه معه من بلده، وذلك لشدة الخوف
وعدم الأمان فإذا مات في الطريق كان كفنه معه، وبعضهم كان إذا كتب الله له
السلامة يغسله بماء زمزم، ويأخذه معه ويبقيه ليكفن فيه بعد أن غسل بماء
زمزم، يفعلون ذلك للتبرك، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الحالات،
من ذلك ما ذكر عنه صلوات الله وسلامه عليه، أنه في يوم بارد شديد البرد،
أهديت إليه شملة، مثل الرداء على كتفيه، فقال رجل من الحاضرين (اكسنيها يا
رسول الله! فأخذها وأعطاها إياه، فقالوا له بعد ما ذهب النبي: تطلبها من
رسول الله وأنت تعلم أنه في حاجتها وتعلم أنه لا يرد سائلاً؟ قال: والله ما
طلبتها إلا لتكون كفني) أي ليكفن فيها، وعلى هذا لا مانع أن يتخذ الإنسان
الثوب في العبادة.
ونعلم أيضاً ما كان في معتقد الجاهلية بقياس العكس، قبل الإسلام كانوا إذا
أراد الإنسان أن يطوف وهو محرم، يعتقدون بأن الثياب التي عليهم، شاركت
وحضرت ما ارتكبوا من الآثام من سفك الدماء وأكل الحرام وو إلخ، فيعتقدون
بأن من أراد أن يخرج من ذنوبه، يجب أن يفارق هذا الثوب عند الطواف؛ لأن
الثوب قد دُنس بتلك الذنوب، فكانوا يطوفون عراة، إلا من كان عنده سعة،
فيشتري ثوباً جديداً لم يلبس ولم يدنس بمعصية، فيطوف به، فإذا انتهى من
طوافه، خلعه وجعله عند الكعبة، وكان لسدنة البيت، أو يأتي إلى شخص من سدنة
البيت ويستعير منه ثوباً يطوف فيه، بناءً على أن سدنة البيت لا يرتكبون
الذنوب فثيابهم طاهرة، إذاً كانوا يعتقدون بأن ملابسة الشر في الثوب تؤثر
عليه، وكانوا يعتقدون بأن الثوب الذي لم يشارك في معصية، يكون أولى بطوافه،
فما بالك إذا كان يشارك في الطاعة، نحن نذكر ذلك من تأثير المعتقدات في أثر
الثياب الذي يشهد الخير والذي يشهد الشر.
وعلى هذا ما ذكر عن أحمد رحمه الله تعالى حينما سئل عن الرجل يلبس الثياب
ليصلي فيه ثم يجعله كفناً له، قال: لا بأس، لكن لا يطيل اللبس حتى يدنسه،
أي يوسخه.
لا؛ لأن السنة أن يكفن الإنسان في ثوبين أبيضين جديدين أو نظيفين غسيلين،
كما يتعلق بالإحرام، فما ينبغي أن يبدأ إحرامه في ثياب مدنسة، إما أن تكون
جديدة نقية، وإما أن يحتفظ به ويغسله ويحرم فيه كل سنة، فلا مانع في ذلك،
هذا ما يتعلق بنوعية الكفن، والسنة فيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا والله أعلم.
باب تكفين الميت
بغير قميصه
.
حكم تكفين الميت في
قميص غيره
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه إياه)
متفق عليه.
تعريف موجز بعبد
الله بن أبي بن سلول ومواقفه
قصة هذا القميص وعبد الله بن أبي بن سلول طويلة، ولكن أقول بإيجاز: عبد
الله بن أبي بن سلول هو رئيس المنافقين، وكان أشد الناس على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ويبين لنا خبره سعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة (ركب
النبي صلى الله عليه وسلم ومر على مجلس فيه عبد الله بن سلول، وفيه جماعة
من المسلمين، وجماعة من المشركين، وجماعة من جماعة ابن أبي، فلما مر من
هناك عرض عليهم القرآن، فقال ابن أبي: يا هذا! والله إنه لكلام حسن لو كان
حقاً، الزم رحلك، ومن أتاك فاقرأه عليه، فقال ابن رواحة: لا يا رسول الله!
بل اغشنا به في مجالسنا وائتنا واقرأه علينا، فإنا والله نحبه، فتلاحى ابن
رواحة ومن معه من المسلمين، وابن أبي وجماعته والمشركون وغيرهم، حتى أخذ
صلى الله عليه وسلم يسكت في القوم ويهدئهم خشية الفتنة.
ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى جاء إلى سعد بن عبادة، فقال: ألا ترى ما فعل
أبو الحباب؟! -كناه- قال: ماذا فعل؟ فأخبره بما قال، وقال: يا رسول الله!
اعذره؛ -وتأمل معي هذا الكلام! - فإنك جئت بما أعطاك الله من الحق، وكانوا
قد اجتمعوا على أن يتوجوه عليهم ملكاً، ففات عليه ما كان يريد بالحق الذي
جئت به) انظروا -يا إخواني- كيف تكون مراعاة النواحي النفسية، فبعد أن أساء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، نجد هذا الصحابي الأنصاري
الجليل يعتذر عنه.
كان قبل أيام على وشك أن يُنصَّبُ ملكاً، فَسُلِبَ ملكه، فهو بهذا لا يحتمل
شيئاً بل هو قد فاته الملك بمجيء هذا الدين.
إذن: كان موقفه موقفاً حرجاً في ذاته وفي شخصه.
ثم أسلم إسلام النفاق وهو باقٍ على دينه، يكيد للإسلام والمسلمين.
وهو صاحب المقالة الشنيعة التي قيلت في عودتهم من غزوة بني المصطلق، حينما
نزل المسلمون عند ماء، وتلاحى غلام لـ عمر رضي الله تعالى عنه وغلام
للأنصار على الماء، فغلب غلام عمر غلام الأنصار، فقال غلام الأنصار: يا
للأنصار! وقال الآخر: يا للمهاجرين! فبلغت المقالة ابن أبي فقال:
أوفعلوها؟!! والله! ما نحن وإياهم إلا كمثل القائل: سمِّن كلبك يأكلك، لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، غلام الأنصار سمع هذه فذهب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)
فشغل الناس بأنفسهم، وحان وقت القيلولة -الوقت الذي ينامون ويرتاحون فيه-
وواصل السير إلى الليل وإلى الغد، فقالوا: هذه حالة من رسول الله غير
عادية، ما الذي حمله على ذلك؟ فعلموا ما قاله ابن أبي، فذهبوا يعنفونه،
فعلم أن الخبر وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يعتذر: يا رسول
الله! سمعت أنه بلغك أني قلت كذا وكذا والله ما قلت، هذا كلام كذب، ما قلت،
الغلام يكذب عليَّ، يقول الغلام: والله كدت أن تنشق بي الأرض أن أكذَّب،
فنزل القرآن بذلك: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا.
} [المنافقون:8] إلى آخره.
وهنا يقول الأصوليون: قضية القول بالموجب وهي قاعدة أصولية {يَقُولُونَ
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا
الأَذَلَّ} [المنافقون:8] لم يقولوا من هو الأعز ولم يقولوا من هو الأذل،
لكن يزعمون العزة لمن؟ لأنفسهم، بصفتهم أصحاب الأرض وأصحاب المال، فنزل
القرآن: (يقولون) ثم جاء القرآن وقلب عليهم القضية، وميز من هو الأعز ومن
هو الأذل حقيقة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}
[المنافقون:8] يبقى من هو الذي سيخرج الثاني؟ بمقتضى مقالتهم جاء الحكم
عليهم، فجاء الوحي وصدق الخبر.
مواقف عبد الله بن
عبد الله بن أبي المشرفة
عبد الله بن عبد الله صحابي جليل، وكان من أبر الأبناء بآبائهم -على نفاق
أبيه- وكان براً بأبويه، لما حصلت هذه المقالة -وهي ليست بهينة- حينما
وصلوا إلى المدينة جاء عبد الله ابن رئيس المنافقين ووقف على باب المدينة،
واستلَّ السيف حتى وصل أبوه، فمسك بزمام راحلته وقال: [والله لا تدخلنَّها
حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله] من
الذي وقف لهذا المنافق؟ ولده.
بلغ الخبر رسول الله أن عبد الله منع أباه أن يدخل، قال (مروه فليأذن له
فليدخل) فدخل بإذن من رسول الله، وهذه تكفي، ملك الأمس يرده ولده حتى يعلم
أنه الأذل وأن العزة لغيره، لمن؟ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
بعد فترة -وأنتم تعلمون أن مثل هذا ليس بسهل، ولا يمر بسلام، بل لا بد أن
تكون له بقايا- أشيع -والشائعات دائماً تزيد المسألة قليلاً- أشيع بأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أبي لمقالته، هذه الإشاعة بلغت عبد الله
ولده، ماذا يفعل، وهو أبر الناس بأبيه، أبوه يقتل غداًَ أيمنع أمر رسول
الله أم ماذا يصنع؟ أمر محرج له جداً!! فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال (يا رسول الله! بلغني -أو علمت، أو سمعت- أنك قاتل ابن أبي -لم
يقل: أبي، حتى لا يقول أنه جاء يستعطف، من هو ابن أبي؟ - إن كنت فاعلاً لا
محالة -يعني لست عافياً عنه- مرني أنا آتيك برأسه -قتل أبيه مصيبة، وأن
يكون بيده مصيبة أكبر، فماذا فعل رسول الله إزاء هذه الشائعات- قال: لا يا
عبد الله! دعه) وتركه ولم يقتله، هذا الولد مع أبيه في موقفه في منعه من
دخول المدينة حتى يقر ويعرف، يعني: حطم التاج الموهوم الذي كان يتخيله في
ذهنه، وأوقفه على باب المدينة، ثم بعد ذلك هاهو مستعد بأن ينفذ أمر القتل
لو صدر، أي مكافأة تكون لهذا الابن لو فعل ذلك؟ ماذا تقولون أينصب ملكاً
بدلاً عن أبيه؟ لم يعد هناك ملك، الأمر لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم،
هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي خاطر عبد الله في أبيه، أما أبوه
فهو الذي رجع بثلث الجيش في غزوة أحد.
تكفين رئيس
المنافقين في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك
إذاً: مواقف الأب لا نقول: إنها ليست مشرفة! لكنها مخزية، ولكن مواقف ولده
مشرفة، من هنا لما مات أبوه جاء وقال (يا رسول الله! أعلم أن قميصك لن
ينفعه إذ لم يكن مؤمناً، ولن يضرك إذا أعطيته إياه -انظر العقيدة!! - ولكن
أعطنيه حتى لا تكون سُبَّةً علينا مدى الدهر) انظروا السياسة!! ماذا فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا هذا كان وكان، وهذا رجع بثلث الجيش،
وهذا وهذا، هل عدد له مفاسده، أو أخطاءه؟ لا أبداً، بل رحب بذلك الطلب
وأعطاه قميصه.
وقيل: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال (أعطني القميص الذي
هو شعارك -ليس الذي فوق بل الذي تحت- فخلعه صلى الله عليه وسلم وأعطاه
إياه، وذهب وكفنه فيه) هنا بعض الناس يقول: وهل بركة رسول الله صلى الله
عليه وسلم تنفع المنافق؟ وبعض الناس يقول: ما حابى عبد الله في أبيه
المنافق، إنما كان يرد جميلاً، كان ابن أبي حينما جيء بأسارى بدر وفيهم
العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان العباس وضيئاً وجسيماً،
وكذلك ابن أبي، يقولون كان طويلاً وضخماً، يعني: هيئة الملك موجودة فيه،
فكسا العباس من ثيابه، فالرسول كافأ ابن أبي على ذلك القميص، يعني: ما
كافأه إلا في ذلك الوقت؟! لو كانت مكافأة كانت في وقتها، بعد الغنائم التي
جاءت، وكان يرد الجميل في حينه، ولكن نأخذ من هذا الرفق والرحمة، وإذا قلنا
بمعنى المجاملة -وإن كان مجالها واسعاً لا نقدر أن نحدده- ولكن مراعاة
وكرامة لهذا الابن البار المؤمن، صاحب المواقف الفاضلة الكريمة، الذي وقف
تلك المواقف بجانب المسلمين ضد أبيه عدو الإسلام، ولا بأس بذلك، وكما قال
عبد الله بنفسه (أعلم أنه لن ينفعه لأنه لم يؤمن، ولن يضرك، وإنما يرفع عنا
سُبَّة الدهر) وكان ذلك مصانعة لـ عبد الله في أبيه.
والله تعالى أعلم.
يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز لـ ابن أبي أن يكفن في قميصه.
إذاً: لا مانع أن يكون في الكفن قميص، ولكن يمكن يقال: إن ابن أبي لا يقاس
عليه بقية المسلمين.
والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.
استحباب الكفن
الأبيض
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البسوا من
ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) رواه الخمسة إلا
النسائي، وصححه الترمذي.
هذا توجيه لنوعية ثياب الكفن ولباس الحي، وكما قالوا أيضاً: إن المحرم وهو
في حالة الإحرام يكون في أحسن حالاته؛ لأنه متلبس بأفضل العبادات وخامس
الأركان، فاستحب له أن يكون في إزار ورداءٍ أبيضين نظيفين جديدين أو
غسيلين.
استحباب الثياب
البيض لطالب العلم
جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: (أحبُ لطالب العلم بياض الثياب) هذه خصوصية
لطلبة العلم، وقد يكون الإنسان صاحب مهنة لا ينفع معها لبس البياض، لكن
-كما تقدم- تكون ثياب المهنة للمهنة، وثياب المجتمعات والمناسبات خاصة بها،
فلا مانع في ذلك.
ميزة الثياب البيض
إن البياض قليل الحمل للدنس، فلو جاءت ذبابة ونزلت على الغترة البيضاء
وتركت أثراً بسيطاً فإنه يظهر بوضوح عليها، لكن لو كانت الغترة أو الشماغ
ملوناً وجاء ذباب الدنيا ونزل وعشش فيها لا يظهر فيها شيء.
إن بياض الثياب قليل التحمل للأوساخ فأقل شيء يجيء عليه يظهر، فيكون عاملاً
مساعداً على نظافته بصفة دائمة، وهنا التوجيه (البسوا من ثيابكم البياض)
بصرف النظر عن نوعيتها: (كرسف) أو (كتان) أو أي نوع آخر ما لم يكن حريراً
ولا من الممنوع لبسه.
وقوله: (وكفنوا فيها موتاكم) وعلى هذا يستحب في حالة السعة وحالة التيسير
أن يكون الكفن من الثياب البيض، أما في حالة الاضطرار؛ فالضرورات لا حكم
لها -كما قيل- ولها ظروفها، ولا يقاس عليها حالات السعة واليسر.
باب تحسين كفن الميت
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن
أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم.
إحسان الكفن يكون في طريقة العمل، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر
بالبقيع فوجدهم يحفرون لجنازة، فوجد في القبر مَيلاً، فأمر بتعديله، وقال:
(إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يحسنه) وجاء الحديث الآخر: (إن
الله كتب الإحسان على كل شيء) ونعلم حديث جبريل عليه السلام في الإسلام،
والإيمان، والإحسان، فالإحسان هو أعلى المراتب، والمراحل التي تنتاب العمل.
ومن أجل الإحسان يقول المولى سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ
الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:1-2] لم
يقل: أكثر أو أقل أو أنقص، بل قال: (أحسن عملاً) .
فكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن) .
والإحسان هنا -في حالة السعة- أن تكون اللفائف واسعة، وأن يُحكم لفها،
حينما يأتي بالطرف الأيمن إلى اليسار، والطرف الأيسر إلى اليمين بأن يحكمها
على جسم الميت، لا أن يلقيها إلقاءً بدون إحكام، لا، وكذلك إذا وضع الحنوط،
وإذا أراد أن يلفها من عند رأسه، ومن عند قدميه فيحسن ذلك، وكما جاء الأثر:
(من كفن أخاه كان كمن كساه إلى يوم القيامة) .
إذاً: ينبغي لمن كفن الميت أن يحسن عمل التكفين بإتقان اللفائف عليه، ويحسن
الحنوط، كذلك إذا كان هناك ثياب قديمة، رثة، وثياب نظيفة جديدة، فمن
الإحسان أن يختار له النظيف الجديد، ولا يبخل عليه.
كتاب الجنائز [6]
الصلاة على الأموات فرض كفاية، على خلاف في الصلاة على بعض أصناف المسلمين،
فإذا دفنوا فيجعل كل ميت على حدة، إلا في بعض الحالات التي يجمع فيها أكثر
من ميت في قبر واحد.
تقديم حفظة القرآن
في اللحد
وعنه قال (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد
في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد، ولم
يغسلوا ولم يصل عليهم) رواه البخاري.
كيفية ترتيب الموتى
في القبور الجماعية
جميع ما تقدم في طريقة تغسيل الميت وتكفينه هي في الحالات العادية، لكن
هناك حالات تطرأ في المجتمع يكثر فيها الموتى، سواء كان في حالات الحروب
والكوارث، أو في حالات الأمراض السارية -كما يسمونها- كالطاعون، أو
الكوليرا وأنواعها، فقد يبلغ عدد الموتى في القرية في اليوم الواحد عشرة أو
خمسة عشر، وكذلك في المعارك والكوارث الأخرى، ماذا يفعلون مع كثرة الموتى
في حفر القبور؟ أعتقد أن بعض الإخوة يذكر ما حصل في حدث الطائرة، والتي كان
فيها عدد كبير من الناس، فعندما سقطت ماذا فعلوا؟ لم يحفروا لكل واحد
قبراً.
الذي يهمنا هنا أن في حالات كثرة الموتى، ومشقة حفر قبرٍ لكل فرد يجمع
الاثنين والثلاثة والأكثر والأقل في القبر الواحد.
والآن البقيع موجود فيه غرفتان تسمى في عرف الناس: الفسقية أو الفساقي، وهي
غرفة تحت الأرض بعمق القبر، وهي تسع عشرة أشخاص أو خمسة عشر شخصاً متراصين
متجاورين، وهذه توجد في بعض البلاد في الأرياف للعوائل الكبيرة، ويكون لكل
عائلة فسقيتين: واحدة للرجال وأخرى للنساء، ولهم مدة معينة تفتح الفسقية
فيها لا تفتح قبل ذلك، وهم لم يجعلوها للموت الجماعي، وإنما يجعلونها لجمع
موتاهم في مكانٍ واحد، ولا مانع في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
لما صلى على عثمان بن مظعون ودفنه، ووضع الحجر عنده، قال (لأعرفه، لأجمع
إليه من أهله) فلا مانع أن يكون للجماعة أو للأسرة مكانٌ يجمع فيه موتاهم،
حتى إذا أتوا للزيارة والسلام يكونون في مكان مجموعين فيه.
ففي هذه الحالة لو أتي بعدد من الموتى ووضعوا في تلك الفسقية أو الغرفة تحت
الأرض لا مانع.
فإذا لم تكن هذه موجودة وليست معدة من قبل كما هو الحال في غزوة أحد، إذ لا
يمكن أن يحفروا سبعين قبراً في وقت وهم على حالتهم -مصابون وجرحى.
إلخ- فكانوا يجمعون الاثنين والثلاثة والأكثر في قبرٍ واحد.
ففي مثل هذه الحالة كيف يكون ترتيب الدفن؟ أولاً: اتفقوا على أنه يجمع
الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء، والصبية الصغار دون السابعة حيثما
دفنوا، وبعد السابعة يأخذ حكم الجنس ذكراً أو أنثى، وبعضهم يقول: لو اقتضت
الضرورة وكانت الكارثة كبيرة وفيها رجال ونساء، ولم يمكن أن نميز النساء
معاً والرجال معاً! لا بأس أن نجمع الرجال والنساء بحيث تكون النساء وراء
الرجال، ويوضع بين النساء والرجال حاجز.
ولكن الجمهور على المنع، ونحن قدمنا بأن حالة الضرورة لها حكمها، ولا يقاس
عليها غيرها، فإذا جاء الأمر واضطر الناس على أن يجمعوا العدد من الموتى في
قبر واحد للعجز، أو للمشقة، أو لعدم الإمكان بأن يجعل لكل ميت قبر مستقل،
فلا مانع.
وعند الوضع في القبر يسأل صلى الله عليه وسلم (أيهم كان أكثر أخذاً
للقرآن؟) لم يقل: أيهم أغنى مالاً، أو أيهم أعلى جاهاً، أو أعظم وأفخم
نسباً وحسباً؛ كل هذا قد التغى بالموت، انتهى الأمر، وأصبح الشخص بنفسه،
فمن يكون أكثر أخذاً للقرآن قُدم إلى جهة القبلة، ثم الذي يليه ثم الذي
يليه وهكذا.
وهذا يكون في حالة الضرورة ومشقة أن يحفر قبر لكل إنسان فإنه لا مانع أن
يجمع العدد منهم في القبر الواحد.
لا ينقل الشهيد في
المعركة من قبره حيث مات إلا لمصلحة
وقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن أباه كان من شهداء أحد،
فدفن مع رجل آخر، ثم بعد مدة يقول جابر: (والله عزت علي نفسي أن يكون أبي
مع غيره في قبر، فذهبت لأفرده في قبرٍ، قال: فذهبت، فوجدت كأنه مات بالأمس)
، ونقله وأفرده في قبر مستقل، ومعلوم أن الشهداء الذين سقطوا في المعركة
وماتوا فيها يدفنون في مكانهم، ولا ينقلون إلى جهة أخرى، اللهم إلا في حالة
الضرورة ولمصلحتهم ينقلون إلى أقرب مكان كما وقع لسيد الشهداء حمزة رضي
الله تعالى عنه، ومن كان معه دفنوا حيثما أصيبوا وكان في مجرى الوادي.
فلما أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه قناته، جاء السيل واحتفر القبور وظهرت
الأقدام فضج الناس -وذلك بعد أربعين سنة من وقعة أحد - فذهبوا إليهم
فوجدوهم كأنهم دفنوا بالأمس! فما كان إلا أن رفعوهم إلى المكان المرتفع على
عدوة الوادي الذي هم فيه الآن، وكان هناك بقايا القبة التي كانت من قديم،
وتسمى (المصرع) يعني المكان الذي صرع فيه حمزة رضي الله تعالى عنه ودفن
فيه، ثم نقل بعد ذلك إلى المكان المرتفع، فنقله كان لمصلحته؛ لأن السيل قد
جرف القبر وظهر، والسيل لا يؤمن في أي وقت يأتي، فرفع إلى مكان بعيد عن
السيل.
وقد جاء في غزوة أحد أن بعض القتلى جاء أهلهم وحملوهم إلى المدينة، فردهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا.
ردوهم وادفنوهم حيث أصيبوا) وهكذا شهيد المعركة.
أما من صُوب في المعركة ولكنه لم يقتل وذهب به إلى بيته أو إلى مكان آخر،
وعاش حتى أكل وشرب فإنه يعامل معاملة جميع الموتى من أن يغسل ويكفن بلا
خلاف ويصلى عليه بلا خلاف، ويعامل كما يعامل جميع موتى المسلمين.
وعلى هذا عند الضرورة سواءً كان في حال معركة، أو كان في كارثة، مثل مواضع
الزلزال -عافانا الله وإياكم- يكون هناك موتى كثيرون، ومتى يستطيعون أن
يحفروا لهؤلاء في وقتٍ واحد؟ فيتخذ لهم هذه الطريقة والله تعالى أعلم.
معنى قوله: (يجمع
بين الرجلين في ثوب واحد)
قوله رضي الله تعالى عنه (يجمع بين الرجلين في ثوب واحد) يقول بعض العلماء:
هل يبقى الثوب على ما هو عليه، ويلف الرجلان بهذا الثوب معاً كأنهما شخص
واحد؟ أو أن الثوب الواحد يقسم قسمين ويعطى لكل واحد منهما قسم؟ وهذا يدل
على قلة وجود ما يكفن به القتلى عند العدد الكثير، والذين قالوا: إنما يشق
الثوب قسمين، قالوا: لئلا يجمع بين رجلين بجسد متلاصق في ثوب واحد، ولكن
هذا غير وارد؛ لأن الشهداء لا يغسلون ولا يجردون من ثيابهم، بل يلفون في
ثيابهم التي كانت عليهم، ولكن يبعد عنهم ما كان فيه من الجلود أو الحديد،
فإذا كان محتزماً بمنطقة جلد، أو ترس فيه جلد، أو درقة فيها جلد، أو قميص
فيه شيء من الجلود فهذا يبعد عنه، وكذلك إذا كان هناك شيء من الحديد كالدرع
مثلاً أو الخوذة على رأسه أو شيءٌ في يده، فهذه تنزع عنه ويلف في أثوابه
التي هي عليه، فيكون الكفن زيادة على ثيابه التي هي عليه.
وتكون مهمة هذا الثوب هو تغطية أطراف الميت أو الشهيد من رأسه إلى قدميه،
حتى قالوا: لو أن الثوب الموجود لشخصٍ واحد، وكل واحدٍ له ثوب لكنه قصير لا
يبلغ ما بين الرأس إلى القدم، قالوا: يقدم جانب الرأس فيغطى، وبقية الجسم
من جهة القدمين يوضع عليه من نبات الإذخر أو نحوه ويغطى في قبره، ولا تترك
الجثة مكشوفة.
فقول جابر رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين
الرجلين في الثوب الواحد) هذا الحديث يسوقه المؤلف ليبين بأن أقل الكفن هو
ثوب واحد، وإن تعذر الثوب فبعض الثوب، وهذا عند الضرورة، وكما تقدم أن
الضرورة لا يقاس عليها، كما لو أن إنساناً كان عليه غسل جنابة وعنده ماء لا
يكفيه للغسل فعليه أن يتوضأ به، ثم يتيمم بالباقي، وكذلك إذا كان لا يملك
ثياباً تستره من السرة إلى الركبة يغطي به السوءة، وكذلك الكفن يكون بقدر
المستطاع.
إذاً: يجمع بين الرجلين في ثوبٍ واحد، إما على معنى: يجمعهما في لفافة
واحدة، ولا محظور في ذلك؛ لأن ثياب كل منهما تحول بينه وبين ملاصقة جسم
الآخر، وإما أن يشق هذا الثوب الموجود ويعطى لكل واحد منهما ما يجزئ عنده،
إن كان يكفي طول الجسم فالحمد الله، وإن كان لم يكف عني بجانب الرأس وستر
بقية الجسم بالنبات أو بنحوه
الصلاة على الشهداء
أما القسم الثالث من الحديث: (ولم يصل) هذا مبحث طويل، هل الشهداء يصلى
عليهم أم لا؟.
أولاً: تقدم تقسيم الشهداء إلى قسمين: شهداء المعركة، وشهداء غير المعركة.
قال عمر رضي الله تعالى عنه: (اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك ودفناً في
مدينة رسولك) ، قالوا: ماذا بك يا عمر! تريد تأتي بالقتل إلى المدينة؟!
قال: الله كريم.
فقتل وهو في الصلاة وكتبت له الشهادة، ولكن ليست شهادة المعركة، فهذا يعامل
معاملة عامة الموتى.
أما الذي في أرض المعركة فيختلف الفقهاء في كونه يصلى عليه أم لا.
أولاً: وقبل كل شيء: أجمع العلماء على أن شهداء المعركة لا يغسلون،
ويقولون: يبقى بدمه ليبعث يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللون
لون الدم والريح ريح المسك) ويقولون: هنا قسمان: مداد العلماء، ودماء
الشهداء، تأتي يوم القيامة اللون لون الحبر، والريح ريح المسك، فالشهداء لا
يغسلون بإجماع المسلمين دون أي خلاف، ولو وجد خلاف لا عبرة له؛ لأن شهداء
المعركة لا يغسلون.
أما الصلاة عليه فيقول جابر: (ولم يصل عليهم) إذا جئنا إلى هذه المسألة
بعنوان مستقل: (الصلاة على الشهداء) هل يصلى على الشهداء أم لا؟ نجد الآثار
الواردة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد، وجابر يقول (ولم
نصل عليهم) ونجد الآثار متعددة، ولا يسلم واحد منها من مطعن ومقال، منها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عمه حمزة رضي الله عنه فكبر سبعاً
-سبع تكبيرات- ومنها: أنه صلى عليه وبقي في مكانه وكان يؤتى بالشهداء
الآخرين فيوضعون بجواره ويصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: على
الشهيد الثاني وحمزة موجود فيشهد حمزة صلاة على غيره معه- ثم يؤتى بآخر إلى
سبعين صلاة بعدد الشهداء في أحد.
ونجد بعض الروايات تقول: كان يؤتى بهم عشرة عشرة، ويصلي على العشرة مرةً
واحدة، وتكون صلاته على السبعين سبع مرات يصلي عليهم عشرة عشرة وحمزة
موجود، فقال بعض العلماء: صلى على حمزة سبعين مرة، أي: بتكرار الصلاة على
الأفراد، سبع مرات أي: بتكرار السبعين وتقسيمهم عشرة عشرة، كبر سبع تكبيرات
أي: على صلاته وحده.
والآخرون يقولون: لا، لا نصلي على أحد.
وإذا جئنا إلى مجموع هذه النصوص نجد: أن كل نص جاء بأنه صلى عليهم لا يسلم
من مقال أو أنه موقوف على صاحبه كـ أبي أمامة وابن عباس وغيرهم، وإذا جئنا
إلى: (لم يصل عليهم) وجدنا الأحاديث الصحاح بأنه لم يصل عليهم.
ولنعلم أن الغزوات التي وقعت من بدر إلى الخندق إلى حنين إلى فتح مكة إلى
خيبر لا شك وقع فيها شهداء، يقول الشوكاني: لم يرد نص واحد أنه صلى، ولم
يرد نصٌ واحد أنه لم يصل، وإنما النصوص المختلف فيها إنما هي في غزوة أحد
فقط، وعلى هذا نجد الأئمة رحمهم الله اختلفوا في كون الشهيد يصلى عليه أم
لا، فنجد مالكاً والشافعي والمقدم في مذهب أحمد أنه لا يصلى على شهيد، كما
أنه لا يغسل فكذلك لا يصلى عليه.
ونجد الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: يصلى عليه.
إن جئنا للأحاديث فهي متعارضة: صلى كذا مرة، لم يصل عليهم، وأحاديث الإثبات
-كما يقولون- (الإثبات مقدم على النفي) لكنها أسانيد ضعيفة، ونجد للمالكية
قول عن مالك: عدم الصلاة على الشهداء لماذا؟ قالوا: لأنهم أحياء عند ربهم
والحي لا يصلى عليه، فما داموا أحياء عند ربهم والصلاة شفاعة ودعاء للميت،
وصلاة على الميت المفارق للحياة، فقالوا: هؤلاء أحياء ولا يحتاجون إلى
شفاعة الناس، شهادتهم تكفيهم.
هذا تعليل قد يكون مناسباً أو الوصف المناسب لحالة الشهداء، فإذا كان الأمر
مع تاريخ الجهاد في سبيل الله وجاء بعد ذلك الفتوحات في عهد الخلفاء
الراشدين، ونعلم كم من المواقع وكم من الغزوات وكم من الجهاد، ولم ينقل
بأنهم كانوا يصلون على شهداء المعارك في ذلك التاريخ.
إذاً الجمهور على عدم الصلاة، والأحناف على أنهم يصلون، فإن وجدنا من يصلي
لا ننكر عليه، وإن وجدنا من لم يصل لا ننكر عليه، كما قال بعض العلماء:
الصلاة فيها الخير.
ونسأل الله أن يأتي بعهد الشهداء، وأن يرفع راية الجهاد ويعلي كلمة
المسلمين ويكون هناك شهداء، أما مسألة أن يصلى أو لا يصلى، عليهم فهم في
غنىً عن ذلك.
يهمنا تتمة البحث في هذا الحديث، ولم نكن أكملنا الكلام عليه.
إذاً في ثوب واحد، إما أنه يلفان معاً، وإما إنهم يشق لهما -وهذا بعيد-
والثاني: أيهما يقدم في اللحد؟ يجمعهم في ثوب واحد في الكفن، ويجمع أكثر من
واحد واثنين في قبر واحد للظروف الطارئة.
قوله (ولم يصل عليهم) تقدم الإيراد فيما هو عند الجمهور من الصلاة على
الشهداء وعدم الصلاة عليهم.
ونؤكد مرةً أخرى بأن ينبغي علينا أن نفرق بين الصلاة على شهيد المعركة وغير
شهيد المعركة، والخلاف في شهيد المعركة، وبعض العلماء يقدم في هذا الباب
الصلاة على الجنائز، الميت في الحالة العادية والشهيد في الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم.
قالوا: لما قُبض صلى الله عليه وسلم، وتم التجهيز ماذا فعلوا؟ قالوا: كانوا
يدخلون عليه صلى الله عليه وسلم يصلون لأنفسهم بدون إمام، لم يتعين إمام
بعده صلى الله عليه وسلم، ولم تتم البيعة بعد لـ أبي بكر رضي الله تعالى
عنه، والبعض يروي بعض الآثار لكنها ضعيفة بأن أبا بكر هو الذي صلى بالناس،
ولكن الجمهور على أنهم يدخلون، قيل أفراداً وقيل: جماعات، وقدموا الرجال،
فلما انتهى الرجال أدخلوا النساء، فلما انتهى النسوة أدخلوا الصبية
المميزين الذين يحسنون الصلاة.
ويمكن أن يقال: كثيراً ما يتساءل بعض الناس: هل المرأة تصلي على الجنازة أم
لا؟ سيأتي لنا حديث عائشة في سعد وأبي بياضة أنه صلى عليه في المسجد، وكذلك
النسوة في محضر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، يدخلن أفراداً أو
جماعات ويصلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس كان يقول: أولئك الذين يدخلون، لا يصلون صلاة الجنازة المعروفة،
ولكن كان مجرد دعاء.
ولكن كلمة (صلاة) تحمل على معناها الشرعي ولا تحمل على معناها المجازي أو
اللغوي إلا لضرورة أو لقرينة، وليس هنا ضرورة ولا قرينة فصلوا عليه صلوات
الله وسلامه عليه.
باب كراهة المغالاة
في الكفن
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تغالوا
في الكفن؛ فإنه يسلب سريعاً) رواه أبو داود.
تقدم الكلام على هذا الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله
عليه وسلم في النهي عن الغلو في الكفن؛ لأنه يسلب سريعاً، فلا حاجة إلى
المغالاة فيه.
والمغالاة هنا إما بزيادة عدد اللفائف والأثواب بدل ثلاثة سبعة أو تسعة،
وإما في نوعية الأثواب.
الرسول صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب من الكرسف سحولية، فإذا كفن
الميت في لفائف من الخز -الحرير- أو الصوف أو الأقمشة الثمينة النفيسة في
الثمن فهذا من المغالاة!! الغلو يصدق بنوعية الثوب أو بعدد الأثواب، وهذا
كله منهي عنه كما تقدم، وعلينا الاكتفاء -بالاقتداء- بما كفن به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وحسبنا ما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام.
والله أعلم.
والمغالاة في الكفن ليست من السنة، وقد بين صلى الله عليه وسلم سبب ذلك
بقوله: (فإنه يسلب سريعاً) أي: تأكله الأرض ويذهب، وجاء عن الصديق رضي الله
عنه أنه قال في مرضه الأخير، وكان عليه ثوب فيه زعفران: (اغسلوه وكفنوني
فيه مع ثوبين آخرين) فقالوا: كيف نكفنك في هذا وهو قديم وكذا، وجاءوا
بجديد؟ فقال: (الحي أولى بهذا، إنما هو للمهلة) أي: هذا جديد تعطوني إياه
لماذا؟ أنا ذاهب، وكلمة: (المهلة) قالوا: من الإمهال، يعني: مهلة بسيطة،
أي: ليس هناك حاجة أن يكون الكفن جديداً ويضيع عليكم، أو (المهلة) أي: ما
يسيل من جسم الإنسان، ويتلف الثوب الجديد ويبليه، ولكن نحن نعلم جميعاً بأن
أبا بكر رضي الله عنه وأمثاله لن تأكل الأرض أجسادهم.
فهذا من الصديق رضي الله عنه، ويكفينا قوله: (الحي أولى بهذا) وكونه قال:
اغسلوا هذا الثوب وكفنوني فيه فهو على ما تقدم من أنه كان يشهد الخير فيه:
كالصلاة، وذكر الله، ومن جانب آخر عدم المغالاة في الكفن، والله تعالى
أعلم.
باب جواز غسل الرجل
امرأته (أوصت فاطمة أن يغسلها علي)
.
جواز غسل الزوج
زوجته
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: (أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسلها
علي رضي الله تعالى عنه) رواه الدارقطني.
يأتي المؤلف أيضاً بعد حديث عائشة لقول رسول الله (لو مت قبلي لغسلتك) دل
هنا على أنه يجوز للرجل أن يغسّل زوجته، وأن هذا الأمر مستفيض معروف عند
الجميع، فهذه فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توصي إن هي ماتت أن
يغسلها زوجها علي.
مسألة غسل الميت قبل
موته وحكم ذلك
وجاء في ترجمتها في كتب السير والتراجم: أنها يوم أن توفيت بعد صلاة الظهر
أحضرت ثيابها، وأحضرت الماء، وتغسلت وغيَّرت ثيابها، وتوجهت على فراشها إلى
القبلة، وأخبرت جاريتها وقالت: (أخبريهم إن مت أني قد اغتسلت) ولكن يُجمع
العلماء بأن الغسل قبل الموت لا يجزئ عن غسل الميت بعده.
الذي يهمنا في هذا الحديث أن فاطمة أوصت، ومن المعلوم أن عندها رضي الله
عنها وأرضاها علماً، والذي تحمَّل الوصية عنده علم، والموصى إليه -وهو علي
رضي الله عنه- عنده علم، إذاً تغسيل الزوج للزوجة مستفيض مشهور.
والله تعالى أعلم.
هناك من يقول يا إخوان: إن كان أحد الزوجين يغسل صاحبه فيجب أن يستر
العورة، بأن يضع شيئاً ساتراً على العورة، وإذا احتاج موضع العورة لغسل،
فمن تحت خرقة أو حجاب عازل عن العورة، ولا يلامس العورة، أما بقية الجسم
فله ذلك.
باب جواز غسل الرجل
امرأته (تغسيل الرجل لزوجته)
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها (لو مِت قبلي
لغسلتك) الحديث.
مت: بالضم والكسر والكسر أفصح.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفي حديثها الذي أشرنا إليه سابقاً (بأن
الرسول صلى الله عليه وسلم رجع من جنازة بالبقيع، فمر عليها عاصبة رأسها
تقول: وا رأساه! فقال: بل أنا يا عائشة! وا رأساه، ثم قال لها: وما يضرك إن
أنتِ مِت قبلي، فقمتُ عليكِ، وغسلتك، وكفنتك، وصليت عليك؟ قالت: ما إخالك
إلا أن تُعرِّس على فراشي من ليلتها) والمؤلف يسوق هذا من حديث عائشة: (لو
مِت قبلي غسلتك) وهذا فيه دليل على أن الزوج يغسل زوجته.
إذاً: لم يبق حاجة إلى وجود الخلاف في أن الموت هل ينقضي به العقد الزوجي،
أو أنه يرفع المحرمية فيما بين الزوجين؟ فالرسول يقول لـ عائشة: (لو مِت
قبلي غسلتك) إذاً أثر الزوجية باقٍ، والذين يقولون هي تغسله وهو لا يغسلها،
أو هو يغسلها وهي لا تغسله، كل هذا استنباط بعيد عن هذا النص الموجود،
وقدَّمنا بأن عائشة قالت (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسَّل رسول
الله إلا أزواجه) إذن من الطرفين.
وأسماء بنت عميس زوجة أبي بكر (لما توفي الصديق رضي الله تعالى عنه غسلته،
ثم خرجت على الناس وهم ينتظرون، قالت: ما تَبِعُون عليَّ -اليوم شديد
البرد- وقد غسَّلت أبا بكر فهل ترون عليَّ من غسل؟) وذلك لحديث: (من غسل
ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) فحمل الجمهور معنى: (من غسَّل ميتاً
فليغتسل) على عموم الموتى، لأن الميت عادة ربما يكون عليه أو على ثيابه
أشياء إذا جاءها الماء انتشر الرذاذ فيصل إلى الإنسان المغسِّل، فينبغي أن
يغتسل من هذا السبب.
وإذا حمل ميتاً فليتوضأ؛ لأنهم كانوا يحملون الموتى من بيوتهم إلى مصلى
الجنائز؛ فإذا أراد الحامل له الصلاة عليه فلابد أن يكون متوضئاً من أجل أن
يصلي مع الناس، قالوا: وليس حمل الميت من نواقض الوضوء، وليس تغسيل الميت
موجباً للغسل، ولكن أعتقد والله تعالى أعلم أن الغسل والوضوء قبل أن يباشر
تغسيل الميت؛ لأن ذلك أفضل؛ لأنهم قالوا: لا ينبغي لحائض ولا لجنب أن يغسل
ميته.
إذاً: حالة غسل الميت قربة ودعاء يقدم بين يدي الله، فينبغي للشخص الذي
يتقدم لهذا أن يكون على حالة طيبة.
وكذلك حمله، إذا حمله وهو متوضئ، ودعا الله له، واستغفر له ولنفسه، فإنه
يكون على حالة من حالات التهيؤ للعبادة، فيكون الغُسْلُ ليس بعد الغسْلِ،
ولكن كما قيل: ما قارب الشيء يعطى حكمه، مثل (كان صلى الله عليه وسلم إذا
دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) لا يقول ذلك حينما
يدخل، بل إذا أراد الدخول وذلك قبل أن يدخل.
ومثله {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] أي:
إذا أراد القراءة.
فالذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أن الندب للغسل لمن سيغسل الميت من باب
كمال الحالة من ناحية عبادية أو ناحية روحية تكون مصلحة للمغسل.
ويشهد لهذا ما سيأتي في موت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، فلما
أرادوا إنزالها في القبر، قال صلى الله عليه وسلم (من لم يقارف الليلة
فلينزل) من لم يقارف، معلوم بهذه الكناية أنه يراد بها: من لم يأت زوجته
تلك الليلة فلينزل، والذي أتى زوجته يبعد، سبحان الله! لأن الذي قارف زوجته
حديث عهد بأمر دنيوي وشخصي، والذي لم يقارف كأنه بعيد عن هذا، مع أن بعض
العلماء يقول: الذي قارف زوجته حينما يلحد امرأة يكون أبعد من أي شيء،
بخلاف الذي له مدة لم يقارف، وقيل: هذه الحالة خاصة.
فنزل عثمان بن مظعون، وبعضهم قال: الذي نزل كانت مهمته لحد الموتى، وعثمان
زوجها كان موجوداً، وبعضهم يقول: إنما أراد الرسول شيئاً آخر بالنسبة لـ
عثمان.
الذي يهمنا هنا هو أن الإنسان الذي يغسل الميت يجب أن يكون على حالة تكون
أقرب إلى الكمال للإنسان المسلم من غيرها.
وفيه أن الزوج يغسل الزوجة، والزوجة تغسل الزوج، وقد تقدم الكلام على تغسيل
النسوة الأجانب للرجل الأجنبي، وعدم التغسيل، وقلنا بأنهم يتفقون بأنه إذا
ماتت امرأة في جمع من الرجال، ولا توجد امرأة تغسلها ولو حتى كتابية -فإذا
وجدت امرأة كتابيه فإنها تغسليها- وبعضهم يقول: الكافر لا يغسل مسلماً
أبداً؛ لأن تغسيل الميت عبادة يحتاج إلى نية، والكافر لا تصح نيته، فنحن
ننوي ونغسلها أفضل من أن ندفنها بدون تغسيل، وقال بعض العلماء: الرجال
ييممون المرأة، والنسوة ييممن الرجل.
أما الأطفال الذين ليست لهم عورة، وهم من دون السبع سنوات، فمن حضره من
رجال أو نسوة فلا مانع من غسله، وإن كان أحمد رحمه الله يكره للرجل أن يغسل
الفتاة في سن السابعة فما بعدها.
والله تعالى أعلم.
الصلاة على المقتول
حداً
.
أصناف الموتى
بالنسبة للصلاة عليهم
وعن بريدة رضي الله عنه في قصة الغامدية التي أمر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم برجمها في الزنا، قال (ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت) رواه مسلم.
هذا مبحث في الصلاة على عامة الناس في حالات مختلفة، عامة الناس يصلي عليهم
-كما تقدم لنا- أولى الناس بهم إن لم يكن الميت قد أوصى، فإن لم يكن أوصى
ولم يوجد أولى الناس به فالإمام الراتب، وفي هذا الحديث امرأة أقيم عليها
حد، فهل يصلي الإمام الراتب على من أقيم عليه الحد أم لا؟ لنعلم أولاً أن
الإمام الراتب لا يصلي على فاجر أو مشهور بالفجور والفسق، أو أنه رُجم حداً
بغير توبة، أما إذا تاب وقدم نفسه كـ الغامدية وكماعز وغيرهم، فسيأتي
الكلام عليه.
الغالّ الذي أخذ من الغنائم ومات لا يصلي عليه الإمام الراتب؛ لأن في صلاته
عليه تشجيعاً على ذلك الفعل، ولكن لا يترك بدون صلاة، إنما يصلي عليه عامة
الناس.
إذاً فالموتى على أقسام: عامة المسلمين يصلي عليهم أولى الناس بهم، أو
الإمام الراتب، أو من أوصى بأن يصلي عليه.
الشهداء لا صلاة عليهم عند الجمهور.
الذي مات بسبب أو بحادث إن كان فيه خطيئة، كالذي غلّ من الغنيمة، والذي قتل
نفسه عمداً -لا أن يكون تسبب في قتل نفسه دون قصد- لأنه وقع في خيبر أن
رجلاً قاتل قتالاً شديداً، ثم رجع سلاحه عليه فقتله، فتكلم الناس وقالوا:
قتل نفسه بسلاحه.
يعني: شكّوا في شهادته، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال
(له أجره مرتين) يعني: له أجر شهيدين.
إذاً: الذي يقتل نفسه عمداً لأمر من أمور الدنيا، فهذا لا يصلي عليه الإمام
الراتب، وإنما يصلي عليه أهله، كما تقدم.
المدين الذي ليس عنده وفاء لدينه، ما كان يصلي عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكان يأمر أهله أو يترك غيره يصلي عليه.
حكم الصلاة على من
قتل في حد
أما الذي قتل في حدٍ بأن أخذ قسراً، أو تقدم بتوبة إلى الله وإلى ولي الأمر
وأقام عليه الحد، فهل يصلي عليه الإمام أم لا يصلي عليه؟ الجمهور أنه يصلي
عليه، وهذه الغامدية لما جيء بها أول ما جاءت وهي حامل قال لها صلى الله
عليه وآله وسلم (اذهبي حتى تضعي حملك) لأنه إذا رجمها مات الحمل، وما ذنب
الحمل يموت في هذه الحال فذهبت، حتى وضعت الحمل ثم جاءت، فقال لها: (اذهبي
حتى تفطميه) لأنها إذا أقيم عليها الحد فمن سيتولى هذا الطفل؟ فذهبت حتى
فطمته، وجاءت به وفي يده كسرة خبز يأكل منها، قالت: قد فطمته، فأقام عليها
الحد، فقال رجل كلمة بمعنى أنه ردها وجاءت وجاءت، فهذه تموت كميتة.
، قال كلمة ما كانت تناسب أن تقال، فقال رسول الله (مه! لقد تابت إلى الله
توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) وبعض الروايات (لو قسمت على سبعين
رجلاً لوسعتهم، أتجد أكثر من أن تجود بنفسها لله؟!) قالوا: وصلى عليها.
هناك من يقول: لا ينبغي أن يصلى على من مات في حد ولو جاء تائباً؛ لأن في
ذلك تشجيعاً على الفعل، والآخرون ينظرون إلى الحالة ما كل من قتل في حد
يتساوى مع الآخرين، فهذه جادت بنفسها وتركت حتى تضع الحمل ثم حتى ترضعه
حولين كاملين، ثم بعد ذلك ما تركت، وكان يقول الراوي: وكنا نرى لو لم تأت
لم يطلبها رسول الله إذاً: في مثل هذه الحالة طرفان: من كان آثماً في موته
فلا يصلي عليه الإمام، ومن كان تائباً كهذه الغامدية فبعضهم يلحقها
بالتائبين، وكأنه لا أثر لذنبها الأول، وبعضهم يقول: هذه قتلت في غير حالة
عادية، أو في حد عليها، فيصلي عليها أهلها والله تعالى أعلم.
باب لا صلاة على من
قتل نفسه
.
مسألة: الصلاة على
قاتل نفسه حيث أنه مازال مسلماً
وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم
برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه) رواه مسلم.
هذا يبين عكس المتقدم (أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص) المشاقص جمع مشقص، وهو
نوع من آلة الحديد، وجاءت روايات على أن رجلاً هاجر إلى المدينة فاجتوى
هواءها ولم يصح، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أقلني بيعتي يا
رسول الله -لأنه كان قد بايع رسول الله على الإسلام- قالها مرتين أو ثلاث
فلم يجبه، فذهب ووضع ذبابة السيف في صدره وقتل نفسه، فلم يصل عليه صلى الله
عليه وسلم) وبعضهم يأتي برواية أخرى: أن رجلاً قاتل ثم قطع إصبعه، فتأذى
فأجهد عليه فنزف فمات.
كل هذه الحالات وكل هذه الروايات تبين أن من قتل نفسه لا يصلي عليه الإمام،
ولكن لا يترك بدون صلاة؛ لأن قتل النفس لا يخرجه من عموم الإسلام، هو مسلم
بصفة عامة، وحقيقة أمره مردها إلى الله.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن من قتل نفسه بآلة أو بسبب فهو يعذب بذاك
السبب إلى يوم القيامة (من تجرع سماً فمات فهو يتجرعه إلى يوم القيامة من
قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يُوجأ بها إلى يوم القيامة)
الانتحار أو قتل
النفس سببه ضعف في الإيمان
فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النفس -وكما يسمى: الانتحار- والإسلام ليس
فيه انتحار قط، والمسلم الحقيقي لا يجد مأزقاً ينتحر فيه؛ لأن الانتحار إما
لضيق معيشة، أو لنزول مصيبة، أو لفرار من عدو.
وضيق العيش قد نفاه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}
[الذاريات:23] .
ويذكرون أن أعرابياً كان يمشي فسمع قارئاً يقرأ: {وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] فنحر ناقته وقسمها، ثم مضى
بقية العام ثم جاء إلى مكة وعندما كان يطوف سمع ذاك القارئ مرة أخرى يقرأ
تلك الآية وقرأ بعدها: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ
مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] فقال: أغضبوه فأقسموه،
أغضبوه فأقسموه، وخر ميتاً! عظم عليه أن يسمع القسم من الله على أنه
يرزقهم: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:23]
يعني: في السماء رزقكم حقاًَ فعندما سمع قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ} [الذاريات:23] صعق عندما سمع هذا القسم بعد أن قال: أغضبوه
فأحلفوه.
عدل الحاكم يساعد
على تقليل أو إغلاق باب الانتحار
إذاً: المسلم ليس عنده ضائقة رزقٍ يمكن أن ينتحر بسببها، وقد ضمن بيت مال
المسلمين حصة للفقراء والمساكين بما يكفيهم، سواء كان من الزكاة، أو كان من
الفيء من الغنائم وغيرها، بل يقول عمر رضي الله تعالى عنه: (لو مات رجل وسط
حي من الناس فاقةً وجوعاً، لحملتهم ديته؛ لأنه كان عليهم حقاً أن يطعمونه)
.
وعلى هذا ليس هناك انتحار بسبب ضائقة مالية.
وما جعلت العدالة والخلافة والإمامة والسلطان إلا لتأمين الخائف وكذلك رفع
الظلم.
إذاً: يكون ضيق في النفس فقط، ولهذا إحصائيات العالم في الانتحار تحصى
بالدقائق في أوروبا وفي أمريكا وفي غيرها.
ومن فضل الله ولله الحمد والمنة حالات الانتحار في المسلمين أقل ما يمكن أن
تكون نسبة، لماذا؟ لأن المؤمن من قواعد إيمانه الإيمان بالقضاء والقدر،
فيؤمن بأنه من عند الله، إذن هو يؤمن بأن قضاء الله ماضٍ، ويعلم بأن الله
أعلم له بمصلحته، وعلى هذا لا يتفق أبداً انتحار مع إسلام، إذن لماذا يقتل
نفسه؟ يكون في غيبة عن الإيمان، كما جاء الحديث (لا يزني الزاني حين يزني
وهو مؤمن) لا يقتل، لا يشرب، لا يسرق وهو مؤمن، كأن الإيمان كما قال ابن
رواحة: (الإيمان كالقميص تلبسه فإذا أنت خلعته.
] .
وهكذا يكون الإيمان في وجوده مع الإنسان وفي يقظة ضميره مع الله، مستحيل أن
يقدم على انتحار، أما إذا غفا هذا الضمير وغاب هذا الإيمان، وضعف هذا
الوازع، هناك يفعل ما قدر له.
والله تعالى أعلم.
باب الصّلاة على الميت بعد دفنه
.
حكم الصلاة على
الميت في قبره
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد فسأل
عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني،
فكأنهم صغَّروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها) متفق
عليه وزاد مسلم (ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله
ينورها لهم بصلاتي عليهم) .
فمن فاتته صلاة على الميت، هل يصلي عليه في قبره، وهل يصلى على الموتى في
قبورهم أم لا؟ هذا عنوان المسألة، ولكن جاء المؤلف بهذه القصة، والتي تدل
دلالة واضحة على أعلى وأقصى ومنتهى مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم،
ومنتهى رحمته ورأفته بالمؤمنين، في الحديث: امرأة سوداء، تقم المسجد، أي:
تكنس المسجد، مرضت فافتقدها صلى الله عليه وسلم، ولذا فبعض الروايات تقول
(وكان صلى الله عليه وسلم يحب المساكين ويتفقدهم، ويزورهم إذا مرضوا)
فافتقد هذه المرأة التي كانت تقم المسجد، ما هي امرأة تطعم المصلين، ولا
تكسو العارين، ولا تفعل ولا تفعل، بل تقم المسجد، وفي الحديث (الإيمان بضع
وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن
الطريق) وفي حديث (حتى القذاة ترفعها من المسجد) فهذه امرأة تقم المسجد،
فمرضت، فافتقدها صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، قالوا: مريضة، قال: (إذا
ماتت فآذنوني) أي: أعلموني بموتها، قالوا: فماتت ليلاً، فكرهنا إزعاج رسول
الله من أجلها.
فهنا تعارض العقل مع العاطفة، العقل يقول: امتثلوا الأمر: (آذنوني) ،
والعاطفة تقول: لا تزعجوا رسول الله، فعدم إزعاجه أمر عاطفي ليس عقلياً،
وإعلامه بموتها ولو في منتصف الليل، في الليلة المطيرة الباردة أمر عقلي
امتثالاً للأمر، وكما يقال في ذلك: إذا تعارض العقل مع العاطفة حصلت الحيرة
الشديدة، فقدموا جانب العاطفة؛ لأنهم لم يؤذنوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم إكراماً واحتراماً وإراحة لرسول الله من عناء الليل، فدفنوها، فلما
أصبح ما نسيها، فسأل عنها، قالوا: ماتت، قال: (أفلا كنتم آذنتموني، قالوا:
كرهنا أن نوقظك ليلاً) فاعتذروا بالعاطفة.
وهنا نجد أن رسول الله لم يعتب عليهم ولم يعنفهم، ولم يعاقبهم، ولم يجعل
عليهم إثماً في عدم امتثال الأمر، بل عذرهم بتقديم العاطفة، ولكن ماذا يفعل
علاجاً للواقع؟ فقد وقع أمر لم يكن يريد وقوعه صلى الله عليه وسلم، قال:
(دلوني على قبرها) تداركاً لما فات، فدلوه على قبرها، فذهب إلى البقيع،
ووقف على قبرها، وصلى عليها.
هنا عنوان مسألة: الصلاة على الميت في قبره، والصلاة على الغائب، وهما
مسألتان مقرونتان، أما الصلاة على الغائب فسيأتي للمؤلف صلاته صلى الله
عليه وسلم على النجاشي، يوم أن مات فنعاه لأصحابه، وخرج بهم وصلى عليه في
يومه وهو في الحبشة، وأما الصلاة على القبر فبعض العلماء يقول: لا صلاة على
القبر، وبعضهم يقول: يصلي مطلقاً بدون حد، وبعضهم يقول: إلى حدود الشهر، إن
كان دفن وهو ممن يحب أن يصلي عليه، أو أنه دفن ولم يوجد من يصلي عليه، فدفن
بدون صلاة، قالوا: إنه يصلى عليه في القبر، وإذا دفن بدون غسل أو كفن، وكان
الوقت قريباً (قبل أن تتبدد الجثة) نبش وغُسِّل وكُفِّن وصلي عليه، وأعيد
دفنه، أما إذا غسل وكفن، ولم يوجد من يصلي عليه، ثم دفن، فيصلى على قبره،
بعضهم يقول: إلى ثلاثة أيام قبل أن تتغير الجثة، وبعضهم يقول: إلى شهر،
ويستدلون بفعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على القبر.
ثم زادت رواية مسلم عبارة تبيّن ميزة صلاته صلى الله عليه وسلم على الميت
(إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أصحابها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي
عليهم) وهذا من فضل دعائه صلوات الله وسلامه عليه للميت المقبور، فالله
يستجيب دعاء رسوله، وينور القبر على صاحبه.
فوائد مستفادة من
حديث الصلاة على المرأة التي كانت تقم المسجد
الحديث من حيث هو يسوقه المؤلف رحمه الله دليلاً لجواز الصلاة على القبر،
ثم فيه تكريم أهل الصلاح وفعل الخير، بصرف النظر عن شخصياتهم، ثم فيه عناية
النبي صلى الله عليه وسلم بنظافة المساجد، هذه ثلاث نقاط محل البحث في هذا
الحديث: أولاً: تكريمه صلى الله عليه وسلم لأهل الخير وفعل الخير، فهذه
امرأة من عامة المسلمين، يعنى بها صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في خبرها
أنه افتقدها (فقالوا: إنها مريضة، فقال: إذا ماتت فآذنوني -أي: أعلموني-
فماتت ليلاً، قالوا: فكرهنا أن نشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فدفناها، فلما أصبح سأل عنها، قلنا: ماتت، قال: هلا آذنتموني؟ -يعني: كما
أخبرتكم- فاعتذروا فقالوا: كرهنا أن نشق عليك ليلاً) وفي رواية (كأنهم
تقالوا أمرها) يعني: لأنها امرأة من عامة الناس، ما هي من ذوات المناصب، أو
الحسب، ولا يوجد من كبار الصحابة من ينتمي إليها فتكرم من أجله، فهي امرأة
عادية، فبين أبو هريرة أن فضلها وعناية النبي بها إنما هو لذاك العمل
الجليل الذي كانت تقوم به، وهو أنها تقم المسجد، أي: تجمع القمامة من
المسجد، أي: تقوم بعمل الكناسين، وتنظف المسجد، ومن هنا كانت عناية النبي
صلى الله عليه وسلم بها.
وفيه خدمة النساء للمساجد، ما لم توجد خلوة مع أحد من المصلين، وليس لها
عمل أهم منه، فهي تقم المسجد، والمؤلف رحمه الله ساق الحديث لجواز الصلاة
على القبر.
أما العناية بالمساجد فقد تقدم في هذا الكتاب المبارك في أول باب المساجد
(أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وتنظف)
تلك هي العناية بالمساجد، بل قال صلى الله عليه وسلم (عرضت علي أعمال أمتي
حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) وقال (البصاق في المسجد خطيئة،
وكفارتها دفنها) ، (ورأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في جدار القبلة في
مسجد من المساجد، فأخذ صلى الله عليه وسلم يحتها بطرف ردائه، وقال لهم لا
يؤمنكم إمامكم هذا بعد اليوم) أي أنه عزل الإمام عن الإمامة؛ لأنه لم يراع
حرمة المسجد، وبعضهم قال: لأنه تنخم وهو في الصلاة أمامه، وقد نهى صلى الله
عليه وسلم المصلي أن يبصق أمامه في الصلاة، وقال (فإن الله تجاه وجهه،
فليبصق تحت قدمه اليسرى) وقالوا: في المنديل أو في نحو ذلك.
وقبل هذا كله جاء الأمر بذلك في كتاب الله، وذلك في موطنين: منهما قوله
سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أن ترفع،
أي: حساً ومعنى، لأن رفعة البناء تدل على عظمته وتقديره، والعناية به،
وانخفاض البناء يدل على تحقيره وعدم أهميته، وترفع معنوياً أيضاً بالذكر
وبالعلم، وبالحفاظ عليها.
والموطن الثاني في مقارنة بين البناء وبين الصيانة والحفاظ، ففي بيت الله
الحرام يقول سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ
الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] يرفع إبراهيم: إسناد رفع القواعد
من البيت لإبراهيم وإسماعيل جاء معطوفاً على إبراهيم كالمساعد؛ لأن إسناد
رفع القواعد لإبراهيم وحده، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ
مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] لكن في العناية وفي النظافة،
وفي الرعاية؛ جاء إسناد ذلك لإبراهيم وإسماعيل معاً على المشاركة،
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:125] أي: وعهدنا
إليهما معاً: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي} [البقرة:125] بألف التثنية، فشرَّك
بينهما في العناية بالبيت الحرام في تطهيره من الأرجاس، ومن الأصنام، ومن
الأوساخ، إلى آخره.
ومن هنا يتضح لنا أن العناية أهم من البناية، لأن البناية تقام مرة واحدة،
فهذا المسجد النبوي الشريف، وجدنا هذه البناية الفخمة الضخمة العظيمة،
انتهى أمرها بتكاليفها وميزانيتها، وبقيت الصيانة والعناية، فالبناية مرة
واحدة أياً كان المشروع؛ محطة تصفية -أي تحلية المياه-، محطة توليد
الكهرباء، فإذا انتهت إقامتها بقيت العناية والرعاية بها، مدة تشغيلها طول
عمرها، إذاً: العناية والرعاية لكل مشروع أهم من إنشائه، فكان هنا
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا}
[البقرة:125] أي: فهذه رعاية البيت أسندت إليهما معاً.
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يعنى بالمساجد، بل كان في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم رجل خاص يجمر المسجد، أي: يأتي بالمجمرة وفيها الجمرة،
وعليها العود، ليطيب بها المسجد، وكان هذا الأمر معمولاً به إلى عهد قريب
حضرناه، ولا يزال حتى الآن يوم الجمعة، وكان يعهد به الأمير في رمضان في
صلاة التراويح، ويطيب المسجد بالعود ويجمر.
إذاً: هذه المرأة لكونها تقوم بهذا العمل، سواء كانت سوداء أو بيضاء أو
حمراء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عني بها وكرمها، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] كرمها بحسن عملها، وبعنايتها
ورعايتها للمسجد في أنها كانت تقمه، هذا من جانب تكريمها.
الجانب الثاني: الصلاة على قبرها، من الناحية الفقهية نجد العلماء قد
يختلفون: هل يصلى على القبر بصفة عامة أم لا؟ فأول الأقوال: لا يصلى،
والذين قالوا: لا يصلى استدلوا بالزيادة التي زادها مسلم (فإن هذه القبور
مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) فقالوا:
(بصلاتي) هذه خاصة به صلى الله عليه وسلم، وليست صلاة كل إنسان ينور الله
بها قبر من صُلِّي على قبره، والمجيزون قالوا: لقد ذهب معه أشخاص وصلوا
معه، فهذه صلاة غير رسول الله من أصحابه معه، فقال المانعون: التابع ليس
كالأصيل، هم تبع لرسول الله، والمجوزون قالوا: لو أنه لا يجوز أن يصلى على
القبر لبيَّن صلى الله عليه وسلم وقال: لا تفعلوا أنتم، كما جاء في بيان
الخصوصيات، فالذين قالوا: يصلى قالوا: لفعله صلى الله عليه وسلم ولتقريره
هذا، وهو يعلم أنهم يرونه ويشاركونه في الصلاة، ويتأسون بفعله صلوات الله
وسلامه عليه.
ثم اختلفوا: إلى متى يصلي، فبعضهم يقول: إلى ثلاثة أيام، وجاء أيضاً (أنه
صلى الله عليه وسلم مر على قبر رطب فصلى عليه) يعني: مدفون حديثاً، ولا
يزال ترابه طرياً، وقوم قالوا: إلى شهر، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم
(أن أم سعد توفيت وهو غائب، فلما قدم صلى عليها صلى الله عليه وسلم بعد
دفنها) قيل: بشهر.
إذاً: الحديث جيء به لبيان الأحكام من حيث جواز الصلاة على القبر، فهناك من
يمنع ويقول: هذه خصوصية، ولكن دعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، والمجوزون
يختلفون، فمنهم من يقول: إلى ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: إلى شهر، والبعض
من يقول: ما لم يترب، أي: ما لم يصر تراباً.
فالجمهور على جواز الصلاة على القبر، ويختلفون في المدة التي يمكن أن يصلى
فيها، والكلمة المجملة أن يقال: ما دام يغلب على الظن أن الميت لم يتفسخ.
كتاب الجنائز [7]
مسألة نعي الميت لها حالات منتشرة بين الناس: فهو إما لتجهيزه والصلاة
عليه، وإما للصلاة عليه فقط، وإما للمباهاة والمفاخرة بهذا الميت، وإما
نوحاً عليه وتفجعاً وندبةً، وفي هذه المادة بيان هذه المسألة وما يتعلق بها
باب كراهية النعي
حكم نعي الميت
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان ينهى
عن النعي) رواه الترمذي وحسنه.
أنواع النعي والجمع
بين النهي والفعل
يلاحظ في هذا دقة العلماء وأن فن التأليف ليس مجرد جمع نصوص! ففي هذا
الحديث كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي، وبعده مباشرة يأتي المؤلف
بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى، فقد نعى النبي صلى الله عليه وسلم
في يوم موت النجاشي، فكيف ينهى عن النعي، وكيف نعى؟! وهذا كما أشرنا سابقاً
فيما يظهر ذلك بدقة أكثر في الموطأ وصنيع الإمام مالك في الموطأ في إيراد
الأبواب يفسر بعضها بعضها، فهنا اتفق الجميع.
ما هو النعي؟ قالوا النعي: خاص بالإخبار عن الميت، مات فلان، ثم يقول ابن
عبد البر: النعي على ثلاثة أقسام: نعيٌ لمجرد إخبار أهل وأصدقاء الميت من
أجل القيام بواجبه من تجهيزه والصلاة عليه والدعاء له ودفنه، فهذا لا بأس
به.
ونعي للمكاثرة والمفاخرة وأن يذهب أشخاص إلى الأسواق أو إلى غير ذلك،
ويعلنون موت فلان، فهذا للمكاثرة والشهرة والكثرة، وهو لا يجوز.
ونعي كنعي الجاهلية: يا سندنا يا سيدنا يا صفوتنا يا كذا، ويصفونه بصفات
أكثرها زور وبهتان، فهذا من النعي المحرم الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه
وسلم.
إذاً: النعي إخبارٌ بموت الميت، هذا الإخبار إن كان لمجرد الإعلام بموته
عند ذويه وأقاربه وأصدقائه، ومحبيه ليشاركوا في مصالحه: من تجهيز ودفن
وصلاةٍ عليه، ودعاء له، فهذه سنة، وما عدا ذلك فهو داخل في النهي؛ لأنه صلى
الله عليه وسلم مع نهيه عن النعي، نعى النجاشي لأصحابه.
إذاً بهذين النصين واقترانهما نجد أن هناك نعياً منهياً عنه، ونجد هناك
نعياً واقعاً بالفعل منه صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يجتمع النهي
والفعل، كما أن السلب والإيجاب لا يجتمعان؛ لأنهما نقيضان لا يجتمعان.
إذاً النعي المنهي عنه: ما كان فيه من صفات الجاهلية.
والنعي المثبت المشروع هنا: ما كان من حق الميت وفي مصلحته، ثم إن العلماء
ذكروا ناحية أخرى وهي أن الميت إذا نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإذا وضع في
القبر أتاه الملكان يعذبانه ويقولان: أأنت كذا؟ ويضربانه، فيقول: أنا ما
قلت، كما جاء عن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: (أنه مرض فأغشي
عليه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وعاده وقال: اللهم إن كنت جعلت له
بقية في العمر فعافه، وإن كنت كتبت له كذا فسهل عليه، فتعافى وصح وقال: يا
رسول الله! أمي كانت تقول كذا أو أختي كانت تقول كذا، فكنت أعذب على ذلك.
من هنا قالوا: من نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإنه يعذب بهذا النعي، فقيل:
وما ذنبه وإنما كان النعي من الآخرين، فأجابه: أنه إذا كان يعلم من طبيعة
أهله أنهم يفعلون ذلك، فوجب عليه أن يحذرهم، وأن يمنعهم في حياته كما جاء
عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا مت فلا تنعوني أي كنعي الجاهلية،
فإذا كان يعلم من حالهم أنهم يفعلون شيئاً من ذلك، وأوصاهم أن لا يفعلوا
وقال: أنا لا أقبل ذلك، برئت ذمته، ومن فعل أقاربه شيئاً من ذلك بعد هذا
فعلى أنفسهم، ويكون هو قد خرج من العهدة.
نعي النبي صلى الله
عليه وسلم النجاشي وصلاته عليه
نأتي إلى الحديث الثاني وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي
لأصحابه في اليوم الذي مات فيه) وعرفنا بأن نعي النبي صلى الله عليه وسلم،
إنما هو مجرد الإعلام ولا شك، والنجاشي كان في الحبشة وهم بالمدينة، لا
توجد هواتف ثابتة ولا جوالة ولا وسائل إعلام حديثة، لم يكن إلا الوحي، ولم
يكن إلا المعجزة، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يقع لبعض
صالحي الأمة، كما وقع لـ عمر حين قال: (يا سارية الجبل) وإن كان بعض الناس،
يطعن في هذه القصة وفي الرواية ويرتب عليها أشياء لا طائل تحتها، بل قالوا:
النبي صلى الله عليه وسلم كشف له ما بينه وبين الحبشة.
نقول: الرسالة والنبوة والأمور الغيبية، لا نتدخل فيها، ويكفي أن نثبت
الخبر، وقد جاء في غزوة مؤتة، وكان ثالث الأمراء ابن رواحة وذلك لما أرسل
صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف، وأميرهم زيد بن حارثة قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أصيب: فـ جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فـ
عبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليختر المسلمون رجلاً منهم) ثم كشف الله له
عن سير المعركة في يومها، فجلس على المنبر ثم قال (أخذ الراية زيد فأصيب،
ثم قال: أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم قال: أخذ الراية عبد الله وصمت، فلما
صمت شك أو توهم الأنصار أنه وقع بـ ابن رواحة ما يكرهون، ثم أعاد وقال: أخذ
الراية عبد الله بن رواحة فأصيب) فكان أشد إيلاماً على الأنصار في هذه
الواقعة.
فهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي أخذها أصيب ثم أخذها فلان،
وجاء في ترجمة ابن رواحة أيضاً، وفي قصة مؤتة أن رجلاً جاء بخبرهم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن شئت أخبرتنا، وإن شئت أخبرتك بالواقع،
قال: أخبرنا يا رسول الله! فذكر له ما وقع بالفعل، فقال: والذي بعثك بالحق:
ما غيرت حرفاً واحداً مما وقع، ثم قال صلى الله عليه وسلم: الآن أخذ الراية
سيفٌ من سيوف الله ألا وهو خالد بن الوليد يفتح الله عليه أو يفتح الله
إليه) يهمنا بأن الله سبحانه وتعالى يفعل لرسوله ما يشاء، وقد يلهم إنسانٌ
عن أمر بعيد عن الواقع، ويكون حقاً، هذه أمور بعيدة عن الحس، وليس للعقل
فيها تحكم، ولكن الأمر للواقع الفعلي.
فهنا نقول: نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي لأصحابه -أي أعلمهم
بموته- والنجاشي كما يقولون، لقب مُلك، وليس لقب شخص، فكل من حكم الحبشة
يسمى (نجاشي) .
وكان نجاشي الحبشة آنذاك اسمه أصحمة وقيل بالحبشية معناه: عطية، وقيل:
ألفاظٌ أخرى، وقيل: كل من ملك الروم قيصر، وكل من ملك الفرس كسرى، وكل من
ملك القبط في مصر فرعون، وكل من ملك مصر في غير القبط يسمى العزيز وكل من
ملك اليمن يسمى تبعاً، وهكذا ألقاب للملوك وليس للشخص بذاته.
فـ النجاشي في ذلك الوقت كان لقب ملك الحبشة، فمن كان قبله يسمى نجاشياً،
ومن كان بعده يسمى نجاشياً، كما هو معروف عند الناس في كسرى وقيصر.
بقي عندنا ما يتعلق بإخباره صلى الله عليه وسلم عن هذا النجاشي في ذلك
الوقت، تجدون في منتقى الأخبار مع شرح نيل الأوطار تأتي روايات (مات اليوم
رجلٌ صالح بالحبشة) وفي رواية أخرى (إن أخاكم النجاشي قد مات) فوصفه بأنه
كان رجلاً صالحاً، وسماه أخاهم.
وكونه يخرج ويصلي عليه، فهل النبي يصلي على مسلم أم على غير مسلم؟ هذا أكبر
دليلٍ على أن النجاشي رضي الله تعالى عنه أسلم وآمن برسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولقد نذكر ما كان من شأنه في السيرة النبوية، بأن النبي صلى
الله عليه وسلم في سنة تسع لما اشتد الأمر على المسلمين بموت عمه وبموت
زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت تسمى سنة الشدة، أو عام الحزن، واشتد حزنه
صلى الله عليه وسلم، وتجرأ عليه بعض من كان لا يتجرأ في حياة عمه، وخرج إلى
الطائف ثم رجع ثم قال لأصحابه (إن بالحبشة ملكاً عادلاً، أرى أن تهاجروا
إليه لا يضام أحد في جواره) فقال: (ملكاً عادل) لأنه آنذاك، لم يبلغه خبر
رسول الله، وفرقٌ بين كلمة (عادل) وبين (عدل) ؛ لأن العادل الذي يعدل في
حكمه ويعادل بين المتساويين، وذلك مأخوذ من العِدْلة، والعِدْلة هي ما يكون
في أحد شقي البعير، عِدلة عن اليمين وعِدلة عن اليسار، فإن تعادلت العدلتان
في الوزن والثقل، وكان الحمل معتدلاً استراح البعير، وإن كانت إحدى
العدلتين ثقيلة مال وكان البعير تَعِباً في هذا الحمل.
فالعادل يصدق على كل من عدل في الحكم، وكما هي كلمة عمر رضي الله تعالى
عنه: لما بلغه أن عامله في مصر، أخذ دار امرأةٍ حينما أراد أن يبني
الفسطاط، وجاءت واشتكت إلى عمر إلخ، كتب إليه كلمة ونصف فقال: (نحن أحق
بالعدل من كسرى) المرأة تعجبت، هذا صاحب الهيمنة وصاحب كذا، يعطي هذه
الرقعة وفيها هذه الكلمة، ماذا عساها أن تجدي؟!! وكانت تستثقل رحلتها من
وإلى مصر، فلما وصلت وأعطتها إياه، وضعها على رأسه، وأمر العمال أن يهدموا
كل ما بنوه على أرض المرأة، وأمر أن يقيموا لها بيتها على أحسن ما كان،
قالت: واعجباً أميرهم هناك، وبهذه الرقعة يفعل كذا، والله هؤلاء الناس على
حق!! وأسلمت! فنحن يهمنا قوله: (نحن أحق بالعدل من كسرى) .
إذاً: العدل صفة في الملك لمن أراد دوام ملكه، ويقول الإمام ابن تيمية رحمه
الله: (الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم) .
إذاً ملكٌ عادل: وهذا من عقلاء الملوك، فأشار النبي على أصحابه بالهجرة،
فهاجروا إليه، فلما هاجروا أرسل أهل مكة بعد بدر للذين هاجروا إلى الحبشة
ليثأروا لقتلى بدر، وأرسلوا عمرو بن العاص وكان من دهاة العرب وصديقاً
للنجاشي في ذلك الوقت، أرسلوه بهدايا، فجاءه وسجد له على ما كان يتعامل
معه، وقال: يا أيها الملك! إن أُناساً منّاً فارقوا ديننا ودين آبائهم،
ولجئوا إلى بلادك وليسوا على دينك، وقد أرسلنا قومهم إليك لتردهم إلى
قومهم، فقال: ما كان لي أن أرد قوماً اختاروني على غيري حتى أدعوهم وأسمع
ما عندهم، وأعرف ما لديهم، فدعاهم، وكان جعفر رضي الله تعالى عنه، هو خطيب
القوم.
وقال: لا يتكلم أحدٌ غيري، فلما دخلوا على النجاشي وعمرو بجانبه، لم يسجد
للملك، فقال: انظر! لم يسجدوا لك كما نسجد، -بأسلوب فيه إثارة- فقال
النجاشي: ما لك لا تسجد كما يسجد القوم؟ قال: أيها الملك! نحن لا نسجد إلا
لله، قال: وما ذاك، قال: كنا في جاهليةٍ جهلاء يأكل قوينا ضعيفنا، ونأكل
كذا، ونفعل كذا -وعدد المنكرات- ثم قال: فبعث الله فينا رجلاً منا نعرف
نشأته ومولده ونسبه، وصدقه وأمانته، فأمرنا بعبادة الله وحده وبالصدق،
وبالأمانة وصلة الأرحام و.
و.
إلخ.
وجد النجاشي كلاماً حسناً، كما قال دريد بن الصمة لما أرسل ولده من الطائف
إلى مكة انزل وأتني بخبر هذا الرجل، فرجع إليه وقال: والله إنه ليأمر
بالصدق وبأداء الأمانة وصلة الأرحام وكذا وكذا، قال: والله يا بني! إن لم
يكن ديناً فهو مكارم الأخلاق.
فهذا قول رجل جاهلي، فكذلك النجاشي سمع كلاماً حسناً فغاظ عمرو بن العاص،
وقال: اسأله ماذا يقولون في مريم وابنها عيسى.
انظروا يا إخوان! الأعداء كيف يكيدون للمسلمين، وكيف يثيرون الشبه، ليحرضوا
عليهم أعداءهم، فسأله، فقال: أيها الملك! نقول ما قال الله فيه، قال: وماذا
يقول الله فيه؟ فقرأ عليه مطلع سورة مريم ثم قال: نقول فيه: إنه عبد الله
ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم.
إلخ.
فما كان من النجاشي إلا أن أهوى إلى الأرض، وأخذ عوداً ثم قال: والله ما
زاد صاحبكم على عيسى ومريم مثل هذه القشة على ما جاء في التوراة والإنجيل.
ومن هناك دخل الإيمان في قلب النجاشي، ثم قال لبطارقته: ردوا عليهم
هداياهم، لا حاجة لي في هداياكم -أي: هدايا كفار قريش-، فإن الله لم يأخذ
مني الرشوة على أن رد لي ملك أبي، وكانت له قصة مع أبيه ومع أخيه، ثم قال
لـ جعفر وأصحابه: سبحوا في بلادي لا يؤذيكم أحد، من اعتدى عليكم كأنه اعتدى
عليّ، فصاروا آمنين.
بعد فترة فإذا بـ عمرو يأتي إلى النجاشي مرةً أخرى، ويدخل رجل مُرسَل بكتاب
من رسول الله إلى النجاشي، يشكره على ما صنع بالمسلمين، فذهب عمرو مع
أصحابه ودخل على الملك، أو كانوا فروا من مكة لما سمعوا بالنصر في بدر،
ولما سمعوا بظهور الإسلام، قالوا: نذهب عند النجاشي ليس لنا طريق إلا هو،
ضاقت بنا الأرض، واجتمع عدد من الصحابة فراراً بالإسلام عند النجاشي يعيشون
في ظل ملكه، فرأى عمرو هذا الرسول، فدخل على النجاشي وقال في نفسه: (لئن
طلبت هذا الرجل من النجاشي أضرب عنقه، لرأت قريش أني صنعت شيئاً) ، فدخل
على النجاشي، وقال: أيها الملك! أطلب منك أن تعطيني هذا الرجل أضرب عنقه،
لترى قريش أني فعلت لها شيئاً! يقول: فما كان منه إلا أن صكني على وجهي،
حتى سال الدم من أنفي ولطخ ثيابي، ثم كأنه أسف على ذلك، ثم قال: أتطلب مني
رسولَ رسول الله الذي يأتيه الناموس من السماء، قال: أيها الملك! أتعلم
بأنه رسول الله؟ قال: يا عمرو! والله إنه لرسول الله، ولينصرنه الله كما
نصر موسى وعيسى قال: يا أيها الملك! أتبايعني على الإسلام له، قال: نعم،
فبسط النجاشي يده وب
صلاة الجنازة على
الغائب
ومن فقه الحديث: هل لنا أن نصلي على الغائب أم لا؟ يقولون في الصلاة على
الجنازة: (اللهم اغفر له اللهم ارحمه) والجنازة أمامنا وبين أيدينا، فإذا
كان غائباً كيف نصلي عليه بالنية أو بالقصد؟!! فهناك من قال: لا يصلى على
غائب، وهناك من قال: يصلى؛ لصلاته صلى الله عليه وسلم، وهناك من قال: هذه
الصلاة خصوصية لماذا؟ قالوا: لأن الله لما كشف لرسوله موت النجاشي، كشف له
عن جنازته، فلكأن النجاشي بين يديه وهو يكبر ويدعو له.
والآخرون يقولون: والذين خرجوا معه، وصفوا خلفه، وكبروا وصلوا على النجاشي
هل كانوا يشاهدون الجنازة؟ ما كانوا يشاهدونها، وإنما صلوا تبعاً له، ومن
هنا يختلفون في الصلاة على الغائب.
فبعض العلماء قال: إذا مات إنسان في بلد، ويغلب على الظن أنه لا يوجد فيها
من يصلي عليه، ودفن بغير صلاة، صلينا عليه، ولكن وجدنا ذلك كما يقول
الآخرون مدفوعاً، بأن لا تخلوا الحبشة من بعض المسلمين، وكذلك أيضاً ما دام
قد فعل صلى الله عليه وسلم، ولم يخصص ذلك وذكروا بأن الرسول صلى الله عليه
وسلم صلّى على معاذ بن مقرن أو فلان، وهو في تبوك، والميت في المدينة،
والحديث تكلم عنه ابن كثير بضعف؛ لأن جبريل أتاه وقال (إن فلاناً قد مات،
فأسف عليه، قال: هل لك أن تصلي عليه؟ قال: بلى، فقال: بيده هكذا، وفرج له
ما بينه وبين المدينة، فصلى عليه وهو يرى جنازته) .
فقالوا: هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، والجمهور على جواز الصلاة على
الغائب، وأخذاً من هذا الحديث ومن فعله صلى الله عليه وسلم.
من صلى عليه أربعون رجلاً موحداً يشفعون
فيه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ما
من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا
شفعهم الله فيه) رواه مسلم.
بدأ المؤلف يتجه إلى الصلاة على الجنائز، وبدأ ببيان فضل العدد الذين تتاح
لهم الفرصة في الصلاة على الجنازة.
أولاً: هذا الحديث (ما من رجل يصلي عليه أربعون رجلاً ... ) جاءت روايات
متعددة في هذا المعنى: (لا يشركون بالله شيئاً) وجاء: (مائة رجل) وجاء:
(صلى عليه أمة يبلغوا أن يكونوا ثلاثة صفوف) ومن هنا استحب بعض العلماء:
إذا كان العدد قليلاً أن يقسمهم الإمام إلى صفوف ثلاثة، ولو كان الصف شخصين
فقط، لتعدد الصفوف على رواية ثلاثة صفوف، وجاء: (وصلى عليه أربعة من جيرانه
الأدنين) وجاء: (صلى عليه أربعة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أو ثلاثة؟
قال: أو ثلاثة، قال: أو اثنان؟ قال: أو اثنان، يقول: وسكت أن أسأله عن
الواحد) فهذه النصوص، جاءت أن من صلى عليه أربعون رجلاً لا يشركون بالله
شيئاً أو مائة رجل أو أربعة رجال؛ يشهدون له، أو يشفعون فيه، إلا شفعهم
الله فيه، وشفاعتهم فيه قالوا: يخلصون له الدعاء، فيدعون له بالمغفرة،
وبحسن الجزاء إلخ، بنية خالصة، وبقصدٍ طيب بأن الله سبحانه وتعالى يغفر له،
وبعضهم يقول: يشفعون، أو يشهدون له بالثناء عليه خيراً، وورد (بأن جنازةً
مرت، فأثنوا خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، وقيل: قالها ثلاث مرات،
وجبت، وجبت، وجبت ومرت جنازة أخرى، فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، وجبت،
وجبت، فقال عمر: ما وجبت يا رسول الله؟! قال: وجبت الجنة بالثناء عليه،
ووجبت النار بذمه، أنتم شهداء الله على خلقه) وبعضهم يقول: هناك رواية الله
أعلم بصحتها: (إن لله ملائكة تنفث على ألسنة الخلق بما تشهد به) كل هذه
الروايات متكلم فيها، ولا ينبغي تعمد قول: ماذا تقولون؟ أو على ماذا
تشهدون؟ لأن هذه أمور فيها إحراج، ولا ينبغي ذلك، إنما يكون عفوياً إذا
اجتمع جماعة، وصلوا على ميت، وأخلصوا الدعاء له، هم بأنفسهم كانوا شفعاء له
عند الله بدعواتهم وصلاتهم عليه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع أو ما صلى أربعون رجلاً على مسلم، أو
على ميتٍ، لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) وعلى ما تقدم من أن
العدد ليس قاصراً على الأربعين ولا على المائة، وبعض العلماء يقول: هذا عدد
لا مفهوم له، يعني: ليس له مفهوم مخالفة، فلو جاء عدد مائة ونقص واحد أو
عشرة وصاروا تسعين، لا نقول إن هذا يبطل العدد، لا.
وبعضهم يقول: إن تلك الحالات أجوبة عن أسئلة قد صدرت.
بمعنى واحد يسأل: يقول: يا رسول الله! رجل صلى عليه أربعون رجلاً، أيشفعون
فيه؟ قال: نعم.
ثم جاء رجل آخر وقال: رجل صلى عليه مائة رجل يشفعون فيه؟ قال: نعم.
يعني لم يكن ذلك ابتداءً وتحديداً من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كانت
أسئلة، والأسئلة مختلفة، تارةً يسأل عن أربعين، وتارةً يسأل عن أربعة،
وتارةً يسأل عن مائة، وفي كلٌ يجيب: بنعم يشفعون فيه.
والله تعالى أعلم.
كتاب الجنائز [8]
الصلاة على الجنازة حق من حقوق المسلم على أخيه المسلم، لكن لهذه الصلاة
أحكام وسنن كثيرة ينبغي على المسلم استكمالها، حتى يحوز الأجر ويفوز بالفضل
باب أين يقوم الإمام
من الميت للصلاة عليه
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم
على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسْطها) متفق عليه.
هذا شروع في كيفية الصلاة على الجنازة، وذلك أن الميت إما أن يكون رجلاً أو
امرأة أو أن يكون عدد من الموتى رجالاً أو نساءً، أو رجالاً ونساءً، فأين
يكون موقف الإمام من الجنازة إن كانت واحدة رجلاً أو امرأة؟ وكيف توضع
وترتب الجنائز إن اختلفت وتعددت، هنا يقول: (صليت وراء النبي على امرأة
ماتت في نفاسها، فقام وسطها) الوسْط بالتسكين للمحسوس، والوسَط بالحركة
للمعنوي، خير الأمور الوسَط، تقول: جلس فلان وسْط الدار، جاء يمشي وسْط
رجلين، فبالتسكين للمحسوس، وبالتحريك للمعنوي، فوقف النبي صلى الله عليه
وسلم في وسْطها، لم يقف عند رأسها، ولا عند قدميها، بل في الوسْط، وهذه هي:
سنة الموقف عند الصلاة على المرأة.
وإذا كان الميت رجلاً فإنه يقف عند كتفيه، أو في الجانب الذي يلي الرأس
وليس في الوسْط، وإذا كان هناك جنازات متعددة، فإن كانوا رجالاً جعلوا
الأفضل مما يلي الإمام، وقال قوم: الأفضل يقدم إلى القبلة، كما جاء: (قدموا
أكثرهم أخذاً للقرآن) في دفنهم في القبر.
وإذا كان هناك رجال ونساء فإنهم يجعلون الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما
يلي القبلة، هذا مجمل ما في المسألة، وسيأتي له تتمة إن شاء الله في ترتيب
الصلاة على الجنائز المتعددة.
هناك صورة تكلم عنها صاحب وفاء الوفاء، وهو إذا تعددت الجنائز هل نرصهم
بالطول، بحيث يكون رأس هذا عند رجلي ذاك، أو نرصهم يميناً ويساراً إلى عرض
المسجد، أو نرصهم شمالاً وجنوباً هذا بجانب هذا، ورأس هذا محاذاة لرأس ذاك،
وأقدام هذا محاذاة لأقدام ذاك؟ الذي عليه الجمهور أنهم يرصون الأول والثاني
مما يلي القبلة في عرض واحد وتكون رءوسهم متساوية من جهة الرءوس، وأقدامهم
متساوية من جهة الأقدام، لا أن يمددوا الواحد تلو الثاني إلى اليمين
واليسار.
وهناك تتمة لكيفية وقوف الإمام بالنسبة للرجل، وهو أن يكون عند صدره، وهذه
المسألة لها صور بالنسبة للواقع مختلفة؛ لأن الجنازة إما أن تكون واحداً:
رجلاً أو امرأة، أو متعددة رجالاً أو نساء، أو متنوعة رجالاً ونساء، فإذا
كانت الجنازة واحدة فالمرأة يقف الإمام وسْطها، والمصلون يصفون من وراء
الإمام، والقاعدة يا إخوان! بهذه المناسبة أن صفوف الصلاة في الجماعة تبنى
وتنشأ من خلف الإمام مباشرة، ثم تمتد من اليمين ومن اليسار، لأننا ربما نجد
بعض الإخوان في صلاة الجماعة (الصلاة العادية) يصفون من طرف الصف من
الميسرة أو من الميمنة، وهذا خطأ، وصحة بناء الصف الجديد أن يبدأ من خلف
ظهر الإمام، ثم يمتد يميناً أو يساراً، وهكذا في صلاة الجنازة، الإمام يقف
في الموضع الذي بيَّنه الفقهاء ابتداءً من هذه المرأة، يقف وسْط المرأة
والمصلون يصفون وراءه يميناً ويساراً.
وتقدم بأنه كلما كثرت الصفوف، ولو لم تكن مكتملة إلى النهاية، فهو أفضل
بالنسبة للجنازة، أما الصلوات الخمس فأتموا الصف الأول فالأول.
فالحاصل في الوقوف على الجنازة أن المرأة يوقف عند وسطها، والرجل عند صدره،
فإن كانوا رجالاً متعددين، فمهما كان العدد فيصلى عليهم صلاة واحدة بأربع
تكبيرات، ولكن كيف يُصَفون أيُصَفون تباعاً من القبلة إلى الإمام ويتأخر
الإمام إلى الوراء؟ أم يُصَفون سلسلة، بحيث يكون رأس كل واحد عند قدمي
الآخر، ويمتدون يميناً ويساراً بالنسبة للإمام؟ الذي عليه الجمهور أنهم
يرصون تباعاً، يبدأ بالأول من جهة القبلة ثم الذي يليه، ثم الذي يليه،
ويكون الإمام عند الأخير منهم، وتتحاذى رءوسهم وأقدمهم، ويصلي على الجماعة
كما يصلي على الواحد أربع تكبيرات على ما سيأتي، ويقف أيضاً عند محاذاة صدر
الأخير في الرجال، وإن كن نساء كان الوضع أيضاً تباعاً، ويقف وسْط المرأة
الأخيرة، هذا إذا كان الجنس واحداً.
فإذا كانت الجنائز رجالاً ونساءً، فالجمهور يقولون: يقدم النساء إلى
القبلة، أي: يبعدن عن الرجال، ويكون الرجال وراء النساء مما يلي الإمام،
فالنسوة يقدمن إلى القبلة، والرجال يكونون حاجزين بين جنائز النسوة وبين
الإمام والمصلين.
وبعضهم يقول وهو خلاف الجمهور: العكس؛ لأن الرجال أفضل، فيقدمون في الصلاة،
ولكن المسألة ليست بالأفضلية، لأننا نظرنا المغايرة في الموقف بين الرجل
والمرأة، ولم ننظر في الأفضل.
إذاً: ما قاله الجمهور هو السنة المتتابعة أو المنقولة، وعليها عمل
الجماهير.
فإذا وجد طفل فأين يوضع؟ قالوا: إذا وجد طفل دون السابعة فإنه يوضع مع تلك
الجنائز؛ سواء مع امرأة أو مع رجل، فإن كانت هناك امرأة والطفلة أنثى فتوضع
مع المرأة على خشبتها (على جنازتها) وإن كان الطفل ذكراً، وكان الميت رجلاً
وضع مع الرجل على جنازته، وإن كانت امرأة وحدها ويوجد طفل وكان صغيراً وضع
معها على الخشبة التي هي عليها، وكان تبعاً لها في الصلاة.
هذا هو ترتيب وضع الجنائز في صلاة الإمام عليها، واحداً أو واحدة، أو جماعة
ذكوراً أو إناثاً، أو كانوا من الجنسين معاً.
والله الموفق.
باب الصلاة على
الجنازة في المسجد
وعن عائشة رضي الله عنها قالت (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
على ابني نيضاء في المسجد) رواه مسلم.
هذا الحديث الذي تقسم عليه عائشة رضي الله عنها، ونحن نعلم في سر البلاغة
في العربية أن من أساليب الكلام: الأسلوب الابتدائي، والأسلوب الإنكاري،
والأسلوب الطلبي، فالأسلوب الابتدائي مثلاً: إنسان يكون له شخص غائب -كأخيه
مثلاً-، ويكون جالساً تقول له: جاء أخوك؛ لأنه ليس منكراً لمجيئه، ويترقب
الخبر عن مجيئه، تقول: جاء أخوك، وتلقي إليه الخبر بدون عوامل تأكيد، لكن
إذا كان هو يشك: هل أخوه يأتي أو لا يأتي، تقول له: لقد جاء أخوك، إذ إن
كلمة جاء أخوك لا تكفي، فلذلك تزيد في أسلوب التأكيد ما يعادل التشكيك الذي
عنده فتقول: لقد جاء أخوك، باللام و (قد) فإذا استبعد ذلك وقال لك: لا
أبداً، أنا عندي خبر أنه لن يأتي، فإنك عندئذٍ تقول له: والله لقد جاء
أخوك، وتزيد التأكيد بالقسم.
إذاً: القسم لا يأتي ابتداءً؛ لأن هذا ليس من أسلوب البلاغة العربية.
هناك ناحية أخرى كما يقولون: إذا نُزل غير المنُكِر منزلة المنكر، أو
العكس، وهذا فن في البلاغة ليس لنا حاجة للانشغال به الآن، فهنا أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها تأتينا بالجملة الخبرية ابتداءً مقدمة
بالقسم، إذاً: لابد من وجود شيء قبل ذلك حملها على أن تُقسم هذا القسم!!
وهو أن أصل هذا الحديث أنها قالت لما توفي سعد رضي الله عنه: (مروا به على
المسجد لأصلي عليه) فأنكروا عليها، كونهم يدخلون الميت المسجد، فقالت:
والله، أي: أقسمت، ترد على المنكرين طلبها إدخاله المسجد.
حكم الصلاة على
الجنازة في المسجد
وهنا يأتي البحث: هل يصلى على الجنائز في المسجد أو خارج المسجد، أو عند
المقبرة، أو في بيته حيثما جهز؟ إذاً: حديث عائشة رضي الله عنها في تحديد
أو تعيين أو بيان مكان الصلاة على الجنائز، ويذكر العلماء في أصل هذه
المسألة كما أشرنا سابقاً، وقد يكون من زمن طويل، بأن النبي صلى الله عليه
وسلم لما جاء المدينة كان في بادئ الأمر يتفقدهم، وإذا مرض إنسان يسأل عنه
ويعوده، فإذا احتضر رغب أن يحضر تجهيزه، ويصلي عليه في بيته، ويحملونه من
بيته مجهزاً ومصلىً عليه وينطلقون به إلى البقيع، فكانوا إذا احتضر الشخص
آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي ويحضر، وتتم المهمة، ويُحمل
ويتبعه من يتبعه إلى البقيع، فلما كثر مثل ذلك قالوا: إننا نشق على رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن نؤاذنه على جميع موتانا، فالأولى أن نصبر حتى
نجهز الميت ونذهب به إلى رسول الله ليصلي عليه هناك دون أن نكلفه المجيء،
وقد يكون نزول الموت في الليل أو غير ذلك، فاتفقوا على هذا.
وكلكم يعلم ما يسمى بفرش الحجر، وهو مصلى الجنائز، وهو الحوش الصغير الذي
ما بين باب جبريل وباب البقيع الذي فتح مؤخراً، هناك حوش صغير يمتد من باب
جبريل إلى الجنوب بجوار المسجد، خارج المسجد -تلاحظون هذا أم لا- هذا
قديماً كان يسمى فرش الحجر؛ لأنه مفروش بالحجر المنحوت، فكان هذا الحوش هو
مصلى الجنائز، وكان شرقي الحجرات ملاصقاً لها، وليس كالوضع الحالي الآن،
والحجرات كانت في السابق جدار الحجرات هو جدار المسجد من الشرق، والطرقة
الموجودة الآن ما بين الحجرات، والجدار الذي فيه باب جبريل وباب البقيع ما
كانت هذه الطرقة موجودة، إلا بعد ما وقعت قضية الأعاجم الذين جاءوا وأرادوا
أن ينقلوا جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصتهم طويلة في السيرة وفي
تاريخ المدينة.
فلما حفروا حول القبور الشريفة، وصبوا الرصاص حولها، وأمنوا في ذلك جعلوا
هذه الطرقة؛ لأن الذين جاءوا نزلوا في رباط كان ملاصقاً لجدار الحجرات من
الجهة الشرقية، فنزلوا في ذاك الرباط، وحفروا في مكانهم، وبعمق حتى وصلوا
إلى مستوى القبر الشريف، وهناك أُنذر الخليفة العثماني، ورأى في النوم.
إلى آخر القصة الطويلة، فلما عمروا المسجد بعد ذلك جعلوا هذه الطرقة لئلا
يتوصل إنسان بعد ذلك بأن يحفر بجوار الجدار، ويأتي إلى الجثمان الطاهر
الشريف.
إذاً: تكون الطرقة مانعة من إمكان الوصول كما وصل أولئك في السابق.
فكان مصلى الجنائز، وفرش الحجر ملاصقاً لجدار الحجرات، وكان صلى الله عليه
وسلم إذا جيء بالجنازة خرج إليها وصلى عليها في هذا المكان.
حكم إدخال الجنازة
إلى المسجد
وهنا اختلفوا في صلاة الجنازة على الميت في المسجد، فقالوا: كان يصلي عليها
خارج المسجد، وهذا مصلى الجنائز معروف، والطريق الذي كان قبلي المسجد في
المدينة سابقاً يسمى درب الجنائز، يعني: طرق مجيء الجنائز من أطراف
المدينة، وتأتي إلى أن تأتي إلى الشرق وتأتي إلى المصلى -مصلى الجنائز
الموجود حالياً- فهنا الناس منهم من يقول: لا يدخل الميت المسجد، وهناك من
يقول: لا مانع من دخول الميت المسجد.
الذين منعوا الدخول، وأقسمت لهم عائشة، وبينت لهم فعل النبي صلى الله عليه
وسلم ليس عندهم حديث يمنع دخول الميت المسجد، ولكنهم يقولون قولاً مردوداً،
يقولون: الموت يأتي بالنجاسة، وكل حي مات تنجس.
ويُرد عليهم بأن الإنسان مكرم، والمسلم لا ينجُس حياً أو ميتاً كما جاء في
حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول (كنت أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتذكرت أني جنب، فانخنست عنه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فلحقت به، فقال: أين
كنت؟ قال: كنت نجساً فاغتسلت، ففهم صلى الله عليه وسلم منه أنه أراد نجساً
-يعني: جنباً- قال: يا أبا هريرة! إن المؤمن -المسلم- لا ينجس حياً ولا
ميتاً) وعلى هذا قالوا: تعليل عدم دخول الميت المسجد للصلاة عليه بموته
ونجاسته مرفوض، وهنا عائشة رضي الله عنها تأتينا بفعل رسول الله، فابني
بيضاء ماتا في وقت واحد، وجيء بهما إلى المسجد وصلى عليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم في المسجد.
أيضاً يذكر علماء الحديث بأن الصديق رضي الله تعالى عنه لما توفي صلى عليه
عمر في المسجد، ولما توفي عمر رضي الله عنه صلي عليه في المسجد.
إذاً: الصلاة على الجنازة في المسجد عمل الجمهور، والله سبحانه وتعالى
أعلم.
حكم صلاة المرأة على
الجنازة
بقي هنا سؤال جانبي، ونحن نحتاجه ويكثر السؤال عنه: هل المرأة تصلي على
الميت؟ كثيراً ما يسأل بعض الناس عن هذا فيقولون: هل النسوة يصلين على
الميت أم لا؟ فهذه أم المؤمنين تقول: (مروا به بالمسجد، ومروا به عليَّ
لأصلي) فبعضهم يقول: لا، لا تصلي إنما تدعو، وأولوا الحديث عن ظاهره، ولو
كانت هذه المسألة مسألة دعاء فتدعوا له حيث كان، لكن تريد أن يوقف وأن يوضع
وأن تصلي عليه كما يصلى على جميع الجنائز، ثم ذكرنا سابقاً انتقاله صلى
الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وأرادوا الصلاة عليه، ما كان هناك من
يؤم الناس؛ لأن الخلافة لم تنعقد لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلا بعد
بيعة سقيفة بني ساعدة، فهنا لعدم وجود إمام كانوا يدخلون عليه فرادى واحداً
واحداً كلٌ يصلي وينصرف، وقيل: جماعات عشرة عشرة يدخلون فيصلون بدون إمام
ثم ينصرفون، فأدخلوا الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان، أي المميزين، وعلى هذا
فإن النسوة قد صلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين تقول:
(مروا بـ سعد عليَّ لأصلي عليه) إذاً النسوة يصلين على الميت، باستقلال أم
تبع الرجال؟ ما دام أن هناك رجال فالرجال أولى بالإمامة، وهن يكن تبعاً،
إذا لم يكن وحضرن وحدهن فلهن أن يصلين على الجنازة وتأمهن إحداهن.
والحمد لله رب العالمين.
باب التكبير على
الجنازة (عدد التكبيرات على الجنازة)
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال (كان زيد بن أرقم رضي الله عنه يكبر على
جنائزنا أربعاً، وإنه كبر على جنازةٍ خمساً، فسألته فقال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يكبرها) رواه مسلم والأربعة.
هنا شروع في عدد التكبيرات، وأشرنا في الصلاة على النجاشي رضي الله عنه أن
الرسول صلى الله عليه وسلم صفَّ بهم وكبر عليه أربعاً.
قالوا كان التكبير قبل ذلك أربعاً خمساً سبعاً تسعاً وبعد أن كبَّر النبي
صلى الله عليه وسلم على النجاشي أربعاً، استقر الأمر على ذلك، وثبت على
الأربع إلى أن انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
نجد هناك روايات عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (كان التكبير كذا وكذا،
واتفقنا على أن تكون أربعاً) وتأتي رواية أخرى بأن عمر رضي الله عنه هو
الذي جمع الصحابة على أربع، وليس هناك تعارض؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه
وسلم لمن حضر وسمع وعلم به.
ومن لم يحضر ولم يسمع ولم يعلم كان على ما كان عليه الأمر أولاً، من شاء
كبر أربعاً أو خمساً أو ستاً أو سبعاً، وقد يزاد على الشخص الواحد في ذاته
لخصيصة عنده، فلما كان الأمر كذلك، ورأى عمر أن بعض الناس لم يبلغه اقتصار
النبي صلى الله عليه وسلم على الأربع، جمع الصحابة وأقرهم -أو اتفقوا
وأجمعوا- على ألا يزاد عن أربع.
وبعد ذلك لم تكن التكبيرات على الجنائز أكثر من أربع، إنما روي عن علي رضي
الله عنه أنه كبر على رجل خمساً، ولما سئل في ذلك قال: إنه بدري، يعني:
زاده لكونه من أهل بدر، ونحن يهمنا التشريع العام، فليس عندنا الآن أحد من
أهل بدر، وإنما عندنا التشريع العام لعامة المسلمين، وإذا كان الخلاف قد
وقع قبل عمر، وانتهى الإجماع بعد عمر، وأصبح الأمر مستقراً بإجماع أصحاب
رسول الله فلا ينبغي لأحد أن يزيد على الأربع تكبيرات التي توارثها الخلف
عن السلف.
هذا مجمل ما يتعلق بهذه المسألة وهو عدد التكبيرات على الجنائز.
باب التكبير على
الجنازة - التكبير على الجنائز أربعاً
.
بيان فقه المؤلف في
تأخير حديث جابر
وعن جابر رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر على
جنائزنا أربعاً، ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) رواه الشافعي
بإسناد ضعيف.
من فقه المؤلف رحمه الله أنه جاء بالتكبيرات المختلف فيها، ثم ختم في
النهاية بحديث جابر رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر
على جنائزنا أربعاً) فكأن المؤلف يقول: أختم لك البحث، وأقضي لك على الخلاف
بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) رواه الشافعي بإسناد ضعيف.
القراءة في صلاة
الجنازة
هذا الجزء من الحديث شروع في كيفية الصلاة، فقد عرفنا أن التكبيرات أربع،
لكن ماذا يفعل في التكبيرات الأربع؟ بدأ المؤلف في بيان ذلك فقال: في حديث
جابر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً، ويقرأ
بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) مسألتان: الأولى: أنه يقرأ بفاتحة
الكتاب، والثانية: أن ذلك في التكبيرة الأولى.
لأن بعض الناس قد يقول: التكبيرات الأربع تعادل الركعات الأربع في الصلاة
الرباعية، فيتوهم بأنه يقرأ في كل تكبيرة فاتحة الكتاب.
فـ جابر بيَّن لنا أنه تقرأ فاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى، أما
التكبيرات التي بعدها فسيأتي الكلام عما يقال فيها.
فمسألة قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة مسألة مستقلة.
ربما نجد من يقول لا قراءة في صلاة الجنائز؛ لأنها عبارة عن دعاء، وربما
يستدلون بما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه كان ماراً بالمسجد
فرأى جنازة في الداخل، فتيمم عند باب المسجد ودخل وصلى، قالوا: كيف تتيمم
والماء موجود، أي: ليس هذا محل تيمم؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً} [المائدة:6] ، والماء موجود، قال: إنما هي دعاء، فقالوا: تساهل في
ترك الوضوء واكتفى بالتيمم، على أن الصلاة على الميت دعاء، إذاً: فلماذا
الفاتحة؟ إذاً القول الأول: أن صلاة الجنازة لا فاتحة فيها.
والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة: على أن صلاة الجنازة فيها فاتحة.
تأتي مسألة ثانية: فاتحة الكتاب في الصلوات الخمس معها سورة صغيرة أو آية،
فهل فاتحة الجنازة معها كذلك أو يقتصر على الفاتحة.
نجد البعض يقول وهو الجمهور: يقتصر على الفاتحة فقط، ولا يؤتى حتى بدعاء
الاستفتاح، ولا يؤتى بسورة معها ولا بآية؛ لأن أمر الجنائز مبنيٌّ على
الإسراع، فلا يلائمها تطويل القراءة، فقالوا: يقرأ الفاتحة فقط، تنجيزاً
لأمر الميت، والإسراع به إلى مقره.
إذاً الجمهور على أن فيها قراءة، والقول بعدم القراءة مردود؛ لأن حديث جابر
يقول: (ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) وجاء عن ابن عباس (أنه قرأ
الفاتحة وجهر) وبعضهم يزيد: الفاتحة وسورة وجهر، ثم قال: (ليعلموا أنها
سنة) ولكن الصحيح: أنه جهر أو رفع الصوت بالفاتحة، ليعلم من خلفه في الصلاة
على الجنازة بأن السنة قراءة الفاتحة.
والجمهور على أنه لا يقرأ مع الفاتحة غيرها.
ما يفعل المصلي بعد
التكبيرات الأربع في صلاة الجنازة
بعد ذلك تأتي التكبيرات الأخرى، وسيأتينا المؤلف رحمه الله بما سُمع وأُثر
ونُقل عنه صلى الله عليه وسلم من الأدعية للميت في التكبيرات الأخرى.
والذي عليه الجمهور في ترتيب التكبيرات الأربع، أن التكبيرة الأولى يقرأ
فيها المصلي بالفاتحة، والتكبيرة الثانية يأتي بعدها بالصلاة والتسليم على
النبي صلى الله عليه وسلم، والتكبيرة الثالثة يدعو فيها للميت، والتكبيرة
الرابعة: يدعو فيها لنفسه، ثم يسلم بعد الرابعة، هذه هي التكبيرات الأربع
وما يشرع معها من القراءة أو الأدعية أو نحو ذلك.
باب التكبير على
الجنازة - التكبير على البدري ستاً
وعن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً، وقال: (إنه بدري) .
رواه سعيد بن منصور وأصله في البخاري.
كبر علي رضي الله عنه على سهل بن حنيف ست تكبيرات، ولما سئل في ذلك قال:
(إنه بدري) إذاً الذي سأل يستنكر الزيادة على الأربع، وعلي زاد وأجاب من
سأله، لم يقل: هذا هو التكبير المعتاد، كأن علياً قال: نعم أنا أعلم بأن
التكبيرات أربع، وأعذرك فيما انتقدتني فيه، أو فيما تساءلت، وقد زدت عن
الأربع التي تعرفها ويعرفها غيرك، وأعرفها أنا، لكن هذه الست بخصوص هذا
البدري.
فلو توفي أعلم خلق الله على وجه الأرض أو أصلح خلق الله على الأرض، أو ولي
من أولياء الله الصالحين أو شيخ العلماء، أو سيد كذا وكذا أنزيد عليه
تكبيرات لفضله؟ لا.
لأن الأمة في زمن علي، وفي زمن عمر، وفي زمن الصحابة، وفي زمن التابعين،
وتابعي التابعين، فيها من الفضلاء، وأهل الخير، وأهل الصلاح، وأهل العلم ما
لا يوجد لهم نظير الآن، ومع ذلك لم ينقل لنا أنهم زادوا على أي شخص كان
تكبيرة خامسة، فيكون قد انعقد الإجماع على أربع تكبيرات.
قراءة فاتحة الكتاب
في صلاة الجنازة
وعن طلحة بن عبد الله بن عوف رضي الله عنه قال (صليت خلف ابن عباس على
جنازة فقرأ فاتحة الكتاب، فقال: ليعلموا أنها سنة) رواه البخاري.
حديث ابن عباس جاء بعدة روايات: (قرأ الفاتحة وسورة) ، (قرأ الفاتحة وجهر)
، (قرأ الفاتحة وسورة وجهر) .
ولهذا بعض من يرى قراءة سورةٍ مع الفاتحة يستدل ببعض روايات ابن عباس، ولكن
رواية البخاري لـ ابن عباس ليس فيها (وسورة) ، وليس فيها (وجهر) ولكن قوله:
(ليعلموا أنها سنة) فهم لا يعلمون إلا إذا جهر.
ولذا يقول بعض الشافعية: إن صُلي على الجنازة ليلاً وقت الجهر جهر، وإن
صُلي عليها بالنهار وقت الإسرار أسر، ولكن الجمهور على خلاف هذا القول، فهم
على أن القراءة في الصلاة على الجنازة كلها سراً، ليلاً كانت أو نهاراً.
باب الدعاء للميت في
صلاة الجنازة
.
الدعاء للميت
بالأدعية الجامعة الشاملة
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
جنازة فحفظت من دعائه: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله،
ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب
الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله،
وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر، وعذاب النار) رواه مسلم.
هذا شامل جامع لكل ما فيه سعادة المسلم: (اللهم اغفر له وارحمه) الغفر:
الستر، ومنه المغفر على الرأس، فمعنى اللهم اغفر لي، أي: استر عليّ ذنوبي
وغطها، وقد يكون ذلك بالمحو، ثم يأتي العفو، (واعف عنه) عفت الريح الأثر:
أي أزالته، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} [آل
عمران:134] ، يعني: يزيلون آثار الغيظ من نفوسهم، حتى لا تكون رد فعلٍ فيما
بعد.
(اللهم اغفر له وارحمه) الدعاء بالرحمة كما يقول العلماء بالنسبة للآخرة،
في قوله سبحانه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ، قالوا: الرحيم:
صيغة مبالغة، على وزن فعيل، فهذه صيغة مبالغة، قالوا: والرحمن: صفة للدنيا،
فهو رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، وجاء في الحديث: (إن الله سبحانه وتعالى
قسم الرحمة مائة قسم، أنزل قسماً منها إلى الأرض، يتراحم بها الخلائق حتى
البهائم، وإن الدابة لتضع حافرها على ولدها فترفعه رحمة به، وادخر تسعاً
وتسعين جزءاً يرحم بها عباده في الآخرة) فهنا (وارحمه) : وفي الآية
الكريمة: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، سواء كانت
القسم الواحد من المائة وسعته في الدنيا، أو المائة بكاملها، أو التسعة
والتسعون في الآخرة وسعت كل شيء.
(وعافه واعف عنه) والعافية: بدنية، والمعافاة: معنوية، ونحن نعلم بأن هذا
الدعاء من أجمل وأشمل الأدعية؛ لأن من عافاه الله فهو سعيد، أي: عافاه في
نفسه في ماله في ولده في سلوكه في عقيدته.
إلى ما شاء الله.
وتذكرون في دعاء ليلة القدر لما سألت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رسول
الله سؤال حبيب لحبيبه: (ماذا أقول إن أنا صادفت ليلة القدر؟ قال: قولي:
اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني) وهذا كما أشرنا إليه في محله أن تسأل
الله باسم من أسمائه الحسنى بما يناسب المسألة، ولذا يقولون عند قوله
تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]
وجاء في الحديث أنها تسعة وتسعون اسماً، فهل تسأل الله بتسعة وتسعين اسماً
له في مسألة واحدة؟ قالوا: لا.
ولكن تتخير من التسعة والتسعين اسماً من أسماء الله للمسألة التي تسألها،
وتسأل بالاسم الذي يتناسب مع حاجتك، فمن يريد الرزق لا يقول: يا منتقم يا
جبار ارزقني، ولكن يقول: يا رزاق يا كريم ارزقني، وكذلك المغفرة لا تقول:
يا عظيم السلطان، وقل: يا غفور يا رحيم! وكذلك عندما تريد العفو تقول:
اللهم إنك عفو، تسأله بالصفة التي تريد مسألة من نوعها.
وهنا: (واعف عنه) ، أي: بلا سؤال ولا حساب ولا شيء؛ لأن من نوقش الحساب فقد
عذب، فإذا كان محكوماً عليه بالإعدام أو بالسجن كذا سنة، فجاء له العفو خرج
بالعفو، فعفو الله أوسع.
معنى إكرام النزل
وتوسيع المدخل
(وأكرم نزله) النزل على قسمين: نزل بمعنى المنزل، أي: اجعل منزله كريماً
واسعاً طيباً، ونزل بمعنى المقدمة في الضيافة التي تقدم بسرعة للضيف أول
نزوله إلى أن تهيأ له المائدة الرسمية ومنه: {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ
رَحِيمٍ} [فصلت:32] فأول ما ينزل أهل الجنة، يكرمون بالنزل الخفيف، فكذلك
الضيف الكريم عندك لا تقدم له حالاً المائدة، مرة تقدم له فاكهة، مرة تقدم
له حلوى تقدم له قهوة إن كان من أهل القهوة، أو (شاي) إن كان من أهل
(الشاي) ، هذا معنى النزل.
(وأكرم نزله) أي: اجعل نزله الذي يقدم إليه أول مجيئه إليك كريماً، فسواء
على النزل بمعنى الطعام الخفيف المقدم، أو على النزل: بمعنى المنزل الذي
ينزله.
(ووسع مدخله) تابعة للنزل، إذاً: القبر ضيق، والرسول يدعو أن يوسع، ولا
يمكن أن يسأل رسول الله شيئاً مستحيلاً، فيمكن أن يوسع القبر، وقد جاء في
الحديث أنه روضة أو حفرة، والروضة لا تكون ذراعاً، ويكون صاحبها مضغوطاً
عليه، بل يفسح له مد البصر، فهنا يتحقق (ووسع مدخله) .
(واغسله بالماء والثلج والبرد) سبحان الله: ماء ثلج برد، قد يكفي الماء،
وقد يكفي الثلج، وقد يكفي البرد، يقول العلماء: أوائل درجة النظافة الماء،
وهذا الغسل للحسيات، ثم يأتي الثلج والبرد بعد ذلك، ثلج الصدر، وبرد
اليقين، كأنه حينما غسل بالماء طهر، لكن بقي بعض الخوف فيغسل بالثلج فيمتلئ
صدره أماناً وطمأنينة، ثم يأتي البرد فيكون يقيناً، برد اليقين في نفسه
بأنه اجتاز إلى بر السلامة، وهكذا يقولون: الماء يغسل الظاهر، والثلج
والبرد يطهر الداخل، ويكسب النفس طمأنينة وارتياحاً، كما أن الماء يكسب
الظاهر نظافةً ووضاءة.
إذاً: ليس معناها يؤتى بالثلج ويغسل بعد الماء، ولا يؤتى بالبرد، مع أن بعض
العلماء يقولون: البرد أشد تنظيفاً من الصابون، لكن هذا لا يهمنا، الذي
يهمنا شرح العلماء لهذا بأنها أمورٌ معنوية، لها أثر عليه كأثر الشيء
البارد على القلب الحار.
والله تعالى أعلم.
(ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) ونقه من الخطايا، ما دام
جاء العفو، وجاءت المغفرة، وجاء الغسل، فاغسله بالماء، ونقه من الذنوب
والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس؛ لأن الثوب الأبيض هو الخاص
بالنقاء، لو جئت إلى ثوب أسود، وفيه ما فيه وغسلته فلا يحصل عندك العزيمة
أو اليقين بأنه صار نقياً، بخلاف الثوب الأبيض الذي تطمئن إليه بالمشاهدة،
وقد قيل: إن بياض الثياب هو الحمل للدنس.
وكما أشرنا لو أن ذبابة وقعت على العمامة وأنزلت من بولها ثم ذهبت فلن
تشاهد الأثر، فإذا كان أكثر من هذا وغسلته، ستشاهد أنها صارت نقية، بخلاف
الثوب الأسود أو الأخضر أو غير ذلك.
إثبات عذاب القبر
ونعيمه
(وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله) وذلك أن دار الدنيا لو
كانت أفخم قصور الملوك فإنها لا تساوي شيئاً من أدنى منازل الجنة، حيث يقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما
فيها) فأبدله داراً خيراً من داره.
(وأهلاً خيراً من أهله) الأهل يقولون: يشمل الولد، والزوجة، والأقارب، وذوي
الأرحام إلخ.
وبعضهم يقول: إذا كانت امرأة يؤنث الضمير في كل ما تقدم فيقول: اغفر لها،
ارحمها، اغسلها، وسع لها.
إلى آخره إلا هنا، عند الأهل تقول: جيراناً خيراً من جيرانها، لأن الزوج من
الأهل، وقد تكون لزوجها.
(وأدخله الجنة) {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ
فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] .
(وقه فتنة القبر وعذاب النار) ، وهذا من أقوى الأدلة على وجود عذاب القبر،
ورداً على منكريه، وتقدم لنا في موطأ مالك رحمه الله المرأة اليهودية التي
قالت لـ عائشة: (وقاه الله عذاب القبر، فلما جاء النبي ذكرت له عائشة ذلك،
وقالت: أيعذب الناس في قبورهم؟ قال: نعم يا عائشة!) وهنا أيضاً كنت أسمع من
والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه يقول: هناك نص في القرآن يدل على
ذلك في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ} [غافر:46] فيعرضون عليها قبل قيام الساعة؛ لأن قوله: (ويوم
تقوم الساعة) حالة ثانية.
إذاً: فهم يعرضون عليها في القبر.
كتاب الجنائز [9]
إن حق أخوة الإسلام بين المسلمين قائم في حياتهم، وبعد مماتهم، ومن حقوقهم
بعد الموت شهود جنائزهم، والصلاة عليهم والدعاء لهم، وفيما يلي بيان لهذه
المسألة، وما يجده القائم بحقوق إخوانه من الأجر في ذلك
باب الدعاء للميت في
صلاة الجنازة (إخلاص الدعاء للميت)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتم
على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
هذا حق الميت على من يصلي عليه، أن يخلص له الدعاء ولو كان خصماً له؛ لأنه
قد أفضى إلى ما قدم، وأنت وقفت مع المصلين، فيجب أن يكون باطنك مطابقاً
لظاهرك، وقفت تصلي مع المصلين فيجب أن تخلص الدعاء له، فتؤجر على إخلاصك
الدعاء له، وإذا كان بينك وبينه شيء آخر، فهناك في القيامة تتحاسبون.
(من صلى على ميت فليخلص الدعاء له) لأنه تقدم لنا فيمن صلوا عليه من
المؤمنين أو من أهل الخير، أو إلخ فشفعوا فيه شفعهم الله، فلا يشفعون إلا
إذا أخلصوا الدعاء، والصلاة على الجنازة عبادة، والعبادة يجب فيها الإخلاص،
ومن ضمن الإخلاص أن تخلص في الدعاء للميت.
فمن الذي تسول له نفسه أن يرى أخاه مسجى أمامه، ويعلم بأنه سيلحقه على هذا
الطريق، ووارد ذلك الحوض، ثم هو يصلي عليه غير مخلص، بأي ميزان؟ هذا لا
يعقل أبداً إلا إذا كان خارجاً عن تصورات العقل.
باب الدعاء للميت في
صلاة الجنازة (اللهم اغفر لحينا وميتنا)
.
مشروعية الدعاء
لعامة المسلمين في صلاة الجنازة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا صلى على جنازة يقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا.
الحديث) يلاحظ أن الدعاء الأول مخصص بمطالب معينة، و (له) قد يكون ضميراً
لشخص معين يعرفه المصلي، ونحن عشرات المرات ومئات المرات نقول: الصلاة على
الرجل الصلاة على المرأة، ولا نعرف من هو الرجل ولا من هي المرأة، فإذا كان
معروفاً تسميه وبضميرٍ راجع إليه، وإذا لم يكن معروفاً لديك فهذا هو
الدعاء، أي يكفي أن تقول: اللهم اغفر لحينا ومتينا، وشاهدنا وغائبنا،
وذكرنا وأنثانا إلخ.
ومعنى شاهدنا: الحاضر، وغائبنا: الذي مات وهو غائب عنا، وفي بعض الروايات:
(حاضرنا وغائبنا {وصغيرنا وكبيرنا) صغيرنا: الطفل الذي يصلى عليه، وكبيرنا:
إلى آخر ما يكون من العمر.
(وذكرنا وأنثانا) إذا صليت على الجنازة ولا تعرف هل هو رجل أم امرأة فهذا
الدعاء يجزئ، وبالجملة ليس هناك توقيت في لفظ معين في الدعاء عند الصلاة
على الجنازة، فإن حفظت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر له
وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله) إلخ فالحمد لله هذا مأثور
عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشمل وأبرك.
فإذا لم تكن تحفظ هذا، فأي دعاءٍ تدعو به فإنه يصح، إذا كان يتضمن طلب
المغفرة والرحمة بإخلاص، كما تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم (شفعوا فيه
إلا شفعهم الله) فإن كنت تعلم الشخص الميت، وتنويه بالضمير (له لها) فبها
ونعمت، وإلا فتأتي بالعموم: (حينا وميتنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيرنا
وكبيرنا) ، وبالمجموع: (ذكرنا أو أنثانا) ويكون على سبيل الإجمال فلا مانع.
(اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على
الإيمان) لاحظ هذين اللفظين: (من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته
منا فتوفه على الإيمان) هل هما متغايران أم شيء واحد؟ يقول علماء العقائد:
الإسلام والإيمان إن افترقا اتحدا، وإن اتحدا افترقا، فهنا ذكرا معاً،
فتكون للمغايرة، يدعو للحي أن يحيا على الإسلام؛ لأن الإسلام عملي ظاهري،
وأركان الإسلام كلها ظاهرة، وإذا قام بأركان الإسلام كان مسلماً وأدى واجبه
أمام المسلمين.
أما (توفه على الإيمان) فهو العقيدة: (من مات لا يشرك بالله شيئا دخل
الجنة) لأن الخلاص من الشرك ليس إسلاماً بل إيماناً، أعني أنه من عمل القلب
ويتعلق بالعقيدة، وليس من عمل الجوارح، فالإيمان يقين، والعمل تابع
للإيمان، وهو يزيد وينقص بالعمل.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم فرق ودعا للحي أن يحيا على الإسلام،
سامعاً مطيعاً مستسلماً لأوامر لله، ودعا للميت أن يميته الله على الإيمان.
(اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده) رواه مسلم والأربعة.
هذا هو الدعاء للمصلي بعد التكبيرة الأخيرة، أي: اللهم لا تحرمنا أجره في
صلاتنا ودعائنا له، ولا تفتنا بعده، فهو قد خرج من الدنيا معافى، فلا تفتنا
بفتنة تفتننا عن ديننا بعده، هذا هو مجمل الأدعية التي تكون في صلاة
الجنازة: في التكبيرة الأولى: الفاتحة.
في الثانية: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
في الثالثة: الدعاء للميت بما تيسر لك.
وفي الرابعة: لنفسك.
ثم يكون السلام.
باب الإسراع
بالجنائز
.
مشروعية الإسراع
بالجنازة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم
(أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر
تضعونه عن رقابكم) متفق عليه.
والإسراع هنا يحتمل أمرين: سرعة التجهيز، فإذا كان هناك كفن عادي، فلا حاجة
إلى أن نؤخره، إلى أن نحضر كفناً فاخراً، وإذا وجد من المسلمين من يؤدي
الصلاة فلا حاجة إلى أن نؤخر إلى كثرة العدد، إلا أن يكون للميت من ذوي
أقاربه -كأبنائه، وإخوانه، ووالديه- من يريد أن يقدم وكان غائباً ليراه
ويشيعه، فلا مانع ما لم يتضرر الميت بالتأخير، أي: يشرع الانتظار بالجنازة
لحين قدوم الغائب من ذويه وذوي رحمه ما لم يكن الوقت صيفاً كما هو الحال في
الجزيرة، أو يتوقع حصول ضرر على الجنازة، بأن تكون قد توفيت من أول الليل
مثلاً، فإنه ينتظر به إلى الصباح، على ما سيأتي في باب النهي عن الدفن
ليلاً، لما قد يقع فيه من تقصير.
وهنا مسألة التقسيم الذي يقوله الأصوليون، يقول صلى الله عليه وسلم:
(أسرعوا بالجنازة) كلمة (أسرعوا) تحتمل كما أسلفنا: سرعة تجهيزه، ويحتمل
الإسراع في المشي به عند حمله، ولكن المعنى الثاني أرجح؛ لقوله صلى الله
عليه وسلم: (تقدمونها إليه) هذه مشتركة، وقوله (شرٌ تضعونه عن رقابكم)
والشر الذي نضعه عن الرقاب هو ساعة الحمل حينما نحمله.
إذاً: السنة في تشييع الجنائز الإسراع بها، وكما يقولون: إكرام الميت دفنه
وستره، كما أنهم يقولون أيضاً: إذا مات نهاراً لا ينبغي أن يبيتوه؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيت الميت وسط أهله؛ لأنهم يستوحشونه، أو
كان ميتهم أخاهم أو أباهم أو ولدهم فإنهم يستأنسون بحضوره ويؤانسهم، ولكن
بعد الموت ترى طفله الصغير يخاف أن يدخل عنده، ترى الشخص الكبير قد يخاف أن
يدخل عليه، فما ينبغي أن يبيت الميت إلا لحاجة أو لضرورة.
ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم حال الميت، إما أن يكون صالحاً، فإنه يحب أن
يتقدم للصالح، وإما أن يكون عكس ذلك، فلا ينبغي أن نحمل على رقابنا غير
الصالح، فلنضعه لنستريح منه.
وكونه صالحاً (خير تقدمونها إليه) مثل أن يوجد إنسان يريد أن يتزوج، وفي
ليلة زفافه نقول له: هيا نذهب معك فسحة، أو نقول له: تفضل أنت ضيفنا
الليلة، فالعريس عنده ما هو أهم من هذا كله، وكذلك الميت الصالح: (فخير
تقدمونها إليه) ؛ لأنه أحب ما يكون إليه أن خرج من ضيق الدنيا ونكدها
وأثقالها، إلى فسيح الجنة ونعيمها.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم،
أن العباس كان يعرف حالة بني هاشم عند الوفاة، فلما ثقل المرض برسول الله
صلى الله عليه وسلم اجتمع من بني هاشم العباس وعلي رضي الله تعالى عنهما،
ودخل العباس على رسول الله فوجده في الصحوة التي صحاها يوم أن توفي، فإنه
صحا بعد صلاة الصبح فقال أبو بكر قال: (أراك اليوم بريئاً يا رسول الله!
ائذن لي إلى بيت زيد بن فلان) وذهب إلى العالية، فدخل عليه العباس وعلي
فخرجوا، فقال العباس لـ علي: يا علي! ارجع فسله فيمن يكون هذا الأمر بعدك،
والله إن لم تؤته لتساقن سوق العبد بالعصا، قال: والله لن أسأله؛ لأنه إن
منعنا إياها لن نعطاها أبداً، ثم قال العباس: إني أعرف الموت في وجوه بني
هاشم فجلسوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهم: (ائتوني بقسط
وكتاب أكتب لكم، ثم تلاحوا، فقال: قوموا عني فإن ما أنا فيه خيرٌ منكم)
وهذا محل الشاهد، وفي آخر الأمر كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح
ما له حاجة فيهم، ثم أوصاهم: (أوصيكم بكتاب الله وبالصلاة) أوصاهم شفوياً،
ولم يكتب لهم شيئاً.
الذي يهمنا قوله: (قوموا عني، فإن ما أنا فيه خيرٌ لي منكم) وهكذا الميت
إذا كان في اللحظات الأخيرة، وأمسك اللسان عن النطق، فإنه يرى مصيره، فإن
رأى خيراً تجد على وجهه البشاشة والطلاقة، وصباحة الوجه، كأنه إنسان نائم
يحتلم في فرح شديد جداً، فيظهر على قسمات وجهه، وكذلك الميت عند الاحتضار،
حينما يمسك اللسان يكشف عن مستقبله، وعن حقيقة أمره، فيظهر عليه آثار ما
يرى بعينه، إن كان خيراً ظهر عليه فرح وسرور وطلاقة وجه، وإن كان عكس ذلك
-عياذاً بالله- ترى وجهاً عبوساً واكفهراراً في الوجه إلى آخره على ما في
الحديث: (من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه) وهنا الرسول صلى الله عليه
وسلم يقول: الميت بين أحد أمرين لا ثالث لهما: فإن يكن صالحاً فخير تقدمونه
إليه، فلا تؤخروه، وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
وليس معنى الإسراع أن نجري به، فقد جاء عن بعض السلف: أنهم مروا بجنازة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنها شنة، أي وعاء فيه ماء قليل، أو القربة
اليابسة الصغيرة فيها قليل من الماء يتراكض له صوت، فكأن الجنازة بإسراعهم
شنة فيها قليل من الماء، فقال صلى الله عليه وسلم (ارفقوا بالميت) إذاً:
ليس بالإسراع الذي يؤذي الميت لو كان حياً على هذه الخشبة، وأمرنا أن ننقله
إلى مكانه بسرعة، فكيفية الإسراع: ألا نسرع كالجري، ولا نتباطأ ونتكاسل
ونتمهل في المشي، وعلى هذا يكون الإسراع بينَ بين، ليس هو بالتواني البطيء،
وليس هو بالهرولة، ولا بشدة الركض، إنما يكون متوسطاً.
الشيء الثاني: لو أن الذين يحملون الجنازة أقوياء وأسرعوا، فذلك يشق على
المشيعين؛ لأن فيهم الكبير، وفيهم المريض، وفيهم العاجز، وفيهم، فيريد أن
يتابع الجنازة في تشييعها.
إذاً: (أسرعوا بالجنازة) الإسراع هنا في حدود المعقول، ليس هو بالإسراع
المخل بالمروءة، والذي يؤذي الميت، وليس هو بالبطيء المتواني المتكاسل،
والله تعالى أعلم.
فائدة أخرى: الحديث يعطي إشارة إلى معنى، وهو أنه منذ أن يوضع في القبر
سيجد خيراً أو شراً، ويمكن لإنسان أن يضيف هذا الحديث إلى أدلة إثبات نعيم
القبر وعذابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول (إن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها
إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) إذاً: الشر موجود والخير
موجود، وهذا الحديث يشير بدلالة الإيماء والتنبيه على وجود نعيم القبر
وعذابه.
باب فضل اتباع
الجنازة
وعنه رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد الجنازة
حتى يصلى عليها؛ فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان، قيل: وما
القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) متفق عليه، ولـ مسلم: (حتى توضع في
اللحد) .
مراحل تجهيز الجنازة ثلاث: الأولى: تجهيزها في مكانها بالغسل والحنوط
والكفن.
المرحلة الثانية: الصلاة عليها، وتكون الصلاة إما في بيته في محله، أو ينقل
إلى المسجد أو إلى المقبرة؛ فيصلى عليه إما في بيته أو في المسجد أو في
المقبرة، والصلاة في المسجد قد تقدم الكلام عليها، والصلاة في المقبرة
يشترط لها ألا يكون أمام المصلين قبور، حتى لا يستقبلون القبور بالصلاة،
وبعض العلماء قال: لا مانع حتى لو كانت القبور أمامهم.
المواطن التي نهى
النبي عن الصلاة فيها
نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المزبلة، والمقبرة، والمجزرة، وفوق
ظهر الحمام، وفوق ظهر بيت الله الحرام، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل.
هذه سبعة مواطن نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وليست كلها للنجاسة
كما يظن البعض، بل كل واحدة لها علتها، والنهي عنها في المقابر ليس للنجاسة
كما يذكر ذلك بعض المؤلفين في فقه المذاهب كالحنابلة، يقولون: لأن التربة
تنبش فتختلط بالنجاسة التي هي بقايا الجسم، لكن يقال: لقد حصلت الاستحالة،
والاستحالة تُذهِب النجاسة، والتحقيق أن في النهي عن الصلاة في المقبرة
حفاظاً على العقيدة.
وقال بعض الناس: لا يصلى على الجنازة في المقبرة للنهي عن ذلك عموماً، وقال
البعض: تجوز الصلاة على الجنازة في المقبرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم
صلى على قبر المرأة، قالوا: ولأن صلاة الجنازة ليس فيها سجود، بخلاف ما إذا
صلينا الصلوات المعهودة، فإننا نحتاج أن نركع فيها ونسجد عند جدار القبر،
فكأن المصلي يعبد القبر، قالوا: فصلاة الجنائز ولو صليت عند المقابر ليس
محظور؛ لأنها ليس فيها سجود، لكن الأولى الحفاظ على عموم النهي، وسلامة
العقائد؛ فيكون موضع الصلاة على الجنائز أمام المقبرة بحيث تكون المقبرة
خلف المصلين، أو عن يمينهم، أو عن يسارهم، وإذا لم يوجد مكان للصلاة على
الجنائز عند المقابر إلا أن تكون المقابر أمامهم، فيرفع جدار صغير بين
المصلى والقبور.
مراتب أجر اتباع
الجنازة
فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأجر على مرتبتين؛ لأن تجهيزه يقوم به
أهله، ثم يبقى تشييعه وحمله ودفنه، فمن حضر الجنازة حتى يصلى عليها، سواءٌ
في المسجد أو عند المقبرة، فهذه مرحلة أولى.
والمرتبة الثانية: أن ينتظر عند القبر حتى يفرغ من دفنها، وإذا استطاع أن
يشارك في الدفن ولو بحفنة تراب فهو أفضل، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم
أنه حضر جنازة، وانتظر حتى انتهوا من الدفن، وجمع التراب عليه، فأخذ قبضة
من التراب ووضعها على القبر، كأنه شارك في الدفن.
ومكان القبر قد لا يسع كل المشيعين ليشاركوا، وكثير من الناس يحبون
المشاركة، فينبغي الرفق.
والمرتبة الثالثة: أن ينتظر المرء إلى الفراغ من الدفن.
إذاً: المرحلة الأولى خاصة بأهله، والمرحلتان الباقيتان في تشييعه حتى
الصلاة، وفي تشييعه حتى الدفن، فمن حضر المرحلة الثانية، وهي تشييعه إلى أن
يصلى عليه، ثم يتركه بعد ذلك؛ سواءً تركه لعجزٍ فيه، أو لاشتغال بأمر أهم،
أو نحو ذلك، فله قيراط من الأجر، فإذا واصل حتى دفنت فله قيراطان.
بيان معنى القيراط
الواقع أن القيراط اصطلاح وزن، واصطلاح نسبة، تقول مثلاً: هذا البيت أربعة
وعشرون قيراطاً، الزوجة لها الثمن أي لها ثلاثة قراريط، فهي نسبة حسابية.
والأربعة والعشرون قيراطاً تأتي في الذهب، وتأتي في الفضة، وفي غيرها؛ لأن
الأربعة والعشرين عددٌ يمكن أن تؤخذ منه جميع الكسور الموجودة في فروض
الميراث (نصف، ربع، ثلثين، ثلث، ثمن، سدس) ، ولهذا اصطلحوا عليها، وكذلك
الذهب، عند كونه خالصاً يكون أربعة وعشرين قيراطاً، وعند كونه مضافاً إليه
من النحاس أو معدن آخر يقال: فيه قيراط أو قيراطان من النحاس، فإذا قيل:
ذهب عيار أربعة وعشرين، فمعناه أنه: خالص، مع أنه ليس هناك ذهب خالص أبداً؛
لأن الذهب وحده لا يصلح للتصنيع إلا قدر اثنين وعشرين قيراطاً، ولابد أن
يكون فيه شيء من النحاس حتى يشده؛ لأنه لين.
فإذا قيل: عيار واحد وعشرين، فيبقى فيه ثلاثة قراريط، أي أن: الثمن من معدن
آخر، وإذا قيل: عيار عشرين فمعناه أن فيه السدس من معدن آخر.
وهكذا.
وجاء القيراط في الأجور، ففي الحديث (من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا
حراسة، نقص من أجره كل يوم قيراط) فلا ندري ما القيراط هنا، لكن لو جعلناه
من مجموع عمله، فمعناه أنه إذا كان في اليوم ألف حسنة فإنه يسقط منها واحد
من أربعة وعشرين، والله تعالى أعلم.
في هذا الحديث بيَّن لنا صلى الله عليه وسلم وزن هذا القيراط، فليس هو
بالجرام، لكن قالوا: (وما القيراطان؟ قال: كالجبلين العظيمين) والجبال
تختلف: فهل هي جبال الألب أم جبال الحبشة أم جبال الجزيرة، فإنها تختلف،
فعين ذلك صلى الله عليه وسلم بأنه كجبل أحد، ويمكننا أن نشاهده، وهذا من
فضيلة الدراسة في المدينة المنورة: أن ترى الشيء بعينك، ولا تحتاج أن يصفه
لك جغرافي أو جيولوجي، بل تذهب وتشاهده بعينك.
وكذلك في بئر بضاعة، كان يتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها بكذا وكذا،
أبو داود عندما جاء إلى المدينة قال: قد ذرعته سبعة أذرع، أما نحن فلا
نحتاج أن تذرعه لنا سبعة ولا ثمانية، فبئر بضاعة قريب منا، يمكن أن نشاهده
بأعيننا ونعرف ما هو، وكان موجوداً إلى عهد قريب في مكانه وكان الماء فيه
إلى أن وضع عليه البستان.
إذاً: هذا من فضائل دراسة السنة النبوية في المدينة، وعلى سبيل المثال أذكر
أنا كنا ندرس الحديث على الشيخ عبد الرحمن لفيق غفر الله له، وحصل لي ظرف
سفر ورجعت، فسبقوني ببعض الأحاديث؛ فجئت إليه في بيته أتلقاها عنه، وكان
بيته يطل على بئر بضاعة، فعندما نقرأ عن بئر بضاعة أنها بئر بجانب المدينة،
قال: أغلق الكتاب، وانظر إلى البئر من النافذة.
فدراسة الحديث في المدينة المنورة لها ميزتها، ولذا يقول صلى الله عليه
وسلم (من راح إلى مسجدي لعلمٍ يُعلِّمه أو يتعلمه، كان كمن غزا في سبيل
الله) بل زيادة على ذلك حصول البركة التي يلمسها طالب العلم، فيحصِّل
الكثير في الزمن القليل، ويكون أثبت عنده مما لو درسه في غيره.
ثم كلمة القراريط جاءت في مواطن لا ندري ما معناها، وجاءت هنا مبينة، فهل
هذا البيان بجبل أحد هو بيان لجميع القراريط في جميع الأعمال أم خاص بقيراط
الجنائز؟ الله تعالى أعلم.
تشييع الجنازة من حق
المسلم على المسلم
تشييع الجنازة حق للميت على المسلم، فتؤدي الحق الذي عليك وتأخذ قيراطاً
مثل أحد! هذا والله فضل عظيم.
جاء في الحديث الصحيح: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه) أي:
بلفظ: السلام عليكم، ومن آداب السلام: أن يسلم الصغير على الكبير، والراكب
على الماشي، والماشي على الجالس.
فإذا لم يسلم من عليه الابتداء بالسلام، فمن حق الثاني أن يقول له: أعطني
حقي! لأن عدم السلام يدل على أن في النفس شيئاً، وقد جاء عن عمر رضي الله
تعالى عنه: أنه مر بـ عثمان وهو جالس فسلم عليه، فلم يرد عثمان عليه
السلام، فذهب إلى أبي بكر واشتكى، ولما تأيمت حفصة بنت عمر رضي الله تعالى
عنها، كان عمر قد عرضها على عثمان، فقال عثمان: ليس عندي نية الزواج الآن،
وكان الأفضل أن يقول: جزاك الله خيراً، دعني أفكر في الموضوع، لكن رد ذلك
العرض، فكانت هناك سابقة في النفس قليلة.
ثم عرضها على أبي بكر فلم يرد عليه بخير ولا بشر، فجاء واشتكاهما إلى رسول
الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم طيب خاطره وقال (يتزوج حفصة من هو خيرٌ
من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خيرٌ من حفصة) فقدر الله أن تزوجت حفصة خيراً
من عثمان وهو رسول الله، وتزوج عثمان خيراً من حفصة، وهي بنت رسول الله
الثانية.
الشاهد أن عمر سلم على عثمان فلم يرد عليه السلام، فذهب واشتكاه إلى أبي
بكر، ولو لم يكن له حق في هذا السلام لما اشتكاه؛ لكنه حق الأخوة.
وتمام القصة: أنه ما وصل عمر إلى أبي بكر إلا وعثمان وراءه يقول: السلام
عليكم، فقال أبو بكر لـ عثمان: وماذا وراءك يا عثمان؟! أخوك عمر يسلم عليك
فلم ترد عليه السلام، قال: والله ما سمعته ولا شعرت به! فقال أبو بكر: فيم
كنت تفكر؟ قال: أمور لو أننا سألنا رسول الله عنها، وذكر غيرها، فقال أبو
بكر والله لقد كنت أفكر فيها قبلك.
نعود إلى الحديث (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم، إذا استنصحك
فانصح له، إذا دعاك فأجبه، إذا عطس فحمد الله فشمته، إذا مرض فعده، وإذا
مات فاتبعه) فهذه حقوق للمسلم على المسلم من أول ما يلاقيه إلى أن يدفنه،
وهي حقوق إسلامية عامة، بخلاف حقوق الجوار، وبر الوالدين، وقضاء الدين الذي
عليه، فهذه حقوق خاصة، ليس سببها مجرد أخوة الإسلام.
فهذه الحقوق التي لمطلق أخوة الإسلام، منها أن المسلم إذا مات، فله حقٌ على
إخوانه المسلمين أن يشيعوه، ومع هذا فللمشيع إذا قام بهذا الحق قيراطان.
(قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) متفق عليه، ولـ مسلم:
(حتى توضع في اللحد) فإذا شُقَّ له شقاً، فالحكم كذلك؛ لانتفاء الفارق بين
اللحد والشق، لأن المعنى: حتى يوضع في مكانه الأخير.
وللبخاري أيضاً من حديث أبي هريرة: (من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً،
وكان معها حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها؛ فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراط
مثل جبل أحد) .
هذا الحديث الثاني بيَّن المجمل في الحديث الأول، حيث أطلق القيراطان عن
تحديدها؛ فجاء المؤلف -لفقهه- بالحديث الثاني، وبيَّن لنا الإجمال الموجود
في الحديث السابق، بأن الجبلين العظيمين كل منهما كجبل أحد، وهذا مثال على
بيان المجمل.
كتاب الجنائز [10]
إن من حق المسلم على أخيه المسلم أن يتبع جنازته بعد موته، لما في ذلك من
إكرام لهذا الميت عند القيام بحمله والسير به إلى المقابر، ومن ثم دفنه
وتسوية التراب عليه.
والسير مع الجنازة له آداب وقواعد ينبغي للمسلم الإحاطة بها، ومن هذه
الآداب السير أمام الجنازة للراجل والسير خلفها للراكب، كما أن من الآداب
اللازمة على أهل الطريق القيام عند مرور الجنازة من أمامهم، وغير ذلك من
الآداب التي تحفظ كرامة المسلم الميت كما تحفظها للمسلم في حياته
المشي مع الجنازة
وعن سالم عن أبيه رضي الله عنهما: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا
بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة) رواه الخمسة وصححه ابن حبان، وأعله
النسائي وطائفة بالإرسال.
هذه مسألة المشي مع الجنازة؛ فهل الأفضل أن يمشي المشيع أمامها، أو يمشي
خلفها، أو على الجانبين، ومن حمل الجنازة فهل الأفضل أن يحملها من الأمام
أو من الخلف؟
مكان سير مشيع
الجنازة في حال الركوب أو المشي
أما تشييع الجنازة والمشي معها: فالمشيع إما راكب وإما ماشٍ، وكان الناس
قديماً كانوا يركبون على الرواحل وعلى الدواب عند طول المسافة أو بُعدها،
أو عند العجز عن المشي، فقال العلماء: إن كان سيتبعها راكباً لظروفه فليكن
من ورائها؛ لأن مجيء الجنازة خلف الراكب نوع من التقصير في حقها، أما أن
يكون من ورائها فلا مانع، فإن كان راكباً فليمش وراءها.
وإن كان ماشياً: فإن شاء من أمامها وإن شاء من ورائها، وأمامها أفضل.
أما حمله إياها فالبعض يقول: الأفضل أن يعاقِب، بمعنى: يبدأ بالأمام بالجهة
اليمنى للجنازة، أو بجهته اليمنى، فيحملها على كتفه الأيمن ثم يمشي قليلاً
حاملاً، ثم يأتي إلى الجانب الثاني من الجنازة ويحمل على الكتف الآخر، ثم
يتأخر عن الجهة التي كان فيها فيحمل من الخلف على الكتف الذي كان حاملاً
عليه، ثم ينتقل إلى الجهة الأخرى من الخلف؛ فيكون شيَّع وحمل من أطراف
الجنازة الأربعة.
عدد من يحملون
الجنازة وكيفية ذلك
إذا لم يكن هناك عدد كافٍ، وكان من يحملانها اثنين فقط؛ فإن الذي في الأمام
يدخل بين العودين ويحمل من بينهما، والذي في الخلف يدخل بين العودين ويحمل
كذلك.
وإذا حملها أربعة، فلا ينبغي لإنسان أن يدخل بين الشخصين الأماميين ولا بين
الشخصين الخلفيين، بل يترك ما بينهما، فمن أراد أن يساعد، فليحمل من جوانب
الجنازة دون أن يزاحم الذين يحملون.
والأولى أن يراعى أيضاً التعادل في الطول؛ لأنه إذا كان أحدهما طويلاً
والثاني قصيراً، كانت الجنازة غير مستريحة، فيراعى في ذلك ما فيه راحة
الميت.
وقوله في الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشيان
أمامها) فهذه السنة والأفضل لمن كان ماشياً، وأما إن كان راكباً فليكن
خلفها، والماشي أيضاً إن مشى خلفها فلا بأس، وإن مشى في الجانبين فلا بأس.
والذي يريد أن يشارك في الحمل إما أن يقتصر على أحد الجانبين: من الإمام أو
الخلف، وإما أن يناوب بين الجهات الأربع؛ لكن يكون ذلك براحة وبهدوء
وسكينة، دون مزاحمة أو إيذاء، والله تعالى أعلم.
ولا يجوز المشي تحت الجنازة، ولا حملها بالرأس من تحت، ما دام يوجد أشخاص
يحملونها من أطرافها.
حكم اتباع النساء
للجنائز واتباعها بنار
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا)
متفق عليه.
نهي النساء عن ابتاع
الجنائز
حديث أم عطية رضي الله عنها يذكره المؤلف رحمه الله بعد ذكر تشييع الرجال
للجنازة، فذكر أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النسوة أن يتبعن
الجنائز، تقول: [ولم يعزم علينا] فكأنه نهي للكراهية، ولكن الجمهور يقولون:
هو نهي تحريم، ولا ينبغي للنسوة أن يتبعن الجنازة.
هذا النهي ليس ممنوعاً في ذاته، ولكنه ممنوع لما هو متوقع من النسوة، خاصة
قريباته، حيث لا تملك المرأة نفسها بأن تتكلم بأن تندب بأن يحصل شيء فإنهم
إذا دنو من القبر ورأتهم يدلونه في القبر فإنها تصيح وتبكي، إذاً: فمنعها
أولى.
حكم اتباع الجنائز
بالنار
وقد جاء النهي أيضاً أن تتبع الجنائز بالنار، بأن يفعلوا ذلك تفاخراً، أما
لغرض الإضاءة كما إذا كانوا في الصحراء، أو في مكان ليس فيه سرج، حيث
-يحتاجون للاستضاءة بنار- فلا مانع أن يشعلوا سعفة من أجل أن يروا كيفية
الدفن؛ لكن أن تتبع الجنازة من باب المفاخرة والمكابرة؛ فإن هذا محرم، ومثل
هذا حديث أم عطية رضي الله عنها في أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن عن
ابتاع الجنائز.
أما قولها: (ولم يعزم علينا) يقول بعض العلماء: لو كانت هناك حاجة للنسوة،
مثل أن يكون في الجنازة فراش ونحوه، فيوجد من النسوة من تأخذه فترجع به إلى
بيت أهله فلا بأس، ولكن الأولى ما عليه الجماهير؛ بأنه لا تتبع المرأة
جنازة، ويذكرون أشياء عن فاطمة رضي الله عنها حين سألها صلى الله عليه وسلم
قال (من أين.
قالت: أشيع كذا.
قال: وصلت المقابر؟ قالت: لا.
قال: لو كنت وصلتيها لكان ... ) إذاً: لا حاجة إلى اتباع النسوة الجنازة،
فهن لن يحملن -كما يقول أبو سعيد الخدري - الميت، ولن تدفن في القبر ولن
تبني عليه؛ بل تحدث ازدحاماً في الطريق، وهذا ليس داع.
باب القيام للجنازة
.
شرح حديث: (إذا
رأيتم الجنازة فقوموا)
وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الجنازة
فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع) متفق عليه.
هذا الحديث موضع بحث، من حيث قوله صلى الله عليه وسلم: (قوموا) ؛ فقد جاء
عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا مرت جنازة قام، فقام ذات مرة فقيل:
يا رسول الله! إنها يهودية! قال: أليست نفساً منفوسة) وهذا القيام كان
إعظاماً لأمر الموت والحياة، وإن كان الميت يهودياً أو نصرانياً أو
مجوسياً، فإنه لا فرق بينه وبين المسلم في الخِلقة، أما الإسلام والكفر
فعقيدة في القلب، أما هذا الهيكل بكامله فهم فيه سواء، لا فرق بينهم.
فكونها نفساً منفوسة خلقها الله، فيها القدرة الإلهية، وفيها آية التكوين،
وقد قبضت، وتغيرت حالتها، فالذي يقوم؛ فإنما يقوم إعظاماً وإجلالاً لله
سبحانه وتعالى الذي خلق هذه النفس المنفوسة ثم سلبها الروح.
قال الفقهاء: ثم ترك صلى الله عليه وسلم القيام بعد ذلك، فكان صلى الله
عليه وسلم بعد ذلك يجلس، وعليه: من شاء قام ومن شاء جلس، فإن قام فله حق أن
يجلس بعد ذلك لظروفه الخاصة، إما إذا كان يريد أن يشيعها؛ فإذا قام فلا
يجلس، بل يتبعها حتى يتم تشييعها، والله تعالى أعلم.
باب إدخال الميت
القبر من قبل رجليه
وعن أبي إسحاق: (أن عبد الله بن يزيد أدخل الميت من قبل رجليه القبر، وقال:
هذا من السنة) أخرجه أبو داود.
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث في كتاب الجنائز، ليبين كيفية
إدخال الرجل الميت في القبر، وكذلك المرأة، وهو أنه يدخل من قبل رجليه، أي:
من الجهة التي تكون فيها رجلا الميت، وبصفة عامة يستقبل بالميت القبلة،
فيضجع على شقه الأيمن في القبر.
والقبلة هنا في المدينة جهة الجنوب -فيما يقابل الشمال- فتكون رجلا الميت
إلى الشرق، ورأسه إلى الغرب، وذكر هذا الأثر أنه يدخل من جهة الرجلين،
ويعبر عنه الفقهاء بقولهم: يسل من قبل رجليه.
وتقدمت الإشارة إلى ذلك بإيجاز، والحامل أن الجهات التي يدخل فيها الميت
إلى القبر ثلاث: إما من جهة الرجلين، فيكون الرأس هو الذي يدخل إلى القبر
أولاً، وإما من جهة الرأس فتكون الرجلان هما اللتان تدخلان إلى القبر
أولاً، وإما عرضاً أي بعرض القبر، بأن يمدد الميت على حافة القبر من الجهة
القبلية؛ لأن اللحد يلحد من الجهة القبلية، ويدخل الميت في اللحد مستقبلاً
بوجهه القبلة، ويقف الذي يتناول الميت في القبر مستقبلاً بوجهه القبلة،
ويتناول الميت من الحاضرين فوق حافة القبر من القبلة، وينزله حتى يضعه في
اللحد.
هذه صورٌ ثلاث، أما هذه الصورة التي فيها أنه يدخل من قبل الرِجلين، ففيها
هذا الأثر وغيره، وجاءت رواية أخرى تدل للصورة الثانية، وهو أنه يدخل من
جهة رأسه، وتكون القدمان هما اللتان تدخلان في القبر أولاً.
وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه يدخل عرضاً بعرض القبر كما وصفنا؛
ولكن النووي رحمه الله نقل في المجموع عن الإمام الشافعي رحمه الله إبطال
ما ذهب إليه أبو حنيفة، من أنه يؤخذ الميت عرضاً، قال: فإما أن يسل من جهة
الرجلين، وهذا النص عندنا، وإما أن يسل من جهة الرأس، وهذا وارد أيضاً عنه
صلى الله عليه وسلم؛ فقد رأى أناس شعلة في البقيع، فذهبوا، فوجدوا النبي
صلى الله عليه وسلم في القبر يمد يديه ويقول: (ناولوني ميتكم، وسله من جهة
الرأس) فالحاصل أن في كيفية إدخال الميت في القبر هذه الحالات الثلاث:
الحالة الأولى المشهورة: من جهة الرجلين.
والحالة الأخرى أضعف منها: من جهة الرأس.
والحالة الثالثة: ينزل إلى القبر عرضاً.
ولكن يمكن أن يقال: تكون صفة الإدخال بحسب ظروف المكان، فقد يكون المكان
ضيقاً، ويكون التراب مركوماً إلى جهة، فيتعذر إنزاله من تلك الجهة، ويتيسر
من جهة أخرى.
وتلك الحالات التي ذكرنا إنما هي في الأفضلية، والله تعالى أعلم.
وقبل أن ننتقل إلى مباحث أخرى، ننبه إلى أن بعض العلماء يذكر بعض الآداب
فيما يتعلق بقبر الميت، منها: إذا أُدخل ميت في القبر، فعند الإدخال يؤتى
بثوب كالخيمة يغطى به القبر، ويمسك من أطرافه، ليستر الميت عند إنزاله
القبر عن عيون الناس.
قالوا: لأنه قد تحصل حالة من حالات الموتى التي تطرأ بعد الغسل، أو عند
الحمل، أو غير ذلك، أو كان الكفن شحيحاً، فيكون هذا الغطاء ساتراً للميت عن
أعين الناس.
وبعضهم يقول: يفعل هذا بالمرأة فقط، ولا يفعل بالرجل، ولكن إذا دعت الحاجة
إلى ذلك في الرجل فلا مانع، أما بالنسبة للمرأة فهو أمر معقول المعنى.
كما ينص بعض العلماء أنه يستحب أن يكون للمرأة نعشاً، بخلاف الرجل، والنعش
هو القفص الذي يجعل على خشبة الجنازة، وقيل: إن أول من فعل ذلك هو علي رضي
الله تعالى عنه، وضعه لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كراهية
أن ترى أعضاء جسمها تحت الغطاء على خشبة الجنازة.
فعندما يتخذ هذا القفص يكون المرئي جرم القفص، وليس أعضاء المرأة، وإلى
الآن صارت متبعة بأن المرأة يجعل لها نعش، أي: هذا القفص المجوف، ويكون
حاملاً للغطاء؛ فلا تُرى أعضاء المرأة وهي على الجنازة، بخلاف الرجل.
هذا ما يتعلق بإدخال الميت وتغطيته.
ما يقال إذا وضع
الميت في القبر
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعتم
موتاكم في القبور، فقولوا: باسم الله، وعلى ملة رسول الله) أخرجه أحمد وأبو
داود والنسائي، وصححه ابن حبان، وأعله الدارقطني بالوقف.
يبين لنا صلى الله عليه وسلم ماذا يقول الذين يضعون الميت في قبره، أي:
الذين يقفون في القبر ليتلقوا الميت، فحينما يتلقونه من الذين على حافة
القبر، فإنهم يقولون: (باسم الله، وعلى ملة رسول الله) ، وفي بعض ألفاظ
الحديث: (وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا الذي ينبغي على
المسلم دائماً في كل أعماله، وهو أن يبدأ بذكر اسم الله، وأن يكون الأمر
وفق كتاب الله.
والملة هي الدين، والسنة هي الطريقة، وبينهما تلازم فملة الإسلام هي طريقة
المسلمين، وطريقة المسلمين هي ملة الإسلام؛ لكن هذا كأنه دعاء للميت،
ومعناه: أودعناه مكانه باسم الله، وأودعناه على ملة رسول الله.
وكأن ذلك يشعر بالشهادة له أنه من أهل هذه الملة، فتكون نوعاً من الدعاء
ونوعاً من الشفاعة.
والله تعالى أعلم.
تحريم إيذاء الميت
بكسر عظمه أو ما شابه ذلك
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسره
حياً) رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم، وزاد ابن ماجة من حديث أم سلمة
رضي الله عنها (في الإثم)
الحكم المترتب على
كسر عظم الحي
هذا الحديث أصل عظيم في حسن معاملة الميت، كسر عظم الميت ككسره حياً،
والكاف جاءت على سبيل التشبيه والتمثيل، وماذا يترتب على كسر عظم الحي؟ كسر
عظم الحي إن كان عمداً ومن مفصل ففيه القصاص.
وإن كان من غير مفصل؛ ففيه دية ذلك العضو، سواء كان عمداً أو خطأً؛ لأن
القصاص إنما يكون في حالة يمكن فيها المماثلة، فإذا كسر يد إنسان من
المرفق، قطعت يده من المرفق قصاصاً؛ لأنه يمكن أن يفصل الذراع من العضد عند
المفصل في المرفق، دون زيادة ولا نقص.
أما إذا كسر الساعد من الوسط ما بين المرفق والكف، فهنا لا يمكن أن تتحقق
المماثلة في الاقتصاص، لأن العظام ستنشعب، -أي: تنشرخ وتنصدع- فيعدل فيه عن
القصاص إلى الدية، فإن كان عمداً فدية مغلظة، إن كان خطأً فدية الخطأ.
ومعلوم عند الفقهاء أن كل عضوين متماثلين، ففي كل واحد منهما نصف الدية،
وفيهما معاً الدية كاملة، ففي اليدين معاً دية كاملة، وفي إحدى اليدين نصف
الدية، وكذلك في الرجلين، وفي كل أصبع من أصابع اليد نسبته من الدية، اليد
فيها خمسة أصابع، ودية اليد نصف الدية خمسون بعيراً، فيكون الأصبع فيه عشرة
من الإبل، وهكذا.
حكم كسر عظم الميت
أما في الميت: فتحمل الرواية على أنه في الإثم، أي: لو أن إنساناً كسر عظم
ميت، فلا نقول فيه القصاص، سواء كان من مفصل يتأتى فيه القصاص بالمماثلة،
أو كان في غيره، لأن الميت لا يتساوى مع الحي.
لكن يأثم الجاني بالاعتداء عليه، كما يأثم في الحي؛ لأن من تعدى على أخيه
المسلم الحي الحاضر بكسر يده أو أصبعه؛ فهو آثم مع تحمل الدية: الدية حق
لصاحبها، والإثم حق لله في الاعتداء على عباد الله.
فهل الميت يحس بهذا الكسر ويتألم كما يتألم الحي؟
وجوب الإحسان في
معاملة الميت
وعلى افتراض أن الميت يتألم، فإنه تجب معاملته من أول نزع ثيابه للتغسيل
إلى تدليته في اللحد، كمعاملة الأحياء، في الإرفاق به، والتلطف، وحسن
المعاملة، فلا ينزع الثوب انتزاعاً يشق عليه، ولو استدعى الأمر أن نقص
الثوب قصصناه لئلا نشق عليه.
وإذا وضعناه للغسل أضجعناه برفق.
أما الماء: فإن كان الوقت شتاء أدفأناه، كما لو كان يريد أن يغتسل في
الحياة، فيكون الماء مناسباً له، وإذا كان في الصيف أخذنا الماء المعتدل
الذي يتناسب معه، كما لو كان يريد أن يغتسل في وقت الصيف وهو حي.
ثم الذي يغسله يجب عليه أن يدلكه برفق، ويقلبه برفق، وإذا أراد أن يرجل
شعره فيمشطه برفق، وكذلك تقليم ظفره إلى غير ذلك، أي: أنه يعامل كما يعامل
الحي سواء بسواء.
وكل ما يؤذي الحي فإنه يحرم أن يفعل بالميت، وعلى هذا كل ما يتعلق بكرامة
الحي، والمحافظة على حقه، وحسن معاملته، يجب أن يكون كذلك مع الميت، إلى أن
يلحد في قبره.
إذاً كسر عظم الميت ككسره حياً.
حكم الانتفاع بأعضاء
الميت
إذا انتهينا من موضوع الجنائز والتغسيل والتجهيز والدفن، في هذه الآونة
الحاضرة، رجعوا إلى هذا الحديث في مباحث عصرية حديثة، وهي: إذا مات الميت،
وعلى حسب الوضع الحاضر يمكن الانتفاع ببعض أعضائه بالنسبة لحي موجود، فهل
نفعل ذلك؟ أعني أنه إذا مات الميت، واحتجنا إلى أخذ الكلية، أو إلى أخذ
القلب، أو إلى أخذ القرنية من العين أو أو إلخ، هل نفعل ذلك، أو أن كسر
عظمه ككسره حياً.
وهل يرضى حي أن يشق بطنه وتؤخذ الكلية، أو تفقأ عينه وتؤخذ القرنية، أو يشق
صدره ويؤخذ القلب؟ الجواب: لا؛ لأن كسر عظمه ميتاً ككسر عظمه حياً، وهكذا
جميع الاعتداءات عليه، إذاً: لا يحق لأحد أن يفعل بالميت شيئاً من هذا.
هناك مبحث مفيد في مجلة البحوث العلمية، من هيئة كبار العلماء، أو من إدارة
الإفتاء، في هذا الموضوع، إذا توقفت حياة إنسان على هذا العضو، وجاء الخبر
اليقين من المختصين بأن حياته متوقفة على ذلك، وتحقيق حياته يحتاج إلى
مراحل طويلة، لعدم وجود بديل، وعدم إمكان علاج العضو التالي الذي عند الحي.
وبعد توافق المأخوذ منه والمعطى في أوجه المطابقة المطلوبة؛ لأنه في حالة
عدم التوافق يرفض الجسم المعطى ما كان غريباً بالنسبة له، كما في نقل الدم،
فإنه إذا لم تتفق الفصيلة بين الطرفين، فلا يمكن أن يعطى ذلك الدم، وقد
يكون فيه وفاة المعطى.
إذاً: على فرض وتقدير أن في التبرع بالأعضاء إحياء نفسٍ، وهو أهون وأقرب من
تعريض حي للتلف، فيكون في هذه الحالة من باب ارتكاب أخف الضررين، نعم.
إن الاعتداء على جسم الميت جريمة، ولكن المحافظة على حياة الحي وتجنيبه
التلف من باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] ، فيكون هذا من باب آخر، مع الاعتراف
والإبقاء على القاعدة: (كسر عظم الميت ككسره حياً) .
والله تعالى أعلم.
باب كيفية اللحد
والدفن وما يتبعه
وعن سعد بن أبي وقاص قال: (ألحدوا لي لحداً وأنصبوا عليَّ اللبن نصباً كما
صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
الفرق بين اللحد
والشق والتفضيل بينهما
هذا سعد رضي الله تعالى عنه، يوصي لما عرف دنو الأجل، فأوصى أهله عند دفنه،
قال: ألحدوا لي لحداً.
إذاً كان هناك الشق، وكان هناك اللحد، ولو كان هناك شيء واحد فقط لما احتاج
إلى توصية، ويكون سبيله سبيل الآخرين، لكن وجد الأمران، وتقدم لنا في صفة
دفنه صلى الله عليه وسلم، أنهم اختلفوا في اللحد والشق وكان في المدينة
رجلان: أحدهما يشق، والآخر يلحد، فقالوا: أبعثوا إليهما، فأيهما جاء أولاً،
عملنا عمله، فجاء الذي يلحد، وهو أبو طلحة رضي الله تعالى عنه، فلحدوا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا سعد يقول: ألحدوا لي لحداً، ثم يبين لهم فيقول: كما فعل لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، مع
تساوي الأمرين من حيث إنه كان يمكن أن يأتي هذا ويمكن أن يأتي ذاك، وهما
متساويان، فلما اختار الله لنبيه أحد المتساويين من وجه؛ كان ذلك أرجح
وأفضل من الآخر.
ثم قال سعد: وانصبوا عليّ اللبن.
وذلك لسد الفراغ بعد إدخاله اللحد، وإذا وجدت فُرج ما بين اللبنة واللبنة،
وضعت فيها الحصيات الصغيرة، وقيل يجعل فيها شيء من كسر اللبنات، وقيل يجعل
فيها من الطين ما يمنع التراب أن ينهال عليه.
فإذا وضع في اللحد نصبت عليه اللَّبِن، كما قال سعد: واللبن: مفرده لبنة،
وهو الطوب الذي لم يحرق كالفخار، وكانوا يكرهون وجود الطوب المحروق في
القبر، فهذا سعد رضي الله تعالى عنه، يوصي أن يجعل له ما جعل مثله لرسول
الله صلى الله عليه وسلم.
كيفية الدفن
وبهذه المناسبة كان بعض الإخوة يسأل عن حديث (اللحد لنا والشق لغيرنا) هذا
الحديث أورده صاحب المهذب، ولكن ذكر النووي في المجموع أنه ضعيف.
ومعنى: (اللحد لنا والشق لغيرنا) ، أن أهل الكتاب يدفنون في الشق،
والمسلمين يدفنون في اللحد، ولكن لضعف هذا الأثر؛ فالكل جائز.
فإذا وضع في الشق، فإنه يضجع على شقه الأيمن في طرف الشق، ووجهه إلى
القبلة، فقبل إنزال الميت يؤتى باللبن، ويجعل عقوداً بقدر ما يرتفع عن جثة
الميت (قرابة نصف المتر) ، ويكون مجافياً للجثة، فقبل أن ينزل ويسل في
القبر، يكون الذي يتولى الدفن قد بنى نصف القبر، أي بنى نصف العقد، بحيث
إنه حينما يسل في القبر لا يتحرك البناء، فيتساقط على وجهه أو على جسمه من
التراب ومن الطين، ومما يتناثر في حالة رص اللبن، فإذا جهز النصف الذي من
جهة الرأس، وسل من جهة الرجلين، ووضع الميت في قبره؛ يكون البناء قد عقد
إلى النصف، ويكمل بعد بذلك البناء إلى أن يغطي آخر القدمين.
ثم بعد ذلك إن بقيت فجوات وضع من بعض كسير اللبن في تلك الفجوات، أو تملأ
بالطين، بحيث لا يسقط شيءٌ على الميت بقدر المستطاع، ثم يهال التراب عليه.
وهنا لا ينبغي أن يزاد في القبر أكثر من التراب الذي أخرج منه؛ فلا نترك
شيئاً من تراب الحفرية يضيع في المقبرة، ولا نزيد على التراب الذي أخرجناه
من الحفرة.
حكم تسنيم القبر،
وجعل قبور للأقربين متقاربة
وهل يسوى ويسطح أو يسنم؟ ورد الأمران، فجاء أنه يسنم قدر شبرٍ.
ولا بأس أن يرش عليه الماء لتثبيته حتى لا ينهال، ولا بأس أن توضع شبه
العلامة -كحجر عند الرأس- ليعرف، مستطيلاً كان أو مربعاً أو مستديراً، أسود
أو أحمر، حتى إذا جاء أهل الميت ورأوا تلك العلامة عرفوه، وذلك كما فعل
النبي صلى الله عليه وسلم بـ عثمان بن مظعون، وقال (لأدفن إليه من مات من
أهلنا) أي: ليكون معروفاً.
ولا مانع من أن يكون للعائلة أو للجماعة، مكان يجمعون فيه موتاهم متقاربين،
وتكون قبورهم متقاربة، حتى إذا جاء زائر من الأقارب يزورهم استطاع أن يشمل
الجميع بزيارة واحدة، والله تعالى أعلم.
وللبيهقي عن جابر رضي الله عنه نحوه وزاد: (ورفع قبره عن الأرض قدر شبر)
وصححه ابن حبان.
يعني: رفع القبر عن الأرض قدر شبر حتى يكون مميزاً، لا أن يسوى بالأرض
فيضيع، أو يكون موضع امتهان بالدهس والجلوس عليه، بل يرفع قدر شبر، وهذا هو
الواقع حسب العادة، فإن التراب الذي يخرج من القبر، لا يزيد ارتفاعه فوق
القبر أكثر من شبرٍ أو قريباً من ذلك.
ولكن كما يقولون: يحرم أن يسنم فيرفع كثيراً، ويحرم أن يبنى عليه، ويحرم أن
يجصص بالجص أو بالأسمنت أو بالطوب الأحمر، أو غير ذلك، أو ينقش أو توجد
عليه كتابة، ويقولون: هذا من باب الزخرفة، وهذا من دأب غير المسلمين من أهل
الكتاب.
ولا مانع أن تجعل عليه البطحاء، أي: أن يؤتى بالحصباء، وهي الحجارة الصغيرة
حمراء أو سوداء، وتجعل على القبر صيانة له، كما هو الحال في البقيع في عدد
من قبور زوجات رسول الله أمهات المؤمنين، وبنات رسول الله وعمات رسول الله؛
هذه القبور يوجد عندها أحجار صغيرة عند الرِجل وعند الرأس، والمسطح عليه من
الحصباء من الرمل الأحمر الخشن على مسطح القبور المجموعة، فهي قبور منفصلة،
ولكنها متراصة متجاورة، والله تعالى أعلم.
النهي عن البناء على
القبور أو تجصيصها والقعود عليها
ولـ مسلم عنه رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص
القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) والجص نوع من الحجر، قريب من الجبس،
في بعض المناطق أحجار جيرية إذا أحرقت بالنار ثم دقت، ثم عجن هذا المندق،
كان مثل الجبس أو مثل الإسمنت مع الرمل، هذا هو الجص.
فلا تجصص القبور، أي: لا يبنى عليها بنيان، سواء كان كالقبة، أو كان
كالغرفة، وسواء كان البناء في ذات القبر، أو كان جرماً عالياً مجسماً
بارتفاع قدر متر أو مترين، هذا كله منهي عنه.
النهي عن القعود على
القبور
قوله: (وأن يقعد عليها) جاء النهي عن القعود على القبر، وعن الاتكاء على
القبر، وعن المشي على القبر، وكل ذلك يؤذي الميت في قبره، بل جاء عنه صلى
الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً لابساً نعلين سبتيتين فقال: يا صاحب
السبتيتين قد آذيت) فخلعهما ومشى حافياً.
وفي الحديث الآخر: (إن الميت ليسمع حفيف نعالكم) .
فبعضهم قال: الأولى: إذا دخل المقبرة أن يخلع نعليه، لئلا يطأ على فتات بعض
الموتى عند المشي، أو احتراماً للموتى، وذلك أنا نعلم أنه إذا كان مجموعة
من الرجال جلوس، وجاء شخصٌ صغير السن، أراد أن يمر ويجتازهم، وكان لابساً
نعلين، فإنه يخلعهما ويحملهما في يديه حياءً من الحضور الكبار، واحتراماً
لهم، وكما لو مر على جماعة من كبار الناس وهو راكب، فإنه ينزل ويقود مطيته
حتى يتجاوزهم، وهذه عادات وآداب أخلاقية ريفية موجودة حتى الآن، فبعضهم
يقول: خلع النعلين احتراماً وتوقيراً وتكريماً.
أما النهي عن القعود فباتفاق أن القعود صريح في معنى الجلوس، بقرينة النهي
عن الاتكاء عليه، فكانوا في حالة دفن الميت فجلس إنسان واتكأ على القبر،
فنهوه عن ذلك فقالوا: لا تؤذِ الميت باتكائك عليه، وهذه القرينة -قرينة
النهي عن الاتكاء- تنفي وتمنع تفسير من فسر النهي عن الجلوس على القبر
بالجلوس لقضاء الحاجة.
فالنهي عن الجلوس على القبر هو القعود للاستراحة، وقد جاء الحديث: (لئن
يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده، خيرٌ له من أن يجلس على
قبر) إذاً: النهي عن القعود إنما هو للجلوس والاستراحة، وليس المقصود قضاء
الحاجة، وصرفه إليها بعيدٌ جداً؛ لأن هنا نهياً عن الجلوس، ونهياً عن
الاتكاء، ونهياً عن المشي، ولكن إذا كان هناك مكانٌ للدفن، ولا طريق إليه
إلا أن نتعدى على تلك القبور فماذا نفعل؟ فلابد أن نمشي على تلك القبور
لنصل إلى موضع الدفن، قالوا: فحينئذ تكون ضرورة، فيجوز.
فعلى هذا لا ينبغي للإنسان إذا أتى إلى البقيع وشيع جنازة، وانتظر دفنها،
أن يطأ قبراً، ولا يتكئ عليه، ولا يجلس عليه.
تقدم لنا الحديث أنه لا يجلس حتى توضع، أي: توضع عن أكتافهم على حافة
القبر، ثم توضع في القبر ويبدءون في الدفن، وبعد ذلك يجلسون، حتى يفرغ
الذين يتولون الدفن من عملية الدفن، ثم يتلقى أهل الميت العزاء.
أكرر فأقول: تلك الفترة وتلك الجلسة، لا يكون جلوسه على قبر، ولا اتكاؤه
إلى قبر؛ فهذا هو محل النهي.
كتاب الجنائز [11]
ن الحرص على اتباع جنائز المسلمين وحضور دفنهم لهو مما رتب عليه الشارع
أعظم الأجر والمثوبة، فمن حضر دفن أحد المسلمين فيشرع في حقه أمور منها: أن
يهيل التراب على الميت ولو بثلاث حثيات، ثم يدعو للميت بعد دفنه ويستغفر
له، كما يشرع في حق المسلمين عامة موالاة زيارة مقابر المسلمين للدعاء لهم
وأخذ العبرة والاتعاظ من حالهم الذي هم فيه
الحثو على القبر
ثلاث حثيات
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على
عثمان بن مظعون، وأتى القبر فحثا عليه ثلاث حثيات، وهو قائم) رواه
الدارقطني.
هذا ما أشرنا إليه سابقاً من المشاركة في الدفن، من أن النبي صلى الله عليه
وسلم، صلى على عثمان بن مظعون، وأتى القبر ثم حثا عليه ثلاث حثيات،
والحثية: الغرفة بالكف، ولكن هنا بيديه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم شارك
في الدفن بأن أخذ ثلاث حثيات من تراب القبر ووضعها عليه، كأنه شارك فيمن
يهيل التراب عليه بالمسحاة ونحوها.
ولكن هنا لفتة في التثليث، يقولون: لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم قرأ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ؛ فيقول النووي: في كل حثوة يحثوها
يقول كلمة من الثلاث: الأولى: منها خلقناكم.
الثانية: وفيها نعيدكم.
الثالثة: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
وهكذا الإنسان إن استطاع أن يشارك في إهالة التراب، أو كان العدد قليلاً
فيتراوحون فيما بينهم ويساعد في ذلك، وإذا كان العدد كثيراً، وأراد أن
يشارك، فقد جاء أن في كل ذرة منها حسنة، فكم في الحثية هذه من ذرة رمل أو
غير ذلك، فله أجر في هذه المشاركة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الاستغفار للميت
بعد دفنه
وعن عثمان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من
دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن
يسأل) رواه أبو داود وصححه الحاكم.
في هذا الحديث يبين لنا المؤلف رحمه الله حقَّ الميت علينا من الاستغفار،
وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ لأن كلمة (كان) تدل على
التكرار والكثرة، لم يقل: (وقف) بل قال: (كان) .
فإذا فرغ الناس من دفن الميت، وأهالوا عليه التراب، ولم يبق إلا أن
ينصرفوا؛ وقف وقال للحاضرين: (استغفروا لأخيكم) .
وهذا من أدلة انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأن استغفارهم هو طلب المغفرة من
الله للميت، وليس للميت في ذلك عمل، ثم يقول صلى الله عليه وسلم، مع طلب
المغفرة له (سلوا الله له التثبت) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}
[إبراهيم:27] وهذه في الآخرة.
فهنا: (واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل) وهذا من أقوى أدلة وجود
عذاب القبر ونعيمه، وسؤاله، وقد جاء تفصيل هذه المسألة في حديث، وأنه إذا
انصرف الناس عن ميتهم أتاه ملكان، وذكر من صورتهما الشيء الكثير، يقال
لأحدهما المنكر وللآخر النكير، فيجلسانه فيسألانه: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا
الرجل الذي بعث فيكم؟ فالمؤمن يلهمه الله سبحانه وتعالى الجواب، فلا يفزع
منهم، ويجيب على ما كان عليه، فإذا قالوا: من ربك؟ يقول: ربي الله رب
السماوات والأرض، ما دينك؟ يقول: ديني الإسلام، ما هذا الرجل الذي بعث
فيكم؟ فيقول: هذا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان:
نم نومة العروس، ويرى منزله من الجنة ومن رياضها، ونعيمها، ويفسح له في
قبره، ثم يفتح له بابٌ أو نافذة على النار، ويقال له: كان هذا مصيرك، لو لم
تكن مؤمناً.
أما غير المؤمن -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا سئل من ربك؟ يقول: هاه
هاه لا أدري! فيقول الملكان: لا دريت ولا تليت.
ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! يقولان: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب
ويعذب، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وهذا الحديث يستدل به بعض العلماء على ما ينبغي أن يقال ويذكَّر به الميت،
وبعضهم يذكر صيغاً لذلك كما ذكرها النووي في المجموع وذكرها ابن قدامة في
المغني، وذكرها غيرهما، منها: يا عبد الله، فإنه يسمع: يا فلان بن فلان
فإنه يجلس، أو إلى الثالثة يجلس، فيقول له: تذكر ما فارقتنا عليه من شهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى دين الإسلام، وملة محمد صلى
الله عليه وسلم.
إلخ، ويذكرون ألفاظاً يذكرون بها الميت، وجواب الملكين، حينما يسألانه؛ لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن موضوع السؤال: من ربك؟ ما دينك؟ ما
نبيك؟ فهذه الثلاثة الأصول التي يسأل عنها الإنسان أول ما يسأل في قبره.
والله تعالى أعلم.
التلقين بعد الدفن
وعن ضمرة بن حبيب رضي الله عنه أحد التابعين قال: [كانوا يستحبون إذا سوي
على الميت قبره وانصرف الناس عنه، أن يقال عند قبره: يا فلان! قل لا إله
إلا الله ثلاث مرات، يا فلان! قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد] رواه
سعيد بن منصور موقوفاً.
بعض العلماء يجعل هذا الحديث من باب تلقين الميت بهذه الأصول الثلاثة،
وبعضهم يجعله من باب التذكير فقط والتلقين، وربما زاد عليه بعض الألفاظ،
وأعتقد أن هذه المسألة بطولها قد تعرضنا لها، وجئنا فيها بأقوال الإمام ابن
تيمية رحمه الله، وذكر الأثر الوارد عن أبي أمامة، وما كان يفعله السلف من
تلقين الميت بعد موته عند القبر كما في حديث: (لقنوا موتاكم لا إله إلا
الله) مما يغني عن إعادته هنا، والجمهور على تلقين الميت هذه الألفاظ، وقد
يضاف إليها غيرها، والله تعالى أعلم.
وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعاً مطولاً.
باب حكم زيارة
القبور
وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال (قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) رواه مسلم، زاد
الترمذي: (فإنها تذكر الآخرة) هذه المسألة طويلة الذيل كما يقال، وهي قديمة
تتجدد، ويكثر النزاع فيها من آونة لأخرى، ألا وهي زيارة النسوة للقبور، فهل
يجوز ذلك أم لا؟ ونجد في هذه المسألة فريقين، يقول: لا تزور، وفريقاً يقول:
بل تزور، فهي دائرة بين الجواز والمنع.
وإذا زارت هل تكون الزيارة مكروهة أم محرمة؟ فمنهم من يقول بالكراهية،
ومنهم من يقول بالتحريم، وأصل هذه المسألة كما سمعنا الإشارة إليها: (كنت
نهيتكم) كانت زيارة القبور ممنوعة على الرجال والنساء سواء، وما كان لأحد
حق أن يزور قبراً.
قال المجيزون: كان ذلك في أول الأمر، إبعاداً عن الإمعان في تعظيم الموتى؛
لأن تعظيم الموتى كان هو الخطوة الأولى للمسيرة الطويلة في عبادة الأصنام،
في مثل قضية يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين.
كما هو معلوم في قصة هؤلاء الرجال في زمن نوح عليه السلام.
أدلة القائلين
بالمنع من زيارة النساء للقبور
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن زيارة القبور سداً للذريعة، من
أن يقعوا في تعظيم الأموات، فيطول الزمن، فيئول الأمر إلى عبادتهم.
فلما استقرت العقيدة عند المسلمين، وكان في زيارة القبور مصلحة، جاء الإذن،
ولكن لمن كان ذلك الإذن؟ هنا وقع الخلاف فقوله: (ألا فزوروها) الخطاب هنا
لواو الجماعة الذكور، فهل يدخل النسوة تبعاً للذكور في: (زوروها) ، ويكون
الإذن عاماً للطرفين، أم أن الإذن هنا خاصٌ بواو الجماعة وبقي النسوة على
المنع الأول؟ فقومٌ قالوا: إن الإذن هنا لواو الجماعة، ونون النسوة لم تأت،
واستدلوا لقولهم هذا بحديث آخر، وهو: (لعن الله زوّارات القبور) وهذا
الحديث جاء بلفظين، لفظ صيغة المبالغة: زوارات، ولفظ اسم الفاعل: زائرات.
فزائرات تدل على وجود الزيارة، ولا تدل على الكثرة؛ لكن (زوارات) تدل على
كثرة التردد للزيارة، فالمانعون قالوا: الإذن جاء للرجال دون النساء،
والوعيد جاء للنسوة في الزيارة.
أدلة القائلين بجواز
زيارة النساء للقبور
وقال المجيزون: أما واو الجماعة، فإن القاعدة في اللغة العربية تقول: إنه
إذا وجدت مائة امرأة ورجلٌ واحد فإنه يخاطب المائة والواحد بواو الجماعة
للمذكر، ويدخلن النسوة معه تبعاً، وأيضاً قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) فإن
الواو هنا واو الجماعة، فيدخلن النسوة قطعاً في إقامة الصلاة.
ومثل ذلك مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فقوله: (آمنوا) دخلت مع واو الجماعة
نون النسوة في الصيام، قالوا: فلا دليل للمانعين في ذلك.
ثم إن حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) جاء فيه التعليل للإذن
بالزيارة في قوله: (فإنها -أي: الزيارة للموتى- تذكر الآخرة، وتزهد في
الدنيا، أو تذكر بالموت) إذاً: الإذن بالزيارة معللٌ بعلة، وهي أن يتذكر
الزائر الموت، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، وليست تلك العلة خاصة
بالرجال، بل إن النسوة أيضاً في حاجة إليها، والحكم إذا كان معللاً بعلة،
فإنه يدور معها وجوداً وعدماً، والعلة موجودة في النساء، بل إن المرأة أحوج
إلى هذا التذكير.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور) فنقول: نعم، الحديث
جاء بصيغة المبالغة؛ لأن المرأة تكثر الزيارة، فيكون هناك بعض المحظورات؛
لأنها قد لا تتحفظ في الذهاب، ولا تؤدي واجب بيتها، وقد تهمل البيت بكثرة
الخروج، وقد تتكلم بكلام لا يرضي الله.
وجاء في الحديث السابق: (ألا فزوروها، ولا تقولوا هجراً) يعني: إذا زرت
المقابر فلا تقل: يا حبيبي، يا سندي، ونحو ذلك.
فيكون النهي لزوارات القبور لعدم صبرهن عند المجيء إلى القبر، وتكلمهن
بأشياء لا ترضي الله عز وجل.
وجاء أيضاً في حديث آخر: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بالمقبرة، فوجد
امرأةً تبكي عند قبرٍ، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، فقالت: إليك
عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، فتركها وذهب، فأتيت فقيل لها: إنه رسول الله،
فاعتراها ما يشبه الموت، ثم أسرعت ولحقت به، تقول: فما وجدت على بابه
بوابين، وقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وأصبر، قال: إنما الصبر عند
الصدمة الأولى) قال المجيزون: كانت هذه المرأة في المقبرة عند القبر تبكي،
فلم يبدأ بنهيها، ولم يقل: أنت ملعونةٌ في زيارتكِ، ولم يقل لها: أنت منهية
عن الزيارة، ولكن أرشدها إلى ما هو الأفضل: (اتقي الله واصبري) فقد أقرها
على زيارتها ومجيئها إلى القبر.
قال المانعون: وما يدرينا، لعلها ذهبت مع المشيعين وجلست هناك؟ وقد أجاب
المجيزون عن ذلك بحديث: (نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) وجاء
حديث عن عائشة رضي الله عنها وفيه: (.
ثم انطلقتُ على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث
مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته
فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: مالكِ يا عائش حشيا رابية؟ قالت:
قلت: لا شيء، قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول
الله! بأبي أنت وأمي.
فأخبرته.
قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم.
فلهدني في صدري لهدة أوجعتني.
ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه
الله؟ قال: نعم.
فإن جبريل أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم
يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدتِ، فكرهت أن أوقظك، وخشيت
أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم.
قالت: قلت: إذا زرت القبور فكيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام
على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا
والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) فهنا أم المؤمنين تسأل: ماذا
أقول إن أنا زرت؟ فلم يقل لها: لعن الله زوارات القبور ولم يقل لها: أنتِ
منهية عن زيارة القبور، بل أقرها على سؤالها، وعلمها ماذا تقول إن هي زارت
القبور، ولهذا يذكر النووي -وإن كان مذهب الشافعي الكراهة- أن مذهب الجمهور
الجواز بشرط الأمن من محظورٍ شرعي: مثل أن تتكلم بكلمات لا ينبغي أن تتكلم
بها، كأن تقول: يا سندي يا حبيبي أو أنها تخرج من غير تحفظ بتزين أو بغيره،
أو تعطل مصالح بيتها من زوجها وأولادها إلى غير ذلك، وكذلك حالة الإكثار.
وعلى هذا استدل المانعون بما ذكرنا، واستدل المجيزون بما ذكرنا، وكلٌ رد
على الآخر في رأيه، والأخير ما ذكره النووي: بأن الأكثر على جواز ذلك مع
أمن المخالفة الشرعية، في قولها، وفي صورة خروجها.
باب النهي عن النوح
(النهي عن النياحة)
وعن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ألا ننوح) متفق عليه.
هذا الخبر جزء من حديث طويل، تقول أم عطية رضي الله تعالى عنها في أوله
(لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، جمع النسوة في بيت،
ثم أرسل إليهن عمر رضي الله تعالى عنه؛ فأتاهن عمر فقال: إني رسول رسول
الله صلى الله عليه وسلم إليكن، لقد بايعكن رسول الله) أي: فلا داعي
لمجيئكن إليه.
فالبيعة تكون من الرجال بالمصافحة، أما النسوة فتقول أم المؤمنين عائشة رضي
الله تعالى عنها: (ما صافح رسول الله امرأة قط) حتى في البيعة لما بايع
النسوة في مكة، وقصة هند مشهورة، فقد كان عمر يتكلم عن رسول الله للنسوة،
ولم يصافح الرسول صلى الله عليه وسلم النسوة في بيعة: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] إلى
آخره.
فهنا قال لهن عمر: (أنا رسول رسول الله إليكن، يقول لكن رسول الله: قد
بايعتكن) أي: اقعدن في محلكن، ولا حاجة إلى أن تحضرن إلى رسول الله
لتبايعنه، فأنا نيابة عنه أبلغكن بيعة رسول الله إياكن على الإسلام.
وأخذ العهد عليهن، بأن لا ينحن، وذكر أشياء من صدق الحديث، وعدم السرقة،
وألا يأتين ببهتان يفترينه.
إلى آخره ما يقال في بيعة النساء.
فهنا أم عطية تقول: وأن لا ننوح، أي: على ميت، وكذلك: أن لا نتبع جنازة،
وأشياء عديدة ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه.
المهم عندنا قول أم عطية رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم
أخذ عليهن العهد، أخذه بواسطة عمر رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إليهن
بالبيعة، وبأوامر بينها صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن لا ينحن على ميت.
باب النهي عن النوح
(لعن النائحة والمستمعة)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه
وسلم النائحة والمستمعة) أخرجه أبو داود.
النائحة: هي التي تنوح، أي: تبكي وتندب الميت، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم
النهي عن النياحة على الميت، وعن شق الجيب، وعن لطم الخد، وعن أشياء كثيرة
كان العرب يصنعونها في الجاهلية، ولا زال بعض الجهلة يفعلون ذلك، حتى كانت
تذهب المرأة وتأتي بالطين وتجعله على رأسها، وذلك زيادة في الاستساءة،
والفزع بموت من مات من عزيز عليها.
وكل ذلك من عدم الرضا بالقضاء والقدر، وعدم التسليم لقضاء الله سبحانه
وتعالى، وفرق بعيد جداً بين هذا العمل، وبين فعل أم سليم زوجة أبي طلحة رضي
الله تعالى عنهما؛ حيث: (كان لـ أبي طلحة ولد صغير، وكان عزيزاً عليه جداً؛
فمرض، فكان كلما أراد الخروج ينظر إليه، وإذا جاء فأول ما يسأل عنه، فتوفي
في غيبة أبي طلحة، فجاء أبو طلحة فسأل عن الولد، قالت: إنه اليوم أسكن ما
كان، وتركته مسجى، ثم قدمت له العشاء، ثم تهيأت له تهيؤ الزوجة لزوجها؛ حتى
جامعها.
ثم بعد ذلك قالت له: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن أحداً أودع أحداً وديعة، ثم
جاء في وقت وطلبها منه، أكان يقدمها إليه أم يمتنع من رد الوديعة؟ قال: لا،
بل إنه يرد الوديعة لصاحبها، قالت: فإن الله قد استودعك الغلام، وقد أخذ
وديعته، فقم فواره؛ فغضب غضباً شديداً، وقال: تركتني حتى فعلت ما فعلت، ثم
أخبرتني بهذا.
ثم لما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتكى إليه ما فعلت
المرأة، فقال: بارك الله لكما في ليلتكما) فكانت ليلة مباركة، وحملت فكان
حملاً مباركاً.
فهذه امرأة ولدها الصغير تعتريه الوفاة، ثم تتحمل وتستطيع أن تخفي آثار
ذلك، لا تظهر علاماته على قسمات وجهها، ولا فلتات لسانها، بل تعد الطعام
للزوج، ويتعشى، ثم تتهيأ في نفسها، وذلك لقوة الإيمان والقدرة على التحمل،
والتسليم لقضاء الله.
ثم إذا بها تتلطف في إخبار الزوج بقضية مسلّمة: (وديعة طلبها صاحبها) ، ثم
نقارن بينها وبين أولئك النسوة اللاتي ينحن، ويلطمن الخد، ويشققن الجيب؛
فالفرق كبير جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النعي، وعن النياحة،
وضرب الخد، وشق الجيب، بل قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا
بدعوى الجاهلية) والحديث الذي ذكره المؤلف يشمل النائحة والمستمعة، أي:
والمستمع أيضاً، ولكن خصص المستمعة بالذكر، لأنها تأتي معها؛ لأنه كان من
عادتهن أن يجتمعن في جانب، وينصبن مناحة -كما يقولون- وبعض النسوة تتكلم
بعض الكلمات، ومجموعة من النسوة يرددن كلامها، فيكون عملاً مستقلاً خاصاً
بالنساء، لا يشارك فيه الرجال، فإذا جاءت النساء مع النائحة ليفعلن ذلك
الفعل، فالنائحة والمستمعة في هذا سواء.
وكذلك يقال: لو أن رجلاً يتسمع لذلك؛ فهو تابع في هذا، ما لم ينه عنه، أو
يخرج من عهدة الإنكار لهذا المنكر.
عذاب الميت في قبره
بما يناح عليه
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الميت يعذب
في قبره بما نيح عليه) متفق عليه.
هذا الحديث كثير من علماء الحديث يجعله موضع إشكال، لأن الميت ما ناح،
والذي ناح إنما هو غيره من الأحياء، فلماذا يعذب الميت، وقد قال الله
تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] ، وقال:
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ؟ قال بعضهم: إن
الميت يعرف طبيعة أهله وذويه، فإذا كان من طبيعة أهله النياحة على الميت،
وقد حضرته الوفاة، فإن كان راضياً بما يفعل أهله من النياحة ولم ينههنَّ،
فيكون كأنه أمرهنَّ.
أي: أن الساكت عن المنكر مشارك، كما قيل: السامع للذم شريك لقائله، ومطعم
المأكول شريك للآكل، فقالوا: إما أن يوصي بأن يناح عليه كما فعل طرفه إذا
مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد فأوصى زوجته أن تندبه
بعد موته، وهذا أمر جاهلي.
فإذا كان الميت يعرف من طبيعة أهله النياحة، فعليه -براءة لذمته وخروجاً من
العهدة- أن يمنعهن وينهاهن، ويوصي بعدم النياحة، فإن فعل ذلك زال عنه الحرج
والإثم ولو خالفن وصيته، وهن يتحملن إثمهن، ولا يصيبه من فعلهن شيء، أما
إذا سكت وهو يعلم أنه سيقع هذا المنكر؛ فإنه يكون مشاركاً، ويعذب بذلك.
وجاء في ترجمة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، أنه مرض وأغمي عليه، وجاء
النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وقال: (اللهم إن كنت أبقيته من العمر
فعافه.
، ثم أفاق فقال: يا رسول الله! لقد عوتبت فيما تقوله أمي، كانت تقول:
واسنداه! قال: فكلما قالت شيئاً أتى ملك يقول: أأنت كذلك؟ أأنت كذلك) إذاً:
إن علم الإنسان من أهله تلك الحالة فعليه أن يوصي بمنعها، فإن فعلن بعد
الوصية وبعد النهي، فلا شيء عليه، وإن عرف وسكت، فكأنه راض ومقر على ما
يعلم، فيلحقه من ذلك شيء، والله تعالى أعلم.
الحزن والبكاء على
الميت ليس من النياحة
وعن أنس رضي الله عنه قال: (شهدت بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم
تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر، فرأيت عينيه تدمعان)
رواه البخاري.
من فقه المؤلف رحمه الله في ترتيب الأحاديث، أنه ذكر حديث: أن النبي صلى
الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة، ثم أعقبه بحديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان على حافة قبر ابنته فدمعت عيناه.
فكيف يلعن النائحة وعينه تدمع؟ فكأن المؤلف يقول: دمعة العين وبكاء الإنسان
على الميت ليس من اليناحة، فإن النياحة قول باللسان.
وبعض النسوة قد تأتي مجاملة، لا هي حزينة ولا أصيبت بشيء، ولكن زوجة الميت
صديقة لها أو قريبة لها فتأتي لتنوح مع تلك المرأة مجاملة، أو لأجل أن
تقضيها تلك النياحة عند فقد قريب لها.
هذه عادات، ولكن الإنسان من حيث هو بشر يتأثر بالعاطفة، فهذا سيد الخلق صلى
الله عليه وسلم، وابنته تدفن، وهو على حافة القبر، فتدمع عينه، وكذلك عن
موت ولده إبراهيم عليه السلام، لما بكى ودمعت عينه، قيل له: (أتبكي؟ قال:
نعم.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على
فراقك يا إبراهيم لمحزونون) هل هذا نعي؟ لا.
ولكن تعبير عن الوجدان النفسي، وعن الشعور الإنساني؛ فلا مانع في ذلك.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا الموقف، قالوا: أتبكي؟ قال:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] بمعنى: أن الضحك ليس
باختيارك، فإنك إذا رأيت شيئاً يضحك وأردت أن تكتم الضحك فإنك لا تستطيع،
وكذلك البكاء، لو وجدت منظراً مؤلماً حساساً، فتدمع العين، ويحزن القلب،
فإذا أردت أن تدفع هذا عنك لم تستطع؛ لأنها غريزة متمكنة في الإنسان.
إذاً: ما كان بالجبلة وبالغريزة من الحزن في القلب، ومن الدمعة في العين؛
فهذا لا يلام الإنسان عليه؛ لأنه فوق طاقته، المهم فيما يتكلم به وكان يمكن
أن يمسك عنه ويتكلم بغيره.
إذاً: المؤلف رحمه الله جاء بهذا الحديث عقب الحديث الذي قبله، ليبين أن
التوجع والألم والبكاء ليس من النعي في شيء والله تعالى أعلم.
باب كراهية الدفن
ليلاً
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدفنوا موتاكم
بالليل إلا أن تضطروا) أخرجه ابن ماجة وأصله في مسلم، لكن قال: (زجر أن
يقبر الرجل في الليل حتى يصلى عليه) هذا الحديث يمكن أن نضيفه إلى ما تقدم
في بيان أوقات الصلاة والأوقات المنهي عنها.
الأوقات المنهي عن
الصلاة فيها ودفن الموتى
ونعلم أن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها سبعة، منها ثلاثة منهي عن الصلاة
فيها، وأن نقبر فيهن موتانا: 1- عند طلوع الشمس بازغة حتى ترتفع.
2- وعند قيام قائم الظهيرة حتى تتحول.
3- وعند أن تضيف الشمس للمغيب حتى تغرب.
هذه الأوقات الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها مع بقية
الأوقات السبعة، ونهى عن دفن الموتى فيها.
الحكمة من النهي عن
دفن الميت ليلاً
وهنا نُهي عن دفن الميت ليلاً حتى يصلى عليه.
يقول العلماء في هذا الحديث: النهي معلل؛ وذلك أن دفن الميت ليلاً كان من
الصعوبة بمكان، فلم يكن هناك وسائل إضاءة تمكن الذين يدفنون الميت من أداء
الواجب على الوجه المطلوب، وقد تقدم: (أن قوماً مروا على المقبرة فوجدوا
ناراً، فيمموها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر يقول:
ناولوني ميتكم.
الحديث) وكانوا يشعلون السعف، فكانت وسائل الإضاءة كما هي اليوم في الأرياف
والبوادي نار الحطب، فربما يكون الدفن ليلاً مدعاة إلى التقصير في حق
الميت.
إذاً: لا ينبغي التعجل بالدفن ليلاً، وإذا كان ممكناً بدون أن يلحق الميت
شيء؛ فإنه يؤجل إلى الصباح ليتمكن الناس من تجهيزه كاملاً، ومن دفنه على ما
ينبغي.
ويجوز أيضاً تأخير دفنه لانتظار حضور من يعز عليه من أقاربه أو من الصالحين
الذين يحضرون ليصلوا عليه، ويدعوا له ويشيعوه ويحضروا دفنه.
هذا وقد دفن الصديق رضي الله تعالى عنه ليلاً، ودفن عمر رضي الله تعالى عنه
ليلاً.
إذاً: إن تمت إجراءات التجهيز كاملة، ولم يبق إلا مجرد ظرف الزمن من ليل أو
نهار، فليس هناك مانع من الدفن، ولكن قوله: (إلا أن تضطروا) : الاضطرار
يكون إما لخوف، وهذا يكون في الأحوال السياسية الاضطرارية، حيث يكون الميت
له أعداء، فيريد أهله أن يواروه قبل أن يشعر به خصمه أو عدوه، أو أن يكون
الوقت حاراً، ويكون الميت قد توفي -مثلاً- في الظهيرة وتأخر تجهيزه، ولا
يمكن أن ينتظر به إلى النهار لحرارة الجو، وعدم احتمال الجثة الانتظار.
فإن لم يكن هناك اضطرار، ولم يفرغوا من تجهيز الميت تجهيزاً يليق به، فلا
يدفن ليلاً وينتظر به إلى النهار، وكذلك إذا كانت هناك عوامل أخرى للتأخير،
ولكن في حدود عدم مضرة الميت.
ومن دواعي الانتظار كما أشرنا إلى ذلك، حضور أقاربه، أبنائه، وأصدقائه
الصالحين وغيرهم من معارفه الذين: يحضرون فيكاثرون الصلاة عليه، ويدعون له،
ويشيعونه ويدفنونه.
، والله تعالى أعلم.
كتاب الجنائز [12]
إن القيام بحوائج المسلمين والسعي في مصالحهم مما أكد الإسلام على وجوبه
وحث عليه، وما من أهل بيت من المسلمين إلا ويصابون في واحد منهم بمصيبة
الموت، فيكون لهم بذلك شغل عما سواه، لذلك فقد شُرع في حقهم القيام على
مصالحهم في تلك الأثناء من إصلاح الطعام لهم وغير ذلك من الأمور التي
تعينهم على الصبر على مصابهم، ويأتي في هذا الباب عدم الإثقال عليهم
بالزيارة وطول الإقامة مما يسبب لهم الحرج في ذلك.
كما أن الشارع الحكيم دعا إلى الموالاة في زيارة المقابر والدعاء لموتى
المسلمين بالأدعية المأثورة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
صنع الطعام لأهل
الميت
مواساة أهل الميت
ومعاونتهم
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (لما جاء نعي جعفر حين قتل قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما
يشغلهم) فتح راء جعفر لأنه ممنوع من الصفر يجر بالفتحة نيابة عن الكسرة.
من سيرة جعفر رضي
الله عنه
وهذا الحديث يعيدنا إلى السيرة النبوية، الحديث يقول: (اصنعوا لآل جعفر
طعاماً، فإنهم قد أتاهم ما يشغلهم) وذلك حينما جاء نعي جعفر، نعي أي:
الإعلام بموته، وذلك أن جعفر، وهو: جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكان أحد الأمراء الثلاثة في غزوة مؤتة.
لقد نعي الكثير إلى رسول الله، واستشهد العديد بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم، سواء في أحد أو في بدر أو في غيرها، ولم نسمع مثل هذا القول
(اصنعوا لآل فلان طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) ، وجاء هذا في جعفر خصوصاً،
ولم أجد جواباً على هذا الخصوص، ولكن على كل مسلم أن يرجع إلى حياة جعفر،
ومن هو جعفر؟ وما هي أعماله؟ لعل في سيرته ما يكون شبه الجواب، أو ما يسكن
النفس إلى هذا الأمر.
من هو جعفر؟ أولاً: قوله: (اصنعوا لآل جعفر) الآل والأهل بمعنى، وهم عشيرة
الإنسان، لكن يقال: الآل للشخص ذي المنزلة الرفيعة في الدنيا، ويقال: الأهل
لكل إنسان من أي طبقات المجتمع.
إذاً: الآل تطلق في أعالي طبقات المجتمع، ولا تكون للطبقات النازلة، وهنا
جعفر هو ابن أبي طالب، وأخو علي رضي الله تعالى عنهما، وهو ابن عم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، لقد هاجر الهجرتين، وأسلم سابع سبعة، ونذكر من
سيرته من ما رواه علي رضي الله تعالى عنه يقول: (كنت أنا ورسول الله نصلي
-أي خفية-، فطلع علينا أبو طالب، ويتبعه جعفر؛ فرآنا نصلي، فإذا أبو طالب
يقول لـ جعفر: انزل فصلِّ بجناح ابن عمك -أي بجانبه- فلما أتم رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاته، التفت إلى جعفر وقال: (وصلك الله بجناحين في
الجنة بما وصلت ابن عمك) ، وقال لعمه: انزل صلِّ معنا، فأجابه بالجواب الذي
مات عليه) فكان جعفر رضي الله تعالى عنه من أول حياته -كما كان علي رضي
الله تعالى عنه- مع رسول الله، وهناك يقول أبو طالب: والله! إني لأعلم يا
بن أخي أنك على الحق، ولكني كذا وكذا.
فمن بادئ الأمر اشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه،
وكان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في منعة عمه من أن يصيبه الناس،
فلما توفي عمه، وكذلك خديجة، واشتد الأمر على أصحابه وعليه صلوات ربي
وسلامه عليه، فقال: (إن في الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، يمكن أن
تكونوا بجواره؛ حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً) فهاجر جعفر إلى الحبشة،
وكان لـ جعفر رضي الله تعالى عنه موقف مشهود في بلاط الملك، حينما نزلوا
بأرض الحبشة، ووقعت وقعة بدر، وأصيب من المشركين ما أصيب، قالوا: نأخذ
ثأرنا ممن هم في الحبشة، وأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن ربيعة بهدايا
للنجاشي، وأخذوا معهم هدايا لبطارقته أي بطارقة الملك في بلاطه، وأعطوا كل
بطريق هديته، وقالوا: نحن جئنا الملك نطلبه أولئك الفتية الذين خرجوا من
دين قومهم، ولم يدخلوا في دين ملككم، فإذا كلمناه فصدقونا، ومروه بأن يردهم
على أهلهم.
قالوا: نفعل.
فلما دخل عمرو بن العاص ورفيقه، وقال: ما جاء بك يا عمرو؟! وكان صديقه من
قبل، قال: جئتك بالهدايا، ثم قال: إن فتية سفهاء خرجوا من دين آبائهم، وقد
أرسلني قومهم إليك لتردهم إليهم؛ لأنهم خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في
دينك.
فقال البطريق: نعم أيها الملك رُدَّهم، فإن قومهم أعلم بأمرهم؛ فغضب الملك،
وقال: لا.
والله لا أردهم؛ حتى أستحضرهم وأسألهم ما الذي هم عليه، فدعاهم.
يقولون: ما اشتد علينا أمرٌ كذلك اليوم؛ لأنا سمعنا بمجيء عمرو بن العاص
وهو من الدهاة، فحضروا عند الملك، فسألهم ما هذا الدين الجديد الذي دخلتموه
وتركتم دين آبائكم، ولم تدخلوا في غيره من اليهودية ولا النصرانية.
كان جعفر رضي الله تعالى عنه لما اجتمعوا عند طلب الملك، قد قال لأصحابه:
أنا خطيبكم اليوم عند الملك، فقام جعفر وقال: [أيها الملك! إنا كنا في
جاهلية جهلاء، يأكل قوينا ضعيفنا، لا نحل حلالاً ولا نحرم حراماً، ونفعل
كذا، ونأتي كذا، ونشرب كذا -وأخذ يذكر مساوئ الجاهلية كلها- حتى أكرمنا
الله وبعث فينا رجلاً منا نعرف نشأته، ومولده، وصدقه وأمانته، فأمرنا أن
نعبد الله وحده -أي بدل الأصنام- وأمرنا بالصدق، وبصلة الأرحام، وبكذا،
وكذا، وكذا] ، فلما سمع الملك ذلك أعجب بهذا، ثم قال: أنتم السيوح، أي:
سيحوا في الأرض لا يسبكم أحد إلا عوقب.
ثم قال: أيها القوم! لا حاجة لي في هداياكم، أو أنه انصرف إلى عمرو وقال:
يا عمرو! ويحك هذا أمر صفته كذا وكذا، فخرج عمرو وصاحبه من عند الملك بخفي
حنين -كما قيل- فـ عمرو قال: والله لأستأصلن شأفتهم، فرجع من الغد إلى
الملك، وقال: أيها الملك! أتدري أنهم يقولون في عيسى أنه عبدٌ، عيسى معبود
الملك، أو ثالث ثلاثة، أو ابن الله، فدعاهم مرة أخرى فاجتمعوا وقالوا:
لماذا دعانا مرة أخرى؟ ماذا تقولون له إن سألكم عن عيسى؟ قال: والله ما
نقول إلا ما قاله الله، وليكن ما يكون بعد ذلك، فجاءوا، وسأل أيضاً وتكلم
جعفر رضي الله تعالى عنه.
فقال الملك: هل عندكم شيء مما جاء به هذا النبي؟ قال: نعم، وقرأ عليه
{كهيعص} [مريم:1] إلخ.
ثم قال: ما تقول في عيسى؟ ما يقول نبيكم في عيسى؟ قال: كما قال الله: عبد
الله، ورسوله، وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول العذراء وروح منه.
فألقى النجاشي إلى الأرض ورفع عوداً صغيراً بين أنامله -وكان البطارقة
موجودين ناشرين صحفهم أي: الأناجيل - قال: والله ما زاد عيسى ولا نقص على
ما قال صاحبكم، ولا مثل هذا العود.
فخار البطارقة، فقال: سواء عليكم تخورون أو لا تخورون، هذا هو الحق.
ثم قال لجلسائه: ردوا عليهم هداياهم، والله ما أخذ الله عليَّ الرشوة حين
رد عليَّ الملك، ولا أطاع الناس فيَّ، فلن آخذ الرشوة في هؤلاء، ولن أطيع
الناس فيهم.
وقوله: ما أخذ الله الرشوة عليَّ في رد ملكي، يقولون في تاريخه: كان أبوه
ملكاً على الحبشة، وكان له أخ، وأبو النجاشي ليس له ولد إلا هذا، وأخوه له
عشرة أولاد، فقال أهل الحبشة: إن هذا الملك ليس له إلا ولدٌ واحد، فإذا مات
وتولى ولده ومات ولده انفلّ أمر الحبشة وضاعت، فلنقتل هذا الملك، وننصب
أخاه؛ حتى إذا كان ملكا توارث الملك من أبنائه عشرة أبناء ينتظم أمر
الحبشة، ويظل مدة طويلة، ففعلوا، ونصبوا أخاه.
ثم إن النجاشي هذا كان فطناً ذكيا، استسلم للأمر، ولكنه تداخل مع عمه في
سياسة الملك، حتى غلب على أمر عمه بالسياسة، فلا يصدر شيئاً ولا يفعل شيئاً
إلا بالرجوع إلى هذا النجاشي، فنظر أهل الحبشة وقالوا: والله لقد تحكم أو
سيطر على الملك، نخشى فيما بعد أن الملك ينصبه علينا ملكاً، وقد علم أنا
قتلنا أباه فينتقم منا، فنأتي إلى الملك.
فأتوه وقالوا: إما أن تقتله حتى لا ينتقم منا فيما بعد، وإما إن تخرجه عنا.
فقال: ويحكم! قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم، لا، أنا أبعده عنكم،
فأخرجوه إلى السوق، وجاء تاجر وباعوه -كما تقول القصة- بستمائة درهم.
ثم خرج عم النجاشي -الذي هو الملك الحالي- في يوم مطير شديد وفيه عواصف،
ففي خروجه نزلت صاعقة وأحرقته، ثم نصب أحد أبنائه، وتولى الملك، فليس فيهم
من يصلح لإدارة الملك، فرجعوا واجتمعوا وقالوا: والله لن ينتظم أمر الحبشة
إلا على ذاك الذي بعتموه، فأدركوه.
وكان التاجر الذي اشتراه قد ألقاه في سفينة من أجل أن يرحله، فأسرعوا
وأدركوا التاجر بسفينته، وفيه هذا الغلام، ثم رجعوا به فنصبوه ملكاً عليهم،
وجاء التاجر الذي كان اشتراه، وقال: أعطوني حقي؟ قالوا: ليس لك شيء، قال:
والله لتعطوني حقي، أو لأرفع أمري إلى الملك، فأتى إلى الملك، وقال: أيها
الملك! تاجر اشترى غلاماً، والذين باعوه استلموا الثمن، ثم إذا بهم أخذوا
الغلام من المشتري، ولم يدفعوا إليه القيمة.
قال: والله! إما أن يدفعوا لك القيمة، ويسلموا العبد يداً بيد للمشتري يذهب
به، فهناك قالوا: ندفع القيمة.
وهذا معنى قوله: ما أخذ الله عليَّ الرشوة حين رد علي ملكي؛ لأن ملكه لما
قتل أبوه كان هو أحق بالملك، ولا أطاع الناس فيَّ فآخذ الرشوة فيكم، أو
أطيع الناس فيكم، اذهبوا فأنتم السيوح.
وهكذا كانت قضية جعفر في بلاط النجاشي؛ أعلن عن الإسلام، وصرح للملك بما
قال الله في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبقي المسلمون هناك إلى
فتح خيبر.
ووفد جعفر رضي الله تعالى عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر،
واستقبله صلى الله عليه وسلم، وقبله بين عينيه، وقال (والله! لا أدري
بأيهما أشد فرحاً بمقدمك أم بفتح خيبر؟) وذكروا مناقب كثيرة بأنه صلى الله
عليه وسلم قال فيه: (أنت أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً) ، وكانوا يقولون: ما
ركب النعل، ولا احتذى النعال، من يشبه رسول الله بعد جعفر.
كان أكرم بني هاشم، وكان أشجعهم، ثم كان موقفه الذي استشهد فيه، وجاء فيه
النعي، وجاء فيه هذا الخبر، ألا وهو إمرته ثالث ثلاثة في غزوة مؤتة.
استشهاد جعفر رضي
الله عنه
(بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن ملوك الغساسنة على حدود الشام يجمعون
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس، فاجتمع له ثلاثة آلاف مقاتل،
فأمَّر عليهم ثلاثة زيد بن حارثة حب رسول الله، وجعفر ابن عمه، وعبد الله
بن رواحة، وقال: إن أصيب زيد فالأمير جعفر، وإن أصيب جعفر فالأمير ابن
رواحة، وإن أصيب ابن رواحة؛ فليختر المسلمون رجلاً منهم) وخرجوا في يوم
الجمعة، ومضوا إلى الشام، فلما وصلوا إلى معان هناك جاءهم خبر من العيون
التي أرسلوها بأن ملوك الغساسنة جمعوا مائة ألف ليردوهم، واستنجدوا بالروم
بمائة ألف أيضاً، فاجتمع مائتا ألفٍ من الروم ومن العرب المتنصرة ومن
تبعهم.
هناك توقف الأمراء الثلاثة؛ لفرق ما بين العددين: ثلاثة آلاف مقابل مائتي
ألف، وإذا نظرنا إلى العدد الشرعي في أول الأمر، وإلى ما جاءت الرخصة بعده،
نجد النسبة بعيدةً جداً؛ لأن الشرع أو النص القرآني الكريم يقول: {إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}
[الأنفال:65] يعني: الواحد بكم؟ بعشرة، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً} [الأنفال:65] وبعد ذلك: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنكُمْ} [الأنفال:66] .
{وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66] أو
مائة يغلبوا مائتين.
لو جئنا في هذا الموقف لوجدنا النسبة بين ثلاثة آلاف ومائتي ألف تزيد على
واحد إلى ستين رجلاً، مع وفرة العدد والعدة عند العدو، ومع طول المسافة
وثقل المشقة، ومع قرب ديار العدو؛ هناك تشاور الأمراء الثلاثة، ولهذا في
نظري أن مؤتة تشبه بدراً، وقد سميها بدر الشام؛ لأن فيها من المواقف ما
يشابه بدراً من جوانب شتى.
تشاور الأمراء فيما بينهم، فبعضهم قال: نبقى في معان، ونخبر رسول الله
بالموقف والعدد، إما أن يمدنا بمدد من عنده، وإما أن يأمرنا بما يراه.
فقام عبد الله بن رواحة وتكلم بما يشجع القوم: والله! ما قاتلنا في بدر
بعدد ولا بعدة، وإنما قاتلنا بهذا الدين الذي نقاتل عنه، وذكر أشياء عن
الشهادة ورغب فيها، فسمع ذلك زيد وهو الأمير الأول، فوافق على أن يقابلوا
العدو.
ومشوا إلى مؤتة، والتقى الفريقان: ثلاثة آلاف أمام مائتي ألف، واستمر
القتال ستة أيام، وهم يصابرون مائتي ألف مقاتل على تلك الحالة، وفي اليوم
السابع بعد الجهد وبعد المشقة استشهد زيد.
ثم أخذ الراية جعفر، فحينما أخذ الراية قطعت يمينه فأخذها بيساره، فلما
قطعت يساره ضمها بعضديه، فقطع العضدان وسقط اللواء، فقتل جعفر، وقد كان على
فرسه، فنزل عنها وترجل وعقرها، وقيل: أول من عقر في الإسلام هو جعفر؛ لأن
الخيل تكاثفت عليه لم يعد لفرسه مجال أن يجول في أرض المعركة، فنزل يقاتل
مترجلاً، وقد وجد في جسده قرابة سبعين طعنة، ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح
ورمية سهم، وقيل: جاء رجلٌ وشقه نصفين، وسقط اللواء في الأرض، فأخذه عبد
الله بن رواحة فأصيب، فأخذها خالد.
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم في يومها، وصعد المنبر، وخطب الناس وقال
(أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة
وسكت، فاستاء الأنصار وقالوا: لعله وقع من ابن رواحة ما يؤذيهم، فأعاد
الكلام أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة
فأصيب، ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله يفتح الله على يديه، وكان الذي
أخذها خالد بن الوليد) .
وهنا يرى بعض المؤرخين أن خالداً انحاز بالمسلمين وانسحب، والبعض الآخر
يقول كما يرجح ابن كثير: لقد انتصر المسلمون على الكفار؛ لأن خالداً لما
أخذ الراية جاء في الليل، وأرسل سرية من الجيش إلى خارج المعسكر، وأمرهم
إذا طلعت الشمس، وبدأ الالتحام أن يقدموا وينزلوا إلى المعركة مباشرة، وجعل
الميمنة ميسرة، والمقدمة مؤخرة، وغير في تشكيل الجيش، فلما بدأت المعركة
رأى الروم ما لم يروه من قبل، وجاء هؤلاء، فظن الروم أن المسلمين قد أتاهم
مدد، وقد كانوا قبل ذلك عاجزين عنهم وهم قلة، فكيف بهم إذا جاءهم المدد؛
فبدءوا يتلفتون، ونصر الله المسلمين عليهم.
هنا لما أصيب جعفر، وذكر صلى الله عليه وسلم أنه لما قطعت يداه، وعضداه،
قال (لقد أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة، يرتع في الجنة حيث يشاء) .
وذكروا أخباراً عديدة: منها ما يذكر ابن عساكر من أنه صلى الله عليه وسلم
كان جالساً فرفع رأسه وقال: وعليكم السلام، وقال: هذا جبريل ومعهم جعفر
ذهبوا يبشرون أهل بيشة بالأمطار.
وبيشة بلدة في اليمن إلى غير ذلك من الأخبار عن جعفر، ولذا لقب بـ جعفر
الطيار؛ لأن له جناحين يطير بهما حيث شاء.
فإذا كان الأمر كذلك وهذا هو جعفر الذي عقر فرسه في أرض المعركة، وترجل
وقاتل، واحتمل فوق السبعين طعنة، ثم شق نصفين، وهو لم يتأخر ولم يتردد،
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأمراء الثلاثة على أسرة من ذهب في
الجنة.
يقول: ورأى في سرير عبد الله بن رواحة وفي سرير زيد إزوراراً في صدورهما
إلا جعفر ليس في سريره إزورار، فسئل عن ذلك قال: لما تقدموا باللواء كان
عندهم غضاضة من الموت إلا جعفر، أقبل عليه بكل شجاعة وجرأة، وعلى هذا لما
عاد المسلمون من مؤتة خرج صلى الله عليه وسلم يتلقاهم، كان أبناء جعفر مع
من خرجوا مع المسلمين، فوجدهم رسول الله فأخذهم إليه، وتذكر زوجة جعفر في
أخبار أخرى بأن الرسول أتاها في البيت، وكانت تجهز طعاماً، فأستوصاها
بأبناء جعفر خيراً.
فقالت: هل سمعت عن جعفر شيئاً يا رسول الله؟! فأخبرها أنه قد أصيب.
صنع الطعام لأهل
الميت هو المطلوب لا العكس
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما
يشغلهم) وأقول أيضاً: نفس السؤال: لقد أصيب واستشهد بين يدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم العديد من الشهداء، والكثير من القتلى، وما أوصى بهم كما
أوصى بـ جعفر وآل جعفر.
والله تعالى أعلم.
والحديث سيق هنا لما يتعلق بصنع أهل الميت طعاماً للمعزين، فيقال: لا،
وإنما الذي ينبغي العكس، فعلى ذويهم وجيرانهم ومن يعرفهم أن يصنع طعاماً في
بيته ويقدمه لأهل الميت؛ لأن أهل الميت أتاهم ما يشغلهم.
السلام على أهل
القبور عند زيارتها والدعاء لهم
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل
الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، نسأل
الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم.
قوله: (كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر) هذا الحديث
يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم؛ لأن زيارة المقابر
والسلام على الموتى عبادة وقربة، والعبادات توقيفية، ومن هنا كان يعلمهم
صلى الله عليه وسلم ما يقولون.
سماع الموتى السلام
والدعاء
قوله للموتى: (السلام عليكم أهل الديار) لو مررت على الجدار فلا تقول:
السلام عليك يا جدار؟ لأن الجدار لا يسمع، فحينما تقول لمن أمامك: السلام
عليك.
لا تقولها إلا إذا كنت تعلم أنه أهل للسلام وأنه يسمع منك السلام، ومن هنا
يستدل العلماء على أن من سلَّم على ميت؛ فإن كان يعرفه باسمه ذكره، وقد جاء
الحديث: (من مر بقبر أخيه المسلم وهو يعرفه باسمه وسلم عليه، رد الله عليه
روحه فرد عليه السلام) فإذا كان بصفة عامة لا يعرف الأسماء سلم عليهم بصفة
الإسلام.
إذاً الموتى يسمعون، ومن أراد كثرة الأخبار في هذا الباب فليرجع إلى كتاب
الروح لـ ابن القيم فإنه يجد فيه متعاً وأخباراً وأشياء كثيرة جداً.
وذكر العلماء أن الموتى لا تخفى عليهم حالة من يمر بهم، وأنهم يتزاورون، أو
إذا مر عليهم مار فسلم عليهم فدعا لهم وزعت لهم الجوائز ومنحت عليهم المنح،
فيقال: من أين هذا؟ فيقال: فلان مر فسلم، فلان مر فدعا.
إلى غير ذلك، فقالوا: هذا من أقوى الأدلة على أن الموتى يسمعون السلام
والدعاء ممن يُسلم عليهم ويدعو لهم، وإلا كان السلام سيذهب ضياعاً، فهذا
يقتضي بدلالة الالتزام أن الميت يسمع السلام.
قوله: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين) أهل الديار كلمة (الديار
والدار) تطلق على الأرض مسكونةً كانت أو غير مسكونة، تقول: ديار ثمود، ديار
بني تميم، وقد تكون خالية منها، فتطلق على العامر والدامر.
قوله: (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين) الجمع بين الصفتين
يعلم الله تعالى ما الحكمة منه، ولكن غالباً ما يكون ذلك لتفاوت درجات أهل
المقابر، فليسوا كلهم على درجةٍ واحدة، فمثلاً لو قال: (السلام عليكم أهل
الديار من المؤمنين) يمكن أن يقال: هذا لا يصل من هم أقل منهم درجة، فأتى
الحديث بسلام يشمل الجميع من المسلمين والمؤمنين.
قوله: (وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون) .
(إنا) ضمير المتكلم ومعه غيره؛ لأن معه من يسمع صلى الله عليه وسلم وهو
يعلمهم، أو للمتكلم ومعه غيره إذا خرجوا إلى المقابر فهذا جمع خرج للمقابر
من الرجال، (وإنا) يعني معشر الحاضرين المتكلمين.
بحث في المشيئة من
الحديث
(إن شاء الله بكم لاحقون) التعليق على المشيئة هنا هل هو لأمرٍ ممكن، أو
غير ممكن ليمكن؟ تقول: إذا جاء زيدٌ إن شاء الله أعطيه كذا.
(أعطيه) ممكن أن تعطيه ويمكن أن لا تعطيه؛ لأنك قلت: إن شاء الله أعطيه،
فيكون العطاء محتملاً للوقوع وعدم الوقوع.
وهنا: اللحوق بهم مقطوع به إذاً: لماذا ذكر المشيئة هنا؟ فبعضهم يقول: لأحد
أمرين: للتعليق على سبيل عدم الجزم، وإما لعدم تعليق شيء، وإنما تقال
تبركاً على حد قوله سبحانه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] .
والآخرون قالوا: لا، ليس للإنسان في اللحاق بهم فعل، ولا يملك شيئاً،
والمشيئة هنا متعلقة باللحاق بهم في تلك الديار التي مر عليها وسلم على
أهلها، يعني: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون في هذه المقبرة -أي: بالبقيع
بالمدينة-.
ويكون ذلك من باب التمني، أو من باب الترجي، أو الطلب، أو الطمع بأن يلحق
بأهل هذه المقبرة فيها، وهذا من الترغيب في الوفاة بالمدينة، وأن يدفن
بالبقيع، نسأل الله أن يكرمنا وكل راغب بذلك.
فضل الموت في
المدينة والدفن فيها
وقد جاء في الموطأ حديثٌ غريب، وهو من أقوى أدلة تفضيل سُكنى المدينة
والموت فيها على مكة -والناس يغفلون عن ذلك- جاء عنه صلى الله عليه وسلم
(أنه كان جالساً في البقيع وهم يحفرون قبراً لميت، فجاء رجل ونظر في القبر
وقال: بئس مضجع الرجل! فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت يا هذا! قال:
يا رسول الله! إنما عنيت الجهاد في سبيل الله! -يعني: أريد أن يقتل في سبيل
الله، فتلك هي نعم الميتة- قال: لا، ما من بلدٍ أحب إليَّ أن يكون قبري
فيها منها) (منها) أي: المدينة.
فيكون قوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) تحقيقاً لهذه المحبة وهذه
الرغبة، وقد تحققت، فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه قُبض صلى
الله عليه وسلم في حجرتها، وجاء الصديق رضي الله تعالى عنه: ما قبض الله
روح نبي إلا في المكان الذي يدفن فيه؛ فدفنوه في حجرة عائشة.
ولما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها موت الصالحين من الأمم، ذكرت أنه كان
إذا مات الرجل الصالح فيهم بنوا على قبره واتخذوه مسجداً؛ قالت: ولولا ذلك
لأبرز قبره مع الموتى؛ لكن لم يبرز قبره مع عامة الناس حراسة للعقيدة
وحمايةً للتوحيد، وقد قبر في حجرة عائشة.
ومن هنا يتكلم العلماء عن فضل البقيع بالذات -بقيع الغرقد-؛ لأنه جاء النص
بالاستغفار لهم وزيارتهم خاصة، فقد جاء عن أبي بن كعب قال: إنا لنجدها -أي
البقيع- في التوراة تسمى كفتة؛ لأنها تؤخذ فتكفت بما فيها في الجنة.
وجاء في الحديث (إن أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة القبور الثلاثة
المشرفة، ثم يليهم أهل البقيع، ثم يليهم أهل المعلاة في مكة، ثم عامة
الناس) ثم جاء الحديث (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فمن مات بها
كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) قالوا: قوله: (أو) ليس للتخيير ولكن
للتنويع، أي: شهيداً لمن حضرته، شفيعاً لمن كان من بعدي.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بكرامة عباده الصالحين، وأن يختار لي
ولمن يرغب البقيع إن شاء الله.
سؤال العافية
للأحياء والأموات
من السلام الذي كان يعلمهم إياه (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين
والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) ثم يدعو ويقول: (نسأل الله لنا
ولكم العافية) .
وقوله: (لنا ولكم) يقول العلماء: ينبغي للداعي أن يقدم نفسه ثم يعطف
الآخرين، كما قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] وقال
تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد:19] .
(ونسأل الله لنا ولكم العافية) العافية -كما يقال في عرف الناس- الصحة،
وضدها السقم، والعافية من كل سوء: السلامة منه، والمعافاة كذلك، وفي حديث
أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما ذكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة القدر، واختلف الناس فيها: (التمسوها في العشر الأواخر) قالت:
(ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)
السؤال هو: اعف عني، وما قبله مقدمة ووسيلة، أي: أنت يا ربِّ تحب العفو،
أنت يا رب عفو، بصفتك عفو وبكونك تحب العفو اعف عني، فتقديم: (إنك عفو) و
(تحب العفو) توسل بصفات الله وأفعاله لما تريد أن تطلب، وهو معنى قوله
سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}
[الأعراف:180] يعني: تخير لمسألتك من الأسماء الحسنى ما يناسبها، فإذا كنت
تطلب العفو سل الله باسمه العفو، وإذا كنت تطلب الرزق؛ فاسأل الله باسمه
الرزاق، أو تطلب المغفرة أو غفران الذنوب، فاسأل الله باسمه الغفار.
وهكذا.
فهنا نجد أحب سائل إلى رسول الله وهي عائشة، وهي تسأل عن أعظم شيء محبوب
للمسلم، ويأتيها الجواب من أحب خلق الله إليها، أنه: طلب العفو.
إذاً: طلب العفو أحب ما يكون وأفضل ما يكون في هذا المقام، ويقول بعض
العلماء: تأملت هذا على الإيجاز، فوجدت من عافاه الله في الدنيا في بدنه،
كان سالماً من مصائب الدنيا، وكان مرتاحاً من العذاب ومن الحساب ومن
المناقشة يوم القيامة، وهذا هو الفوز العظيم.
إذاً: السعادة كل السعادة تأتي تحت عنوان العفو والعافية، فقال: (نسأل الله
لنا ولكم العافية) والعافية أي: مما ينال بعض أهل القبور العافية مما ينال
بعض أهل الموقف العافية مما ينال بعض الناس على الصراط، عند الميزان، عند
الحوض.
إلخ.
التوجه إلى القبور
عند المرور عليها وذكر الدعاء
وعن ابن عباس قال (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المدينة،
فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم،
أنتم سلفنا ونحن الأثر) رواه الترمذي وقال: حسن.
ذكر في الحديث السابق أنه كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، يعني: إذا
أتوا إليها قصداً، فتلك زيارة مقصودة، وهي ليست من شد الرحال؛ لأن البقيع
في طرف المدينة، بل أبعد منه قباء، والإتيان إلى قباء ليس شداً للرحال؛
لأنه لا يحتاج إلى طعام ولا إلى ماء وشراب للطريق، فهو في أطراف البلد.
فإذا خرج الإنسان وقصد المقابر بذاتها فقد تقدم الكلام، وقد كانوا كثيراً
ما يقصدونها يوم الجمعة ويوم العيد، فيسلمون على الموتى ويدعون لهم،
والموتى يستأنسون بهم.
فإذا لم يكن قاصداً، ولكنه مر فرأى في طريقه مر على مقبرة، فهل يمر بها وهو
صامت؟ فالمؤلف بين لنا الحالة الأولى وهي: أن يعمد إلى المقابر زائراً
فماذا يقول؟ يقول كما تقدم (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين
والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) فإذا
مر مروراً عادياً؛ لكنه فوجئ ووجد نفسه يمر على المقبرة، فماذا يفعل؟ قال:
(مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه
... ) لأن الإقبال بالوجه من أدب المحادثة والمخاطبة، فلا تسلم وأنت تمشي،
بل يجب أن تحترم من تسلم عليهم، فتتوجه إليهم حيث يوجهك، سواء للقبلة أو
للشمال أو للجنوب؛ لأنك تستقبل من تسلم عليه.
قال: (فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم) في الحديث
السابق قال: (دار قوم مؤمنين) وهنا قال: (يا أهل القبور) ؛ لأنه مر على
قبور، فنحن عندما نمر على القبور، سواء من الطرف أو من الوسط نقول: (السلام
عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) .
السلف: هو الذي يتقدم، وسلف الأمة: الأجيال المتقدمة، (ونحن بالأثر) الأثر:
الطريق الذي سلكه أهل القبور، وأولئك كل من على وجه الأرض سيسلكون على
أثرهم، ولن يتخلف أحد يتخلف أبداً، ولا هناك أحد له طريق غير هذا الطريق.
أنتم سلفنا، أي: تقدمتمونا، ونحن على أثركم نمشي، وسنلحق بكم إن شاء الله.
والعاقل حينما يأتي إلى المقابر، ويتذكر هذه الدعوات فإنه يتصور مآل
الإنسان، كما في الحديث السابق: (ألا فزوروها، فإنها تذكر بالآخرة، وتزهد
في الدنيا)
باب النهي عن سب
الأموات
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا
تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري.
وروى الترمذي عن المغيرة رضي الله عنه نحوه، لكن قال: (فتؤذوا الأحياء) .
الحكمة في النهي عن
سب الأموات
هل من حق الميت بعد دفنه، وبعد أن فارق الدنيا وتركها، أن تلحقوه بدعوة خير
وثناء عليه، أم أن تنبشوا دفاتر أعماله، وتفتشوا عن سيئاته؟! أليس يكفي أنه
ترك الدنيا بما فيها وذهب؟! قوله: (لا تسبوا الأموات) أنت في حياتك مع
الشخص وهو حي، لا يحق لك أن تذكر مساوئه في غيبته، قال تعالى: {وَلا
يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] ، ثم مثل سبحانه غيبة الحي من
الحي بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}
[الحجرات:12] ؛ فالذي يذكر مساوئه كأنه أكل لحمه ميتاً؛ ووجه الشبه: أن
الغائب لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الغيبة، والميت لا يستطيع أن يدفع عن
نفسه من يأكله.
ومعنى أن الميت قد أفضى إلى ما قدم، يعني: ليس بزائد على ما كان منه من
عمل، وليس بناقص عنه شيئاً، وقد صار بين يدي الله.
وكما يقول الشوكاني: لقد أفضى إلى ربه، وجثا بين يدي مولاه، أفتحاسبه أنت
وتناقشه؟ ليس لك حق في ذلك؛ فإنه أفضى إلى ما قدم، وسيلقى جزاء عمله بين
يدي ربه، وقد يجد ربه غفوراً رحيماً يغفر له ما تسيء به إليه، ويرحمه فيما
تعاتبه فيه، فيكون ربه قد رحمه، وأدركه بلطفه، وأنت هنا تتمسك بمثالبه،
فأنت إذاً كالقابض على الريح.
وقد قال بعض العلماء: ذكر مساوئ الأموات كغيبة الأحياء، ولكن الصحيح أنها
أشد؛ لأن الحي ربما تصله غيبته فيدفع عن نفسه؛ ولكن الميت لا يستطيع ذلك.
قد يقول بعض الناس: لو كان هذا الميت مجاهراً بالمعاصي، فاسداً فاسقاً، فلا
مانع من ذكر مساوئه، ونقول: مهما تصورت من سوء فعاله، فهي معه وقد لقي ربه
بها، وربه أولى به منك، فلا حاجة إلى أن تتعرض له.
ولا يدخل في ذلك الجرح والتعديل، كقولهم فلان المدلس، وفلان صفته كذا، لأن
هذه فيها فائدة للمسلمين، بأن يحذروا رواياته؛ لأنه يبنى عليها أحكام،
وكذلك وصفه بوصف لا يعرف إلا به، كقولهم: فلان الأعرج، أو الأعمش، أو
الأعشى، والنهي وارد على السب الذي لا يقصد من ورائه عرض صحيح.
ثم الرواية الأخرى: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) فالميت قد ذهب، ثم
يأتي من يقول لابنه: والدك كانت صفته كذا، فهو يقول: لكن يا أخي! لماذا
تسيء إليَّ في أبي، وقد انتقل إلى رحمة الله، وأفضى إلى ما قدم.
التحذير من الكلام
في أعراض العلماء
وهنا أُوجّه التحذير كل التحذير ممن يتناولون سلف الأمة في أي مجال كان:
بذكر المثالب، وبذكر النواقص، مثل: فلان ركن في الكذب، فلان مبتدع، فلان
فلان؛ فإن فلاناً قد أفضى إلى ما قدم، والطعن -كما يقولون- في مذهبه
ومعتقده وطريقته، وهذا كله أشر ما يكون على الإنسان، والعلماء يقولون: لحوم
العلماء مسمومة، يعني: من تناول العلماء بالسب والتنقيص لشيء عندهم، فإنما
ذلك سم يتناوله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا
يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم،
والنياحة) فلا ينبغي طعن في ميت قط، وإذا كان من أهل العلم والفضل فله
منهجه، فإذا كان قوله مخالفاً لإجماع المسلمين فتقول: هذه الطريقة فاسدة،
هذه الطريقة باطلة، ولا تتناول صاحبها بالسب واللعن والتنقيص، كما إذا وجدت
كتاباً لإنسان، ووجدت المكتوب فيه مغايراً لإجماع المسلمين، فليكن نقدك
منصباً على المكتوب وليس على الكاتب؛ لأن المنصب على الكاتب لا قيمة له،
وإنما التحذير من هذا المكتوب، وإذا نقضت المكتوب فإن ذلك يكفي.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يطهر ألسنتنا من أعراض الناس أحياءً وأمواتاً،
من سلف الأمة وخلفها، وأن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، والله أسأل
أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
|