شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الزكاة
- مقدمة كتاب الزكاة [1]
لقد فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة، وأظهر الحكمة من ذلك لأجل أن يدفعها
العباد طلباً لطاعة الله، وعن طيب نفس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم
يعرض على القبائل الإسلام مبتدئاً بالشهادتين، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم
بقية التشريعات.
فضل الزكاة في
الإسلام
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف
رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
معاذاً إلى اليمن -فذكر الحديث- وفيه: إن الله قد افترض عليهم صدقة في
أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم) متفق عليه واللفظ للبخاري] .
الزكاة تطهير للمزكي
والآخذ
إن مبحث الزكاة ونظامه بكل جوانبه لهو من أهم مباحث الأموال في الإسلام،
والمتأمل لنصوص الشرع في هذا العمل يجد الشمول والترتيب في أدق ما يكون،
والزكاة ركن من أركان الإسلام، وكما قال الصديق رضي الله تعالى عنه:
(الصلاة حق الله، وعبادة البدن، والزكاة حق المال، وعبادة الأموال) وقد
بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الأموال الزكوية، وبيّن صلوات الله وسلامه
عليه الأنصبة فيها وما يخرج منها وإلى من تؤدى.
والبحث في الزكاة يكون في: مشروعيتها، وحكمتها، وأنواع الأموال التي تزكى،
والمقادير التي تخرج منها، والجهات التي تعطاها، وحكم من امتنع عنها.
والله سبحانه وتعالى فرض الزكاة، وأشار القرآن الكريم إلى نوع من الحكمة
الجامعة في فرضيتها، فقال سبحانه مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فجعل المولى سبحانه إخراج الزكاة مصلحة للطرفين:
للدافع وللآخذ، وفيها الحكمة المزدوجة: تطهير وتزكية.
أما (تطهرهم) فيقول العلماء: تطهر الفقراء من أمراض النفس الداخلية كالحقد
والحسد؛ لأن المسكين إذا وجد المال في يد الغني يستكثر به عليه، ولا يصيب
منه شيئاً، فإنه يشتد غيظه عليه، وحسده له على ما بين يديه، فإذا أعطي من
هذا المال حصته التي أشار إليها قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}
[المعارج:24-25] ذهب عنه ذاك الحقد وذاك الحسد.
وكذلك الغني عندما يخرج من ماله زكاته ينبغي أن يعلم بأن الزكاة لا تنقص
المال ولكن تزكيه، والزكاة بمعنى: النماء والزيادة.
(ما نقص مال من صدقة) ، بل الصدقة تنمي المال وتزكيه: {وَمَا آتَيْتُمْ
مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ
اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] أي: تتضاعف أموالهم وتتزايد
بسبب الصدقة.
وقد بيّن المولى سبحانه إلى أي حد تتضاعف الصدقات، وأجرها إلى سبعمائة ضعف
وزيادة، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ
سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ومعلوم: أن (7×100 =700)
{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] .
وبين صلى الله عليه وسلم موجب تلك المضاعفة عندما قال صلوات الله وسلامه
عليه: (سبق درهم مائة ألف درهم.
قالوا: يا رسول الله! وكيف يكون هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: رجل عنده
درهمان فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق
بها) ، وهذا في ميزان الحساب والعقل أن صاحب الدرهمين تصدق بنصف ما يملك،
وصاحب المال الكثير تصدق بطرف مما يملك، ثم الذي تصدق بمائة ألف بقي في يده
الشيء الكثير، والذي تصدق بدرهم لم يبق معه إلا درهم، وهذا فرق بعيد.
ميزة الإسلام
بالزكاة على نظام الضرائب
وبينت السنة النبوية المطهرة الفرق بين التعامل في المال مع الله سبحانه
وتعالى، والتعامل في المال مع الناس، وهذا نقوله للأمم التي تعيش حسب
قوانين الضريبة التي يفرضها الإنسان على الإنسان؛ ليروا مدى صدق المسلم في
تعامله مع الله في المال، وذلك عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عامل
الصدقة إلى ضواحي المدينة، فمر بصاحب إبل فوجد عليه فيها بنت مخاض لأنها
خمس وعشرون بدنة، فقال صاحبها: بنت مخاض! لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب، كيف
أقدمها لله؟ ولكن هذه ناقة كوماء -عليها اللحم والشحم مثل الكوم- خذها في
سبيل الله.
فقال العامل: لا أستطيع؛ لأنها لم تجب عليك، والذي وجب عليك هو بنت المخاض،
فأصر الرجل، فقال: إن كنت لا محالة فاعلاً فدونك رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالمدينة، اذهب بها إليه، فإن قبلها أخذتُها، فجاء مع العامل وعرض
عليه ما كان بينه وبين صاحب الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها
نفسك؟ قال: بلى يا رسول الله؛ لأن ابنة مخاض لا تجزئ شيئاً، لا هي ظهر يركب
في الجهاد في سبيل الله، ولا عندها ضرع يحلب للفقراء والمساكين، أما الناقة
فتنفع.
فقال للعامل: خذها، وقال لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) ، فعاش الرجل إلى
زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، فكان يخرج العشرات من الإبل في زكاة ماله.
فهذه صورة من صور تعامل العبد مع ربه؛ لأنه يعلم بأن الله هو الذي سيجزيه
على ما قدم؛ ولهذا يقولون في نظام الضرائب: إن بعض التجار الكبار يصطنع
دفترين: دفتراً يقيد فيه مبيعاته ويقدمه لمفتش الضرائب فيرى فيه أنه خاسر؛
ليخفض عليه الضريبة، ودفتراً خاصاً به يبين حقيقة الربح فيما بينه وبين
نفسه.
أما المسلم فليس عليه مفتش ضرائب، عليه معاملته مع الله؛ لأنه عندما يخرج
شيئاً من ماله يخرجه إيماناً وتصديقاً بوعد الله: {مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] فالذي
يتصدق صدقة تطوع، والذي يخرج زكاة ماله فهو متعامل مع الله.
الصدقة برهان
الإيمان
وهناك قواعد عديدة في نظام المعاوضة؛ لأن الإنسان لا يخرج درهماً من جيبه
إلا من عوض يأخذ به سلعة، أو يستأجر به عاملاً، يشتري منفعة أو طاقة،
والمتصدق يخرج من ماله ولا ينتظر شيئاً، وليس ذلك ضياعاً للصدقة؛ لأنها
بدون عوض، بل عوضها عظيم ومضمون، وهو ما للمتصدق عند الله من أجر؛ ولهذا
تجد المؤمن الموقن بالوعد -أي: وعد الله- يتصدق ويزكي بطيب نفس؛ لأنه موقن
بأنه سيجد عوض ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وعلى هذا كانت الصدقة برهاناً على صدق الإيمان كما جاء في الحديث: (الطهور
شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو
تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)
والبرهان: الدليل، وهو في أصل اللغة: الدائرة البيضاء التي تكون حول قرص
الشمس بعد المطر -وليس قوس قزح المعروف- تظهر بينة، والبرهان: الدليل
والحجة الذي يقيمه الإنسان على دعواه التي يناكر فيها.
فالصدقة برهان على صدق المتصدق؛ لأنه يوقن بأن عوضها عند الله؛ ولهذا كان
المؤمنون يتصدقون بطيب أموالهم، أما المنافقون فكانوا يعمدون إلى ما لا
يقبلونه ولا يرتضونه إلا أن يغمضوا فيه.
إذاً: الزكاة عنصر حيوي في الإسلام، وتنظيمها وبيان مصرفها لله سبحانه، كما
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن شاباً جلداً قوياً وقف على رسول
الله وسأله الصدقة، فقال: يا ابن أخي! إن الله لم يدع قسم المال لأحد، لا
لنبي مرسل ولا لملك مقرب، وتولى قسمتها بنفسه {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ}
[التوبة:60] إلى آخره، فإن كنت من أهلها أعطيتك.
فذهب الرجل، ثم جاء آخر وقال: ليس عندي شيء.
قال: ماذا عندك؟ قال: أنا وعجوز في البيت، عندنا حلس نفترش نصفه ونلتحف
بنصفه، وقعب نشرب ونأكل فيه.
قال: علي بهما.
فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بأحدهما طعاماً
لأهلك، واشتر بالآخر فأساً وحبلاً وائتني بهما، ثم وضع عوداً في الفأس
وقال: انطلق فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً.
فذهب واحتطب وباع، ثم وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثياب نظيفة،
وحرك ثوبه فإذا الدراهم في جيبه تتحدث، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع، فيستغني؛ خير من أن يذهب
يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء
خيراً وأجزل من الصبر) .
وهكذا -أيها الإخوة- المال في الإسلام له حيز كبير، سواء كان في الزكاة أو
في صدقة التطوع، أو في الغنائم، أو في الأنفال، أو في الميراث أو غير ذلك،
وهنا يعقد المؤلف رحمه الله كتاب الزكاة، أي: أحكامها وما جاء فيها من
حكمها، وأموالها، ومن أنصبتها، والجهات التي تصرف فيها.
حكم الزكاة
ومشروعيتها
أما حكم الزكاة: فهو معروف من الدين بالضرورة لأنه ثابت بالكتاب وبالسنة
وبالإجماع، ولا يعذر أحد بجهله أن الزكاة ركن في الإسلام.
وأما مباحثها فسيأتي المؤلف رحمه الله على جميع هذه الجوانب بما يورده في
هذا الباب من الأحاديث، وهي نحو العشرين حديثاً، وسنجد ما أورده رحمه الله.
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى كتاب الزكاة بحديث معاذ، وحديث معاذ من أجمع
الأحاديث -في الجملة- في مشروعية الزكاة وتوابعها، أما الأنصبة فلها نصوص
أخرى.
وقد فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفيها أيضاً فرض الصوم،
والخلاف في أيهما كان الأسبق: هل الزكاة فرضت قبل الصوم، أو الصوم قبل
الزكاة؟ المهم أنهما فرضا في السنة الثانية من الهجرة؛ لأن بعد هجرة النبي
صلى الله عليه وسلم بدأ تشريع أركان الإسلام، ففي مدة وجوده في مكة لم يشرع
ركن إلا الصلاة عندما فرضت ليلة الإسراء والمعراج، وكانت مدة مكة كلها إنما
هي في إرساء العقيدة في توحيد الله سبحانه وحده، وفي الإيمان بيوم القيامة
أي: بالبعث، فلما جاء إلى المدينة فرضت أركان الإسلام الأخرى من زكاة وصيام
وحج، وغيرها من التشريعات وأحكام البيوع والجنايات وما يتعلق بذلك كله.
وكان مبعث معاذ إلى اليمن سنة ثمان في فتح مكة، وقيل: سنة تسع بعد تبوك،
وقيل: سنة عشر بعد الحج، والذي يترجح -والله تعالى أعلم- أنه بعد سنة ثمان؛
لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه قد خصه الله بفضيلة وتخصص علمي كما قال صلى
الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، وكما خص أبا عبيدة
بأنه أمين هذه الأمة، وكذلك بعض من خصهم رسول الله كقوله: (أفرضكم زيد) ،
فـ زيد أعلمهم بالفرائض، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وابن عباس أعلمهم
بتأويل القرآن الكريم وهكذا.
والذي جاء في ترجمة معاذ رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
عام فتح مكة خلفه في مكة يعلمهم أركان الإسلام، وأمور الدين، إذاً: القول
أنه بعثه سنة ثمان في فتح مكة يعارضه تخلفه في مكة لتعليمهم، أما بعد ذلك
فممكن.
ومعاذ رضي الله تعالى عنه -في نظري- يعتبر بعثة تعليمية متنقلة؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم أقره في مكة بعد فتحها يعلمهم، وأرسله كذلك إلى اليمن
وحضرموت، وكما أرسل أبا موسى الأشعري مع ستة نفر إلى اليمن، وكان مردهم
ومرجعهم في كل الأحكام معاذ، وكان كل له بلد يفتي فيه ويعلم، ويجمع الزكاة
ويوزعها، ومعاذاً يطوف عليهم جميعاً.
وفي خلافة عمر أرسل عامل الشام لـ عمر رسولاً: إن أهل الشام يحتاجون إلى من
يعلمهم الدين، فبعث إليهم معاذاً، ومكث هناك حتى توفي بالشام رضي الله
تعالى عنه.
جوانب الحكمة في
الدعوة والتعامل من حديث معاذ
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه، وجاء في سبب بعثه مع الجانب
العلمي قضية عجيبة! وهي أن معاذاً كان شاباً كريماً جداً، وقد لحقته الديون
بسبب كرمه، وكان يستدين من اليهود حتى تراكم الدين عليه، وأصبحت أملاكه لا
تفي بديونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: مر معاذاً
فليوفنا بديوننا.
فصار معاذ يتخفى منهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله!
مالي في ديوني.
فقال لهم: خذوا ماله في ديونكم من النخيل أو البساتين أو غير ذلك.
قالوا: لا تفي بشيء.
قال: ضعوا عنه.
قالوا: لا نضع شيئاً، حتى قال الراوي: لو أن أحداً كان يضع لأحد لوضع
دائنوا معاذ عنه من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: خذوا ما وجدتم وليس
لكم إلا ذلك.
إجازة النبي صلى
الله عليه وسلم لمعاذ بأخذ الهدية
ثم قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: أبعثك إلى اليمن لعلك تصيب شيئاً.
أي: بصفته عاملاً يصيب شيئاً يرد عليه بدل أمواله التي خرجت من يده.
والعجيب هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح له أخذ الهدية، مع أن النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: (هدايا العمال غلول) ؛ لأنه لا يهدي للعامل إلا
مخافةً منه أو طمعاً فيه، وكذلك العمال يهدون إليهم ليخففوا عنهم فيما يجب
عليهم من عمال الزكاة، ولما فتح الله على المسلمين خيبر طلبوا من رسول الله
أن يبقيهم فيها، قالوا: نحن أعلم بأمور النخيل، دعها في أيدينا نخدمك فيها.
قال: ندعكم إلى ما شاء الله.
وكان الاتفاق أن يعملوا فيها بالنصف: نصف الثمرة لليهود، والنصف الآخر
للمسلمين، والعادة في مثل ذلك بالنسبة للزكاة أنه يخرج العامل ليخرص إذا
بدأ نضج الثمرة وأمنت العاهة، أي: احمرت واصفرت الثمرة، فيأتي العامل فيطوف
في النخيل فيقدر: هذه فيها وسق، وهذه فيها وسقين، وهذه فيها ثلاثة، وهذه
فيها نصف.
حتى يحصي ما في البستان من مظنة الثمرة التي تأتي من مجموع هذا النخل، فإذا
وجد -مثلاً- أن مجموع ما في هذا البستان ألف وسق، فقد كان يوصيهم صلى الله
عليه وسلم أن يسقطوا الثلث أو الربع، لما يرد من ضيف، ولما تأكل الطير،
ولما تسقط الريح، وهذا كله لا يكلف صاحب المال بأن يخرج زكاته وهو قد أتلف
بعضه.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة ليخرص على أهل خيبر،
ليلتزموا في النهاية بعد تجفيف التمر بما وجب عليهم، ويقدمونه لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم ماذا فعلوا؟ جمع اليهود من حلي نسائهم
مجموعة، وقدموها لـ عبد الله وقالوا: خفف عنا -يعني: إن كان عندنا خمسة
آلاف اجعلها ثلاثة آلاف- فقال لهم كلمته المشهورة: (يا إخوة الخنازير!
والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله
ما حبي لرسول الله ولا بغضي لكم بحاملي على أن أجحف عليكم، وهذا المال رشوة
وسحت، وهو محرم) .
فقالوا: يا عبد الله! بهذا قامت السماوات والأرض.
أي: بالأمانة ورفض الرشوة، وأقسم ألا يحيف عليهم بسبب البغض، ولا أن يحابي
رسول الله بسبب المحبة، وقال: إني خارص وأنتم بالخيام، إما أن تلتزموا ما
وجب عليكم، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا ملتزم لكم بما هو لكم من هذا الخرص،
فقبلوا وخرص والتزموا.
الذي يهمنا: أن هدايا العمال رشوة وسحت، والرسول أباح لـ معاذ أن يقبل
الهدية، وخص معاذاً لأنه صلى الله عليه وسلم علم من معاذ أن نفسه ودينه
وأمانته فوق مستوى المحاباة والرشوة والسحت، فإذا ما جاءته هدية لم يقبلها
في مقابل حق يتنازل عنه أو في مقابل محاباة في دين الله، فأباحها له وكان
بينه وبين أبي بكر وعمر مقالات في هذا الموضوع.
مخاطبة كل قوم حسب
ثقافتهم العلمية
وهنا التوجيه النبوي الكريم، الذي يمكن في العرف الحاضر أن نسميه (التوجيه
الدبلوماسي) بمعنى سياسة الناس ومخاطبتهم بما في نفوسهم، وتنوع الأساليب مع
أناس دون أناس، فقال له: (يا معاذ! إنك ستأتي قوماً أهل كتاب) أهل الكتاب
ليسوا هم وأهل البادية الأمية سواء.
فالبادية الأمية لا تعرف شيئاً من أحكام السماء، وليس عندهم سوابق علم، أما
أهل الكتاب فعندهم من العلم ما جاءهم في كتابهم، وعندهم من التوحيد.
ومن أخبار البعث الشيء الكثير الذي أنزله الله في كتبه المتقدمة من التوراة
والإنجيل، وكان في اليمن يهود ونصارى.
إذاً: خذ أهبتك في مقابلة هؤلاء الناس لتتعامل معهم على مستوى علمي، والذي
يتعامل مع أشخاص أهل علم يجب أن يكون على مستوى علمي أكثر ممن يتعامل مع
بادية أمية لا تعرف شيئاً، فيقودها حيث شاء، أما أهل الكتاب فلن ينقادوا في
كل شيء؛ لأن لديهم أصول يتمسكون بها، بصرف النظر عن كونها حرفت أو بدلت.
التدرج في الدعوة
إلى الله تعالى
(إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه -وفي رواية البخاري
رحمه الله وغيره: أن يعبدوا الله وحده لا شريك له- عبادة الله وحده، فإن هم
أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة،
فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم
وتعطى إلى فقرائهم) .
إلى هنا يقف طالب العلم والداعية إلى الله ليرى الأسلوب في الدعوة إلى الله
مع قوم أهل كتاب، وذوي عقل وفكر، فتكون الدعوة معهم بالتدرج، فأول شيء
يدعوهم إليه هو ما لا نزاع فيه؛ وهو عبادة الله وحده.
فالوثنيون قد يعارضون في ذلك أشد من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب عندهم مبدأ
في التوحيد، والشرك طارئ عليهم، فيدخل في التدرج بعبادة الله وحده، ثم
ينتقل إلى العبادة البدنية التي ليس فيها درهم ولا دينار، وهي: الصلوات
الخمس في اليوم والليلة، فإن هم استجابوا لذلك فمعناه أنهم على طريق السمع
والطاعة، فينتقل بهم إلى عنصر المادة: (أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم
صدقة -وسمى الزكاة المفروضة صدقة- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) .
وهنا أيضاً من حسن التنبيه، ومن إعجاز التشريع، أنه افترض عليهم صدقة لا
يدفعونها لغيرهم من المسلمين، وإنما تخرج منهم وتوزع فيهم، فتؤخذ من
أغنيائهم وترد عليهم، أي: تؤخذ باليمين وتعطى بالشمال ولكن مع اختلاف
الجهة، فتؤخذ من أغنيائهم الذين أفاض الله عليهم من ماله، والمال مال الله:
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وترد على
فقرائهم، وأيتامهم، ومساكينهم، من آبائهم، وإخوانهم، وجيرانهم، فهي لن تخرج
من أيديهم.
فعندما يعلم أغنياء اليمن أن الزكاة التي فرضها الإسلام ليست ضريبة تجبى
منهم إلى غيرهم، بل تؤخذ منهم وترد عليهم؛ حينئذ يسهل أمر دفع المال؛ لأن
المال صنو النفس، والنفس شحيحة عليه، وحريصة على تحصيله، وشحيحة في إنفاقه.
وهكذا كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، فقالوا: إنه
كان جابياً للزكاة والجزية، وكان أميراً، ومعلماً ومفتياً وقاضياً، فكان
يؤدي كل هذه المهام، وليس مجرد جامع للزكاة.
النبي صلى الله عليه
وسلم يغرس الوازع الديني في قلب معاذ
والحديث قد قطعه البخاري فيما لا يقل عن خمسة أو ستة أبواب.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم) أي: في الجملة، وقال له: (وإياك وكرائم أموالهم!) أي: إذا أعطوا
الزكاة فلا تعمد إلى أكرمها وتأخذها؛ لأن صاحبها متعلق بها، وهذا ظلم، كما
أنك لا تأخذ العجفاء ولا المريضة؛ لأن هذا ظلم للمساكين، وإنما يكون الوسط:
(وإياك -تحذير- وكرائم أموالهم!) أي: احذر أن تعمد إلى أكرمها فتأخذه.
وقد مرت غنم الصدقة على عمر رضي الله تعالى عنه فوجد فيها شاة حافلة -ضرعها
كبير- فقال: (ما أظن أن أهل هذه دفعوها عن طيب نفس!) تأسفاً لأخذها، ولا
يستطيع أن يردها؛ لأنها جاءت من بعيد.
وهنا تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم على ما يجب على العمال من الرفق
بالناس، وعدم الإضرار بصاحب المال ولا بمستحقيه؛ ولهذا يقول العلماء:
الزكاة فرضت على الرفق بالطرفين: رفقاً بالأغنياء بأن أخذ منهم (2.
5%) ، ولم يقاسم المالك في ماله على الثلث أو الثلثين، فأربعون شاة من
الغنم يأخذ منها شاة إلى مائة وعشرين، فهذه ليس فيها غرامة عليه، ولا فيها
ثقل عليه، بل فيها رفق به، وكذلك إرفاق بالمساكين أن ينتفعوا بما يأتيهم من
أموال الأغنياء.
وهنا ينبه صلى الله عليه وسلم جميع عمال الزكاة إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها، أن يكونوا رحماء، وألا يجحفوا بصاحب المال فيأخذوا كرائم الأموال،
وألا يجحفوا بالمساكين فيأخذوا لهم العجاف والمرضى.
وعمر يقول لعامله: (اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي بين ذراعيه -يعني:
يحملها على صدره- ولا تأخذها منهم) أي: عند عد الرءوس عدها، ولكن في الأخذ
في زكاة الغنم لا تأخذها؛ لأنه ليس منها فائدة، وإنما يأخذ الوسط.
(وإياك وكرائم أموالهم) .
بدلاً من إرسال المفتشين على مدراء الضرائب، وبدلاً من المحاسبة والنظر في
الدفاتر، يقيم صلى الله عليه وسلم الوازع الذي ينتزع قلب كل إنسان إذا
خالف: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) نعم ذهب يدعو
إلى الله، لكنه سيأخذ الزكاة، والزكاة مال، وحذره من كرائم الأموال، فإذا
أخذ كريمة مال إنسان يكون قد ظلمه، والمظلوم لن يبيت غافلاً، وسيدعو على
الظالم، فيجب أن تتقي دعوة المظلوم؛ لأنه ليس بينها وبين الله حجاب،
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: إني لأنصر المظلوم ولو
كان كافراً) يقول العلماء: لأن هذا الكافر عندما أحس بالظلم لم يجد من
ينصفه، ولا بينة عنده، أو أنه مضطهد لا يستطيع أن يأخذ حقه، ولن يجد من
ينصره وينصفه ممن ظلمه إلا الله، فتوجه إلى الله، فهو في تلك اللحظة مؤمن
بالله، وإن لم يقر له بالتوحيد، لكنه مقر بوجود الله وبقدرته على نصرته،
وهنا لا يخيبه الله.
ويقولون في خبر موسى مع قارون: لما أدرك قارون الخسف أخذ ينادي: يا موسى!
يا موسى! وموسى لم يلتفت إليه، ثم بعد أن انتهى عاتب الله موسى: يا موسى!
يناديك قارون عدة مرات فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته.
إذاً (اتق) أي: احذر، واجعل لك وقاية بينك وبين دعوة المظلوم، ألا وهي عدم
ظلمه، (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، فلا تحجبها السماوات السبع، ولا
الملأ الأعلى، وتصعد إلى الله سبحانه، فيتلقاها وينصف المظلوم ولو كان
كافراً.
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الملك ليدوم مع العدل ولو لكافر، ولا
يدوم مع الظلم ولو لمسلم.
(والظلم ظلمات يوم القيامة) .
وهكذا نجد في بعث معاذ رضي الله تعالى عنه إلى اليمن، فإن هذه التعليمات
أسس قويمة فيما يكون عليه العمال، وفيما ينبغي أن يلاحظوه في حق الرعية.
وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [2]
من رحمة الله بعباده أنه ما أجمل شيئاً في كتابه إلا وبيَّنه في سنة نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم، فالزكاة أمر واجب وركن من أركان الإسلام فصلت
وبينت فرائضها وأنصبتها في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك
زكاة الإبل والغنم كما في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
حديث أبي بكر في
زكاة الأنعام التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أنس: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه
كتب له: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على
المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله: في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها
الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت
مخاض أنثى، فإن لم تكن فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس
وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ست وأربعين إلى ستين ففيها حقة
طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت
ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين
ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين
بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها
صدقة إلا أن يشاء ربها.
وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ،
فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين
إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة،
فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاةً شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة
إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة،
وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة
هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق.
وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها
صدقة إلا أن يشاء ربها.
ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل
منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة
الحقة وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه
المصدق عشرين درهماً أو شاتين) رواه البخاري] .
الأموال الزكوية
المتفق على أصولها
بعدما قدم المؤلف حديث معاذ رضي الله تعالى عنه في بيان وجوب الزكاة: (ثم
أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، فترد
على فقرائهم) وانتهى الكلام في ثبوت وجوب الزكاة ومعرفة ذلك من الدين
الإسلامي بالضرورة، فهو ركن من أركان الإسلام ثابت بالكتاب والسنة
والإجماع؛ جاءنا بحديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه في تفصيل وبيان الزكاة
في بهيمة الأنعام، وذكر في هذا الكتاب أنصبة الإبل والغنم.
وفي الجملة يوجد من أموال الزكاة ما هو متفق على أصول فيها، كبهيمة
الأنعام: الإبل والبقر والغنم، ومن الزروع: التمر والزبيب والحبوب، وكل قوت
مكيل مدخر ألحق بالتمر والزبيب، وكذلك النقدان: الذهب والفضة، ويلحق
بالنقدين عروض التجارة؛ لأنها تابعة لها، وتدار بالذهب والفضة وتقوّم بهما.
زكاة الأموال
الزكوية الظاهرة للإمام والباطنة يقسمها المالك
الأموال الزكوية قسمت إلى قسمين: قسم ظاهر يتولى الإمام أمره، وهي: بهيمة
الأنعام، والتمور والزبيب.
وقسم خفي وهو: الذهب والفضة وعروض التجارة، وهذا الخفي وكِل وأسند أمره إلى
صاحبه، فهو يتعامل بينه وبين الله في إخراج الزكاة.
فهنا نأخذ خطاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومعلوم أن الكتابة لم تكن
معهودة، ولكن جاءت في بعض التعليمات العامة، منها ما أملاه الرسول صلى الله
عليه وسلم كما نبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه في بيان أنصبة الزكاة التي
فرضها الله ورسوله، ومنها الكتب التي كتبت فيما يتعلق بالجنايات، كالدية،
وأرش الجروح، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه سئل: (هل خصكم رسول
الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم لم يخص به أحد غيركم؟ فقال: لا
والله، إلا فهم أوتيه أحد في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة -وكانت صحيفة
يضعها علي رضي الله تعالى عنه معه في قراب سيفه- قالوا: وما في الصحيفة؟
قال: العقل -أي: عقل الجراح- والديات، وفكاك الأسير) وبعضها كخطاب ابن حزم
في أنصبة الزكاة يكتب بها إلى العمال يسيرون عليها.
ولعل هذا العمل -وهو الكتابة في أمور جزئية- هو مبدأ تدوين وتنظيم النظم
الحكومية، فمنها ما يتعلق بالجنايات، ومنها ما يتعلق بالأموال، وهذا من
أهمها، ويتفق العلماء على أن تلك الكتب لا زالت يعمل بها في عهد الصحابة
رضي الله تعالى عنهم، وكان جميع العمال يأخذون بما فيها ويطبقونها كل في
مكانه.
بيان حديث أبي بكر
لمجمل القرآن: (وآتوا الزكاة)
فهذا خطاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه يقول فيه: (وعن أنس: أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه كتب له: هذه فريضة الصدقة) .
هذه الكتابة كتبها أبو بكر من عنده أو مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ لا يمكن لـ أبي بكر أن ينظم هذا التنظيم من عنده؛ لأنه يتعلق بأموال
الناس، وأموال الناس محترمة، لا يمكن لإنسان أن يتسلط عليها ويأخذ منها،
وهي عبادة تتعلق بركن مالي، والعبادة لا يمكن لأحد أن يتحكم فيها.
إذاً: أبو بكر رضي الله تعالى عنه لما كتب لـ أنس كتب له ما حفظ عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولذا صرح بذلك فقال: (التي فرضها رسول الله صلى
الله عليه وسلم على المسلمين) .
وهنا يقف العلماء في مسألة أصولية وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له حق
في الفرضية، ولكن هل ذلك له في بيان ما أجمل من كتاب الله أم له أن يستقل
به؟ فمما له صلة بكتاب الله أن الله سبحانه وتعالى فرض الزكاة إجمالاً
فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، وقال:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ} [الحج:41] ما هي الزكاة التي آتوها؟ ما هي أنواع الأموال
الزكوية؟ ما مقادير أنصبائها، ما مقدار ما يؤخذ منها؟ ولهذا يقول
الأصوليون: السنة قاضية على الكتاب، بمعنى: أنها مبينة لما أجمل فيه،
ويتعين على كل مسلم أن يأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم
ابتداءً أو بياناً، وقد بين المولى وجوب ذلك: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وعصمه الله من الخطأ فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] كما قال السيوطي
رحمه الله: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر
حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة.
ولما جاء شخص إلى بعض السلف وقال: ما حاجتنا في السنة والله يقول: {مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ؟ قال: نعم، ما جاء
به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما جاء في كتاب الله.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: السنة كاملة
كقطرة من بحر كتاب الله؛ لأن الله قال لنا في حق رسوله صلى الله عليه وسلم:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
[الحشر:7] فهذا متعلق بالسنة بجميع ما فيها.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته
يقول: عندنا كتاب الله، ما وجدنا في كتاب الله أخذنا به، وما لم نجد لا
حاجة لنا فيه! ألا وإنني أوتيت الكتاب ومثلَه معه) والذي أوتيه صلى الله
عليه وسلم مع الكتاب هو السنة.
وهنا لما قال هذا الرجل هذا الكلام لبعض السلف، قال: يا ابن أخي! تعال، لا
غنى لك عن السنة، هل وجدت في كتاب الله عند قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}
[البقرة:43] أن الصبح ركعتان والظهر أربع والمغرب ثلاث؟ قال له: لا.
قال: من أين أخذتها؟ قال: من سنة رسول الله.
قال: إذاً: نحن ملزمون بالسنة.
وكذلك أرأيت أنصباء الزكاة هل وجدت في الذهب (2.
5%) مذكوراً في القرآن؟ هل وجدت في القرآن أن الغنم في كل أربعين شاةً
شاةٌ؟ وهل وجدت في القرآن عن الإبل في كل خمس إبل شاة؟ وهل وجدت في الحبوب
والثمار في كل خمسة أوسق صدقة؟ الجواب: لا.
إذاًَ: من أين وجدت ذلك؟ الجواب: من السنة.
وعلى هذا جاءت السنة بتفصيل ما أجمل في كتاب الله، وجاءت السنة بتشريع
مستقل لكنه تابع لما جاء في كتاب الله، ولذلك لما جاء تحريم النساء:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] .
الأية، وجاء في القرآن: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}
[النساء:23] جاء صلى الله عليه وسلم وقال: (لا يجمع بين المرأة وخالتها،
ولا بين المرأة عمتها) فحرمة الجمع بين المرأة وخالتها ما جاءت في كتاب
الله، وإنما جاء الكتاب بتحريم الجمع بين الأختين.
ووقع النزاع عند الأصوليين، وهل هذا يشمل ملك اليمين أم لا لعموم: {أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] وعموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ؟ الأختان من الحرائر لا شك داخلتان في هذا
الحكم، والإماء لهن آية أخرى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء:3] .
ولما سئل عثمان رضي الله تعالى عنه: أيجمع بين الأختين بملك اليمين؟ قال:
أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء:3] فهذا عام، وحرمتهما آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء:23] .
ولكن ينظر الأصوليون في أن الآية التي أحلتهما فيها استثناءات، فعمومها قد
خرج منه أفراد: فلو امتلك أمه أو ابنته أو أخته لم يجز له التمتع بها، ولذا
يقولون في الفقه: من امتلك من تحرم عليه نكاحها عتقت حالاً، فمن اشترى أخته
مثلاً، فبمجرد تمام عقد الشراء تصير حرة وتعتق عليه، حتى لا يكون له عليها
ملك يمين، وكذلك إذا اشترى أمه، أو اشترى أباه فإنه يعتق حالاً ولا يجري
عليه ملك اليمين.
ثم قالوا: الفروج يقدر فيها الاحتياط، والاحتياط المنع حتى لا يقع في
محظور.
إذاً: السنة من حيث هي قاضية على الكتاب، بمعنى: إذا وجد إجمال في كتاب
الله أو إطلاق أو عموم، ووجد مبين في السنة للمجمل، أو مخصص من السنة للعام
في كتاب الله، أو مقيد لمطلق في كتاب الله؛ عمل بذلك.
وهنا يقول أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (هذه فريضة الزكاة التي افترضها
رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) .
أي: في عموم قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] أو أنه أمره أمراً غير
ما في القرآن، وقد يكون هناك وحي سوى القرآن.
النفث في الروع نوع
من الوحي
في علم أصول التفسير أن الله سبحانه وتعالى قد يوحي إلى رسوله بوحي غير
القرآن، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نفث في روعي أنه لن تموت
نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) فهذا النفث في الروع وحي من الله، وهذا القدر
قد يشارك فيه بعض عباد الله الصالحين.
قضية الوفد الذين مروا على قوم من المشركين واستضافوهم، قالوا: اذهبوا عنا،
فقد جئتم من عند هذا الصابئ، ليس لكم عندنا شيء.
فتنحوا عنهم جانباً ونزلوا، فسلط الله عقرباً على سيد الحي فلدغته، فقالوا:
اذهبوا إلى هؤلاء لعل فيهم راقياً، فجاءوا وقالوا: هل فيكم من راقٍ؟ فقال
رجل: نعم، أنا أرقي، ولكني لا أرقيه لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، لقد طرقناكم
مروءة القِرى -الضيافة- فامتنعتم، فجعلوا له جعلاً من الغنم، فقرأ عليه
فاتحة الكتاب، فقام كأنه نشط من عقال، وجاء يسوق الغنم، فلما جاءهم بها
قالوا: ما هذا؟! قال: رقيت الرجل بالفاتحة.
قالوا: كيف تأخذ على قراءة القرآن هذا الأجر؟ ثم قالوا: لا نقتسم.
وأبقوه معهم حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (اقتسموه
واجعلوا لي معكم سهماً، ثم قال له: وما يدريك أنها رقية؟ -هنا محل الشاهد-
قال: شيء نُفث في روعي) أي: أحسست في نفسي ببصيرة وبإلهام من الله، وبحالة
إحساس لا شعوري بأن الفاتحة تشفيه، فقرأت فشفاه الله.
ويقولون: إن سورة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] (اتكأ
صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات مرة، ثم تنبه يتبسم، قالوا: ما الذي
أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورة هي أحب إلي من كذا وكذا
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ) فبعض علماء التفسير
يقولون: أعطيها نفثاً في روعه، والآخرون يقولون: لم ينزل من القرآن شيء إلا
بالوحي المعتاد: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا
وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] فقالوا: إن الإغفاءة التي أغفاها صلى
الله عليه وسلم ثم انتبه منها ليست نومة، إنما هي من برحاء الوحي، وكان إذا
نزل عليه الوحي غشي عليه.
إذاً: قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) من أي أنواع الوحي؟ الله تعالى
أعلم.
أنصبة الإبل
في كل خمس من الإبل
شاة إلى أربع وعشرين
قوله: (في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم: في كل خمس شاة) .
هذا أول تقدير أنصباء الإبل، الأصل في الإبل أن زكاتها منها، والغنم زكاتها
منها، وكل مال زكوي زكاته من جنسه إلا عروض التجارة، فزكاتها من قيمتها
وليس من أعيانها، وزكاة الإبل التي تخرج منها ما زاد عن أربعة وعشرين
رأساً، أي: خمس وعشرون، فالخمس والعشرون فيها بنت مخاض، وما قبل الخمسة
والعشرين تقسم إلى خمسات، ثم في كل خمس شاة، ففي الخمس شاة واحدة، وفي
العشر فيها شاتان، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، والعشرون فيها أربع خمسات
فتكون عليها أربع شياه، فإذا جاءت الخمس الخامسة خرجت الزكاة عن الشياه إلى
الإبل فكان فيها بنت مخاض.
ثم من خمس وعشرين فيها بنت مخاض إلى ست وثلاثين، وما بين النصاب والنصاب لا
يكون فيه شيء من الزكاة بنسبته، وهذا يسمى وقص، والوقص لا زكاة فيه، فإذا
كان عنده -مثلاً- أربع من الإبل فهذا دون النصاب، فإذا كملت خمس من الإبل
فهذا نصاب، فعليه فيها شاة واحدة، فإذا صارت ستة أو سبعة أو ثمانية أو تسعة
فعليه فيها شاة.
إذاً: الشاة في الأربع التي فوق الخمس هذه وقص لا شيء فيها، فإذا كملت
الخمس الثانية صارت عشر إبل ففيها شاتان، فإذا صارت إحدى عشرة، أو اثنتي
عشرة، أو ثلاث عشرة، أو أربع عشرة ففيها الشاتان، لأن ما زاد عن العشر وقص
يسقط فيه حقه إلى أربع عشرة، وهكذا ما بين خمس وخمس من الأعداد لا شيء
فيها.
في كل خمس وعشرين
إلى خمس وثلاثين بنت مخاض
قوله: (فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى) .
من خمس وعشرين تبدأ فريضة بنت المخاض، وبنت المخاض عندهم هي: التي أمها
ماخض بأختها بعدها، أي: حامل وظاهر حملها، وهي ما كان عمرها سنة ودخلت في
الثانية.
فمن خمس وعشرين وجبت بنت المخاض إلى ست وعشرين، سبع وعشرين، ثماني وعشرين
ثلاثين، كل هذا العدد فيه بنت المخاض، فلا يزاد على ما زاد عن خمس وعشرين
إلى ست وثلاثين، يعني: أنها إذا زادت عشر من الإبل، فلا شيء في هذه العشر،
فإن زادت واحدة فصارت ستاً وثلاثين وجب النصاب الثاني.
قوله: (فإن لم تكن فابن لبون ذكر) .
أي: إذا لم توجد بنت المخاض الأنثى يكون بدلاً عنها ابن لبون ذكر، وابن
اللبون أكبر من بنت المخاض؛ لأن أمه قد وضعت ما كانت ماخضاً به وصار عندها
لبن يحلب، وهنا أيهما أغلى في الإبل: الناقة الأنثى بنت المخاض أم ابن
اللبون الذكر؟ الأنثى دائماً أغلى، لأن الأنثى تأتي بالإناث والذكور، ولكن
الذكر لا يأتي بشيء.
فهنا تيسير على صاحب المال إذا لم يكن عنده بنت مخاض فنقول له: يجزئ عنك
ابن لبون ذكر.
في كل ست وثلاثين
إلى خمس وأربعين بنت لبون
قوله: (فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى) .
أي: من ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون، فابن اللبون الذي هو
أخوها وجب في الخمس والعشرين، وبنت اللبون التي هي أنثى وجبت هنا من ستة
وثلاثين إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة وصارت ستة وأربعين انتقلنا أيضاً
خطوة أخرى.
في كل ست وأربعين
إلى ستين حقة
قوله: (فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل) .
زادت هنا أربع عشرة عن النصاب الأول ففيها حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن
يطرقها الفحل فتنتج.
إذاً: كلما زاد العدد كبر السن الذي يؤخذ في هذا العدد، ولاحظنا بأن من خمس
إلى خمس وقص لا شيء فيه، ومن خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين عشرة لا شيء فيها،
ومن خمس وثلاثين إلى خمس وأربعين كان الزائد أيضاً عشرة ولا شيء فيها، وهنا
من ست وأربعين إلى ستين زادت أربع عشرة رأساً ولا شيء فيها.
في كل واحدة وستين
إلى خمس وسبعين جذعة
قوله: (فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة) .
وهذه أيضاً زادت أربع عشرة، ففيها جذعة، وهي أكبر من الحقة، وهي التي جذعت
أسنانها، وهي الأسنان البيض المقدمة، جذعتها لينبت لها سنان بدلها.
في كل ست وسبعين إلى
تسعين بنتا لبون
قوله: (فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون) .
فهو يتدرج، في كل عدد فيه كذا كل عدد فيه كذا إلى أن تصل إلى مائة وعشرين
فيتضاعف العدد إلى آخر أنصباء الإبل، ولا حاجة إلى الاسترسال في هذا
الموضوع؛ لأن هذا من اختصاص ذوي الإبل، ويكفينا القاعدة الأساسية: فبداية
الأنصبة في الإبل خمس، ففي كل خمس شاة إلى خمس وعشرين، فحينئذ يكون فيها
الإبل، وبين النصابين يعتبر وقصاً لا شيء فيه، وهكذا تتدرج.
ثم يختلف الفقهاء فيما بعد على ما ترسو الفريضة وعلى ما يكون فيها،
والتفصيل والتدقيق في ذلك إنما يرجع إلى ذوي الإبل، والعمال يذهبون إلى أهل
الأموال على مياههم، ويحصون عليهم ما عندهم، ويأخذون الفريضة منهم على
مقتضى ما في هذا الخطاب من أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
في كل إحدى وتسعين
إلى عشرين ومائة حقتان
قوله: (فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل) .
من تسعين إلى مائة وعشرين، فإذاً: زادت ثلاثين، ففيها حقتان طروقتا الجمل.
قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون) .
النظر في أنصباء بهيمة الأنعام هل هو على سبيل النسبة التصاعدية أو النسبة
التنازلية؟ لنقل: الحقة تجب في ستة وأربعين إلى ستين، وهذا مبدؤها وتمشي
إلى ستين، ومائة وعشرون فيها حقتان.
مبدأ الحقة في ستة وأربعين، وهنا من الواحد والتسعين إلى المائة والعشرين
فيها حقتان، يعني: كأن المسألة تفسحت نوعاً ما، وكلما زادت الإبل كلما خففت
النسبة التي تؤخذ منها فليست زكاتها تصاعدية.
قوله: (وفي كل خمسين حقة) .
إذا انتهت إلى مائة وعشرين وقفت الأنصباء والمقادير، ثم ينظر بعد ذلك فيجعل
في كل خمسين حقة، وهذا ما يسمى بمتوسط النسبة، فخمسون متوسطة ما بين ستة
وأربعين وبين ستين، فيكون في كل خمسين حقة.
(ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) .
أي: ليس عنده خمس بل عنده أربع فنقول: ليس عليك فيها زكاة.
الأنصبة المفروضة في
سائمة الغنم
في كل أربعين إلى
مائة وعشرين شاة
قوله: (وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ
شاةٌ) .
انتهينا من أنصبة الإبل على نزاع فيها -يمكن أن يتعرض له المؤلف أو يتركه-
بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله هل تنتهي الفريضة عند مائة وعشرين أو تمشي
إلى أكثر من ذلك، ثم تعود مرة أخرى بنسب ثابتة؟ ثم دخل في نصاب الغنم، ففي
كل أربعين شاةً شاةٌ.
إذاً: الإبل بدأت من خمس، والغنم بدأت من أربعين، بنت المخاض مشت في الإبل
من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين، والشاة في الأربعين تمشي معها إلى مائة
وعشرين، فمائة وعشرون فيها شاة، وأربعون فيها شاة، وكذلك ما بينهما، فهذه
ثلاث أربعينات أيضاً فيها شاة، فلينتبه لهذا، فإننا نحتاج أن نرجع إليه
فيما بعد.
إذاً: في أول أنصباء الغنم أربعون شاة، بصرف النظر عن الشروط التي ستأتي من
كونها سائمة وغيرها، وهذا شرط عام في الإبل والغنم والبقر، وأن المعلوفة لا
زكاة فيها؛ لأنه يتكلف لها، ويهمنا الآن في بيان أنصباء الغنم أن أول نصاب
للغنم أربعون شاة، والأربعون فيها واحدة، والواحدة تمضي مع الأربعين إلى
المائة والعشرين، فإن زادت عن المائة والعشرين شاة واحدة، كأن ولدت تلك
الليلة، وجاء العامل ووجد عنده مائة وعشرين شاة، ومعها زيادة عليها تلك
السخلة التي ولدت بالأمس، فزادت عن العشرين والمائة واحدة ففيها شاتان.
إذا زادت على مائة
وعشرين إلى مائتين ففيها شاتان
قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان) .
أي: إذا زادت الغنم عن العشرين والمائة شاة واحدة كان فيها شاتان، والشاتان
تمشي من مائة وعشرين، وثلاثين، إلى مائة وخمسين مائة وستين إلى مائة وتسعين
فيكون فيها الشاتان، وإذا كملت مائتين ففيها الشاتان، فإذا زادت الغنم عن
المائتين شاة واحدة فتكون قد دخلت في المائة الثالثة، فإذاً فيها ثلاث
شياه.
إذا زادت على مائتين
إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه
قوله: (فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه) .
أي: حتى تصل إلى الثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة
شاةٍ شاةٌ.
ونحن نجمل الجميع لنرى أن تلك الأنصباء في الأموال ليست عفوية، وإنما وضعت
بدقة وحكمة، وإذا عرضت على شخص يعتبر من كبار المحاسبين فهنا تتضح الحكمة
والرحمة: فالشاة فرضت أولاً في أربعين، فلما كثرت الأغنام فوق الثلاثمائة
وصارت أربعمائة أو خمسمائة فالشاة التي كانت تفرض في أربعين تجزئ عن مائة،
إذاً: نسبة الزكاة في الغنم تنزل ولا تتصاعد؛ لأن التي كانت تجزئ في
الأربعين أصبحت تجزئ في المائة.
وقد يتساءل الإنسان هنا: لماذا هذا التنازل؟ مع أننا أشرنا في السابق أن
نظام الضرائب يتصاعد، فالمائة الأولى متروكة لصاحبها لأنها قليل، المائة
الثانية مثلاً عليها (5%) ، وفي المائة الثالثة (10%) ، وهكذا حتى تصل نسبة
الضريبة إلى (100%) من الربح، أي: أنها تتصاعد، فكلما زاد الربح زادت
الضريبة، وهنا كلما زادت الغنم نقصت نسبة ما يؤخذ منها، وهذا إرفاق من
الشارع بصاحب المال.
هنا قد يقول الإنسان: ما موجب هذا التنازل؟ والجواب: لأن صاحب الأربعين شاة
يحاجي عليها ويحافظ بقدر المستطاع، لكن صاحب المائتين والثلاثمائة أصبح في
الحي رفيع العماد، وطويل النجاد، وأصبح سيد الحي، وسيد الحي مطروق، وكلما
طرقه طارق ذبح له شاة إذاً: صارت عليه تبعات أكثر من صاحب الأربعين، فكلما
زاد المال كثرت التبعات عليه، فخفف من جانب الزكاة، وهذا لا يوجد في نظام
الضرائب.
التناسب والتقارب في
أنصبة الغنم والإبل
والنقطة التي نريد أن نشير إليها، ويمكن لبعض الإخوة الذين يشتغلون في
المحاسبات والهندسة والضرائب أن يكون لهم فيها دقة أكثر وهي: النظر بين
أنصباء الأموال، نحن نشير إلى النسبة التقريبية بين الإبل والغنم، ثم إذا
جئنا إلى الذهب والفضة نجمل الجميع إن شاء الله؛ لنرى أن تلك الأنصباء في
الأموال ليست عفوية، وإنما وضعت بدقة وحكمة، ولما عرضت ذلك على شخص يعتبر
من كبار المحاسبين قال: هذا جديد في الإسلام، قال: ما كنت أحس بهذا أبداً،
وكنا نظن أنها أمور توقيفية لا دخل للعقل فيها.
قلت: هذا بمنطق الحساب والأرقام كلها متساوية، وليس هناك عفويات، بل وضعت
بترتيب وحكمة متعادلة.
إذا جئنا إلى الإبل وإلى الغنم نجد أول نصاب في الإبل؟ خمس، وأول نصاب في
الغنم أربعون، ما نسبة الأربعين شاة إلى الخمس من الإبل؟ نأتي إلى تقييم
الإبل بالغنم، كم تقوم الإبل بالنسبة إلى الغنم شرعاً؟ نحن عندنا في الحج
ما استيسر من الهدي {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] أقل
الهدي شاة أو سبع بدنة، أي أن: البدنة تنوب عن سبع شياه، هذا هو التقدير
الشرعي.
تأمل هنا: (5×7=35) ، أي أن الخمس من الإبل تعادل خمسة وثلاثين من الغنم،
فلو أننا جعلناها ستاً من الإبل فستزيد لأن (6×7=42) ولو جعلناها أربعة
فستنقص لأن (4×7=28) ، فأقرب عدد في المعادلة بين الإبل والغنم هو الخمس من
الإبل حيث تعادل الخمسة والثلاثين، وهي قريب من الأربعين، ولو غيرنا عدد
الإبل إلى ست أو أربع لحصل ظلم على المالك بزيادة شاتين، أو حصل ظلم على
المساكين بتنقيص كذا شاة.
إذاً: أنصباء الإبل مع أنصباء الغنم متوازية.
سنأتي إلى نصاب الذهب مع الغنم ومع الإبل عندما نأتي إلى الذهب والفضة إن
شاء الله.
قوله: (فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاةً شاةٌ واحدةٌ فليس فيها
صدقة إلا أن يشاء ربها) .
أي أن أقل من الأربعين ليس فيها شيء.
قوله: (ولا يجمع بين متفرق) .
المبحث الآتي مترتب على ما تقدم مراعاة لحالات الرعاة، فهم عندما يخرجون
إلى البر والمرعى في الصحراء، لا يستطيع الراعي فصل غنمه عن غنم الثاني،
ولا إبله عن إبل الثاني، وكلها ترعى في مرعى واحد، وهناك قد يرجع كل راع
بما يرعاه لصاحبه، وليست هناك خلطة، أو يكون الرعاة اتفقوا على الخلطة
وخلطوا المالين معاً، ولا فرق بين فحل هذه الإبل وفحل تلك: ففحل هذه يطرق
نياق تلك، والعكس، ولا في الحلب: فهذا الراعي يحلب هذه، وراعي ذاك يحلب
هذه، ويخلطون الحليب سوية، ويرجعون إلى مراح واحد على ما يأتي في شروط
الخلطة وأحكامها، وهي من أدق أبواب الفقه في باب الزكاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [3]
أنزل الله القرآن على نبيه صالحاً لكل زمان ومكان، وجاءت السنة مكملة له،
ومبينة وموضحة لمجمله، فكان مما بينته تفاصيل الزكاة ومنها الأنعام، حيث
بين النبي صلى الله عليه وسلم أنصبة الإبل ومتى تجب الزكاة فيها، وبين
أنصبة الغنم ومتى تجب الزكاة فيها، فهذه معايير وقياسات لا تتغير ولا تتبدل
مدى الزمان.
كما بين أحكام الخلطة، واختلاف أسنان المخرج من الإبل عن المطلوب، وكذلك
زكاة الفضة، وكل ذلك رحمة بالمزكي والمسكين.
حكم الخلطة في
الأنعام الزكوية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول أبو بكر: (ولا يجمع بين متفرق ولا
يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما
بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء
المصَّدق، وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة
فليس فيها صدقة إلا ن يشاء ربها) .
فـ الصديق رضي الله تعالى عنه في هذا الخطاب، بعدما بين أنصباء الإبل وما
يدخل فيها، وأنصباء الغنم وما يؤخذ فيها، بقي من بهيمة الأنعام البقر،
والجاموس في بعض البلاد، أما البقر فجاء فيه النص في غير هذا الخطاب، وهو:
في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسن أو مسنة، والبقر قليل في
بلاد العرب، وكانوا يتهاجون باقتنائها، والذي يكثر هو الإبل والغنم.
والفقهاء قاسوا الجاموس على البقر، وألحقوه به في هذا الباب، ولما بيّن
الصديق رضي الله تعالى عنه أنصباء الإبل والغنم جاء بالتنصيص على مسألة
يكثر وقوعها بين أصحاب بهيمة الأنعام، وهي: الخلطة، وتعريفها: هو أن يأتي
صاحب قطيع من الإبل أو قطيع من الغنم إلى شخص آخر له قطيع من الإبل أو من
الغنم فيجمعانهما معاً، فهذه خلطة.
أقسام الخطلة
والخلطة عند الفقهاء تنقسم إلى قسمين بحسب نوعية التملك: فهناك خلطة أعيان
-وهي ما تسمى بشركة الأعيان- وخلطة أوصاف، فخلطة الأعيان: هي الاشتراك
بالتملك في أعيان بهيمة الأنعام، مثالها: رجل عنده مائة من الغنم، فتوفي عن
ابنين ورثا عنه المائة، فلكل واحد منهما النصف مشاعاً.
أما شركة الأوصاف، فمثالها: رجل هذا عنده خمسون شاة مميزة كل شاة بعينها،
فلو اختلطت مع غنم الآخرين استطاع أن يميزها ويخرجها على حدة؛ لأنها معروفة
بصفتها.
فالشركة بمقتضى الملك تكون بين جماعة ورثوا رءوساً من الغنم أو اشتروها
معاً، أو إنسان نزل إلى السوق بمائة رأس فاشتراها اثنان أو ثلاثة أو أربعة
بالشراكة، فصارت المائة من الغنم مملوكة للأربعة المشترين كل بحصته من
الثمن، ولو أن كل واحد من الأربعة دفع ربع الثمن فإنهم يكونون شركاء كل
واحد بالربع، وكيف يكون شريكاً بالربع؟ كل واحد له في كل شاة ربعها؛ لأنها
على المشاع، فإذا ما اقتسموا المائة وكل واحد أخذ خمساً وعشرين شاة أصبحت
الخمسة والعشرون في يد كل واحد ملكاً خاصاً، فإذا خلطوها بعد ذلك، صارت
شركة أوصاف مشاعة لا شركة أعيان، لأن كل شخص يعرف حقه.
إذاً: خلطة بهيمة الأنعام تنقسم إلى قسمين: خلطة أعيان، كل واحد له نصيب في
الجميع مشاعاً، وخلطة أوصاف، فخلطة الأعيان هم شركاء فيها، والزكاة فيها
عليهم جميعاً، لكن خلطة الأوصاف هي محل البحث هنا، فعندما يكون أربعة أولاد
ورثوا عن أبيهم مائة شاة، وجاء المزكي فوجد المائة الشاة، فقال: لمن هذا؟
فقيل له: لورثة فلان.
فإنه سيأخذ الزكاة من المائة على الجميع، إن كانت أربعين، أو مائة، أو
أربعمائة فإنه سيأخذ زكاة الجميع على الجميع، وهذه ليست موضوع بحثنا.
فإذا جئنا إلى خلطة الأوصاف، وجاء اثنان كل واحد منهما له عشرون شاة،
والمجموع أربعون، فإنه إذا جاء المزكي ووجد الأربعين، هنا يقول: لا يجمع
بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع، ولو جاء عامل ووجد زيداً عنده عشرون شاة،
ووجد عمراً عنده عشرون شاة، كلها مفترقة، فلا يجمع بينها، فيها أخوان من
منطقة واحدة، على بئر ماء واحد، ويرعيان في مرعى واحد، كل واحد يرعى ملكه،
وآخر النهار يرجع بها إلى بيته، فكل واحد من الأخوين يملك عشرين منفردة،
فإذا جاء العامل ووجد الأربعين ترعى معاً فلا يقول: مجموع الأربعين نأخذ
فيها شاة.
لأنها مفترقة فلا تجمعها، فكل واحد من الأخوين عنده عشرون شاة، وصاحب
العشرين لا زكاة عليه، فلا يجمع بين مفترق ليكمل النصاب ويأخذ الشاة، بل
يتركها على ما هي عليه، ليس فيها زكاة.
شروط الخلطة
فإذا جاء اتفق الأخوان على الخلطة، وصارت الأربعون مخلوطة، وشروط الخلطة
التي تؤثر في الزكاة هي تخفيف المئونة، وذلك باتحاد الراعي: واحد يرعى
الأربعين، واتحاد الفحل: كبش واحد للأربعين، واتفاق المحلب: تحلب في محل
واحد، وإن كان كل واحد يأخذ حليب غنمه في كيس، واتحاد المراح الذي تبيت فيه
يكون مراحاً واحداً، والمسرح الذي تسرح إليه في جهة واحدة.
إذاً: صارت الأربعون في حكم المال الواحد، تذهب مع بعضها وتأتي مع بعضها،
ولها راع واحد يرعاها، وكبش واحد يلقحها، وتشرب من ماء واحد على حوض واحد،
صارت هذه خلطة، واكتملت فيها الشروط، فإذا جاء العامل ووجد الأربعين على
هذه الصفة فإنه لا يفرق بينهما فيقول: خذ عشرينك واذهب، وأنت خذ عشرينك
واذهب بل يأخذ منهما الزكاة.
فخلطة بهيمة الأنعام تجعل المال المختلط كمال رجل واحد، فإذاً في هذه
الحالة يأخذ شاة من الأربعين ولا يفرق بين مجتمع هذه هي الصورة.
آراء الأئمة رحمهم
الله في الخلطة
نأتي إلى موقف الأئمة رحمهم الله في تأثير الخلطة في الزكاة فيما تجب فيه
الزكاة أو لا تجب: عند أحمد رحمه الله مال الخليطين أو الخلطاء إذا كان
مجموعه نصاباً، فإنه يزكى ولو لم يكن لكل واحد من الخلطاء نصاب كامل، فلو
وجد أربعون شخصاً، لكل واحد شاة، وخلط الأربعون -على ما تقدم- وجاء العامل
فوجد أربعين شاة عند راع واحد على بئر واحد وهي خلطة، فإنه يأخذ شاة من
الأربعين، وإن كان لا يوجد في الأربعين الخلطاء نصاب مستقل، بل ينص ابن
قدامة في المغني: لو أن الأربعين بين اثنين، واحد له تسعة وثلاثون، والآخر
له واحدة، أو أجر صاحب الأربعين أجيراً يرعاها على شاة من الأربعين، وجاء
العامل فهم خلطاء؛ لأن الراعي له واحدة أكملت الأربعين، فهم خلطاء، فالعامل
يأخذ شاة، ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة.
إذاً: الخلطة تجعل المال المختلط كمال رجل واحد.
وعند أحمد رحمه الله: حتى لو كان لكل واحد شاة، ولو كان لأحدهما ثلاثون
والثاني له عشر، فكذلك.
أما مالك رحمه الله فيقول: لا تأثير للخلطة إلا إذا كان لكل واحد نصاب.
إذا كان ثلاثة أشخاص كل واحد يملك أربعين شاة، ولكن كل يرعى غنمه على حدة،
وكل أربعين فيها فحلها، ولها راعيها، ومراحها ومسرحها، وبئرها أو حوضها
الذي تشرب منه، حتى وإن كانوا يردون بئراً واحدة، لكن لكل صاحب أربعين حوض
من الجلد يملؤه ويسقي غنمه، فإنهم يكونون مفترقين، فإذا جاء العامل أخذ من
كل واحد شاة؛ لأن كل واحد امتلك أربعين منفردة عن الأخرى.
وأما إذا جاء ووجد الثلاثة قد خلطوا الثلاث الأربعينات مع بعض، وتمت صفة
الخلطة: فالراعي واحد، والفحل واحد، والمحلب واحد، والحوض الذي يشربن منه
واحد، والمبيت في محل واحد، أي: أنه تمت شروط الخلطة، فإن العامل على جمع
الصدقة يأخذ شاة واحدة.
إذاً: في حالة الافتراق على كل واحد شاة، وفي حالة الاجتماع تخرج شاة عن
الجميع، لكن لو زادت واحدة ولو من أحد الثلاثة يكون فيها شاتان، فالثلاث
الأربعينات اجتمعت وفيها شاة واحدة، لأن خلطة المال جعلته كأنه الشخص
الواحد.
وعندما جاء العامل وأخذ شاة فلابد أن تكون من شياه واحد من الثلاثة، فهل
يتحمل عنهم زكاة غنمهم؟ لا.
(ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي: لا يأتي هؤلاء
الثلاثة ويقولون: والله العام القادم سنخلط.
بالأمس كان كل شخص بمفرده، فيجمع بعضهم إلى بعض من أجل أن يأتي العامل ويجد
مائة وعشرين شاة فيقولون له: خذ شاة واذهب.
ثم يرجعون إلى الانفراد، هذا لا يجوز، ولا أن يأتي العامل ويقول: لمن الغنم
هذه؟ فيقولون: لزيد وعبيد وعمرو ولكنها هي خلطة، فيقول: فرقوها.
من أجل أن يحصل على ثلاث شياه، فهذا لا يجوز، لأنه إذا تمت الخلطة فلا يفرق
بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة.
وما كان من خليطين فأكثر فإنهما يتراجعان أو يتراجعون بحسب ملكهم، فمثلاً:
عندنا ثلاثة، وملكهم متساوٍ، فكل واحد له أربعون شاة، فعلى كل واحد ثلث
شاة، فإن كان المأخوذ من مال زيد فله عند كل من الخليطين ثلث شاة، فنقدر
قيمة الشاة التي أخذها العامل، فإذا قدرت بثلاثين ريالاً، فكل واحد من
الخليطين يدفع له عشرة ريالات.
لو قدر أن المائة والعشرين بين اثنين، واحد له أربعون شاة، وآخر له ثمانون،
وتمت الخلطة، وجاء العامل، لا نفرقهم حتى يأخذ شاة من صاحب الأربعين وشاة
من صاحب الثمانين، وكذلك هم لا يجتمعون عندما يسمعون بمجيء العامل؛ لأنهم
اشترطوا في صحة تأثير الخلطة أن تكون الخلطة طيلة العام، أما إذا كانوا
منفردين وفي نهاية العام خلطوا، قالوا: لكي يأتي العامل ونحن مجتمعون فلا
يجوز، وإذا جاء العامل وهم على خلطتهم، وتمت شروط الخلطة، فلا يفرق بينهم،
بل يأخذ شاة واحدة، ويتراجعان فيما بينهما بالسوية، إن كانت أخذت الشاة من
صاحب الأربعين فعلى صاحب الثمانين ثلثي الشاة، وإن كان أخذها من صاحب
الثمانين فصاحب الثمانين له على صاحب الأربعين ثلث الشاة.
الإمام مالك يقول: إذا كانت الخلطة بين أربعين وثمانين فهذا صحيح، لكن لو
وجد واحد له ثلاثون وآخر له عشر شياه، فهذه ليس لها تأثير؛ لأن كلاً منهما
لا يملك النصاب، ولم يعتبر مالك تأثير الخلطة إلا إذا كان فيها ملك نصاب من
أحد الخلطاء.
طيب! وجدناها خمسين شاة، أربعون منها لواحد وعشر لواحد آخر، قال: هنا الشاة
على صاحب الأربعين، وصاحب العشرة ليس عليه منها شيء.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا تأثير للخلطة ألبتة، سواء امتلك كل
واحد نصاباً كصاحب الأربعين والثمانين أو لم يمتلك أحدهما نصاباً، فكل
زكاته على حدة إلا شركة الأعيان، فهذه شركة مشاعة.
تأخير الخلطة في غير
بهيمة الأنعام
وهناك من يقول: الخلطة تؤثر في الزكاة في غير بهيمة الأنعام، كعروض تجارة
بين شخصين، أحدهما لديه سكر والآخر لديه شاي، فجمعا الشاي والسكر، وأتيا
بصبي لهما يبيع في المتجر، فالمتجر واحد، والميزان واحد، والصبي واحد،
والخلطة موجودة، ومرافق العمل كلها متحدة؛ فهناك من يقول: هذه الخلطة بهذه
الصفة تؤثر، فلو كان مجموع الصنفين قيمته نصاب زكيت على حسبها، وإن كانت
قيمة الصنفين لم تصل إلى النصاب فلا شيء فيها، ولو كانت قيمة أحد الصنفين
نصاباً والأخرى لم تبلغ النصاب فإنه يشارك في الزكاة؛ لأن عروض التجارة ليس
فيها وقص، وإنما إذا بلغ النصاب أخذت الزكاة في النصاب، وما زاد على النصاب
فبحسبه.
نحن عندنا في الغنم من الأربعين إلى المائة والعشرين تسمى وقصاً، وتلك
الزيادة لا أثر لها، إنما هي شاة واحدة من بلوغ الأربعين، بخلاف الذهب
والفضة، فإنه إذا امتلك عشرين مثقالاً تم النصاب، وفيه ربع العشر، فإذا
امتلك خمسة وعشرين مثقالاً نقول له: زك الجميع، فلابد أن يزكي الخمسة
والعشرين بنسبة زكاة العشرين اثنين ونصف في المائة، فإذا امتلك ثلاثين
ديناراً أيضاً زكي الثلاثين بنسبة اثنين ونصف في المائة، إذاً: لا وقص،
وحيثما كان لا وقص فالجميع سواء.
وهذا المبحث في كتب الفقه له تفريعات، وله مسائل فرعية عديدة جداً؛ لأن
بهيمة الأنعام يشترط فيها الحول، والخلطة يشترط فيها أن تكون حولاً كاملاً،
وهي عندهم كالمال المتجدد، فلو ملك ثلاثين في نصف الحول، وعشرة في النصف
الثاني، فهل عليه زكاة أو حتى تتم العشرة الحول كاملاً، وكذلك في الخلطة.
فلو أن الخليطين اختلطا في أول الحول، وجاء ثالث وخلط في نصف الحول، فانتهى
حول الاثنين وحول الثالث لم يأت بعد، ماذا يكون الحال؟ وهذه تفريعات في
الواقع لا يتأتى تناولها بصفة عامة على هذه الحال، وإنما يهمنا بيان الهيكل
الأساسي في الخلطة.
ومرة أخرى بالإجمال: الخلطة إما شركة أعيان وإما شركة أوصاف، فشركة الأعيان
مشاعة على ما هي عليه، وشركة الأوصاف يكون ملك كل واحد متميزاً بعينه، لكن
اختلطا عاماً كاملاً وصحت الخلطة، فيعامل هذا المال المختلط معاملة مال
الرجل الواحد، ولو أن كل شخص من الخلطاء امتلك جزءاً من النصاب، وبمجموعهم
كمل النصاب أخذت الزكاة، أما لو فرقا وكل امتلك حقه فلا زكاة على واحد
منهم.
إذاً: الخلطة قد تنفع الخلطاء وقد لا تنفعهم، بحسب اكتمال النصاب أو زيادته
أو النقص منه.
هذا ما يتعلق بخلطة بهيمة الأنعام، أما تأثير الخلطة في غيرها فهذا موضع
خلاف فيما يتعلق بعروض التجارة إذا اتحدا أيضاً في الدكان أو المكان، واتحد
البائع والميزان أو المكيال أو الذراع أو غير ذلك، ثم يرجع الخلطاء كل على
صاحبه بنسبة ملكه في الخلطة.
شروط الشاة المأخوذة
في الزكاة
ثم بدأ يبين ماذا يأخذ العامل، قال: (ولا تؤخذ في الصدقة الهرمة) ، الهرمة
بمعنى: العجوزة؛ لأنها غالباً تكون عجفاء ليس فيها شيء، وهي على وشك الموت.
(ولا ذات عوار) من عور العينين، (أو معيبة) لأن العيب عوار في السلعة، فأي
شاة بها عيب فإنها لا تؤخذ في الصدقة؛ لأنه نقص على المساكين، والعوار
بمعنى العيب فهو يتفاوت، وبعضهم يقول: العوراء هي الفاقدة إحدى عينيها.
وهذه عند الأصوليين فيها نزاع، فعندما يقال في الأضحية: يجب أن تكون
الأضحية سليمة من العور فمن الأصوليين من يقول: هذه معيبة لا تصلح أضحية،
وكذلك لا تؤخذ في الزكاة، ومنهم من يقول: العوراء هي التي لا تسرح مع
الغنم، ولكن تبقى في البيت، وإذا انفردت في البيت عني بها، وجيء لها بعلف
يكفيها وزيادة؛ لأنها أصبحت محل عناية من مالكيها، فلربما تكون أسمن من ذات
العينين التي تسرح مع بقية الغنم، ولكن الجمهور على أن العور عيب فلا تؤخذ
صاحبة العوار في زكاة الغنم.
ويقاس على ذات العور وعلى الهرمة أي عيب في الشاة ينقص من قيمتها، سواء كان
في هيكلها أو في لحمها، فإذا كانت مريضة فلا ينبغي أن يأخذها، وإذا كانت
مكسورة لا يأخذها، وعلى هذا فكل شاة معيبة في الغنم لا تصح.
وكيف يأخذ؟ قد تقدم لنا ذلك في حديث معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم) ،
فالعامل لا يجوز له أن يصطفي كرائم الغنم ويأخذها، ولا أن يقبل من صاحب
الغنم أهونها، إنما يقولون: تقسم الغنم ثلاثة أقسام: خيار، وعوار، ووسط،
فيأخذ من الوسط، والعامل مؤتمن فلا يجوز له أن يظلم صاحب الغنم بأخذ
خيارها، ولا يجوز أن يغش المساكين فيأخذ الضعيف فيها، إنما يأخذ الوسط.
قوله: (ولا تيس إلا أن يشاء المصدق) .
التيس في الغنم هو الذي يعلوها ويطرقها؛ لأن الغنم في حاجة إليه، فيأتي
المصدق ويأخذ التيس ويترك الغنم بلا تيس وهذه مضرة، ولا يجوز إخراج التيس
في الصدقة إلا أن يشاء المصدِّق، أي: صاحب الغنم؛ لأنه قد يكون معه غيره،
أو المصدق هو العامل الذي يأخذ الصدقة؛ لأن التيس -أحياناً- لا يساوي
الشاة، والعنز خير منه لأنها تنتج، إلا إذا جاء العامل وجمع غنماً كثيراً
وسيسوقها ويحتاج إلى تيوس فيها، فيأخذه منه من أجل مصلحة ما بيده من
الماعز.
لا زكاة في الخيل
والبراذين ونحوها
الأموال الزكوية قلنا: إن المتفق عليها من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر
والغنم، ومن المختلف فيه: الخيل وما تبعها، فيرجح الجمهور على أن الخيل لا
زكاة فيها، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الخيل إذا أفردت للنماء
والزيادة ففيها الزكاة، أما إذا كانت لغير ذلك، ولا يتأتى نماؤها، وكما
يقول الأحناف: لو كانت كلها ذكوراً، فالذكور وحدها لا تنتج، ولو كانت كلها
إناث فالإناث وحدها لا تنتج، فعنصر النماء مفقود فلا زكاة فيها.
ولو كان عنده خيل ذكور وإناث يؤجرها أو يستعملها في جر العربات أو في الحرث
فهذه ليست للنماء فلا زكاة فيها.
وعلى رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن في الخيل زكاة، فما نصابها وما
يؤخذ منها؟ لم يأت في أي كتاب من كتب الصدقة بيان أنصباء الخيل ولا بيان ما
يؤخذ فيها، ومن هنا أخذ الجمهور أن الخيل خارجة عن حدود الزكاة، واستدلوا
أيضاً بحديث: (ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة) فقوله: (فرسه) وإن
كان مفرداً، لكنه نكرة مضاف فيشمل الجنس، فأخذ الجمهور بأن الفرس أو الخيل
لا زكاة فيه.
أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة مبناها على النماء، فإذا كانت ثلاثين
فصارت خمسين، فهي نامية، فتشترك مع الإبل والغنم في عموم النماء، ففيها
زكاة.
كم نصابها؟ قال: في كل فرس دينار.
نحن لا نعهد زكاة مال من غير جنسه إلا عروض التجارة وأوائل الإبل، في الخمس
منها شاة، فأخذ غير جنسها في حد معين، ثم من خمس وعشرين انتقلت إلى جنسها،
وكذلك عروض التجارة؛ لأن العروض هي عبارة عن دكان فيه سكر وشاي وصابون
ونعناع أو حتى خضار، فماذا سنعطي المسكين من هذا؟ فيقدر الجميع، وتعطى
الزكاة من مجموع القيمة؛ لأنها مصلحة للطرفين.
فإذا قلتم: الخيل فيها زكاة فبينوا نصابها منها، وما يؤخذ منها فيها.
وقال قوم: ليس فيها زكاة، واستدلوا بأن عمر رضي الله تعالى عنه أتاه قوم من
أهل الشام، وقالوا: إنا أصبنا خيلاً نريد أن تأخذ زكاتها طهرة لها.
فقال: لم يأخذها صاحباي من قبلي -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا
بكر رضي الله تعالى عنه- فكيف آخذها؟ فاستشار من عنده، فقالوا: خذ منهم ما
دام عن طيب نفس، فسأل علياً رضي الله تعالى عنه، فقال علي: لا بأس إلا أن
تصبح فيما بعد ضريبة لازمة عليهم، أي: هم الآن جاءوا طواعية ودفعوا، فإذا
ذهب هذا الجيل الذي يدفع طواعية، فسيأتي بعدهم أناس معهم خيل، فيقول من كان
بعدك: عمر أخذ على الخيل فيأخذ عليهم، وتكون ضريبة لازمة بغير إلزام.
فـ علي قال: لا بأس إذا أخذت ما لم تصبح ضريبة لازمة عليهم.
فقال عمر: نأخذها منهم ونردها على عبيدهم، بمعنى انه أخذ زكاة الخيل وفرض
لكل فرس ديناراً، وأعطى عبيدهم من بيت مال المسلمين، فالعبيد ليس لهم شيء؛
لأن بيت مال المسلمين للأحرار، ورزق بيت المال للأحرار، والعبيد تبع
للأحرار، فـ عمر فرض لعبيد هؤلاء الناس من بيت المال كأنه عوض عما يأخذ
منهم في الخيل.
والجمهور استدلوا بحديث صحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب
إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، ثم يؤتى
بها وافية فتطؤه بخفافها، وتعضه بأنيابها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى مصيره
إما إلى جنة، وإما إلى نار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت تطؤه
بأظلافها وتنطحه بقرونها، وما من صاحب ذهب أو فضة لم يؤد زكاتها إلا إذا
كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وكوي بها جبينه وجنبه وظهره إلى أن
يقضى بين الخلائق -فذكر صلى الله عليه وسلم هنا الإبل والبقر والغنم والذهب
والفضة- فقالوا: يا رسول الله! والخيل ما شأن صاحبها؟ قال: الخيل ثلاثة: هي
لرجل أجر، وعلى رجل وزر، ولرجل ستر؛ أما التي هي له أجر: فخيل ارتبطها
صاحبها في سبيل الله، وأما التي هي وزر فخيل اقتناها صاحبها بطراً ورياءً)
.
وقيل: سمي الخيل خيلاً لأن بها خيلاء، فانظر إلى الفرس عندما تشبع فإنها
تمشي على أطراف حوافرها وتتبختر، وأجود الحيوانات في الرقص والرياضيات
واللعب الخيل، وهي أشدها طرباً، فصاحبها كذلك.
(والتي هي له ستر رجل اقتناها تغنياً) يعني: للنماء فيبيع ويستغني بنسلها
وبيعها عن الناس.
فما ذكر فيها صدقة.
قال: (ولا ينسى حق الله فيها! قالوا: وما حق الله فيها؟ قال: ألا يمنع
فحلها عن إناث غيره، ألا يمنع منقطعاً أن يركبه إلى مكانه) ، ولم يبين فيها
صلى الله عليه وسلم نصاباً ولا ما يؤخذ منها، فقال الجمهور: هذا دليل على
أن الخيل لا زكاة فيها.
(قالوا: والحمر يا رسول الله! قال: لم ينزل علي فيها شيء، إلا هذه الآية
الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه *
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ) إذاً: رد
ذلك إلى صاحبها، إن فعل فيها خيراً فله، وإن كان عكس ذلك فالعكس.
إذاً: الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر أنصباء الإبل، وذكر أنصباء الغنم،
وجاءت أنصباء البقر في غير هذا الكتاب، ولم يأت للخيل ولا للبرذون ولا
للحمار ذكر في أنصاب الزكاة، وعلى هذا فجمهور العلماء على أن الزكاة في
بهيمة الأنعام مقصورة على تلك الأصناف الثلاثة، وأن الأصناف الثلاثة الأخرى
لا زكاة فيها: الخيل والبراذين والحمار.
زكاة النقدين
ثم انتقل الكتاب إلى صنف آخر من أصناف الأموال الزكوية، وهي الرقة، أي:
الفضة قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:19] فالورق
بمعنى الفضة والذهب.
قوله: (وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة
فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) .
هذا جزء من مبحث زكاة الذهب والفضة اقتصر فيه على الفضة، وهي كجملة معترضة
بين أحكام الإبل؛ لأنه بقي من أحكام زكاة الإبل ما لو لم توجد العين
المطلوبة في عدد الإبل عند صاحبها، فإنه يتقاص هو والعامل على ما سيأتي إن
شاء الله.
وهنا يقول: في كل مائتي درهم ربع العشر، فإذا كانت مائة وتسعين، فلا زكاة
فيها، لأنها تنقص عن النصاب عشرة، وإذا كانت تنقص واحداً أو اثنين فـ مالك
يقول: هذا شيء قليل فلا يؤثر، وفيها زكاة.
والجمهور يقولون: الحد مائتان، فإن لغة الأرقام ليس فيها تقريب، ومفهوم
المخالفة أن ما دون المائتين ولو بواحد لا زكاة فيه.
وبالمناسبة هنا: فالفضة توزن بالدرهم وتصك عملة بالدرهم، فالدرهم في الفضة
وحدة وزن ووحدة عد، فتقول: يملك مائة درهم.
يعني: نقوداً، أو يملك مائة درهم.
يعني: سبيكة تزن مائتي درهم.
والذهب وحدة وزنه المثقال، والمثقال أيضاً وحدة وزن ووحدة عد؛ فالدينار:
اسم للنقد، والمثقال: اسم للوزن، والدينار والمثقال شيء واحد.
والمائتا درهم قد تكون دراهم على حدة، وقد تكون دراهم تجمع في القطعة
الواحدة، فمثلاً: الريال السعودي: كان ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع، الريال
الفرنسي كان بريالين سعودي، وقد توجد القطعة النقدية من الريال والروبية
غير هذا على حسب اصطلاحات البلاد كم في هذه القطعة من درهم شرعي، فإذا
اجتمع عندهم من الريالات ما يعادل المائتي درهم من الفضة، وهو بالريال
السعودي ستة وخمسون ريالاً فيكون قد وجد عنده نصاب، فتجب عليه فيه زكاتها،
أي: زكاة الفضة في هذا النصاب، فإذا حال عليه الحول أخرج ربع العشر، أي:
(2.
5%) .
التقايض بين المالك
والمصدق إذا لم يوجد السن المطلوب إخراجه
قال: (ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها
تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت
عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة،
ويعطي المصدق عشرين درهماً أو شاتين) .
بين هنا أوضاع الإبل وظروف المالك فيما إذا لم تتح الفرصة لوجود ما يجب
عليه من الزكاة، فإذا كان عنده من عدد الإبل ما تجب فيه الحقة، ولم توجد
عنده هذه الحقة وكانت عنده جذعة، والجذعة: أكبر منها بسنة، فهي أكثر قيمة،
وتؤخذ في العدد الأكثر.
فإذا وجدت عند من وجبت عليه الحقة جذعةٌ فإنها تؤخذ منه، ويعوض عن الزائد
في الحقة شاتين أو عشرين درهماً يدفعها إليه المصدق، أي: العامل الذي جاء
ليأخذ الصدقة.
وكذلك العكس: إذا وجبت عليه في إبله جذعة، ولم توجد هذه الجذعة -والجذعة:
هي التي جذعت سنَّيها الأماميين- ووجدت عنده حقة، الحقة أقل قيمة من
الجذعة، فيدفعها صاحب الإبل، ويدفع معها جبراً للنقصان عن الجذعة شاتين أو
عشرين درهماً.
وهكذا في جميع ما يؤخذ في زكاة الإبل كما بوب البخاري رحمه الله: من وجبت
عليه بنت مخاض ووجدت عنده بنت لبون فإنه يدفع بنت اللبون، ويأخذ فرقاً عن
بنت اللبون وبنت المخاض شاتين أو عشرين درهماً من العامل، أو بالعكس: بأن
وجدت عنده من الإبل ما فيها بنت لبون، لكنه لا يوجد في إبله بنت لبون،
وفيها بنت مخاض، فإنه يدفع بنت المخاض، ويدفع معها جبراناً للنقص عن بنت
اللبون شاتين أو عشرين درهماً.
هكذا يقول الجمهور بناء على منطوق هذا الحديث في هذا الكتاب.
وبعض العلماء من غير الأئمة الأربعة يقول: ليس هناك تقييد بالشاتين
والدراهم، ولكن ينظر بحسب كل وقت كم فرق ما بين بنت المخاض وبنت اللبون؟
فيقدر ويدفع في الفرق بدلاً من الشاتين وبدلاً من العشرين درهماً؛ لأن قيمة
الشياه وتقدير الدراهم تختلف باختلاف الزمان والمكان.
والله تعالى أعلم.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [4]
زكاة البقر ثابتة في السنة بالنصوص الصحيحة، وهي من الأنعام التي تخرج منها
الزكاة، ومن سماحة الشارع أنه أمر العامل ألا يأخذ الزكاة إلا في الأنعام
على مياهها، واختلف العلماء في زكاة الخيل، وقد ذكر الشيخ خلافهم وبين
أدلتهم.
حديث معاذ بن جبل في
زكاة البقر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة
تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله
معافرياً) رواه الخمسة، واللفظ لـ أحمد، وحسنه الترمذي وأشار إلى اختلاف في
وصله، وصححه ابن حبان والحاكم] .
انتقل المؤلف رحمه الله تعالى بعد بيان أنصباء الإبل والغنم والفضة إلى
زكاة البقر، وهذا الحديث الذي ناقش المؤلف سنده في وصله وفي انقطاعه ذكره
البخاري رحمه الله تعالى تعليقاً بصيغة الجزم، وذكر البخاري إياه يغني عن
مناقشة السند.
إذاً: الحديث في زكاة البقر ثابت؛ لأن بعض المتأخرين إنما يطعن في زكاة
البقر، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي لا مطعن فيه: (ما من صاحب إبل ولا
بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر،
وجيء بها أوفر ما تكون وأسمن، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مر عليه
أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين الناس، فيرى مصيره إما إلى جنة وإما
إلى نار) وهذا الحديث يرويه البخاري في صحيحه.
إذاً زكاة البقر ثبتت بالنصوص، سواء هذا النص الذي معنا عن معاذ رضي الله
تعالى عنه، أو النصوص الأخرى التي ساقها البخاري رحمه الله.
أما في نصابها وما يؤخذ منها فلم يقع في ذلك اختلاف إلا ما روي عن بعض
الأحناف، حيث جعلوها كالإبل في كل خمس شاة، ولكن الجمهور على هذا الحديث
وأن من امتلك البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة.
والتبيع: الذي يتبع أمه، والتبيعة كذلك في سنه، أي: ذكراً كان أو أنثى في
هذه السنة، فهو يجزئ في الثلاثين رأساً من البقر.
وفي كل أربعين مسنة، وإلى هذا ينتهي نصاب البقر.
بين الأربعين والخمسين من البقر عشرة رءوس، فهل فيها زكاة؟ والجواب: أن هذا
وقص، كما بين الخمس والخمس من الإبل، فالخمس من الإبل فيها شاة واحدة، وهي
للخمس الأولى، فإذا كملت عشر من الإبل ففيها شاتان، إلى اثني عشر وأربعة
عشر من الإبل وليس فيها إلا الشاتان.
إذاً: ما بين النصاب والنصاب في الإبل والغنم والبقر وقص لا حصة للزكاة
فيه.
مقدار الجزية التي
تؤخذ من أهل الكتاب
قال: (ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) .
مما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، وكلف معاذاً أن يحصله: (على كل حالم
دينار -في السنة- أو عدل ذلك معافرياً) ، والمعافري: ثياب تنسب إلى بلدة
معافر، وهي معروفة في اليمن، كانت مشهورة ببعض الثياب في الجودة.
والحالم: هو الذي بلغ سن الحلم، سواء احتلم أو لم يحتلم، كما جاء عنه صلى
الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار) فالحائض: الفتاة التي
بلغت سن الحيض سواء أتاها الحيض أو تأخر عنها، أي: من بلغ سن التكليف،
إذاً: ما دون ذلك من الأطفال والصبيان لا شيء عليه، وكذلك النساء.
فقوله: (على كل حالم) أي: محتلم بلغ سن التكليف في الإسلام ولم يكن أسلم،
فعليه في الجزية سنوياً دينار أو عدل ذلك الدينار ثياب من هذا النوع
المعروف المشهور بالمعافري.
وهنا نفهم من هذا الحديث أن معاذاً رضي الله تعالى عنه لما أتى إلى اليمن
-وهم أهل كتاب- أن البعض استجاب له فأسلم وصلى وصام وزكى، والبعض بقي على
ما كان عليه في اليهودية، ومن بقي على دينه فإن الإسلام يقره على ذلك مع
دفع الجزية سنوياً، قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] .
قالوا: ((عن يد)) : إن كل إنسان لزمته الجزية يذهب بها بشخصه ولو كان أمير
قومه، ويدفعها للعامل يداً بيد، لا أن يبعث بها خادمه أو جاره أو ولده
فلابد أن يرى تلك الصورة، لعله فيما بعد يشمئز منها، أو يتثاقل منها ويرى
أن الإسلام عزة له فيرجع إلى الإسلام.
فـ معاذ رضي الله تعالى عنه كان أميراً وقاضياً، وكان مزكياً وجابياً
للجزية، وفي هذا الحديث مجال للعلماء في أخذ العروض في الزكاة، ولفظ هذا
الحديث قد اختلف فيه، لما قيل لـ معاذ: (خذ من كل حالم ديناراً -أي: جزية-
أو عدل ذلك ثياباً) عروض، فتوسع بعض العلماء وقال: يمكن أن يؤخذ في الجزية
أي قيمة للدينار، فالحد الرسمي دينار، فإذا رأى الجابي المصلحة في غير
الدراهم تخفيفاً على أهل الجزية، أو مصلحة للمسلمين الذين ستوزع عليهم تلك
الأموال، فلا مانع.
أخذ العروض في الزكاة بدلاً عن الواجب
وجاء عن معاذ رضي الله تعالى عنه: (ائتوني من الثياب اللبيس والخميص -أو
الخميس- فإنه أرفق بكم، وأنفع لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) .
فبعض العلماء يحمل هذا على الصدقة، وبعضهم يحمله على الجزية، فمن حمله على
الصدقة قال: يجوز أخذ العروض عن الصدقة بدل المال؛ لأن هذه معاوضة بلباس
بدل ما وجب في الصدقة.
ويجيب الذين يمنعون أخذ العروض في الصدقة بأن الأصل أن يقبض الزكاة، فإذا
قبض الزكاة من الإبل أو من البقر أو من الغنم، ورأى أن سوقها من اليمن إلى
المدينة كلفة ومشقة، وخاف عليها أخطار الطريق من عطش وتكسر وموت، ورأى أن
يستبدل بدلاً منها ثياباً، فلا مانع من ذلك؛ لأنه يكون قد استلم الواجب
الشرعي من الإبل أو من البقر أو من الغنم، وبصفته مفوض، وهو أمين موكل إليه
أن يعمل لمصلحة الفقراء والمساكين؛ فله أن يستبدلها بعدما حصلها من أصحابها
على الوجه المشروع.
فعلى رواية: (في الصدقة) يكون قد أخذ الصدقة من أعيانها وأجناسها، ثم
استبدلها بعد ذلك من جديد بعد أن دخلت في عهدته.
أما رواية: (في الجزية) فلا علاقة لها بالزكاة، ولا دخل لها في موضوع أخذ
العروض أو القيمة فيما وجب من الزكاة.
والله تعالى أعلم.
المستشرقون وطعنهم
في فريضة الجزية
هناك نقطة بسيطة نحب أن نلفت النظر إليها، وهي: أن بعض المستشرقين
والمستغربين، والمستشرقون هم الذين يتناولون الإسلام والعلوم الشرقية، فهم
غربيون مسيحيون، لكن يدرسون العلوم الشرقية وخاصة علوم الإسلام،
والمستغربون في نظري: هم أهل الشرق الذين يتطلعون إلى علوم الغرب، ويتأثرون
بها.
هؤلاء يثيرون الفتن والشبه، خاصة عند الشباب الذين لم يتمكنوا من دراسة
الفقه الإسلامي، ومعرفة ما وراء التشريع من الحكم، فيقولون: علام تأخذون
الجزية من الناس؟ لماذا تقيدونهم في حريتهم؟ ألم يقل سبحانه وتعالى: {لا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] وأنتم تريدون إما أن تكرهوهم على
الإسلام وإما أن تأخذوا منهم الجزية؟ فيقال لهؤلاء: رويدكم! إن أخذ الجزية
من هؤلاء، وإبقاءهم على قيد الحياة، واحترام دمائهم وأموالهم وأعراضهم لهي
منحة من الإسلام إليهم؛ لأن الأصل: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... )
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ
لِلَّهِ} [الأنفال:39] فإذا ما تسامح المسلمون لبعض أهل الأديان، وتركوهم
وشأنهم في دينهم بحريتهم، وأخذوا عوضاً عن ذلك ديناراً على الشخص فذلك رفق
بهم.
وانظر في المعادلة: بين دينار على الحالم، وبين اثنين ونصف في المائة على
المسلم في ماله، هذا الذي يدفع الدينار لو كان يملك الملايين فلا يؤخذ منه
إلا الدينار، وبهذا الدينار يكون محفوظ الكرامة في دمه وماله وعرضه، وتحت
حماية الأمة الإسلامية؛ لأن الأمة الإسلامية لها السيطرة والسلطان، وأهل
الذمة في حمايتها فلو اعتدى عليهم من خارج الأمة لكان المسئول عن حمايتهم
هم جماعة المسلمين، فيقاتلون دونهم، ويقدمون أنفسهم من أجل حمايتهم.
بينما المسلم لا ينظر إلى شخصه، وإنما ينظر إلى ما يملك، فكلما كثر ماله
كثر ما يؤخذ منه، فإذا كان إنساناً ذمياً عنده مليون ريال، ومسلم عنده نصف
مليون ريال، نأتي إلى الذمي فلا نأخذ منه إلا ديناراً، ونأتي إلى المسلم
فنأخذ منه ربع العشر، فكم يكون مقدار ما نأخذ من المسلم وهو مسلم؟ وكم يكون
مقدار ما نأخذ من الذمي وهو على دينه ذمي؟ والذي يكون كاسباً في هذه الحالة
هو الذمي لا المسلم.
إذاً: لا غضاضة على الذمي أن يعيش تحت الحكم الإسلامي وأن يدفع الجزية، وهي
أقل بكثير جداً عما يؤخذ من المسلم، في الوقت الذي تقوم الأمة الإسلامية
على حمايته وحماية ممتلكاته.
ومن العجب -أيضاً يا إخوان- أن الإسلام يرحم الضعفاء من هذا الصنف، كما جاء
عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه مر به رجل عجوز يتكفف الناس، قال له: ما
الذي حملك على السؤال؟ قال: أسأل لأجمع الجزية.
فقال عمر: ما أنصفناك إن أكلناك شاباً -يعني: لما كنت شباباً كنت تدفع
الجزية ونأخذها- وضيعناك هرماً، ثم فرض له من بيت مال المسلمين ما يكفيه،
ورفع عنه الجزية، فهل يجد هذا في دينه أو في ملته؟ هل يجد هذا العطف وهذا
الحنان وهذه المساعدة عند قومه؟ والله لا يجدها.
إذاً: كل من تكلم في هذا الموضوع أو أصغى إليه فإنه ما فقه حقيقة الفقه في
الإسلام.
المكان الذي تؤخذ
فيه زكاة الأنعام
[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم) رواه أحمد.
ولـ أبي داود أيضاً: (لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم) ] .
يبين المؤلف رحمه الله بعدما انتهى من أنصباء زكاة بهيمة الأنعام -الإبل
والبقر والغنم- كيف نأخذها؟ وكيف يؤدونها؟ فقال: (تؤخذ صدقات المسلمين على
مياههم في دورهم) ، فمثلاً: العاصمة هي المدينة، وهناك منطقة حايل،
والرياض، وجيزان، وهناك مناطق في أطراف الجزيرة، فهل يجب على أصحاب الأموال
في أي مكان أن يسوقوا زكاة أموالهم إلى المدينة ويسلموها للمسئول عنها، أم
أن ولي الأمر في المدينة يبعث إلى تلك الأقطار النائية والأماكن البعيدة من
يستلم منهم ويأتي بها إلى المدينة؟ أعتقد أنه لو كلف المسلمون في أماكنهم
أن يأتوا بزكاة أموالهم إلى المدينة لكانت مشقة عظيمة، فمن كان عنده خمس من
الإبل فيحتاج أن يأتي بشاة من جيزان إلى المدينة! وهذه مشقة كبيرة، ولكن
تؤخذ زكاتهم على مياههم، يأخذها العامل.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث العمال إلى أماكن تواجد بهيمة الأنعام،
فيقف عند المياه؛ لأن أصحاب بهيمة الأنعام سيوردونها الماء، ليس لازماً أن
يتتبعهم في خيامهم ومبيتهم، فمثلاً إذا جاء إلى منطقة، ولنقدر -مثلاً-
منطقة العوالي، أو منطقة قباء، أو غيرها، وهناك الآبار أو الغدران أو
العيون التي هي موارد الإبل والبقر والغنم للسقي، فيأتي إلى ماء بني فلان،
وهناك ينتظر: فإذا جاء الراعي بإبل فيعدها، ثم يأخذ الواجب فيها.
وعامل الزكاة لا يأتي منفرداً، بل معه من يساعده، وهم الذين يسوقون الأنعام
التي تجمع، ومعه الكتاب الذين يحصون ويعدون، ومعه من يخدمه.
فإذا أخذ من هذا بنت مخاض، وأخذ من ذاك بنت لبون، أصبح عنده مراح من الإبل
باسم الصدقة، ويتولى سوقها ورعايتها من معه من الأعوان.
إذاً: أخذ زكاة الأموال تكون من أصحابها على مياهها، ولم يكلفهم الذهاب
والمجيء بها إلى المدينة؛ رفقاً بأصحاب الأموال.
وهنا يذكر العلماء حق هذا العامل، وواجب أصحاب الأموال في التعامل معه،
فنجد التعليم الإسلامي يتناول العامل وصاحب المال، وكل منهما يوقفه عند
الواجب الذي عليه، فتقدم لنا في قضية معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم!) فيوصي
العامل بأن يكون عادلاً رفيقاً، ولا يظلم أصحاب الأموال بأن يأخذ كرائم
أموالهم، ولا يأخذ التيس إلا أن يرضى صاحبه، وكان فيه مصلحة، ولا يأخذه
رغماً عن صاحب الغنم؛ لأنه قد لا يكون في الغنم إلا هذا التيس فيعطلها.
إذاً: الشارع الحكيم أوصى العامل بالإرفاق بأصحاب الأموال، ومن جانب آخر
أوصى أصحاب الأموال كما جاء في بعض الروايات: (إنه قد يأتيكم من تكرهونهم)
وهم العمال الذين يأخذون الأموال، فالناس لا يريدونهم أن يأتوا ولكن
يأتونهم غصباً عنهم، إلا المؤمن فهو يدفع ذلك طواعية لوجه الله، فقال:
(يأتيكم من تكرهونهم فأرضوهم) أي: لا يذهبون عنكم إلا وهم راضون، ومتى
ترضونهم؟ إذا كنتم معهم أمناء في العدد، فلا تخفون شيئاً من الغنم وراء
الحجر أو وراء الشجر، ولا تدعون الخلطة بغير الخلطة، ولا تدعون الفرقة بغير
فرقة خشية الصدقة -كما تقدم- فأوصى أصحاب الأموال أن يحسنوا معاملة العمال
وأن يكسبوا رضاهم.
جاء بعض الأشخاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله!
يأتينا عمال فيظلموننا، قال: أرضوهم، وما تحمل فإثمه عليه، لكم أجركم
وعليهم وزرهم) وهنا يقال: إذا علمت أن العامل ظالم، فالأمر بين حالتين: إما
أن يقع اجتهاد من العامل في أداء الأمانة، فهو مصدق ومقدم.
وإما أن يكون معتدياً اعتداء صريحاً، كأن جاء إلى كرائم الأموال وأخذها، أو
جاء وعدها فوجدها خمساً وعشرين، فقال: هذه ثلاثون، هذه خمسة وثلاثون.
فزاد على صاحب المال فيما يتعلق بما يجب عليه، وهذا قل أن يكون.
وتقدمت لنا قصة الرجل الذي وجد العامل عنده خمساً وعشرين من الإبل، وقال
له: زكاة مالك بنت مخاض.
فقال الرجل: بنت مخاض لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب، ولكن هذه ناقة كوماء
فخذها.
فأراد صاحب المال أن يدفع أكثر مما عليه، فقال العامل: لا أستطيع أن آخذها؛
لأنها لم تجب، وأنا ممنوع من الظلم ومن التعدي، فإن كنت لا محالة فاعلاً
فدونك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فخذ بها إليه.
فيأتي الرجل ويعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم فيسأله: (أتعطيها عن طيب
نفس؟ قال: بلى يا رسول الله.
فقال للعامل: خذها، وقال له: بارك الله لك في إبلك) فعاش إلى زمن معاوية
رضي الله تعالى عنه، وكان يخرج العشرات من الإبل في زكاة إبله.
فهنا: العامل يمتنع أن يأخذ أكثر مما وجب عليه، وهذا هو المظنون في الأمناء
الذين يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما وقع أيضاً لـ ابن رواحة
مع أهل خيبر لما ذهب ليخرص عليهم نخيلهم، فجمعوا له من حلي النساء رشوة،
فسبهم وقال: إن هذا سحت، والله لقد جئت من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض
الناس عندي، وما حب رسول الله ولا بغضكم بحاملي على أن أحيف عليكم، إني
قاسم، فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فدعوا.
يعني: إن شئتم أخذتم النخيل وسلمتم ما وجب عليكم فيما أقسمه، وإن شئتم
رفعتم أيديكم وأنا أعطيكم ما قسمت، قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
الذي يهمنا أن الصدقة في بهيمة الأنعام تؤخذ على مياهها، أي: موردها من
الماء، وفي مواطنها، ولا يكلفون المجيء بها إلى المدينة أو إلى عاصمة
الدولة التي تقوم بجمع الزكاة؛ لأن في هذا مشقة عليهم.
زكاة الخيل والرد
على من أوجبها
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس
على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) رواه البخاري، ولـ مسلم: (ليس للعبد
صدقة إلا صدقة الفطر) ] .
انتقل المؤلف رحمه الله إلى نوع وقع الخلاف فيه، وهو: العبد والفرس، وهنا
الحديث يقول: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) .
فرس: نكرة أضيف إلى الضمير، وبعض العلماء يقول: إذا أضيفت النكرة إلى معرفة
فهي عامة، وتدل على الجمع، كما في قوله سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ} [إبراهيم:34] فـ (نعمة) نكرة أضيفت إلى المعرفة (الله) ، فلو كانت
مفردة ما احتاجت إلى إحصاء، ولكن دلت على العموم والشمول لما أضيفت إلى
المعرفة.
فقالوا: (فرسه) يعم جنس الفرس وليس رأساً واحداً، إذاً: ليس على المسلم في
جنس الخيل صدقة، ولا في جنس العبيد صدقة.
وهنا موضع خلاف يورده العلماء، والحديث أورده البخاري، وفي بعض الروايات:
(ولا في غلامه) ويجمعون على أن فرس الخدمة وعبد الخدمة لا زكاة فيهما، إلا
زكاة الفطر في العبد؛ لأن زكاة الفطر على الكبير والصغير والحر والعبد، وكل
من تلزمك نفقته، ونحن الآن في الكلام على زكاة المال.
فبعض العلماء يقول: لا زكاة في الخيل مطلقاً حتى لو كانت للتجارة كما يقوله
ابن حزم، والجمهور يقولون: إذا كانت الخيل للنسل والنماء فلا زكاة فيها،
وإن كانت لعروض التجارة كإنسان يتاجر في الخيل، فيبيع ويشتري فيها؛ فالزكاة
في قيمتها مثل عروض التجارة، وكذلك الرقيق، لو كان يتاجر في الرقيق فعليه
زكاة تجارتها، أي: تقدر فيمتها ويدفع زكاتها من قيمتها، أما أن تتخذ للقنية
أو للتناسل فلا زكاة فيها.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله اعتبر الخيل من الدواب التي تزكى، وجاء في بعض
الآثار -ويتفق العلماء على ضعفها- أن على الفرس ديناراً أو عشرة دراهم.
ويقول الجمهور: كتاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه والكتب الأخرى التي جاءت
في أنصباء الزكاة لا يوجد منها كتاب واحد ذكر الخيل.
ويذكرون أيضاً في هذا الباب أنه لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من
صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها
... ) إلخ -كما تقدم- فلم يذكر الخيل، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم:
(والخيل يا رسول الله؟ فقال: الخيل ثلاث: خيل لصاحبها ستر، وخيل لصاحبها
وزر، وخيل لصاحبها أجر ... ) فقالوا: هذا رد على من سأل عن سبب عدم ذكر
الخيل مع الإبل والبقر والغنم.
وجاء في موضوعها في زمن عمر رضي الله تعالى عنه أن قوماً أصابوا خيلاً،
فجاءوا إليه وقالوا: أصبنا خيلاً وعبيداً، نريد أن تأخذ زكاتها طهرةً.
فقال: (كيف آخذ منها زكاة وصاحباي قبل لم يأخذوها؟) يعني: رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبا بكر.
ثم شاور من عنده حتى سأل علياً فقال: (خذ منهم مادام أنهم أتوا بها طواعية)
وقال: (لا مانع ما لم تصبح عليهم ضريبة أو جزية تكون لازمة عليهم من بعدك)
أي: أن يأتي من بعده: عمر أخذ منهم، فيلزمهم بدفعها، والمبدأ كان اختياراً.
إذاً: عمر امتنع أولاً ولم يكن يمتنع إلا على ما هو ممنوع زكاته، ثم شاور
أصحابه وشاور علياً، وأفاد علي بهذا الجواب، إذاً: فلا زكاة في الخيل،
اللهم إلا إذا أصبحت عروض تجارة للبيع والربح والنماء فلا مانع.
وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا زكاة في الخيل إلا إذا كانت
للتناسل والتكاثر، أما إذا امتلك مجموعة من الخيل كلها ذكور، أو مجموعة من
الخيل كلها إناث؛ فلا زكاة فيها عنده؛ لأن الذكور وحدها لا تنمو ولا تزيد،
والإناث وحدها لا تنمو ولا تزيد، أما إذا كانت ذكوراً وإناثاً وتنتج وتنمو
وتزيد، فقال: الزكاة تبع للنماء، فتزكي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [5]
تجب الزكاة في النقدين الذهب والفضة إذا بلغا النصاب وحال عليهما الحول،
ومن منع الزكاة فقد سمح الشارع لولي أمر المسلمين أن يأخذها منه قهراً
وزيادة تأديباً على الامتناع، وإن كانوا كثيرين وذوو منعة قاتلهم الإمام.
شرح حديث بهز بن
حكيم في عقوبة مانع الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن بهز بن
حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها
مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات
ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه
الحاكم، وعلق الشافعي القول به على ثبوته] .
اشتراط السوم لوجوب
الزكاة في بهيمة الأنعام
جاء المصنف رحمه الله بحديث بهز بن حكيم بن حزام، بأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون) ، وقد تقدم لنا أن
بنت اللبون تكون من ست وثلاثين إلى خمس وأربعين، أي: أن الأربعين المذكورة
هنا داخلة في نصاب بنت اللبون، وعلى هذا يكون الحديث فيه فائدة جديدة، وهي:
اشتراط وصف السوم في الإبل.
وهذا الشرط عام في جميع بهيمة الأنعام، فإذا كان يمتلك أربعين من الغنم وهو
نصاب، ولكنه يتكلف العلف إليها بأن يزرع لها البرسيم، أو يشتري لها الشعير
أو يزرعه، فهذه تسمى معلوفة، والسائمة هي التي يسرح بها الراعي تسوم في أرض
الله، تأكل من النباتات والعشب الذي ينبته الله في الأرض عن طريق الأمطار،
ولا يتكلف لها علفاً.
وهنا يبحث الفقهاء فيما لو كانت بهيمة الأنعام سائمة نصف الحول؛ بأن جاءت
الأمطار ونبت العشب، ورعت بهيمة الأنعام من هذا العشب ستة أشهر، ثم انقضى
العشب في الخلاء، واضطر إلى أن يشتري لها العلف، فعلفها ستة أشهر، فيقول
بعض الفقهاء: عليه نصف الزكاة؛ لأنها استوفت شرط الزكاة وهو حولان الحول،
ونصف الشرط الآخر وهو السوم، فإذا كانت أربعين شاة فعليه نصف شاة، وإذا
كانت مائة وواحدة وعشرين شاة فيها شاتان فعليه شاة واحدة.
وهكذا يجزأ الواجب على بهيمة الأنعام بالنسبة إلى السوم والعلف، فإن كانت
سائمة طيلة العام فعليه الزكاة كاملة، وإن كانت معلوفة طيلة العام فلا زكاة
عليه، وإن كانت سائمة تارة ومعلوفة تارة فبحسب ذلك يؤخذ منه الزكاة.
عقوبة مانعي الزكاة
والفرق بين الجحد والمنع
ثم في الحديث بيان عقوبة من منع الزكاة، فذكر في هذا الحديث: (من أعطاها
مؤتجراً) أي: طائعاً مختاراً، طالباً الأجر من الله لأداء فريضة الزكاة
عليه؛ لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي حق المال؛ فإذا أدى ذلك
ممتثلاً أمر الله، وطالباً الأجر من الله فبها ونعمت.
قوله: (ومن منعها) : هناك فرق بين (من منعها) و (من جحدها) فالجحود لما ثبت
أنه من الدين بالضرورة كفر عياذاً بالله! الامتناع من العطاء أو الامتثال
معصية.
ونذكر ما فعله الصديق رضي الله تعالى عنه مع مانعي الزكاة، فبعد انتقاله
صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كان موقف الناس من الزكاة على عدة
أقسام: منهم من كان من قال: انتهى أمر الزكاة فلا زكاة، وجحد استمرار
وجوبها، ومنهم لا زال مقراً بالزكاة ولكن قال: أنا أخرجها بنفسي، ولا
أدفعها لـ أبي بكر، هذه أموالنا ونحن مسئولون عنها، فنحن نقسم زكاتها.
وكان الأكثر قد جحدوا الزكاة، وصاحب ذلك ردة بعض القبائل.
فقام الصديق رضي الله تعالى عنه وأعلنها قائلاً: (والله لأقاتلن من فرق بين
الصلاة والزكاة) .
وهذا في حق (من جحدها) ، وقال: (والله لو منعوني عَقالاً -أو عِقالاً أو
عَناقاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) .
إذاً: قام بالأمر، وعمر رضي الله تعالى عنه استوضح في الأمر، وقال: (أتقاتل
قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله! -هذا في غير المرتدين- فقال: يا عمر!
أجبار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟! ألم يقل: (إلا بحقها) أي: من قال لا
إله إلا الله بحقها، ومن حق لا إله إلا الله إيتاء الزكاة، فيقول عمر:
(فرأيت أن الحق مع أبي بكر، فشرح الله صدري لما قال أبو بكر) .
فسموا قتال أبي بكر لمانعي الزكاة مع غيرهم: قتال الردة أو حرب أهل الردة،
وليس من منع الزكاة مرتداً كمن قالوا: نحن نخرجها بأنفسنا، ولكنه افتيات
على ولي الأمر؛ لأن الله سبحانه أوجب على ولي الأمر أن يقوم فيها؛ لقوله
سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] وهذا فعل أمر
موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، والخليفة من بعده يقوم مقامه، وهكذا كل من
ولي أمر المسلمين فإنه يقوم مقامه صلى الله عليه وسلم فيما يجب على الإمام:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ} [الحج:41] ، فالزكاة قرينة الصلاة في وجوبها، ومهمة أخذها
وتوزيعها على من يتولى أمر المسلمين.
وتقدم لنا بأن صدقات المسلمين تؤخذ على مياههم، يأخذها نواب ولي الأمر،
فيذهبون إليهم ويحصون ما عندهم، ويأخذون ما وجب عليهم.
ومعنى (عناقاً) : هو ولد الشاة الصغير، ومعنى (عَقالاً) بالفتح: نصيب
الزكاة في السنة، ومعنى (عِقالاً) بالكسر: الحبل الذي يكون في عنق البعير
يعقل به حتى لا ينهض قائماً، فلكأنه يقول: لو أعطوني الإبل التي كانوا
يعطونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونقصوا عقال واحدة منها لقاتلتهم
عليه، فإذا كان سيقاتلهم على الحبل الذي يعقل به البعير هل يتركهم فيما وجب
من بنت مخاض ولبون وحقة وجذعة ومسنة؟ ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (من
أعطاها مؤتجراً) طالباً الأجر (فبها ونعمت، ومن منعها) -أي: غير جاحد
(فإنا) بالتأكيد (آخذوها) أي: بالقوة (وشطر ماله) والشطر: النصف، فلماذا
يأخذ شطر ماله؟ قالوا: هذا من باب العقوبة بالمال، والحديث فيه تتمة:
(وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) .
هذا التدليل مهم جداً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: من منعها أخذناها
بالقوة، والقوة تحتاج إلى قتال، والقتال يحتاج إلى رجال، والمقاتلة لابد
فيها من ضحايا، فنضحي ببعض المسلمين من أجل دفع الزكاة! فما حظه صلى الله
عليه وسلم منها حتى يقاتل عليها؟ يقول: أنا كلفت بأخذها: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] ، ووجب علي القيام بهذا الواجب، مع أني لا حظ
لي فيها، أي: فيقوم فيها لمصلحتكم أنتم، فقيامه صلى الله عليه وسلم في
الزكاة فمصلحة لمصلحة الأغنياء والفقراء، فمصلحة الأغنياء: إبراء ذمتهم،
ومصلحة الفقراء: إيصال حقهم إليهم.
فرض الزكاة حفظ
لكرامة المساكين
ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم أن فرض الزكاة للفقراء ليس معناه إذلالهم ولا
إراقة مياه وجوههم، بل يأخذونها مع حفظ كرامتهم، وقد قال سبحانه: {لا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، ثم بين
أيضاً فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، وكل ذلك حفاظاً على كرامة الإنسان؛ لأن
الفقر والغناء ابتلاء من الله، لو شاء لحوَّل المال من الغني إلى الفقير:
وما يدري الفقير متى غناه ما يدري الغني متى يعيل وما تدري وإن ضمرت صقباً
لمن يكون ذاك الفصيل فلو ولدت الناقة وأنت قمت على الفصيل الصغير ونظفته
وهذبته وفعلت كل شيء، فإنك لا تدري هو لك أو تذهب وتدعه لغيرك.
إذاً: الابتلاء بالمال في الغنى وفي الفقر امتحان من الله للعبد؛ أيشكر
الغني على غناه؟! ويصبر الفقير على فقره؟! فمن هنا كان هذا الحق مع كرامة
المسكين، فإنه لم يقل له: اذهب وخذ حقك من الأغنياء؛ لأنهما ربما يعطونه
وربما يماطلونه أو يعقدون الوجه في وجهه، ولذا كلف الرسول الكريم -وهي لا
تحل له- بأن يقوم عليها ويأخذها، ومن امتنع قاتله وأخذها عنوة، وأخذ شطر
ماله.
العقوبة المالية
وهنا يبحث العلماء في هذا الحديث: فهو من حيث السند متكلم فيه، ومن حيث
المعنى هل في الإسلام عقوبات مالية؟ قالوا: نعم، وهذا دليلها.
ثم قالوا: في الغاصب أيضاً إذا كان قد أنشأ فيما غصب زرعاً أو بناءً هدم
عليه؛ عقوبة له على غصبه.
إذاً: العقوبة المالية موجودة، ولكن بعض المتأخرين -وخاصة شارح هذا الكتاب-
يقول: إننا إذا وسعنا الأمر لولاة الأمر في العقوبات المالية فلربما تطلعت
نفوس الضعفاء منهم إلى أموال الرعية، فتذرعوا بأوهى الأسباب ليأخذوا
الأموال قهراً، وليأخذوها بغير حق، وبادعاء أنها عقوبة مالية، ولذا نقول:
لا ينبغي أن يتعدى ولي أمر في عقوبة مالية إلا ما ورد به الشرع.
وهنا قال: (أخذناها وشطر ماله) ، الشطر: النصف (عزمة من عزمات ربنا) أي:
ليس فيها هوادة ولا تساهل.
تعطل حق آل البيت من
الخمس هل يبيح لهم الصدقة
وليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) أي: حتى آل البيت ليس لهم من هذه
الصدقات شيء.
ولكن في الوقت الحاضر يوجد أناس من آل البيت، وكان لهم في السابق سهم في
الخمس، وكانوا يأخذون ما يكفيهم من خمس الغنائم من سهم الله ورسوله وذوي
القربى، وكانوا يستغنون بذلك، فالآن لا خمس ولا سدس، فقد تعطل حقهم في
المال.
فإذا وجد من آل البيت من يستحق الصدقة لو لم يكن من آل البيت؛ أنتركه يجوع
لأنه من آل البيت، أم أننا نعطيه بصفة الفاقة والحاجة ويكون قد أخذ لا لأنه
من آل البيت، بل لأنه فرد مسلم مستحق محتاج؟ والذي حرمها على آل البيت ما
قاله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصدقة أوساخ الناس) ولا يليق بآل بيت
رسول الله الذين يريد الله أن يطهرهم تطهيراً أن يتناولوا أوساخ الناس،
ولكن ما دام الحق الأساسي قد تعطل عليهم، وأصبحوا بصفة الفقر أو الحاجة
كغيرهم، فإذاً يعطون من الزكاة.
وقد وقع الخلاف في عامل الزكاة إذا كان من آل البيت: {وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا} [التوبة:60] ؛ أيأخذ أجره من الزكاة؟ فبعض العلماء يقول: لا
يكون العامل من آل البيت حتى لا يأخذ أجره من الزكاة التي هي أوساخ الناس.
وبعضهم يقول: هو يأخذ بعمله لا بكونه من آل البيت.
والآخرون قالوا: إذا احتيج إليه فإنه يعمل ويأخذ أجره من بيت مال المسلمين
الذي يمون بالفيء والغنائم.
والذي يهمنا هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ،
وهذا كان معمولاً به في السابق كما في قصة بريرة مولاة عائشة رضي الله
تعالى عنهما، حيث اشترتها وأعتقتها، فتصدق بلحم على بريرة؛ لأنها ليست من
آل البيت، بل هي مولاة لهم، (مولى القوم من أنفسهم) .
فجاء صلى الله عليه وسلم وطلب الغداء، فقدم إليه الخبز والملح والخل،
فتساءل عن سبب تقديم (الخبز والملح والخل وهو يرى البرمة تغط على النار؟
قالوا: إن ما فيها لا يصلح لك؛ لأنه لحم تصدق به على بريرة، فقال صلى الله
عليه وسلم: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية.
وأكل منه) .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يمشي ومعه الحسن فوجد تمرة في الأرض
فالتقطها إلى فيه، فحالاً أدخل صلى الله عليه وسلم إصبعه في فيِّ الصبي
وأخرجها وقال: كخ! كخ! ثم قال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لتركته
يأكلها) ، فإلى هذا الحد كان يتحرز صلى الله عليه وسلم من أكل الصدقة؛
لأنها من أوساخ الناس، فهي لا تحل لمحمد ولا لآله، وأبناء فاطمة من آل محمد
صلى الله عليه وسلم.
وهناك من يتكلم على هذه اللفظة (وشطر) فيقول: إن العقوبة بالمال لا تأتي،
وإن الرواية (وشُطِرَ ماله) ، بمعنى: قسم ماله قسمين: قسم خيار المال، وقسم
رديء المال، ويأتي المصدق ويتخير من خيار المال، يعني: هو كان يمتنع من
تقديم الزكاة من وسط المال، فجاء عقوبة له أن تؤخذ من خيار ماله رغماً عنه،
ولكن الجمهور على اللفظ الأول: (آخذوها وشطْر ماله) أي: ونصف ماله معها
عقوبة له على منعه للزكاة.
زكاة الذهب والفضة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة
دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها
نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)
رواه أبو داود، وهو حسن، وقد اختلف في رفعه] .
انتهى المؤلف رحمه الله من جميع ما يتعلق ببهيمة الأنعام، وجاء إلى
النقدين: الذهب والفضة، فذكر هذا الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه.
ثم النقاش في هذا الأثر برمته أهو موقوف على علي من كلامه، أم هو مرفوع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وعلي ينقله عن رسول الله؟ على كلا الحالتين علماء
الحديث يقولون: سواء كان موقوفاً على علي أو كان مرفوعاً إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، فإن فله حكم الرفع، فهو مرفوع بالفعل أو له حكم الرفع.
قالوا: لأن فيه الكلام على تشريع في ركن أساسي، وبيان أنصباء الأموال وما
يجب فيها، وليس هذا محل اجتهاد، فلا يتأتى لـ علي ولا لغيره أن يتكلم في
هذا المجال من عنده، والحق في ذلك أنه بيان لمجمل في كتاب الله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقال تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] ، فمن الذي
يبين لهم الزكاة حتى لا تكون كنزاً، ويسلمون من أن تكوى بها جباههم
وظهورهم؟ لا يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا حاجة إلى البحث في سند الحديث مادام أنه صح عن علي رضي الله تعالى
عنه، فهو إن كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع، وإن كان قد رفعه إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم فهو المطلوب.
اشتراط النصاب في
زكاة النقدين
قوله: (إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول) أي: مضى عليها حول كامل،
والحول: هو السنة؛ لأنه يحول ويعود.
قوله: (ففيها خمسة دراهم) فخمسة دراهم تخرج من (200درهم) ، (200÷5=40) ، أي
ففي كل (40 درهم) درهم درهماً واحداً، فيكون المخرج (1.
4) فننسبه مئوياً وعشر الأربعين هو (1.
10×40=4) ، وربع الأربعة هو (1.
4×4=1) ، فهو ربع العشر وهو (2.
5%) ، فهذه النسبة ثابتة في الذهب والفضة.
والذي يهمنا هنا: اشتراط بلوغ النصاب في الفضة مائتي درهم، واشتراط حولان
الحول، وعليه فلا زكاة في الفضة إلا بامتلاك نصاب كامل، ويبقى هذا النصاب
مخزوناً بلا حاجة تدعو إليه سنة كاملة.
إذاً: ما دام أن لديه مائتي درهم، ومرت عليه سنة وما احتاج منها إلى شيء،
فهو غني، ولو كان فقيراً لأخذ منها، لكن هذه الدراهم نائمة مستريحة ما حرك
فيها ساكناً، فهو في غنى عنها، سواء كانت من صناعة أو تجارة أو زراعة، فمن
كان عنده رأس مال نائم لم يحركه لحاجة ولا ضرورة، فهذا غني، وهذا من
الإرفاق بالغني فلا تؤخذ زكاة ماله إلا إذا ثبت غناه، وما الذي يثبت غناه؟
وجود النصاب سنة كاملة ما امتدت يده إليه.
ومن ناحية أخرى: عنده مائتان، أخذنا منه خمسة وهي: (2.
5%) ، فهي نسبة ضئيلة جداً لا تؤثر عليه؛ فهذا إرفاق به مرة أخرى.
ومن هنا نجد الزكاة مبنية على الإرفاق بالغني، كما هي مشروعة للإرفاق
بالفقير، ومن الإرفاق بالغني اشتراط حولان الحول؛ لأنها علامة على غناه،
ومن الإرفاق به أن يكون الجزء المأخوذ ضئيلاً جداً لا يؤثر عليه، وما يؤخذ
من الغني كثير أو قليل فهو إرفاق بالفقير كما قيل: بث الجميل ولا تمنعك
خلته فكل ما سد فقراً فهو محمود وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن
جارة لجارتها ولو فرسن شاة) أي: رجل شاة محرقة لا تحتقره المرأة في أن
تهديه لجارتها، لتذهب فتشويه أو تسلقه حتى تحصل منه شيئاً، وقد سمعنا في
بعض القصص أنه مر على المدينة سنين جوع، كانوا يتبعون جلود الحيوانات
فينفضونها ويدقونها، ويصنعون منها طعاماً.
فإذاً: لا تحتقر شيئاً، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .
امرأة مسكينة تأتي إلى بيت رسول الله فتجد أم المؤمنين عائشة وبيدها قطف
عنب فتسألها، فتعطيها حبة مما في يدها، فتأخذها المرأة وتنظر فيها تستقلها،
فقالت لها عائشة: يا أمة الله! انظري كم فيها من ذرة، والله يقول: {فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] تستكثرها.
والمرأة التي شقت التمرة شقين، وأعطت كل شق لطفلة من بناتها، ثم أخذت
النواة تمصها، اجتزأت بهذا.
إذاً: كل ما يؤخذ من الغني للفقير قليلاً كان أو كثيراً فهو كل ما سد
فقراً، فهو محمود.
إذاً: يبين لنا علي رضي الله تعالى عنه بأنه لا تجب على الإنسان في الفضة
زكاة حتى يمتلك مائتي درهم، ولا زكاة عليه في المائتي درهم حتى يحول عليها
الحول.
قوله: (وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها
نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك) .
جاء علي رضي الله تعالى عنه هنا ببيان نصاب الذهب فقال: (لا شيء عليك في
الذهب حتى تمتلك عشرين مثقالاً) ومسمى المثقال والدينار واحد، فالدينار:
اسم للوحدة النقدية، والمثقال: اسم للوحدة الوزنية، وكما تقدم بأن نسبة
الدرهم إلى الدينار هي: كل عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل، أي: أن المثقال
درهم وثلاثة أسباع.
قوله: (ولا زكاة عليك حتى يحول عليها الحول) أي: كشأن الفضة، فإذا امتلكت
عشرين مثقالاً وحال عليها الحول فعليك فيها نصف مثقال، النصف في العشرين كم
يعادل في المائة؟ واحد في الأربعين، والمائة فيها أربعون وأربعون أخرى،
ونصف الأربعين، فتكون هي 2.
5%.
اشتراط الحول في
زكاة النقدين
قوله: (وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) .
هذه قضية عامة يذكرها علي رضي الله تعالى عنه، وهذا بالإجماع في بهيمة
الأنعام، وفي النقدين (الذهب والفضة) ، وفي عروض التجارة.
أما المال الذي يأتي عن طريق إنبات الأرض فليس فيه حول، قال تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فيزكى عنه عند حصوله،
فإذا استوى التمر وجذ وجفف وكان قد خرص قبل أن يجذ، فيؤدي الزكاة يوم أن جف
التمر، وكذلك الحبوب نصابها -على ما سيأتي- خمسة أوسق، عندما يصفي الحب،
تخرج زكاته.
إذاً: (ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) هذا عام، ولكن يراد به مخصوص،
وهو بهيمة الأنعام، والذهب والفضة وعروض التجارة، وما عداها ففيه التفصيل،
أما الزروع والحبوب فيوم حصاده، وأما اللقطة أو الكنز أو ما وجد دفيناً
-الركاز أو المعدن- أو غير ذلك فله تفصيل آخر يأتي في محله إن شاء الله.
زكاة المال المستفاد
أثناء الحول
قال المؤلف: [وللترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (من استفاد مالاً فلا
زكاة عليه حتى يحول عليه الحول) والراجح وقفه] .
هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (من استفاد مالاً) هذه
المسألة يبحث فيها الفقهاء المال المتجدد أثناء الحول، فمثلاً: عندك مال
قدره مائتا درهم، وليكن هذا المال من التجارة، فيزيد ويزيد إلى أن يأتي
نهاية الحول وقد صارت المائتان ألفاً، فعند تقدير العروض في نهاية الحول
تزكي ما وجد عندك، ولا تقتصر على زكاة أول ما ابتدأت به.
فإذا كنت بدأت الكسب بالتجارة أو الموظف يوفر من راتبه كل شهر شيئاً، إلى
أن بلغ التوفير نصاباً، فيبدأ حساب الحول، فإذا وصل إلى نهاية الحول من يوم
ما تم عنده النصاب، وفي أثناء ذلك كان يضم توفيراً مع توفير لشهر مع شهر،
إلى النصاب، فكل ذلك يتبع الأصل الأول، وفي نهاية الحول ينظر ماذا اجتمع
عنده حتى الراتب الأخير الذي هو قبل الحول مباشرة، ويزكي الجميع.
فكذلك التاجر: ينظر ماذا ربح، وماذا وجد عنده من أول ما بلغت تجارته النصاب
إلى أن يحول الحول، وفي نهاية الحول ينظر كم وجد عنده؟ خمسة أنصبة أو ستة
أو أكثر أو أقل، فيزكي تجارته بما فيها ما دخل عليه قبل الحول بيوم واحد،
ولا نقول: له حول جديد؛ لأن أصله واحد وهو التجارة، وكذلك الموظف أصل ماله
وهو الوظيفة.
لكن هذا التاجر وذاك الموظف إذا استفاد مالاً آخر أثناء الحول، سوء في
منتصف الحول أو قبل تمام الحول بشهرين أو ثلاثة بأن جاءه ميراث مثلاً، فهل
المال الذي جاءه من الميراث تابع للتجارة أم مستقل؟ مستقل.
فعلى هذا يقول ابن عمر: يجعل له حولاً جديداً، فحول التجارة وحده ويزكيها
في نهاية الحول، وحول الميراث يمضي في طريقه حتى إذا حال عليه الحول عنده
زكاه، وبهذا القول يقول الشافعي رحمه الله: أعني أن من استفاد مالاً أثناء
الحول اعتبر له حولاً جديداً.
أما الجمهور فيقولون: المال واحد، سواء جاء بالتجارة، أو جاء بالميراث، أو
جاء بالهبة، أو جاء بغيره فكله دخل في ملكه وصندوقه، ينظر في نهاية الحول
ويزكي الجميع.
البقر العوامل لا
زكاة فيها
قال المؤلف: [وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (ليس في البقر العوامل صدقة)
رواه أبو داود والدارقطني، والراجح وقفه أيضاً] .
تقدم الكلام على أنصباء البقر وأنه في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة،
وهذا مطلق في عموم البقر، فجاء المؤلف بأثر علي رضي الله تعالى عنه ليقيد
ذاك العموم وهو قوله: (ليس في البقر العوامل صدقة) ، أي: في كل أربعين تبيع
إذا لم تكن عوامل.
والبقر العوامل جاء الأثر أنها التي تثير الأرض، أي: تستخدم في الحرث
للزراعة، وقد تستخدم في جر العربات أو في السواني -أي: في نضح الماء- إلى
غير ذلك، وذلك أن عمل البقر فيما يتعلق بالزراعة سيترتب عليه ثمرة، وهي إما
ثمرة الشجر كنخل وعنب وزيتون، وإما حب ذرة وشعير وغيره على ما سيأتي تفصيله
إن شاء الله.
وإذا كان ما تعمله البقر ستؤخذ زكاته يوم حصاده فلا يتأتى أن تؤخذ زكاة
الحبوب أو الثمار الناشئ عن عمل البقر، ثم تؤخذ الزكاة من البقر الذي نشأ
عن عمله تلك الثمار أو الزروع، وهو ما يسمى يعبر عنه بعض المعاصرين بقولهم:
(لا ثنية في الزكاة) يعني: لا تؤخذ الزكاة من مال مرتين.
وكونه يقول: (موقوف على علي) .
تقدم التنبيه على مثل ذلك الموقوف أنه تشريع، والتشريع لا يكون بالاجتهاد
ولا بالرأي، فله حكم الرفع، وعليه يكون علياً رضي الله تعالى عنه قد سمع
ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر ما سمعه دون أن يسند إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، وتقدم هذا في عدة أحاديث في باب الزكاة.
ونذكر الإخوة بأن علياً رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة، فلما سئل: (هل
خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟ -هل
أعطاكم علماً لم يعطه لأحد غيركم؟ قال: لا؛ إلا فهم أوتيه رجل في كتاب
الله، وما في هذه الصحيفة.
قالوا: وما فيها؟ قال: أنصباء الزكاة، والعقل، وفكاك الأسير) .
إذاً: علي رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة كما كتب أبو بكر رضي الله
تعالى عنه لـ أنس الكتاب الذي بيَّن فيه أنصباء الزكاة، وما كانت كتابة أبي
بكر عن رأيه هو، ولكنه عن سماع سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن
إيجاب الزكاة فريضة، وإسقاطها يكون إسقاطاً للحق.
فكون علي رضي الله تعالى عنه يقول: (ليس في البقر العوامل زكاة) فيه إسقاط
حق الفقراء في هذه الأبقار، وعلي لا يملك أن يسقط حقاً أوجبه الله في قوله
سبحانه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}
[الذاريات:19] إذاً: علي لن يقول مثل ذلك إلا إذا كان عن سماع من رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث وإن كان في البقر فإنه يرد قول المالكية بأن في الإبل العوامل
زكاة، ووجهة نظر مالك رحمه الله أن الإبل من حيث هي مال ينمو بالتناسل،
فإذا ملك منه النصاب فعليه الزكاة، وما كان منها من العمل فـ مالك يقول:
هذا العمل من هذه الإبل زيادة منفعة لصاحبها، فالتي لا تعمل ولا يستفيد
منها إلا زيادة النماء والنسل فيها زكاة، فمن باب أولى إذا كان فيها النماء
والنسل ومع ذلك تعمل، فعملها زيادة فائدة، ففيها الزكاة.
ولكن الجمهور -كما أشرنا- لم يأخذوا من الإبل ولا من البقر العوامل زكاة؛
لأن عملها سيترتب عليه فائدة فتؤخذ الزكاة من تلك الفائدة، فلا نعود عليها
بأن نأخذ زكاتها مرة أخرى، اللهم إلا أن تكون عروض تجارة، كأن يتاجر في
الإبل ويشغلها، ويتاجر في البقر ويُعملها، فخرجت عن زكاة بهيمة الأنعام
بأنصبائها: ثلاثين وأربعين وغيرها، وخرجت عما يخرج فيها من تبيع ومسنة، وعن
بنت مخاض وبنت لبون، ودخلت في عروض التجارة، فتقدر قيمتها، ويخرج من مجموع
القيمة قدر (2.
5%) ، وليس فيها وقص كما في أصل بهيمة الأنعام، بل تعامل معاملة عروض
التجارة.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [6]
لقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفق باليتيم والإحسان إليه حتى في
ماله، بأن يتاجر له فيه حتى لا تأكل ماله الزكاة، وللعلماء خلاف في مسألة
إخراج الزكاة من ماله قبل البلوغ.
كما جاء الخلاف في صحة إخراج الزكاة قبل حلول الحول فيها، وهو ما فعله
النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس.
وجوب الزكاة في مال
اليتيم وما يتعلق بذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد
الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من
ولي يتيماً له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) ] .
هذه القضية وقع الخلاف فيها بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الأئمة
الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد.
فإذا كان المال لإنسان كبير بالغ رشيد مكلف فإن من أركان الإسلام أن يؤدي
زكاة ماله، أما إذا كان المال ليتيم، أي: لصبي قاصر عن سن الحُلُم،
واليتيم: هو من توفي أبوه قبل بلوغه، واليتيم في الحيوانات: من توفيت أمه،
واليتيم في الطيور: من توفي أبوه وأمه.
وإذا كان الطفل يتيماً فلا بد أن يقام عليه ولي يرعى شئونه، ويدبر حاله من
تعليمه، والحرص على ماله إن كان له مال، وتنميته ومراعاته حتى لا يضيع.
فيتيم ورث عن أبيه مالاً، هذا المال فيه زكاة، والمال الزكوي على قسمين:
مال خفي: وهو ما يتعلق بالنقد من الذهب والفضة، والأوراق النقدية في الوقت
الحاضر.
ومال ظاهر: وهو بهيمة الأنعام والزروع.
فالمال الخفي يقول الجمهور: فيه زكاة.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا زكاة عليه حال يتمه، ولكنه إذا بلغ
ورشد واستلم ماله من الوصي زكاه.
استحباب الاتجار
بمال اليتيم
وقوله في الحديث: (من ولي يتيماً) أي: صار ولياً عليه، سواء كان أمه أو عمه
أو أخاه الأكبر أو شخصاً أجنبياً يقيمه الحاكم؛ فالذي يلي مال اليتيم، وكان
لهذا اليتيم مال فلا يجعله في الصندوق، بل يتجر فيه؛ لينمو ويربح، حتى إذا
حال عليه الحول وأخرج الزكاة لم ينقص رأس المال الأساسي، وهكذا يحول الحول
الثاني ويخرج الزكاة، فيكون نماء المال وربحه ضماناً لرأس المال.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (فليتجر به) أي: برأس مال اليتيم؛ لأنه باتجاره
فيه ينمو، فإذا ما أخرجنا الزكاة منه حافظ على مستواه، فلا ينقص، بل يزيد،
أما إذا لم نتجر فيه وتركناه في الصندوق، وحال عليه الحول، وأخذنا منه (2.
5%) ، والسنة الثانية أخذنا منه (2.
5%) وهكذا إلى السنة العاشرة؛ فعشر سنوات في اثنين ونصف في المائة ماذا
يبقى؟ كأنا تركنا مال اليتيم للزكاة تأكله.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)
دليل للجمهور على أن مال اليتيم يزكى، لأنه لو لم يزك لم تأكله الصدقة.
الدليل على عدم وجوب
الاتجار بمال اليتيم
جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أن آل أبي أوفى كانوا أيتاماً، ولهم عنده
مال وديعة، وبعد أن بلغوا سن الرشد دفع إليهم مالهم، فحسبوه فوجدوه ناقصاً،
قالوا: المال ناقص يا علي.
قال: هل حسبتم زكاته؟ قالوا: لا.
قال: احسبوها.
فحسبوا زكاة تلك السنوات فوجدوه تاماً بزكاته، فقال: أترون أن يكون عندي
مال ولا أخرج زكاته؟ وهنا أصبحنا في إشكال، فهذا علي لم يتجر بالمال، وتركه
حتى أكلت الزكاة منه واستنقصه أصحابه؟ وهنا قال: (فليتجر له) فهل يجب على
الولي أن يتجر في مال اليتيم أم أن هذا من باب النصح والرشد؟ نقول: الولي
ما تولى لليتيم إلا للعمل على صلاحية حاله، واتفق الأصوليون على معنى قوله
سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}
[النساء:10] فقالوا: كل من أتلف على يتيم مالاً، سواء أكله بفيه أو أحرقه
بنار أو أغرقه في ماء، أو سلط عليه بهيمة، فهو داخل في عموم الوعيد:
{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] .
بقي لنا هذا: هو لم يأكله، ولكن ترك تنميته، فالأصوليون أيضاً يقولون:
الترك فعل، كما يذكر والدنا الشيخ الأمين في مراقي السعود: (والترك فعل في
صحيح المذهب) ، وكما قال الصحابة: (لئن قعدنا والنبي يعمل -أي: في بناء هذا
المسجد النبوي الشريف- لذاك منا العمل المضلل) ، فهم بالقعود ما عملوا
شيئاً لكن قعدوا عن العمل، فترك العمل والقعود بدون عمل فعل، كما قال صاحب
مراقي السعود: فالترك فعل، بمعنى: لو أن إنساناً على شاطئ نهر، وجاء كفيف
ولا يعلم بحافة النهر، وهو يراه متجهاً إلى الماء، فإنه سيغرق، فلو تركه
فلم ينبهه حتى سقط في الماء فغرق، هل هو عمل شيئاً في غرقه؟ ما عمل، ولكنه
مسئول؛ لأنه ترك إرشاده، وهكذا من ترك شيئاً قادراً على أن يفعله وترتب على
تركه مفسدة، فهو مسئول عنها.
وهنا علي رضي الله تعالى عنه ترك العمل في مال الأيتام عنده، فيقال في
العمل في مال اليتيم: إن كان العامل من أرباب الخبرة، ولديه المتسع، ويمكن
أن يعمل في مال اليتيم وينميه، فعليه أن يعمل، أو يضعه في يد أمين يعمل،
أما إذا كان لا يضمن الربح، أو يخشى إن وضعه في يد آخر أن ينكره أو يهمله،
فبقاؤه في محله أولى.
دليل أبي حنيفة على
عدم وجوب الزكاة في مال اليتيم والجواب عليه
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة عبادة وتحتاج إلى النية، والصغير
غير المكلف لا نية له، فكيف يؤدي عبادة بدون نية.
قال: فالزكاة كالصلاة، ولا تجب عليه الصلاة إلا إذا عقل وأدرك وصحت منه
النية، وكذلك الصوم.
قال الجمهور: إنما ذلك في العبادة البدنية، أما العبادة المالية فلا تتوقف
على النية، ووليه هو المكلف، فهو يقوم بذلك نيابة عنه، أرأيت لو أن هذا
اليتيم لحقه دين، وجاء الولي واستولى على هذا المال بولايته ووصايته على
هذا الصغير، أترونه يسد الدين عنه أم لا؟ وعلى هذا لو أن اليتيم لحقه حق في
المال، وطولب به الولي، فإن الولي يدفع هذا الحق من مال الصبي وفاءً بدينه،
ولا يتوقف على كونه صغيراً لا نية له، فقالوا: الزكاة حق في المال، وله
تعلق بالذمة -أي: بذمة المالك- ليبرئ ذمته بقصد إخراجه طاعة لله.
وكذلك الحديث الماضي: (أخذناها وشطر ماله) هل كان له نية في هذه أم أخذت
بالقوة؟ أخذت بالقوة، قالوا: فتجزئ عنه ولو لم ينو إخراجها، لكن ثوابها على
أنها أداء ركن في الإسلام ليس له؛ لأنه لم يدفعها طواعية.
تفصيل مذهب أبي
حنيفة في زكاة مال اليتيم
إلى هنا الأئمة الثلاثة يقولون: في مال اليتيم زكاة أياً كان نوعها، والولي
يقوم مقامه في إخراجها والنية عنه، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول:
الزكاة عبادة، والعبادة لا تتأتى إلا من البالغ المكلف، فيترك المال بزكاته
حتى يبلغ ويرشد الصبي، فيدفع إليه ماله ويقال له: الزكاة في مالك من سنة
كذا، ويتولى هو إخراج زكاة ماله بنفسه.
هذا عند الإمام أبي حنيفة، وخالفه بعض أصحابه في ذلك.
إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يستثني من عموم المال ما تخرجه الأرض،
فيقول: إذا كان الصبي يمتلك مزرعة، والمزرعة جاءت بما تجب فيه الزكاة، فإن
على الولي أن يخرج زكاة ما تخرجه الأرض من ملك اليتيم، ولا ينتظر به إلى أن
يبلغ قال: لأن الله سبحانه وتعالى علق زكاة ما تخرجه الأرض بعينه، قال
تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر المولى
بإخراج زكاة ما تخرج الأرض يوم الحصاد، واليتيم لا دخل له في ذلك.
وسيأتي ما هي الأنواع التي تزكى مما تخرجه الأرض أو لا يزكى.
ومال اليتيم: إما نقد وإما بهيمة الأنعام وإما زروع، أما النقد وبهيمة
الأنعام فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا يزكى مال اليتيم في النقدين
وبهيمة الأنعام، وتترك حتى يبلغ ويستلم ماله، ثم هو الذي يتولى إخراج
زكاته، أما الزكوي مما تخرجه الأرض فإن وليه يخرجه يوم حصاده، هذا ما يتعلق
بمال اليتيم، والقاصر كالمجنون والمعتوه ونحو ذلك.
والله تعالى أعلم.
ترجيح القول بوجوب
الزكاة في مال اليتيم
وهذه القضية من القضايا التي تعم بها البلوى، لأنه لا تخلو قرية من يتيم،
ولا يخلو يتيم في الغالب من مال، فإذا كانت المسألة على هذه الحال، فربما
نجد فيما تقدم لنا من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه ما يشهد للأئمة
الثلاثة، وهو: أن معاذاً لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال
له: (فأعلمهم بأن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد
إلى فقرائهم) .
ونحن نسأل في كلمة (أغنيائهم) : اليتيم إذا كان عنده ألف رأس من الإبل أو
من الغنم، وإذا كان عنده ألف دينار أو ألفا درهم من الفضة، فهو غني أم
فقير؟ الجواب: هو غني، فيدخل في عموم الأغنياء، فتؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ
من الأغنياء الكبار.
وإذا جئنا في تقسيم الزكاة: (تعطى إلى فقرائهم) ، هل نعطيها لليتيم الفقير
أم نقول: هذا اليتيم ليس مكلفاً، ولا يصح أن يقبض الزكاة؟ الجواب: أنه أحق
من غيره، فإذا كان مع اليتم يأخذ من الزكاة، إذاً: مع اليتم يعطي الزكاة،
فهذا في عموم (أغنيائهم) وهذا في عموم (فقرائهم) .
الصلاة على مخرجي
الزكاة والدعاء لهم
قال المؤلف: [وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم) متفق عليه] .
هذه القضية، وهي الصلاة على غير الأنبياء، جاء في النص القرآني الكريم:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]
.
وهنا أنه صلى الله عليه وسلم كان عندما يأتيه قوم بزكاتهم، سواء كانوا من
أهل المدينة أو من خارجها يصلي عليهم؛ لأننا عرفنا القاعدة: أن بهيمة
الأنعام تؤخذ زكاتها على مياههم هناك، فإذا كانت زكاة مال أو زكاة حبوب
وجاءوا بها إلى رسول الله، ودفعها إلى المسئول لتوزيعها أخذها منهم وصلى
عليهم، اللهم صل على آل فلان، أو اللهم صل على فلان، أو يقول: صلى الله
عليك.
وكونه صلى الله عليه وسلم يصلي على من أتى بزكاته إليه هو امتثال منه لأمر
الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فهذا أمر من الله لرسوله صلى الله
عليه وسلم أن يصلي عليهم عندما يأخذ منهم الزكاة.
وهنا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
[الأحزاب:56] .
معنى الصلاة
الصلاة في اللغة: الدعاء، كما قال القائل: وقابلها الريح في دنها فصلى على
دنها وارتسم أي: دعا على دنها، وكما جاء في حديث الوليمة: (شر الطعام طعام
الوليمة، يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها، ومن لم يأتها فقد عصى
أبا القاسم، ومن كان صائماً فليصل) ، فبعض العلماء قال: (فليصل) أي: يرجع
ويسجد، وبعض العلماء قال: (فليصل) أي: فليدع؛ لأن أصل الصلاة الدعاء،
وانتقل اسمها إلى الصلوات الخمس ونوافلها؛ لأن الدعاء موجود فيها من أول
لفظ: الله أكبر ثم دعاء الاستفتاح، إلى أن يسلم.
قالوا: والصلاة من الله على رسوله أو من الله على عباده كما في الحديث: (من
صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) فقالوا: الصلاة من الله رحمة، فإذا
قال صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على آل فلان؛ فمعناه: اللهم ارحم آل
فلان.
والصلاة من العباد دعاء، فإذا قلت: اللهم صل على محمد، فكأنك تدعو الله بأن
يعلي شأن محمد صلى الله عليه وسلم، فتدعو له ولآله بالرفعة والثواب الجزيل.
حكم الصلاة على غير
الأنبياء
فهنا: هل تجوز الصلاة من الإنسان للإنسان فتقول: اللهم صل على آل فلان؟
فكوننا نقول: اللهم صل على محمد، قد أمرنا بذلك {صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا} [الأحزاب:56] فهذا أمر من الله أن نصلي على محمد صلى الله
عليه وسلم، فهل نفعل ذلك للخلق فيتساوى أفراد الأمة مع رسولها؟ بعض العلماء
قال: لا نصلي عليهم، ولكن ندعو لهم بالخير! بغير صيغة الصلاة، وإنما نقول:
اللهم أكرمهم، وبارك لهم فيما رزقتهم، ونمِّ أموالهم، واحفظها، ونحو ذلك.
ومن هنا لما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى جوار مولاه قال بعض الناس: أنا
لا أعطي الزكاة لـ ابن أبي قحافة.
قال: كنت أعطيها لرسول الله لأنه كان يصلي علينا، وليست صلاة ابن أبي قحافة
علينا كصلاة رسول الله، فأنا أؤديها بنفسي.
ولكن كما نعلم أنه لم يقبل منهم ذلك.
ومن الطريف أنه يذكر في ترجمة سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، أن النبي صلى
الله عليه وسلم أتاه إلى بيته، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فرد سعد:
وعليكم السلام.
بصوت خفيف لم يسمعه رسول الله، فأعاد: السلام عليكم.
فرد: وعليكم السلام.
وأعاد مرة ثالثة: السلام عليكم.
فرد: وعليكم السلام.
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سلم ولم يسمع جواباً ولم يؤذن له،
فقيل لـ سعد:ألم تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما سلم؟ قال: أريد
أن يكرر، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم لحقه سعد، فقال: والله يا رسول
الله! لقد سمعت سلامك من أول مرة، ورددت بصوت خفي لا تسمعه لتكرر (السلام
عليكم) ويتكرر لنا سلاماً منك علينا، فرجع معه النبي صلى الله عليه وسلم
وأكرمه.
يهمنا أن هذا الصحابي، الذي كان سيد قومه، حضر بيعة العقبة وكان نقيباً
فيها، فيسلم عليه الرسول ولا يقول له: تفضل.
ويريد أن يكرر السلام، ألا تأذن لرسول الله؟ قال: دعه يسلم علينا أيضاً.
إذاً: كان أولئك القوم يريدون دفع الزكاة لرسول الله لأنه يصلي عليهم،
وصلاة الرسول دعاء، ودعاؤه مستجاب، ولهذا قالوا: لا نعطي أبا بكر؛ لأن
دعاءه ليس كدعاء رسول الله.
إذاً: ما دام أنه جاء النص فلا محل للاجتهاد، ولكن هل هذا عام في كل من
يأخذ الصدقة من أهلها؟ البعض يقول: نعم؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه
وسلم، والبعض يقول: هذا خاص برسول الله.
لماذا خصصتموه؟ قالوا: لقد كتب أبو بكر أنصباء الزكاة وبينها للعمال، وبعث
رسول الله عمالاً يجمعون الزكاة، وبعث أبو بكر عمالاً يجمعون الزكاة، ولم
يرد عن مبعوث واحد وعامل في الزكاة أنه أوصي بأنه: إذا أخذت من أحد فصل
عليه.
فما داموا عمال الزكاة لم يعملوا بها في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في
عهد الخلفاء من بعده، فقد كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكم تقديم الزكاة
قبل حلول الحول
قال المؤلف: [وعن علي: (أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل
صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك) رواه الترمذي والحاكم] .
هذه المسألة: أن العباس رضي الله تعالى عنه قدم إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم زكاة العام الحالي ومعها زكاة العام الذي لم يأت، فيكون قد قدم
زكاة عام قبل حلول وقتها.
وقد تقدم معنا كلام علي رضي الله تعالى عنه: (ليس في مال زكاة حتى يحول
عليه الحول) ، فالعام الأول حال عليه الحول فنأخذها، لكن العام الثاني لم
يدخل بعد، ولا حال الحول على المال، فكيف نأخذ زكاة سنتين؟ وهل يجوز تقديم
الزكاة قبل كمال حولها، مع أن الحول شرط في وجوبها؟ فالبعض يمنع مطلقاً،
ويقول: تمام وجوب الزكاة بتمام الحول، فتقديم الزكاة قبل الحول كتقديم
الصلاة قبل وقتها، والصلاة قبل وقتها لا تصادف محلاً، فكذلك الزكاة قبل
حولها لا تصادف محلاً.
والآخرون قالوا: هذا اجتهاد وقياس، ولا اجتهاد ولا قياس مع النص، فإن هذا
فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختلفوا: هل العباس رضي الله تعالى
عنه هو الذي تقدم وجاء لرسول الله بزكاة عامين في وقت واحد، أو أن النبي
صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من العباس أن يقدم زكاة سنة لم تأت بعد،
بأن يدفع زكاة سنتين في سنة حاضرة؟ الجمهور على أن النبي صلى الله عليه
وسلم هو الذي طلب من العباس، وجاءت الرواية: (قد احتجنا فطلبنا -أو
فاستسلفنا- من العباس زكاة عامين) .
وهنا يقول بعض العلماء: المتوسط في القول أنه إن وجدت حاجة عند الإمام
للمال، وزكاة العام لا تكفي، فله أن يستسلف من أرباب الأموال زكاة سنة
متأخرة؛ ليسد بها الحاجة الحاضرة، أما في غير وجود حاجة فليس هناك داع
لتقديم زكاة لم يأت شرطها بعد.
وعلى هذا فخبر العباس رضي الله تعالى عنه بأنه قدم زكاة سنة متأخرة، لا شك
فيه، ولكن البحث في: هل العباس تقدم به لرسول الله، أو أن رسول الله هو
الذي استسلف وطلب من العباس، لحاجة حاضرة احتاج فيه زيادة مال؟ هذا هو
الأولى والأصح.
بقينا هنا في مسألة يمكن أن يكون للاجتهاد فيها مجال، وهي مسألة واقعة بين
الناس: وهي أنه إذا كان هناك شخص عنده زكاة النقدين، واعتبر الحول في
رمضان، وكل سنة من رمضان يخرج زكاة ماله، فجاء في شعبان أو في رجب ووجد بعض
إخوانه في مسيس الحاجة إلى المال، وهو لا يريد أن يعطي من رأس المال شيئاً،
وهو عنده الزكاة، ويعلم بأنه عند مجيء الحول سيخرج عشرة آلاف ريال أو مائة
ألف ريال، فقال: هؤلاء الإخوان أو الجيران أو الأرحام في أمس الحاجة إلى
الريال، فهل ندعهم يموتون جوعاً حتى يأتي رمضان، أم أنه يقدم من زكاة ماله
الذي يجب في رمضان للحاجة الموجودة التي أدركها في هؤلاء الناس؟ الجواب:
يقدم من ماله ويعطيهم.
المهم أنه صلى الله عليه وسلم أخذ زكاة سنة مقدمة لحاجة، فماذا يمنعنا أن
نقدم جزءاً من زكاة مالنا عن وقته من أجل حاجة حاصلة؟ وهؤلاء في تلك الحالة
الاضطرارية لا شك أنهم أشد ما يكونون محتاجين لذلك، وهذا مال ينتظر أوانه،
فبدلاً من أن تنتظر أوانه فقد جاءت حاجته، وأنت ما أعددته إلا للفقراء
والمساكين تسد به حاجتهم، وهذه حاجة حاضرة، فإذاً: لا بأس في مثل ذلك.
ويقولون عن مالك: إنه كان يجيز تقديم زكاة المال عن حولها إلى نصف شهر.
وعندهم في زكاة الفطر أنها تخرج يوم العيد ما بين صلاة الفجر إلى صلاة
العيد، وهناك من يقول: تقدم اليوم واليومين والثلاثة.
والشافعي يقول: إذا انتصف رمضان فلك أن تخرج زكاة الفطر، فأجاز تقديمها على
أكثر من أوانها.
على كل المسألة اجتهادية، وأرى -والله تعالى أعلم- أنه يجوز له تقديمها عن
موعد حولها لسد الحاجة الموجودة.
والله تعالى أعلم.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [7]
من رحمة الله بعباده أنه لم يوجب عليهم الزكاة إلا فيما بلغ النصاب الذي هو
مقياس الغنى، وكان قد حال عليه الحول، وقد جاء الشرع بتقدير نصاب الفضة
بمائتي درهم، لكن الكثير من الناس يجهل مقدار ذلك خاصة بعد ترك التعامل
بالدراهم الفضية، وشيوع العملات الورقية، فجاء البيان هنا للطريقة التي
يعرف بها نصاب الفضة بالعملات الحديثة المتداولة اليوم.
حديث جابر في أنصبة
الزكويات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من
الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة) رواه مسلم] .
أتى المصنف رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة، وقد أجمعوا على أن الأموال
المتفق على زكاتها أربعة وهي: بهيمة الأنعام، والذهب والفضة، والزروع
والثمار، وعروض التجارة.
فهذه الأجناس من حيث هي زكوية، ويختلف التفصيل فيها حسب نوعها وطريقة
الحصول عليها.
وفي هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأموال الزكوية لها
أنصباء، بخلاف من شذ وقال: كل مال يزكى ولا عبرة بنصاب ولا بحولان الحول!
وهذا في الواقع فيه إجحاف على المالك؛ لأنه يحمله الزكاة على كل ما يملكه
ولو كانت له فيه حاجة.
فاشتراط بلوغ المال الزكوي نصاباً فلأنه يدل على وفرته في يد صاحبه، وكذلك
اشتراط الحول يدل على استغنائه عنه حولاً كاملاً، ومن كان في يده مال مستغن
عنه لمدة سنة فلا شك أنه غني، أما الفقير فهو إما أنه لا يملك شيئاً، أو
إذا ملك شيئاً فإنه لا يستمر في يده إلى حول كامل.
ومن هنا قالوا: مشروعية الزكاة بنيت على الإرفاق والتعاون، فهي إرفاق
بالمالك فلا يكلف الزكاة إلا في حالة غنى، وحالة الغنى أن يملك نصاباً من
المال الزكوي يستغني عنه سنة كاملة، وحالة الإرفاق بالفقير أن يأخذ جزءاً
من مال الغني يستعين به، ومن الإرفاق بالغني أيضاً قلة ما يؤخذ منه في
النصاب الذي يملكه.
نصاب الفضة
وهنا في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس فيما دون خمس
أواق من الورق صدقة) ، إذاً الخمس الأواقي هي النصاب، وما كان أقل منها فلا
زكاة فيه؛ لأنها قليلة، والورق إنما هو الفضة كما جاء في قوله سبحانه:
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف:19] .
والخمس الأواقي: مائتا درهم، وقد جاء النص صريحاً في مائتي درهم، وجاء عن
أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها فيما يتعلق بالصداق في الزواج بأن
الأوقية أربعون درهماً، وخمس أواق في أربعين بمائتين.
وعلى هذا يتقرر عندنا أن الفضة من الأموال الزكوية، وهي من النقدين، وأن
لها نصاباً وهو خمس أواق، ثم الخمس الأواقي أو النصاب لا زكاة فيها حتى
يحول عليها الحول، وسيأتي النص على أنه يخرج منها ربع العشر، وربع العشر
مطرد في الذهب والفضة، والذي يهمنا الأنواع المنصوص عليها في هذا الحديث.
شروط زكاة الفضة
إذاً: المبدأ الأساسي في التشريع: أنه لا زكاة في الفضة على من يملكها إلا
بشرطين.
الشرط الأول: بلوغ النصاب، وهو خمس أواق، وليس عندنا اليوم أواق، ولكن نحن
نقول: هذا المبدأ التشريعي، والخمس الأواقي مائتا درهم؛ هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: حولان الحول على هذا النصاب.
ومعنى حولان الحول: أن يستمر المبلغ نصاباً لا ينقص، وإذا زاد فبحسابه.
وفي ابتداء الحول ننظر في الخمس الأواقي مثلاً، فإن كان اكتسبها مرة واحدة
فيبدأ حساب الحول من يوم اكتسبها، وإذا كان يكتسبها على دفعات كل شهر
أوقية، كأن يوفر من راتبه، أو يأتيه دخل ما فيوفر أوقية، فيتوفر عنده
النصاب على خمسة أشهر، فمن يوم أن اكتمل عنده خمس أواق يبدأ الحول، وإذا
كان في ازدياد، وبعد الخمسة الأشهر جاءت خمس أواق ثانية، فأصبح عنده عشر
أواق، وبعد شهرين جاءت أوقيتان، فمن أول ما بدأ الحول إلى نهايته صار عنده
اثنتا عشرة أوقية، فيزكي الجميع آخر الحول.
اشتراط بقاء النصاب
طوال الحول دون نقص
إذا اجتمع عنده خمس أواق في شهر خمسة مثلاً، وبدأ الحول من شهر خمسة، فإذا
جاء شهر خمسة من السنة الثانية يكون قد اكتمل الحول فيزكي، لكنه في شهر
عشرة نقصت عليه أوقية، فهل النصاب باق أم نقص؟ نقص.
وفي شهر أحد عشر جاءته أوقية، فعاد النصاب واكتمل، فهل نزكي هذه الخمس
الجديدة على حول الخمس الأولى، أم نبدأ حولاً جديداً من يوم أن اكتملت بعد
النقص؟ الجواب: إذا نقص النصاب في أثناء الحول نستأنف الحول من يوم أن
يكتمل؛ لأنه إذا استمر على هذا النقص وحال الحول لم نأمره بالزكاة، لأنه لم
يملك نصاباً حال عليه الحول، نعم.
كان قد امتلك نصاباً ولكن احتاج فنقص منه، ولهذا جعل الحول لأنه مقياس
الاستغناء.
فإذا مرة عليك سنة وما احتجت منه شيئاً تبين أنك مستغنٍ وأنه زيادة، لكن
إذا كان ينقص ويزيد! وينقص ويزيد! فعند نهاية الحول ننظر الخمسة موجودة،
ولكن النقص الذي طرأ عليها، والزيادة التي اكتملت بها خمس أواق كانت في
الشهر الماضي مثلاً، فيكون الشهر الماضي هو بداية الحول.
هذا ما يتعلق بزكاة الفضة؛ لأنها يشترط لها شرطان: ملك النصاب، وأن يستمر
هذا الملك تاماً حتى يحول عليه الحول.
فإن طرأت عليه زيادة تلحق بالأصل، فالأصل أن تضم، ولكن الفقهاء لهم في هذا
بحث وتفريع: فإن كانت الزيادة من جنس الأصل الموجود عنده فإنها تلحق بالأصل
وتزكى معه عند تمام حوله، وذلك مثل عروض التجارة، فهو كل يوم يربح أوقية
نصف أوقية ربع أوقية، فعندما اكتمل عنده خمس أواق استمر في الربح إلى نهاية
السنة، فصار عنده عشرون أوقية، فإذا حصل من العشرين أوقية على واحدة في
الأسبوع الماضي فهل نجعل لها حولاً مستقلاً أم هي تابعة في نماء التجارة
عنده؟ تابعة.
إذاً: هذا هو المبدأ عندنا فيما يتعلق بزيادة النصاب وما يتعلق بنقصان
النصاب.
نصاب الإبل
قوله: (وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) : الذود: العدد الإبل.
والمعنى أن الذي عنده أربع أو ثلاث من الإبل أنه لا زكاة فيها.
وتقدم لنا في أنصباء الإبل أن في كل خمس شاة إلى عشرين، فإذا بلغت خمساً
وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، إلى آخر
الجدول المعروف الذي تقدم معنا.
إذاً: هذا الحديث يبين لنا أنصباء الأموال الزكوية: فنصاب الفضة خمس أواق،
ونصاب الإبل يبدأ بخمس من الإبل، وما كان أقل من ذلك فلا زكاة فيه.
أهمية معرفة
المعايير والموازين وتوحيدها بين المسلمين
قوله: (وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) .
تقدم معنا أن الفضة لها نصاب، ونصابها خمس أواق، والأواقي قدرها مائتا
درهم، وليس المقصود الدرهم المغربي، فتلك عملة خاصة بالمغرب، كم تكون
المائتا درهم؟ ما أحد سأل ولا أحد فتش! نحن -يا إخوان- في هذه الآونة
الأخيرة تغيّرت كثير من اعتبارات الشرع عندنا، وخاصة المكاييل والموازين،
وكل أمة لها معاييرها الخاصة، وأذكر أن مسمى الرطل كان في مصر يبلغ اثنتي
عشرة أوقية، وكذلك في إسطنبول، والرطل في القدس أقتان، مع أن الأقة الواحدة
تساوي اثنين كيلوا، والرطل في بغداد قريب من الرطل في مصر، فتختلف الموازين
على حسب اصطلاح الأمة؛ لأن لكل أمة أن تأخذ لنفسها وتضع لنفسها معاييرها
الخاصة، نحن نسمع الآن: (متر، وياردة، وإنش، وقدم، وفوت) .
فالمقاييس الرسمية المتعامل بها اليوم هي المتر والياردة والإنش، فهذه
مقاييس، وعند المساحات (فدان وهكتار، وقيراط) وكذلك المكاييل: (مد، وصاع،
وكيلو، وربع، وملوا، وقدح) ، فهذه مكاييل وموازين ومقاييس قد تصطلح كل أمة
على ما يصلح عندها.
وقد قال العز بن عبد السلام: على الأمة أن تطيع ولي أمرها في أربعة: أولاً:
نوع المكيال، ونوع الميزان الذي يأمر بالتعامل به، فإذا قال: تعاملوا
بالأقة، أو قال: تعاملوا بالرطل، أو قال: تعاملوا بهذه الصنجة التي سأصنعها
ثم صنع صنجة وسماها، فيجب أن يكون الوزن بها وبأجزائها، ولا يحق لإنسان أن
يصنع صنجةً أخرى يزن بها للناس.
ووحدة المكاييل والموازين ضرورية في العالم؛ لئلا يأكل الناس أموال بعضهم
بعضاً، فيأتي من يقول لك: هذا وزن، ويأتي آخر يقول لك: هذه أوزن هذه أنقص
وأنا لا أدري؟ لا.
ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنه من السنة وحدة المكيال
والميزان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (المكيال مكيال المدينة) وقال:
(اللهم بارك لهم في صاعهم ومدهم) ، والصاع والمد مكيال، وجعل مكة وحدة
الموازين فقال: (الميزان ميزان مكة) .
فالعالم الإسلامي عليه بحسب هذا الحديث أن يوحد مكاييله على مكاييل
المدينة، وموازينه على موازين مكة، مثل وحدة النقد، فهل يمكن أن يكون في
بلد واحد نقدان مختلفان لدولة واحدة؟ لا؛ بل لكل دولة نقد مستقل، فكذلك لكل
دولة مكيال وميزان مستقل.
ثم قال العز بن عبد السلام: في إعلان الحرب على عدو محارب، وعقد الهدنة مع
مقاتل، فإذا أعلن ولي أمر المسلمين حرباً على عدوه وجب على الأمة أن تقوم
معه، وإذا أعلن هدنة مع أمة وجب على المسلمين أن يلتزموا بهذه الهدنة.
فالمكيال والميزان من الأمور الاجتماعية التي يجب توحيدها.
وكان الدرهم أولاً ليس إسلامياً بل كان رومياً.
وكذلك المثقال ما كان موجوداً على عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن المثقال
لم يختلف وزنه في جاهلية ولا إسلام، أما الدرهم فكان يتفاوت، وجاء في صدر
الإسلام التعامل بالدراهم الأجنبية، وفي الدولة الأموية كان الدرهم الصغير
والدرهم الكبير، فجمع بعض ولاة بني أمية درهماً صغيراً والآخر كبيراً، ثم
قسمهما نصفين، واعتبر الدرهم نصف الكبير ونصف الصغير، وتوحّد الدرهم، وصارت
عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل.
والدرهم وحدة ميزان ووحدة نقد، تقول: الأوقية كذا ليرة، ونحن نقول: الأوقية
أربعون درهماً، والدينار يصرف بعشرة دراهم، وكان صرفه في زمن عمر ما بين
ثمانية إلى اثني عشر درهماً، واستقر الأمر على أن الدينار يصرف بعشرة
دراهم، وعشرون ديناراً هي نصاب الذهب، ومائتا درهم هي نصاب الفضة.
يبقى أن الدينار يعادل من الدراهم عشرة؛ لأن عشرين ديناراً تعادل مائتي
درهم، إذاً: الدينار وحدة وزن ووحدة نقد، ولهذا ربما نجد في بعض كتب الفقه
من يقول: كذا درهماً وزناً، كذا درهماً عدّاً، فإذا قال لك: وزناً، فالمعنى
أنه موزون وزنه كذا، وإذا قال لك: عداً، فالمعنى أنه وحدة نقدية يعد كذا
درهماً.
تقدير نصاب الفضة
بالعملات الحديثة
فكما قلنا: إن لكل أمة أن توجد لنفسها من المكاييل والموازين ما ترتضيه،
فمع طول الزمن تتغير الدرهم وتتنوع المكاييل، أنت عندك المد في السوق ليس
هو المد النبوي، فقد تغير، والمد الذي في السوق يعادل ثلاثة أمداد، والصاع
الذي في السوق يعادل ثلاثة صيعان من صاع النبي صلى الله عليه وسلم، بينما
المد النبوي يكون ربع الصاع النبوي، والمد التجاري اثنا عشر مداً نبوياً،
إذاً: اختلفت المكاييل في المدينة.
كان ريال الفضة السعودي موجوداً وكان وحدة نقد، الآن انتهى عن كونه نقداً
وأصبح حلياً وتحفاً وهدايا، ولم يعد يتداول كعملة سائرة بين الناس بوحدة
الريال، ووزنه بالدراهم المعروفة عندنا ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع الدرهم،
بتحرير العلماء بأن المائتي درهم الواردة في نصاب الفضة تعادل ستة وخمسين
ريالاً سعودياً، الذي يزن الريال الواحد منها أربعة دراهم إلا ربع، ونحن
نأخذ هذا كمعيار موجود عملياً.
يبقى نصاب الفضة بالنسبة للريال السعودي الذي كان يتداول، وهو موجود الآن
يصاغ ويستعمل على هيئته ووزنه، لكن لا يتداول بين الناس، لأنه لما جاءت هذه
الأوراق أصبحت الفضة تعادل الآن عشرين ريالاً ورقاً، إذاً: لا عبرة بهذا؛
لكن كيف نحدد نصاب الفضة التي نمتلكها على المائتي درهم التي جاء الشرع
بها؟ نقول: إن العملة هي وسيلة الشراء، وهي الوسيط في التعامل، فننظر إلى
الفضة السعودي التي كانت متداولة والتي تعادل المائتي درهم، فنأتي بالستة
والخمسين ريالاً السعودي فننظر كم قيمتها الشرائية في الأسواق؟ فهي أبعدت
عن السوق وبقيت سلعة تباع وتشترى، فإذا كان نصاب المائتي درهم يعادل وزناً
الستة وخمسين ريالاً سعودياً، والريال السعودي أربعة دراهم إلا ربع وقد عمل
حساب الرصاص أو النحاس الموجود مع الفضة ليشدها حتى تصلح في سبكها وصياغتها
ريالات قابلة وصالحة للتداول دون أن يسري منها شيء.
فنأتي للعالم كله في أي بقعة فنسأل: كم قيمة الشراء لمائتي درهم فضة عندكم؟
فإذا قالوا لنا: قيمتها خمسمائة ريال، مائتا روبية، عشرون دولاراً، أو
أربعون جنيهاً استرلينياً، أو أي عملة في العالم تتداول كنقد، فالقيمة
الشرائية لهذه العملة في بلدها ننظر كم منها يعادل المائتي درهم ثمناً! فما
يعادل المائتي درهم الأساسية من الفضة بالقيمة الشرائية يكون هو النصاب،
إذا جئت في مصر ففيها الجنيه المصري، فتنظر بكم جنيهاً نشتري المائتي درهم؟
إذا جئنا إلى الهند وباكستان نظرنا كم روبية نشتري بها المائتي درهم، وإذا
جئنا إلى أمريكا نظرنا كم دولاراً نشتري به المائتي درهم، إذا جئنا إلى
بريطانيا وإسكندنافيا نظرنا كم جنيهاً استرلينياً نشتري به المائتي درهم،
وهكذا في دول العالم.
وهنا في السعودية نقدر كم ريالاً سعودياً ورقياً يشترى به المائتا الدرهم؛
فيكون النصاب عن الفضة بالعملة الورقية التي هي بديل ما يساوي في القيمة
الشرائية مائتي درهم بغير هذا لا يمكن أن تصل إلى تقدير نصاب الزكاة, ولذا
لما كثر فيه الأخذ والعطاء في السابق، جاء عن ابن تيمية رحمه الله أنه قال:
كل بلد دراهمها بحسبها.
لكن نحن لا نترك المسألة إلى هذا الحد، وينبغي أن تكون هناك قاعدة عامة
شاملة، وهي أن ننظر في كل عملة تصدر في العالم: كم قيمتها الشرائية للفضة
بمقدار وزن مائتي درهم؟ فما بلغ قيمته الشرائية مائتي درهم للفضة نقول: هذا
هو بداية النصاب.
مقدار زكاة ما يخرج
من الأرض
قال المؤلف: [وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما
سقي بالنضح نصف العشر) ، رواه البخاري، ولـ أبي داود: (إذا كان بعلاً
العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر) ] .
هذا تفصيل لما تقدم، فقد عرفنا بأن ما تنبته الأرض وبلغ خمسة أوسق ففيه
صدقة، وبصفة عامة: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وكلمة (صدقة) تشمل صدقة
التطوع والزكاة المفروضة وقد قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً} [التوبة:103] ، فسمى الفريضة التي يأخذها رسول الله صلى الله
عليه وسلم صدقة.
وعلى هذا: جاءنا التفصيل كم نأخذ مما سقت السماء، أو كم نأخذ مما تنبته
الأرض؛ فبين لنا أن ما خفَّت كلفته زادت نسبة صدقته، وما كثرت كلفته نقصت
نسبة صدقته، وهذا من الإرفاق، فما سقته السماء أو سقي بالعيون التي تفيض من
الأرض وتمشي في السواقي فتسقي الأرض، فزكاته العشر.
فإذاً: النبات إما أن يسقى بدون كلفة بالمطر أو بماء من العيون يسيل، أو
سيول تأتي وتسقي الأرض، وإما أن يتكلف لسقي الزرع مئونة بالنضح، والنواضح
هي الإبل تنضح الماء فتسحبه من البئر أو الدولاب، وكذلك السواني، فكل ذلك
بالآلة أو كما يقال: بالدولاب، والآن أصبحت هناك آلات حديثة (مكاين) ،
والمكاين لها كلفة، حيث تحتاج إلى محروقات وقطع غيار.
إذاً: ما كان سقيه بدون كلفة بأن جاء المطر من السماء أو جاء الماء من
العيون أو كان عثرياً، ولفظة (العثري) إلى الآن مستعملة، تسمعونها من باعة
الحبحب الذين يقولون: حبحب عثري، والعثري: هو أحسن أنواع الحبحب؛ لأن الأصل
فيه أن تكون التربة خصبة، فيأتي السيل أو النهر فيغمرها، ويمكث فيها مدة ثم
ينحسر عنها، ويتسرب الماء إلى ثقوب بعيدة، فإلى وقت معين يأتون إلى تلك
التربة المشبعة بالماء ويضعون فيها الحبوب سواء كانت ذرة أو من هذا الحبحب
أو الخضروات؛ فهذا عثري.
وقد شاهدت الذرة العثرية في سامطة تحصد مرتين على مجيء السيل مرة واحدة،
فيأتي السيل ويغمر الأرض -والأرض تكون خصبة جداً- ثم بعد ما يمضي عنها
الماء وتحتمل مشي الأقدام، يضعون حب الذرة ويحصدونه أولاً، ثم ينبت من محله
فيأتي بثمرة ثانية على ذاك العثري.
فالعثري: الأرض التي يغمرها الماء من نهر أو سيل أو نحو ذلك، ثم يفيض عنها
وقد تشبعت بالماء، فيزرع الحب ولا تحتاج إلى سقي بعد ذلك حتى تحصد.
إذاً: هذا هو أيضاً مما سقته السماء أو العيون أي: بدون كلفة.
إذاً: ما تخرجه الأرض يشترط فيه أن يكون نصاباً ولا يشترط فيه الحول قال
تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] .
ولكن الحصة التي تؤخذ في الذهب والفضة وعروض التجارة متحدة، وهي ربع العشر،
لكن هنا إما العشر كاملاً وإما نصف العشر بحسب كلفة السقي، أما مئونة الحرث
والزرع فهذه أمر ضروري لا بد منه، ولا ينظر إلى الكلفة إلا بعد عملية الزرع
بالذات، فإن كان عثرياً أو سقته السماء أو العيون أو السيول، ولم يتكلف
صاحبه في سقيه شيئاً ففيه العشر من خمسة أوسق فما فوقها، وما دون الخمسة
أوسق ليس فيها زكاة.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [8]
اتفق الأئمة الأربعة على وجوب الزكاة في الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر،
واختلفوا فيما عدا ذلك كالخضروات والفواكه، وبعضهم قاس على الأصناف الأربعة
ما شاركها في العلة والأوصاف كالأرز ونحوه، وقد فصل الشيخ سبب الخلاف وذكر
الأدلة، كما تطرق إلى عملية الخرص وما فيها من حكم وفوائد للمالك والمسكين.
ما يزكى مما تنبت
الأرض
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف
رحمه الله: [عن أبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لهما: (لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة:
الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر) رواه الطبراني والحاكم] .
أيها الإخوة الكرام! إن مباحث الأموال الزكوية تتسع فروعها وجزئياتها في
كتب الفقه ما لا تتسع في كتب الحديث.
ونذكر الإخوة بما تقدم في أوائل هذا الباب المبارك: أن المسلمين أجمعوا على
أجناس أربعة هي محل الزكاة: بهيمة الأنعام، والنقدان: الذهب والفضة، وعروض
التجارة، وما تنبته الأرض، فهذه الأجناس الأربعة هي محل الزكاة، ثم اختلفوا
في تلك الأصول الأربعة في بعض أفرادها، فمثلاً: بهيمة الأنعام اختلفوا منها
في زكاة الخيل، فقال به الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ولم يقل به الجمهور.
وفي الذهب والفضة اختلفوا في الحلي، أي: المصنوع والمستعمل، فأوجبه فيه أبو
حنيفة رحمه الله ولم يوجبه غيره على خلاف عند الشافعي وأحمد، ولم يوجبها
مالك قولاً واحداً.
وعروض التجارة من قال بها قال بالعموم، ومن لم يقل بها فلا كلام معه.
الاتفاق على أربعة
أصناف زكوية مما تنبت الأرض
واختلفوا فيما تنبته الأرض؛ فأجمعوا على هذه الأصناف الأربعة: الشعير،
والبر، والزبيب، والتمر، واختلفوا فيما عدا هذه الأربعة، وهذا الحديث هو
الأصل في هذه القضية.
يقول المؤلف رحمه الله: (عن أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما) ، أي: عندما بعثهما إلى اليمن،
وكانوا قضاة وأمراء، وجباة زكاة وجزية، وكان لكلٍ مخلاف يعمل فيه، ومعاذ
رضي الله تعالى عنه كان يطوف في اليمن بأقسامها كلها إلى حضرموت يعلم
ويقضي، وهنا محل التعليم له حاجة، فإنه أرسلهما جباة للزكاة والجزية
فعلمهما مما يأخذون الزكاة فقال: (لا تأخذا الصدقة إلا) وهذا الأسلوب في
العربية يسمى أسلوب الحصر بالنفي والإثبات، كما قالوا في كلمة الشهادة: لا
إله إلا الله، فحصرت الألوهية في الله سبحانه وتعالى.
والحصر يكون حقيقياً ويكون ادعائياً تقديرياً، أي: نسبياً، فتقول: لا شاعر
إلا حسان، فحصرت الشعر في حسان، وهل لا يوجد شعراء سوى حسان؟ يوجد ابن
رواحة وغيره من الذين ناصروا الإسلام، ويوجد غيرهم من شعراء الجاهلية،
فيكون هذا حصراً نسبياً، أي: لا شاعر إلا حسان بالنسبة لخدمته للدعوة
الإسلامية.
وهنا: (لا تأخذا في الصدقة إلا من) معنى هذا: ما بعد إلا هو المحصور فيه
أمر الصدقة.
وإلى هنا يتفق الجمهور بصفة عامة -وكما قيل إجماع الأمة- على أن هذه
المسميات الأربعة زكوية: الشعير، والبر أو الحنطة أو القمح، والزبيب،
والتمر، وما عدا ذلك فهناك فواكه تشاكل الزبيب والتمر.
اختلاف العلماء في
إلحاق أصناف أخرى بالأربعة المتفق عليها
هناك حبوب تشاكل الشعير والبر، فهل يا ترى يؤخذ من تلك الأصناف التي خرجت
عن النص قياساً على المنصوص هنا، أم لا؟ فنجد في هذه المسألة بالذات أن
العلماء فيها على طرفي الوادي، ولا نقول: على طرفي نقيض: فمن العلماء -من
غير المذاهب الأربعة- من وقف عند هذه الأصناف الأربعة فقال: لا زكاة في شيء
إلا فيما حصرها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك من توسع وقال: كل ما أنبتت الأرض فيه زكاة، وهو أبو حنيفة.
فالذي قال بهذا القول المتوسع هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وصاحباه محمد
وأبو يوسف مع الجمهور، فـ أبو حنيفة رحمه الله قال: كل ما أنبتت الأرض ففيه
زكاة إلا الحطب والقصب، ومثل ذلك التبن ونحوه، فهذه لا زكاة فيها عنده، وما
بقي من خضروات وبقول وحبوب ففيه الزكاة، وعن الشافعي وأحمد روايتان فيما
عدا الأربعة الأصناف.
إذاً: أجمع العلماء على أن الأصناف الأربعة زكوية، وهناك من قال: كل ما
أنبتت الأرض ففيه زكاة، وهناك من توسط، ومن هذا التوسط أن الأئمة الثلاثة
مالكاً والشافعي وأحمد أخرجوا جميع الفواكه: الرمان والخوخ والتفاح والموز
والمشمش وغيرها.
فنجد الذرة والعدس والأرز واللوبيا، والفاصوليا والبزاليا، وأشياء عديدة
كلها مأكولات.
علة الزكاة فيما
تنبت الأرض
هل الأصناف الأربعة التي أوجب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة
أوجبها لأعيانها وذواتها أم أنه أوجب الزكاة فيها لعلة موجودة تخصها؟
فالجمهور على أنه أوجب الزكاة فيها لعلة موجودة فيها، فلو قلنا: إن العلة
المشتركة بين هذه الأصناف الأربعة أنها مما تنبت الأرض، فكذلك الخضروات
والفواكه، فإنها مما تنبت الأرض.
وإن قلنا: العلة كونها تجفف وتدخر، فهناك الأرز يجفف ويدخر.
فقالوا: العلة الجامعة بين هذه الأصناف الأربعة كونها قوتاً، والقوت تدفع
به الحاجة، وهو القدر المشترك في الإرفاق بين الغني والفقير، إذاً: وجبت
الزكاة في هذه الأصناف الأربعة لكونها قوت العباد.
فإذا كانت العلة الاقتيات فإننا ندخل الأصناف التي تشترك في علة القوت،
فالجمهور -خلافاً للشافعي وأحمد في رواية- قالوا: كل ما أنبتت الأرض من حب
مكيل مدخر فوق خمسة أوسق، أو مكيل يوزن ومدخر، ففيه الزكاة؛ لأن التمر
والزبيب والشعير والبر يخزن في المخازن والبيوت ويدخر، وكان قوتاً؛ فالتمر
والشعير والبر قوت، وهل الزبيب قوت مثل التمر أم لا؟ قد يدخل في ذلك وقد لا
يدخل، فإذا وجدنا من الحبوب ما يشارك الأصناف الأربعة في العلة ألحقناه
بها، فجئنا ووجدنا الذرة تشارك -وفي بعض الروايات ذكرت الذرة ولكن السند
ضعيف- الأصناف الأربعة في علة كونها مدخراً، ومكيلاً، وقوتاً، وجئنا إلى
الأرز فوجدناه اليوم مقدماً على البر والشعير، وأصبح من عامة أغذية الناس.
إذاً: هل نزكي عن الشعير الذي أصبح الآن علفاً للحيوانات ونترك الأرز الذي
هو عمدة طعام البشر؟! ثم وجدنا العدس إداماً وليس قوتاً، وكذلك اللوبيا،
فهنا يقولون: ما لم يكن قوتاً وكان إداماً أو دواء فلا زكاة فيه؛ لأن
الأصناف الأربعة اجتمعت على علة الادخار والاقتيات، فما كان دواءاً
للخصوصيات فقد خرج عن كونه قوتاً لأنه لم يشتمل على الأوصاف الثلاثة:
الكيل، والادخار، والقوت.
وما كان دواء مثل: الكمون، والكراوية، والينسول، وكذلك الحبة السوداء فهي
دواء، فإنها خرجت عن كونها قوتاً وإن كانت مكيلة ومدخرة، فقالوا: ما لم يكن
قوتاً مدخراً مكيلاً، فلا نلحقه بالأصناف الأربعة؛ لأنه من شرط المقيس أن
يتفق في أوصافة مع المقيس عليه، فإذا نقص من أوصافه شيء نكون قد قسنا شيئاً
على شيء أكبر منه، فيكون ناقص الوصف.
إلى هنا وبصفة إجمالية: هذه الأصناف الأربعة التي ذكرها رسول الله صلى الله
عليه وسلم لـ معاذ ولـ أبي موسى عند إرسالهما إلى اليمن موضع إجماع، وحصل
الخلاف فيما عداها.
ما لم تتحقق فيه
أوصاف العلة كلها من المأكولات
وننتقل إلى ما كان مكيلاً ولا يدخر، وما كان مكيلاً مدخراً وليس قوتاً، مثل
الفواكه: فالفواكه ليست مكيلة ولا مدخرة، فإذا جففت صارت مكيلة مدخرة، ولكن
لا تكون قوتاً.
كذلك وجدنا التين غير مدخر وكما يقول بعض العلماء: إن مالكاً ينص على أن
التين والتفاح والرمان والخوخ لا زكاة فيه، فقال قائل: لأن التين لم يكن
يجفف في بلد مالك، ولو علم أن أنه يجفف لقال به، يا سبحان الله! هو ما يجفف
هنا ولكنه يأتي مجففاً من الشام؛ لأن تجارة الشام كانت تأتي إلى المدينة
وفيها التين والمشمش مجففاً.
وعلى هذا: من أدخل التين في القوت يقول: ألحقوه بالزبيب، ومن أخرجه عن نطاق
القوت جعله مع بقية الفواكه، وهكذا.
ثم جاءت الآثار عن السلف مختلفة، منها المرسل، ومنها المرفوع، ومنها
المنقطع، وقد ناقشها العلماء مناقشة كافية، وأنصح كل طالب علم يريد تحقيق
هذه المسألة أو يقف على ما قيل فيها من كتب التفسير أن يقرأ كتاب القرطبي،
ومن كتب الفقه المجموع للنووي، والمغني لـ ابن قدامة، وبداية المجتهد لـ
ابن رشد، فهذه الكتب إن شاء الله ستكفي طالب العلم فيما أوردوا فيها رحمهم
الله من الخلاف والنقاش لما تجب فيه الزكاة أو لا تجب بعد هذه الأصناف
الأربعة.
والعمدة في ذلك: هل الزكاة في تلك الأصناف الأربعة لذواتها ومسمياتها أو
لعلة فيها؟ قال ابن رشد: أما لذواتها فهذا وصف طردي، إذاً: الأرجح أن تكون
لعلة فيها، فما هي العلة؟ قالوا: أن تجتمع فيها ثلاث صفات: الكيل،
والادخار، والاقتيات، فما ساواها في هذه الصفات الثلاث ألحق بها قياساً،
وما لم يساوها في ذلك أخرج عنها، ولا يصح القياس فيها.
وأجمعوا على أن الفاكهة والخضروات لا تدخر وليست قوتاً.
زكاة ثمن الخضروات
والفواكه إذا حال عليها الحول
ثم بعد هذا إذا حصل على ثمن للخضروات أو على ثمن للفواكه، فإن النص جاء عن
السلف بأن قيمة الخضروات والفواكه تزكى، كما تقدم معنا عن عثمان وعمر رضي
الله تعالى عنهما لما كتب إليهما عمالهما في الطائف، وذكروا لهما الفواكه
والخضروات، وأنها أكثر من النخيل في المدينة، فقال عثمان رضي الله عنه
وأرضاه: (لقد كانت المقاشي بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعلى عهد الشيخين -يعني: أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما- ولم يكونوا
يأخذون منهم الصدقة فلا صدقة فيها، ولكن انظر ما باعوا منها فخذ الزكاة في
أثمانها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول) .
من العجيب أن القرطبي رحمه الله يقول: قال فلان في تفسيره: إن القائلين
بالزكاة في الفواكه والخضروات هم أهل الكوفة، ومعلوم أن الكوفة ما أنشئت
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنشئت في خلافة عمر، فليس من
المعقول أن يوجد تشريع في الكوفة لهذه الأصناف لم يكن موجوداً بالمدينة في
عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وليس بمعقول أن تكون معطلة من
الزكاة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ثم توجد عند أهل
الكوفة؛ من أين جاءوا بها؟ وهذا كلام في الواقع له ثقله ووزنه.
إذاً: لم يكن في عهد رسول الله ولا في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر أخذ
الصدقة من الفاكهة والخضروات، وعلى هذا اتفق العلماء حتى كان شبه إجماع ما
عدا الخلاف المذكور عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
ونحن نعلم جميعاً بأنه لا يأتي إمام بقول يخالف فيه الأئمة من هواه، أو من
رأسه، وإنما يكون الخلاف بينهم في فهم لنصين تعارضا عندهم، والنصان
المتعارضان ما قدمناه (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، والحديث الآخر:
(فيما سقت السماء العشر) ، و (ما) موصولة أي: في الذي سقته السماء.
دليل الحنفية على
إيجاب الزكاة في كل خارج من الأرض والرد عليهم
والقرطبي رحمه الله يسوق نقاشاً لطيفاً في قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ
وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ، فيقول:
بعض الأحناف تمسكوا بعموم (معروشات) فالعنب يقوم على عريش (وغير معروشات) :
النخل والأشجار الأخرى (والنخل والرمان والزيتون، كل هذه) {كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:141] ، (ثمره) : الضمير راجع لكل
المذكورات من معروشات وغير معروشات، وإلى الزرع والنخيل والرمان والزيتون.
إلى آخره.
(وآتوا حقه) : الضمير في (حقه) راجع أيضاً إلى جميع المذكورات، وهذا مما
استدل به أيضاً أبو حنيفة رحمه الله، ولكنه يجيب عن ذلك ويقول: إن هذا الحق
غير فريضة الزكاة، وكان في هذه الأنواع حق قبل فرض الزكاة، كما في الحديث:
(في المال حقٌ سوى الزكاة) ، قالوا: إذا حضر الجذاذ فأعطه، وإذا حضر الحصاد
فأعطه، ثم إذا حصدت وذريت وكلت ووسقت فأخرج الزكاة المفروضة في الموسق،
فيجيبون على أن حقه هنا للنافلة وليس للفريضة.
ويبدو لي والله تعالى أعلم: أن هذا له نظير، وذلك لما ذكر الرسول صلى الله
عليه وسلم الحديث الطويل: (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم
القيامة بطح لها في قاع قرقر فتطؤه بخفافها، وتعظه بأنيابها حتى يقضى بين
الخلائق، ثم يرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار، وما من صاحب بقر وما من
صاحب غنم فقالوا: والخيل يا رسول الله؟! قال: الخيل ثلاثة: -وذكرها- ثم
قال: ولم ينس حق الله فيها) فقالوا: حق الله في الخيل ليست زكاة، ولكن أن
يركب المنقطع، وأن يطلق الفحل على فرس غيره، وأن يساعد بها المسكين أو غير
ذلك من باب التطوع.
(قالوا: والحمر؟ قال: لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] ) .
فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الحق في الخيل ليس فرض الزكاة، وقد ذكرنا
الخلاف في زكاة الخيل.
فقوله: (ولم ينس حق الله فيها) بإجماعهم أنها ليست الزكاة، إذاً: {وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] إنما هو من باب النافلة وليس من
باب الفريضة، والنقاش طويل في هذه الآية الكريمة ساقه الإمام القرطبي في
تفسيره.
إذاً: هذه الأصناف الأربعة مجمع على أنها زكوية، ومختلف فيما عداها، فالذي
قال بجميع ما أنبتت الأرض الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وأما صاحباه محمد
وأبو يوسف فمع الجمهور.
ثم أحمد يعجب الزكاة في كل موسق مدخر ولو لم يكن قوتاً، وعند الشافعي
ومالك: ما كان بضميمة كونه قوتاً، وأما ما كان دواءً أو فاكهةً أو غير قوت
فليس داخلاً في الزكاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الدليل على سقوط
الزكاة عن الخضروات ونحوها
قال المؤلف: [وللدارقطني عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: (فأما القثاء
والبطيخ والرمان والقصب، فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ،
وإسناده ضعيف] .
المؤلف رحمه الله يعلم بأن هذا الأثر ضعيف، فـ معاذ يأتي وكأنه يقول: أمرنا
أن لا نأخذ الصدقة إلا من الأصناف الأربعة، وكأن هناك سؤالاً مقدراً: وما
عدا تلك الأصناف مما تنبت الأرض ما حكمه؟ فقال: (أما القثاء والبطيخ
والقصب) .
فالقثاء يلحق به الخيار، والبطيخ يلحق به الشمام والدباء وقصب السكر.
قوله: (فقد عفا عنه رسول الله) معاذ ذكر أنواع الخضروات وأن ما عدا الأصناف
الأربعة فإنها لا زكاة فيها، فيكون هذا الخبر من معاذ رضي الله تعالى عنه
موضحاً لمفهوم: (لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة) أي: وما
عداها لا زكاة فيه، فالمفهوم أتى مصرحاً به هنا، ولكنه ضعيف.
والخبر الضعيف إنما يبين مفهوم المخالفة فيتقوى في ذاته؛ لأنه لم يكن أصلاً
في التشريع، وإنما جاء تابعاً لمفهوم مخالفة الصحيح، فهو يكفي إذا لم
يعارضه غيره، وهنا جاء معاذ رضي الله تعالى عنه بالتنصيص على هذه الأصناف
الأربعة من الخضروات.
ويذكرون بأن البيهقي رحمه الله قال: وإن كان هذا الأثر ضعيفاً فإنه قد أيد
بآثار أخرى عن السلف، وتقدم لنا قصة عثمان مع عامله في الطائف، وكذلك عمر
بن عبد العزيز، والخلاف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً.
فعلى هذا ينتهي الأمر في البحث على أن الإجماع على الزكاة في الأربعة
الأصناف، والخلاف فيما عدا ذلك، واتفق الأئمة الأربعة -دون النظر إلى
مخالفة الشافعي وأحمد في قول آخر - على أن كل مكيل مدخر قوت فهو لاحق بتلك
الأصناف الأربعة قياساً، وإذا كان هذا ما اتفق عليه الأئمة، فأعتقد أنه ليس
هناك إنسان يجرؤ على أن يرد أمراً اتفق عليه الأئمة الأربعة رحمهم الله،
ومهما قدم من أدلة أو نصوص معارضة فلن يأتي بجديد؛ لأن تلك النصوص قد مرت
على السلف، وعلموها وفهموها ودرسوها، وبعد هذا كله اتفقوا على إلحاق المكيل
والقوت والمدخر بالأصناف الأربعة.
وأما ما لم يكن قوتاً أولم يكن مكيلاً أو مدخراً، فهذا الخلاف فيه قوي،
والله تعالى أعلم.
خرص الزروع والثمار
عند بدو الصلاح
قال المؤلف: [وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله تعالى عنه قال: (أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث
فدعوا الربع) ، رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم] .
انتقل المؤلف رحمه الله إلى جزئية تابعة ومتممة لتشريع الصدقة في الحبوب
والثمار.
فقوله: (إذا خرصتم) ، يفيد أن هناك خرصاً قبل إخراج الزكاة، فيكون سبقه
تشريع للخرص ثم جاء ينبه لهم عن منهج الخرص كيف يكون.
إذاً: الخرص مشروع، وأقوى دليل في ذلك قضية خيبر، لما أرسل الرسول صلى الله
عليه وسلم ابن رواحة ليخرص عليهم النخيل.
والخرص في اللغة: التخمين، قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}
[الذاريات:10] ، لكن قال الإمام أبو حنيفة وداود بن علي: لا خرص لأن الخرص
ظن، والظن كما يقولون أصل الكذب، فقالوا: لا خرص، ولكن على صاحب النخل
والعنب إذا يبس وأصبح عنده التمر أو الزبيب أن يكيل الذي حصل عنده، ثم
يزكيه.
الحكمة من خرص
الثمار
وتوقيت الخرص قالوا: إذا بدا الصلاح في الثمرة، أما بعد الجفاف والكيل فلا
يصلح الخرص، لأنه إذا أمنت الآفة وصلحت الثمرة للأكل امتدت إليها يد
صاحبها، فقد يأخذ الثمرة رطبة ويبيع، ويأخذ ليأكل، ويأخذ ليهدي، فهنا لما
كان حق الفقراء في الثمرة بمثابة الشريك مع صاحبه: {وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] ، أي أن الفقراء شركاء
للأغنياء بحصة معلومة وهي العشر أو نصف العشر.
فما داموا شركاء فحافظوا على حصتهم، وكيف نحافظ عليها؟ أنتركها لهم يأكلون
ويهدون ويبيعون ويقبضون الأثمان؟ وهل نمنع أصحاب البساتين فنقول: لا تأكلوا
ولا تبيعوا ولا تعطوا أحداً؟ لا.
أيضاً كذلك.
إذاً: لا بد لصاحب النخيل والعنب أن يتصرف في الثمرة بشخصه أو بغيره.
كيفية الخرص وترك
الربع أو الثلث للمالك
إذاً الحل الأمثل هو الخرص عندما تبدو الثمرة، فيكون الخارص من طرف ولي
الأمر المسئول عن حق الفقراء؛ لأن الله كلف بها رسوله صلى الله عليه وسلم:
(خذ) وهذا الأمر تكليف له مع أنه لا حظ له فيها، فهي محرمة عليه وعلى آل
بيته، ولكن حفاظاً على حق المساكين وحفظاً لماء وجوههم حتى لا يذهبوا للغني
يقولون: أعطنا، فيقول لهم: ائتوني في وقت لاحق عندما نجذ.
فعالج الشرع ذلك بأن أوجب على ولي الأمر أن يأخذها قهراً على صاحبها: (من
أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت؛ وإلا أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات
ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، فإذا طابت الثمرة ذهب الخراص
-اثنان أو ثلاثة على حسب رأي الإمام- وتمشوا في البستان لينظروا عدد ما فيه
من النخل.
فإذا كان فيه مائة نخلة بدأنا بنخلة رقم واحد فقلنا مثلاً: هذه تحمل قنوان
والقنو أوقية أو كيلو أو كذا على حسب التقدير برؤية العين، فإذا جففت كم
سيكون منها تمراً؟ فمثلاً: سيكون منها عشرون صاعاً، فنكتب ذلك.
ثم النخلة الثانية الثالثة، إلى المائة، فمجموع ما يتوقع منه من تمر لو بقي
على تمامه عشرون وسقاً، فننظر: هل الثمرة على النخلة تبقى على تمامها أم
أنها سيذهب منها شيء؟ سيذهب، وجاء بيان ذلك في بعض النصوص: ما تسقطه الريح،
وما ينقره الطير، وما يأكله الضيف، وما تأكله الهوام والحيوانات التي تدخل
النخيل وتأكل مما سقط.
إذاً: هناك عوارض تعرض للثمرة المعلقة.
وصاحب البستان يريد أن يأكل فلا نمنعه من حقه لأجل المساكين، بل حقه هو
الأول، والضيف الذي يدخل عليه فلا نقول له: لا تعطه، فنعلمه البخل! وشر
خصلة في الإنسان هي البخل، بل نقول: أطعم وأكرم ضيفك إذاً: هناك عوامل تعرض
للثمرة التي على النخلة، ونحن خرصناها على تقدير أنها كاملة، فلو قدرنا
الصدقة على ما يوجد على أنها كاملة لأجحفنا بمالكها فيما له من حق التصرف
فيه، فلذلك قال: (دعوا الثلث) أي لأجل هذه العوارض.
فلو كانت مائة صاع، فإننا ننظر كم ثلث المائة بالتقريب والتقدير، فنقول:
احسبوها سبعين بدل المائة.
قال: (فإن لم تسقطوا الثلث فالربع) ، أي أن العامل مخير بين الثلث والربع،
أعتقد والله تعالى أعلم: بأن هذا يرجع إلى فطنة العامل الذي يخرص، فإذا كان
النخيل في جهة بعيدة من البلد قل الوارد عليه، وكذلك إذا كان الجو معتدلاً،
وكان عياله قلة، وضيفه قليلاً، وليس بمشهور عند الناس، فتكون الكلفة عليه
قليلة؛ فهذا يكفي أن نترك له الربع.
لكن إذا كان هناك بستان على قارعة الطريق، وصاحبه من أهل الوجاهة، وكل يوم
والباب لا يغلق، فهذا ضيف طالع، وهذا ضيف داخل، فهل هذا يستوي مع الأول؟
أعتقد أنهما لا يستويان، وأن القول هنا: الثلث أو الربع ليس للتخيير، وإن
كنت لم أجد من نبه على ذلك لكن هذا هو الواقع، فيسقط الثلث لمن كان طارقه
كثيراً، ويكون الربع لمن كان طارقه قليلاً.
وهذا هو الإرفاق والعدل، فلا نساوي بين رجل كثير الضيوف يمكن أن يأكلوا
عليه النصف، وبين رجل قليل الضيوف، وبعض الروايات: (خذوا النصف، وأعطوهم من
النصف وأعطونا النصف فإنهم يسرقون) ، أي: غصباً عنه سيأكل.
إذاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الذين يخرصون على الناس أن يدعوا
الثلث، فإن لم يدعوا الثلث فالربع، والظاهر أن هذا يترك الخيار فيه للعامل،
ولكن في نظري والله تعالى أعلم وأبرأ إلى الله من خطأ: أن ذلك ليس للتخيير
وإنما هو للتنويع، والتنويع يكون بحسب حال صاحب البستان وموقعه الاجتماعي،
فمن كان كثير الوارد والضيف والاستهلاك والعيال والعمال قلنا: يترك له
الثلث؛ لأن الاستهلاك كثير، ومن كان إنما يذهب عنه القليل فإنه يترك له
الربع، والله تعالى أعلم.
وهنا قالوا: الخرص أيضاً ليس لمجرد معرفة هذا الموجود، وأنه يأكل أو يكرم
ضيفه قالوا: بل يكون لصاحب الثمرة الخيار، فإن شاء أبقى الثمرة إلى أن يأتي
الجذاذ فيجذ، ويوضع في الجرين ويجفف ويبيعه تمراً، وإن شاء باعه رطبا
ًمبكراً في السوق يوماً بيوم ولو لم يبق في النخيل شيء.
فإذا قيل: فأين زكاة الأوسق نصف العشر؟ لما خرصنا عليه أصبح مديناً للفقراء
والمساكين بالمقدار الذي قيدناه عليه، ونحن قيدنا عليه سبعة أوسق صدقة،
لكنه باعها كلها رطباً في الصناديق، أو باعها كلها عنباً في الصناديق، ولم
يزبب كيلو ولا وسقاً ولا نصفاً.
لكن هذا خرصنا عليه مثلاً: وسقاً ونصف وسق من الزبيب، فليس عنده شيء، لأنه
قد باعه عنباً، فنقول: عليه أن يقدم للجهة التي تجمع الزكاة وتوزعها على
أصحابها، فيأخذ من السوق المقدار من التمر الذي سجل عليه، ويأخذ كذلك
المقدار من الزبيب الذي سجل عليه ويدفعه لأصاحب الحقوق في ماله من الفقراء
والمساكين إلى آخره.
إذاً: الخرص يعطي صاحب الثمرة الحرية في أن يستغلها رطباً ويحفظ الثمن،
ويلتزم بما ألزمه به الخارصون ويقدمه عيناً، إلا إذا أراد ولي الأمر أن
يستبدل بالأعيان نقداً، ويوزعه على الفقراء والمساكين، فهذا لا نعارض فيه.
أما إذا ترك الأمر لصاحب النخل والعنب فله أن يتصرف كيف يشاء، وعليه أن
يزكي هذه الثمار من تمر وعنب على قدر ما قدر عليه، فيشتريها من السوق من
الشيء الوسط الذي لو كان حاضراً عنده لأخذ من وسط المال، ويقدمه إلى
مستحقيه، والله تعالى أعلم.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [9]
اختلف العلماء في زكاة الحلي الذي تتخذه المرأة للزينة، ويكاد الخلاف أن
يكون متكافئاً لتكافؤ الأدلة، وقد بين الشيخ أدلة الطرفين، وأجوبة كل فريق
على الآخر، ثم بين الأفضل للمرء في ذلك.
أمر النبي صلى الله
عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه
وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال:
(أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ
زكاته زبيباً) رواه الخمسة وفيه انقطاع] .
هذا الأثر وإن كان فيه انقطاع إلا أنه عليه العمل، فيخرص العنب وتؤدى زكاته
زبيباً، كما يخرص الرطب وتؤدى زكاته تمراً، لكن يهمنا في هذا الأثر أن
العنب يخرص كما يخرص النخل.
فمن كان يعارض في خرص العنب يقول: لا يتأتى انضباط خرص العنب كانضباط خرص
النخل، يقول: لأن النخلة مكشوفة أمام الخارص وأمام الجميع، أما العنب فقد
يكون مختفياً بين الأوراق وقد يخفى على النظر، فلا يتمكن الخارص من رؤيته
كما يتمكن في النخلة.
ولكن كما جاء في هذا الأثر، وإن كان منقطعاً فقد يكفينا رأي من رواه،
فالذين رووه على انقطاعه يقولون به؛ فيكفينا هذا فقهاً، وأنها الطريقة التي
يمكن أن يساوى فيها العنب بالرطب.
فهذا النص في العنب: أنه يخرص كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً، ولماذا
لا تؤخذ عنباً؟ لأنه لا يدخر، فلو أعطينا للفقير خمسة صناديق عنباً، هل
سيأكلها كلها؟ فلو أكثر من أكلها فإنه سيؤذيه، وهل إذا أكل صندوق عنب يغنيه
عن لقمة عيش؟ فربما لا يغنيه، فالعنب ليس قوتاً ولا يدخر.
وهذه الفكرة هي التي عارضنا بها اقتراح بعض الأعضاء في مؤتمر ماليزيا
بتنفيذ مذهب أبي حنيفة رحمه الله في الخضروات، ولنسأل: ماذا سيصنع المسكين
إذا أخذ قليلاً من الطماطم، أو قليلاً من الباميا، أو قليلاً من الفلفل، أو
قليلاً من النعناع إلخ؟ فإذا قلنا: يضعها في الثلاجة، فالفقير ليس عنده
ثلاجة، ولو وضعها في الثلاجة فإلى متى؟ فسيأخذ منها كل يوم، فهل ستكون
قوتاً أم فاكهة؟ طبعاً ستكون فاكهة، والخضروات مهما كان فلها أجل، سواءً
كانت داخل الثلاجة أو خارجها.
إذاً: لا ينتفع بها بقدر ما يمكن أن يبيعها صاحبها، ويجمع القيمة ويأتي
بصدقة القيمة للمسكين فيتصرف فيها بما ينفعه.
وقد أوقف القرار بعد ذلك.
إذاً: انتهينا من موضوع زكاة ما تخرج الأرض، وكيفية زكاتها وهو الخرص.
ونحن قلنا بالزكاة في الشعير والبر، فهل يخرص وهو في سنبله عندما يشتد
الحب، أو يترك لصاحبه حتى يحصد ويصفى ويكال؟ هناك من يقول بخرص الحب أيضاً،
ولكن لماذا نخرصه؟ هل الريح تطيح به في الأرض؟ ليس هناك شيء يضيع منه
أبداً.
وهل يبيعه قبل أن يحصده؟ لا.
بخلاف العنب والرطب.
إذاً: الخرص محصور على النخل والعنب، والحب الذي هو متفق عليه من الشعير
والبر وما ألحقناه به لا دخل للخرص فيه، وإنما يترك لصاحبه حتى يحصده
ويصفيه ويكيله، فهناك يجب عليه أن يزكي ما حصل عنده إن وصل خمسة أوسق فما
فوق.
والله أعلم.
زكاة الحلي من الذهب
والفضة
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما:
(أن امرأةً أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها
مسكتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فألقتهما) رواه
الثلاثة وإسناده قوي، وصححه الحاكم من حديث عائشة] .
لما أنهى المصنف رحمه الله الكلام على زكاة بهيمة الأنعام، ثم ما يخرج من
الأرض، جاء إلى زكاة الحلي، وتقدم أيضاً زكاة النقدين: الذهب والفضة، وأنه
ليس فيما دون خمس أواقٍ من وَرِقٍ صدقة.
وتقدم البحث في هذه الأصناف، وفي أنواع بهيمة الأنعام ما اتفق عليه وما
اختلف فيه، ثم أنواع الزروع والثمار، وما اتفق عليه أيضاً وما اختلف فيه،
ثم زكاة النقدين: الذهب والفضة، وبقي معنا عروض التجارة، وسيأتي في سياق
هذا الحديث.
فلما كان الذهب والفضة مجمعاً على زكاتهما نقداً؛ لأن كلمة (أواق) جمع
(أوقية) ، والأوقية وحدة وزنية، ووحدة نقدية أيضاً، فهذا يتعلق بالفضة،
والدرهم وحدة وزنية، ووحدة عددية؛ فكان الحلي من جنس الذهب والفضة، ولكنه
اختلف فيه كما اختلف في بعض أفراد الأجناس المتقدمة.
فشرع المصنف يُفصِّل أو يسوق ما عنده من أدلة أو من أقوال العلماء فيما
يتعلق بالذهب والفضة إن كان مصوغاً حلياً تلبسه النساء، فأتى بالحديث: أن
امرأةً يمانية أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان
-والمسكة هي ما يسمى الآن بـ (الأسور) أو بـ (بالخلخال) في الرِجِل من ذهب-
فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم، سألها: أتؤدين زكاة هذا؟، فـ (هذا)
اسم إشارة راجع لما فيه الحديث وهو المسكتان.
وفي بعض الروايات: (غليظتان من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا الذهب الذي
في يد ابنتك؟ قالت: لا.
فقال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيام بسوارين من نار؟) .
أعتقد أن هذا أسلوب إثارة، أي: أتحبين أن تلبسي سوارين من نار يوم
القيامة؟! ومن يحب هذا؟! ومن يسر بهذا؟! ففيه الإثارة إلى معرفة الواقع
وبراءة الذمة حالاً، ولهذا كان الجواب أنها خلعتهما من يد ابنتها وألقت
بهما، وفي تتمة الرواية: (قالت: هما لله ورسوله) .
هذا الحديث كما ساق المصنف تصحيحه هو الأصل في مبحث زكاة الحلي، وهو الأصل
للاستدلال على أن الحلي المستعمل بالفعل فيه الزكاة؛ لأنه ملبوس في يد
البنت.
ثم ساق له المصنف شاهداً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت:
(اتخذتُ فتخات من وَرِق -الفتخات جمع فتخة وهي ما يسمى الآن بالخاتم- فنظر
إليهما صلى الله عليه وسلم وقال: ما هذا يا عائشة؟! قالت: صنعتهما أتزين لك
بهما) ؛ لأنه إذا كانت هذه الفتخات في الصندوق أو مرفوعة للحاجة لم تكن
زينة، إنما رأى بعينه وسأل وأجابت: (أتزين لك بهما، فقال: أتؤدين زكاتهما؟
قالت: لا.
قال: هما حَسبُكِ من النار) .
وسيأتي لـ أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها: (اتخذت أوضاحاً من ذهب) ،
الأوضاح من الوضاحة والظهور، والذهب له بريق ووضوح، ولو كان حتى من الفضة
فلها أيضاً وضوحٌ وبريق، والأوضاح كانت في شعرها.
تقول: (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ في وجهه الأثر)
أي: أنه ليس براضٍ؛ فهي صنعتهما من أجله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يستقبل
ذلك بابتسامة أو بشاشة، وإنما وجدت في وجهه الكراهية، ففطنت فقالت: (أكنزٌ
هو يا رسول الله؟!) (هو) ضمير راجع إلى الأوضاح التي في شعرها.
فلم يقل لها صلى الله عليه وسلم لا، أو نعم، وإنما قال: (إذا أديت زكاته
فليس بكنز) يعني: وما لم تؤد زكاته فإنه كنز، والحكم على أنه كنز أو ليس
بكنز إنما هو لمدلول الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ}
[التوبة:34] .
إذاً: فلما رأت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم فطنت فسألت: ولِمَ
الكراهية وإنما هي زينة تتحلى بها لزوجها.
إذاً: هذا القدر ليس فيه كراهية، ولكن الخوف من كونه دخل في معنى الكنز،
ويكون هناك الوعيد.
فلما سألت أجابها: (إن كنتِ تؤدين زكاتها فليس بكنز) .
هذه النصوص الثلاثة التي ساقها المصنف رحمه الله هي عمدة من يقول بوجوب
الزكاة في الذهب والفضة حلياً كان أو غير حلي، ويضاف إلى هذا أيضاً ما تقدم
في أول الباب من الحث على الصدقات والزكاة في جميع الأموال.
وتقدم لنا ذكر الحديث الطويل: (ما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان
يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ، تطؤه بخفافها وتعضه بأنيابها، فإذا انتهى
أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى مصيره إما إلى الجنة
وإما إلى النار) ، وكذلك ذكر صاحب البقر، ثم صاحب الغنم، ثم صاحب الذهب
فقال: (وما من صاحب ذهب -أتى باسم الجنس، ولم يفصِّل بين مصنوع حلي أو آنية
مستعمل أو غير مستعمل لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّح له
صفائح من نار، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره حتى يفصل بين الخلائق، ويرى
مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار) ، فأخذ البعض من هذا الحديث أن زكاة الذهب
واجبة مطلقاً، مع النصوص الأخرى المجمع عليها في غير ما هو حليٌ مستعمل.
والتفصيل في هذه المسألة يطول، وقد كتب والدنا الشيخ الأمين رحمة الله
تعالى علينا وعليه عند هذه الآية الكريمة: (َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فأطال
البحث فيها على عادته في أضواء البيان، فذكر أقوال الموجبين للزكاة، وأقوال
المانعين من الزكاة، وأخيراً قال: (والأولى الذي به براءة الذمة أن يزكى)
ولم يقل: يجب أو لا يجب.
وصنيع ابن رشد في البداية الذي هو مقرر في الجامعة ما تناول هذه المسألة
إلا في سبعة أسطر -أي: نصف الصفحة فقط- وذكر مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي
رحمهم الله، ولم يذكر مذهب أحمد لا بقليل ولا بكثير، فاخترت هذه المسألة
بالذات لأجعل فيها مبحثاً نموذجياً لدراسة بداية المجتهد، واستوفيت المذاهب
الأربعة بما فيها أحمد، وأخذت من كلام والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى
علينا وعليه، وما تيسر من المراجع الأخرى وجعلت فيه رسالة، وأخيراً طبعتها
بعنوان: (زكاة الحلي) .
خلاف العلماء في
زكاة الحلي
وإذا جئنا من بداية التشريع فسيطول علينا المشوار، وإذا أخذنا النتيجة
والنهاية وما استقر عليه الأمر عند الأئمة الأربعة نكون قد اختصرنا الطريق،
ولكي نجمل المسألة، ويسهل استيعابها نقول وبالله التوفيق: أجمع جميع
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والأئمة الأربعة وغيرهم ممن اندثرت
مذاهبهم، وكل عالمٍ في صدر الإسلام وفيما بعد إلى اليوم بأن الذهب والفضة
غير الحلي الملبوس فيه زكاة.
ثم جاء الخلاف فيما هو حليٌ ملبوس بالفعل.
إذاً: دخل في العموم السابق غير حلي النساء كأن يكون هناك أوانٍ من ذهب أو
فضة للزينة، أما للاستعمال فمحرم: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما
يجرجر في بطنه نار جهنم) ، فإذا كان اتخذها للزينة واتخذها للعوز ليبيعها
عندما يحتاج، فهذه أوانٍ وليست حلياً، أو اتخذت ملاعق من ذهب أو فناجين، كل
هذه داخلة في جنس الذهب غير حلي النساء.
فإذا جئنا إلى الحلي الذي فيه البحث: فإذا كان الحلي مكسراً غير صالحٍ
للزينة، فأجمع أيضاً الأئمة الأربعة على وجوب زكاته، وذكر ابن عبد البر في
الاستذكار بدون خلاف حتى عن مالك، كالتبر غير المصنوع المصوغ، والحلي
المكسر الذي لا يصلح للاستعمال، فيكون خارجاً عن الحلي المستعمل، فإذا كان
الذهب والفضة نقداً أو مصوغاً مباحاً، أو مصوغاً غير مباح مثل الأواني
للأكل، فبإجماع المسلمين أن فيه الزكاة، مع حرمة استعماله.
ولم يبق الخلاف إلا في الحلي المصاغ للنساء خاصة، فلو أن رجلاً اتخذ أساور
من ذهب ففيه الزكاة بالإجماع، سواء وضعها في الصندوق لوقت الحاجة يريد
بيعها، أو يريد لبسها؛ وإن لبسها كان حراماً وعليه وفيها الزكاة، وإن وضعها
في الصندوق كان قُنية، مثل الجنيه، فيجب عليه فيها الزكاة.
فلذلك ما كان مباح الاستعمال، ومحرم الاستعمال، ما لم يكن حلياً للنساء
فليس فيه خلاف.
وإذا كان صاحب الذهب قد رفعه على نية أن يصلحه ليُلبس، فيكون هذا في نطاق
الاستعمال، فهذا داخل في الحلي المستعمل.
ذكر مذهب الأئمة
الأربعة في زكاة الحلي
وعلى هذا المبدأ والأساس نأتي إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله، فنجد الخلاف
في هذه المسألة مستوي الطرفين، وعلى أشده نجد إماماً من الأئمة رحمهم الله
يقطع بالزكاة في الحلي المستعمل، لقوله: (في يد ابنتها مسكتان ... )
(أتؤدين زكاته؟) فهذا صريح.
ونجد إماماً آخر يقابله بقوله: لا زكاة فيما هو مستعمل.
ونجد واحداً من الأربعة ورد عنه روايتان: إحداهما أن فيه الزكاة، والأخرى
ليس فيه الزكاة.
ونجد الإمام الرابع له وجهان أو قولان، والخلاف عند الفقهاء في الفرق
بينهما قديمٌ وحديث؛ فالقديم فيه زكاة والجديد ليس فيه.
فهذا على سبيل الإجمال حتى نحصي الأقوال.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله أوجب الزكاة في الذهب والفضة مطلقاً، نقداً،
مصوغاً، تبراً، مستعملاً، مكسراً، بأي حالة من الحالات.
يقابله مالك رحمه الله فقال: لا زكاة في الحلي المستعمل المباح.
وهو ينصب على حلي المرأة الذي تستعمله، ويخرج عن ذلك حلي المرأة الذي لا
يستعمل؛ وحلي المرأة غير المباح الذي يلبسه الرجل، وآنية الأكل والشرب،
فهذا حليٌ غير مباح، فالحلي الغير المباح مزكىً عند مالك، والحلي المباح
والمستعمل بالفعل غير المعطل هو الذي يقول مالك: لا زكاة فيه.
وكلمة (حلي، مباح، مستعمل) منصبة على الذهب والفضة، أما إذا كان هناك لؤلؤ،
جواهر، ياقوت، فيروز، ماس، فهذه لا زكاة فيها بالإجماع، وإن تحلت بها
المرأة أو اقتناها الرجل.
أما الإمام الشافعي رحمه الله فعنده قولان: قولٌ قديم أنه يزكى، فيكون هذا
القول موافقاً لقول أبي حنيفة، وقولٌ جديد: أنه لا يزكى، وهذا القول موافق
لقول مالك.
فيذكر ابن عبد البر عن الشافعي في هذه المسألة أنه فعلاً في القديم يقول
بزكاته كما يقول أبو حنيفة، وينقل عنه: أنه لما ذهب إلى مصر قال: أستخير
الله في الحلي المستعمل، ثم اختار القول بعدم الزكاة، أي: أنه كان متردداً،
ولكن اختار عدم الزكاة.
نأتي إلى الإمام أحمد رحمه الله، فيذكر صاحب الإنصاف والمغني -وكل مراجع
الحنابلة المتوسعة- عن أحمد رحمه الله روايتين: روايةً نُقل عنه فيها: أنه
يزكى، وروايةً نُقل عنه فيها: أنه لا يزكى.
فنحن عندنا منهج: إذا وجدنا مسألة خلافية -وأعتقد أن هذا الخلاف معتدل أو
متساوٍ- فيهما قولان، أو روايتان، فخذ القول الذي يقول: تزكى مع من قال:
تزكى، والرواية دعها مع القول بالزكاة، فيكون عندنا: قولٌ ورواية وقولٌ في
مذهب، قولٌ في مذهب ورواية بعدم الوجوب، ومذهب وقولٌ ورواية في مذهبٍ على
مذهب الوجوب، فيكون الخلاف معتدل التوازن.
مناقشة أدلة العلماء
في زكاة الحلي
نستطيع أن نعتبر المسألة طرفين؛ طرف يقول بالوجوب، وطرف يقول بعدم الوجوب،
فالذين يقولون بالوجوب -بصرف النظر عن مسميات الأئمة: أدل وأوضح دليلٍ في
المسألة حديث المرأة مع ابنتها، فسألوا الآخرين: لماذا لم تقولوا بوجوب
الزكاة مع أن هذا الحديث صريح (أتؤدين.
أيسرك) ؟ قالوا: هذا ليس فيه دليل، إذاً بماذا تجيبون عليه؟ فنحن هنا الآن
نبدأ بهذا الدليل، وهو صريح صحيح لا لبس فيه، فسألنا الذين قالوا: لا زكاة
في الحلي، ما تقولون في هذا الحديث؟ قالوا: كما نقل البيهقي رحمه الله: كان
مجيء المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلامه معها عندما كان الذهب
محرماً بالكلية.
وقالوا: فعلاً قد كان الذهب في بادئ الأمر محرماً على الرجال والنساء، حتى
صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر في المدينة، وأخذ الذهب والحرير وقال:
(هذان حرامٌ على رجال أمتي، حلالٌ لنسائها) .
أقول وباستحياء: عندما كنتُ أدرس هذه المسألة في سبل السلام في الرياض
بكلية الشريعة كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يكتب
على هذه الآية في أضواء البيان، وجاءته الملازم من مصر لتصحيح الخطأ فيها،
وكان من عادته رحمه الله إذا تغدينا وجلسنا لشرب الشاي أن يأخذ يصحح في
الملازم، ولتلهفي أو تطلعي إلى مبحثٍ في هذه المسألة أخذت الملازم وقرأت،
فذكر جوابهم على ذلك، فلما قرأتها أردت أن أسأله.
والشيخ الله يغفر له كان يفتح لي صدره قليلاً، وأنا كنت طويل اللسان
قليلاً، فقلت: يا شيخ! هذه المسألة يحوك في صدري شيء منها لا أستطيع أن
أعبر عنه، قال: ما هو؟ قلت: أتساءل لاستيضاح جواب هؤلاء: بأن ذلك كان وقت
تحريم الذهب مطلقاً.
أترى يا شيخ! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى استعمال المحرم، ويترك
الإنكار عليه ويذهب يسأل عن الزكاة، أم أن المتبادر أن ينكر على استعمال
المحرم أولاً، ثم يأتي إلى موضوع الزكاة؟ فقال: أعد عليَّ مقالتك، فأعدتها
عليه.
فقال: أتدري أن ما قلتَه صحيح، ولكنني رأيت فلاناً وفلاناً وفلاناً وسلسل
القول إلى البيهقي، فسرت معهم، ولئن أحياني الله -وهذه أمانة ألقيها- إلى
إعادة الطبع لأصححن ذلك، أما الآن فإن الكتاب قد طبع، وهذا لوضع الصواب
وتصحيح الخطأ فلا يمكن تصحيح عدة آلاف قد طبعت، وهذه أمانة ألقيها للجميع.
إذاً: استدلالهم أو ردهم الحديث بأن ذلك كان حين حرم الذهب أو كان الذهب
محرماً للاستعمال مطلقاً فيه نظر.
نأتي إلى حديث فتخات عائشة وأوضاح أم سلمة، ماذا يقال فيها؟ قالوا: هذا لا
يستقيم، لماذا؟ قالوا: الفتخات هي خواتم، وليس معقولاً أنها ستلبس خواتم
قدر مائتي درهم، فهذا ضعيف وأوضاح أم سلمة كذلك، ليس معقولاً أن تلبس
أوضاحاً قدر عشرين مثقالاً.
لكن أجاب عن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه: بأن تلك الفتخات، أو هذه الخواتيم
أو الأوضاح تضم إلى جنسها فيكمل به النصاب، فإذا كان عندها من الأوضاح ذهب
وفضة وكل منهما ناقص النصاب فإنه يضم بعضه إلى بعض ويزكى.
إذاً: هي ليست زكاةً في عينها الموجودة بالفعل، ولكن في جنسها وهو الحلي
المستعمل.
وهناك أثرٌ عن عائشة يغاير ذلك -ساقه مالك في الموطأ- أنها كانت تلي
أيتاماً ولهم حلي فلم تؤد زكاته.
وعن عبد الله بن عمر أيضاً في الموطأ أنه كان يحلي بناته وجواريه ولم يخرج
الزكاة عن حليهن، ويذكر ابن عبد البر -ولأول مرة أقرؤها-: كان ابن عمر يزوج
بناته بأربعة آلاف دينار، ولم يخرج الزكاة، ويحليهن بها، أي: بهذا المبلغ
ولم يؤدِ زكاته.
ونأتي إلى الرواية الأخرى عن ابن عمر أنه ممن يقول بزكاة الحلي، فأجابوا عن
ذلك: بأن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تلي أيتاماً، فلعلها كانت تترك
زكاة أموال اليتيم حتى يبلغ، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولكن
الرواية الأخرى في قضية الفتخات فيها: (أتؤدين زكاته؟) ، فيكون ورد عن
عائشة روايتان: رواية في الفتخات، ورواية في الأيتام، فأي الروايتين أصرح
في القضية؟ الجواب: رواية فتخات يدها، فبعضهم يرجح تلك الرواية وبعضهم يرجح
هذه.
نأتي أيضاً إلى قول جابر رضي الله تعالى عنه: (ليس في الحلي زكاة) وهذا أخذ
به مالك، ولكن المذكور عن جابر رضي الله تعالى عنه في كتاب الأموال: أن
جابراً سُئل عن حلية السيف بالذهب؟ الحلية، (ال) هنا هل هي للعهد فيكون
المراد حلية السيف، أم (ال) للجنس فيكون المراد مطلق حلية على صفةٍ عامة؟
ونجد البيهقي في أثر جابر هذا يقول: إنه منقطع أو إنه معضل، فمن احتج به
كان داخلاً فيمن يغرر بدينه، فلا يصح.
القول بزكاة الحلي
أبرأ للذمة
وفي نهاية المطاف نجد هذه الآثار المتقاربة، والمتضادة، والمتقابلة؛ تدور
بين الجواز والمنع، ونأتي إلى كتب الحديث أو علماء الحديث فنجد كل من بحث
هذه المسألة يذكر الخلاف ويجبن أن يحكم جازماً ويقول: الأولى أن تؤدى
الزكاة براءةً للذمة، وهذا أيضاً ما قاله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله
تعالى علينا وعليه.
والعجيب أن ابن عبد البر في نهاية المطاف من بحث هذه المسألة يقول:
والخلاصة: أن من أوجب الزكاة في الحلي المستعمل، وفي الإبل العوامل فقد صح
قياسه، ومن أبطل الزكاة في الحلي المستعمل، وأبطلها في الإبل العوامل اضطرب
قياسه، ومن أوجب الزكاة في الإبل العوامل، ومنع الزكاة في الحلي المستعمل
فقد اضطرب قياسه، وهذا القول لـ مالك رحمه الله.
والمأثور عن مالك رحمه الله في زكاة بهيمة الأنعام أنه لا يشترط السوم، ولا
يشترط أن تكون غير عوامل، مع أن الأئمة الثلاثة رحمهم الله على أن الإبل
العوامل لا تزكى، وهو يقول: هي إبلٌ وله فيها زيادة نفعٍ وهو عملها.
فمثلاً: الإبل تستعمل للحرث، وتستعمل لنقل البضائع، وكانت تسمى الإبل:
القطار، وإلى الستينات كانت السيارات نادرة، حتى (الجاز) يحمل في التنك من
ينبع على ظهور الإبل، وكذلك الحبوب وكل البضائع، فيأتي قطار الإبل فيه
حوالي خمسين أو ستين بعيراً مربوطة ومقطورة بعضها في بعض، فتدخل من باب
العنبرية وتأتي إلى المناخة، ثم يأتي التجار فيأخذون بضاعتهم.
فهذه إبل عوامل، فهي عند مالك تزكى؛ وهنا ابن عبد البر لم يقل: مالك أو
عمر، وإنما قال: (ومن أوجب الزكاة في الإبل العوامل، ومنعها في الحلي
المستعمل فقد اضطرب قياسه) .
إذاً: هذا خلاصة ما يمكن أن يأتي به إنسان في عجالة مثل هذا الوقت، ويلقي
الضوء على الخلاف الموجود، وجوانب الاستدلال لكلا الطرفين.
وفي النهاية نقول بما قال السلف رضوان الله تعالى عليهم: بأن الأحوط في ذلك
إنما هو الزكاة.
كيفية إخراج زكاة
الحلي والذهب المعروض للتجارة
مسألة: كيف نزكي الحلي؟ قالوا: إنها في تقدير نصابها تقدر بالوزن، هل بلغت
وزن العشرين مثقالاً أم لا؟ وفي زكاتها تقدر بالقيمة، وكذلك ما أعد للتجارة
من الذهب والفضة، فهي عند التاجر يقدر نصابها بالوزن، وتخرج زكاتها بقيمتها
في السوق؛ لأنها عروض تجارة، والنصاب قدره مائة جرام، والتاجر عنده مئات
الآلاف، فينظر كم قيمتها تجارياً وكم تباع اليوم، ثم تزكى قيمتها على أنها
عروض تجارة.
وأجمعوا على أن حلي الذهب والفضة إذا لابسه جواهر أخرى: فصوص من الياقوت أو
الفيروز أو الزمرد أو الماس، فتقدر الجواهر النفيسة على حدة، ويقدر وزن
الذهب على حدة؛ حتى إذا استكمل وزنه نصاباً زكي، ويعمل في ذلك بالتحري؛
فإنه يزكى على أنه حلي مستعمل على قول من يقول بزكاته.
وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [10]
لقد كثرت أنواع التجارات في عصرنا الحاصر، وتنوعت طرقها وأساليبها، وتداخلت
معاملاتها، فيحتاج المرء إلى فقه صحيح حتى يعرف ما تجب فيه الزكاة وما لا
تجب، وكذلك استحدثت المصانع الاستثمارية والاستهلاكية، والتي تحتاج إل بيان
ضوابط الزكاة فيها.
زكاة عروض التجارة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه
وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أنها كانت
تلبس أوضاحاً من ذهب، فقالت: يا رسول الله! أكنز هو؟ قال: إذا أديتِ زكاته
فليس بكنز) رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم] .
فمفهوم: (إذا أديتِ زكاته فليس بكنز) أن ما لم يؤد زكاته فهو كنز، ولما سئل
ابن عباس رضي الله تعالى عنه -وهو من الذين يقولون بزكاة الحلي المستعمل-:
(ما هو الكنز يا ابن عباس؟! قال: ما لم يؤد زكاته ولو على وجه الأرض، وما
أديت زكاته فليس بكنزٍ ولو كان مدفوناً تحت الأرض) .
إذاً الكنز في اللغة: المكنوز الموجود دفيناً في الأرض.
وفي الشرع: ما أديت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤد زكاته فهو كنز.
قال المصنف رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع) رواه أبو
داود، وإسناده لين] .
بعدما أنهى المصنف رحمه الله تعالى بيان زكاة الأموال الزكوية المجمع عليها
جاء بهذا النوع من أنواع الأموال الزكوية، وإن كان انتهى الخلاف فيها، وصار
الأمر فيها إلى الإجماع، لكنه أخرها تبعاً لما قبلها، وتقدم البيان في زكاة
بهيمة الأنعام، وفي الذهب والفضة، وفيما تنبته الأرض من حبوب وثمار، على ما
فيه خلاف واتفاق.
وهنا ما يسمى عند الجمهور بزكاة عروض التجارة، فيأتي المؤلف رحمه الله بهذا
الحديث عن سمرة بن جندب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج
الصدقة مما نعده للبيع) والذي يعد للبيع هو عروض التجارة، وفرق بين ما
يكتسبه الإنسان ويقتنيه لشخصه، وبين ما يقتنيه ليتاجر فيه وينتظر الربح،
وعروض التجارة كان يوجد فيها خلاف سابق، وقد انتهى الخلاف وحكى ابن المنذر
الإجماع على وجوب الزكاة فيها.
الأدلة على زكاة
عروض التجارة
ومما يستدل به على وجوب زكاة عروض التجارة قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة:267] فالطيب: هو الحلال،
والخبيث: هو الحرام.
والآخرون يقولون: الطيب: الجيد الذي ترتضيه النفس، والخبيث: هو الرديء الذي
لا تستطيبه النفس.
وذكروا في أسباب نزولها: أن الأنصار كانوا في أول الأمر إذا طابت الثمار
يأتي الواحد منهم بالقنو ويعلقه لأهل الصفة يأكلون منه، وكان عامة الناس
يأتون بالجيد من أنواع التمر أو الرطب، وكان بعض الناس -كما يقولون- يرائي
الآخرين فيأتي بالحشف، وبالنوع الذي ليس مقبولاً أو محبوباً عند الناس،
فأنزل الله هذه الآية.
وقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ}
[البقرة:267] قالوا: الحرام، وقيل: إنه رديء التمر.
وقوله سبحانه: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]
وطيبات الكسب قالوا: عطف عليه: {ممَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}
[البقرة:267] وهذا هو زكاة المزروعات أو ما تخرجه الأرض من حبوب وثمار، أو
من نبات على التعميم، و (مَا كَسَبْتُمْ) يختص بالتجارة؛ لأنه العمل الذي
يكتسب به الإنسان منفرداً بخلاف ما تخرج الأرض؛ لأن إخراج الأرض فيه جانبٌ
آخر: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة:267] ، فهناك
عامل آخر وهو أن المولى سبحانه وتعالى هو الذي يعطي: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}
[الواقعة:63-64] فالله سبحانه وتعالى يعطي العبد من خيرات الأرض.
وليس ما تنبته الأرض خالص عمل الإنسان وحده، بخلاف التجارة، وإن كان الكل
من عند الله، والربح رزق من الله، والتوفيق في التجارة من الله، لكن السبب
المباشر أو اليد المباشرة في التجارة هي الإنسان، والشيء المباشر في الأرض
هو الإنسان ومن ورائه القادر سبحانه وتعالى على إنبات النبات وعلى إتيان
النبات بالحب، وكذلك إنبات الشجر، وإتيان الشجر بالثمر، فهذا فيه صنع
المولى سبحانه وتعالى.
إذاً: (ما أخرج الله من الأرض) قسم، و (طيبات ما كسبتم) قسم، فيكون (طيبات
ما كسبتم) المراد منه التجارة، والصناعة، ومن هذا القبيل، وقد انتهى الأمر
عند العلماء وأصبح كما قال ابن المنذر: إجماع المسلمين على وجوب الزكاة في
عروض التجارة.
ومن العمومات أيضاً قوله سبحانه مخاطباً سيد الخلق صلى الله عليه وسلم:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ، والأموال جمع مال،
وأبرز أنواع الأموال التجارة، وهي كما يقال: العنصر الفعال في تنمية
الأموال من حيث هي، فـ (مِنْ أَمْوَالِهِمْ) تشمل كل الممتلكات بما فيها
مبدئياً وأولياً أمر التجارة.
وجاء عنه رضي الله تعالى عنه: أنه لقي فلاناً، فقال: (يا فلان! أدِ زكاة
مالك، قال: ما عندي إلا جعاب أذن، قال: قدِّرها وأد زكاتها) ، أي: كان
الرجل يحمل جلوداً، فقال: أد زكاة مالك، قال: ما عندي إلا هذه الجلود
أعملها حقائب وأبيعها، قال: أدِ زكاتها.
وهناك أيضاً آثار ومنها: (كان يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نؤدي زكاة
البز) ، والبز: بالباء والزاي نوع من القماش بين الحرير والقطن، أو مختلط
منهما، وبعض العلماء يقولون: إنما هي محرفة عن البر، والبر مما تنبت الأرض،
وليس داخلاً في عروض التجارة، فأجيب عن ذلك: إن التحريف بعيد؛ لأن الأحاديث
إنما تروى بالسماع ولا تروى بالكتابة، وما كانت الكتابة إلا متأخرة فيما
بعد، وكانت كتابة الحديث في أول الأمر نادرة، فكانت تلقى الأحاديث سماعاً،
وفرقٌ بين سماع البر (بالباء والراء) والبز (بالباء والزاي) .
ما أعد للقنية فلا
زكاة فيه، وما أعد للتجارة ففيه الزكاة ولو عقاراً
وأجمعوا على أن ما اشتري للقنية ولو كان كثيراً فلا زكاة فيه، فمثلاً:
إنسان اشترى مائة كيس ووضعها في البيت، ولديه أولاد وعوائل يأخذون منها
السنة والسنتين، فلا زكاة في هذه، وإن كان أخذ عشرة أكياس ووضعها في دكان
من أجل أن يبيع فيها ويشتري بأثمانها غيرها، يقصد بذلك الربح والبيع
والشراء فإن فيها الزكاة.
وأجمعوا على أن كل ما اتخذ للتبادل التجاري بقصد النماء وهو الربح وإن
احتمل الخسارة أنه زكوي، أي: من عروض التجارة، سواء كان ذلك من الأراضي
البيضاء كأن يتاجر مثلاً في عقار مخطط، فيشتري قطعتين أو ثلاثاً من أجل أن
يبيعها فيما بعد عندما ينتهي الحراج، وتنتهي القطع الموجودة وتبدأ الرغبات،
فيبيع بما فيه ربح، أو كان من عمائر، كأن اشترى عمارة لا ليسكنها ولا
ليؤجرها، ولكن وجدها رخيصة وعلم بأن العمائر والعقار سترتفع أثمانها فاشترى
عمارة أو عمائر من أجل أن يبيعها، وسواء كان المالك شخصاً واحداً أو كانوا
جماعة اشتركوا في الأرض أو في العمارة؛ ففيه الزكاة.
أما إذا اشترى الأرض لنفسه؛ أو ليعطي فيما بعد كل واحد من أولاده قطعة، أو
تركها للزمن، حتى إذا احتاج باعها أو عمرها فهذه التي للقنية وللتعمير لا
زكاة فيها، والتي للتجارة فيها الزكاة، وإذا اشترى العمارة لا للبيع ولا
للشراء، ولكن للاستثمار، كأن يؤجر شققاً ويأخذ أجرتها، وليس عنده نية بيع
العمارة بذاتها، ومن بعده يرثه أولاده ويستفيدون من إيجار شققها كمورد رزق
لهم، فهذه لا زكاة فيها، وإنما ينظر إلى الأجرة التي تأتيه على حسب رصد
البلد، إن كانت تؤخذ الأجرة في أول السنة، أو تؤخذ في آخر السنة، فمطلق
أجرة العمارة أو أجرة الأرض، تدخل في الكسب وتكون من نوع زكاة الأموال غير
التجارية.
إذاً: الأعيان التجارية سواء كانت أرضاً بيضاء أو عمائر، أو سيارات، أو
بواخر، أو طائرات، أو من المواد الغذائية، من الملح إلى العسل، كل ذلك إذا
أخذه ليبيع ويشتري فإنه عروض تجارة، فلو اتخذ غنماً للبيع والشراء، كهؤلاء
الذين يتاجرون بها من خارج المملكة، الذين لا يأتون بها للقنية والحليب
والنسل والزيادة، وإنما يأتون بها ليكتسبون بأثمانها، فهذه عروض تجارة، فلا
تزكى على عدد الأربعين شاة على أنها بهيمة أنعام بشرط السوم وحولان الحول،
بل تزكى على أنها عروض تجارة فتزكى قيمتها، لأنها ليست مقصورة للقنية
والنماء والنسل، ولكنها جلبت لتكون عروض تجارة، وكما تقدم أنه لا ثنائية في
الزكاة، فلا يؤخذ منها الزكاة باعتبارين: اعتبار القنية، واعتبار التجارة.
وكذلك الإبل والبقر إذا جلبها ليبيعها فإنها تعتبر عروض تجارة، فلا تزكى
زكاة بهيمة الأنعام، حتى قالوا: لو تاجر في التراب، وقد يكون التراب موضع
بيع وشراء، وقد يصنع تراباً مثل الإسمنت، والجبس، والجص؛ فهذا أيضاً إذا عد
للتجارة، كأن اتخذ المصنع واكتسب من ورائه، فهذه عروض تجارة.
إذاً: عروض التجارة بدون استثناء كل ما أعد للبيع والشراء بقصد الربح.
أقسام عروض التجارة
وهنا قبل الدخول في التفصيل يعتبر العلماء عروض التجارة بالنسبة لصاحبها
-صاحب عروض التجارة- على قسمين: تاجرٌ مدير، وتاجرٌ محتكر، وفرق بين المدير
والمحتكر، والمحتكر على قسمين: محتكرٌ خاطئ ومحتكر مأجور.
التاجر المدير
فالمدير هو الذي يبيع السلغ يومياً سواء كان بالجملة أو التجزئة، فالمستودع
مفتوح يبيع منه بالجملة، أو المعرض والدكان مفتوح يبيع بالتجزئة، بالكيلو،
بالحبة، بالدرزن، فهذا كله يسمى مديراً؛ لأن عروض التجارة عنده ليست واقفة
بل متحركة، فيبيع هذه السلعة ويشتري بثمنها سلعةً أخرى، مثل الدولاب الذي
يدور بحركةٍ دائمة.
فهذا النوع من التجار كيف يزكي ما بيده إذا اكتسب ما يساوي النصاب، لأنه
يشترط في زكاة عروض التجارة ملك النصاب حولان الحول، فإذا كان هذا التاجر
المدير امتلك ما قيمته نصاب الذهب والفضة، وهو عشرون مثقالاً، أي: أحد عشر
جنيهاً سعودياً، أو مائتا درهم فضة، أي: ستة وخمسون ريالاً فضة أو ما
يعادلها، وحال عليها الحول في يده وهو يدير فيها، نظرنا في نهاية الحول كم
يوجد عنده من عروض التجارة، مقدراً موجوداً في المحل من كل صنف، ولا ننظر
إلى أعيان الأصناف.
فمثلاً: بقالة فيها السكر والشاي والكبريت والملح والصابون.
إلخ، فكل ما في البقالة مما يديره للبيع والشراء يقدر، ثم ننظر مجموع
قيمته، المجموع ولا ينظر إلى قيمة الشراء ولا إلى تقديرها أو تقييمها عندما
اشتريت، بل ينظر لو لو أراد أن يبيعها الآن بمجموعها فبالمقدار الذي تقدر
به في نهاية الحول يزكيه.
فإذا بدأت تجارة المدير بعشرة آلاف فإنها قد تجاوزت النصاب، ولو كانت نقداً
لوجبت زكاتها، فإذاً: نحسب الحول من أول يوم بدأت فيه التجارة إلى أن يحول
عليها الحول، فعند نهاية الحول نفترض أنها صارت عشرين ألفاً، إذاً نزكي
العشرين الألف الآن، فهذه هي زكاة عروض التجارة التي يديرها صاحبها.
وسواء باع بالجملة أو التجزئة فالكل فيه زكاة.
التاجر المحتكر
القسم الثاني من أصحاب عروض التجارة: المحتكر.
والاحتكار هو الجمع، فحكرها بمعنى: جمعها، وهو الذي يشتري السلع لا ليبيعها
ولا ليعرضها للبيع يوم أن اشتراها أو فيما بعد، وإنما يشتري السلعة ويخزنها
وينتظر بها مناسباتها، أي: مناسبة ارتفاع السعر في السوق، فمثلاً: التمر في
المدينة من رأس المال الموجود، ومن أهم إنتاجها، فيأتي عند الجذاذ ويكون
الصاع رخيصاً، فيجمع ويوضع في المخازن، فلا يباع حتى تنتهي فترة الصيف،
ويبدأ الشتاء فيحتاج الناس التمر للتدفئة والتغذية، فيبدأ يبيعها، فهو
ينتظر الموسم حتى يأتي الحاج؛ لأنه أربح له وأكثر بيعاً، فيحبسها في
المستودع، ثم يبدأ بالبيع في الموسم، سواء باع جملة أو تجزئة.
إذاً: استمر وجود السلع في المخزن خمسة أو ستة أشهر فيكون قد احتكرها، ثم
بدأ يتعامل ويبيع بالجملة، أو بدأ هو بنفسه يبيع بالتجزئة، بأكثر أو بأقل،
فهذا يسمى محتكراً.
والمحتكر إن كان يجمع السلعة لا ليبيعها عند الموسم، ولكن عندما يصبح الناس
بحاجة إليها، فإذا أمسكها حتى أصبح للناس فيها حاجة، وضمن بها فلم يخرجها،
واشتدت حاجة الناس إليها وكانت السلعة من الأشياء الضرورية كمواد الغذاء أو
الألبسة، أو ما هو ضروري لحياة الناس، كأن اختزن الدقيق، أو السمن، أو
التمر، أو الأرز، والسوق ماشٍ وهو منتظر حتى يشح الصنف في البلد، يريد أن
يكون هو صاحب الامتياز، والمتحكم في السوق، فيأتي يتحكم بأسعار السلعة في
السوق على ما يشاء.
ففي هذه الحالة يثبت عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المحتكر خاطئ) ،
والخاطئ غير المخطئ، فالمخطئ الذي لم يتعمد الذنب، ولكن الخاطئ هو المتعمد
قال تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] ، (الخاطئون)
ولم يقل: (المخطئون) ، فهذا المحتكر آثم؛ لأنه يتحكم في حاجيات الناس عن
قصد، ففي هذه الحالة يتفق العلماء على أن لولي الأمر أن يتدخل بإلزامه
بإخراج السلعة، ويبيع بما لا ضرر فيه ولا ضرار.
فلو كانت معروضة فهو أمرٌ طبيعي، فيسعر ويحدد له جزءاً من الربح، وهذا ما
يسمى بالتسعير، فحينئذٍ يكون التسعير واجباً وجائزاً على حسب رأي ولي
الأمر، وشدة حاجة الناس إلى ذلك، كما قالوا في امتناع أصحاب الأعمال
الضرورية للأمة؛ فإن ولي الأمر يتدخل ويلزمهم بالعمل حتى لا يتحكموا في
حاجة الناس كما ذكر ابن تيمية رحمه الله.
فمثلاً كان الماء في السابق لا يأتي للبيوت إلا عن طريق السقاء يحمله على
كتفه ويدخله البيت، والخبز الآن في الأفران، والبريد الآن لمصالح الناس،
والكهرباء، والسباكة، فهذه حاجات متواصلة، فمثلاً قائد السيارات الأجرة في
الخطوط الطويلة، لو أن طائفة من هؤلاء امتنعوا عن العمل من أجل مصلحة خاصة،
نظر ولي الأمر في أمرهم، وفي شكايتهم؛ فإن كانت عليهم مظلمة رفعها، وإن لم
تكن مظلمة وأرادوا تحكماً ألزمهم بالعمل إجبارياً؛ حتى لا تتعطل مصالح
الناس، وعلى مبدأ: (لا ضرر ولا ضرار) .
كيفية زكاة تجارة
التاجر المحتكر
نأتي إلى هذا التاجر المحتكر، كيف يزكي تجارته؟ فلم يبع ولم يشترِ، وبضاعته
مخزونة، فماذا يفعل؟ يقول الجمهور كـ أبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله:
عليه أن يقدر ما عنده من عروضِ احتكرها في نهاية الحول ويخرج زكاتها، فإذا
جاء حولٌ آخر ولم يبعها قاصداً للاحتكار، فإنه يقدرها مرةً أخرى ويزكي،
وهكذا ما دامت موجودة وهو ممتنع عن إخراجها لأيدي الناس فإنه يزكيها كل
سنة.
وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.
والإمام مالك رحمه الله يقول: هذا المحتكر -على أساس أنه ليس بخاطئ- الذي
أمسكها وليس بالناس الحاجة الضرورية إلى ما بيده، ليس متعمداً إضرار الناس،
فما دامت السلعة متوفرة في السوق يخرجها المحتكرون كرهاً أو رضاً، اضطر إلى
القيمة أو قنع بالسعر الموجود، وبقي بعض الأشخاص محتكراً، فإنه ينتظر حتى
ينتهي هؤلاء، فما دام لا يدخل في نطاق الخاطئ باحتكاره، حتى يقول بعض
العلماء: قد يؤجر في ذلك؛ لأنه حفظ للناس السلعة يخرجها عندما يحتاجونها،
وحينما يحتاجها السوق، فليس متعمداً التحكم فيهم.
إذاً: هذا الشخص إذا حال الحول على عروض تجارته، هل يقدرها ويزكيها؟
فالإمام مالك يقول: المحتكر له حقٌ شرعي في أن يكتنز هذه السلعة، فلا
يزكيها إلا إذا باعها.
فمثلاً: يكون السعر في السوق منخفضاً، وهو جمعها في وقت الموسم بألف، لكن
ورد من خارج البلد من نفس السلعة الكثير، وأصبح ذو ألف يساوي خمسمائة،
فانتظر حتى يتوقف الوارد من الخارج ويعتدل السوق ثم باع، فهذا ليس متحكراً
خاطئاً، وإنما ينتظر بسلعته السوق النافقة التي يحصل فيها على رزق؛ فهذا
الشخص لا يلزمه مالك أن يقدر في نهاية كل حول ويخرج الزكاة، بل يقول: ينتظر
الحول بالقيمة؛ لأنه انتظر حولاً وأحوالاً وهي عروض، فالزكاة واجبة فيها من
أول، لكن لا نلزمه لأنه لم يبعها، ولو قدر أننا ألزمناه وانخفضت السلعة
وكانت أنقص مما قدرها عندما زكاها، فنكون ألزمناه بزكاتها وهو لا يملك
الألف.
فـ مالك رحمه الله يعتبر في ذلك نفاذ السلعة، وهذا في الواقع قد ينفع بعض
الناس؛ لأننا جربنا في المدينة وسمعنا أن بعض الناس كان هناك ما يسمونه
(طفرة) في الأراضي، وكانت تقع صفقات في المجلس الواحد للقطعة الواحدة أو
للمربع الواحد أو للأرض الكاملة، وتتضاعف القيمة، فهذا إذا اشترى في هذه
الطفرة والسعر مرتفع، ثم وقف وانتبه الناس وبدأ السعر ينخفض، ولم يعد هناك
سوقٌ نافقة، وأصبح يدل بها عند الناس فلا يجد من يشتري، فعند ذلك لو
ألزمناه أن يقدرها في كل حول، ومكثت خمس أو عشر سنين، نقول: في تلك العشر
السنوات التي نزلت فيها قيمة الأرض قد أخذنا منه زكاةً عليها يمكن أن تقارب
قيمتها أو نصف القيمة.
فـ مالك يقول: المتحكر غير الخاطئ والذي ينتظر السعر المناسب فإنه لا يزكي
عروض تجارته التي احتكرها إلا إذا باعها.
زكاة الدين
وهذه القاعدة عند مالك تطرد في الدين، فلو كان لإنسان دينٌ عند الناس، فجاء
الحول على تلك الديون، فالجمهور يقولون: عليه أن يحسب هذا الدين الذي له
عند الناس ويزكيه فهو ملكه، وليس على المدين أن يخرج زكاة الدين الذي
لغيره، وإلا فسيكون رباً.
فإذا كان الدائن له أموال بأيدي الناس، فالأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي
وأحمد رحمهم الله قالوا: يقدر الدين ويضمه إلى ما بيده وفي صندوقه ويزكي عن
الجميع.
فـ مالك رحمه الله فصَّل في الدين، فقال: زكاة الدين بحسب المدين وحالته،
والمدين عند مالك موسر قادر، أو معسرٌ عاجز، أو مماطل.
قال: فالدين إذا كان على موسر قادر غير مماطلٍ بحيث لو أتاه في أي ساعة
أعطاه ماله؛ فهذا الدين يعتبر مضمون السداد وكأنه في يد الدائن، وذلك كما
في الودائع المصرفية والبنكية، حيث يمكن أن تذهب إلى المصرف أو البنك وتطلب
طلبك من رصيدك فيعطيك في الحال؛ قال: هذا النوع من الدين عليه أن يزكيه في
نهاية كل حول؛ لأنه في متناول اليد.
أما الدين الذي ليس في متناول اليد، وصاحبه معسر ليس عنده، أو موسر مماطل،
أو موسر ولكن لا يستطيع أن يستدعيه عن طريق السلطة، لأنه هو السلطة بنفسها،
فلا يجرؤ على شكايته أو رفع دعوى عليه في المحكمة، أي: لا يستطيع أن يأخذ
حقه منه، فهذا يسميه مالك دينٌ ضمار، أي: لا يستطيع أن يصل إليه، ولا
يستطيع أن يستثمره، بخلاف المضمون، فإنه ولو لم يستثمره فهو الذي كف يده
عنه، كأمانات في البنوك أو في المصارف فإنه لا أحد يمنعك أن تأخذها
وتشغلها، لكن أنت بنفسك آثرت أن تكون أمانة بدلاً من أن تعرضها للتجارة،
فإذا كان المال مضمون الدفع فكأنه في يدك، أو كأنك وضعته في صندوقك، أو
كأنك دفنته في الأرض، فهو مالك وتحت يدك، فعليك أن تزكيه في نهاية كل حول.
أما إذا كان دينٌ لك في يد الغير وهذا الغير مماطل، أو ليس عنده سداد، أو
لا تستطيع عن طريق السلطة أن تأخذ حقك منه، فحينئذٍ في هذه الحالة يقول
الجمهور: يقدره في نهاية كل حول ويزكيه لأنه ملكه، ومالك يقول: هذا النوع
من الدين لا يزكى إلا إذا حصل في اليد، وكلما قبض من هذا الدين شيئاً زكاه
في وقته، سواءً استلم في اليوم نصاباً أو أقل من النصاب، ما دام أن مجموع
القرض في الأصل نصاب، فإذا كان مجموع القرض ألفاً أو ألفين أو عشرة آلاف
وأصحابها معسرون، وبدأ شخص اليوم فأدى خمسة، وآخر أدى عشرة، وآخر أدى سبعة
بعد الحول الأول، فعليه أن يزكي كل ما وصل إليه حتى ولو كان عشرة ريالات؛
لأنه زكوي، والزكاة واجبة فيه من وقت بلوغ الحول والنصاب، فعليه أن يزكي كل
حصةٍ جاءت في يده بحسبها، فيخرج منها ربع العشر، فلو أعطاه عشرة ريالات
فإنه يخرج ربع ريال.
وعلى هذا زكاة الدين وكذلك زكاة عروض التجارة.
توجيه تفصيلات
الإمام مالك في الدين الضمار والتاجر المحتكر
بقي عندنا: توجيه تفصيلات مالك: لماذا اختلف مالك مع الجمهور في الدين
الضمار، وفي التاجر المحتكر غير الخاطئ.
يروي مالك رحمه الله في الموطأ بأن أشخاصاً أتوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي
الله تعالى عنه لما ولي الخلافة، واشتكوا بأن الخليفة الأموي الأول كان قد
صادر لأبيهم أموالاً في بيت مال المسلمين، وجاءوا يشتكون ويطلبون هذه
الأموال كورثة، فكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلى عامله أن
أخرج إليهم مالهم وخذ منه زكاة السنوات الماضية، فهو -أي المال- قد مكث في
بيت مال المسلمين سنوات.
ثم أعقبه بكتابٍ آخر: خذ منه زكاة سنةٍ واحدة؛ لأنه كان مالاً ضماراً.
واعتبر مالك رحمه الله هذه القاعدة في كل ما غاب عن اليد ولم تستطع الوصول
إليه كدين مغصوب، أو دين على مماطل، أو وديعة نسيت عند من هي، أو دفين
دفنته ونسيت المكان الذي هو فيه، وبعد عشر سنين وجدته مفاجأة، فكل مال
لإنسان كانت يده قاصرة عن الوصول إليه، سواءً كان بيدٍ أقوى منها، أو كان
بنسيانٍ، أو كان بجهالة أو نحو ذلك فحكمه ما ذكرنا عن مالك، فهذه وجهة نظر
مالك أو استدلاله على تقسيم الدين إلى ضمار، وغير ضمار.
وبعضهم يذكر ذلك رواية عن أحمد رحمه الله.
تحويل المال من قنية
إلى تجارة بالنية أو العكس
ونذكر في هذا المجال: لو أن إنساناً اشترى مائة كيس أرز ووضعه في البيت له
ولأولاده على أنها تمويل سنة أو سنتين، ثم بدا له، فقال: لماذا أنا أدخر
المائة؟! فيكفي عشرة، وهذه التسعون الباقية أبيع وأشتري فيها، ولما تنتهي
العشرة أخذ عشرة أخرى.
فهو مبدئياً اشتراها للقنية، ثم بدا له أن يحول تلك القنية إلى تجارة،
قالوا: فيحسب من تاريخ نيته وقصده تحويلها إلى عروض تجارة، فمن تاريخ
دخولها في أمر التجارة تحولت من قنية إلى عروض، فعندما فمن تاريخ التحويل
يبدأ الحول، فإذا اكتمل الحول زكاها، ولا ينظر إلى تاريخ شرائها؛ لأن المدة
التي مضت كانت على نية القنية فلا زكاة فيها، وبعد سنة أو أكثر أو أقل نوى
أن تكون للتجارة وأخذ في طرق التجارة وأسبابها فتحولت من قنية إلى تجارة.
شيء آخر: اشترى محلاً، وهو سعيد بالمحل الجديد، وعنده رأس مال، فقال: سأذهب
قبل أن يرتفع السعر فآخذ خمسين كيس أرز، وعشرين كيس سكر، وكذا صندوق تايت،
ثم إنه رأى أن الدكان لا يتحملها قال: سأتركها للبيت.
فمن يوم أن اشتراها للدكان فهو اشتراها للتجارة، فمكثت هذه البضاعة في
الدكان ستة أشهر، وبعدها وجد أن الدكان ليس بمربح، فتحولها للاستهلاك
المنزلي في بيته، وستظل معه سنتين أو ثلاث سنوات، فهذه تحولت إلى القنية،
فإذا حال عليها الحول فليس عليها زكاة؛ لأن الشرط في عروض التجارة والنقدين
أو في الأموال التي فيها الحول أن يمر عليها حولٌ كامل وهي في طريقها.
فهذا مما يتعلق بالقصد في اتخاذ العروض للتجارة أو للقنية.
حكم زكاة ما يتبع
السلعة من الآلات والمصانع
يبحثون أيضاً في عروض التجارة، هل الذي يزكى من عروض التجارة هو للسلعة
فقط، أم أنه يتبعها شيء؟ ومعنى (يتبعها شيء) أن السكر إذا كان في حوض أو
كومة من الأرض أو في أكياس، وهذا الصابون يكون في كراتين وهذه السلعة في
صناديق، وهذه في مكاييل، فأدوات التجارة: من الميزان والمكيال وأدوات البيع
والشراء، فهذه الأدوات الموجودة في الدكان، والديكور أيضاً الذي صُنع، هل
هذا يدخل في عروض التجارة أم أنه خاص لقنيته؟ فهذه أمور ربما تجدون من يبحث
في هذه الناحية من أدوات التجارة ومكاييلها وموازينها، أو آلات أو أجرام،
أو أظرف توضع فيها أدوات التجارة فهل هذه الأدوات تتبع عروض التجارة فتجب
فيها الزكاة؟ الجواب: لا.
والخلاف الشديد فيما يتعلق بالمصنع وآلات الإنتاج، فعندنا مثلاً مصنع سكر،
ومصنع نسيج، ومصنع صابون، فهل الآلة المصنعة تقدر مع السلعة أم لا؟ الآلة
التي تنتج هي عروض تجارة ثابتة، ونحن نقدر إنتاجها، فإذا جئنا إلى مطبعة
تطبع الكتب، المطبعة فيها حروف، وفيها مكائن تطبع، وفيها مكائن ترص الورق،
وفيها مكائن تجلد، وفيها أشياء عديدة، فهل يا ترى الآليات التي تصنع وتنتج
نقدرها مع الأوراق والكتب التي تطبع؟ فالورق الموجود في المستودع للمطبعة،
الحبر الموجود في المستودع للمطبعة، والخيط الموجود في المستودع، والصمغ،
فكل هذه الأشياء من عروض التجارة، لأنها تباع؛ لكن الآلات التي تصنع ذلك،
هل هي تجارية أو غير تجارية؟ فبعضهم يقول: إن أنشئ المصنع من مبدأ الأمر
فكل ما فيه للتجارة، والجمهور يقولون: الآلات الثابتة غير الفنية بذاتها قد
تُستهلك، والزكاة في إنتاجها يكفي عن الزكاة في ذاتها.
والله تعالى أعلم.
كتاب الزكاة - مقدمة
كتاب الزكاة [11]
قد أودع الله في الأرض من الكنوز والمعادن شيئاً كثيراً يمكن الاستفادة
منه، والإنسان قد يجد ذلك كنزاً جاهزاً، وقد يحتاج في استخراجه وتصفيته إلى
عمل، وما حصل من ذلك فللزكاة منه نصيب بشرطه على ما بينه الشيخ هنا.
حديث زكاة الركاز
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (وفي الركاز الخمس) متفق عليه] .
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي ساقه المؤلف هنا جزء من حديث يشتمل
على زيادة، وإن كان موضوعها غير موضوع الزكاة؛ لأن الحديث فيه: (العجماء
جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس) .
جرح العجماء جبار
(والعجماء جُبار) في بعض رواياته كما يسوقه صاحب المنتقى: (جرح العجماء
جبار) والجبار: هو المجبور الذي لا دية ولا قيمة.
والعجماء: هي الدابة لكونها لا تعرب عما في نفسها، وقالوا: إن كون العجماء
جباراً فيه تفصيل؛ لأنها إما أن تكون مروضة كما يقال: مؤدبة، أو لا زالت لم
تدرب، وكذلك إما أن تجني بمقدمها أو بمؤخرها، وإما أن تجني وعليها قائدها
أو صاحبها، أو تجني وليس عليها أو معها أحد.
وكذلك قد تكون جنايتها بالليل أو بالنهار، وكل هذا مما تتطلبه الحياة،
وخاصة عندما كانت العجماء وسيلة النقل والحمل دون غيرها.
فقالوا: إذا كان إنسان يركب دابة أو يقودها فجنت بمقدمها فإن راكبها أو
قائدها مسئول عن جنايتها؛ لأن بيده مقودها، أما إذا جنت بمؤخرها وهو لا
يدري، فجرحها جبار، بمعنى: إذا رمحت إنساناً فجرحته فليس على صاحبها شيء.
وقالوا: إذا كانت مؤدبة وربطها في طريق عام والطريق واسع، فجاء إنسان
ونخزها فرمحته فهي جبار، وإذا كانت غير مؤدبة وربطها في طريق عام ومر إنسان
ولم ينخزها ولم يؤذها فرمحته فهو مسئول؛ لأنه يعلم منها أنها ليست مروضة
ولا تألف الناس، وتؤذي من يمر بها، فيكون قد عرض الناس لإيذائها فهو مسئول.
وهكذا إذا جنت ليلاً أو جنت نهاراً وليس عليها أحد أو لا يقودها أحد، فإن
جنت ليلاً فعلى صاحبها جنايتها، وإن جنت نهاراً فليس في جنياتها نهاراً
شيء، كما في ناقة البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، أكلت حرث قوم فحكم
صلى الله عليه وسلم أن على صاحب الناقة حفظها ليلاً، وعلى صاحب الزرع
حمايته نهاراً.
وهكذا يذكرون ما يتعلق بجناية الدابة مروضة أو غير مروضة، معها إنسان أو
ليس معها إنسان، وكذلك إذا كان يعلم منها أنها غير مروضة ومر بها داخل
الأسواق والأسواق مزدحمة فآذت أحداً فهو ضامن، أما إذا كانت مروضة ومتعودة
دخول الأسواق فلا تؤذي أحداً، ودخل بها سوقاً فآذت إنساناً، فإن كان
بمقدمها فهو ضامن، وإن كان بمؤخرها فليس بضامن.
هذا ما يذكره العلماء رحمهم الله في قوله صلى الله عليه وسلم: (العجماء
جبار) .
ومن هنا -يا إخوان- ننظر إلى مدى شمول السنة النبوية فيما يتعلق بالتعامل
بين الناس، سواء كان مباشراً أو عن طريق بهائمهم العجماوات.
البئر جبار
(والبئر جبار) أي: إذا استأجر إنساناً ليحفر له بئراً أو ليصلح له خراباً
في بئر، فإن كان هذا الأجير عاقلاً مكلفاً مميزاً فأصابه شيء من عمله في
البئر، بأن سقط منه عليه حجر أو انهار البئر عليه، فهذا جبار ولا دية له،
أما إذا استعمل مجنوناً أو صغيراً أو معتوهاً أو من لا يتحمل المسئولية،
فهو مسئول عنه؛ لأن ذاك -كما يقولون- عديم الأهلية أو ناقص الأهلية، كما لو
كلف الصغير أو المجنون أن يطلع شجرة ليجني له منها ثمراً فسقط، فهو مسئول
عنه، أما إذا كلف عاقلاً بالغاً مميزاً رشيداً فطلع كالعادة فسقط، فليس
عليه في ذلك شيء.
تعريف الركاز في
الشرع
قوله: (وفي الركاز الخمس) هذا محل الشاهد والعلاقة بباب الزكاة، والخمس: هو
الحصة التي تؤخذ مما لا عناء في تحصيله، وهو تابع للغنيمة؛ لأن قوله:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}
[الأنفال:41] الخمس في الأموال التي تؤخذ بدون عناء، والركاز: مأخوذ من
ركزت الرمح إذا غرزته في الأرض، وتوجد مسميات: الكنز، والركاز، والمعدن،
هذه المسميات الثلاث قد يتداخل بعضها مع بعض، وخاصة الركاز، فالركاز أعمها،
يطلق على المعدن؛ لأنه مركوز في الأرض، وقد يتميز المعدن بجنسه عن الركاز.
والفرق عند المحققين: أن الركاز ما كان من فعل الآدمي فركزه في الأرض،
والمعدن ما كان من فعل الله سبحانه وتعالى، وهو ما خلقه في الأرض يوم خلقها
من أنواع المعادن أو الأجناس المغايرة للتربة.
فهنا الركاز والكنز والمعدن، فالركاز: هو ما وجده الإنسان مركوزاً في
الأرض، وشبيه به الكنز، وقد يتعاوران ويطلق بعضهما على الآخر، والركاز أعم.
الأصل أن الركاز لمن
وجده واستخرجه
إذا جاء إنسان وكان يعمل في أرض فوجد فيها مالاً مركوزاً، أي: مدفوناً،
سواء كان هذا المال ذهباً أو فضة، أو كان جوهراً، أو شيئاً له قيمة،
فيقولون باتفاق: إن وجده في ملكه فلا نزاع في شيء، فإنه يؤخذ منه الخمس
ويترك له الأربعة الأخماس ملكاً له.
وإذا كان يعمل في أرض بيضاء ليست ملكاً له ولا لغيره فوجده فكذلك؛ لأن
الأرض التي وجد فيها هذا الركاز ليست مملوكة لأحد.
أما إذا عمل في أرض مملوكة للغير فوجد فيها هذا الركاز، فهل يا ترى هذا
الركاز للعامل الذي وجده أو لصاحب الأرض؟ فالأكثرون على أنه للذي وجده،
وصاحب الأرض لا يعلم عنه شيئاً، فإذا وجد إنسان ركازاً في أي نوع من أنواع
الأراضي، فبعضهم يقول: هو لواجده، حتى قالوا: لو أن إنساناً استأجر أجيراً
يحفر له بئراً في أرضه فعثر الأجير على ركاز، فإن هذا الركاز للأجير؛ لأنه
هو الذي وجده.
والآخرون يقولون: هو لصاحب الأرض؛ لأنه يملك الأرض وما فيها.
وبعضهم يقول: إن استأجره لحفر بئر فوجد ركازاً فهو للأجير، وإن استأجره
للبحث عن ركاز فوجد الركاز فهو لصاحب الأرض بلا خلاف؛ لأنه يكون قد استأجره
لعمل مباح له كما لو استأجره في أن يحتطب، فإنه يكون الحطب أو الماء لمن
استأجره، وليس للأجير إلا أجرة يده.
إذاً: الركاز مأخوذ من ركزت الرمح إذا غرزته في الأرض وهو يكون من المعدن
ولا يحتاج إلى عمل يستخرجه منه كما سيأتي في موضوع المعادن.
فإذا وجد إنسان معدناً ذهباً أو فضة أو ما له قيمة كجواهر ويواقيت مدفونة،
فتسمى: مركوزة، فما حكم هذا الذي وجده الإنسان؟ إن كان وجده في ملكه فلا
نزاع في ذلك، وعليه أن يؤدي الخمس، وإن كان وجده في مكان ليس ملكاً لأحد
فهو كذلك؛ لأنه ليس هناك من يدعيه ملكاً له في أرضه، فهو لواجده، فعلى هذا:
يعطيه الإمام الخمس ويرد عليه الأربعة الأخماس، وجاء في ذلك آثار عن علي
رضي الله تعالى عنه: عن رجل وجد ألف دينار فأخذ منها مائتي دينار وأعطاه
الباقي، وعن عمر أيضاً رضي الله تعالى عنه أنه أخذ الخمس ورد إليه الباقي.
وعلى هذا يتفق الجميع على أن الركاز فيه الخمس.
واختلفوا فيمن وجد هذا الركاز إذا كان ذمياً، هل يملكه أم لا؟ فقالوا: إنه
يمتلكه.
وكذلك العبد إذا وجد الركاز هل يمتلكه أو يكون لسيده (العبد وما ملكت يده
لسيده) .
وعلى هذا فحكم الركاز الذي يجده الإنسان مدفوناً في الأرض من جواهر ومعادن
نفيسة كالذهب والفضة، فإن هذا لواجده ما لم يكن أجيراً للحفر عن ركاز.
ومما فيه خلاف: من وجده في أرض الغير، واحتفر فيها حفراً مباحاً فوجد ذلك
الكنز، فإنه أيضاً يملكه على خلاف فيما إذا كان يملكه هذا الواجد؟ أو يعود
ملكاً لصاحب الأرض.
وكذلك يذكرون فيما لو استأجر إنسان داراً ثم أخذ يصلح فيها فوجد ركازاً، هل
يكون هذا الركاز الذي وجده المستأجر للمستأجر الواجد أو يكون لصاحب الدار؟
يذكرون عن أحمد روايتين، وكذلك عن الشافعي، ويختلفون لأن صاحب الدار لا
يعلم عنه، وليس هو الذي ركزه.
الفرق بين حكم ركاز
الجاهلية وركاز الإسلام
ويختلفون أيضاً في موضوع الكنز -النقد- الذي وجده إنسان، إن كان من ركاز
الجاهلية أو من ركاز الإسلام، ويعلم ذلك بالأمارات التي توجد على القطع
النقدية، بأن كان عليه علامات الجاهلية من صور الأصنام، ومن عبارات أسماء
ملوكهم؛ فإن ذلك له فيه الخمس، فيعطي الخمس ويتملك الباقي، وإذا وجد عليه
علامات إسلامية بأن كان عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أو كان عليه
نقش آية من كتاب الله، أو ما يدل على أنه لمسلم؛ فإنه يكون بمنزلة اللقطة،
يعرفها سنة وبعد ذلك هو وشأنه بها.
إذا وجد الركاز في
قرية مسكونة أو خربة
قال المؤلف: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رجل في خربة: (إن وجدته في قرية
مسكونة فعرفه، وإن وجدته في قرية غير مسكونة، ففيه وفي الركاز الخمس) أخرجه
ابن ماجة بإسناد حسن] .
هنا يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وجد فيه الكنز، أهو في
قرية مسكونة؟ فهذا مظنة أن يكون أهلها هم الذين دفنوه وركزوه، أو في قرية
مهجورة خربة قديمة لا ندري متى عمرت ومتى خربت؟ فإنه يكون كدفن الجاهلية
ففيه الخمس.
وإذا عرفه السنة فإن وجد من تعرف عليه وأتى بأماراته كما جاء في اللقطة:
(احفظ عفاصها ووعاءها ثم عرفها سنة) ، فإذا وجد لقطة في كيس عرف الكيس أهو
من صوف أو قطن أو جلد، والرباط أهو من حرير أو من خيوط أو من جلد، فإذا جاء
إنسان وذكر الأوصاف المطابقة لهذه اللقطة فهي له، وإذا لم يأته أحد أو جاء
بوصف مغاير للحقيقة، فإنها تبقى عنده إلى تمام الحول.
وبعد تمام السنة مع تعريفها كما يقولون: في الأسبوع الأول كل يوم، وفي
الشهر الأول يوماً كل أسبوع، ثم بعد ذلك في كل شهر يوماً حتى ينقضي الحول،
فإذا لم يجد من يتعرف عليها فهي ملكه، ولكن كما يقولون: هو ملك غير تام،
بأن يتصدق بها، وإن شاء تملكها ديناً في ذمته، فلو جاء إنسان يطلبها وصدق
في تعريفها وجب أن يردها إليه.
أو إذا كان بعد هذه المدة لا يريد أن يتحملها في ذمته، وإذا جاء صاحبها
ربما لا يجد ردها، تصدق بها على ذمة صاحبها، فإذا جاء صاحبها أخبره، أنه قد
عرفها لمدة سنة فلم يأت أحد، فتصدقت بها على ذمة صاحبها، إن قبلت الصدقة
على ذمتك فهي ماضية لك، وإن لم تقبلها فتكون الصدقة على ذمتي وأنا أدفع لك
بدلها.
وهكذا إذا وجد في قرية مسكونة أو طريق مطروق، أو وجد في قرية خربة غير
مسكونة، أو طريق مهجور لا يسلكه أحد، وكذلك الأرض إن كانت محياة لأحد أو
ميتة لا يملكها أحد.
المعادن وحكم زكاتها
في الشرع
[وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ
من المعادن القبلية الصدقة) رواه أبو داود] .
صاحب هذا الحديث بلال بن الحارث وفي بعض الروايات هلال بن الحارث: أن النبي
صلى الله عليه وسلم: أقطعه معدن القبلية، والقبلية: مكان معين في جنوب
المدينة من أعمال وادي الفرع، وبينه وبين المدينة كذا ميل، فيقولون: هذا
لعله المهد الموجود الآن، وفيه المعدن، وفي هذا الحديث مبحث أو مباحث من
عدة جهات: أولاً: ما هو المعدن؟ ثم: ما يؤخذ من المعدن؟ وما هو حكمه من حيث
المكان؟ ومن هو مصرف ما يؤخذ منه؟
المفهوم الشرعي
للمعدن
المعدن من مادة عَدَن، وعَدَنَ بمعنى: أقام، ومنه كما يقولون: (جنة عدن)
بمعنى: دار الإقامة، وهذه المعادن مقيمة في الأرض من يوم أن خلقها الله حتى
يكتشفها الإنسان.
ولولي الأمر أن يقطع من شاء ما شاء ما لم تتعلق به منفعة الجماعة.
فإذا كان هناك ماء يسقي عدة مزارع، فليس لولي الأمر أن يقطع هذا الماء لشخص
وحده؛ لأنه يفوت المنفعة على الآخرين، وفيه مضرة، فكذلك المعدن الذي فيه
منفعة عامة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أقطع فلاناً ملحاً، أي:
معدن ملح، ثم قيل له: يا رسول الله! أتدري ما أقطعت فلاناً؟ قال: أرضاً،
كان يعتقد صلى الله عليه وسلم أنه أقطعه الأرض ليزرعها ويستثمرها، قالوا:
إنك أقطعته الماء العدة، والعد أي: الذي يستخلف، وكلما ذهب شيء جاء شيء آخر
كالبئر الذي تأخذ الماء ويستخلف غيره، فاسترجعه صلى الله عليه وسلم ممن
أقطعه إياه؛ لكونه يستفيد منه الجميع فلا يحصره على فرد؛ لأن الذي يستفيد
منه الجميع هو ملك للجميع.
ولهذا قالوا: إن الإمام يقطع من المواد ما لا يتعلق به مصلحة لفرد أو
لجماعة، فإذا كان المعدن يستفيد منه الجماعة كالماء والملح أو الكبريت أو
الشيء يرجع على أهل الحي أو أهل المنطقة، فلا ينبغي أن يقطعه الإمام لشخص
معين، وإذا أقطعه وهو لا يدري عن حقيقته استرجعه وتركه عاماً لجميع
المسلمين، وهنا معدن القبلية.
والمعدن ما حكمه وما هو؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: المعدن خاص بالذهب
والفضة، وما عداه لا يعتبر معدناً ولا يطالب صاحبه بشيء.
وعند الحنابلة أن المعدن كل ما كان في الأرض من غير جنسها وله قيمة، كما
يقول ابن قدامة في المغني، فهو عندهم كل ما كان في الأرض من غير جنسها، أي:
من غير التراب.
ويوجد فيها من غير جنسها: الذهب، الفضة، النحاس، الكبريت، الزئبق، القصدير،
الكحل، وعدد أشياء كثيرة حتى من الجواهر الألماز يكون أيضاً من الأرض،
والأحجار الكريمة إذا كانت في باطن الأرض، حتى الأمور السائلة ومثَّل
بالقار وبالنفط والكبريت إذا كانت سائلة في بطن الأرض، فكل ذلك يسمى عند
الحنابلة معدناً؛ لأنه عدن في الأرض وهو من غير جنسها وله قيمة.
وعند الأحناف أن المعدن: ما كان صالحاً للذوبان والطبع، كأن يطبع سبائك أو
قوالب، فيخرج عن ذلك الكبريت والزئبق والقار والنفط، ويخرج عن هذا ما ليس
بمعادن؛ لأنها غير قابلة للإذابة بالنار وطبعها سبائك أو قوالب، ويصدق هذا
على الذهب والفضة والرصاص والنحاس والقصدير، فهذه كلها تذاب وتصب في قوالب
وتكون سبائك أو أحجاماً.
خلاف العلماء فيمن
يتملك المعدن
المعادن التي توجد في الأرض لمن تكون؟ فهناك من يقول: هي كالركاز، والفرق
بين الركاز والمعدن: أن الركاز وجده على حالته دون عمل، أما المعادن: فهي
عروق في الأرض لا يحصل عليها إلا بتصنيع وعمل يجمعها ويصهرها في النار،
فيحترق التراب ويذوب المعدن، وتجتمع فلزاته بعضها إلى بعض حتى يخرج منها
كتلة، وهذه الطريقة معروفة في الجاهلية ومعروفة في الإسلام، ومعروفة في
البادية وفي الحضر، ففي بعض بوادي أفريقيا تعرف بعض المعادن خاصة الحديد في
بعض الأماكن، فتجمع التربة وتوقد عليها نار قوية، فتجتمع فلزات الحديد
بعضها إلى بعض، ويخرجون بكتلة يصنعون منها الآلات التي ينتفع بها الإنسان.
وعلى هذا: فالمعدن من حيث هو هل يقطعه الإمام لأحد؟ الجمهور ما عدا مالك
يقولون: كل معدن وجده الإنسان على ذاك التعريف، سواء قصرناه على مذهب
الشافعي أو وسعناه على مذهب الأحناف، أو عممنا كل ما تتضمنه الأرض حتى
الكحل والكبريت أو الملح، فالجمهور يقولون: إن هذا لواجده.
وإن كان على وجه الأرض مثل الملح قالوا: كذلك هذا لصاحبه الذي حصل عليه،
وخاصة إذا كان في أرض موات، والآن مجريات الملح، ما اجتمع في أرض سبخة
فتجففه فيخرج منه الملح الصالح للطعام، وهناك مواطن أو مياه يستخرجون منها
ملح البوتاسيوم كالبحر الميت، فإنه يستخرج منه أملاح البوتاسيوم، وتنوع إلى
أنواع، وهناك بحيرات صغيره تجمع فيها المياه وتترك للشمس لتبخرها، ويتجمع
الملح الموجود فيؤخذ، ويصنع منه عدة أنواع من الأملاح المعدنية، فهذه
يقولون: هي لواجدها ما دامت على وجه الأرض.
أما المعادن التي تحتاج إلى كلفة وعمل فبعض العلماء يقفل الباب، ويقول: هي
لمن وجدها.
حكم زكاة المعادن
من وجد المعادن وعثر عليها فإنه يستطيع أن يصنعها ويستفيد منها، قالوا: إن
استطاع فله ذلك، وكيف يزكي ما يحصل عليه؟ قالوا: الركاز فيه الخمس قليله أو
كثيره، وفي المعادن كذلك الخمس، وبعضهم يقول: فيه العشر، بمعنى أنه يعامل
معاملة الغنائم ومعاملة الركاز فيؤخذ منه الخمس.
وهناك من يقول: ربع العشر.
أما الخمس فقياساً على الركاز مع وجود الفارق؛ لأن هذا يحتاج إلى عمل، ومن
يقول: العشر فقياساً على ما تنبته الأرض من الحبوب والنبات والثمار: فإن
فيه العشر، ومن قال: فيه ربع العشر قياساً على زكاة الذهب والفضة، فإن كان
ذهباً وفضةً وأخذ منه ما يؤخذ من الذهب والفضة فيكون مالاً زكوياً،
والجمهور على أنه مال زكوي.
ويقولون: لا يشترط للحصول عليه وتزكيته حولان الحول ولا بلوغ النصاب.
والآخرون كالحنابلة ومن وافقهم والمالكية يقولون: يشترط فيه النصاب، وليس
المراد بالنصاب في كل دفعة يحصل عليها، كأن يكون اكتشفه اليوم وبدأ يعمل
ويصفي فوجد ربع نصاب، فاحتفظ به، ثم عمل غداً وأخذ ربع نصاب، ثم بعد شهرين
أو ثلاثة اكتمل عنده النصاب، فحينئذ يزكي في الحال ولا ينتظر الحول.
ثم بعد اكتمال النصاب يزكي كل ما حصل عليه يومياً، ولا ينتظر نصاباً للجديد
الذي جاء بعد اكتمال النصاب الأول، فإن استمر العمل فعلى هذا الحال، وإن
انقطع العمل أو انقطع النيل منه: فإن كان الانقطاع لعذر ممن وجده كمرض أو
سفر أو عجز عن النفقة، وطال انقطاع العمل فإنه يستأنف من جديد، وإن تركه
وجاء غيره فإنه يبتدئ ويستأنف من جديد، وإن كان الانقطاع لعدم وجود المعدن
لكونه ليس متصلاً كبحيرة أو جبل، وإنما هو أجزاء في أماكن مختلفة، فإذا
انقطع نيل المعدن لعدم وجوده في منطقة العمل واستمر يفتش وكان انقطاعه
قريباً، فإن هذا الانقطاع لا يقطع حكم الزكاة على ما كان سابقاً، وإن طال
الانقطاع وأصبح كأنه وجد معدناً من جديد بعد زمن طويل وعمل طويل، فحينئذ
يستأنف النصاب ويبدأ يحسب من جديد كما لو كان قد وجده الآن.
الإمام مالك رحمه الله يقول: الأمور العامة التي ترجع إلى الأمة لا يملكها
واجدها ويمثل بالنفط وبالقار ويقول: إن استخراجها يحتاج إلى نفقات كبيرة،
وإن عائداتها لترجع للأمة بأجمعها، وللأمة فيها نصيب، وهنا يقول: إن ولي
الأمر يضع يده عليها، وهو الذي يستخرجها، ومصرفها هي المصارف العامة
للدولة، كمصرف الفيء الذي يغاير الغنيمة في مصرفه، فالفيء: {مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] ، فهنا يكون مصرف هذا المعدن العام الذي
تتعلق به مصالح الأمة لولي الأمر ينفقه في المصالح العامة.
والمصالح العامة في الدولة هي التي توضع لها الميزانيات، فهناك من المصالح
العامة: التعليم، وتموين الجيش، والصحة، والطرق، والبريد وكل ما تلتزم
الدولة بإقامته لمصلحة العامة جميعاً، ولا يؤخذ عليه زكاة؛ لأن ولي الأمر
أو المسئولين يجمعون المال من الأفراد كزكوات أو ضرائب، يفرضونها في حالة
الحاجة أو غير ذلك، وتتكدس عندهم هذه الأموال، فلا يؤخذ عليهم فيها زكاة؛
لأنهم امتلكوها للمصالح العامة.
إذاً: لا نأخذ منهم لنرد عليهم، فهذه الفكرة العامة عما يتعلق بأمور
المعادن.
المعدن الذي تتعلق
به الزكاة
ما هو المعدن الذي تتعلق به الزكاة؟ الشافعي رحمه الله قصره على الذهب
والفضة.
وأبو حنيفة رحمه الله جعله كل ما يذاب ويطبع ويكون سبائك، وكذلك المالكية
والحنابلة عمموا كل معدن في الأرض من غير جنسها وله قيمة، وأدخلوا في ذلك
كل المعادن حتى الكحل، والكبريت، والمضرة، والمضرة: تربة حمراء تكون في بعض
الأماكن تؤخذ ويصبغ بها الثياب، وشاهدناها إلى عهد قريب بالمدينة يطلى بها
الخشب في السقوف حتى لا تأتيها دودة الأرض التي تسمى الأرضة؛ لأن طعمها مر
فلا تعيش فيها الدودة التي تفسد الأخشاب، وعمر رضي الله تعالى عنه لما رأى
على عبد الرحمن بن عوف ثوباً أحمر، قال: أتصبغ بالزعفران؟ قال: يا أمير
المؤمنين هذا ليس بورس ولا زعفران إنه المضرة، قال: إنكم رهط يقتدى بكم،
أي: فيراه جاهل فيقول ابن عوف يصبغ بالزعفران؛ لأنه لا يفرق بين الزعفران
وبين المضرة.
ومن هنا نعلم أن على السادة أو موضع القيادة والاقتداء أن يراعوا ما يقلدهم
فيه العامة، فيتحرزون مما فيه شبهة؛ مخافة أن يقع العامة فيما هو محرم
بناءً على ما يتقلده هؤلاء الناس.
إذاً: يهمنا نوعية ما يسمى معدناً عند الأئمة الأربعة رحمهم الله: وهذا
مجمل ما يمكن أن يقال في موضوع المعادن وما يزكى منها وما لا يزكى.
زكاة مزارع الدواجن
وشركات الأسماك ونحوها
ونحب أن ننبه على بعض الأشياء وهي: في خصوص عروض التجارة، أنه قد تجدون في
بعض المؤلفات الحديثة: أنها لم تكن موجودة من قبل لا في العصر النبوي
الشريف ولا في عصر الخلفاء ولا فيما بعدهم، وإنما استجدت في العصور
المتأخرة.
وأقول قبل أن نناقش أقوالهم: إن كل ما يستجد أو كل ما استجد اليوم في عصر
الحضارة والمدنية وما استجد من أنواع الاستثمار ليس بجديد على الإسلام، بل
يوجد له أصل ونظير، والمتحفظ من المتأخرين لا يخرج عما كان قديما ويرد
المستحدثات إلى نظائرها التي كانت من قبل، والبعض الذي يريد أن يبرز ربما
أغفل ذلك، وحاول أن يجتهد فيلحقها بالزكاة.
ومن ذلك نجد من يقول: إن هنالك أموراً استثمارية لم تكن على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم، وهي تغل على أصحابها النماء والغلة الوفيرة، فيجب أن نجعل
فيها زكاة، ويمثلون مثلاً بمزارع الدواجن، يقولون: إنها تغل على أصحابها من
البيض ومن لحوم الدجاج والسماد ومن الشيء الكثير، وكذلك شركات صيد الأسماك،
لأنها تستثمر فتحصل الشيء الكثير بالآلاف والملايين، خاصةً الآلات
المستحدثة كالبواخر أو السفن.
وهناك أيضاً: ما يتعلق بمعادن البحر أو غير ذلك، وهناك العمارات الشاهقة
كناطحات السحاب تستثمر بالملايين، ويقولون: يجب أن نجعل في أعيانها الزكاة.
ونقول: أيها الإخوة! إن من يقول بذلك يفوته الأصل الأساسي إذا قال: إننا
نزكي البيض والدجاج والسمك، وهل هناك نصاب للبيض بالعدد أو بالكيل؟ هل هناك
نصاب للدجاج بالوزن أم بالحبة؟ وكذلك السمك.
وإذا قلنا على قولهم بزكاتها فهل نعطي المسكين طبق بيض أو طبقين؟ ماذا يصنع
بها؟! إن ادخرها فسدت، وإن سلقها لم يقدر على أن يأكلها! فسيضيع حقه فيها،
وكذلك اللحوم والأسماك.
فهذه الأنواع من الأموال المستحدثة لها نظائرها في الخضروات، وكذلك
فالأسماك موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك اللؤلؤ يستخرج من
البحر، والعنبر يستخرج من البحر، كل ذلك كان معلوماً وما سن فيه رسول الله
زكاة.
وإذا أرجعناه إلى القواعد الأساسية وقلنا: هذا الذي استخرج اللؤلؤ واصطاد
السمك وجاء بالعنبر وأقام مزرعة الدواجن، إنه يبيع ويدخل عليه من ثمنها،
فيكون ذلك (من طيبات ما كسبتم) ، فأثمان هذه المنتجات الحديثة على رأيه
سيكون كسباً ونماءً يدخل في ملكه وفي خزينته، فإذا حال عليه الحول زكاه،
كما أنه لا تزكى الخضروات ولكن تزكى قيمتها إذا حال عليها الحول، فنقول:
كذلك، صاحب البيض والدجاج وصاحب السمك وصاحب العنبر وصاحب اللؤلؤ، إذا
اجتمع عنده بعد نفقته نصاب وحال عليه الحول زكى، فيزكي قيمة ما حصل عليه من
تلك الأشياء التي لا أصل للزكاة في أعيانها.
أما قيمتها فكما تقدم لنا: لو أنه استثمر التراب لكان عليه من قيمته
الزكاة، وبالله تعالى التوفيق.
|