شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الزكاة - باب
صدقة التطوع [1]
حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) من أعظم المواعظ التي
تحث على الخير، وقد شمل هذا الحديث الأمة من القاعدة الأساسية إلى القمة
العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة، وقد بسطه العلماء بالشرح، وبينوا فوائده
وآثاره في صلاح الأمة والفرد.
مقدمة باب صدقة
التطوع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه
أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [باب صدقة التطوع] .
هذا الباب الجديد في صدقة التطوع، والذي قبله صدقة الإلزام، أي: ليس فيها
تطوع ولا اختيار، لكن هنا يتطوع بها.
وقبل الكلام على هذا الباب ننظر في معنى ومغزى هذا العنوان: فالإنسان من
حيث هو يرغب في المال، ويحرص على جمعه: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا
لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:19-20] فالإنسان حريص
شديد الحرص على الدأب في جمع المال، فإن كان يخاف الله تحرى الحلال، وإلا
فلا يبالي من أين أتى، فعلى أنه يتحرى الحلال ويجمع المال (لو كان لابن آدم
وادياً من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً) ، فإذا ما حصل على المال وتوفر عنده
يكون شحيحاً به، يضن بإخراجه، فجاءت الفريضة في زكاة المال وصدقة الفطر،
وألزمته رغماً عن شحه، فإذا أدى الواجب عليه برئت ذمته وطهر ماله، ولكن هل
الإنسان يقف عند أدنى الحد؟ الواجب هو أدنى الحد في بذل المال، لكن الإنسان
يسمو ويتعاطف مع أوامر المولى سبحانه وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ؛ فهنا تأتي صدقة التطوع لأنها من
دافع الإنسان نفسه، أي: من دافع إيمانه ورغبته في الخير، وإيثاره الآخرة
على الدنيا؛ لأنه يدفع هذه الصدقة متطوعاً.
فالأولى أخرجها فريضة عليه: (فإن أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت! وإلا
أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا) يعني: يخرجها غصباً عنه، لكن في
صدقة التطوع ليس هناك جبر عليه ولا غصب له! هل هناك عقوبة على تركها وعدم
فعلها؟ لا، لكن هناك الرغبة في الأجر، وإيثار الآخرة على الدنيا، والتعامل
مع الله سبحانه وتعالى.
وقدمنا مراراً بأن قانون الحياة يمشي على مبدأ المعاوضة: خذ وهات، ثمن
وسلعة، فتتبادل مع غيرك وتتعاون معه، أما الصدقة إذا أخرجتها فأين العوض
عنها؟ قد يبلغ الأمر بالإنسان السوي المؤمن بالله أنه يخفي صدقته على
المسكين، بل يخفيها على نفسه كما سيأتي في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله
يوم لا ظل إلا ظله: وذكر منهم: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه
ما تنفق شماله) وهناك الآية: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
[البقرة:271] .
صدقة التطوع دليل
على صدق الإيمان
إذاً: صدقة التطوع عنوان على أن المتصدق موقن بالأجر من الله، وموقن بالعوض
عند الله، وعلى قانون المعاوضة المادية كذلك؛ لأنه يدفع التمر أو يدفع
الأرز ويحتسب الأجر عند الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ *
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] فإنه يأخذ
العوض هناك، فهو رصيد مضمون ينفعه يوم يفر المرء من أخيه، وأمه أبيه، فيجده
عند المولى سبحانه مضاعفاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتصدق
بالصدقة فتقع في كف الرحمن فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه -أي: ولد الفرس-
حتى تكون مثل جبل أحد) .
والصدقة والصدق مادتهما اللغوية واحدة: (صدقة، تصدق) ، وتاء الافتعال هذه
زائدة، فالصدقة في التطوع دليل صدق المسلم في إيمانه بالله؛ لأنه يدفع
الثمن الآن ويترقب العوض فيما بعد، ولا ينتظر ممن أعطاه معاوضة، ولا ينتظر
من أحد جزاءً ولا شكوراً: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً ولا شكورًا} [الإنسان:9] أي: ولو جازيتمونا فإلى
أي حد يكون الجزاء منكم؟ عبد الرحمن بن عوف لما جاءت تجارته ودقت طبولها،
فجاء التجار وقالوا: نعطيك (10%) زيادة في الربح، فرفض! (50%) فرفض، (100%)
فرفض وقال: أعطيت أكثر!! قالوا: نعطيك الضعف ضعفين، قال: أعطيت أكثر!!
قالوا: نحن تجار المدينة، وليس في المدينة من يعطيك أكثر من ذلك، فمن الذي
أعطاك أكثر من ذلك؟ قال: الله أعطاني الحسنة بعشر أمثالها، أعطاني عشرة
أمثال قيمتها، فالعير وما تحمل في سبيل الله!! إذاً {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ
جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] لأنكم لا تستطيعون أن تجازونا كما
يجازي الله سبحانه.
شرح حديث: (سبعة
يظلهم الله في ظله)
قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -فذكر الحديث وفيه-:
ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) متفق عليه] .
تقدم التنبيه على منزلة الصدقة والتطوع بها، وأن ذلك من منطلق الإيمان
واليقين بما عند الله، وأن المتصدق ينتظر العوض من الله سبحانه، ولا يرجو
ممن يتصدق عليه جزاءً ولا شكوراً، كما نوه بذلك سبحانه بقوله: {إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}
[الإنسان:9] ؛ لأنه تصدق لوجه الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] ، وجاءت الأحاديث متعددة
في أن الصدقة تعود على المتصدق بأشياء عديدة: منها ما تقدم في زكاة الفطر
أنها: (طهرة للصائم) ، وكذلك ما جاء في الأحاديث الأخرى أن (صدقة السر تطفئ
غضب الرب) .
وجاءت أيضاً أحاديث أخرى تحث على الصدقة منها: (المرء في ظل صدقته يوم
القيامة) ، والآثار في هذا الباب كثيرة.
منزلة هذا الحديث
عند العلماء
وهذا الحديث الذي بدأ به المصنف في هذا الباب يعتبر من جوامع الكلم، ومن
أمهات الأحاديث النبوية الشريفة، قال عنه ابن عبد البر: إنه أعظم حديث جاء
في الحث على عمل الخير، والمتأمل لهذا الحديث في أسلوبه، وفي موضوعه يجد
أسلوبه مرتباً ترتيب النتائج على أسبابها، ومن نظر في موضوعه يجده قد شمل
الأمة من القاعدة الأساسية إلى القمة العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة.
(سبعة يظلهم الله) : هذا اللفظ المتفق عليه، أما بالنسبة إلى العدد فإنه
مما قد أُلِّفَ فيه، وقد كتب فيه السخاوي والسيوطي رحمهما الله، واطلعنا
على رسالة بعنوان: مُنِيْلُ البَشِّ لمن يظلهم الله في ظل العرش، للشيخ
مائل عينين وهو متأخر.
ويقولون: إن السبعة هي نهاية العدد، وما بعدها مكرر لها أو لأجزائها، وعني
شراح هذا الحديث بكل من جاء فيه نصٌ بأنه ممن يظلهم الله تحت ظله، حتى
أوصلوها إلى سبعين صنفاً، ولكن قال المناوي: الزائد عن السبعة المتفق عليها
إما داخلة تحت هذه الأصناف السبعة، وإما أن أسانيدها لا تنهض للاحتجاج بها.
أيها الإخوة! هذا الحديث شامل لطبقات المجتمع من الشاب وبقية الأفراد إلى
الإمام العادل، كما أشرنا: من القاعدة إلى القمة، وأحاديث المصطفى صلى الله
عليه وسلم نجدها قسمين: فقسم مختص بمادة وموضوع، وهذا غالباً في أحاديث
التشريع في الحلال والحرام، وفي الواجب والمندوب.
وقسم يشمل عدة أصناف، وإذا وجدنا حديثاً يشمل أكثر من معنىً واحد فبالتأمل
نجد أن هناك روابط بين تلك الموضوعات الذي انتظمت في سلك ذلك الحديث! فمن
أحاديث الأحكام ما تقدم في الزكاة: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، فهذا
حديث مستقل بموضوع واحد، وهو تقدير النصاب في الحبوب، وحديث: (في كل أربعين
شاة شاة) .
ولكن الأحاديث التي تشمل العديد من المواضيع غالباً ما تكون للتوجيه
والموعظة والإرشاد، ومن أهمها هذا الحديث، وإني قد مكثت زمناً طويلاً أبحث
مواضيع هذا الحديث، وأخيراً جمعت فيه رسالة، وشدني إلى الكتابة فيه قول ابن
عبد البر رحمه الله: لو أن كل صنف من هذه الأصناف السبعة أفرد برسالة لكان
حرياً بذلك، فجمعت لكل موضوع بحثاً مستقلاً بقدر ما في وسع الإنسان في هذا
الموضوع، وحرصت أن يكون معيناً للطالب إذا أراد أن يعظ أو يذكر أو يدعو إلى
فضائل الأعمال الواردة في هذا الحديث النبوي الشريف، وكذلك الإنسان الذي
يريد أن يتزود، أو يتثقف، أو يوسع مداركه في مدلول هذا الحديث.
هذا الحديث يشتمل على المباحث الآتية: أولاً: لفظه.
ثانياً: أسانيده.
ثالثاً: ترتيبه.
رابعاً: معاني أصنافه.
أما سنده: فقد رواه الشيخان وأصحاب السنن، وذكر المؤلف هنا أنه متفق عليه،
واكتفى بذلك، وهو موجودٌ أيضاً في موطأ مالك وعند أبي داود والنسائي وابن
ماجة، وكل هذه الصحاح قد أوردت هذا الحديث.
وبالمقارنة بين ألفاظه في هذه المراجع نجد مغايرات يسيرة، وكذلك في ترتيبه
تقديم أو تأخير، واللفظ الذي ساقه المؤلف هنا: هو لفظ البخاري رحمه الله،
ولفظ مسلم يتفق معه إلا أن مسلماً ذكر فيه الرجل الذي تصدق بيمينه فأخفاها
بلفظ: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) ؛ وفي رواية أخرى: (رجل تصدق
بشماله -أو رجل تصدق بصدقة- فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)
وأسند الإنفاق للشمال بدلاً من اليمين، وأعتقد أن هذا يكون أدعى وأبلغ في
معنى الإخفاء، وقد نبهنا عليه مراراً.
من يظلهم الله في
ظله غير السبعة المذكورين في الحديث
وموضوع الحديث هؤلاء السبعة، وقد نظمهم أبو شامة في بيت واحد في قوله
مشيراً إلى الحديث: قَاْلَ النَّبِيُّ المُصْطَفَىْ إِنَّ سَبْعَةً
يُظِلُّهُمُ المَوْلَىْ الكَرِيْمُ بِظِلِهِ مُحِبٌّ عَفِيْفٌ نَاْشِئٌ
مُتَصَدِّقٌ وَبَاْكٍ مُصَلٍ وَالإِمَاْمُ بِعَدْلِهِ هذه السبعة الأصناف
التي اشتمل عليها هذا الحديث النبوي الشريف.
وإذا جئنا إلى اللفظ الأول: (سبعة) : يقولون: إن العدد لا مفهوم له، ولهذا
بحث العلماء فيمن يشملهم هذا المعنى ويظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله،
وذكروا منهم: رجلاً لحق القوم، وأدركهم العدو، وكان في مؤخرتهم؛ فدافع
عنهم، وذكروا امرأة تأيمت على أيتامها حتى كبروا واعتمدوا على أنفسهم،
وذكروا أشياء عديدة، حتى أوصلوا السبعة إلى السبعين، وأقرب مرجعٍ لهذا
العدد ما نقله الزرقاني عمن تقدم نظماً ونثراً في شرحه على الموطأ عند هذا
الحديث.
فإذا كان العدد ليس له مفهوم فهناك سبعات عديدة أوصلها العلماء إلى
السبعين، وإن كان له مفهوم فيكون مقصوراً على هؤلاء السبعة، وسواء كان له
مفهوم أو ليس له مفهوم فيهمنا الآن هؤلاء السبعة، إذ إن هذا الحديث جمع
جميع طبقات المجتمع، وما ذكر فكما قال النووي والمناوي: قد تكون مندرجة تحت
صنف من هذه الأصناف السبعة.
معنى (يظلهم الله في
ظله)
(يظلهم الله) هذا اللفظ متفق عليه، وكل من خرَّج هذا الحديث رواه بهذا
اللفظ.
(في ظله) أو (في ظل عرشه) : تختلف الروايات، فتارة تأتي: (في ظله) ، وتارة
تأتي: (في ظل عرشه) .
(يوم لا ظل إلا ظله) أو (يوم لا ظل إلا ظل عرشه) على حسب الروايتين
المتقدمتين، وليس هناك إشكال أن العرش جرم محسوس يتصور أن يكون له ظل، ولكن
الإشكال الذي لم أجد له جواباً، هو أن الظل ناتج عن الشمس، ويوم القيامة
تكور الشمس، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وثمة حديث آخر، وهو عن
المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تدنو
الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل -قال سليم بن عامر:
فوالله! ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به
العين؟! قال:- فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى
كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه
العرق إلجاماً، قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)
رواه مسلم.
إذاً: كيف تأتي تلك الشمس؟ وأي نوع هي؟ هذا الذي يقف عنده الإنسان مستسلماً
مصدقاً بما قال صلى الله عليه وسلم، ولم أجد من تكلم على ذلك بما فيه
الكفاية.
وإذا كان الله يظلهم في ظله، فهناك كلام كثير للعلماء، لكنه يدور بين
الحقيقة والمجاز، ومعنى الحقيقة: في ظله سبحانه، والله أعلم بكيفية تظليلهم
في ظله، ولا نستطيع أن نتصور للمولى جرماً وظلاً -حاشا لله- ولكن يقولون:
في ظله، أي: في عنايته، ورعايته، ورحمته، كما يقولون: فلان يعيش في ظل فلان
وفي كنفه، وحملوا ذلك على المجاز بعداً عن التشبيه أو الوقوع في محظور
بالنسبة للمولى سبحانه.
ونحن إذا أخذنا اللفظ على وضعه نستشعر عاطفياً وعقلياً وعلمياً أن هؤلاء
السبعة يخصهم الله سبحانه وتعالى بتلك الفضيلة، وفي بعض الزيادات: (في ظله
حتى يقضى بين الخلائق) ، وفي الحديث: (إن العبد في ظل صدقته يوم القيامة) ،
ويمكن أن نقول: الصدقة تجسمت، أو تجسم ثوابها وتحول إلى مظلة تظل صاحبها
حتى يقضى بين الخلائق، ولا يناله ما ينال عامة الناس من حرارة الشمس التي
تدنو منهم فيعرقون.
إذاً: الأولى لنا أن نترك تعمق البحث في مدلول قوله: (في ظله) ، ونفوض ذلك
إلى ما يعلمه المولى سبحانه، ويكفينا أن نقول: إن هذا أعظم موعظة وأعظم
مرغب؛ لأنه يحاول الإنسان أن يكون واحداً من هؤلاء السبعة إن لم يجمع أكثر
من صنف.
هل يمكن أن تجتمع
هذه السبع الخصال في رجل واحد؟
وهل يمكن للإنسان أن يجمعها؟ لا مانع من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر أبواب الجنة الثمانية فقال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل
الله دعي من أبواب: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من
باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل
الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام -وهو
باب الريان- فقال أبو بكر: ما على الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة.
فهل يدعى أحد منها كلها يا رسول الله؟! قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا
أبا بكر!) والحديث متفق عليه عن أبي هريرة.
وهناك حديث آخر: (إذا توضأ المسلم فأسبغ الوضوء، ثم تشهد فتحت له أبواب
الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) .
وفي الحديث المتقدم نجد الصديق يسأل: هل يمكن أن تجتمع في فرد واحد موجبات
عدة؟ قال: (نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر!) ، ولا شك أنه أولى الناس
وأولهم سبقاًَ إلى الجنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأصناف السبعة المذكورة في الحديث اجتمعت في نبي الله يوسف عليه وعلى
نبينا الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر عنه أنه في شبابه نشأ في طاعة الله، وذكر
الله عنه أنه دعته امرأة ذات منصب وجمال: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي
بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] ، وذكر عنه أنه كان يتصدق، حتى قال بعض
المفسرين في قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ
مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] : كذبوا والله، بل كان يأخذ الطعام ويتصدق به سراً،
وكان إماماً عادلاً، وكان محباً للخلق، ملازماً للمساجد، ذاكراً لله،
قالوا: اجتمعت هذه في نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة السلام، ولم
يذكروا غيره، مع أنه ليس من أولي العزم من الرسل.
ولم يذكر لنا تاريخياً أن أحداً من الأنبياء الكرام امتحن بما امتحن به
يوسف في قضية امرأة العزيز، فلما اختص بهذه القضية كان أدعى لأن يصفوه بأنه
هو الذي اجتمعت فيه الخصال الواردة في هذا الحديث، ولا حرج فهذا فضل الله،
ولا نستبعد أن الله سبحانه يكرم بعض الشباب الذين أودعهم الله هذا السر،
فينشأ في عبادة الله مع إخوانه أو مع أهل بيته، ثم يكون أيضاً عفيفاً،
ويبادر أهله بزواجه مبكراً، ويكون محباً للمساكين يتصدق ويخفي صدقته، ويكون
قلبه معلقاً بالمساجد، ثم إذا ولي أمراً كان عادلا ً فيه، لا حرج فهذا فضل
الله.
اهتمام الإسلام
بالشباب
أشرنا إلى أن هذا الحديث المبارك قد شمل طبقات المجتمع، فبدأ بـ (شاب نشأ
في عبادة الله) ؛ لأن الشاب غداً يصير رجلاً، ويصير متعلق القلب بالمساجد،
وقد يكون إماماً.
إذاً: البداية من الشباب، ولذا وجب الاهتمام والعناية بشباب الأمة،
والمتأمل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية يجد العناية بشباب الأمة
عجيباً جداً، وسبق أن قدمنا محاضرة في ذلك، وقلنا: إن الإسلام قد عني
بالشباب قبل وجودهم إلى الدنيا؛ فمهد لوجودهم بالعناية الكاملة.
و (الشباب) : هو النشيط من كل كائن حي، سواء كان من الحيوانات، أو الإنسان،
أو الطيور، ومنه قولهم: شبت النار، إذا ارتفعت وعلت بعد الضعف.
ومن عناية الإسلام بالشباب أنه بدأ بالحث على اختيار الزوجة التي تنجبه،
ففي الأثر: (تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دسَّاس) ، ثم وضع الإسلام منهج بناء
الأسرة الإسلامية في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه
وخلقه فزوجوه) ، فبناها على أساس من الدين والتقى والصلاح.
وقال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات
الدين تربت يداك) متفق عليه عن أبي هريرة، فذكر من المرغبات حسب الجبلة:
حسب، نسب، جمال، دين، ثم قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ، والقرآن
الكريم حث كذلك على اشتراط الإيمان: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221] ، إذاً: عني الإسلام بالشاب قبل مجيئه بحسن
بناء الأسرة، والتقاء الأبوين على مبدأ الإيمان.
ثم راعى أول لقاءٍ بين الأبوين بأن يبدأ بذكر الله، فيضع الرجل يده على
ناصيتها ويقول: (اللهم! إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من
شرها وشر ماجبلتها عليه) ، ومع المباشرة يقول: (اللهم جنبنا الشيطان، وجنب
الشيطان ما رزقتنا) ، فإذا ظهر الحمل؛ أعفيت من كثير من التكاليف حفظاً
لهذا الحمل، فسمح الشرع لها أن تفطر إن كان الصيام يضر بها أو بجنينها:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
وأول ولادته يقابل بذكر الله: الأذان في اليمنى، والإقامة في اليسرى، ثم
يعق عنه يوم سابع الدورة الأولى من حياته؛ لأن الدورة الزمنية للطفل عند
الأطباء أسبوع، ولهذا يقدرون الحمل بكذا أسبوع لا بالشهر، فإذا أكمل الدورة
الزمنية الأولى وهي أسبوع كان له شأن آخر: عق عنه، وأزيل عنه الأذى، واختير
له الاسم الطيب، ثم بعد ذلك يكون موضع العناية والرعاية حتى إكمال إرضاعه؛
سواء اتفق الأبوان أو اختلفا، فلزم الأب بالإنفاق عليه فيما يحتاج إلى
الفطام، ولا يعجل عليه حتى يتم حولين كاملين.
ثم ينشأ إلى حد التمييز فيعلم الإسلام، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( {مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء
سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)
رواه أحمد وأبو داود.
والشاب الذي نشأ في عبادة الله قطعاً لا يكون على رأس جبل، ولا في وسط أمة
كافرة، ولا في وسط أمة مهملة، بل لابد أن تكون نشأته في موطن إسلامي، وكما
قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو
يمجسانه أو ينصرانه) ، ومن هنا إذا نشأ الشاب في مجموعة من الشباب الخيرين
فلابد أن يؤثر عليه محيطه، ومن هنا يتحتم على الأبوين تعليمه صغيراً؛ لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم راعى ذلك، فـ عمرو بن أبي سلمة لما جلس يأكل مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت يده تطيش في الصحفة قال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ، ولم
تخرج آداب المائدة عن هذه الكلمات: (سم الله) ، أي: اشكر الله على النعمة،
وقل باسم الله تنفعك ويبارك لك فيها، وتؤدي شكر المنعم عليك بهذه النعمة.
(وكل بيمينك) وكما يقولون: اليمنى للمكرمات، والأخرى لبقية الحاجات.
(وكل مما يليك) : ليس من هنا ومن هنا، إذ هي إساءة أدب.
فتعين على الأبوين أن ينشِّئا صغيرهما على تعاليم الإسلام، ولا يكون إلا
إذا كان الأبوان مسلمين متعلمين عالمين بحق هذا الطفل الذي هو ضيف عليهما،
أما إذا كانا هما في حاجة إلى من يعلمهما؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن هنا
كانت العناية بالتعليم بصفة عامة هي سيما الإسلام، فالإسلام دين العلم
والتعليم، ويكفي أن أول الوحي على النبي الأمي قوله سبحانه: {اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وخوطب
أول ما خوطب بالوحي بالعلم والتعلم! إذاً: هذه الرسالة رسالة علم قبل كل
شيء.
(شاب نشأ في عبادة الله) : فالأبوان عليهما المسئولية الأولى، وهذا الشاب
الذي نشأ في عبادة الله إنما كان بأثر الأبوين أولاً، ثم المجتمع.
نرجع إلى لفظ الحديث؛ لأن ترتيب أصناف الحديث -فعلاً- ترتيب مبني على
ارتباط النتائج بأسبابها.
أهمية الإمام العادل
للأمة
أول هؤلاء السبعة: الإمام العادل، وفي بعض الروايات: (إمام عدلٌ) ، وفي
روايات أخرى: (إمام عادل) .
العادل: هو الذي يسوي بين المتفقين: كالزوجين، والخصمين، والشريكين،
والصنفين، في القسمة بالوزن والكيل؛ هذا عادل، وهذا الوصف من العدل أو من
العدالة يتفق فيه المسلم والكافر؛ لأننا نجد ولاة من غير المسلمين يحكمون
بالعدالة في شعوبهم، ونجد معاملات عديدة من غير المسلمين تتصف بالعدالة،
وقال صلى الله عليه وسلم حينما وجه أصحابه إلى الحبشة: (لو خرجتم إلى
الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم
فرجاً) ، وكان النجاشي على دين النصارى، لكنه عادل ذو مروءة، إذاً: تلك
الأخلاق يتفق فيها الجميع.
على رواية: (إمام عدل) ، فالعدل: هو من اكتملت فيه أمهات الأخلاق الفاضلة
فهو متصف بالصدق، بالأمانة، بالورع، بمخافة الله، بفعل الخير، لا يحابي
أحداً على الآخر، فهو عدل في ذاته، قال الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى
عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، أي: ذوي صدق وأمانة ووفاء.
وهذا الإمام العدل: أتظنون أن يكون عادلاً أم غير عادل؟ أيكون عادلاً في
حكمه أو يكون جائراً؟ لابد أن يكون عادلاً، ولكن العادل في حكمه، هل يكون
عدلاً في ذاته أم لا؟ لا يلزم ذلك؛ فقد يكون كافراً أو فاسقاً، ولكن يضطر
إلى العدالة في الحكم ليبقى ملكه، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: الملك
يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم، والظلم ظلمات يوم
القيامة.
إذاً: هذا اللفظ جمع الصنفين: (إمام عادل) أي: في حكمه، (إمام عدل) أي: في
شخصه، وبالتالي سيكون عادلاً في حكمه، وإذا كان الإمام عدلاً تقياً زاهداً
فيما بأيدي الناس، ورعاً يخشى الله، تقياً في أعماله، مصلياً صائماً مزكياً
حاجًّا بيت الله، يخاف الله في كل تصرفاته، هل سيقر ظلماً في ملكه؟ هل يقر
فسقاً أو أية أعمال مخلة بالدين؟ الجواب: لا، بل سيعمل على أن تكون الرعية
مثاليةً في حياتها، وفي أعمالها، ولن يقبل من أحد أن يخرج عن قانون العدل.
إذاً: سيعمل على إصلاح الجميع، وسيقيم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وستكون الأمة في ظله أمة مثالية، ونحن وجدنا مصداق ذلك في صدر
الإسلام بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما كان عليه الناس في
خلافة أبي بكر وخلافة عمر استدعى أبو بكر رضي الله تعالى عنه عمر فقال: يا
أخي! أعني في بعض المهام، قال: وما تريد؟ قال: تتولى القضاء بين الناس؛ لأن
القضاء من مهمة الإمام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قاضياً، وقال
لبعض الصحابة: (اكفني مئونة بيت المال) ، فقام عمر وتولى القضاء، ومكث سنة
كاملة أو أكثر، ثم جاء إلى أبي بكر، وقال: خذ عملك، قال: ولِمَ أتعبتَ؟
قال: ما تعبت، ولكن من يوم أن وليتني القضاء ما جاءني أحد! أمة عرف كل واحد
فيها ما له فأخذه، وما عليه فأداه.
فرد عمر القضاء على أبي بكر لعدم وجود متخاصمين، فكانت الأمة بهذه المثابة؛
لأنها تخرجت من مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتولاها أبو بكر رضي
الله عنه من بعده، وسارت على المنهج الأول.
فإذا كان الإمام عدلاً عادلاً فإن الأمة كلها على خير، وكما يقال: الناس
على دين ملوكهم، وهذا من نتائج عدالة الإمام في ذاته، وعدله في رعيته،
وإقراره للحق وإبطاله للباطل، ونشره للفضيلة، وقضائه على الرذيلة.
قال أحد الناس: كنا نمشي بعد العشاء بمسافة قليلة عن باب المسجد، وثمة
أشخاص جالسون ممن انقطعوا لذكر الله، فقال لي أحد رفاقي: يا فلان! تعرف أهل
الجنة؟ قلت: ما رأيتهم حتى الآن! قال: هؤلاء ما بينهم وبين الجنة إلا
الموت؛ لا يظلمون أحداً، ولا يسرقون أحداً، ولا يعتدون على أحد، مكتفين
بذكر الله، وما يسر الله لهم من لقمة العيش، وهم كبار في السن، فقد كان
الناس في السابق بعيدين عن المشاكل وعن اقتراف المظالم.
ففي ظل الإمام العادل العدل لابد أن ينشأ الصغير على عبادة الله، وكذلك
يكون الكبير على الطاعة والامتثال وعبادة الله.
شمول الأمانة لكل
عمل وتكليف
وقد بيَّن المولى سبحانه والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن هذا
الإمام العادل تجب طاعته، فإذا خرج عن العدالة، وخرج عن منهج القرآن والسنة
النبوية؛ فلا طاعة له، كما قال الصديق: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن
عصيته فلا طاعة لي عليكم) .
ومن مبادئ المنهج الإلهي في الدولة الإسلامية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ،
الأمانات: جمع أمانة، وليست مقصورة على الوديعة التي تودعها أمانة لدى جارك
أو صديقك أو أي إنسان ترتضيه، بل كل التكاليف أمانة، فمن الأمانة العبادة
بينك وبين الله، كما قال بعض المفسرين في قوله سبحانه: {وَحُصِّلَ مَا فِي
الصُّدُورِ} [العاديات:10] ، قال: ما ائتمنوا عليه غيباً كصحة الوضوء من
الحدث، والغسل من الجنابة، فهي أمانة في عنق كل إنسان بينه وبين الله.
والإمام مالك: في مسألة أكثر الطهر وأكثر الحيض وأقله قال: إن الله قد وكل
أمر النساء إليهن، يشير إلى قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ
مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] ؛ لأن هذه أمانة
بينها وبين الله.
ومن الأمانة وضع الأستاذ الدرجات للطلاب، فالأستاذ حاكم: يعطي هذا خمس
درجات، وهذا ستاً، وهذا سبعاً، وهذا كذا يحكم على هذا بالنجاح، ويحكم على
هذا بالإعادة؛ فهذه أمانة، فتدريس الأستاذ في الفصل أمانة، فلا يعتني
بجماعة ويهمل جماعة، ولا يجيب سائلاً ويترك آخر، وتصحيحه للأوراق أمانة.
والإنسان في بيته مسئول كغيره: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) ؛ لأن
الرعية أمانة، فالله يأمركم أن تؤدوا الأمانات، وهي عامة، وأهم أمانة:
(الحكم) ؛ لأن الحاكم في الإسلام ليس فوقه إلا الله، وليس لأحد في دولة
مسلمة سلطان على القاضي المسلم إلا سلطة المولى سبحانه، كما يسمى حاليًّا
(حرية واستغلال القضاء) .
وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}
[النساء:58] ، أي: سواء بين اثنين أو حكم في أمة.
وجوب طاعة الإمام
بالمعروف
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، فيأمر الله الحكام والمسئولين
بأداء الأمانة والحكم بالعدل، ويأمر الرعية بالسمع والطاعة: (أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ) ، وهنا جاء فعل الأمر
بالطاعة مكرراً: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فأبرز فعل الطاعة مع لفظ
الجلالة ولفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أولو الأمر فلم يقل:
(وأطيعوا أولي الأمر) بل قال: (وأولي الأمر) ؟ وفي هذا إشارة إلى أن الطاعة
أساساً لله ولرسوله، أما أولو الأمر فطاعتهم تبع لذلك، أي: فإن أطاعوا الله
وأطاعوا الرسول فأطيعوهم، وإن لم يطيعوا الله ولم يطيعوا الرسول فلا طاعة
لهم.
إذاً: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] موجهٌ للحكام، وقوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
[النساء:59] موجه للأمة لتوثيق ارتباطها بالحكام، فالإمام العادل له حق
السمع والطاعة، وغير العادل الذي خالف الكتاب وخالف السنة ليس له ذلك الحق،
لكن بشرط أن تكون المخالفة كما بينها صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا
كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) .
فلو كان الإمام عدلاً ونقص عن العدالة شيئاً ما، كارتكاب بعض الصغائر
والتقصير في بعض الواجبات التي لا تبلغ به حد الكفر فطاعته واجبة.
أما إذا ارتكب ما يعتبر ردة عن الإسلام؛ فلا طاعة له، ولا كرامة! كأن يشرع
ما يخالف الإسلام، وكذلك إذا عطل حكماً في الإسلام، فهذا لا طاعة له: (لا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وقد أشرنا أن الصديق رضي الله عنه قال:
(وُلِّيْتُ عليكم ولست بأفضلكم، فأطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله
فلا طاعة لي عليكم) ؛ لأن طاعته فرع عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه
وسلم.
فإذا وجد الإمام العادل في الأمة فالأمة كلها بخير؛ لأن عدله وعدالته ستأخذ
الأمة إلى الصراط السوي، وتمنع من يجنح يميناً أو يساراً، ولا يسمح لأحد
بتجاوز حدود الله، ولا يعطل حداً من حدود الله، ولا يحكم بشيء يخالف أوامر
الله؛ ولذلك قالوا: الإمام العادل ظل الله في أرضه، وقالوا: عدل ساعة خير
من عبادة ستين سنة، وإقامة حدٍ من حدود الله في الأرض خيرٌ لأهلها من أن
يمطروا أربعين يوماً.
إذاً: إذا وجد الإمام العادل كان هناك الخير كل الخير، وقد جاء عن الإمام
أحمد رحمه الله أنه قال: لو علمت أن لي دعوة مجابة عند الله لجعلتها
للسلطان؛ لأن في صلاحه صلاح الأمة.
وفي سير الملوك والأمراء وولاة الأمر نجد القيام بالعدل وبالعدالة وإن لم
يكن عادلاً في ذاته؛ كأن يكون فيه جرح وتقصير، لكنه عادلٌ يقيم شرع الله،
ولا يسمح بما يخالف كتاب الله، فهذا فيه البركة.
إذاً: (إمام عادل) : هو المبدأ، وفي مظلة عدالته ستنتشر الفضائل، وتختفي
الرذائل، وفي هذا المجال ستنشأ الناشئة على عبادة الله.
وكلمة: (عبادة الله) ، ليس معناها مجرد المساجد، ولا مجرد الصلاة، ولا مجرد
الصيام، وإنما العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، يقال: طريق
معبد، أي: مذللٌ مسهل، فالعابد هو المطيع الملتزم، والشاب الذي نشأ في
عبادة الله، ونشأ على السمع والطاعة وعلى مكارم الأخلاقخ؛ إنما هو أثر من
آثار عدالة الإمام.
نموذج للعدالة
الإسلامية
في الواقع أن الحديث عن جوانب عدالة الإمام والأمثلة على ذلك مما نقرؤه في
التاريخ من بعد الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم، يضيق المقام عن
أن نسرده في جلسة أو في ناحية، وقد أشرنا إلى ذلك بقدر ما توصلنا إليه في
تلك الرسالة التي جمعناها بعنوان: من يظلهم الرحمن في ظل العرش.
والعدالة التي قرأنا عنها في زمن الصحابة -خاصة في باب القضاء- فيها نماذج
عجيبة، ومما يذكر وكيع في أخبار القضاة: أن شريحاً وكان قاضياً بالكوفة في
خلافة علي رضي الله تعالى عنه؛ دخل عليه علي وهو الخليفة، ومعه يهودي
يخاصمه في درعه، فقال القاضي: ما تقول يا يهودي؟! قال: هو درعي، وفي يدي،
فقال شريح لـ علي: ما بينتك على أن هذا الدرع لك؟ قال: الحسن بن علي وقنبر،
قال: أما قنبر فنعم؛ لأنه مولاه، وأما الحسن فلا نقبل شهادته لك، قال: ويحك
يا شريح! أما سمعت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سيدا شباب أهل
الجنة الحسن والحسين) ؟ كيف ترفض شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ قال: لا
أرفضها؛ لكنها تُرفض إذا كانت لك أنت؛ لأنه ولدك! انظروا إلى هذه المواجهة!
ثم قال: هل لك شاهدٌ آخر؟ قال: لا، قال: إذاً: اذهب -يا يهودي- بدرعك، فخرج
علي وحينما وصل إلى الباب استوقفه اليهودي، وقال: قف يا علي! والله إن
الدرع لدرعك، كان على راحلتك فسقط فأخذته، وأنا أنكرتك فيه لتذهب بي إلى
القاضي؛ لأنظر كيف يفعل قاضي المسلمين مع يهودي، أما والحال كذلك فخذ درعك،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ففرح بذلك علي؛ لأن دعواه
كانت غير ثابتة، أما الآن فصدقه في دعواه، فقال: الدرع لك ومعه مائتا درهم!
فأية عدالة بعد هذا؟! يوجد نماذج كثيرة -يا إخوان- ويكفي التنويه، ونحيلكم
على بعض النماذج في تلك الرسالة التي أشرنا إليها، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
كتاب الزكاة - باب
صدقة التطوع [2]
الإسلام دين رحمة ورأفة، وقد حث الأغنياء على مواساة الفقراء والمحتاجين
بالصدقة، وجعل الصدقة عامة في كل ما يسد الحاجة، ورتب على ذلك عظيم الأجر،
بل ربما كانت صدقة التطوع في بعض الأحوال خيراً من صدقة الفرض.
المسلم في ظل صدقته
يوم القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (كل امرئٍ في ظل صدقته حتى
يفصل بين الناس) رواه ابن حبان والحاكم] .
هذا الحديث ضمن معنى الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول: (سبعة يظلهم) وهنا:
(المرء في ظل صدقته) ، فالحديثان متفقان في المعنى في هذه الجزئية.
وفي بعض روايات هذا الحديث: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين
الخلائق) ، وقدر ذلك كما بينه الله في قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ، ويبين مكانة هذين الحديثين التأمل
في حالة ذلك اليوم، يوم الفرار، يوم الهروب، كلٌ يقول: (نفسي نفسي) حتى
الأنبياء والرسل حينما يطلب منهم الشفاعة إلى الله؛ ليأتيَ لفصل القضاء،
فكلٌ يعتذر ويقول: (نفسي نفسي؛ إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله
مثله) ، ويعتذر بما كان منه في دنياه، وهم رسل معصومون، ولكن الموقف فوق
المستوى العادي، فكل يحيل إلى الآخر، حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، فتكون الشفاعة العظمى التي يشفع فيها لأهل الموقف جميعاً بما
فيهم الأنبياء والرسل.
وهذا اليوم وصفه الله بقوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ
اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ، فتأتي الصدقة التي أراد بها صاحبها وجه الله،
فأخفاها عن المتصدق عليه، بل أخفاها عن نفسه هو، حتى لا تعلم يمينه ما تنفق
شماله؛ تأتيه في ذلك اليوم وتظله، وهو يوم لو كانت الدنيا بكاملها تحت يديه
كما كانت تحت يد ذي القرنين؛ لفادى نفسه بعشرات أمثالها في ذلك اليوم، ولكن
لا ينفع ذلك، والدنيا مزرعة الآخرة.
ولهذا مر الحسن على رجل يعظ الناس بالتزهيد في الدنيا، فقال: على رسلك، وهل
تحصَّل الجنة إلا بالدنيا؟! وهل يتصدق المتصدقُ إلا من الدنيا؟! وهل ينفق
في سبيل الله إلا من الدنيا؟! عليك أن تزهد في الحرام منها، أما الحلال
فكلنا يعلم أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه مون جيشاً بكامله، وابن
عوف تصدق بقافلة من الإبل وما تحمل، والرسول صلى الله عليه وآله سلم يقول:
(لو أردت أن تسير خلفي الجبال ذهباً لفعلتُ!) .
إذاً: يتحرى الإنسان الحلال، ويتحرى من يتصدق عليه من كرام الناس ذوي
الحاجة؛ من الذين تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً كما قال تعالى:
{لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
[البقرة:273] ، والكلام في هذا الصنف طويل، ويكفينا هذا القدر، وبالله
تعالى التوفيق.
الجزاء من جنس العمل
قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عريٍ كساه الله من
خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة،
وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم) رواه أبو
داود، وفي إسناده لين] .
في إسناده لين أو ضعف!! الحديث عليه رونق النبوة، وله حلاوة في السماع،
ويرتاح القلب إليه، وهو واقع طبيعي: (من كسا مسلماً على عريٍ كساه الله من
خضر الجنة) ، فالجنة كبيرة، وخضر الجنة ليست قميصاً ولا ثوباً، بل هي حلل
مقابل أن تكسو مسلماً على حاجة.
ودرهم قد يسبق مائة ألف درهم من الناس، لأنه ليس عنده إلاّ درهمان فتصدق
بواحد، وهذا كسا إنساناً على عريٍ، وليس معناه أنه مكشوف العورة يمشي بين
الناس عارياً، وإنما: ليس عنده من الثياب ما يكفيه، كالرجل الصحابي الذي
زوجه الرسول عليه الصلاة والسلام بالمرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله
عليه وسلم، فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، قال: (فماذا تصدقها؟ قال:
أصدقها ردائي، قال: فإن أعطيتها رداءك جلستَ ولا رداء لك، اذهب والتمس
شيئاً، فذهب فلم يجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد) ، فهذا عنده
رداء فقط، فهل يعتبر عارياً؟ نعم يعتبر عارياً، وأعتقد أنه لا أحد من هؤلاء
الموجودين إلا وعنده أكثر من خمسة أثواب، فضلاً عن الفنايل والسراويل
وغيرها.
فقوله: (كسا مسلماً على عري) : يعني أنه يستر عورته بصعوبة، فيأتيه بثوب،
وهذا بيان لتنوع الصدقة، وأنها لا تتوقف على ما يطعم الفم، وإنما هي بحسب
حاجة الإنسان، فكل من له حاجةٌ لشيء تتصدق عليه به، لو كان عندك بيوت كثيرة
وتصدقت على عائلة بأن تُسكنها في دارك فذلك أعظم من أن تكسو واحداً من
الأسرة بثياب.
إذاً: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلو أن واحداً يكد على عياله، ويحتاج
إلى مواصلات، وعندك عدة سيارات، وقلت: هذه السيارة تساعدك على عملك، لأن
عملك بعيد، فخذ هذه السيارة؛ فهذه صدقة عظيمة، وهكذا كل ما يمكن أن تقدمه
لإنسان: سواء كان في الملبس أو في المطعم.
فرح الفقير بالصدقة
قوله: (وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أو سقاه على ظمأ) : كل هذا يقدمه
إليه؛ لأن العاري حينما يأتيه ثوب يفرح به فرحاً عظيماً، ولو كان هذا الثوب
لا يعادل عند الأغنياء المال الكثير، والغني لو جاءته حلة -بدلة-، أو حتى
خمسة أثواب أو عشرة لم يفرح، ولا يكون لها الوقع والحلاوة واللذة مثل هذا
الثوب الذي يهدى لهذا العاري؛ لأنه في أمس الحاجة له.
وكذلك الجائع إذا اشتد به الجوع تختلف حاله عن حال شخص منعم في قصره، ولديه
جميع الأطعمة، ولو قدمت إليه مائدة مكتملة بكل أنواع الأطعمة والفواكه، فما
قيمة هذا عند صاحب (العمارة) التي فيها كل ما تشتهي النفس؟ لذا تجد بعض
الأغنياء يأتي إلى موائد الأفراح، وفيها ما لذ وطاب، والبعض منهم يخرج وهو
يقول: والله! لو كان فيها كذا أو كذا، كالكاره لتلك المائدة؛ لأن عنده في
البيت مثل هذا، لكن المسكين لو حصل على صحن بيض من هذه المائدة، وأشبع
جوعته؛ فإن فرحه يساوي الفرح بالعرس كله! ولذا جاء في حديث الموائد: (شر
الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه من يأباه، ويمنعها من يأتيها) ، فالجوع
يدفعه فيأتي إليها طمعاً في أن يشبع جوعه، فيقال له: تنح عن الناس، تنح عن
الطريق!! يا سبحان الله! والله -يا إخوان- حدثت حادثة مع بعض الإخوان، وقد
كانت هناك خطة لتصريف الأطعمة التي في موائد الأفراح، فيذكر لي الشخص الذي
كان يقوم على ذلك، أنه كان يأخذ القدر بما فيه بالسيارة، ويأتي إلى محل فيه
فقراء، ويقف ويقول: أحضروا قدوراً وصحوناً، ويقسم بالله! إن البعض منهم كان
لا يجد صحناً ولا قدراً! ويأتي بورقة كيس الإسمنت ويقول: ضع لي في هذا، فما
قيمة هذا الذي سيضعه له في ورقة كيس الإسمنت مع شدة جوعه؟ وهذا قدر فايض عن
حاجة الذين شبعوا وزاد عنهم، فيأتي إلى أولئك الفقراء، ويوزع عليهم، فيأتيه
شخص -امرأة أو رجل- بورقة كيس الإسمنت، ويقول له: ضع لي فيها!!
استحباب البحث عن
المساكين لإعطائهم الزكاة
وقد سألني سائل من قبل عن زكاة الفطر: هل ندفعها لمؤسسة أم لا؟! فقلنا: إن
هذا يفقدك فضيلة البحث والتفتيش عن المحتاجين حقاً، والتعايش والتعاطف
معهم؛ لأنك بعيد عنهم، أما إذا خالطت وفتشت فسيظهر لك الشيء الكثير، وستجد
المتعة الروحية في أنك تقدم لمستحق لا يعلم أحد عنه.
وهذا الحديث يدعو إلى تحري المحتاج، سواء كان عارياً فتكسوه، أو جائعاً
فتطعمه، أو ظمآن فتسقيه.
وما هناك أعظم أجراً من سقي الماء، كما في قصة سعد بن عبادة لما توفيت أمه،
وهو غائب في غزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاء سأل الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟!
قال: نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء.
قال: فتلك سقاية أم سعد بالمدينة) .
وجاء أنه قيل لها: تصدقي أوصي، قالت: المال لـ سعد، وماذا أوصي؟ وأن سعداً
قال: (يا رسول الله! أينفعها إن تصدقت عنها؟! قال: نعم، قال: وما خير
الصدقة؟ قال: سقي الماء) ، فكانت سقاية أم سعد معروفة في المدينة، وكانت
إلى عهد التابعين.
وحبذا لو أخذت ثلاجة تبريد وجعلتها في مسجد من المساجد، وليس بلازم أن يكون
مسجداً، فلك أن تجعلها في ملتقى شوارع، أو في ميدان، أو في منطقة ليس
لأهلها ثلاجات في بيوتهم، فإذا جئت بهذه البرادة، واتفقت مع صاحب بيت
بجوارها أنك تدفع له كلفة الكهرباء والماء شهرياً، بشكل تقريبي بقدر ما
يستهلكه في بيته لكان خيراً، وما الذي يمنع من أن يشترك اثنان أو ثلاثة في
برادة واحدة؟! فسقي الماء أثره وأجره عظيم جداً.
حكم الصدقة على
الحيوانات والكافر غير الحربي
وسقي الماء للحيوان فيه أجر، فيه أجر، فامرأة دخلت النار في هرة حبستها ولم
تطعمها، وامرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته، كانت تمشي في الطريق واشتد
عليها الظمأ فوجدت بئراً، فنزلت فشربت، فخرجت فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من
شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد بلغ به الجهد من العطش مثلما بلغ بي،
فخلعت خفها، ونزلت البئر وملأته وأمسكته بفمها حتى صعدت، وسقته الكلب، فشكر
اللهَ فشكر اللهُ لها، أي: الكلب شكر اللهَ على أنه شرب، أو أن الله شكر
لها صنيعها فغفر لها.
وفي الحديث: قالوا: (ألنا في البهائم أجر يا رسول الله؟! قال: في كل ذي كبد
رطب أجرٌ) ، حتى الكافر، إذا كان معك زيادة ماء، ووجدت كافراً يموت عطشاً
وليس حربياً، فاسقه، فإذا كنا نؤجر في الحيوان ألاَ نؤجر في الإنسان؟!
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمتأمل لحالة المتطوع بالصدقة لربما وجده أفضل من فاعل الواجب للزكاة؛
وإن كان الواجب أفضل من النافلة، إلا أن مخرج الزكاة إنما يخرجها عن غنى،
لأنه امتلك نصاباً، وبقي عنده النصاب عاماً كاملاً لم يحتج إلى شيء منه، ثم
إنه يخرج الزكاة ووراءه من يطالبه بها، وفي الحديث: (من أداها طيبة بها
نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله) .
أما المتطوع فليس هناك من يلزمه، وقد لا يكون مالكاً نصاباً ولا نصف نصاب،
فقد يتبرع أو يتطوع بما في يده، فصدقة التطوع يفعلها طاعة لله ابتداءً من
نفسه، وإن كانت أيضاً الزكاة المفروضة إنما يخرجها طاعة لله، لكن الزكاة
فيها إلزام، وأما التطوع فلا إلزام فيه، إنما هو من دوافع نفسه ويقينه
بالله بأنه سيعوضه عن ذلك، وتقدم في الحديث الأول: (سبعة يظلهم الله
-وفيه:- ورجل تصدق بصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، وهذا
بيان لفضل الصدقة وأنها تكون مدعاة أو مستوجبة لأن تجعل صاحبها في ذلك
الموقف العظيم وفي تلك النعمة؛ حينما يلجم الناس العرق، وتدنو الشمس من
الرءوس، فيكون المتصدق في ظل عرش الرحمن بسبب الصدقة الخفية، وفي الحديث
الذي بعده: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة) .
فمُخْفِي الصدقة يظلل بعرش الرحمن، ومن آداب الصدقة في كتاب الله إخفاؤها
والتلطف بها، وإبداء المعروف معها، وحفظ كرامة المسكين، فيكون المتصدق
لطيفاً عفيفاً كريماً يراعي حرمة الإنسان الذي أعوز المال، وقد بيّن سبحانه
ذلك فقال: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}
[البقرة:264] ، وقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] ، وكان بعض السلف يرى للمسكين الذي يقبل
صدقته فضلاً عليه؛ لأنه يكون سبباً في حصوله على مرضاة الله، وعلى مضاعفة
ماله والزيادة فيه، فينبغي على الإنسان أن يتحرى، وأن يبحث، وأن يتعرف على
مستحقي الصدقة أولاً.
وقوله: (أيما مسلم كسا إنساناً على عريٍ) أعتقد أنه لا يوجد إنسان يمشي في
الطريق عريان؛ لأن هذا ممنوع ومحرم، وكان بعض السلف إذا لم يكن عنده إلا
ثوبٌ واحد فإنه إذا احتاج إلى نظافته، يغسله ويبقى في البيت إلى أن يجف
الثوب فيلبسه، وقد سمعت قصةً -لو صحت هذه! وحاولت بكل جهد أن أصل إليها،
ولكن للأسف لم أصل- وهي: أن طالبين كانا في مدرسة واحدة، وفي فصل واحد،
وهما توأمان، يحضر أحدهما يوماً، ويغيب الآخر، ثم يحضر من غاب، ويغيب من
حضر وهكذا، فعنفهم المدير، وضربهم، وهم يعتذرون: سنأتي لن نغيب، ويتعللون،
ولما كثر عليهما الإيذاء والكلام صارحا المدير، وقالا: نحن نصارحك فيما
بيننا وبينك فقط، نحن أخوان لا نملك إلا ثوباً واحداً، يأتي به أحدنا،
ويجلس الآخر عريان في البيت، فإذا كان الغد تبادلنا الثوب.
فإذا كان الناس بهذه المثابة، ويثابرون على طلب العلم والدارسة، فهذه صورة
من كسا مسلماً على عري، فلا يخرج المرء إلى الطريق عارياً، ولا يفعل ذلك
إلا المجانين، ولكن تصدق على من كان ذا قلة، وهو من أحوجته الثياب وأحوجته
الكسوة، بعض الناس في الحالة العادية ربما عنده الخمسة والستة والسبعة
الأثواب، وأتباعها مما تحت الثياب، وقد يكون الشخص ذا ثوبٍ واحد.
وقد قرأنا في تاريخ عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان يرقع قميصه، بل تأتي
الرقعة فوق الرقعة، وفي قصة ذهابه إلى بيت المقدس ليستلم مفاتيح المدينة
أنهم قالوا: إننا وجدنا في كتبنا أن نسلمها إلى رجل صفاته كذا وكذا، فكتب
إليه القواد بذلك، وذهب ومعه خادمه، وكانا يتعاقبان في الركوب، يركب أحدهما
ويمشي الآخر، ثم يمشي من ركب منهما ويركب الآخر، فلما دنا من بيت المقدس
لقيه الأمراء، وقالوا: يا أمير المؤمنين! إنك تلبس هذا القميص المرقع،
وتقدم على غير العرب، وهم يفخرون بالثياب، ويخدعون بالمناظر، دعنا نكسوك
قميصاً، فقدموا له قميصاً من الكتان، فلما لبسه نزعه وقال: ردوا عليَّ
قميصي، قالوا: فاسمح لنا أن نغسله لك؟ قال: لا بأس، فغسلوا له قميصه
المرقع، وكانوا لا يريدون أن يقدم على غير المسلمين بذلك اللباس، وجاءت
نوبته في المشي فقال له الخادم: اركب أنت! لقد وصلنا إلى القوم، ولا ينبغي
أن نقدم عليهم وأنا راكب، وأنت تقود البعير، فاركب أنت لأنك أمير المؤمنين،
قال: لا، هذا حقك، ولابد أن تستوفيه، وكان من فائدة ذلك أنه حينما قدم
عليهم قالوا: نعم، هذا الوصف الذي رأيناه عندنا: قميصه مرقع، ويخدم خادمه!
أيها الإخوة: ربما يكون الإنسان في حاجة ماسة ولا يعلم حاله إلا الله،
وأقول: إن الذي يعرف حقيقة صدقة التطوع هو الفقير؛ لأنه يحس بحاجة أخيه
الفقير، أما الأغنياء فهم في حال حسنة، وربما لا يشعرون بغيرهم، وقد قيل:
إن السر في صوم نبي الله داود يوماً وإفطاره يوماً أنه سئل عنه فقال: أما
اليوم الذي أصوم فيه فأجوع وأتذكر المساكين، وأما اليوم الذي أفطر فيه
فأشبع فأشكر نعمة الله عليَّ، وهكذا هنا: (أيما مسلم كسا مسلماً على عري)
يعني: أنه فتش، وتحرى، ووجد من يستحق.
إذا كان بيدك قميص تريد أن تتصدق به، فهل تعطيه لمن يجر ثوبه خيلاء، أو لمن
يلبس الحرير والكتان؟! أو لمن تكاثرت لديه الملابس، أو على إنسان في برد
الشتاء يتأثر بالبرد، ويحتاج إلى هذا الثوب؟ لا شك أنك تبحث عن صاحب الحاجة
وتقدمه إليه، وكما قيل: إن الصنيعة لا تعد صنيعةً حتى يراد بها طريق
المصنعِ يعني أن توضع في محلها، ومن هنا بيّن الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم ما يعامل به هذا النوع من الناس: كساه الله من حلل الجنة، أو من خضر
الجنة، والجزاء من جنس العمل.
(وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم
سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم) : الرحيق هو أفضل أنواع
الشراب، وقيل: العرب تسمي أعلى أنواع الخمر رحيقاً.
والمختوم أي: المحفوظ المعظم المكرم بخلاف الأشياء العادية التي لا تختم،
فتوضع في إناء ولا يعبأ بها؛ لأنها غير كريمة أو غير ذات قيمة، أما الشيء
النفيس الكريم فيحافظ عليه، ويختم عليه زيادة في العناية والحفظ.
وهكذا يبين لنا صلى الله عليه وآله وسلم أنك ما دمت متصدقاً وأخرجت الصدقة
من ملككَ، وجادت بها نفسك، فانظر أين تضعها؟!
الصدقة تعم كل ما
يسد حاجة الإنسان
وفي هذا الحديث: بيان أن صدقة التطوع لا تتوقف على الدرهم والدينار، بل تعم
كل ما يسد حاجة للإنسان، فعريان يحتاج إلى قميص، وجائع يحتاج إلى طعام،
وظامئ يحتاج إلى شراب.
شربة الماء صدقة، وقد قيل: إن أفضل التطوع وأفضل الصدقات سقي الماء.
فضل التصدق بالماء
كان سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وتوفيت أمه في غيبته، فلما جاء سأل رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: (إن تصدقت عنها هل ينفعها؟ وقيل: إنها كانت تكلمت في مرض
وفاتها، لو تملك شيئاً لتصدقت به، أو سألوها: لو تصدقتِ؟ فقالت: المال مال
سعد، وليس لي مال أتصدق به، فعلم ولدها أنها كانت ترغب في الصدقة، فسأل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال:
أشهدك أن مال كذا -بستان له في المدينة- صدقة في سبيل الله، قال: في أي شيء
أضعه؟! قال: (في سقي الماء) ، فكانت لها سقيا في المدينة، تسمى سقيا أم
سعد.
ومن حكم العوام: اسق الماء وأنت على الماء، أي: وأنت واقف على سبيل أو جالس
عند ماء زمزم، فجاء إنسان وسقيته، فهذه صدقة منك عليه، ولك فيها أجر، وكذا
لو كنت على نهر وإنسان يمشي فطلب أن تسقيه، فناولته من النهر وأعطيته؛ فهذه
صدقة أيضاًَ، وروي أن جبريل عليه السلام قال: (يا رسول الله! إن الملائكة
لتعجب من ثواب عملين من أهل الأرض، تمنت لو أنها عملت مثل ذلك، قال: وما
هما؟ قال: سقي الماء، وإصلاح ذات البين) .
وسبق -يا إخوان- أن قلنا: إذا وجدنا الحديث يجمع بين أمرين فيجب أن نفتش ما
هي الرابطة بين هذين الأمرين؟ لا يمكن أن تأخذ بلبلاً يغرد وتربطه مع غرابٍ
يصيح؛ لأنهما غير متناسبين، لكن عندما تأخذ بلبلاً يغرد وشحروراً يصدح؛
فهذه متناسبة، وجمع الجواهر النفيسة في عقد واحد متناسب، لكن أن تأخذ من
الجواهر، وتأخذ من نوى التمر أو من الحصى وتنظم منه عقداً! هذا غير متناسب.
إذاً: إذا رأيت أمرين فأكثر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما
هي المناسبة؟ وما هو العامل المشترك الذي جمع بين هذه الأمور في حديث واحد؟
فلو نظرت هنا: سقي الماء وإصلاح ذات البين، فإنك تجد الرابطة بينهما قوية؛
لأن سقي الماء به حياة النفس، وإصلاح ذات البين به حياة المجتمع؛ لأنه إذا
ترك وقع الفراق أو النزاع أو الخصومة بين الناس؛ وكانت الحالقة، وصارت فتنة
أكلت الأخضر واليابس، فكان فيها الهلاك.
إذاً: هذا الحديث يعطينا المنهج الذي ينبغي على المتصدق، وفاعل الخير أن
يسير عليه.
الصدقة بغير المال
من جانب آخر صدقة التطوع ليست قاصرة على ذوي الأموال واليسار، ففي الحديث:
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة، فجاء رجل بدنانير،
وجاء رجل بدراهم، وجاء رجل بثياب، وجاء رجل بتمر، وجاء رجل بقبضة دقيق،
وجاء رجل وقال: يا رسول الله! ليس عندي ما أتصدق به، ولكني تصدقت بعرضي على
كل من اغتابني أو سبني، فلما جاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: والله! لقد تصدق رجل منكم بصدقة عمت جميع الناس!) ، ليس عنده مال، لكن
تصدق بأن سامح وعفا وصفح عن كل من اغتابه؛ لأنه أصبح له حق يستوفيه يوم
القيامة، فهو تصدق بهذا الحق على صاحبه، من باب قوله تعالى:
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] .
إذاً: الصدقة لا يتقاصر عنها إنسان، فتصدق بكل شيء أمكنك أن تفعله ولو شربة
ماء، قال الناظم: بث الجميل ولا تمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمودُ
وليس معنى الفقر هنا: فقير المسكين الذي ليس عنده شيء، وإنما الفقر
الاحتياج، فأنت -مثلاً- تفتقر إلى خيط تخيط به خرقاً في ثوبك، أو تفتقر إلى
إبرة ليست عندك، وجيبك مملوء نقوداً، لكن عندك الثوب مشقوق، والفلوس لا
تخيط مخيطة للثوب، وصاحبك عنده إبرة، وأنت مفتقرٌ إلى إبرته.
إذاً: فكل ما سد فقراً، ولو إبرة تخيطُ بها ثوباً، ولو خيطاً تربط به شيئاً
فهو محمودُ، يحمدك صاحب الخرق على أنك أعطيته الإبرة، وهكذا.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة)
، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد
جيرانك) .
وقوله: (فرسن شاة) ، هي ما دون الرسغ من يدها، وقيل: هو عظم قليل اللحم،
والمقصود المبالغة في الحث على الإهداء ولو بالشيء اليسير، وخصَّ النساء
بالخطاب لأنه يغلب عليهن استصغار الشيء اليسير، والتباهي بالكثرة عائشة رضي
الله تعالى عنها جاءتها المسكينة وهي تأكل عنباً، فأخذت حبة وأعطتها إياها،
فأخذت المسكينة تقلبها مستقلة إياها، فقالت: انظري كم فيها من ذرة! والله
يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] .
إذاً: باب المعروف واسع، وليس له حدٌ، وفي استطاعة كل مسلم أن يتصدق
يومياً، وقد جاء حديث أعم من هذا: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم
تطلع فيه الشمس قال: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله
عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها
إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) ، فحتى البشاشة في وجه أخيك
تلقاه بوجهٍ طلق؛ صدقة، هل هناك أحد يعجز عن أن يبش في وجه أخيه؟ وهل هناك
أحد يعجز عن أن يقول كلمة طيبة، أو يلقي السلام؟ فكل هذا من باب صدقة
التطوع
كتاب الزكاة - باب
صدقة التطوع [3]
الشريعة الإسلامية تحث على الكسب الحلال، وتكره البطالة، ولذا فضلت اليد
العليا على اليد السفلى، ويشرع للمنفق آداب وأحكام بينتها الشريعة، ومن ذلك
أن يبدأ بنفسه ثم بالأقرب فالأقرب ممن تلزمه نفقتهم.
اليد العليا خير من
اليد السفلى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا
محمد، وعلى آله وصحبه.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى،
وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن
يستغنِ يغنه الله) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
معنى اليد العليا
واليد السفلى
حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه يرتبط مع الحديث الذي بعده بعين
الموضوع، وللعلماء فيه كلام، يقول رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) .
يقولون: اليد العليا عليا في الهيئة وفي الواقع؛ لأن السائل يقول: أعطني،
والثاني يقول: خذ، فاليد العليا هي المعطية، والسفلى هي الآخذة، وهذا يطابق
الواقع عملياً، ومن ناحية المعنى: لا شك أن اليد ذات الغنى أعلى من اليد
ذات الفاقة، فذات الفاقة متدنية، وذات الغنى مستعلية.
وبعضهم يقول: اليد العليا هي المستعلية على الأغنياء بعفتها، فهو فقير،
لكنه متعفف، فصارت يده عليا مستعلية على من يعطيها بعفتها، كما قال الله:
{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ
بِسِيمَاهُمْ} [البقرة:273] ، ولكن المعنى العام على ظاهر الحديث هو الأول،
وهو الواقع الحسي المتداول المعروف، وهل هذا فيه مذمة لليد السفلى أو تفسير
واقع وحثٌ للفقراء والمساكين بأن يستعفوا، ويرفعوا أيديهم عن منزلة السفلى؟
هذا حثٌ للفقير وحثٌ للمسكين بأن يستعف، وأن يعمل حتى يرفع يده عن منزلة
السفلى، وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير ذلك عملياً حينما جاءه
شابٌ قويٌ جلدٌ يسأل الصدقة، فنظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له:
(إن الصدقة لا تحل لقويٍ ذي مرة، قال: ماذا عندك؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه،
ونلتحف بنصفه، وقعبٌ نأكل ونشرب فيه) .
هذا هو أساس بيته، فليس له غرفة نوم، ولا غرفة ضيوف، ولا صالة، أثاثه كله
محصور في بطانية أو حنبل يفرش نصفه ويتغطى بنصف، والقعب، هذا هو أدوات
المطبخ.
فقال: (علي بهما) ، فأخذهما صلى الله عليه وآله وسلم وقال: من يشتري مني
هذا؟ فقال رجل: بدرهم -ولعلها لا تبلغ قيمة الدرهم- فقال: من يزيد؟ -حتى لا
يكون هناك مماكسة في حقه- فقال رجل: بدرهمين -وأعتقد أن الذي يزيد (100%)
إنما هو مجاملة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: خذ، ويعطي الشاب
الدرهمين، ويقول: اشترِ بدرهمٍ طعاماً وضعه عند أهلك، واشترِ بدرهمٍ فأساً
وحبلاً.
فإذا كان فأس بدرهم فمعناه أن الدرهم كانت له قيمة؛ لأن القيمة الشرائية
للنقد حينما يكون النقد عزيزاً، أما إذا كان النقد هابطاً فلا قيمة له،
فبعض الجهات عملتها لا تساوي شيئاً، ونحن شاهدنا ارتفاع وانخفاض العملات في
الأسواق.
المهم أنه ذهب واشترى الفأس والحبل، وجاء فأخذ الفأس، ووضع عوداً فيه،
وقال: اذهب فاحتطب، وبع واستغنِ، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فيذهب، ثم
يأتي، ويقف على رسول الله والدراهم في جيبه، فيتبسم صلى الله عليه وآله
وسلم ويقول: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً، فيذهب فيحتطب فيبيع فيستغني،
خير له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتعفف يعفه الله) ،
أي: من يستغنِ بالله يغنه، ومن يستعفف في جانب الله يعفه، ويرزقه القناعة
والصبر، وهكذا.
دخول كل معروف في
اليد العليا
قوله عليه الصلاة والسلام: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) ، أعتقد أن
هذا ليس قاصراً على الصدقة بالمال، والغني والفقير، بل يؤجر كل من أسدى
لإنسانٍ حاجة، فلو كانت لشخص حاجة في جهة من الجهات، أو عند إنسان من
الناس، فذهبت وقضيت له حاجته، فممكن أن يدخل ذلك في قوله: (اليد العليا خير
من اليد السفلى) ، ويكون في ذلك أجر وفضل لمن أسدى لأخيه معروفاً، وأصبح له
يدٌ عنده.
كما في قصة المغيرة بن شعبة وهم تحت الشجرة في الحديبية الرضوان عندما كتبت
الصحيفة، ولما جاء أحد المشركين يفاوض، أخذ بيده لحية رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وكان المغيرة بن شعبة واقفاً على رأس رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال: كف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألاَّ
ترجع إليك! وكان السيف في يده.
فقال: من هذا يا محمد؟! قال: هذا فلان.
قال: يا غدر! ما غسلت غدرتك إلا بالأمس، ثم قال الرجل: يا محمد! ما أظن أن
هؤلاء يثبتون معك، ما أظنهم إلا ينفضّون عنك، فقال له أبو بكر: امصص بظر
اللات! أنحن ننفضُّ عن رسول الله؟ قال: من هذا يا محمد؟! فقال: هذا أبو بكر
قال: لولا يد لك عندي، لرددتها عليك، ولكن هذه بتلك، يعني: أن أبا بكر سبق
أن عمل له معروفاً، حتى صارت له يد عليه، أي: منة ونعمة.
وهكذا اليد العليا في كل شيء يحتاجه الإنسان، ويتقدم إليه الآخر بقضائها،
سواء منه شخصياً أو عن طريقه، فهي يدٌ عليا على من أنعم عليه بذلك المعروف.
البداءة في الصدقة
بالأقربين
وقوله: (وابدأ بمن تعول) قرينة تدل على أن اليد العليا هي المعطية.
والعيال هم من يلزم الإنفاق عليه، وساقها المؤلف في باب الصدقة للمناسبة،
فتكون لك يدٌ عُليا على الغَير، بمعنى أنك تتصدق من مالك، وكيف تفعل ذلك؟
علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق أن نبحث عن ذوي
الحاجات، فنضع المعروف في محله، نضع الكساء للعريان، ونعطي الطعام للجائع،
ونعطي الماء للعطشان، وهكذا نعطي الدلو لمن ليس عنده دلو، ونعطي الحبل لمن
لا حبل له، ونعطي البعير لمن يحتاج إلى ركوبه، ونعطي القلم لمن لا قلم
عنده، فنضع الشيء في موضعه.
وهنا يعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم الترتيب والأولوية، كما قال الله:
{يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] فقال: (وابدأ بمن تعول)
، وأولى ما يكون للإنسان نفسه، فأولاً: تكفي نفسك، فلو كان عندك ثوب وأنت
عريان، هل تعطيه لغيرك؟ لا، ومن أمثلة العوام: مطابق وأخوه عريان؛ والمطابق
هو الذي يأخذ ثوبين وأخوه عريان، فهنا يعطي كل واحد منهما ثوباً.
وأما من له الأولوية في الإنفاق، بعد النفس، فبعض العلماء يقول: الزوجة،
ولكن القرآن يقول: {فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، ونفقة الوالدين هل
تكون إجبارياً، أو تطوعاً؟ إذا كان الوالدان مستغنيين فليس لهما حق النفقة
على الولد، وكذا الولد، لكن الزوجة مهما كان غناها، فنفقتها واجبة على
زوجها على كل حال.
إذاً: نفقة الزوجة في الدرجة الأولى بعد النفس؛ لأنها واجبة في حال غناها
وفقرها، لكن الأبوين والأولاد، لا تجب النفقة عليهم إلا عند الحاجة، إذاً:
من كانت النفقة واجبة له على كل حال؛ فهو أولى ممن كانت واجبة له في بعض
الأحوال، فالنفقة على زوجك أولى.
جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! سمعت
ما أنزل الله سبحانه وتعالى في قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، وإن أحب مالي إلي بيرحاء) ،
والعامة تقول: بير حاء، وكان هنا عند باب المجيدي، ودخل في توسعة المسجد،
وكان فيه ماء يستعذب، وكان بجوار المسجد، وكان أحسن أو أعز أو أحب ماله
إليه، فقال: يا رسول الله! هو صدقة؛ ضعه حيث شئت، فقال: (اجعله في أهلك) .
محل الشاهد قوله: (اجعله في أهلك) ، وهكذا يكون الإنسان صاحب خير؛ سواء كان
فقيراً أو غنياً، فيسد من حوائج الناس، والأقربون أولى بمعروفه، ثم بعد ذلك
الأدنى فالأدنى.
خير الصدقة ما كان
عن ظهر غنى
لاحظوا يا إخوان: (ابدأ اليد العليا) ، فاليد العليا تبدأ بمن تعول، فهناك
عطاء، وهناك صدقة، ثم يأتي في الدرجة الثالثة التوجيه: (وخير الصدقة) أي:
الناشئة عن اليد العليا، التي تتوجه للأدنى فالأدنى من الأقربين (ما كان عن
ظهر غنى) .
فقوله: (ما كان عن ظهر غنى) كناية عن المال الزائد المستغنى عنه، فهذا
يشعرنا بأنه يبدأ بنفسه هو؛ لأن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وأول من
يستغني المتصدق؛ فإذا كان عندك ما يغنيك، فالزائد عن الحاجة تكون منه
الصدقة، وهذا حفاظ على حياة المتصدق وعلى نفسيته.
و (خير) من صيغ التفضيل حذفت منه الهمزة، وأصلها (أخير) ، ونظيرها: (شرٌ) ؛
وأصلها (أشر) ، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال.
إذاً: خير الصدقة ما كان حينما يتصدق بها المتصدق عن ظهر غنى، أي: وهو
مستغنٍ في نفسه، كما أن الزكاة لا تجب إلا عن ظهر غنى؛ لأنه لا تجب إلا على
من يملك النصاب، وهو مستغنٍ عنه طيلة العام، فهكذا تكون الزكاة، وكذلك صدقة
التطوع.
الغنى غنى النفس
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله)
، هذا موجهٌ لصاحب اليد السفلى، ونحن عندنا طرفان: معطٍ وآخذ، ويدان: يدٌ
عليا ويدٌ سفلى، فكان صدر الحديث مع (اليد العليا) ، وذلك في قوله: (ابدأ
بمن تعول) ، وهكذا (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) موجه للمتصدق صاحب اليد
العليا.
ويأتي الحديث للجانب الثاني (ومن يستعفف يعفه الله) ، هل قال: (يستعفف) أو
قال: (ومن يتعفف) ؟ هذه الحروف الزائدة حروف استفعال، وكما يقول الزمخشري:
زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وهذه قاعدة في فقه اللغة.
فقوله: (يستعفف) أبلغ من (يتعفف) فالمعنى: أنه يتكلف العفة ولو لم يكن في
شخصه عفيفاً، فهو يتصنع ذلك، ويفتعل ذلك، ويحمل نفسه على العفة ولو كان
محتاجاً، وهو متطلِّع إلى الصدقة وينتظرها ولكنه لا يطاوع نفسه ويسير
وراءها.
فهنا (يستعف) على وزن (يستفعل) أي: أن الفعل ليس موجوداً لكنه يستجلبه، فهو
يستجلب العفة لنفسه، وليحمل نفسه عن منزلة (سفلى) ، لتساوي يده الأخرى في
علوها، (ومن يستعفف يعفه الله) .
قوله: (ومن يستغنِ يغنه الله) ، وهذا كما في الحديث: (ليس الغنى بكثرة
العرض ولكن الغنى غنى النفس) ، وكما يقول القائل: علل النفس بالقناعة وإلا
طلبت منك فوق ما يكفيها فالغنى والفقر في نفس الإنسان، (فعلل النفس بالغنى)
أي: احملها على الغنى، (وإلاَّ) إن لم تحملها على الغنى (طلبت منك فوق ما
يكفيها) ، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لتمنى
ثانياً، ولو أن له واديين من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا
التراب) .
إذاً: النفس من طبيعتها التطلع، ومن جبلتها الجمع والحرص، {وَتُحِبُّونَ
الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14] فهذه أمور جبلت عليها النفس.
(ومن يستغنِ) أي: يستجلب الغنى لنفسه (يغنه الله) ، قال والدنا الشيخ
الأمين رحمة الله علينا وعليه في جلسة خاصة -جزاه الله عني أحسن الجزاء-
قال: يا فلان! إني متخوف خوفاً شديداً، قلت: علامَ؟ وكنا في الرياض، وكان
الملك عبد العزيز -الله يغفر له ويرحمه- يجتمع العلماء عنده كل ليلة خميس
كما هو الآن، وهذه كانت عادة من زمن الملك عبد العزيز، أنه في ليلة من
الأسبوع يستقبل المشايخ، وكذلك كانت تأتي مناسبات ويبعث إليهم بهدايا، فكان
-الله يغفر له ويرحمه- إذا جاءه شيء ما يمر عليه أربع وعشرون ساعة، ويقول
لي: تعال يا فلان! اكتب ويحولها إلى بعض (العوائل) في مكة والمدينة.
ومرة كنت عنده أكتب أسماء العوائل، فقال: والله يا فلان! أنا خائف خوفاً
شديداً، قلت له: حصل خير، أنت في أمن، والحمد لله نحن في راحة وأمان، قال:
عندي شيء كبير جداً، أخاف أن يذهب عليَّ، قلت: عندك العلم؛ وأنت تبذل منه
ويزيد، وما عندك مال تخاف عليه.
قال: لا لا، غير هذا، قلت: أيش هو؟ قال: أنا جئت من البلاد بكنزٍ كبير
جداً، قلت: يا شيخ! أعرف أمورك قبل أن تجيء إلى الرياض، فأين الكنز؟! قال:
القناعة، كنا قانعين بما كنا فيه، ومطمئنين، والدنيا لا تساوي شيئاً، وبدأت
الأموال تجري في أيدينا، فأخاف أن تمتد اليد، وتنقبض عليها، ونحرص عليها،
وتذهب عنا القناعة التي كنا نعتز بها، فقلت له: مثلك لا يخاف عليه، مادام
كلما جاءك شيء، قلت: تعال يا عطية! اكتب، وحول، ولا تترك عندك شيئاً،
فاطمئن ولا تخف من شيء.
دفع التعارض بين
حديث (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وحديث (أفضل الصدقة جهد المقل)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول
الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول) ، أخرجه أحمد وأبو
داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم] .
لاحظوا -يا إخوان- الحديث السابق: (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وهنا:
(أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل هو قليل المال، وجهده غاية وسعه واستطاعته،
فهو مقل، ويجهد فيما يخرج من القليل الذي عنده، فبين الحديثين تعارض، وليسا
سواء بل هما على طرفي نقيض.
فعلى حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) تعطي، وتبقي عندك ما يغنيك،
وعلى حديث: (جهد المقل) يعطي من جهده، أي: نهاية قدرته فيما هو قليل في
يده.
ومن هنا قال العلماء: هذان الحديثان ظاهرهما التعارض، ولكن أجمع العلماء
الذين يعنون بمختلف الحديث أن الحديثين لا تعارض بينهما، وكلٌ يمشي في
طريقه المهيأ له، فحديث (ما كان عن ظهر غنى) للشخص الذي لا يستطيع أن يعيش
عيشة المقل، وحديث (جهد المقل) لمن كان يستطيع أن يعيش ولو بلا شيء.
وقد جاءت الأمثلة على ذلك في الصدر الأول حينما: (حث الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم المسلمين على الصدقة، فقال عمر: لأسبقن أبا بكر، وكان أبو بكر
سباقاً.
فلما أصبحوا جاء عمر بنصف ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا
تركت لعيالك يا عمر؟ قال: تركت لهم مثل ذلك، قال: بارك الله لك، ثم جاء أبو
بكر بكل ماله!! فقال: ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله
ورسوله، فقال عمر: والله! لا أسابقك بعد ذلك يا أبا بكر!) .
فهنا هل كان أبو بكر (عن ظهر غنى) أو (جهد المقل) ؟ لم يبقِ شيئاً، وعمر
أبقى نصف ماله، ومن هنا يقول العلماء: جهد المقل لمن لا يندم على فعله،
ولمن ليس عنده عيال يضيعهم ويعطي غيرهم، ولمن ليس مطالباً بواجبات خاصة،
ولكن (عن ظهر غنى) لمن كان ذا عيال، ومن كان ذا التزامات، ومن كان عليه
واجبات، ولا ينبغي أن يخلي نفسه من المال، بل تلك الواجبات قد تكون أولى
وأحق.
إذاً: يختلف الحال باختلاف الناس، ولذا وصل الحد بالأنصار رضي الله تعالى
عنهم إلى جهد المقل، وتصدقوا، فقال الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] .
إذاً: الحديثان يبينان لنا منازل الناس في هذه الدنيا، وعفة النفس وغناها،
وقوة اليقين مع الله، فكل بحسب ميزانه، وبحسب طاقته وقوته اليقينية بالله.
وهذه أم المؤمنين عائشة تصوم، ويأتي سائل فتقول لـ بريرة: أعطي السائل،
فقالت: والله! ما عندنا إلا قرص شعير تفطرين عليه، فقالت لها: أعطي السائل،
وإذا جاء الإفطار يرزق الله، فتمشي بريرة تقول: يرزق الله! سيأتي المغرب
كيف يرزق الله؟ مستبعدة! فلما أذَّن المغرب وجاء الإفطار ما رزق الله!!
فقامت عائشة تصلي، وقبل أن تفرغ من صلاتها التفتت؛ وإذا بجانبها شاة
مطبوخة! قالت: ما هذا يا بريرة؟! قالت: رجل أهداه، والله ما قد أهدى إلينا
من قبل شيئاً، فقالت: كلي؛ هذا خيرٌ من قرصكِ، والله! لا يكمل إيمان العبد
بالله حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه بما في يده.
وهكذا يختلف الناس، وتختلف الدرجات، وتختلف النفوس؛ فكلٌ في طريقه، فإذا
أراد الإنسان منا أن يتصدق، فعليه أن ينظر: هل هناك التزامات؟ هل هناك
حقوق؟ وعلى حسب ذلك يتصدق، (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فلا
تأخذه الحماسة ويخرج كل شيء، وبعد ذلك يبحث عمن يقرضه! إذاً: هذان الحديثان
مقياسان لنفوس الناس، وقدر استطاعتهم وقدرتهم وقوة يقينهم، ومدى حقوق
الآخرين عليهم، وبالله تعالى التوفيق.
الأولوية في النفقة
والصدقة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تصدقوا.
فقال رجل: يا رسول الله! عندي دينار قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر،
قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي
آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر به) رواه أبو
داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم] .
هذه مسألة جديدة وهي: بيان الأولوية في الصدقة: أمر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بالصدقة، وكثيراً ما كان يحث أصحابه على ذلك، والصدقة بمعنى
الصدق، وقد قدمنا الإشارة بأن فقه اللغة يقول: إذا اشتركت مادتان في أكثر
الحروف، واختلفتا في حرف واحد؛ كان بين المعنيين صلة قوية، وكان الفرق
بينهما بقدر الفرق في الحرف الذي اختلفتا فيه.
ومثلوا لذلك بمثال واضح، فقالوا: مادة (خبن) ، ومادة (غبن) ، خبن: الخاء
والباء والنون، وغبن: الغين والباء والنون؛ فاشتركتا في الباء والنون،
واختلفتا في الخاء والغين، فقالوا: بين الخبن والغبن قدر مشترك، وذلك أن
الخبن هو تقصير ونقص في الثوب الطويل، والغبن نقص في الثمن.
فيكون غبن على البائع إذا باع بأقل من الثمن، فيكون نقصاً عليه، ويكون
الغبن في الثمن إذا اشترى بأكثر من القيمة، فيكون نقصاً عليه، وقالوا:
الخاء أظهر من الغين في المخرج، وهم يقولون: إذا أردت أن تعرف مخرج الحرف،
فائتِ بالهمز، وسكن الحرف، وقف عليه، ففي الخاء تقول: أخْ، فهي من سقف
الحلق، والغين تقول: أغْ، كأنها داخلة إلى الحلق، فلما كانت الخاء أظهر في
الحروف جعلوها في المعنى الأظهر؛ لأن خبن الثوب تشاهده بعينك، وتخبنه
بالخيط، وتعرف الزائد من الناقص، أما الغبن فهو أمر خفي قد يخفى على بعض
الناس، ولا يدرك مقدار هذا الغبن في هذه السلعة.
من هنا يقول العلماء: إن الصدقة والصدق اتفقتا في المادة في الحروف
الثلاثة، وزيدت التاء للتأنيث، فالصدق مادته: (الصاد، والدال، والقاف) ،
والصدقة مادتها: (الصاد، والدال، والقاف) ، إذاً: كلاهما بمعنى: الصدق،
بمعنى: التصديق، والتصديق في الصدقة هو: أن الإنسان في حياته لا يبذل
شيئاًَ إلا عن عوض، وقدمنا ذلك مراراً، وقلنا: إن الحياة مبناها على قانون
المعاوضة، والأمر الطبيعي بين الناس أنك لا تدفع درهماً واحداً بغير عوض،
وتدفع الملايين في عوض يعادلها، وهنا حينما تدفع الصدقة فأنت لا تأخذ عوضاً
عليها ممن تتصدق عليه، إذاً: أين المبادلة؟ أين المعاوضة؟ بل إنه من كمال
الصدقة أن تخفي الصدقة حتى عن نفسك: (حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك) .
إذاً: أين قانون المعاوضة هنا؟ قالوا: قانون المعاوضة هو أن المعاملات
المادية بين الناس معاوضة فيما بينهم: خذ وهات، ولكن الصدقة معاوضة بين
المتصدق وبين رب العالمين، فهو يتصدق ويدفع مصدقاً بوعد الله، {مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}
[البقرة:245] ، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ.
} [البقرة:261] ، ومن هنا فالمؤمن مصدق بوعد الله؛ فهو يدفع الصدقة لمن
يعرف ومن لا يعرف، ولا ينتظر منه شيئاً: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا
شُكُوراً} [الإنسان:9] ؛ لأنه يتعامل مع رب العالمين، ورب العالمين لا تخفى
عليه خافية، ولا يضيع عنده معروف.
وفي الحديث: (والصدقة برهان) ، أي: على إيمانه وتصديقه بأن الله سيعوضه عن
تلك الصدقة، فالحد الأدنى بعشرة أمثالها، والحد الأعلى لا نهاية له، إلى
سبعمائة ضعف، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، فكان
صلى الله عليه وآله وسلم يحثهم على الصدقة، ويحثهم على ألاَّ يستقل إنسان
شيئاً؛ لأن العبرة ليست بالكثرة؛ وخزائن الله ملأى، وما عند الله أكثر مما
عند البشر، ولكن العبرة بتعاطف المسلم مع أخيه، والشفقة والرحمة وحب الخير
والمساعدة، هذا هو الأصل الأساسي في تبادل الصدقة بين الغني وبين الفقير.
البدء بالنفس في
النفقة
وهنا حثهم النبي عليه الصلاة والسلام على الصدقة، فقال رجل: عندي دينار،
قال: (أنفقه على نفسك) ، فأول ما يبدأ الإنسان بنفسه؛ لأنه ألزم ما يكون
عليه نفسه، فهل تتصدق بقرص خبز ليس معك غيره فيقتلك الجوع؟! لا يجوز هذا،
إنما تبدأ بنفسك، وما زاد عن حاجتك تفيض به على غيرك الذي يليك في المرتبة.
جاء في الحديث: (أنه مر رجل شاب على قومٍ مع رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال أحدهم: لو كان جلد هذا وشبابه هذا في سبيل الله! فقال صلى الله
عليه وآله وسلم: إن كان خرج على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله) ؛ لأنك تعمل
وتعف نفسك عن سؤال الناس، فهذه صدقة على نفسك تصدقت بها.
قال: (وإن كان خرج يتكسب ليعف أهله أو زوجه، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج
بطراً ورئاءً فهو في سبيل الشيطان) .
وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (من بات كالًّا من عمل يده)
مثل إنسان يعمل في النهار في البناء بحجر وطين، أو في حصاد حب، أو في تأبير
نخل، أو في أيّ عمل مثل: نجارة، حدادة، زراعة، صناعة، وبات كالاً من العمل
(بات مغفوراً له) .
أيهما يقدم في
النفقة: الزوجة أم الأولاد؟
قال: (تصدق به على نفسك.
قال: عندي آخر) انظر التدرج في السؤال! قال: (تصدق به على ولدك) .
الحديث هنا جاء بالزوجة في الترتيب الثالث، وهناك روايات أخرى تفيد أن
الزوجة في الترتيب الثاني، أي: بعد نفسه تكون الزوجة، وهكذا حكم زكاة
الفطر، فلو أن إنساناً عنده زوجه ووالداه وولده، فهم خمسة أشخاص، وليس عنده
إلا صاع واحد زائد عن قوت هؤلاء الخمسة، فيخرج الصاع عمن؟ هل يخرجه عن
أبيه، أو عن أمه، أو عن زوجه، أو عن ولده، أو عن نفسه؟ عن نفسه أولاً، فإذا
رزق صاعاً آخر فالجمهور يقولون: الزوجة قبل الوالدين؛ لأن الزوجة نفقتها
لازمة في الغنى والفقر، بخلاف الأبوين والولد، فنفقتهم في حالة الغنى ليست
بواجبة، وفي حالة الفقر تجب.
إذاً: من وجبت نفقته بصفة دائمة أولى ممن وجبت نفقته بصفة مؤقتة، وقد جاء
في بعض الروايات: (تصدق به على زوجك) ، وهنا قال: (على ولدك) ، والأمر سيان
تقدم أو تأخر فإن الإنفاق على الزوجة أولى، وهي كما في الحديث الصحيح: (حتى
اللقمة تضعها في في امرأتك صدقة) .
قال بعض أدباء الفقهاء: لو أنه أطعم الزوجة ممازحة فأخذ التمرة ووضعها بيده
في فيها -يمازحها- فإنها صدقة؛ لأن هذا من باب تقوية الصلة والرابطة، وجبر
الخاطر، وإذا وجدت الصلة القوية بين الزوجين طابت الحياة، أما إذا لم يكن
هناك ترابط بينهما، ولا مودة ولا محبة؛ فإن الحياة بينهما لن تطيب، وتكون
هناك الشكليات، فينفق عليها حتى لا تشتكيه أو غير ذلك.
والجمهور على أن اللقمة تضعها في في امرأتك من النفقة على زوجتك، وسواء
أعطيتها بيدك أو تناولتها هي بيدها.
(قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك) إذاً: الولد حينما تنفق عليه وهو
في حاجة إلى ذلك، تكتب لك صدقة، وهذا من أهم ما يلزم على الناس أن تراعيه
ففي الوقت الحاضر، في بعض البيوت يكون الولد ليس لديه مورد في نفسه، مثلاً
لم يتمم الدراسة، أو لم يجد مجالاً للعمل، فلا تستكثر أن تنفق عليه، فإنها
صدقة.
وبعضهم أنهى دراسته، وطلب العمل، ولا مجال للعمل -كما يقال: البطالة- ولا
يوجد مجالات لوظائف الحكومة، وما عنده القدرة على أن يشق طريقه في الأعمال
الحرة، وهو في حاجة إلى النفقة، وليست النفقة مجرد إشباع جوعه، وكسوة بدنه،
فقد يحتاج إلى غير ذلك، قد يحتاج إلى فاكهة، وإلى أشياء من المباحات.
والولد يشمل الذكر والأنثى، وبالأخص الأنثى؛ لأنه ليس لها خروج، وليس لها
مجال، ونفقتها واجبة إجبارياً على وليها الذي هو الأب أو الزوج، فإذا كان
الولد في البيت، وليس له دخل من جهة ما، أو كان عاجزاً عن الكسب؛ فتلزم
نفقته.
قد يكون الولد قاصراً سواء كان قاصر الأهلية أو قاصر المسئولية، فلا يستطيع
أن يدخل في المشاريع والمقاولات ويلتزم للناس بأعمال، وقد يكون قاصراً
خلقاً، بأن يكون من ذوي العاهات.
إذاً: النفقة على مثل هذا الصنف من الأولاد إنما هي صدقة، فلا تتأفف من
ذلك، ولا تقل: كيف أنفق عليه وهو قوي جلد ولا يعمل؟! أوجد له سبيل العمل
وساعده على إيجاد العمل الذي يستغني به عنك، فإذا لم يجد، أو أنه يبحث
ويطلب؛ فأنفق عليه إلى أن يجد ذلك ويستغني بما وجد، فحينئذٍ تترك النفقة
عليه.
خطر البطالة
والإنفاق على الأولاد واجب، لاسيما في الأوقات التي تكثر فيها البطالة أو
العطالة، وهذه البطالة من أشق ما يكون في الدول، وهي أخطر حالة اجتماعية في
الدول بصفة عامة، لا يقال: النامية أو المتحضرة، بل كل الدول تشتكي وفرة
العطالة في رجالها.
وقدمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى على البطالة بعمل فعليٍ سريع
في الشاب الذي جاء يطلبه الصدقة، ونظر إليه فوجد فيه قوة، فقال: (لا تحل
لك) ، قال: ليس عندي شيء أي أن يده عاطلة، وليس هناك مجال للعمل.
وبالمناسبة يجب على ولاة الأمور في العالم كله دون استثناء أن يوفروا فرص
العمل للشباب في حدود إمكانات الدولة، سواء في القطاع الخاص أو في القطاع
العام، وتستطيع الدولة أن توجد مجالات للعمل، ولتشغيل الأيدي الخالية
الفارغة، وهذا مكسب للدولة، ومكسب للأمة؛ لأن هذه طاقة معطلة، فإذا وجدت
لها فرص العمل فالدولة تستفيد من تلك الطاقة في الإنتاج.
فلما قال: ليس عندي شيء ولا أجد شيئاً، عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولكنه لم يتركه، فقال: (ماذا عندك؟) ، قال: عندي حلسٌ وقعب، فقال: (علي
بهما) ، وأمره أن يذهب ويحتطب ويأتي ويبيع؛ لأن هذه الطاقة البدنية إذا
عطلت فهو خطر، خطر على نفسه وعلى المجتمع، لكنه يصرفها في صعود الجبال،
وتكسير الحطب، وحمله وبيعه في السوق وحصوله على المادة.
حزمة الحطب التي سيأتي بها ليبيعها ليست قيمتها في حمل الحطب وأعواده،
ولكنها في الطاقة التي ستحدثها في المدينة أو في القرية، ستأخذ العجوز
منها، وتغسل ثيابها بماءٍ حار، وتخبز عجينها، وتنضج طعامها، وكذلك الرجل،
وكذلك أهل البيوت الأغنياء والأثرياء يستدفئون منها، ويخبزون عجينهم، كل
هذه الطاقة تتوزع في البلد، وتدير إنتاجاً، وتحصل فائدة عامة على الغني
وعلى الفقير وعلى القوي وعلى الضعيف بتلك الطاقة الحطبية! ونحن عندنا الآن
الطاقة الكهربائية، إذا تعطل التيار ساعة أو ساعتين صاح الناس: الثلاجة
وقفت، الثلاجة فيها خضار، فيها لحوم؛ ستفسد الأشياء الموجودة، عجلوا
اتصلوا!! كل هذا لأنها طاقة كانت تعمل وكانت تنتج ثم تعطلت، وهكذا الطاقة
البشرية، وهي أغلى ما يكون في العالم؛ لأنها هي الطاقة الإنتاجية، فمن الذي
يحرث الأرض؟ ومن الذي يغرس الشجر؟ ومن الذي يجني الثمر؟ ومن الذي يدير
المصانع؟ ومن الذي يدير المتاجر؟ ومن الذي يعلم الجاهل؟ ومن؟ ومن؟ كل ذلك
بالطاقة البشرية.
وكنت في مجلس الوزراء، فسمعت كبيراً من الكبراء يقول: نحن نستورد حتى
الطاقة البشرية؛ لأننا في حاجة إليها، فالطاقة البشرية هي أعزُّ وأغلى ما
يكون، فالطاقة الكهربائية والطاقة الاقتصادية الطاقة وجميع الطاقات مدارها
على اليد العاملة، وعلى استخدام الطاقة البشرية؛ لأنها هي المنتجة.
إذاً قوله: (على ولدك) يدل على الإنفاق عليه، فإذا وجد الولد ما يعمل
واستغنى فالحمد لله، وإذا لم يجد فواجب علينا أن نكفيه، وإذا لم نكفِه
وننفق عليه ماذا سيفعل؟ الجواب معروف للجميع، ويكون هذا دفع منا له إلى
طريق الشر حتى يحصل على النفقة التي يحتاجها، ولا يبالي من أين يأتي بها،
فإذا أبطلنا اليد ولم نسخرها ونيسر لها العمل النافع، والعمل المنتج،
والعمل المشروع، فستنقلب عكساً على الأمة وعلى المجتمع وعلى شخصه، فهو إذا
انحرف في سلوكه فأول من يضر نفسه، فيسلط على نفسه المسئولين والشرطة، ثم
يضر المجتمع في سلوكه.
وإذا لم يكن عندي نفقة للولد فيمكن أن أيسر له العمل بقدر المستطاع، ولهذا
كان لابد من العناية بالأولاد، والعناية بالإنفاق على العاطلين أو تشغيل
اليد العاطلة، وتعتبر هذه من أهم قضايا المجتمعات بدون استثناء.
وفي بعض الإحصائيات: كذا مليون في أمريكا يدٌ عاطلة، كذا مليون في كذا هذه
مصائب! وترجع بالعكس كما أشرنا على المجتمع، ونحن في غنى عن أن نذكر
الأحداث والإحصائيات التي تنشرها الجرائد أو تذيعها الإذاعات بسبب تلك
الأيدي العاطلة، وما تعكس من أضرار على مجتمعاتها، بل قد ينعكس على بيته
وأهله.
إذاً قال: (على ولدك) ، حتى لا يكون عالة، وحتى لا يكون آلة إفساد، وحتى لا
تنطلق تلك اليد بقوة إلى الشر، ويفسد في الأرض، ويفسد نفسه، ويضر أباه
بالذات، فقد يرجع وباله على أبيه وعلى بيته، ومن هنا كان الإنفاق على هذا
الولد صدقة: (تصدق به على ولدك) .
وأعتقد أن هذا المجال واسع، ويكفي الإشارة والتنبيه إلى رءوس المواضيع في
هذا، والله تعالى أعلم.
كتاب الزكاة - باب
صدقة التطوع [4]
أمر الله بالصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ درءاً للمفسدة وصوناً لأنفسهم من
ذل السؤال والحقد على الأغنياء، وأباح للمحتاج السؤال بقدر حاجته، ولكن لا
يجوز لأحد أن يسأل الناس أن يتصدقوا عليه وهو قادر على الكسب، ويتخذ ذلك
مهنة له، فسؤال أموال الناس محرم إلا للضرورة، وبهذا التشريع الحكيم تستقيم
أمور الناس، ويصلح المجتمع بالأخذ بأسباب التقدم، مع عدم إغفال الإحسان
والشفقة على العاجزين.
وجوب النفقة على
الزوجة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: ما زلنا في شرح حديث: (أنفقه على زوجك) ، وقدمنا بأنه سواء قدمت
الزوجة أو الولد، فإن لهما الأولوية في الإنفاق، والزوجة مطلقاً لها حق
النفقة على زوجها سواء كانت غنية أو فقيرة.
ويقولون: على زوجها صدقة فطرتها، إلا الأحناف فيقولون: إنها إذا كانت غنية
فعليها أن تزكي عن نفسها صدقة الفطر؛ لأنها صدقةٌ عن ذاتها ولديها المقدرة
على أن تزكي فلتكن زكاة فطرها من مالها.
حكم النفقة على
الخادم
قوله: (قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك) : الخادم: يطلق على الأجير،
وعلى المملوك، فإذا كان مملوكاً فنفقته واجبة عليه، وإن كان أجيراً فبحسب
الشرط، وهناك الأجير الخاص والأجير العام.
فالأجير العام مثل أرباب الصنائع، كالنجار في الورشة، تأتي له بالخشب
وتقول: أريد أن تصنع لي من هذا باباً، أو عنده الخشب، وتقول له: اصنع لي
باباً مقاساته ومواصفاته كذا، ويأتي غيرك، ويقول له مثلك، وهكذا، فيتعاقد
في الوقت الواحد مع عدد من الناس، فهذا أجير عام، ومثله الخياط تأتيه
بالقماش ليفصل لك على مقاسك، ويأتي غيرك كذلك ويجتمع العديد، وكلٌ له ثيابٌ
عنده يخيطه، فهذا أجير عام، وليس له على المؤجرين نفقة.
والأجير الخاص: هو الذي استفرغ وقته في خدمتك، بأن يكون معك، وأجرته على
زمنه لا على عمل يده، أما الأجير العام فيأخذ الأجرة على عمل يده لا على
الزمن، تقول له -مثلاً-: فصل الثياب بريالين، أو بعشرة، أو بعشرين، وسواء
خاطه في ساعة أو أخره إلى أسبوع، ما لم يكن هناك شرط في موعد التسليم، فلا
ينظر إلى الزمن في حق الأجير العام، ولكن ينظر فيما استؤجر عليه، هل أحسن
خياطة الثوب أو أساء؟ هل أصلح الثوب أو أفسده؟ فهو المسئول عن ذلك.
بخلاف الأجير الخاص فأجرته على زمنه، لك عليه الأربع والعشرون الساعة، وله
حق المنام والطعام، فهو يعطيك وقته كله، وأنت تأمره: افعل هذا، افعل هذا،
وليس مشروطاً عليه عملٌ بعينه.
إذاً: الأجير الخاص -خادمك- نفقته عليك، ولهذا عليك أن تخرج زكاة فطرته في
رمضان؛ لأن الزكاة -زكاة الفطرة- تابعةٌ للنفقة، واليوم أصبحت البيوت مليئة
بالخدم والخادمات، وأصبح لهم عقود على أن الشهر كاملاً بكذا، فهذا الخادم
إن كنت علمت بأنه في حاجة فعليك نفقته، ونحن نجزم بأنه ما تغرب، وترك بلده
وربما ترك عياله، وربما ترك زوجه إلا للحاجة، وكذلك الخادمة ما تركت زوجها،
وخرجت من بلادها إلا للحاجة والفاقة التي دفعتها، فإذا كنت تصدقت على
الخادم أو الخادمة بما هو زائد عن النفقة، بثياب، بلوازمها، بدنانير من
زكاة مالك، فهو أيضاً صدقة، وهذا يجبر خاطرها، ويشجعها على العمل.
لكن لا تعط الخادمة -مثلاً- صدقة من الصدقة لتزيد في عملها؛ لأن هذه
مؤاجرة، فلا تعطها صدقة حتى تدفعها على الحماس في العمل، بل تصدق عليها
لأنها محتاجة، ولأنك مشفقٌ عليها، وتعلم أن لها عيالاً في بلادها، وتريد أن
تحول إلى أولادها أو والديها مصاريف، فزدتها من عندك عند التحويل، فهذه
صدقة.
قال: (تصدق به على خادمك) وقد كثر الحث على الإحسان إلى الخدم، وسيأتي بيان
حق الخادم؛ وأن له كسوته، وله طعامه، وله الإرفاق به، وأنه لا ينبغي أن
يكلف من العمل فوق طاقته، (وإذا كلفتموهم فأعينوهم) .
وجاء أن أبا مسعود رضي الله تعالى عنه رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو
يضرب خادماً له، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أقدر عليه منه
على ذلك العبد، أي: أنت لك القدرة عليه لأنه خادمك، ولا يستطيع أن يواجهك،
ولكن الله أقدر عليك من قدرتك على خادمك؛ لأنه خالقك، فنظر أبو مسعود فإذا
الذي يخاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأثر وقال: هو حرٌ لوجه الله
يا رسول الله, فجعل كفارة ضربه أن يطلقه، وأن يجعله حراً في سبيل الله.
وأيضاً هناك آثار في معاملة الخدم في البيوت: (لا تضربوا خدمكم على كسر
الأواني، فإن لها آجالاً كآجالكم) ، البعض إذا كسر خادمه الكأس أو الصحن
يضربه مستعلياً عليه، وهو غريب ضعيف في يدك، فلا ينبغي ذلك، لأن لها أجلاً،
والبعض ربما يخصمها من أجرته؛ إن كان مفرطاً فاتركه يذهب لحاله؛ لأنه
متعدٍ، أما إذا لم يكن مفرطاً ولا متعدياً فلا، فلو أنه انكسر في يدك أنت،
ماذا تفعل؟ أو انكسر في يد زوجك أو ابنتك، ماذا تفعل؟ فهذه أمور تدخل تحت
قضاء الله وقدره، ولا ينبغي أن يصب جام غضبه على خادمه من أجل شيء قدره
الله سبحانه دونما تفريطٍ ولا تعدٍ.
قوله: (فقال: عندي آخر.
قال: أنت أبصر به) وفي بعض الروايات: (شأنك به) ، أي: ما دمت قد قدمت نفسك،
ثم زوجك، ثم ولدك، ولم يذكر الوالدين، مع أن الوالدين بعد الزوجة والولد
إذا كانا محتاجين، وفي الحديث: (أنت ومالك لأبيك) ، لكن بشرط ألاَّ يضر
بالزوجة، ولا يضر بالولد، ولا بشريكٍ في المال، ولا أن يأخذ من مالِ ولدٍ
يعطي لولدٍ آخر؛ لأن ذلك يوغر الصدور، حيث لم يكن قد أخذ من مال ولده
لنفسه، بل أخذ من مال الولد لولد غيره، ولا يحق له ذلك، فإذا أدى الحقوق
والواجبات التي عليه، الأول فالأول وكفى ذلك؛ فهو حر في الباقي، فإن أراد
أعطاه صديقه، أو جعله في بناء مسجد، أو لفاعل خير، أو لطالب علم منقطع أو
محتاج.
فما دام أن دائرة الواجبات قد كفيتها، فما وراء ذلك لك أن تنظر من أحق به،
ومن أولى أن تعطيه إياه، وقدم الأهم فالأهم، أو الأحوج فالأحوج.
إنفاق المرأة من بيت
زوجها
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما
أنفقت، ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر
بعضٍ شيئاً) متفق عليه] .
هذا من سعة فضل الله سبحانه (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها) لم يقل: هل
قال: من مالِ، بل: من طعامِ، فالحديث ينصبُّ على الطعام، والطعام في العرف:
ما يطعم سواء كان خبزاً، أو إداماً، أو فاكهةً، أو ما هو أصله للطعام
كالتمر والدقيق والحب، فهذا يسمى طعاماً.
ولم يقل: من مال؛ لأن المال عزيز، والإنفاق من الطعام نوع من المشاركة؛ فهو
قابل للاشتراك، فلو طبخت قدراً، وغرفت لمسكين منه في صحن، ما نقص ذلك شيء،
وإن قل على المجموعة لكن لن يضرهم، لكن لو كان عنده ألف دينار، وأخذت منها
ديناراً واحداً ضر على الألف، والدينار معدٌ لنوائب الزمن وللحاجات
وللمهمات، لكن الطعام إذا لم يؤكل فسد، ولذا قال: (من طعام بيته) .
وقوله: (غير مفسدة) ، فلو كان الطعام هذا معداً على قدر حاجة زوجها
وأولادها، فلا ينبغي لها أن تتصدق منه؛ لأنها ينبغي أن تراعي أهلها أولاً،
والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عما استرعيت عليه، إلا إذا كان زوجها
وأولادها في مستوى الإيثار، ويرضون غيرهم ممن هو أشد حاجةً منهم، كما جاء
في الحديث أنه جاء ضيفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل لزوجاته
كلهن: هل عندكن عشاء لهذا الضيف؟ وكل واحدةٍ تعتذر بأنه لا شيء عندي، فقال
صلى الله عليه وسلم ( {من يستضيف هذا، وله الجنة) ، الجنة في عشاء ضيف! لكن
قد فتشنا تسعة بيوت وما فيها عشاء، وإذا كان الشيء مفقوداً يصير غالياً
جداً، لو أن عندك الدنيا بحذافيرها وأنت في صحراء، واشتد بك الجوع، وجاء
إنسان عابر سبيل، فقلت له: عندك طعام؟ قال: عندي قرص أقسمه بيني وبينك، فلو
قال: بكم تشتريه؟ ستشتريه بدينار، بعشرة، بألف، بل ستقول: بكل ما أملك في
بلدي، ومثل ذلك كأس من الماء في الصحراء، يدفع المضطر في شرائه كل ما يملك.
إذاً: قوله: (من يضيف هذا الليلة، وله الجنة؟) هذا الثمن متعادل، وإن كان
الجنة لا يثامنها شيء، لكن بحسب التسعير عندنا؛ لأن الشيء المعدوم يبذل فيه
الإنسان طاقته وجهده، (فقال رجل: أنا، فأخذ الضيف، وذهب به إلى البيت، ودخل
على زوجه، وقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله! ما
عندي إلا عشاؤك وعشاء العيال، قال: أما العيال فعلليهم حتى يناموا) ، فأخذت
تعللهم حتى أخذهم النوم وهم جياع! قال: وأما أنا فعندما تقدمين الطعام وأمد
يدي مع الضيف، فتأتين أنتِ، وتعمدين إلى السراج كأنك تصلحينه فتطفئينه،
ونبقى في الظلام، فيستمر الضيف على أكله، وأنا أمد يدي معه لتختلط بيده،
وأرفعها خالية، وأوفر الطعام للضيف.
انظروا هذه الحيلة يا جماعة! يعملها لماذا؟ هل ليستحل بها الربا؟ هل يخدع
مغفلاً؟ لا والله! لكنها حيلة ليحصل على الثمن النفيس! ففعلت المرأة، وشبع
الضيف، وبات الرجل والمرأة والعيال بدون طعام، هل هذه ستميتهم؟ هل هذه كل
ليلة؟ لا، هي ليلة نادرة يتحملونها، ويصبرون عليها، فكان جزاؤه أن لقيه صلى
الله عليه وسلم في صلاة الصبح، وبادره النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً:
(لقد عجب ربنا من صنيعكما البارحة!) ؛ لأنها -والله- حيلة لطيفة جداً، فهو
اتفق معها على هذه الحيلة، ونِعمَ الزوجة الصالحة، فلو كانت غيرها ستقول:
لا، أنا ما يخصني عشاؤه، اذهب ابحث له عن عشاء، أنا لا أبيت جائعة، ولا
أترك الأولاد يبيتون جائعين، ليس هو أولى من عيالي، هذا قاموس معروف، لكنها
امرأة مؤمنة في بيت صالح، فتعاونت مع زوجها على مطلوبه، وباتا طاويين، وبات
الضيف شبعان، فعجب ربنا من صنيعهما هذا!
اشتراط عدم الإفساد
عند إنفاق الزوجة من بيت زوجها
إذاً: حينما يتصدق الإنسان مع قلة الشيء يعظم الأجر.
هنا بيَّن صلى الله عليه وسلم أن (المرأة إذا أنفقت من طعام زوجها غير
مفسدة فلها أجر) ، وغير مفسدة: يعني أنها مراعية لظروف العائلة، وظروف
البيت، وظروف الأسرة، وظروف الأفراد، فإن كانوا على شاكلة من عجب ربنا
منهم، فالحمد لله، وإلا فتراعي الظروف، ولا ينبغي أن تضيع من تعول، وفي
الحديث أن: (امرأة قالت: هل للمرأة أن تتصدق من مال زوجها؟ قال: لا، إلا
بإذنه، قالت: ولو من طعامه؟ قال: الطعام أعز مالنا) ؛ لأن الطعام هو القوت،
وبه الحياة، ولذا يقول العلماء: إذا أرادت المرأة أن تتصدق من مال زوجها،
فلابد من إذنه، وأطال العلماء البحث في ذلك كـ ابن حجر في فتح الباري،
ويدور البحث على قوله: (غير مفسدة) .
فإذا أذن لها إذناً فعلياً فلا مانع من أن تعطي المسكين، أو أذن لها إذناً
اعتبارياً، بأن علمت من زوجها أنها إذا أعطت السائل تمرات أو قرص خبز أو
شيئاً من الإدام فإنه لا يغضب، لأن ذلك لا يضره ولا يضر عياله، فهذا إذنٌ
اعتباري فلا مانع، وتقدمت لنا قصتان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها، الأولى: أنها كانت تأكل من قطف عنب، وأعطت السائلة حبة، وما استأذنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، والثانية: أن امرأة جاءت تحمل طفلتين،
فأعطتها تمرة، وما استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكذلك شاةٌ
ذبحوها فوزعت وبقي ذراعها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد بقيت كلها إلا
الذراع!!) فالذي بقي هو الذي ضاع، ولكن الذي تصدق به فهو الباقي عند الله.
إذاً: إذا تصدقت المرأة من طعام زوجها بطيب نفسها، غير مفسدة على أهل بيتها
طعامهم ومعاشهم، بإذن زوجها الاعتباري أو الحقيقي؛ فلا مانع من ذلك.
ومما يوضح قوله (غير مفسدة) حديث هند، لما قالت: (إن أبا سفيان رجلٌ شحيح،
لا يعطيني ما يكفيني أنا وعيالي، هل آخذ من ماله ما يكفيني وعيالي؟ فقال:
خذي ما يكفيك بالمعروف) ، أي: لأن النفقة واجبة لكِ ولعيالكِ، ولكن
بالمعروف، لا تأخذي هذا الإذن وتفسدي، فتصنعين طعاماً يكفي عشرين وأنتم
خمسة، ثم يرمي الباقي أو يفسد، هذا هو الإفساد، بل خذي بقدر ما يكفيكِ
بالإحسان وبالمعروف.
وهكذا بين صلى الله عليه وسلم، أن هذه المرأة لها من الأجر مثل ما لزوجها،
وفي الحديث الآخر الصريح: (إن الله يدخل باللقمة ثلاثةً الجنة: صاحب
الطعام، وطاهيه، ومناوله) ، صاحب الطعام هو صاحب البيت -رب البيت- وطاهيه
سواء كانت الزوجة، أو كان الخادم، أو الطباخ في البيت، أو غيره، والخادم
الذي يناوله، فإذا كان الطاهي، أو الزوجة، أو الخادم؛ يقدم ذلك بطيب نفسٍ
لا مكرهاً، ولا مجاملة، ولا إلزاماً عليه، ولا كراهية لرب البيت، بأن يخرج
الطعام باسم الصدقة، وهو يريد أن يؤذيه أو يضيق عليه أو يفسد عليه ماله، بل
يؤجر إذا كان يفعل ذلك طواعيةً، وفي حديث آخر (والخازن) ، وهو الذي يكون
على المخازن، يخرج من المخزن الدقيق ليعجن ويخبز، أو يخرج السمن ليطهى به،
فيعطي المسكين من هذا الطعام، فإن للخازن مثل أجر المالك، فيكون لصاحب
المال، وللطاهي، وللخادم وللخازن أجرٌ متعادل سواء بسواء.
إذاً: العبرة ليست بالكثرة، ولكنها بما وقر في النفس من طيبها، وحب المسكين
والإشفاق عليه والرحمة به، والله تعالى أعلم.
قال عليه الصلاة والسلام: (كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما
اكتسب، وللخادم مثل ذلك؛ لا ينقص بعضهم من أجر بعضٍ شيئاً) .
فلو كان الحساب أن الحسنة بعشر أمثالها، فنقول: نقسمها على الأربعة وكل
واحد له حسنتان ونصف، لكن الرسول يخبر أن كل واحد له عشر حسنات، ولا ينقص
واحدٌ من أجر صاحبه شيئاً، فتكون الحسنة لهم بأربعين حسنة، والله سبحانه
وتعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: جاءت
زينب امرأة ابن مسعود فقالت: (يا رسول الله! إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان
عندي حليٌّ لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من أتصدق
به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود؛ زوجك وولدك أحقُ
من تصدقتِ به عليهم) رواه البخاري] .
عدم الإسراف في
النفقة على الأولاد
تقدم الكلام على حديث الرجل: (عندي درهمٌ يا رسول الله! قال: تصدق به على
نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك ... ) ، وتكلمنا على حقوق
الأولاد، وأنه ينبغي معاونتهم ومراعاتهم وتوفية حقوقهم والإنفاق عليهم ما
داموا لا يجدون أسباب الرزق ولا مجالات عمل، وهناك ناحية تركناها سهواً،
وهي: أن بعض الناس قد تدفعه الشفقة والعطف على الولد بأن يغدق عليه المال
بلا حساب، ويستجيب لجميع طلباته، وهذا في الواقع مفسدة، كما أن ترك الولد
دون الإنفاق عليه مفسدة، ويدفعه إلى الإساءة، وهكذا الإغداق عليه بدون حساب
يكون فيه الإفساد أيضاً، وأول ما يكون الضرر على الولد: إن الفراغ والشباب
والجده مفسدةٌ للمرء أي مفسده ونسمع أن بعض الناس لديه الولد المدلل،
فيشتري له السيارة، وعند مجيء موديل جديد يستقذر الأولى، ويصر على أبيه أن
يشتري له أخرى، ويرضخ أبوه لطلبه، ويأتيه بأخرى جديدة، ثم لأنه لم يتعب
فيها، ولم يدفع من ثمنها شيئاً؛ لا يبالي بها، ولا يهتم بالحفاظ عليها،
وهذا كمثال.
فكثرة المال في يده بغير حساب تدفعه إلى تصريف المال في غير طريقه، وقد
يصيبه المفاسد من الآخرين، وجاءت في السنة النبوية قصة ينبغي للمجتمع كله
أن يتعظ بها، حتى تكون للعاطفة حدود، وهي ما ثبت (أن رجلاً يهودياً رض رأس
فتاةٍ بين حجرين، من أجل أوضاح لها على رأسها، فذكر ذلك للنبي صلى الله
عليه وسلم، وجيء إليه بالفتاة، وهي في الرمق الأخير، فقيل لها: من فعل بك
هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكر الجاني حقيقة؛ فأومأت برأسها أي: نعم هو،
فأتي به فاعترف، فاقتص منه، ورضَ رأسه بين حجرين) .
فهذه القصة تعطينا دراسات واسعة في باب الأمن الجنائي؛ لأن هذه طفلة صغيرة،
يحبها أهلها، ولشدة محبتهم لها زينوها بالحلي، ورصعوا رأسها بقطع الذهب،
وهذا الذهب بريقه يخلب عيون ضعاف النفوس، فسولت لليهودي نفسه بقتلها، وجاء
في بعض طرق الحديث: (فاستدرجها إلى ضاحية المدينة، وأدخلها خربة، ورض
رأسها) ، وقد سبق أن شرحنا هذه القصة بكتابة تحليلية طويلة، ونشرت في مجلة
الجامعة، بأن أهل هذه الفتاة شاركوا في الجناية عليها، لأنهم وضعوا عليها
ما لا تستطيع حفظه ولا حراسته ولا صيانته، ووضعوا عليها ما يطمع فيها
الأشرار، فهم الذين سلطوا عليها هذا اليهودي، ولولا تلك الأوضاح التي على
رأسها ما التفت إليها! ثم أيضاً: يجب على البلديات، وعلى ولاة الأمور؛
ألاَّ يتركوا في أطراف المدن أماكن خربة تكون مأوى لمثل هؤلاء الناس، وتكون
موطناً لتنفيذ خططهم الإجرامية، وكان بسبب هذه المقالة بحث مع المسئولين في
بعض الخربات، وعولجت قضيتها تجنباً لوجود مأوى لهذه الأعمال.
والذي يهمنا أن زيادة التعاطف مع الأولاد وإعطاءهم أكثر مما يستحقون؛ فيه
مفسدة، كما أن عدم الإنفاق عليهم فيه مفسدة، ولا شك أن الفضيلة هي التوسط،
كما قيل: الفضيلة وسطٌ بين طرفين.
وكذلك قوله: (تصدق به على زوجك) ؛ بعض الزوجات قد تدل على زوجها من الجوانب
التي يتأثر بها، فتكثر عليه الطلبات ويرضخ لها، ويستجيب لعواطفها، وفي كل
مناسبة تحتاج إلى لباس جديد، وكل ما يظهر نوع من الألبسة بما يسمى (الموضة)
تحمل زوجها فوق طاقته، ولربما حملته على الاستدانة من أجلها! وهذا لا يتفق
مع الأخلاق الفاضلة، ولا مع المروءة، ولا مع حسن العشرة، فلا ينبغي التطرف،
لا في الإمساك والتقصير في أداء الواجب، ولا في البذخ الزائد عن الحاجة،
فيكون ذلك إطغاءً للولد أو للزوجة، هذا ما أحببنا التنبيه عليه؛ تتمةً لما
جرى عليه الحديث البارحة فيما يتعلق بالإنفاق على الولد.
صدقة المرأة على
زوجها وأولادها
وهنا ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن مسعود أنه ذكر لزوجه زينب أن صدقتها
عليه وعلى أولادها منه أولى من الغريب، وسياق هذا الحديث: أن زينب بعد صلاة
الصبح ذهبت إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت عند الباب امرأة
حاجتها كحاجتها، فجاء بلال، وقالت له: قل لرسول الله: زينب في الباب، فلما
ذكر ذلك لرسول الله قال: أي الزيانبِ؟ يعني: أية زينب تعني؟ وهذا تعليم
نبوي، فعلى الإنسان إذا عرف نفسه أن يعرِّف بما يكشف عن شخصيته، كمن يطرق
الباب، فيقال: من؟ فيقول: أنا، (أنا) هذا ضمير للمتكلم، كل متكلم يقول:
أنا، فإذا قيل: من أنت؟! فينبغي أن يقول: فلان ابن فلان، وهنا كذلك: لما
قال:: زينب، قال: أي الزيانب؟ فالزيانب كثر، وهي كانت قد قالت: (ولا تسمني
له) ، لكن لما سأله، من هي؟ قال: زينب، استجابة لطلب رسول الله، فقال: أي
الزيانب؟ فهي أرسلته ليسأل لها، وهنا في الرواية أنها سألت مباشرة، وسواءً
كان السؤال منها مباشرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان السؤال لها
من بلال، أي: بالواسطة.
وقولها: (عندي حلي) جاء في كتاب الأموال: أنه كان عندها طوقٌ من ذهب تزكيه
كل سنة، حتى أخذ عليها أكثر من قيمته، ثم جاء هذا التساؤل، فقال لها ابن
مسعود: إن زكاةَ مالك وصدقتك عليَّ وعلى أولادي منكِ؛ أولى من الغريب، فهي
استبعدت أن تتصدق على زوجها وولدها؛ ومعلومٌ عند الجميع أن الصدقةَ لا تجوز
للأصل وللفرع، يعني: لا تصح على الأبوين ولا على الأولاد؛ لأنهم إن كانوا
محتاجين فنفقتهم واجبة من رأس المال، وإذا تصدق على أبويه أو على أولاده
فكأنه يؤدي واجباً عليه من صدقة هي حقٌ المساكين، فترددت في ذلك، فقالت له:
اسأل رسول الله، فقال: اسأليه أنتِ، فسألت، فقالت: (عندي حلي أردت أن أتصدق
به) ، وظاهر هذا اللفظ أنها تتصدق بعين الحلي، ولكن رواية أبي عبيد في
الأموال: أنها تريد أن تتصدق، أي: تخرج زكاة حليٍ عندها.
وهنا سؤال: كيف لا يجوز للرجل أن يتصدق على زوجه وعلى أولاده، ويجوز للمرأة
أن تتصدق على زوجها وأولاده منها؟ قالوا: إن هذا تابعٌ لوجوب النفقة،
فالزوجة إذا كانت غنية غير ملزمة بنفقة زوجها، وهي حينما تعطي الزوج، لا
تسقط حقاً واجباً عليها، وكذلك إذا أعطت الأولاد، لكن والزوج إذا امتلك
الصدقة أنفقها على الأولاد، بل وعليها هي نفسها، فالزوج يأخذ الصدقة من
زوجته، فإذا ذهب واشترى بها طعاماً، وأتى به إلى البيت، وأكل الجميع -ومنهم
الزوجة- فلا مانع من ذلك؛ لأنها حينما أعطتها أعطتها بحق، وحينما أكلتها
أكلتها بحق، وهو حق الإنفاق ثابت لها على زوجها، كما قالوا: في صدقة الفطر
أو صدقة المال: لو أنك أعطيت جارك زكاة الفطر تمراً تعرفه من تمر بستانك،
ثم جئت تزوره في العيد، فقدم لك القهوة والتمر، فنظرت! فإذا التمر الذي
قدمه إليك من تمرك أنت، هل تقول: أنا لا آكل الصدقة؛ لأن العائد في صدقته
كالكلب؟ لا، أنت لم تعد فيها، ولكنها وصلت محلها، واستلمها مستحقها، ثم
قدمها إليك باسم الإكرام.
ومن ذلك ما وقع في قصة بريرة: (لما دخل صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطوني
الغداء، فأعطوه خبزاً وإداماً، قال: ألم أر البرمة فيها لحم؟! قالوا: هذا
لا يصلح لك، إنه لحمٌ تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: هو
لها صدقة، ولنا منها هدية) ، أي: بريرة أخذته باسم الصدقة، أما أنا ما أخذت
صدقة، لكن بريرة ستقدمه إلي باسم الهدية.
إذاً: العين واحدة لم تختلف، ولكن اختلف الاعتبار، فباعتبار الصدقة من
المتصدق إلى بريرة هي في مجال الصدقة، وباعتبار نقلها من بريرة إلى رسول
الله، فهي هدية بريرة ليست متصدقة على رسول الله، إنما تهدي إليه، فاختلف
القصد، واختلف الحكم.
وكذلك الزوج لا يعطي صدقته لزوجته؛ لأن نفقتها واجبةٌ عليه، وكذلك أولاده،
لكن هي كزوجة لا تجب عليها النفقة لا للزوجِ ولا للأولاد، فأعطتها للزوج.
وإذا كانت الزوجة غنية، والزوج فقيراً، وبينهما أولاد، ولا يستطيع الزوج أن
ينفق على أولاده، فهل الأم تنفق على الأولاد لغناها أم لا؟ هذا بحث يتطرق
إليه الفقهاء، ويختلفون في ذلك، قالوا: إذا لم تنفق الأم الغنية عليهم، مات
الأولاد من الجوع، وهل يذهب الزوج يتدين؟ لا، بل عليها أن تشارك في مثل هذه
الحالة، أو تنفق عليهم ويكون ديناً عليه.
الذي يهمنا هنا أنها كزوجة لا تجب عليها النفقة للزوج ولا للأولاد، فصح
منها الصدقة عليهم، والقاعدة: لا تصح الصدقة على من تجب عليك نفقته، وإن
كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله يجوِّز ذلك في الأخ والعم ونحوه، والأخ
يختلف: إذا كان بينك وبين الأخ توارث؛ فلا يصح أن تتصدق عليه، وإذا لم يكن
بينك وبينه توارث، فإنك تتصدق عليه؛ لأنه إن كان للأخ ابن فهو يرثه، ولا
صلة لك بإرثه، فلك أن تتصدق عليه، أما إذا كان يرثك وترثه فإن الغرم
بالغنم، فكما أنك ترثه إن مات غنياً فتنفق عليه إن كان فقيراً.
فتتعلق الصدقة على الآخرين بقاعدة: من وجبت عليك نفقته لا يصح أن تعطيه
صدقة.
لأنك تكون كأنك تجبر ما وجب عليك من النفقة بما تعطيه من الصدقة، وهنا لما
قالت: (إن ابن مسعود قال لي كذا، قال لها صلى الله عليه وسلم: صدق ابن
مسعود) ، أي: يجزئكِِ ويجوز لكِ، وقيل: إن الصدقة على الغريب صدقة، وعلى
القريب صدقةٌ وصلة، أي: وصلة رحم، وفي الحديث: (ابدأ بمن تعول، ثم الأقرب
فالأقرب،) ، إذاً يجوز أن تتصدق المرأة على زوجها وأولادها منه.
حرمة سؤال الناس
تكثراً
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة
وليس في وجهه مزعةُ لحم) متفق عليه] .
بعدما ذكر المؤلف أحاديث الحث على الصدقة، وفضائلها، و (اليد العليا خيرٌ
من اليد السفلى) ، جاء هنا بهذا الحديث ينفر من سؤال الناس تكثراً، وسؤال
الناس عند الحاجة بما يسد الجوع والفاقة لا مانع منه، لكن يمنع إذا كان
تكثراً، (من سأل وعنده أوقية لقي الله وليس في وجهه مزعة لحم) .
ومعنى: (سأل الناس تكثراً) أي: زيادةً عن حاجته في اليوم والليلة، وهذا
تشنيع على من سأل وهو في غنىً عن ذلك.
سبب استمرار بعض
الناس في السؤال
وقوله: (لا يزال الرجل يسأل الناس) ، أي: فهو مستمر في سؤال الناس، ولماذا
هذا الاستمرار؟ هذا على قسمين: قسمٌ بدافع الحاجة، فالحاجة مستمرة وبالتالي
السؤال مستمر، ولكن لا تكثراً، بل تكففاً أو تعففاً.
القسم الثاني: تعودًّا، أي أنه تعوَّد السؤال، وهذا كما يقول بعض الناس: من
استمرأ السؤال وأخذه مرة ومرتين، ورضيت به نفسه، قل أن يترك ذلك، بل يستمر،
وإذا أراد أن يمتنع صعب عليه الامتناع؛ لأنه وجد حلاوة الكسب بدون كدٍ ولا
تعب، وهذه والله! ما هي حلاوة، إنما هي عين المرارة والغضاضة، لكن إحساسه
الشخصي ذهب، وليس في وجهه مزعة لحم، كما يقول العوام: أراق ماء وجهه فلم
يبقَ في وجهه ماء الحياء، فإذا كان الأمر كذلك، فسواء عنده، إن سأل أو لم
يسأل، أعطاه الناس أو لم يعطوه، ابتسموا في وجهه أو تجهموا في وجهه، أصبحت
هذه الأمور عنده عادية.
ومن زمن قريب سمعنا أو قرأنا في الصحافة اكتشاف بعض شخصيات لها مكانة،
ينتهون من أعمالهم، ويذهبون يمتهنون السؤال! ووجدوا أن دخلهم من هذا أضعاف
أضعاف راتبهم، ولما سئلوا عن سبب ذلك قالوا: تكاليف الحياة زادت، ونحن
نحتاج إلى مسايرة الناس! وأغرب ما سمعت في هذا أن أسرة كريمة جداً وقع
بينهم نزاع، فقتل شخصٌ شخصاً من هذه الأسرة، وحكم بالقصاص، فجاء أهل القاتل
وعرضوا على ولي الدم الصلح بديتين، بثلاث، بأربع، فامتنع؛ لأن ولي القاتل
لا يهمه أن تتضاعف الدية عشرة أضعاف، فقال أبو المقتول: أنا أقبل دية واحدة
لكن بشرط: أن يحصلها والد القاتل -ووالد القاتل ذو منزلة رفيعة في مجتمعهم-
أي: بالسؤال من الناس، لا برصيده في البنك، ولا بما يملكه في بيته، ولكن
يحصلها من القرش والقرشين والأكثر والأقل بسؤال الناس، قال: هذا صعب، وكيف
أن يقف هذا الموقف، والناس يعرفونه؟ قال: يذهب إلى أي مدينة من المدن التي
لا يعرفه فيها أحد، ويأتي بها بهذه الطريقة، قال: متى أجمعها؟ قال: حتى بعد
عشر سنين، أنا راضٍ بهذا، وأمام هذا النزاع وخطورة هذه القضية وافق الرجل،
وكان بعد أن ينتهي من وظيفته يذهب إلى مدينة لا يعرف فيها، ويلبس لباس
السائلين، ويتكفف الناس، وفي زمنٍ قريب جداً جمع الدية، فسلمت وجرى الصلح،
ثم بعد ذلك فإذا بالرجل على طريقته، يذهب إلى بعض المدن ومعه لباس
السائلين، ويسأل الناس، فجاءوا إليه، وقالوا: ماذا تفعل؟ قال: لا أستطيع أن
أترك هذا، وقالوا لفلان: لمََ طلبت هذا الطلب، وقد عرضت عليك الدية مضاعفة؟
قال: أردت أن أقتله قتلةً وهو حي، فيبقى بهذه الحالة؛ لأني أعلم أنه إن
استمرأ سؤال الناس لا يترك ذلك أبداً.
ولهذا -يا إخوان- الشخص في أول مرة: إذا أصيب بحاجة أو بفاقة، ثم مد يده،
ووجد من يعطيه، وكثر في يده ذلك، وقضيت حاجته، إن كان ذا نفسٍ كريمة ووجهٍ
حيي اكتفى بذلك وكفَّ حالاً، وإن مات إحساسه، ومات شعوره، وأريق ماء وجهه،
فإنه يستمرئ ويعيش بها.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه
الله) ؛ ففي هذا إبقاء على شخصيته، وإبقاء على معنويته، وإبقاء على إحساسه
وشعوره، حتى لا يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحمٍ، يعني: تهلهل لحم وجهه
بسبب مده يده إلى الناس، فمات إحساسه، ومات شعوره، ولهذا تجد بعض السائلين
-نسأل الله السلامة- يأتيك فتقول: والله! الآن ما عندي فكة، يا أخي: كذا يا
ابن الحلال! أنا الآن ما أنا مستعد، أنا قادم للمسجد، ما أنا قادم للصدقة،
لا يخفى عليك أني ما أتيت بشيء من المال، وكأنه يطالبك ديناً ويفترض عليك
أن تدفعه إليه، كان يكفيه الإشارة، لكنه تعود، وصار السؤال مهنة له! إذاً:
التربية النبوية والتربية الإسلامية لمصلحة شخصية الإنسان نفسه، لأخلاقه،
لإحساسه، لشعوره؛ ليبقى إنساناً كريماً فعلاً، ويبقى بعيداً عن مذلة
السؤال، ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل والاستغناء، ويكفينا
أنه أرسل الشاب خمسة عشر يوماً إلى الجبل ليحتطب، وقال: (ولا أرين وجهك
خمسة عشر يوماً) ، ويسمح له بالتخلف عن الجماعة في المسجد النبوي، ويذهب
ويصلي هناك، وعنده مسجده وطهوره؛ ليحفظ ماء وجهه، وليحفظ كرامته، وليصونه
عن مذلة السؤال، ونسأل الله السلامة والعافية!
سؤال الناس تكثراً سبب لدخول جهنم
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من يسأل الناس أموالهم تكثراً؛ فإنما يسأل جمراً، فليستقل
أو ليستكثر) رواه مسلم] .
بعض السائلين يسأل الناس أكثر من حاجته، هو في حاجة إلى قوت اليوم، ويسر
الله له عشرة ريالات أو خمسة ريالات أو أكثر أو أقل بحسب حالة البلد، ومعه
ما يكفيه اليوم، فلماذا يطوف على الناس؟ ولماذا يلح على الناس؟ كان يكفيه
هذا، وغداً ييسر الله له الأمر، لكن نسأل الله السلامة! (من يسأل الناس
تكثراً) أي: يكفيه عشرة ريالات، ولكنه يطلب عشرين وثلاثين وأربعين وكلما
جاءه أخذه وأكله {أَكْلاً لَمّاً} [الفجر:19] ، هذا الذي يسأل الناس تكثراً
إنما يأكل جمراً، فليستكثر من ذلك أو ليستقل.
وهل الرسول يأمره هنا أن يستكثر أو هذا من باب: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً}
[الكهف:29] ؟ فهذا ليس تخييراً، بل هو تهديد، أي: فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر، ونحن قد أعددنا للظالمين وللكافرين ناراً، فليس المعنى: من شاء آمن
ومن شاء كفر فلا عليه، المعنى: اعمل الذي تريده، ونحن عندنا الجزاء، فهذا
تهديد وليس تخييراً، لكن الأسلوب أسلوب التخيير، والله سبحانه وتعالى لا
يضره كفر الكافر، ولا ينفعه إسلام المسلم، ولكن هذا راجع للإنسان بنفسه،
فقوله: (فإنما يسأل الناس جمراً) أي: وما دمت قد عرفت أنها جمر؛ فإن أحببت
فتكثر أو تقلل، وهذا في نهاية الزجر.
الحث على الاستعفاف
عن سؤال الناس
قال المصنف رحمه الله: [وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمةٍ من الحطب على
ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه، خيرٌ له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه)
رواه البخاري] .
قبل شرح هذا الحديث، مما يتعلق بـ (إنما يأخذ جمراً) ورد أنه ( {توفي رجل،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفه، فسأل ماذا ترك؟ -وكان فقيراً يسأل
الناس- قالوا: ترك دينارين، قال: كيتان من نار) ، سبحان الله! فالناس
يخلفون الملايين والأموال الطائلة، والله سن الميراث للمال المتروك بعد
الميت، إذاً: فيجوز اقتناء الدينارين، والألفين والمليونين، لكن لما كان
يسأل الناس، فكان الواجب أن يسأل بقدر حاجته، لكن أن يتكثر حتى يتوافر عنده
ديناران، فهذا هو المستكثر، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (كيتان من
النار) ، كل دينار بكية من النار، والدينار نصف اسمه نار، وبهذه المناسبة
كان في اختبار قول القائل: كأن وجهه دينارٌ جلته حدائق الضرابِ فبعض الطلاب
سأل: ما لون الدينار؟ نحن ما رأينا الدنانير، فقال القائل: نصف اسمه يدلُ
عليه، لكن كان الطلاب أغبياء ما فهموها، وإلا كان غشاً في الاختبار.
إذاً: المسألة بقدر الحاجة لا مانع منها، فالله سبحانه وتعالى جعل حقاً
للفقراء والمساكين شرعاً، وفرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بجمع
الزكاة وتوزيعها عليهم؛ ولا عيب في سؤال المحتاج الفقير، والله سبحانه
وتعالى يمتحن عباده بالغنى كما يمتحنهم بالفقر، لينظر: أيشكر هذا أم لا؟
وهذا أيصبر أم لا؟ فالغرض من هذا التنفير، وتقبيح السؤال تكثراً، لكن لو
طرأت على الإنسان حاجة فلا مانع أن يسأل؛ لأنه حقٌ له.
ذم احتقار المهن
والأعمال
ثم جاء هذا الحديث ليرشد إلى العمل المنتج عيب في عمل اليد الذي يستعف به
صاحبه؛ لأن بعض الناس يعيبون بعض المهن، ويحتقرون الأعمال اليدوية، ويزدرون
أشياء لا عيب فيها، فبعض الناس لو قلت له: تعال تعلم السباكة، قال:
السباكة! تعال تعلم الخرازة، قال: الخرازة! هذه صفات كذا كذا، تعال تعلم
النجارة، تعالَ خذ مكنسة واكنس في الشارع، وخذ راتباً وعش به، قال: أنا آخذ
مكنسة وأكنس في الشارع؟! نعم لأنك ستموت جوعاً، أو تسأل تكثراً، فأيها أولى
لك: أن تستغل طاقتك وصحتك في تنظيف الشارع للمسلمين، أو تتكفف الناس
السؤال؟ وكيف تستعيب المكنسة ولا تستعيب من مد اليد؟! فيجب أن يكون عندك
قانون مطَّرد، أنت تستحي من أخذ المكنسة؛ فيجب أن تستحي من مد يدك، اليد
التي تمتد لسؤال الناس الأولى لها أن تمسك المكنسة، فهنا قال: (لأن يأخذ
أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب) في ذاك الوقت المهن قليلة، مثل البناء والنجارة
فلم تكن كثيرة، بل هي نجارة بلدية كل واحد يقدر أن يعملها، فكانت المهن
محدودة، لكن الاحتطاب أمر عام، ومثله أن يحتش الحشيش من الوديان ومن
الأراضي البيضاء، ويبيعه علفاً لأصحاب الدواب.
فأي مهنة يجب ألا يحتقرها إنسانٌ، مادام أن هذا العمل يعفه عن تكفف الناس
السؤال، وسمى لي بعض المشايخ - الله يغفر له ويرحمه- شخصاً كنت أعرفه، وكان
يعمل في السمكرة، وكان هناك الصفيح تُعمل منه أباريق للحمامات، وتعمل أوعية
للسمن من الصفيح (التنك) ، وهكذا تنك التمر وتنك الزيت، وكانت براميل
البترول أو الغاز يصنعون منها أدوات، وكان هذا الشخص جالساً وجواره جماعة
يخرزون ويخيطون الأحذية القديمة ويصلحونها، فجاء رجل تركي، ومعه نعل من
الخشب والجلد، وفيه وساخة، والسير مقطوع، فجاء لهؤلاء الذين يصلحون الأحذية
ليصلحوه له، فامتنع كل واحد منهم عن ذلك لأنه وسخ! وهذا السمكري شغله في
التنك، وليس في الأحذية، فنادى الرجل: تعال، تعال، ما عندك؟ قال: عندي كذا
كذا، قال: هاته.
فأخذ القبقاب من طرف، وحك الوساخة التي فيه في الأرض حتى زالت عنه، ثم طلب
من هؤلاء مسمارين فأعطوه فسمر الجلد في القبقاب، وأصبح صالحاً، وأعطاه نصف
ريال، ونصف ريال في ذاك الوقت له قيمة كبيرة.
وهو لم يعطه نصف ريال على كونه دق المسمارين، لكن على كونه قبل أن يعمل هذا
في الوقت الذي رفضه الآخرون، فقام هذا الرجل واشترى بنصف الريال تميزاً
وسكراً وشاياً، واشترى جبناً، ثم أفطر هو وزملاؤه وجيرانه من نصف ريال، ثم
قال لهم: لمَ تردون هذا؟ النصف ريال هذا خسارة أن تضيعوه، ونحن جلسنا هنا
لخدمة الناس.
فهذا -يا إخوان- كنموذج، فأنت في صنعتك لا ترفض أن تعمل هذا؛ لأنه وسخ،
الأرض -يا أخي- تنظفه، أو خذ خرقة ونظفه، فهذا الرجل ما ترفع أن يفعل هذا
الفعل، وحصل من ورائه ما أفطر هو وجيرانه به.
إذاً: لا ينبغي لإنسان أن يترفع عن الأعمال، ما نشتكي من شبابنا السعودي
إلا ترفعه عن كثير من مجالات الأعمال العامة، والشاب السعودي إذا تخرج وحمل
شهادة -أياً كان مستواها- لا يريد إلا طاولة وتلفوناً وفنجان شاي وجريدة،
هذا الذي يريده! وأما الأعمال الحرة فلا يريدها، مع أنها تدخل عليه أكثر من
راتبه أضعافاً، لكن يريد أن يقال عنه: ذهب الدائرة، وجاء من الدائرة، ذهب
الوظيفة وجاء من الوظيفة!! وقد شاهدنا في هذا المسجد النبوي بعض زملائنا في
الدراسة، كان يصبح الواحد منهم في السوق متحزماً ويحمل على رأسه، ويساعد
الفلاحين في إنزال البضائع، ويأخذ من هذا شيئاً ومن هذا شيئاً، ويجمعها
ويبيعها، ويرجع إلى بيته بما يحتاجه منها، وبما اشتراه من حاجات البيت،
وإذا كان بين المغرب والعشاء تجده أميراً من الأمراء، عليه ثياب مكوية
نظيفة، وكوفية مكية، وغترة مهذبة، جالس أمام الشيخ، فهذا من خيرة الناس لا
يترفع أن يعمل في الصباح، فهو طالب علم لا يرضى لنفسه أن يمد يده.
الحديث ليس مقتصراً على حزمة حطب لمن يريد أن يتعفف، بل الحديث مبدأ عام،
وينبغي على كل إنسان عاقل أن يستعف بأي عمل، وقد ذكرنا أن على المسئولين
إيجاد مجالات للعمل وللقضاء على العطالة والبطالة، لكن إذا لم يكن هناك
مشاريع عند الدولة، وإذا لم تكن لديها إمكانات، فالعمل الحر واسع، من بيع
وشراء أو صناعة أو غير ذلك.
قوله: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأتي بحزمةٍ) يأخذ حبلاً وفأساً كما في بعض
الطرق، ولابد من فأس ليكسر به الحطب، وحبل يحزمه فيه، ويحمله على ظهره،
وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أميراً على بلدة، فكان يذهب إلى السوق،
ويأتي بحزمة الحطب يحملها على ظهره ويقول: افسحوا الطريق لأميركم، فهو أمير
ويحمل الحطب؟! لعله ليس عنده ما يستأجر به أحداً، وكما قيل: رب السلعة أولى
بحملها.
إذاً: لا يوجد عيب في العمل، كلمة (عيب) في عمل هي العيب، ولا ينبغي
للإنسان أن يحتقر شيئاً، وهؤلاء الذين يغسلون السيارات لو تركناهم مفلتين
في البلد ضائعين، لكانوا شراً على الناس، فهو يغسل السيارة ويأخذ له عشرة
ريالات، يغسل سيارتين، ثلاثاً، أربعاً، أو أكثر أو أقل، فيقضي وقته وينفع
الآخرين، ويكسب قوته، فأياً كان العمل -دون تسمية نوعٍ بذاته- فاعمله مادام
ليس فيه حرام، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها
قالت: (من بات كالاً من عمل يده؛ بات مغفوراً له) ؛ لأنه يعمل بطاقته.
وأعتقد أني أكثرت عليكم في هذا المجال؛ لأننا -فعلاً- في حاجة ماسة إلى هذا
المنهج، بصرف النظر عن حزمة الحطب، أو عن سقية الماء، وقد رأينا طلاب علم
كانوا يحملون الماء في أول النهار، ثم إذا جاء وقت الدرس حضروا كما ذكرت
لكم، ولا يمدون أيديهم إلى الناس، وهكذا كثير من الناس من يبدأ حياته
عاملاً صغيراً، ثم يتدرج ويبارك الله في عمله، ويصبح من كبار الأغنياء.
يا جماعة! وجدنا جمعيات خيرية كثيرة، وجمعيات نسائية، وجمعيات لفئة كذا،
ألا يمكن أن نوجد جمعية لإيجاد عمل للعاطلين أو للبحث عن عمل لهم أو
مساعدتهم أو لإرشادهم لما ينفعهم؟ الإمكان يمكن، لكن هل يقبل أحد على هذا؟
حبذا لو أن جهة من الجهات تبنت هذه الفكرة، وكل من ليس عنده عمل يأتي
إليهم، ويقول: أنا إمكاناتي كذا، أنا متعلم كذا، أنا أحسن كذا، أنا مستطيع
أن أعمل كذا، وإذا كان إنسان يحتاج إلى عامل في شيء ما، يتصل بهم ويحصل على
ما يريد من طريقهم، فتكون هذه الجمعية كواسطة بين المواطنين المحتاجين
لعمال وبين الفارغين من العمل، وهذا يسهل الطريق، ويقرب الاتصال بين،
العامل وبين الذي يريد أن يعمل عنده، لعل الله أن ييسر هذا، إن شاء الله.
جواز السؤال عند
الضرورة أو سؤال السلطان
قال المصنف رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (المسألة كدٌ يكدُ بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل
سلطاناً أو في أمرٍ لابد منه) رواه الترمذي وصححه] .
هذا كالحديث المتقدم ما عدا هذا الاستثناء: (المسألةُ كدٌ) ، والكد مثل
الخمشة، فهو رضة أو حفرة في الوجه.
فتجوز المسألة للسلطان، وسؤال السلطان ليس داخلاً في هذا، ولماذا السلطان
لا يكون داخلاً في هذا؟ لأنك إن سألت السلطان، والحالُ أن البلد مسلم،
فالسلطان تحت يده بيت مال المسلمين، ولكل فردٍ حقٌ فيه، فإذا أعطاك
السلطان، فإنما يعطيك من حقك الذي في بيت مال المسلمين، فلا يكون في ذلك
كدٌ ولا خدوشٌ؛ لأنك لم تسأله ماله الخاص، كما تسأل عامة الناس فتكون ممن
سأل الناس أموالهم تكثراً.
أما إذا سألهم غير أموالهم، فإنسان عنده مثلاً وقف خيري على الفقراء أو على
الغرباء، أو على الطلاب، وجاء واحد من هؤلاء المنطبق عليهم الوصف الموقوف
عليهم، وجاء للناظر وقال: أعطني من حقي، أنا لي حق في هذا الوقف، فهو لم
يسأل الناظر ماله، إنما سأله ما تحت يده، وللسائلِ حقٌ فيه؛ فليس في ذلك
شيء، وكذلك سؤال الإنسان للسلطان؛ لأن السلطان يعطي الجميع، والسلطان تحت
يده بيت مال المسلمين، فهو يعطي منه، وله أن ينظر من يعطي ومن لا يعطي، ومن
يعطي الكثير ومن يعطي القليل على حسب ما يترجح عنده من مصلحة الشخص السائل.
ومن باب الطرافة: أن أعرابياً جاء إلى معاوية وقال: أسألك بالرحم الذي بيني
وبينك إلا أعطيتني، فقال: هل يوجد رحم بيني وبينك وأنا قاطعها؟! قال: نعم،
قال: ذكرني بهذه الرحم! قال: أنا وأنت أولاد آدم؟ قال: والله! أنت صادق،
أتسألني بالرحم الذي تتصل إلى آدم؟ قال: نعم، قال: والله! هذه رحم يجب أن
توصل، ولك حق، وكتب إليه كتاباً لعامله على بيت المال: ادفع إليه درهماً،
وصك الكتاب، وقال له: اذهب بالكتاب إلى عامل بيت المال، فذهب الرجل ومعه
كتاب من أمير المؤمنين معاوية، ففض الكتاب، فدخل وأعطاه درهماً! قال: ما
هذا؟ قال: الذي كتب لك معاوية، قال: ألا تستحي؟! معاوية يكتب بدرهم؟! قال:
هذا كتابه الذي أعطاك، خذه وارجع له، فرجع إليه، وقال: ما هذا يا معاوية؟!
تكلف نفسك، وتكتب كتاباً إلى عاملك، وترسلني على درهم! قال: يا أخا العرب:
والله! لو وصلت الرحم التي تصل إليَّ بها بمثل هذا ما بقي في بيت المال
درهم! وهذا صحيح.
|