شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الزكاة - باب
قسم الصدقات [1]
إن من حكمة الله عز وجل أن جعل الناس طبقات مختلفة ومتفاوتة في الرزق، فجعل
منهم الأغنياء والفقراء لينظر الشاكر من الكافر، وجعل للفقراء في مال
الأغنياء نصيباً، ثم قسم هذا النصيب عليهم، وجعله محرماً على الغني، فلا
تحل الصدقة لغني إلا في خمسة أحوال، وقد وضح الشيخ وجه حلها لهم وحكمة ذلك.
شرح حديث: (لا تحل
الصدقة لغني إلا لخمسة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغنيٍ إلا لخمسة: لعاملٍ
عليها، أو رجلٍ اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكينٍ
تُصدق عليه منها، فأهدى منها لغني) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة وصححه
الحاكم وأُعل بالإرسال] .
حسن ترتيب المصنف
لأحاديث الكتاب
نلاحظ أن المصنف رحمه الله رتب هذا الكتاب ترتيباً عملياً، فذكر أولاً كتاب
الزكاة، ثم بيَّن لنا ما هي الأموال الزكوية، فبين أنها من بهيمة الأنعام،
ومن الذهب والفضة، ومن عروض التجارة، ومما تخرجه الأرض، وبيَّن لنا أنصباء
كل نوعٍ من الأموال الزكوية، سواء في بهيمة الأنعام المختلفة، ففي الإبل
أول نصابٍ خمس وفيها شاة، وفي الغنم أول نصابٍ أربعون وفيها شاة، وفي البقر
ثلاثون وفيها تبيع.
ثم بيَّن لنا أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً وفيها ربع العشر، وأن نصاب الفضة
مائتا درهمٍ وفيها ربع العشر، ثم بيَّن لنا أيضاً عروض التجارة، وأنها
تُقوَّم بالأحظ للمساكين بالذهب أو بالفضة وفيها ربع العشر، ثم بيَّن لنا
نصاب الحبوب والثمار التي تزكى، وأن أول نصابها خمسة أوسق، وأن ما سقي بماء
السماء أو العيون بغير كلفة ففيه العشر، وما سقي بالكلفة ففيه نصف العشر.
ثم عقَّب على ذلك بزكاة الفطر، وهي صاعٌ على كل إنسان سواء كان صغيراً أو
كبيراً، ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً من المسلمين.
تولي الله تعالى
لقسمة الصدقات
وبعد أن بيَّن هذا كأنه يقول: لقد عرفنا الأموال الزكوية وعرفنا أنصباءها،
فلمن تعطى تلك الزكوات التي جمعناها؟ فجاء بـ (باب قسم الصدقات) ، والأصل
في هذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله لم يكل قسم الصدقات
إلى أحد، لا إلى صاحبها، ولا إلى نبيٍ مرسل، ولا إلى عالم فاضل، إنما
تولاها سبحانه بنفسه، وكذلك الأموال المكتسبة بغير كدٍ ولا جهد، مثل
الميراث، فقد تولى الله قسمته، وبيَّن أنصباء الورثة من الأقارب، كالأبوين
والزوجين والأولاد، وبيَّن لكل صاحب فرض فرضه؛ لأن الميراث كسبٌ إجباري،
ولا يملك إنسان أن يقول: أنا لا أرث، أو لا أريد الميراث، فنقول له: بل
تمتلكه رغماً عنك، ثم بعد أن تمتلكه بالتوريث فتنازل عنه لمن شئت، فهو يدخل
في ملكك بالقوة.
فإذا قالت الأم مثلاً: لا أريد، فاجعلوا نصيبي وهو لأولادي، نقول: جزاكِ
الله خيراً، نصيبك يدخل في ملككِ ثم يتحول عنكِ إلى أولادك، وهكذا الزوج لو
قال: لا أريد من زوجتي ميراثاً، فنقول: جزاك الله خيراً، بعد أن يدخل في
ملكك اعتباراً يتحول إلى أولادها منك أو من غيرك.
إذاً: الميراث ملكٌ إجباري، ولهذا تولى الله قسمته.
والصدقات كذلك، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
المبادئ في قسمتها، فأما القرآن الكريم فقوله سبحانه: {إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] .
و (إنما) كما يقول علماء البلاغة: أداة حصر، فبين سبحانه القنوات التي تسير
فيها الصدقات، وهي ثمانية أصناف، وجاء في الصفة العامة فيمن يستحق الزكاة
عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث معاذ عندما بعثه إلى اليمن فقال له:
(أخبرهم أن الله افترض عليهم زكاةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم) .
إذا نظرنا إلى الأصناف الثمانية في الآية الكريمة فسنجد أن عنصر الافتقار
موجودٌ فيها كلها بدون استثناء.
في الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) قال: (الصدقات) ولم يقل: (صدقة)
؛ لأنها بالنسبة لتنوع الأموال الزكوية فهي صدقات: صدقة الإبل، صدقة الغنم،
صدقة البقر، صدقة الحبوب، صدقة النقدين، صدقة التجارة، فهي صدقات ولهذا
جمعت (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) ، وأداة الحصر تمنع دخول غير المحصور عليهم،
فالذي يلي (إنما) هو المحصور، والمحصور عليه يأتي بعد المحصور.
إذاً: (إنما) أداة حصرٍ بإجماع أهل اللغة، و (الصدقات) محصورة على من يأتي
بعدها من الأصناف الثمانية.
ومن هنا يتبين أنه لا صدقة على غنيٍ؛ لأنه خرج عن نطاق الفقر والحاجة، وهما
عنصران موجودان بقوة أو بضعفٍ في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية
الكريمة.
الأغنياء المستثنون
من تحريم الصدقة عليهم
هنا بدأ المصنف رحمه الله ببيان من لا تصح لهم الصدقة؛ لأن الذين تصح لهم
الصدقة أصناف ثمانية، وأما الذين لا تصح لهم الصدقة فهم صنفٌ واحد وهم
الأغنياء، وكما يقال: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) ، والشيء الذي
يمكن حصره في التعليم والبيان ذكره أولاً أولى من الذي لا يمكن حصره، ومن
ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (ماذا يلبس المحرم يا رسول
الله؟ ... ) فالسؤال كان عن الذي يلبسه المحرم، فقال: (لا يلبس المحرم ...
) ، فنحن نسأل عن الملبوس، فأفادنا ما هو الذي لا يلبس؛ لأن ما يلبس لا حصر
له، ولكن المراد هو اجتناب ما لا يلبس، واجتناب ما لا يلبس معدود.
إذاً: لا يلبس القُمص ولا العمائم ولا البرانس، ولا السراويل ولا الخِفاف،
فهذه أشياء محدودة، أي: فاجتنبها والبس بعد ذلك ما شئت.
فيكون ذكر ما هو محصور أسهل وأيسر في التعليم من ذكر وتعداد ما لا حصر له،
ولهذا بدأ المصنف رحمه الله كتاب تقسيم الصدقات بذكر من لا تحل لهم.
قال: (لا تحل الصدقة لغنيٍ إلا لخمسة) : (لا تحل) أي: تحرم ولا تجوز.
من هو الغني ومن هو الفقير؟ يختلف العلماء في حد الغني والفقير، فبعضهم
يقول: الغني هو: من عنده قوت يومه وليلته؛ لأنه ليس محتاجاً، وعند الإمام
أبي حنيفة رحمه الله أن الغني هو من يملك نصاباً؛ لأنه يعطي، والناس أحد
قسمين: إما غنيٌ يزكي، أو فقيرٌ يأخذ، فالقسمة ثنائية، فالغني الذي تجب
عليه الزكاة هو من امتلك النصاب، والفقير الذي يحق له أن يأخذ الزكاة هو من
لم يمتلك نصاباً، ولهذا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله أن تعطي من الزكاة
شخصاً يملك مالاً أقل من النصاب قليلاً؛ لأنه بهذا الوصف فقير وليس بغني.
الصنف الأول: العامل
عليها
فهذه الزكاة أو الصدقة لا تحل لغنيٍ، ولكن هناك حالات اعتبارية تستثنى ولا
تكون أساساً في أخذ الصدقة، ولكنها أمور اعتبارية تكون مع الأغنياء، فتحل
لهم أخذ الصدقة وأكلها وهي: قال: (لعاملٍ عليها) العامل عليها هو من
الأصناف الثمانية، والعاملون عليها هم الذين يكلفهم الإمام أن يخرجوا إلى
البوادي ومواطن الأموال يحصون ويخرصون الأموال على أصحابها، ويأخذون منهم
الزكاة نيابةً عن الإمام؛ لأن التكليف بجمع الزكاة من الأغنياء ابتداءً كان
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليس
لديه من الوقت والإمكانيات ما يكفيه لكي يذهب إلى المياه والبوادي وإلى
أصحاب الأموال حتى يجمع الزكاة، فكان ينيب عنه من يقوم بذلك؛ لقوله سبحانه:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] .
فـ (خذ) هنا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
(من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها) ، و (نا) هنا
ضمير المتكلمين، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غيره: (ومن منعها
أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لمحمدٍ ولا لآل محمد منها
شيء) .
لو وقفنا هنا لوجدنا كم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحمل من أجل
الأمة!! يقول: إن الذي يمتنع عن أداء الزكاة سنأخذها منه بالقوة، ونأخذ نصف
ماله، وهل سيسلم نصف ماله أو سيقف دونه؟ الجواب: سيقف دونه، وإذا وقف دونه
قاتلناه حتى نأخذه بالقوة.
هذا التكليف من الله في تحميل الرسول صلى الله عليه وسلم مسئوليتها، من أجل
ان يقوم بها من يأتي بعده، ولهذا قام الصديق رضي الله تعالى عنه بهذا
التكليف حينما امتنع قومٌ من دفع الزكاة إليه، بحجة أنهم مسلمون يصلون
ويصومون، وسيزكون أموالهم بأنفسهم.
فما الفرق بين أن كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن
يؤدوها إلى خليفته أبي بكر؟ أجابوا وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما كان يأخذها منا، قد قال الله له: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ
صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ، وهنا أبو بكر لا يصلي علينا، ولو
صلى فصلاته علينا ليست كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فاتت صلاة رسول الله علينا عند إعطائه الزكاة، فلا نعطيها غيره، فهم
مقرون بها، فأقسم أبو بكر وقال: (والله! لو منعوني عَقَالاً أو عِقَالاً
كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ، فهو لن يأخذها لنفسه وإنما
سيأخذها ويقسمها أيضاً على الأصناف الثمانية.
وهكذا يُحفظ ماء وجه الفقير، فلا يذهب إلى الغني ويقول: لي حقٌ في مالك
فأعطنيه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ *
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، فقد يماطله ويقول: تعالى
إلينا غداً أو نحن مشغولون الآن، فيبقى المسكين يتردد عليه من أجل أن يحصل
على حقه.
فحفظ الله كرامة المسكين في الإسلام ولم يعرضه لمذلة السؤال في حقٍ هو
واجبٌ له، وكلف رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعها، وهكذا الخلفاء من بعده،
ومن بعدهم، فكل من قام بأمر المسلمين عليه أن يقوم ويجمعها بنفسه، أو ينيب
عنه من يجمعها ويأتي بها ليصرفها في مصارفها، كما فعل صلى الله عليه وسلم.
فالعاملون عليها هم الذين ينيبهم ولي الأمر بأن يذهبوا ويجمعوا الصدقات من
الأغنياء ويعطوها الفقراء، فهذا الذي قام وعمل لن يعمل مجاناً، وإنما هو
عامل كالموظف، ومثل هذا يكون غنياً في نفسه، وليس في حاجة إلى الصدقة، ولكن
ولي الأمر هو الذي كلفه بجمع الزكاة على أن يعطيه أجره، فيكون العامل على
جمع الزكاة أجيراً للفقراء والمساكين وليس لولي الأمر؛ لأن الأجير لم يجمع
الزكاة لولي الأمر ليأخذها لنفسه، بل ليوزعها على الفقراء والمساكين، فيأخذ
العاملون على جمع الزكاة أجرهم من حق الفقراء.
إذاً: العاملون على الزكاة هم أجراء وموظفون لحساب المساكين أصحاب الزكاة
ليجمعوا الزكاة ويحضروها، فيجب أن يقتطع من حق أصحاب الزكاة أجر الأجراء،
ولكن إن تحملت الدولة أجور العاملين على جمع الزكاة من عندها فجزاها الله
خيراً، وإن لم تتحملها واقتطعتها من حق الفقراء فلها ذلك؛ لأنهم عملوا من
أجلهم وجمعوها إليهم فلهم الحق فيها، فهذا العامل لو كان غنياً يخرج الزكاة
عن ماله ويخرج زكاة أشياء عديدة، ولكن له حق من الزكاة؛ لأن ما يأخذه لا
يأخذه لفقرٍ ولكن لأجرة العمل، فهو مثل أي موظف، فأعلى موظفٍ في الدولة
يأخذ راتباً مقابل عمل، وهذا يأخذ أجراً مقابل عمل.
ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم أن يكونوا من العاملين على
جمع الزكاة؛ لأنهم سيأخذون أجرهم من حق الفقراء، من الصدقات، ولذا يقول بعض
الفقهاء: يجوز لبني هاشم أن يكونوا عاملين عليها إن أعطاهم ولي الأمر أجراً
من بيت المال، لا من الصدقات التي يجمعونها.
إذاً: لا تحل الصدقة لغنيٍ.
هذه قاعدة عامة، يستثنى منها العاملون عليها؛ لأنهم يأخذونها أجراً على
عملهم.
فالعامل له أن يأخذ أجره مقاطعةً، كأن يكون له في اليوم كذا، أو في الشهر
كذا، أو يجعل له نسبة فيما يجمعه، مثلاً: (1%) ، أو (0.
5%) يجمعه من الزكوات، وهذا يرجع إلى نظر الإمام؛ لأنه يعمل لما فيه مصلحة
الطرفين، (الغني والفقير) ، والمصلحة مراعاة للجانبين ابتداءً: جانب
الفقراء، إن وجد أن من مصلحة الفقراء أن يجعل الإمام للعامل حصةً مقطوعة
كنسبة مئوية، أو أجراً معيناً في الشهر أو الشهرين أو في مدة جمع الزكاة،
فله ذلك.
الصنف الثاني: رجل
اشتراها بماله
قال: (أو رجلٍ اشتراها بماله) أي: أو رجل غنيٌ اشترى الزكاة بماله، كأن
يكون هناك إنسان فقير وجاءته زكوات وكثرت عن حاجته، وكان يحتاج إلى شيءٍ
آخر سوى ما جاءه من الزكوات، كأن جاءته عشر شياه وهو يكفيه خمس أو ست يشرب
حليبها، والباقي ليس عنده راعٍ يرعاها ولا يريد أن يكلف نفسه الرعي، ويحتاج
إلى ملابس لأولاده، ويحتاج إلى الأرز والسكر والشاي، فيبيع من تلك الشياة
التي جاءته صدقة؛ لأنها زائدةٌ عن حاجته وقد اقتصر على حاجته ليوجهها في
حوائج أخرى.
فجاء إلى جاره وقال له: جاءتني شياه وهذه زائدة عندي، فإن كان لك رغبة في
شاة أو شاتين أو ثلاث بعتها لك، وجاره الغني يعلم أنها جاءت لجاره الفقير
صدقة فاشتراها، فهو لم يأخذها على أنها صدقة وإنما اشتراها بماله، ولا فرق
عند دفع الثمن بين أن يشتريها من فقير جاءته صدقة، وبين أن يذهب إلى السوق
ويشتريها من التاجر.
إذاً: هذا الغني الذي اشتراها بماله لم يأكلها صدقة، ولم يُتصدق بها عليه،
وإنما هي بمقابل ماله ولو كان يعلم بأنها من الصدقات التي تُصدق بها على
جاره.
الصنف الثالث:
الغارم
قال: (أو غارم) .
الغارم ينقسم إلى قسمين: غارمٌ لنفسه، وغارمٌ لغيره.
والغارم لنفسه تحته قسمان: غارمٌ في وجهٍ شرعي، وغارمٍ في وجه غير شرعي.
فالغارم في وجهٍ شرعي: مثل إنسان متزوج امرأتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وكل
امرأة في كل سنة تلد توأمين، فأصبح في أربع سنين أو خمس سنين عنده عدد كبير
من الأولاد، وإمكانياته لا تفي بحاجات هؤلاء، وهو مكلف بأن يسعى لسد
حاجاتهم، فأخذ يستدين، والناس يعرفون ظروفه فأقرضوه وداينوه، حتى كثرت عليه
الديون وأصبح غارماً لأصحاب الديون، فهذه الديون لحقته بسبب شرعي؛ لأنها
لإعالة نفسه وأولاده.
والغارم لنفسه في وجهٍ غير شرعي: مثل إنسان أخذ يبذر بماله الذي في يده في
أمور غير مشروعة، إما أنها من باب التبذير في الحلال أو من باب الإنفاق في
الحرام حتى فني ماله، ثم أخذ يستدين، فإذا كان يستدين لينفق في وجوهٍ محرمة
لحقته الديون وأصبح غارماً، والديون التي لحقته وأصبح غارماً بسببها
لأصحابها أنفقها في وجهٍ محرم، فحينئذٍ ذاك غرم في وجهٍ شرعي لحظه وحظ
عياله، وهذا غرم في وجهٍ غير شرعي.
فالغارم لنفسه غرماً شرعياً له حق أن يأخذ من الزكاة من أجل أن يسدد دينه
الذي ركبه بسبب الحاجة وبالوجه الشرعي، وفي ذلك إعانة له على حياته، قال
تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] .
أما الغارم في وجهٍ غير شرعي فلا يعطى من الزكاة؛ لأنه يدفعها في محرم،
ويضعها في غير طريقها، ولو أعطيناه لكنا قد أعناه على الإثم والعدوان،
والله قد نهى عن ذلك.
إذاً: الغارم لحظ نفسه تحته هذان القسمان، أحدهما يأخذ والآخر لا يأخذ.
والغارم لحظ غيره: مثل: رجل من أهل المروءات والنجدة والإحسان والإصلاح بين
الناس، وجد عائلتين أو شخصين قد وقع بينهما نزاع وخصومة، والنزاع والخصومة
في أموال، والأموال ملتبسة مشتبهة، وكلا الفريقين يدعي على الآخر وأدلتهم
غير واضحة.
فجاء يصلح بينهم بعد أن وقع بينهم النزاع والقتال والقطيعة والخصومة، فقال:
أنا أتحمل لكم المال الذي تختلفون فيه مقابل الكف عن النزاع، فكفوا
وتصالحوا وكونوا إخواناً، وهذا المال الذي هو سبب النزاع أنا أضمنه،
فطالبوه فقال: أنا أجمعه لكم؛ لأنه ليس عنده مقدار المال الذي ضمنه
للطرفين، فله الحق أن يأخذ من الزكاة ما يسدد ما ضمنه في ذمته للمتخاصمين؛
لأن في ذلك إصلاحاً بين الناس، حتى أن بعض العلماء قال: ولو كان غنياً
فيعطى ولا نرهقه في ماله، حتى لا يتوقف بعد ذلك عن الإصلاح بين الناس.
فإذا علم أنه سيسدد عنه من مال الزكاة ما ضمنه للغرماء الذين أصلح بينهم،
فلن يتأخر في قضيةٍ أخرى أن يدخل فيها بالإصلاح.
إذاً: الغارم لغيره يُسَاعد ويعطى ولو كان غنياً، ولا نرهقه في ماله؛ لأنه
فاعل خير، وما دام فاعل خير فإنه يجب أن نعينه على فعل الخير.
وأعتقد أن هذا كان معروفاً في الجاهلية عند العرب، فقد كانوا إذا تقاتلت
قبيلتان وطال القتال بينهما يأتي شخص ذو نجدة ومروءة ويسعى بين الفريقين
بالصلح فيكفوا عن القتال ثم ينظر: ماذا لكل قبيلة عند الأخرى من الدية؟
فتكون هناك المقاصة وما زاد يتحمله هو، سواء من ماله إن كان ذا مالٍ وفير
أو يتعاون معه العرب ويجمعون له ما تحمل في ذمته، فيوفي ما التزم به
للغرماء.
الصنف الرابع:
الغازي في سبيل الله
قال: (أو غازٍ في سبيل الله) .
كأن يدعو الإمام إلى النفير العام، وأن كل من كان ذا قوةٍ على القتال
فليتقدم.
فإذا تقدم رجل غني، وقال: أنا أريد سلاحاً، أعطوني سلاحاً وفرساً، ولوازم
القتال، فله أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه، قيل: لأول غزوة؛ لأنه بعد ذلك إن
استشهد فإلى رحمة الله، وإن عاش فله من سهم الغنائم ما يغنيه.
وإن كان فقيراً لا مال عنده، فعلى ولي الأمر أن يزوده إن استطاع، وإن لم
يكن عند ولي الأمر ما يزوده فالكل معذور كما قال الله: {تَوَلَّوا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا
يُنفِقُونَ} [التوبة:92] ، فهو أدى ما عليه وتطوع بنفسه، ولكن لم يجد آلة
القتال، ولا يمكن أن يذهب أعزل ليقابل مسلحاً، فهذا تهور وليس بقتال ولا
شجاعة.
إذاً: الغازي في سبيل الله إما فقير وإما غني، فإن كان فقيراً تعين على ولي
الأمر أن يزوده بما يحتاجه من نفقةٍ في السفر، ومن سلاح وملبس ومركب وكل ما
يحتاجه المقاتل، وإن كان غنياً فإن تبرع من عنده فهو غازٍ بماله ونفسه، وإن
لم يتبرع فهو غازٍ بنفسه دون ماله، وله أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه.
وهنا يقول بعض العلماء: لو أننا قدَّرنا له في هذه الغزوة مسيرة شهر
-الذهاب مع المعركة والعودة- ولكنه ذهب وقاتل ورجع في مدة عشرين يوماً، فهل
نسترجع من هذا الغازي ما يقابل العشرة الأيام التي كنا قدَّرناها زيادة أم
لا؟ ولو أننا قدَّرنا له في اليوم عشرة ريالات، واستغرق الشهر المقدر له،
لكنه بدل أن يصرف عشرة ريالات في اليوم صرف خمسة ريالات، فرجع بنصف المبلغ
الذي أعطيناه إياه، فهل يستحق الباقي الذي وفرَّه مما قدرناه له وأعطيناه
إياه أم أنه لا يستحقه وعليه أن يرده إلى بيت مال المسلمين؟ الجمهور على
أنه إن كان قد قتر على نفسه وضيق عليها في نفقته وما يلزمه حتى وفَّر
شيئاً، فقد وفر من ملكه الذي أعطيناه إياه وامتلكه بوجهٍ شرعي، فما زاد
فعليه وما نقص فله ولا يطالب بإعادة شيء؛ لأننا أعطيناه شيئاً مقطوعاً
وقلنا: هذا مقابل ذاك.
فالغارم إذا كان الدين الذي ركبه غرمه لنفسه في الخير أو لغيره، فإن كان
لنفسه في نفقته ونفقة عياله، إن أعطي تطوعاً دونما حساب أو تقدير فكل ما
جاءه يملكه، وإن كان غارماً لدينٍ أصلح به بين فريقين وتعين الدين الذي
غرمه مائة ألف مثلاً وجاءه مائتا ألفٍ أو ثلاثمائة ألف، فعليه أن يرد
الباقي إلى بيت مال المسلمين؛ لأنه غنيٌ في ذاته وقد أعطيناه ما لحقه
للمتخاصمين، فهو لم يُعط لكي يُتصدق عليه فهو غني، لكنه تصدى للإصلاح بين
الفريقين، والإصلاح احتاج إلى مائة ألف، وعلم الناس بذلك فأخذوا يعطونه من
حساب الزكاة حتى زاد على الدين الذي هو مطالبٌ به، فما زاد عن الدين الذي
هو مدينٌ به وملتزم به بين الفريقين يرده؛ لأنهم لم يعطوه ليتملك ويستغني
بمال الزكاة.
الصنف الخامس:
الهدية للغني من الفقير المتصدق عليه
قال: (أو مسكينٌ تُصدق عليه منها فأهدى منها لغني) .
مثل أن تتصدق على جارك بزكاة الفطر تمراً أو براً أو زبيباً أو غير ذلك،
فجئت يوم العيد تزوره فقدم إليك القهوة مع التمر -كما هي العادة- فنظرت
وفطنت بأن التمر الذي قدمه إليك هو من تمرك الذي تصدقت به عليه، فهو عنده
تمر كثير، وتُصدق عليه بتمور متعددة، ولكن حينما جاء بالقهوة وجاء معها
بالتمر صادف أن جاء بالتمر الذي جاءه من عندك أنت، فحينما يقدم لك التمر مع
القهوة هل تنظر وتقول: أنا لا أكل هذا؛ لأن هذا من صدقتي عليك، وأنا غني عن
أكل الصدقة، أم أنك لا تأكل صدقةً ترجع فيها، ولكن قرىً وضيافة؟ الجواب:
أنك تأكل؛ لأنك حينما تأكل من التمر لا تأكله على أنه منك، بل على أنه منه
هو؛ لأنه قد امتلكه بوجهٍ شرعي وأصبح في ملكه يتصرف فيه تصرف الملاك، إن
شاء دفعه في صدقةٍ عنه وعن عياله، وإن شاء باع الزائد، وإن شاء أطعمه فقراء
آخرين، وإن شاء ضيفك به.
إذاً: هذا غني، وهذه الصدقة تصدق بها بالأمس وقُدمت إليه وهو غني، فلا مانع
أن يأكلها، فهي تحل له؛ لأنها قدمت إليه لا في إطار الصدقة، ولكن في إطار
الضيافة والقِرى.
ومن هنا -كما يقولون- اختلف الاتجاه واختلف الاعتبار، واختلفت اليد فاختلف
الحكم كما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه: (أنه أصبح ذات يوم وقال: ائتوني
بغدائي -والغداء كان في الضحى- فقدموا إليه خبزاً وخلاً وملحاً، فقال:
لماذا الخل والملح وأنا أرى البرمة تغط باللحم؟ فقالوا: يا رسول الله! إن
ما في البرمة لا يحل لك، قال: ولماذا؟ قالوا: إنه لحمٌ تصدق به على بريرة
وأنت لا تأكل الصدقة -فهذا كلام فقهي صحيح- فقال: هو عليها صدقة ولنا منها
هدية) ، فيكون قد اختلف الاعتبار واختلفت اليد، مع أن اللحم واحد، فهذه فخذ
شاة، وضعت في يد بريرة، فامتلكتها بريرة، ثم طبختها، فلها بعد ذلك أن تهدي
منها لمن تشاء، فحينئذٍ أكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار
أنها هدية من بريرة، والمتصدق ذهب لحاله، والصدقة وصلت محلها وانتقلت من
المتصدق عليه إلى الآخرين هديةً.
وهكذا هذا غنيٌ تصدق على فقيرٍ بتمرٍ أو بلحمٍ أو بخبزٍ أو بأي شيء، ثم جاء
الغني يزوره فقدم إليه طعاماً ومن ضمن الطعام ما كان تصدق به بالأمس عليه،
فحينئذٍ تحل له تلك الصدقة؛ لأنها قدمت إليه باسم الضيافة لا باسم الصدقة.
تحريم الصدقة على
الغني بمال أو تكسب
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه: (أن
رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة،
فقلَّب فيهما النظر فرآهما جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما؛ ولا حظ فيها
لغني، ولا لقويٍ مكتسب) رواه أحمد وقوّاه أبو داود والنسائي] .
بعدما بين المصنف رحمه الله أن الصدقة لا تحل للغني الذي عنده من المال ومن
الطعام ما يغنيه عنها، جاءنا بنوعٍ آخر من الغنى، وهو غنى غير مباشر، فجاء
بحديث أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة، فنظر
فيهما فوجدهما جَلِدين، - (الجَلِد) القوي- فنظر فيهما وصوب النظر وتأمل،
ثم قال لهما: (إن شئتما أعطيتكما) ، ثم بيَّن لهما أن الصدقة التي يطلبانها
لا تحل لغنيٍ ولا لقوي مكتسب.
يعني: إذا كان قوياً في بدنه فهذه طاقة يستطيع أن يستعملها ويتكسب
بمقتضاها، فهو غنيٌ بطاقته، وبقوته، وباستطاعته أن يجد طريقاً للتكسب بهذه
القوة، فإذا كان قوياً جَلِداً لكنه طلب مجالاً يصرَّف فيه هذه القوة
ويتكسب عن طريقها ويستغني بما يتكسب فلم يجد؛ فالقوة وحدها لا تكفي، فهو
فقير.
فالقوي المتكسب لا تحل له الصدقة؛ لأنه بتركه التكسب مقصرٌ في حق نفسه،
وكان عليه أن يُعمل تلك القوة في مجال التكسب ويستغني بما يتكسبه، وهذا في
حدود الطاقة البشرية للإنتاج، فإذا كنت قادراً على العمل ولديك طاقة، فلا
تهملها وتعطلها والناس في حاجةٍ إليها! وكما جاء أن شاباً جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم يسأله، فوجده جَلِداً قوياً، فسأله عما يملك، ثم أرشده
إلى الاحتطاب والبيع.
وقد نبهنا سابقاً على أن ما تعانيه كثيرٌ من الدول الصناعية وليست النامية
فقط؛ هي مشكلة البطالة، ففي بعض الدول في أوروبا توجد ثلاثة ملايين يد
عاطلة.
فكيف تعطلت طاقة ثلاثة ملايين؟ فلو اجتمعت هذه في جهاد، أو في حفر الأنهر،
أو في بناء الجسور، أو في رصف الطرق، فكم ستنتج قوة الثلاثة الملايين هذه؟
إذاً: الطاقة البشرية هي أعز ما تكون في الأمة، فإذا تعطلت تعطل كثير من
رأس مالها، ولهذا لما قال الشاب: ليس عندي شيء، وليس عندي عمل، وليس عندي
مجال، وجهه صلى الله عليه وسلم إلى العمل الحر، فقال: (من عندك في البيت؟
قال: أنا والعجوز، قال: ماذا عندك من أثاث البيت؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه
ونلتحف بالنصف الآخر، وقعبٌ نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما) فأخذهما
وقال: (من يشتري مني هذين؟ فباعهما بدرهمين، وأعطى الشاب الدرهمين، وقال:
اذهب فاشتر بدرهم طعاماً واتركه عند أهلك، واشتر بدرهمٍ فأساً وحبلاً
وائتني بهما، فذهب وأحضر الفأس والحبل، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً
ووضعه في الفأس وقال: خذ واذهب واحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب
واحتطب وباع - ثم أتى فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم حبلاً
وفأساً فيحتطب فيبيع فيستغني، خيرٌ من أن يتكفف الناس السؤال أعطوه أو
منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله) .
وهكذا أيها الإخوة! الصحة والقوة والطاقة غنىً، فعلى صاحبها أن يصرفها فيما
يعود عليه بما يغنيه عن الناس، وجميع أعمال الناس في هذه الحياة إنما هي
بتصريف الطاقة البشرية، فالموظفون في مكاتبهم وفي جميع دوائرهم يتقاضون
مرتباً على الطاقة البدنية أو الفكرية التي يبذلونها كل على حسب موقعه،
ولهذا كانت المعاوضة على قدر العطاء.
فالذي لديه وسيلة التكسب وله مجالٌ في إعمالها يعتبر غنياً بوجود هذه
الطاقة، ووجود ما يوجهها فيه ويعود عليه ذلك بالكسب.
أما إذا كانت الطاقة موجودة ولكن ليس لها مجال، ولم يجد ما يوزعها أو
يصرفها فيه، فهو فقيرٌ يحتاج إلى العطاء، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الزكاة - باب
قسم الصدقات [2]
إن من محاسن شريعة الإسلام أنها حفظت كرامة الإنسان، وصانته عن الابتذال،
فإذا كان الإنسان محتاجاً فقد جعل الله عز وجل له نصيباً في الزكاة، وأمر
ولاة الأمر أن يعطوه نصيبه دون أن يحيجوه إلى إراقة ماء وجهه؛ لأن في
المسألة ذلة وإراقة لماء الوجه ولهذا حرمها الشرع إلا لمن كان مضطراً إليها
فرخص فيها لثلاثة أصناف فقط، ولما كانت الصدقة هي أوساخ الناس حرمها الله
عز وجل على نبيه وآل بيته تطهيراً لهم وتكريماً، وفي هذه المادة بيان لآل
البيت ولمن يحل له أخذ الزكاة.
الأصناف الذين تحل
لهم المسألة ويصح إعطاؤهم من مال الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد
صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد
ثلاثة: رجلٍ تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) ] .
هذا حديث قبيصة يبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الصدقة لا تحل إلا
لواحد من ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: رجل
تحمل حمالة
الصنف الأول: رجلٌ تحمل حمالة.
والحمالة تكون بأن يحمِّل المرء ذمته حقوقاً لغيره، ليس له فيها شيء -كما
أسلفنا- كأن يجد طرفين متنازعين على مال، ويقوم النزاع على تحصيل هذا
المال، وكلٌ يدعي المال لنفسه، وليس هناك طريق لفض هذا النزاع إلا الصلح؛
لأنه ليست هناك بينة، ولا طريقة يعتمد عليها لإحقاق الحق لصاحبه، فيأتي هذا
الشخص ويتدخل بينهما بالصلح فيتحمل المال المتنازع عليه بينهما في ذمته،
ويصطلحان على ذلك، فهذا الشخص المصلح ليس عنده مال يدفع منه تلك الحمالة،
أو أن عنده مالاً ولكن لا يريد أن يرهق نفسه، ففي هذه الحالة يجوز له أن
يسأل الناس ليجمع مقدار الحمالة التي تحملها.
فهذا الشخص نحن نعرف أنه غني بأملاكه، وبكسبه، وبمزروعاته، وبعمائره، فيأتي
ويقول: أنا يا جماعة الخير! تحملت بين فلان وفلان مبلغ كذا، أريد أن تجمعوا
لي منه، فحينئذٍ يجوز لكل إنسان يستطيع أن يدفع شيئاً أن يقدم إليه مساعدةً
في حمالته.
ومعلوم أنه لن يعلم أحد مقدار ما جمع بالنسبة للحمالة، فقد تكون الحمالة
مائة ألف وهو يسأل، ثم لا يعلم أحد كم جمع في هذا المجلس، ولا في ذاك
المجلس؟ ولا كم حصل عليه؟ فتكون حاجته للمسألة أمر بينه وبين الله.
فإذا جمع بالمسألة التي حلت له بموجب الحمالة مقدار الحمالة فليمسك، ولا
يحق له أن يأخذ شيئاً زائداً عن حمالته؛ لأن الناس لا يعطونه لشخصه، إذ هو
غني في الأصل، ولا يحق له أن يأخذ لشخصه شيئاً، إنما أخذ من أجل الحمالة،
ومن أجل الإصلاح، وقد حصل على مقدار الحمالة فانقطع سبب السؤال الذي أحل له
المسألة.
وهنا كما قالوا: يُعطى ولو كان غنياً، من أجل مساعدة أهل المروءة وأهل
النجدة، وأهل المعروف، حتى لا يتكاسلوا ولا يتراجعوا عن التدخل في الإصلاح
بين الناس، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ
مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}
[النساء:114] ، ولهذا حل له أن يطلب ويسأل ويصرح، سواء أخذ من بيت مال
المسلمين من الزكاة، أو أخذ من الأفراد، فكل ذلك جائز له، فإذا حصل على
مقدار الحمالة فليمسك عن السؤال.
الصنف الثاني: من
أصيب في ماله بجائحة
قال: [ (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً
من عيش) ] .
الصنف الثاني: رجل أصابته جائحة، والجوائح كثيراً ما تكون في الزروع، وقد
تصيب غير الزروع، والأصل فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع
الجوائح.
ومثال الجائحة أن يأتي إنسان إلى مزرعة بعد أن ظهر في ثمرها الصلاح وحلّ
بيعها، فاشتراها على أنها مبقاة في أرضها أو في نخيلها، حتى ترطب، ثم
يأخذها إلى السوق، فجاءت جائحة: كرياح عاتية، أو برد شديد، أو أي آفة من
آفات الزراعة وأفسدت تلك الثمرة، وأصبح المشتري لا يستطع أن يستفيد مما
اشتراه شيئاً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، بمعنى أن على صاحب البستان
أن يرد الثمن للمشتري؛ لأن المشتري لم يستفد شيئاً، وقد ثبت في الحديث:
(فبم يأكل أحدكم مال أخيه؟) .
أنت بعتها عليه مثلاً بعشرة آلاف، فجاءت الجائحة وأفسدتها، فبأي وجهٍ تأخذ
العشرة آلاف هذه وتأكلها؟ ليس لك وجه حق؛ لأن المشتري لم يستفد من الثمرة
شيئاً، فالجائحة لم تنزل عليه إنما نزلت على مزرعتك وفيها الثمرة المباعة.
والجوائح ليست من الأرض أو من فعل الخلق، إنما هي من فعل الله سبحانه
وتعالى، فهي آفات سماوية كما يقولون.
ومثال آخر للجائحة: لو كان هناك سفينة في عرض البحر فهاج بها البحر وتلاطمت
بها الأمواج من كل جانب فغرقت، فهذه أيضاً تكون جائحة.
فالإنسان إذا أصيب بجائحة في ماله، بعدما كان يعد من كبار التجار
والأغنياء، وكانت سفنه تعبر المياه، وكانت سياراته تعبر الصحراء بالبضائع،
لكنها أصيبت بجائحة، وذهب رأس ماله في هذه التجارة، ففي هذه الحالة يجوز له
أن يسأل لكن هل له أن يسأل حتى يصيب العوض لكل ما ذهب منه؟ كالسيارة التي
فيها مائة ألف، والباخرة التي فيها من البضاعة ما قيمته نصف مليون،
والبستان الذي فيه ما يعادل خمسمائة ألف، فهل يسأل حتى يصيب قيمة ما تلف
عليه، سواء كان في البستان أو في الباخرة، أو في السيارة؟ الجواب: لا؛ لأنه
ليس في باب معاوضة ومثامنة مع الله، وإنما نظراً لاجتياح ماله، ولأنه أصبح
صفر اليدين؛ فإنه يسأل حتى يصيب قواماً من عيش، أي: الذي يقيم معيشته،
والذي يقيم حاجته، ويستغني بما يجمعه عن تكفف أيدي الناس، فإذا أصاب قواماً
من عيش فليمسك، وله أن يبدأ تجارته من جديد، والله هو الرزاق.
إذاً: هناك فرقٌ بين الأول والثاني، فالأول له أن يسأل حتى يستوفي كامل
حمالته، وأما الثاني فإنه يسأل إلى أن يصيب قواماً من عيش، وهو الذي تكون
به معيشته، ويصبح كما يقال: كعامة الناس، ثم يمسك عن المسألة.
الصنف الثالث: من
أصابته فاقة
قال: [ (ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت
فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) ] .
الصنف الثالث الذي تحل له المسألة: شخصٌ أصابته فاقة، لا بجائحة وقعت عليه،
ولكن بطبيعة حاله، كما لو كان يشتغل بالبيع والشراء والسوق ينشط ويكسد،
والتجارة ربح وخسارة، فكسد بيعه وخسر في التجارة، فهو بهذا أصابته فاقة
وفقر.
ومثل هذا لو عجز عن العمل في وظيفته أو صناعته فتركها، أو أن صناعته لم يبق
لها سوق، واستبدلها الناس بأخرى تغني عنها، وأصبح لا يحسن شيئاً غير الذي
كان يحسنه أولاً، وجاءت هذه الأشياء المستحدثة وعطلت صناعته، مثاله: ما كنا
نشاهد قبل زمن من صناعة الجلود الوطنية، كالقراب، والنعال، وأشياء أخرى،
والآن أصبحت هذه الأشياء مستوردة وبربع القيمة وتؤدي خدمة أكثر من الصناعات
الأولى، وأصبح لا يستعمل المصنوعات المحلية إلا بعض أهل البوادي، فجاءت
الآن الثلاجة، وأصبحت هذه القربة الآن -كما يقولون- من التراث القديم.
فإنسان كانت صنعته أن يعمل القراب ويبيعها، ويصنع النعال ويبيعها، وهذه
صناعة وطنية، لكنها أصبحت الآن ليس لها رواج، وبالتالي يصاب صاحبها بالفاقة
بسبب تعطيل مهنته.
ومثل هذا أيضاً الوراقون الذين كانوا يكتبون الكتب لطلبة العلم، فقد كسدت
حرفتهم؛ لأن المطابع الحديثة الآن صارت موجودة، وهي تدفع بالكتب إلى
الأسواق بكميات كبيرة.
فإذا كان هناك إنسان أصابته فاقة سواء بسبب كساد عمله وتفويت باب رزقه الذي
كان معتاداً عليه، أو أن السوق هبط ولحقته الفاقة بعدم وجود الربح في سلعته
أو في السوق بصفةٍ عامة، وأصبح فقيراً ذا فاقة، ففي هذه الحالة تحل له
المسألة إلى أن يصيب قواماً من عيش.
كذلك هنا لا نقول: إنه قد حلت له المسألة إلى أن يعوض كل ما فقده، أو إلى
أن يرجع إلى ما كان عليه في نشاط تجارته؛ لأن المقصود أن لا يبقى يتكفف
الناس بالسؤال، بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة مفروضة له، فلو أعطي من الزكاة
بدون مسألة عطاء أياً كان مقداره فلا شيء عليه، ما دام لم يتكفف الناس
السؤال، ولم يرق ماء وجهه أمام الناس لما جاء عن عمر رضي الله عنه: (أنه
أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عطاءه، فقال: يا رسول الله! أعطه من هو
أحوج إليه مني) ، أي: أنا في غنىً عن هذا والمحتاجون كثير، فأعطه من هو
أحوج مني، (فقال: يا عمر! ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف
نفسٍ إليه فخذه، فإن شئت تمولته، وإن شئت تصدقت به) ، أي: فأنت تملكه وليس
عليك في ذلك شيء؛ لأنه جاءك من غير مسألة.
إذاً: في هذا الحديث بيان متى يجوز للإنسان أن يقوم ويتكفف ويسأل: يا فلان!
أعطني، يا أيتها الجمعية الفلانية أعطيني، أنا حالي كذا وكذا، إلا أنه جاء
فيه القيد في الصنف الثالث الذي أصابته فاقة.
قال: [ (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة) ] .
نحن عندنا ثلاثة أصناف: صنف تحمل حمالة، وصنف اجتاحت ماله جائحة، وصنف
أصابته فاقة، ولم يأت قيد الإشهاد من ثلاثة من ذوي الحجى إلا على من أصابته
الفاقة، فلماذا جاء هذا القيد؛ وهو أن يأتي بثلاثة شهودٍ ليسوا عاديين،
ولكن من ذوي العقل والفطنة والمعرفة بحياة الناس؟ وما الفرق بين الأصناف
الثلاثة، حتى يشترط للثالث الذي أصابته الفاقة أن يشهد له ثلاثة من أرباب
الحجى، من أهل محلته الذين يعيشون معه؟ ولماذا الذي تحمل حمالة والذي
أصابته جائحة لم يطالبا بأن يقدما شهوداً؟ الجواب: الجائحة لا تحتاج إلى
إشهاد عليها، فهي بنفسها شاهدة على نفسها، كإنسان كانت بساتينه قائمة
والثمرة موجودة فيها، فأتت عليها رياح شديدة، فأفسدتها؛ فسيقول الناس عنه:
مسكين! كسرت الرياح نخله وأطاحت بثمره؛ فهذه الجائحة بنفسها ظاهرة لا تحتاج
إلى إثبات ولا تحتاج إلى إشهاد عليها.
وكذلك الذي تحمل حمالة، ليس عمله في السر، فهؤلاء أناس متنازعون، والنزاع
معروف عند الجميع، فهذا جاء وأوقف النزاع، وعلم الجميع أنه كان سبب إيقاف
النزاع، وأنه تحمل لهم.
إذاً: الذي تحمل حمالة، ومثله الذي أصابته جائحة لا يحتاج إلى الإشهاد؛ لأن
حالته شاهدةٌ عليه وشاهدةٌ له، أما من كان ظاهره اليسر بين الناس، ويلبس
كالمعتاد، ولكن شأنه في بيته لا ندري عنه، ولكنه في الواقع من الذين قال
الله تعالى فيهم: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ}
[البقرة:273] ، فهو يبعد عن نفسه منظر الفقر والحاجة؛ إعزازاً لنفسه
وكرامةً لشخصه وابتعاداً عن التهم، وهو في حقيقة الأمر محتاج وعنده فاقة.
فهنا لما كانت حالة الفاقة خفية احتجنا فيها إلى إشهاد ثلاثة أشخاص معروفين
من ذوي الحجى -أي: العقل- يعرفون مكسبه ومصرفه، وأن مصرفه أكثر من مكسبه،
ونحن الآن نجد صوراً عديدة وكثيرة جداً من هذا الباب، ولكنها قد تكون خفية
في أبناء المجتمع، فقد تجد إنساناً في الصباح وتسأله أين تذهب؟ يقول لك:
أذهب إلى العمل، وفي الظهر تلقاه وتقول: من أين أتيت؟ يقول لك: من العمل،
وتراه يركب سيارته وثيابه نظيفة ومتميزة، ولكن راتبه على هذا العمل أربعة
أو خمسة آلاف، وعنده زوجتان وكل واحدة عندها خمسة أو ستة أولاد، ويحتاج إلى
شقتين، ويحتاج إلى كذا وكذا، فماذا يصنع براتبه بجانب هذه التبعات؟ فهذا
أصبح مصرفه أكثر من مورده وأصبح في فاقة، ولذلك يعطى من الزكاة؛ لأن
المسكين عند العلماء من كان دخله أقل من مصرفه.
وعلى كلٍ: فهذا الشخص يحتاج إلى ثلاثة عقلاء يشهدون لله أن مرتبه كذا، وإذا
كان في آخر النهار فهو يتسبب في كذا، مثلاً: يذهب يبيع ويشتري في السوق، أو
يعمل سواق (تاكسي) أو يعمل عملاً حراً، فيشهدون أنهم يعرفون دخله ويعرفون
مصرفه وكثرة نفقاته، وأنه ليس عنده ما يوفره، وليس عنده ما يكمل حاجة
أولاده وعياله، فهذا في فاقة؛ فإذا كان مديناً فإنه يوقف الطلب عنه، وهذا
ما يسمى (بإثبات الإعسار) ، إذا استدان وجاء الدائنون يطالبونه فاعتذر
وقال: ليس عندي ما أوفيكم به فأنا في فاقة، ومدخلي لا يفي بمصرفي، فإذا شهد
ثلاثة من ذوي الحجى على تلك الحالة أُوقف عنه الطلب، وأنظر إلى ميسرة، كما
قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
[البقرة:280] .
فهذا هو الصنف الثالث الذي يحق له أن يسأل الناس وله عليهم أن يعطوه؛ لأنه
ممن يستحق، وقد يكون أولى بعشرات المرات من الشخص الذي لا تعرفه ويطوف على
الناس، متخذاً المسألة مهنة.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الناس تكثراً لقي الله
وليس في وجهه مزعة لحمٍ) ، وفي قصة الرجل الذي مات وقدم للصلاة عليه، فقال
صلى الله عليه وسلم: (هل ترك شيئاً؟ قالوا: نعم، ثلاثة دنانير، قال: ثلاث
كيات من نار) ، لماذا هذا الوعيد والناس قد تترك مئات الملايين؟ والجواب:
أنهم ما كانوا يتكففون الناس بالسؤال، وما كانوا يتكثرون بالمسألة، بل
كانوا يعملون، وكانوا يديرون أموالهم ويربحون، ولا مانع يمنعهم فهذا عبد
الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بقافلة بكاملها، وعثمان رضي الله تعالى
عنه موَّن جيش العسرة بكامله، فهذا إذا مات كم يكون قد ترك في تركته؟ لكن
هذا الرجل الذي دعا عليه صلى الله عليه وسلم بثلاث كيات من النار مقابل
الثلاثة الدنانير، كان يسأل الناس، والذي يسأل الناس لا يجوز له أن يسأل
إلا مقدار حاجته يومياً، فإذا مات وكفن عنده رأس مال قدره ثلاثة دنانير،
فيكون معنى هذا أنه كان يسأل آخر مسائله عن غنىً؛ لأنه لديه ثلاثة دنانير،
ولا يحق له أن يسأل وعنده مثل هذا.
إذاً: هذا الذي أصابته فاقة يحتاج إلى إقامة الشهادة، والشهادة فيها شهادة
خاصة بأن تكون من ثلاثة من ذوي الحجى ممن يعرفون حالته، فإن شهدوا على أنه
أصابته فاقة فحينئذٍ له حق المسألة، وإن كان مديناً أُوقف الطلب عنه حتى
يُيسر، والله تعالى أعلم.
[ (قال: فما سواهن من المسألة يا قبيصة! سحت يأكله صاحبه سحتاً) رواه مسلم
وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان] .
أي: وما سوى هذه الثلاث الحالات فما يأكله -أي ما يأخذه- صاحبه يكون سحتاً،
والسحت: هو أشد ما يكون من أكل أموال الناس بالباطل.
تحريم الصدقة على آل
البيت
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: (قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ
الناس) .
وفي رواية: (وإنها لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد) رواه مسلم] .
هذا البحث يأتي به المصنف رحمه الله تتمةً لمن لا تحل لهم الصدقة، وقد
عرفنا فيما تقدم أن الصدقة لا تحل لغنيٍ ولا قويٍ متكسب، وتحل لثلاثة نفر
وهم الذين ذكرهم في حديث قبيصة.
فجاء المصنف بهذا الحديث وفيه: (أن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد
صلوات الله وسلامه عليه) ، والأخبار في هذا كثيرة، وقد تقدم حديث: (من
أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمةً من
عزمات ربنا، لا يحل لمحمدٍ ولا لآل محمدٍ منها شيء) .
وقد سبق التنويه في أول كتاب الزكاة إلى أن الله سبحانه وتعالى كلف رسوله
بجمعها وتقسيمها، مع أنه لا يحل له منها شيء، وقلنا: إن في عفة الرسول صلى
الله عليه وسلم عن أموال الناس -وآل بيته تبعاً له- سداً ومنعاً لتلك
السهام الآتية ممن في قلوبهم المرض، فلو قام وجمعها وأخذها وشطر المال إذا
امتنع صاحبها من أدائها، وكان له من الزكاة ما شاء، كالربع أو الخمس، لقال
القائلون من مرضى القلوب: ما قام ولا تعب ولا تكلف جمعها إلا لأن له حظاً
فيها، ولكن حينما يُمنع منها بالكلية وتحرم عليه صلى الله عليه وسلم، فإذا
قام صلى الله عليه وسلم واجتهد فيها وجمعها فلا يمكن لأي نفسٍ مريضة القلب
أن تتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذها وجمعها بأي تهمةٍ أو شبهة؛
لأنها محرمة عليه.
إذاً: فلماذا يفعل هذا؟ الجواب: يفعله طاعةً لله، وحفظاً للمسكين من أن
يريق ماء وجهه عند الناس.
ومما جاء أنه فعله صلى الله عليه وسلم تحرزاً وتحفظاً في هذا الباب: (أنه
كان يمشي ومعه الحسن رضي الله عنه -وهو طفل صغير- فرأى تمرةً في الأرض
فالتقطها ووضعها في فيه، فنهاه وقال له: كخ كخ وأدخل إصبعه في فيه وأخرجها
منه، ثم قال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لتركتها له يأكلها) .
فهنا قال: (أخشى أن تكون) ، فما بالك بالتي هي من الصدقة يقيناً! فهي محرمة
عليه من باب أولى.
سبب تحريم الصدقة
على آل البيت
ثم بين هنا في هذا الحديث سبب التحريم فقال: (إنما هي أوساخ ... ) ، يا
سبحان الله! هذه تمرة تشتهيها النفس، فكيف تكون أوساخاً والدينار الأحمر
الذي يلمع وله بريق يخلب الأنظار، كيف يكون أوساخاً الثوب الجديد الذي لم
يلبسه أحد، يشتريه المزكي من الدكان من النوع الجيد وهو جديد، من المصنع
إلى الدكان إلى يد المسكين، فكيف يكون أوساخاً؟ قالوا: الصدقة تكفر الذنوب،
والصدقة تطهر المال، فكأن الصدقة بطيبها تحمل عن صاحبها كل أوساخه
المعنوية، ومن هذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله بنجاسة الماء الذي يمر
على البدن، ويُرفع به الحدث الأصغر أو الأكبر، فاعتبره متنجساً بما حمل من
الحدث، فلو أن إنساناً دخل الحمام ومكث فيه ساعة، وجعل يتليف بالصابون
والشامبو، ثم خرج من أحسن وأنظف ما يكون، ولكن عند خروجه أراد أن يلبس
ثيابه وفي حركةٍ ما مس فرجه، فانتقض وضوؤه، فتوضأ، فماء الوضوء الذي مر
بهذا الجسم الذي مكث ساعةً في الحمام، ولم يخرج ولم يعرق، ما الذي نجسه؟
يقول الإمام أبو حنيفة: حلَّ فيه الحدث الذي من أجله توضأ، والحدث نجس.
هكذا يقول رحمه الله، وإن كان العلماء ناقشوه في هذه المسألة، والذي يهمنا
هنا أن الصدقة أوساخ الناس، والمراد بالوساخة وساخة معنوية.
إذاً: مقياس الحلال والحرام ومقياس الطيب والخبيث عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم له اعتبار فوق اعتبارات كل المقاييس؛ لأنه مقياسٌ معنوي لا يصل
إليه الإنسان العادي؛ لأن الأوساخ العادية تدرك إما بالعين وإما بالشم،
وإما بالإخبار، ولكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم المقياس أعمق من هذا
كله: (إنما هي أوساخ الناس) وهي أطيب ما تكون في ذاتها وفي نوعيتها، ولكنها
لما دخلت في قناة الصدقة أخذت تطهر المال من كل شائبة، وأخذت تزكي صاحبها
كما في الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، أي: من كلا الطرفين، فتطهر الفقير من
دنس الحقد والكراهية للأغنياء الذين يعطون الزكاة، فلا يكون حاقداً عليهم،
وتزكي الغني بما يدفع من ماله.
ومعنى (تزكي) : أي: تنمي ماله عوض ما أخرج من المال في الزكاة، ففيها
تطهير، وما دامت كذلك فهي أوساخ الناس، ولهذا لا تحل للنبي صلى الله عليه
وسلم، ولا لآله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وسيأتي المصنف بزيادة كلام في هذا الباب، وقد سبق أن أشرنا إلى أن آل البيت
إذا لم تعد هناك غنائم، ولم يكن هناك الخمس، فهل يُعْطون من الزكاة إذا
كانوا أصحاب فاقة وحاجة؟ أشرنا بأنه من الضروري أن يُعطوا؛ لأنهم حينئذٍ
يأخذون بوصف الحاجة لا بوصف القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
آل البيت هم بنو
هاشم وبنو المطلب
قال المصنف رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (مشيت أنا
وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله! أعطيت
بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد) رواه البخاري] .
تقدم في الحديث الذي قبل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لا تحل
لمحمدٍ ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) ، ثم جاء المصنف رحمه الله بهذا
الحديث ليبين من هم آل محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وآل الرجل هم أقاربه من العصبة، فيقول: (ذهب جبير بن مطعم وعثمان بن عفان
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب ولم
تعطنا ونحن وإياهم سواء) ، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب وبنو
هاشم شيءٌ واحد وذلك أن) جبير بن مطعم وعثمان بن عفان يلتقيان مع النبي صلى
الله عليه وسلم في عبد مناف،فـ عثمان، هو عثمان بن عفان بن عبد شمس بن عبد
مناف، وكذلك جبير بن مطعم، فنسب عثمان يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم
في الجد عبد مناف، ولكن هاشم أقرب من عبد مناف إلى النبي صلى الله عليه
وسلم.
وبنو المطلب وبنو هاشم لم يفترقوا، بل هم شيءٌ واحد، فقد جاء في بعض
الروايات: (لم نفترق في جاهلية ولا إسلام) ، وقد بيَّن أصحاب النسب والسيرة
أنه لما كتبت الصحيفة الظالمة بمقاطعة بني هاشم انضم بنو المطلب معهم
ودخلوا الشعب، سواء من كان مسلماً ومن كان غير مسلم، ولم يخرج عن ذلك إلا
أبو لهب لما كان منه من عداوةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى
الله عليه وسلم يشترك معه في جده عبد المطلب، وهكذا العباس وحمزة وأبو
طالب، يشتركون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد عبد المطلب.
ثم جاء لـ أبي طالب علي وجعفر وعقيل، وجاء للعباس عدة أبناء، فـ العباس رضي
الله تعالى عنه عم رسول الله، وحمزة رضي الله تعالى عنه عم رسول الله،
وكذلك أبو لهب عمه، ولكنه لم يسلم ولم يكن له شيءٌ من الفيء أو من خمس
الخمس، وليس ممن تحرم عليهم الصدقة.
وقيل: إن أبناء أبي لهب منهم من أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم وشهد
خيبر، وقيل: إنهم أسلموا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أسلم من
أولاد أبي لهب فيدخل في آل البيت نسباً، وأما من لم يسلم فإن الإسلام قد
فرق بينهم.
إذاً: من ثبت أنه يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في هاشم أو في عبد
المطلب؛ فإنهم يكونون سواء وتحرم عليهم الصدقة، هذا الذي أراده المصنف رحمه
الله في إيراد حديث جبير بن مطعم.
وقد سبق أن قدَّمنا أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم خمس
الخمس، فكان يغنيهم عن الصدقة، وأشرنا إلى أن هناك من قال: إنهم إذا انقطع
عنهم ما كان لهم من خمس الخمس؛ فإنه لم يبق لهم واردات، فيأخذون كما يأخذ
عامة الناس لوجود وصف الحاجة فيهم.
جواز أخذ آل البيت
من صدقة التطوع بعد تعطل الخمس
وجاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه: أن آل البيت لا يأخذون
الصدقة التي هي الفريضة، التي جاء فيها أنها أوساخ الناس، أما صدقة التطوع
فيأخذونها لأنها كالهدية، فلا بأس أن يُعطوا من الصدقة التي ليست بفريضة
وليست بنذر ولا بكفارة، وإنما هي تطوع من صاحبها، فإنها تشبه الهدية فلا
تحرم على آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك إذا تعطل نصيبهم من الغنيمة أو من الفيء فلم يبق لهم إلا بيت مال
المسلمين، فلهم أن يأخذوا من الزكاة سواء من الفريضة أو التطوع لحاجتهم
وانقطاع موردهم، فهذا هو ما يقتضيه الواقع، ولا ينبغي أن يترك آل بيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم للفاقة والحاجة على أنهم لا تحل لهم الصدقة،
فالصدقة لا تحل لهم حينما كان هناك عوضٌ عنها، أما إذا لم يكن هناك عوض
فإنهم يستحقون منها، بل هم أولى من غيرهم لصلتهم برسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يعرفون لآل البيت مقدارهم
ويكرمونهم ويعظمون شأنهم في سبيل الله، محبةً لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، واعترافاً بفضل صلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم جميعاً ما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه حين خرج
بالمسلمين ليستسقوا، فقال عمر: (يا عباس! قم فادع لنا، ثم قال: اللهم! إنا
كنا نستسقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي رسول الله ونحن نستسقي
بـ العباس عم رسول الله) ، فلكونه رضي الله تعالى عنه عم رسول الله اختاره
عمر، مع وجود عمر بذاته ووجود عثمان وغيرهما من الصحابة الكرام الأجلاء
رضوان الله عليهم، فلم يختر عمر أحداً، بل ولم يتقدم هو بنفسه مع أنه هو
الخليفة، ولكن قال: (نستسقي بـ العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم) ،
فعرف للعباس مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمه ليستسقي لهم
وقال: (قم يا عباس فادع ونحن نؤمن) .
وتجدون في بعض الآثار: (إن الأئمة وفداؤكم إلى الله سبحانه وتعالى، فانظروا
من توفدون إلى الله) ، فالإمام الذي يؤم الجماعة هو وافد القوم إلى الله؛
لأنهم قدموه بين أيديهم إلى الله ليسأله، وليؤمهم ويدعو ويشركهم في الدعاء،
وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: (أحقهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله) ، وهنا
عمر رضي الله تعالى عنه قدم العباس؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ونحن الآن إذا كنا في أمر فيه المفاضلة بين الناس كالإمامة، والقضاء
والتعليم ونحو ذلك، ووجد من آل البيت من يساوي غيره، فقرابته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ترجحه على غيره ما دام مساوياً له.
موالي آل البيت منهم
فتحرم عليهم الصدقة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لـ أبي رافع: اصحبني؛
فإنك تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله) ] .
بعد أن بين المصنف رحمه الله من هم آل البيت؟ أتبع ذلك ببيان من هم أتباع
آل البيت، وذلك في قوله: (إن رجلاً بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على
الصدقة ... ) ، أي عاملاً له على جمع الزكاة.
ونحن نعلم أن العاملين عليها لهم أجرهم منها، فقال لـ أبي رافع: اصحبني،
واذهب معي لعلك تصيب من مال الزكاة، أي: من سهم العاملين عليها.
فهنا توقف أبو رافع، وقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأسأله، وهذه هي النعمة الكبرى على الرعيل الأول، أن ما يطرأ لهم من أحكام
أو ما يطرأ لهم من أحداث أو من مسائل مستجدة يحوك في نفوسهم منها شيء أو
يجهلونها، فإنهم سرعان ما يرجعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبين
لهم الحكم فيها.
ولهذا كان وجوده صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول نعمة عظيمة؛ لأنه كان
يبين لهم الأحكام في الأحداث التي كانت تستجد، فهذا الرجل الذي كُلف بالعمل
على الصدقة لقي في طريقه أبا رافع، فقال له: تعال معي لعلك تصيب من
العمالة، وهنا أبو رافع لا يعلم هل يصح له أن يذهب مع هذا الرجل أم لا؟ وهل
يسمح له بأن يذهب معه أم لا؟ وهل هذا التكليف خاصٌ بهذا الرجل فلا يحق لأحد
المشاركة فيه، أم أنه يجوز أن يشاركه؟ وبعضهم يقول: كان الرجل يريد أن يولي
أبا رافع العمالة على جهة من الجهات التي ولي عليها، فتكون هذه تولية من
الرجل لـ أبي رافع في عملٍ قد كلَّف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك
الرجل نفسه، فـ أبو رافع لو ذهب فستكون ولايته على الجانب الذي يوليه إياه
ذاك الرجل وليست ولاية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل الرجل أعطي الحق
في أن يولي غيره؟ لأنه إذا وكل إنسانٌ إنساناً فيجب أن يباشر الموكل العمل
الذي وكل فيه بنفسه، إلا الأمور التي لا تتأتى من مثله، أما أن يوكل شخصاً
آخر لينوب عنه في بعض الأعمال فليس له حقٌ في ذلك؛ لأن من وكله لم يعطه
صلاحية التوكيل عنه.
وأيضاً: أبو رافع رضي الله تعالى عنه يحتمل أنه ظن أن تولية الرجل إياه في
العمالة على الصدقة ولايةٌ في جمع أموال الناس، وأموال الناس معصومة ولا
يحق لأحدٍ أن يأخذها إلا بولايةٍ شرعية، وهل هذا الرجل يملك بأن يولي شخصاً
آخر في شيء لم يأذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتوقف أبو رافع
لذلك.
وقال: لا أصحبك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله.
قال: [ (فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، قال: لا تذهب معه؛
لأن مولى القوم من أنفسهم أو منهم، وإنها لا تحل لنا الصدقة) رواه أحمد
والثلاثة وابن خزيمة وابن حبان] .
إذاً: أبو رافع هذا مولى لآل البيت، كما يذكرون في التاريخ أنه كان مملوكاً
للعباس قبل إسلامه، فأهداه العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما
أسلم العباس جاء أبو رافع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبشره بإسلام
العباس؛ لأنهم كانوا يتوقعون ويرجون إسلامه، فمن فرحه صلى الله عليه وسلم
بإسلام عمه العباس قال: (أنت حرٌ لوجه الله) ، فأعتقه لكونه بشره بإسلام
العباس، وهكذا الجبلة: أن كل من جاءك بخبرٍ سار في أمرٍ شديد عليك أو في
أمرٍ تتوقعه أنك ترضيه، فكما سرك وشرح صدرك فأنت تسره تشرح صدره بما تيسر
لك.
وفي قصة توبة الثلاثة الذين خُلِّفوا، كان كعب بن مالك في بني سلمة -عند
مسجد القبلتين- وكان أحد الثلاثة الذين خلفوا وكانوا قد ضاقت عليهم الأرض
بما رحبت، وقد هجرهم أقاربهم وأرسلوا زوجاتهم إلى أهاليهن، وأصبح الواحد
منهم يمشي في السوق ينظر في وجه قريبه أو صديقه فلا يلتفت إليه ولا يسلم
عليه، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ} [التوبة:118] ، فلما نزلت توبتهم بالليل، وأخبرهم النبي صلى الله
عليه وسلم بها بعد صلاة الفجر ركب رجلٌ فرساً وركض إليه ليبشره، وذهب رجلٌ
فصعد على جبل سلع في أول المدينة وصاح بأعلى صوته: أبشر بتوبة الله عليك يا
كعب! فسمع صوت المتكلم قبل أن يصله صاحب الفرس، فوصله صاحب الصوت، وكان
عليه رداء فخلعه وأعطاه إياه، وذلك مقابل ما بشره به من نزول توبة الله
سبحانه وتعالى عليه.
فلو جاءك إنسان وأنت تنتظر نتيجة ولدك في الجامعة أو في معهد أو في دراسة
مهمة، والنتائج تأخرت، فجاءك هذا الإنسان وقال لك: كنت في الإدارة وسمعت
بعض أسماء الناجحين وابنك منهم، فأنت في هذه الحالة ستلتفت حولك لتنظر ماذا
تعطيه مقابل هذه البشرى.
فـ أبو رافع كان مملوكاً للعباس رضي الله تعالى عنه قبل إسلامه، وأهداه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع وبشر رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ومجيء أبي رافع ببشرى إسلام العباس كأنه لأجل ما سبق
من الصحبة، فهو كان مملوكاً للعباس، وكان يتتبع أخبار العباس، ويتشوق إلى
إسلامه، يعني: أنه كان له اهتمام بـ العباس أكثر من اهتمامه بالآخرين بحكم
الصلة السابقة بالملك، فلما علم أنه قد أسلم، وعلم أن هذا يسر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أخبره، فلما أخبره بذلك أعتقه مقابل هذه البشرى السارة
التي ألقاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أعتقه صار مولىً له،
والولاء يكون للمُعتق على المعتَق لقاء عتقه، يرثه به إذا لم يوجد له وارث
فرضاً أو تعصيباً.
فلما جاء أبو رافع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الرجل الذي
أرسلته عاملاً على الزكاة طلب مني أن أصحبه، لعلي أصيب من سهم العاملين
عليها، قال له صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم من أنفسهم) أي: فلا تذهب.
إذاً: مولى بني هاشم من بني هاشم فلا تحل له الصدقة، وهذا هو الذي أراده
المصنف رحمه الله في إيراده حديث أبي رافع بعد بيان آل بيت محمد صلى الله
عليه وسلم؛ ليبين أن مولى القوم من أنفسهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكم أخذ الصدقة من
غير سؤال ولا استشراف وإن كان غير محتاج لها
قال المصنف رحمه الله: [وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله
عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء،
فيقول: أعطه أفقر مني، فيقول: خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا
المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) رواه مسلم] .
في هذا الحديث قاعدة عامة لجميع الأمة باختلاف طبقاتها وأنسابها، يقول ابن
عمر: إن أبي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم العطاء، والعطاء في
هذا الباب يحتمل احتمالين: أنه عطاء العمالة على الزكاة، فيكون قد استعمله،
أو أنه العطاء الذي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند
مجيء مال إليه من أي جهة كانت.
ونذكر بهذه المناسبة قضية مال البحرين حينما جيء به ووضع في المسجد النبوي،
وكان كل من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه من هذا المال، وجعل أبا
هريرة حارساً له، ونعلم قصة الجني الذي كان يأتيه ويأخذ من هذا المال،
ليتحقق الذين يتشككون في وجود الجن أو مخالطتهم للإنسان، فقد كان يأتي
شيطان في صورة إنسان ويأخذ من هذا المال، فأمسكه أبو هريرة في أول ليلة،
فشدد عليه الخناق، فقال الشيطان: أنا من كذا، ودعني فإني ذو عيال وحاجة
وفاقة، وأعاهدك ألا أعود، فَرَق له أبو هريرة وأشفق عليه -وهذا خطأ في
النظاميات أن يتأثر الإنسان بالعاطفة فيما وكل إليه رسمياً- فتركه.
وفي الليلة الثانية جاء أيضاً فأمسكه، فأخذ يعتذر ويكذب ويعطي العهود
والمواثيق، وأنه ذو عيال، وذو فاقة، ولن يعود، فأشفق عليه وتركه.
وفي الليلة الثالثة أتى فأمسكه أبو هريرة، وقال: لن أطلقك بعد المرتين
السابقتين، وسأحتفظ بك إلى أن آتي بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليرى رأيه فيك، فقال لـ أبي هريرة: ألا تطلقني وأعلمك فائدة؟ قال: وما هي؟
قال: إذا أردت أن تحفظ مالك من الجن فاقرأ عليه آية الكرسي؛ فإنه لا يمسه
ولا يقربه جني، فقبل أبو هريرة منه ذلك وتركه، وقرأ آية الكرسي على المال
الذي يحرسه.
وفي صلاة الصبح أقبل أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدره
متبسماً وقال: (ما فعل الله بأسيرك البارحة يا أبا هريرة؟! فقال: فعل كذا،
وفعل كذا، قال: أتدري من تعاني في الليالي الثلاث يا أبا هريرة؟! قال: لا.
قال: ذاك شيطان، وقد صدقك وهو كذوب) ، انظر إلى هذا الأسلوب النبوي الذي
تظهر فيه المقابلة حيث قال: (صدقك) وقال: (كذوب) ، أي: صدقك فيما أخبرك به
عن آية الكرسي، وكذوب في مواعيده التي أوعدك إياها من قبل.
وهنا هذا المال كان موجوداً، ومن أخباره أن العباس رضي الله تعالى عنه جاء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني، قال: خذ الذي تريد، فجاء
بردائه ووضعه وحمل عليه فلما أراد أن يحمله عجز عن حمله، فقال: عاوني عليه
يا رسول الله! قال له: (خذ على قدر طاقتك) ، قال: فمر أحد أصحابك يعاوني
عليه، فقال له: (خذ قدر طاقتك) ، فوضع منه قليلاً، وأتى ليحمله فلم يستطع،
وهكذا ثلاث مرات، وهو يقول: عاوني مر أحد أصحابك، فيقول له: (خذ قدر طاقتك)
، حتى صار المال الذي في ردائه قدر ما يستطيع أن يحمله فأخذه وذهب، وتكلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات.
قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ
خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70] ، وكان
العباس يقول: (والله! لقد وجدنا الأولى، ونحن ننتظر الثانية) .
فعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للعباس هو من مال المسلمين، وعطاء عمر قد
يكون من هذا الباب وأنه عطاء كعطاء عامة المسلمين، أو أنه عطاءٌ خاص
بالعمالة.
وقول عمر: (أعطه من هو أفقر مني) ، كأن عمر رضي الله تعالى عنه ينظر إلى أن
الأحق بالعطاء من الصدقات هم الفقراء، ومن كان غنياً عن هذا العطاء من
الصدقة فليستعفف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (خذه فتموله) ، أي: امتلكه
وضع يدك عليه، ليكون مملوكاً لك، وبعد أن تمتلكه فشأنك به، إما أن تتموله
وتجعله من رأس مالك، وإما أن تتصدق به على غيرك، فتكون هذه صدقةً مستجدة
منك أنت.
قوله: (أو تصدق به) .
أي: تصدق به إذا كنت لا تريد أن تتموله، وتكون هذه الصدقة منك وأجر مالك.
ولما كان عمر يرد العطاء؛ لأنه متعفف عنه وقانعٌ بما عنده، بين له صلى الله
عليه وسلم متى يأخذ ومتى يرد، قال: (وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ
ولا سائلٍ) ، أي: إذا جاء العطاء مثلاً فجاء إنسان وقال: متى سيقسم هذا؟
وكم سيخص الإنسان منه؟ فاستشرفت نفسه إليه بسؤاله عن المال: متى جاء هذا
المال؟ ومن أين؟ وأمثال هذه الأمور التي فيها تطلع؛ فإذا كنت جالساً وحولك
أناس من ذوي الحاجة، وجاء من أعطاهم لحاجتهم، وأنت تنتظر أن يعطيك كما
أعطاهم، فهذا هو تطلع واستشراف النفس للمال، وهذا كأنه سؤالٌ بالمعنى؛ لأن
نفسك تريده، وهي تتطلع إليه.
وأما ما أتاك من هذا المال من غير استشراف نفسك، ولا تطلعك، بل جاء إنسان
ووضع في حجرك مالاً، وقال: هذا هدية مني لك، وعطاء مني لك، وأنت لا تعلم به
ولا تدري عنه، ولا تطلعت لماله، ولا استشرفت نفسك إلى ما عنده، فأخذته
وقلت: جزاك الله خيراً، فهنا تنظر: إن كنت في حاجة إليه، فبارك الله لك
فيه، وإن كنت في غنىً عنه فتصدق به على من هو أحوج منك إليه.
قوله: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائل) ؛ في هذا تربية
نفسية إسلامية عالية تجعل الإنسان غنياً بنفسه، مترفعاً عن أن يتطلع إلى
أموال الناس، فضلاً عن أن يأتي ويصرح ويقول لأحد: أعطني، أو يأتي إلى إنسان
ويقول: والله! الآن الحاجات في الأسواق غالية، وأصبح المرتب لا يساوي
شيئاً، والأولاد يذهبون المدارس، وهي تريد كذا وكذا، فهو لا يقول له:
أعطني، ولكنه يشتكي عنده، وهذه الشكوى مقتضاها العطاء.
إذاً: أيها الإنسان! شكواك حالك لغيرك ممن هو ذو مالٍ كأنه سؤال؛ لأنك
استشرفت إلى ما عنده، وتطلعت إلى أن يعطيك.
ومن التطلع إلى مال الناس أن تكون من الناس ولديك لباس لا بأس به، فتتعمد
أن تأتي إلى هذه التجمعات بلباس رث، وبحالة سيئة، وبحالة بئيسة تستعطف
الناس الذين ينظرون إلى حالك، فيقولون: والله! فلان هذا مسكين، والله إن
حاله سيئ فيعطونك؛ فهذا تعرض للناس بالحالة وبالصورة، وكما يقال: لسان
الحال أفصح من لسان المقال.
فإذا كان الإنسان في غنىً وفي سعة فلا ينبغي أن يستشرف إلى ما في أيدي
الناس، ولا أن يتطلع إليه، ولا أن يظهر بمظهر الذي يحتاج، وكأنه يسأل الناس
بمظهره بدلاً من سؤالهم بلسانه.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: أن ما أتاك من هذا المال يا عمر! من غير أن
تستشرف له نفسك أو تتطلع إليه فخذه؛ لأنك ما عملت من أجله شيئاً، ولا
استجلبته لنفسك، ولا أهنت نفسك لأجله، ولا أظهرت نفسك في مظهر الفاقة، فأنت
عزيز النفس مكرم، وهذا كرمٌ ممن أعطاك المال وفضلٌ منه، سواءٌ عرفك أو لم
يعرفك، فما دام أنه أعطاك بدون سؤالٍ منك وبدون استشراف نفسك إليه وبدون
تطلع إلى العطاء منه؛ فليس هناك ما يمنعك من أخذه.
فإذا أخذته فإن شئت تمولته وجعلته في رصيدك ورأس مالك؛ لأنه جاءك بوجهٍ
شرعي طاهر نقي، وإن شئت تصدقت به، وتصدقك به لنفسك أنت لا لمن أعطاك إياه،
وإن كان له في ذلك أجرٌ على مساعدتك، ولكن الأجر يكون لك أنت.
قوله: (وما لا فلا تتبعه نفسك) .
أي: وما لم يأتك من غير استشراف نفسك أو تطلعك إليه، فلا تتبعه نفسك، فلو
جاء إنسان وأعطى الحاضرين وأنت لم يعطك، ولم يعط فلاناً وفلاناً، فلا تتطلع
إليه، ولا تتبعه نفسك، ولا تقل: لماذا لم يعطني بينما أعطاهم؟ ونفسك تتبعه
وكأن أشعة ترسلها من قلبك إليه: لماذا لم تعطني؟ وكأن لسان حالك يقول: عد
وأعطني.
فإذا لم يأتك المال بعفة نفس وعدم تطلع وعدم استشراف فلا تتبعه نفسك، أي:
لا تظل تفكر: لماذا لم يعطني؟ ولو أعطاني لكنت فعلت، ولكان كذا، فهذا الذي
لا ينبغي ولا يليق بذي المروءة، فأنت ليس لديك دين عليه حتى تطالبه، وليس
هو ملزم أن يعطيك، وما دام أنه لم يعطك من نفسه ابتداءً وأنت ليست لك عليه
طريق بالعطاء، كدين ملزم، أو بجميلٍ يكافئك عليه، أو بشيءٍ من ذلك، وهو في
حاله وأنت في حالك؛ فلا تستشرف نفسك إلى هذا المال الذي رأيته ولا تتبع
نفسك إياه؛ لأنه لا حق لك به أصلاً، فإذا أعطاك من نفسه بطيب نفسٍ فخذه،
وإلا فلا.
والله تعالى أعلم.
كيفية تقسيم الزكاة
على الأصناف الثمانية
مما بقي من مباحث هذا الباب أن الله سبحانه وتعالى لما عدد مصارف الزكاة،
قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] .
علماء التفسير والفقهاء يقولون: هل يتعين تعميم الصدقة على هذه الأصناف
الثمانية فيقسم بيت المال الصدقة إلى ثمانية أقسام ويعطي كل قسمٍ حظه؟ أو
يجوز أن نعطيها كاملةً لبعض الأصناف ولو لواحدٍ منها فقط؟ الشافعي رحمه
الله يقول: يتعين على مسئول بيت المال، أو المسئول عن قسمة الصدقات أن
يقسمها على الأصناف الثمانية، ويعطي كل صنفٍ سهمه، إلا من تعطل سهمه فيرده
على الأصناف السبعة الباقية.
والصنف الذي يرد سهمه على بقية الأصناف كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه
هو صنف المؤلفة قلوبهم.
فقد جاء المؤلفة قلوبهم إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بعد موت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (أعطنا سهمنا كما كان رسول الله يعطينا) ،
فكتب إليهم بسهمهم إلى عامله.
وقال: اذهبوا به إلى عمر ليوقعه، فذهبوا به إلى عمر رضي الله تعالى، فلما
قرأه الكتاب قطعه، فرجعوا إلى أبي بكر وتبعهم عمر، فلما وصلوا إلى أبي بكر
قالوا: أنت الأمير أم عمر؟ قال: هو الأمير إن شاء -إن شاء ترك الإمارة لي
وإن شاء أخذها فلا مانع عندي، يعني: إنما هي مسئولية وتكليف بخدمة
المسلمين- فدخل عمر، فقال له أبو بكر: (لِمَ مزقت الكتاب يا عمر؟! قال: لا
حق لهم الآن في شيء، كنا في بادئ الأمر نعطيهم سهم المؤلفة قلوبهم، أما
الآن وقد أعزنا الله بالإسلام فلسنا بحاجة إليهم، فإما أن يبقوا على
إسلامهم وإلا فالسيف بيننا وبينهم) ، فتركوا الأمر وذهبوا.
وبهذا ندفع ما يقوله بعض المغرضين بأن مما أُخذ على عمر أنه عطل كتاب الله؛
لأنه أوقف سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن كان ماضياً، والصحيح أن عمر لم يوقفه،
ولكن علَّقه؛ لأن الحاجة إليهم أصبحت منفية، ولم يعد المسلمون في زمن أبي
بكر وعمر بحاجة إلى المؤلفة قلوبهم ليدافعوا عنهم، أو ليحموا الثغور التي
عندهم، أو ليدفعوا شرور قبائلهم، إنما كان هذا عند أن كان المسلمون ضعفاء،
أما الآن وقد أعز الله الإسلام والمسلمين فلا حاجة إلى هذا الصنف؛ فإن بقي
على إسلامه ففيه صيانة لنفسه وماله ودمه، وإن عارض في ذلك فالسيف بين
المسلمين وبينه.
كما أنه رضي الله تعالى عنه أوقف حد السرقة عام المجاعة.
يهمنا هنا أن الشافعي رحمه الله يقول: إذا تعطل سهم فإن حصته ترد على
السبعة الباقية.
وبعضهم يقول أيضاً: من قسَّم صدقته بنفسه فليس هناك سهمٌ للعاملين عليها؛
لأنه هو بنفسه قام بتقسيم صدقته.
وأما الجمهور فيقولون: يجوز إعطاء الزكاة للأصناف الثمانية بالتساوي ولا
يشترط التساوي، ويجوز إعطاء الزكاة لبعض هؤلاء الثمانية، وذلك لقوله صلى
الله عليه وسلم لـ معاذ حينما بعثه إلى اليمن: (فأعلمهم بأن الله قد افترض
عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ، ولم يقل: على الأصناف
الثمانية، ولم يقل: ترد على الفقراء والمساكين والعاملين عليها وفي الرقاب.
، وإنما قال: (ترد على فقرائهم) ، فقالوا: إذا جاز أن تعطى لفريقٍ واحد جاز
أن تعطى لبعض الفرق.
والنووي رحمه الله في هذه النقطة يقول: لو افترضنا كما قال الشافعي رحمه
الله: لزوم تجزئة الصدقة إلى ثمانية أسهم: سهم للفقراء، وسهم للمساكين،
وسهم للمؤلفة قلوبهم … إلى آخره، فهل يشترط على بيت مال المسلمين في سهم
الفقراء أن يعم به جميع الفقراء المسلمين؟ أو لو أعطاه لبعض الفقراء أجزأ
ذلك؟ قال: فهم متفقون على أنه إن أعطاه لبعض الفقراء أجزأ، فقال النووي
رحمه الله: فما دام أنه يجوز أن نعطي سهماً من أسهم الزكاة لبعض أصحابه فلا
مانع أن نعطي الصدقة لبعض أصنافها، وأن نفرد بها صنفاً واحداً، وهذا يرجع
إلى نظر الإمام في هذه الأصناف الثمانية، فيقدم الأحق فالأحق.
ولهذا يرى العلماء أن من أخرج صدقته بنفسه فلينظر في هذه الأصناف ويعطي
الأولوية لمن كان يستحقها، وليس بلازمٍ عليه أن يتتبع تلك الأصناف ويجعل كل
جزءٍ لصاحبه.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
|