شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [1]
الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم من الحج كما في الحديث (الحج عرفة) ، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم به النعمة، وهو أفضل أيام السنة، ولذا ندب الشرع من لم يحج في سنته من العباد إلى صيامه، وجعل صيامه مكفراً لسنتين: سنة ماضية وسنة باقية.


فضل صوم يوم عرفة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية، وسئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل علي فيه) رواه مسلم] .
بدأ المؤلف رحمه الله بالحديث عن صوم يوم عرفة، وغيره من المؤلفين ربما بدءوا بحديث صوم يوم عاشوراء؛ لأنه أسبق، والنصوص فيه أكثر، وهو بالترتيب الزمني في محرم وهو أول أشهر السنة، ثم يأتي بعده رجب، ويأتي بعده شعبان، وبعده رمضان، وبعده شوال وهكذا إلى العشر من ذي الحجة، إلى التاسع وهو يوم عرفات، ثم الأيام المنهي عنها: يوم العيد، وأيام التشريق.
ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل) ، وكونه سئل أي: أنه لم يأتِ الأمر منه صلى الله عليه وسلم ابتداءً كأن يقول: (صوموا يوم عرفة، فإن فرضه كذا وكذا) ، ولكنه في هذا الحديث سئل فأجاب، ومن هنا يقول بعض العلماء: ما كان جواباً عن سؤال قد يكون قضية عين، ولكن قضية العين تتعلق بشخص أو جماعة محدودة بأعيانهم، وأما السؤال هنا فهو عن اليوم.


الفرق بين عرفة وعرفات وسبب هذه التسمية
(سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة) ، يقال: عرفة وعرفات بالتاء يقول علماء اللغة: عرفة اسم للزمان ولليوم، وعرفات بالتاء: اسم للمكان، وهو موضع بمكة، كأذرعات موضع بالشام.
يوم عرفة -كما يقولون- في تاريخ المناسك: أنه سمي عرفة؛ لأن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما نزل من السماء إلى الأرض، واختلف هو وحواء، ساح في الأرض ما شاء الله ثم لقيها في ذلك المكان فتعارفا فسمي عرفة، هذا القول الأول، وأعتقد أن هذا بعيد، فما هو الذي فرق بينهما لما نزلا من الجنة وهما نزلا معاً؟! القول الثاني: في سبب تسميته بعرفة أن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما بنى البيت وأُمر أن يؤذن في الناس بالحج، قال: {رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة:128] ، فأرسل الله له جبريل وخرج معه إلى منى، وبيّن له مواقع الجمرات، وذهب معه إلى المشعر الحرام، وأخيراً ذهب معه إلى عرفات، وبيّن له الموقف، ثم قال له: (أعرفت المناسك؟ قال: عرفت) فسميت عرفات؛ لأنه استعرفه على ما عرّفه عليه من المناسك.
وهناك قول ثالث وهو: أنه سمي عرفات؛ لأن العالم الإسلامي يأتي من كل فج عميق فيتعارفون في ذلك المكان، ومهما يكن من سبب التسمية فقد أصبحت الآن كلمة عرفة مشهورة، وعرفات علم وتنوسي فيه الوصف، كما تقول: العباس والضحاك، فالعباس: قد يكون بشوش الوجه، فتنوسي وصف العبوسة فيه، وأصبح علماً، والضحاك: قد يكون عابس الوجه كئيباً، فتنوسي وصف الضحك فيه وأصبح علماً.
وهكذا في عرفة لا علاقة للتسمية بعمل النسك.
وصوم هذا اليوم يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (يكفر سنتين: سنة قبله، وسنة بعده) ، سنة قبله أي: قبل السنة التي هو فيها؛ لأنه في آخر أشهرها، وهو شهر ذي الحجة، والسنة التي فاتت، قد يحمل الإنسان فيها بعض ما قدر عليه من الأخطاء والذنوب؛ لأنه ليس معصوماً، وصوم يوم عرفة يكفرها ولكن السنة التي بعده ماذا يكفر فيها وهو لم يرتكب فيها شيئاً بعد؛ لأنه ما عاصرها ولا عاشها، فكيف يُكفر شيء لم يوجد؟! استشكل العلماء هذا، وأجابوا عنه بأجوبة: منها: أن الله يسدد هذا الشخص لفعل الخير ويبعده عن ارتكاب الآثام، ومنعه من ارتكاب الآثام بمثابة تكفيرها.
ومنها: أنه إذا ارتكب شيئاً من الذنوب وفق للعودة إلى الله وسرعة التوبة، فيكون ذلك تكفيراً لها.
ومهما يكن من شيء فإن بعض العلماء يقولون: لا ينبغي أن تفسر أحاديث الوعد والوعيد، بل تترك على ما هي عليه بنصها ومدلولها العام، كي يكون وقعها في قلب المؤمن أكثر.
ونحن نقول: الحمد لله، قبلنا البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.


حكم صوم يوم عرفة بعرفة
ولكن بقي حكم صوم يوم عرفة بعرفة، حج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال: (خذوا عني مناسككم) ، فيا ترى! هل صام صلى الله عليه وسلم أو أفطر؟ جاء في الحديث أن الصحابة اختلفوا هل هو صلى الله عليه وسلم صائم أو مفطر؟ ولم يجرءوا أن يسألوه هل أنت صائم أو مفطر؟ وكانت أم الفضل رضي الله تعالى عنها حكيمة، فقالت: أنا أخبركم، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن، وهي تعلم أنه لا يرد اللبن، وذلك ضمن ثلاث لا ينبغي للضيف أن يردها على مضيفه وهي: اللبن والريحان والوسادة.
فإذا دخلت ضيفاً على إنسان وقدَّم لك اللبن فلا تقل: أنا لا أريده؛ لأنه كما قال الله عنه: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] ، ومثله الريحان، والعطور: كنعناع أو ريحان أو ورد أو فل، لا ينبغي أن تردها لأنها طيبة الريح.
ومثل ذلك الوسادة إذا أعطاكها، لترتفق بها فلا تردها؛ لأنه يريد إكرامك، والإحسان إليك، وكما قالوا: ينبغي للضيف أن يجلس حيث أجلسه المضيف؛ لأنه أدرى بعورات البيت.
فلما علمت رضي الله عنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يرد اللبن أرسلت إليه بقدح من اللبن، لأنها تعرف أنه إن كان صائماً فسيرده للصوم لا لكونه لبناً، وإن لم يكن صائماً فسيشربه فلما أرسلت إليه باللبن بعد العصر أخذ القدح فرفعه والناس ينظرون فشرب، فعلموا أنه مفطر.
فإذا قيل: صوم يوم عرفة يكفر سنتين، فهل الرسول زاهد في هذا الخير، وهو الذي أمرنا به؟ الجواب: لا.
ولهذا قال العلماء: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفات، فإذا أنت لم تحج وجلست في بلدك فصم، أما إذا حججت فعليك أن تفطر، والسبب أنك متلبس بأنساك وبعبادات والفطر أولى وأقرب لفعل الطاعة.
فإذا كان إنسان جالساً في بيته فنقول له صم، وإما إذا كان في الحج والمناسك والقربان إلى الله، والله يتجلى لأهل الموقف في يوم عرفات، فنقول له: لا تصم، ويقولون هنا: انظر إلى الأعمال التي يعملها الحاج في يوم عرفة وقبله، فهو يصعد من مكة إلى منى في يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يبيت في منى ليلة، وبعد أن تطلع الشمس يذهب إلى عرفات، والمسافة بين المسجد الحرام وأرض عرفات واحد وعشرون كيلو متراً، منها سبعة إلى منى، ويكون الباقي إلى عرفات أربعة عشر، فأمامه مشي أربعة عشر كيلو متراً، فإذا جاء إلى عرفات فأمامه الصلاة، وسماع الخطبة، ثم الذهاب إلى الموقف، وقد بقي صلى الله عليه وسلم في الموقف على ظهر راحلته من بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً إلى أن غربت الشمس، فيبقى الحاج على هذا في عمل وجهاد واجتهاد في الدعاء، ثم بعد غروب الشمس ينزل إلى مزدلفة وفي هذا زحام، فإذا صلى العشاء نام، وعند طلوع الفجر يصلي ويجتهد في ذكر الله عند المشعر الحرام، إلى قبيل أن تطلع الشمس، ثم ينزل إلى وادي محسر، ويسرع في المشي، ثم يأتي إلى منى، ويرمي ويحلق وينحر، ثم ينزل إلى مكة، ليطوف طواف الإفاضة، ويرجع إلى منى ليقيم فيها، فأي حركة بعد هذا؟! الشاب القوي الفتي، يكل من أعمال ذلك اليوم وما بعده، فهذا الجهد وهو عمل في الفرض، وتكملة له، لا يحتاج إلى صيام، بل يحتاج إلى أكل وفيتمينات وإلى كل المقويات؛ لأنه إذا صام فسيكون في يوم عرفة ضعيفاً وكأنه مغمى عليه، ولا يجتهد في دعاء، ولا يجتهد في مناجاة لله، وإذا نزل إلى مزدلفة فسيكون متعباً لأنه كان بالأمس صائماً.
إذاً: من هنا قال العلماء رحمهم الله: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفة، أما من كان حاضراً عرفة فهو في نسك، وهذا بخلاف الذي يحضر إلى عرفة للخدمة، وللبيع والشراء، فهذا يصوم إن شاء، يقول بعض العلماء: إن بعض الصحابة كان صائماً يوم عرفة في حجة الوداع، وبعض السلف كان يصوم يوم عرفة في عرفات، فقيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أفطر فيه، فقالوا: كانت السنة الفطر فيه إبقاءً على الضعيف، وأما القوي الذي يجد من نفسه القوة والنشاط، ويستطيع أداء الواجب مع الصيام، فهو خير إلى خير، ولكن الجمهور ردوا وقالوا: أي إنسان لن يكون أقوى من رسول الله، فأجاب الآخرون وقالوا: رسول الله فعل ذلك للتشريع، فيقال لهم: ولكنه قال: (خذوا عني مناسككم) .
ومع وجود هذا الخلاف عن بعض السلف في الأولى لمن حضر عرفات في نسك الحج هل يكون صائماً أو مفطراً؟ نقول: الأولى أن يكون مفطراً لفعله صلى الله عليه وسلم ولقوله: (خذوا عني مناسككم) .


فضل صوم يوم عاشوراء
قوله: [: (وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية) .
]


سبب تقديم وتفضيل يوم عرفة على يوم عاشوراء
سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة وعاشوراء، وقدم عرفة عليه؛ لأن عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر سنة واحدة، وسنتان أولى من سنة، ويوم عاشوراء جمهور العلماء من أهل اللغة والفقه على أنه هو اليوم العاشر من شهر محرم.
وقال صلى الله عليه وسلم في صيامه: (إنه يكفر سنة) ، فإذا قيل: هذا يوم وهذا يوم، فلم كان هذا بسنة وهذا بسنتين، والصوم هو إمساك عن الطعام والشراب، والصوم في يوم عرفات هو كالصوم في يوم عاشوراء، وهو كالصوم في رمضان -إمساك الدورة الزمنية للشمس- فما الفرق بينهما؟ يقول بعض العلماء جواباً على هذا: إن صوم يوم عاشوراء تابع لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وصوم يوم عرفات تابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان تابعاً لنبينا محمد يكون أفضل مما هو تابع لغيره، كفضله على سائر الأنبياء، هكذا يقولون، والله أعلم.


سبب الصيام في يوم عاشوراء
صوم يوم عاشوراء له تاريخ طويل، فقد جاء في حديث عائشة قالت: (يوم عاشوراء كانت العرب تصومه في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه -أي: قبل البعثة- فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه فسألهم عن سبب صومهم؟ فقالوا: هذا يوم مبارك، نجى الله فيه موسى وأهلك فرعون، فصامه موسى شكراً لله وصمناه) .
إذاً: اتفق أهل مكة الوثنيون وأهل المدينة اليهود الكتابيون على صومه، فصام اليهود هذا اليوم؛ لأنه يوم مبارك نصر الله فيه الحق على الباطل، وهناك تاريخ مسبق يذكره بعض العلماء -والله تعالى أعلم بحقائق التاريخ- يذكرون أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي رست فيه سفينة نوح واستوت على الجودي، وأنه هو اليوم الذي أطفأ الله فيه نار النمرود التي أوقدها على إبراهيم، وأنه كذلك هو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون ونجى فيه موسى، فيذكرون في التاريخ أن هذه الأحداث وقعت في يوم عاشوراء، ويذكرونها إما متسلسلة وإما متباعدة.
والله تعالى أعلم.
والذي عندنا من النقل الصحيح هو من بداية موسى مع فرعون، فلما أُخبر صلى الله عليه وسلم من اليهود عن سبب صومهم لهذا اليوم، قال: (نحن، وفي رواية: أنا أحق بموسى منكم) سبحان الله! بعد آلاف السنين يكون صلى الله عليه وسلم أحق منهم بموسى مع أنهم أمته الذين بعث فيهم؛ لأنهم غيروا ما كان عليه موسى أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يغير كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] .
فآمن النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت الأمة بموسى وبجميع الأنبياء وبما جاءوا به من عند الله، أما اليهود فمعلوم أنهم غيروا وبدلوا واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
قال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم) ، فصامه وأمر الناس بصيامه وفي بعض الروايات: (نحن أبناء علات ديننا واحد) ، والعلات جمع علة وهي: المرأة تأتي بعد المرأة تحت الرجل الواحد أي: أن أممنا متفاوتة ولكن الأصل لنا جميعاً واحد وهو الوحي من عند الله، فصام هذا اليوم وأمر بصيامه.
ويأتي هنا سؤال: هل صومه صلى الله عليه وسلم كان تبعاً لليهود؟ الجواب: لا؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه) أي: قبل البعثة.
إذاً: صومه كان معروفاً ولكن السؤال جاء عن سبب صوم اليهود، وقريش كانت تصوم يوم عاشوراء، وتجدد فيه كسوة الكعبة، وهذا يعني: أنه كان معروفاً لهم، ولكنه هنا سأل فوجد سبباً جديداً، وهو تجدد نعمة من الله على عباده، وهي نصرة الحق على الباطل، وهذه نعمة متجددة تقابل بالشكر، وسيأتي في حق النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين أنه ولد وبعث فيه، وهذه كذلك نعمٌ متجددة تقابل بالشكر.


استحباب صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة لليهود
كان سؤاله صلى الله عليه وسلم اليهود عن صومهم لبيان السبب، ثم بعد ذلك قيل: (يا رسول الله! إن اليهود يصومون يوم عاشوراء ونحن نصوم يوم عاشوراء فوافقناهم، فقال: لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر) ، ولكنه قبض صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي العام الجديد، واقتصر على ما كان عليه.


بيان أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً في أول الإسلام
وقد كان صوم يوم عاشوراء في بادئ الأمر فرضاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث رجالاً إلى مياه القبائل ينادون: (إن اليوم يوم عاشوراء فمن أصبح صائماً فليتم، ومن أكل فليمسك بقية يومه) ، فلو لم يكن فرضاً ما أمرهم أن يمسكوا بقية يومهم، وقد كان فرضاً حتى فرض رمضان، فنسخت فرضية عاشوراء وبقيت نافليته، وظل صلى الله عليه وسلم يصوم يوم عاشوراء كل سنة، وكان فرض رمضان في شعبان في السنة الثانية من قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة فنسخ فرض صوم يوم عاشوراء وبقيت سنيته إلى اليوم.
وذكر ابن عبد البر آثاراً عن التابعين في يوم عاشوراء وذكر حديثاً يقول عنه المنذري: إن سنده ضعيف وهو: (من وسع على عياله فيه وسع الله عليه طيلة العام) ، ويذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: قد جربناه وكان صحيحاً، وبعضهم يذكر هذا في يوم النصف من شعبان، والله تعالى أعلم.
يهمنا أن صوم يوم عاشوراء يكفر سنة، وقد جاء عن ابن عمر أنه لم يكن يصومه إلا إذا صادف صوماً له، وقال: كان فرضاً فنسخ، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه، وعلى هذا فصوم يوم عاشوراء باتفاق الجميع سنة، وليس بواجب، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه، وإذا صامه فإنه يكفر سنة، والله تعالى أعلم.


فضل صوم يوم الإثنين
قوله: [ (وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأنزل عليّ فيه) رواه مسلم] .


سبب تخصيص يوم الإثنين بالصيام
كان صلوات الله وسلامه عليه يكثر من صوم يومي الإثنين والخميس، فسئل عن تخصيصه يوم الإثنين فقال: (ذلك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل عليّ فيه) ، ويذكر العلماء من أحداث الواقع التاريخي أنه أتى المدينة في الهجرة يوم الاثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ولذا قالوا: يوم الاثنين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة لآدم، كما قال صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها) .
وقول مالك في الموطأ: (فيه تقوم الساعة وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) .
قوله: (ما من دابة) فيه أن الدواب كلها تعرف أيام الأسبوع، فإذا كان يوم الجمعة أصاخت من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، تنظر هل تأتي النفخة أي: النفخة ليوم القيامة إلى أن تطلع الشمس ثم تنصرف، يا سبحان الله العظيم! هذه الدواب العجماء، وهذه الحيوانات العجماوات تعلم يوم الجمعة، وتخشى قيام الساعة، وتتسمع من أجله.
فقالوا: يوم الجمعة أحداثه مرتبطة بآدم، وبمناسبة كون الساعة تقوم فيه، نجد الفقهاء يستحبون في صلاة فجر يوم الجمعة قراءة سورة السجدة؛ لأن فيها قصة آدم، وفيها البعث، وفيها الجزاء، وكذلك قراءة سورة الدهر {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ} [الإنسان:1] إلى آخر السورة؛ لأن فيها أحوال يوم القيامة، فقالوا: في قراءة هاتين السورتين في هذه الفريضة يتناسب اجتماع الذكر مع التاريخ فيكون أدعى لأن يتذكر الإنسان مبدأه، وحياته، ومصيره، ليأخذ من حياته إلى ما بعد مماته.
إذاً: سئل صلى الله عليه وسلم عن سبب صوم يوم الإثنين؟ فعدد نعماً، وهذه النعم هي التي يقول عنها العلماء: لا كسب للعبد فيها وهي ثلاث نعم، ليس للعبد فيها كسب أو تسبب، وليس له فيها عمل، وليس له سعي في الحصول عليها، بل هي محض نعمة من الله عليه، أو محض إنعام من الله بها عليه، وهذه النعم هي: إيجاده من العدم، وإسلامه، ودخوله الجنة، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ولدت فيه) وهو الإيجاد من العدم، وإذا فتشنا أنا وأنت حينما جئنا إلى الدنيا ماذا فعلنا لكي نأتي إلى الدنيا؟! ما عملنا شيئاً، فقد كنا في العدم، وغاية ما يمكن أن يقول القائل: إن الأبوين تسببا، فنقول: هما قضيا حاجتهما ولا يملكان بتلك الحاجة أن يأتيا بالولد؛ لأن الولد هبة من الله، كما قال سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:49] ، وهذا الملك ليس مثل ملك الملوك في الدنيا، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى:49] ، وفي هذا القدرة والعظمة، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49-50] ، فمن جعله الله عقيماً، والله! لن يخصب ولن ينجب أبداً.
إذاً: الولد هبة، وإن تسبب الأبوان في وجوده، فتسببهما ليس بلازم أن يأتي بالولد.
ونعمة الإسلام، فالإنسان في عالم العدم كما يقول علماء الجدل: جائز الوجود، بمعنى جائز أن يوجد وجائز أن يبقى في العدم، وهما نظريتان متعادلتان، فكون واحدة ترجح على الأخرى فلابد من مرجح والمرجح هو الله، فإذا رجح وجود الإنسان على بقائه في العدم فمن أين وجد؟ كان من الممكن أن يوجد من أبوين بوذيين، أو أبوين وثنيين، أو أبوين يهوديين، أو نصرانيين أو غير ذلك، ولكن كون الله أختار له أبوين مسلمين وولد بين أبوين مسلمين فسينشأ مسلماً، وهل كان له اختيار أو جهد أو كسب في أن يوجد من أبوين مسلمين؟ ليس له فيه كسب بل هو فضل من الله عليه، وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم: (وأنزل علي فيه) .
والإسلام أساساً ما أنزله الله على رسوله إلا بالرسالة، والرسالة إلى رسول الله محض فضل من الله، فقد اصطفاه الله لذلك قبل أن يوجد، وقد بحث العلماء هذا عند قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] فقالوا: اصطفاه وهو في أصلاب آبائه، وآباء آبائه إلى آدم، واختاره نبياً قبل أن توجد الدنيا، وكل شيء قد سجل في اللوح المحفوظ، والرسل مصطفون عند الله من قبل أن يوجدوا، فهذه رعاية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رعاه الله سبحانه وتعالى في أصلاب آبائه، وصانه من دنس الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولدت من نكاح لا من سفاح) ، وكانت أنواع الولادات في الجاهلية متعددة، كما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان الزواج أو النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: تخطب المرأة من وليها فيزوجها كما تفعلون اليوم، وتؤخذ المرأة بالسيف، وتنصب المرأة الراية، وتتخذ الأخدان) فولد صلى الله عليه وسلم من النكاح الذي تخطب فيه المرأة من وليها فيزوجها، كما في القصة التي ذكرها ابن هشام في السيرة وفيها أمر يذهل العقل، لما أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله في قضية زمزم فلما وقع السهم عليه، وذهب ليذبحه منعته قريش، وتحاكموا إلى الكاهنة، وقالت: فادوه بعشر من الإبل واستهموا عليه بالقرعة، فإذا طلعت القرعة عليه فزيدوا الإبل عشراً، فاستهموا وفعلوا إلى أن كملت الإبل مائة فخرجت القرعة على الإبل، ثم نحرت، وفي عودته مع أبيه تلقته امرأة قريبة لـ ورقة بن نوفل -وكان رجلاً يقرأ الكتب القديمة- فقالت: يا عبد الله! وهو والد محمد بن عبد الله، هل لك أن تذهب معي إلى بيتي الساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ قال: نعم، ولكني الآن مع أبي فأنظريني حتى أصل معه إلى البيت ثم آتي إليك، ولكن أباه لم يذهب به إلى بيته، إنما ذهب به إلى بني زهرة، وخطب له آمنة فتزوجها، ودخل عليها من ليلته ثم لما كان الغد خرج فلقيته تلك المرأة فأعرضت عنه، فتعرض لها فأعرضت عنه، فتعرض لها وقال: ما لك بالأمس تتعرضين لي واليوم تعرضين عني؟! قالت: كنت بالأمس أرى نوراً أو وبيصاً بين عينيك رغبت أن أظفر به ولكن ظفرت به آمنة بنت وهب، فهذا النور يتفقون أنه نور النبوة، ولكن ما كل إنسان كان يراه.
وبعض الناس يشكك في هذه القصة، ويؤكد ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه صين عن سفه الجاهلية وأنكحتها، وتنقل في أصلاب نكاح صحيح سليم إلى أن حملته آمنة ووضعته وأدت الأمانة ومات أبوه، وماتت أمه وبقي في كفالة ربه، فنشأ يتيماً ولكنه كفل الأيتام، وربَّى الكبار والصغار.
إذاً: رعاية الله كانت تحوطه، فهو نبي ومرسل، وقد جعل الله ذلك له ولبقية الأنبياء من أول ما أمر الله القلم: (اكتب ما يكون وما سيكون إلى يوم القيامة) .
قوله: (يوم ولدت فيه، وأنزل عليّ فيه) كان بدء الوحي في غار حراء عند أن كان يتحنث فيه، وكان في يوم الإثنين، ثم بعد ذلك واصل الدعوة ثلاث عشرة سنة في مكة، ثم خرج مهاجراً إلى المدينة، وكان وصوله إليها في يوم الإثنين، وقبض صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين، وبقي يوم الثلاثاء، ودفن في يوم الأربعاء؛ لاشتغال الناس بالبيعة في السقيفة وبالخلافة وما وقع فيها، ولما فرغوا من أمر الخلافة جاءوا لدفنه صلى الله عليه وسلم، فهنا يقول العلماء: تلك نعم متجددة، فقوله: (ولدت فيه) ، وهذه نعمة الإيجاد من العدم، وقوله: (أنزل عليّ فيه) وهذه نعمة الرسالة، وليس بعدها نعمة، فكان يشكر هذه النعم بأن كان يصوم يومها.
وهكذا موسى لما نجاه الله من فرعون صام ذلك اليوم.
وقد ذكرنا سابقاً ما ذكره علماء السيرة: أن أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة استدعاهم النجاشي ذات يوم، فجاءوا إليه مذعورين، فلما دخلوا عليه إذا به جالس على أرض تراب ليس عليها فراش، حاسر الرأس، لابساً ثوباً قديماً خلقاً، مصوباً بصره إلى الأرض، فقال: أتدرون لمَ دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: نصر الله نبيكم محمداً، أو نبينا محمداً على عدوه في هذا اليوم، فقد التقى مع قريش في وادٍ يقال له: وادي بدر فنصره الله عليهم، ذاك وادٍ يكثر فيه الأراك، وقد كنت أرعى فيه إبلاً لبني فلان، فقال له جعفر: وما هذه الصورة التي نراك عليها فقد أفزعتنا؟ قال: إن فيما أنزل الله على عيسى أنه قال له: (إني أحب إذا جددت نعمة على عبدي أن يجدد لي شكر النعمة) ، فأنا على هذه الحالة شكراً لله على نصره محمداً على أعدائه، ولهذا جزم كثير من العلماء أنه مؤمن، ويؤكد ذلك أن اليوم الذي مات فيه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم وصلى عليه هو وأصحابه صلاة الجنازة.
قال: (يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه) ، وهاتان نعمتان عظيمتان، فشكرهما صلى الله عليه وسلم بصيامهما، لا بلعب ولا بعيد، ولا بلهو ولا بنحو آخره، فصام للذي أنعم عليه مرضاة له سبحانه.


فضل صوم ستة أيام من شوال
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) .
رواه مسلم.
] .
هذه مسألة صيام ست من شوال، ساق فيها المؤلف رحمه الله تعالى: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، وجاء عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحسنة بعشر أمثالها) ، ورمضان بعشرة أشهر، وستة في عشرة بستين، فتعادل هذه الست شهرين، وبذلك تكون السنة كاملة.


الخلاف في حكم صيام الست من شوال
وهذه الأيام من العلماء من يستحب صومها، ومنهم من يكره صومها، وقد روي كراهية صومها عن مالك رحمه الله تعالى، وذكر القرطبي عن أبي يوسف أنه كره صومها، وذكر الشوكاني عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كره ذلك، والتحقيق عند الأحناف وعند المالكية: أن الكراهية ليست في الصوم، ولكن في التتابع، كما قال مالك رحمه الله: إذا رأى الجهال إصرار العلماء على صوم ستة أيام من شوال عقب رمضان فسيظنون أنها من رمضان، ويقول القرطبي: إن ما خاف منه مالك قد وقع في بلادنا، ونحن أيضاً شاهدنا هنا أن بعض الناس إذا انتهى من رمضان وجاء العيد عيّد عيداً شكلياً، واستأنف الصيام ستة أيام ثم عيّد العيد الكامل وقال: عيد الست، فجعل للست عيداً مستقلاً، وابن عبد البر في الاستذكار يدافع عن مالك ويقول: لا أعتقد أن مالكاً يكره عبادة، ولكن لعله لم يبلغه حديث أبي أيوب، ثم يرجع ويقول: إن هذا الحديث حديث مدني، وقلّ أن يخفى على مالك حديث مدني، ثم يقول أيضاً: لقد روي هذا الحديث عن عمرو بن ثابت، عن أبي أيوب وتفرد به فلان وهو ضعيف، ولكن قد روي هذا الحديث من عدة جهات، ومن عدة طرق، وفي النهاية صحح الحديث ثم قال: بما أن الحديث لا يمكن أن يخفى على مالك؛ لأنه مدني، فيكون سبب الكراهية عنده هو خشية أن يعتقد الجهال أن ستاً من شوال تابعة لرمضان ولازمة له، ولهذا يقول المالكية جميعاً: إذا أتبع الست بعد رمضان ولم يفصل بينها إلا يوم العيد فقط فهذا محل النزاع وهذا محل الكراهية، أما إذا باعد بينها وبين رمضان بعدة أيام وفرقها فإنه يخرج عن المحذور ولا يظن ظان أنها من رمضان.
هذا مع اتفاق العلماء على أن تلك الست من شوال يصح صومها في العشر الأوائل من شوال، أو في العشر الوسطى، أو في العشر الأخيرة، أو يأخذ يومين من كل عشر سواء تابعها أو فرقها، المهم عند المالكية ألا تكون لاصقة برمضان مباشرة، لا يفصل بينها وبين رمضان إلا يوم العيد.
وهكذا علل الأحناف، وذكر ابن عقيل في حاشيته أن إطلاق الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة وأبي يوسف ليس صحيحاً، وإنما الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف إنما هي طبق الكراهية وسببها هو الذي نقل عن مالك رحمه الله، ألا وهو إلصاق ست من شوال برمضان حتى يظن الجهال أنها منه، أما مطلق صومها بدون الصورة التي توهم أنها من رمضان أو من لوازمه، فهذه ليس فيها كراهية، وعامة السلف عليها، والعمل جارٍ على هذا عند الأحناف وكذلك عند المالكية.
وننبه الإخوة أننا كنا قد جمعنا عمل أهل المدينة المذكور في الموطأ بناءً على كتاب محمد بن الحسن الحجة على أهل المدينة، وكان يحتج عليهم في تمسكهم بما آثروه نقلاً عملياً عن أهل المدينة؛ لأن مالكاً ذكر في الموطأ وقال: إن الستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم يصومها.
ولهذا علل الكراهية بما تقدم، فهي من نقل مالك عن عمل أهل المدينة، ولما قمت بجمع مسائل عمل أهل المدينة في الموطأ زادت على الثلاثمائة مسألة، ثم عرضتها على بقية المذاهب الأربعة، أي: المذاهب الثلاثة مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فوجدتها كلها لم ينفرد بها مالك إلا في ثلاث مسائل فقط، وكلها قال فيها: هذا ما عليه العمل ببلدنا، هذا ما أدركت عليه أهل العلم عندنا، هذه السنة القائمة عندنا، ولم يذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خبراً عن صحابي، وإنما يذكر ما شاهده من عمل أهل المدينة في زمنه أو نقل إليه.
وتلك المسائل الثلاث التي لم أجد من يوافقه عليها هي: المسألة الأولى: فيما يتعلق بصوم الستة أيام من شوال أنه كان يكرهه، والمذاهب الثلاثة -قبل أن أقف على مذهب أبي حنيفة - كلها تستحب ذلك، فظننته انفرد بها، ولكن وقفت على قول القرطبي وقول الشوكاني ينقلان عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة رحمهما الله أنهما وافقا مالكاً في هذا، فخرج عن كونه انفرد بها.
والمسألة الثانية: قوله بصوم يوم الجمعة، وأن أهل العلم يتحرون صومه، والذي كنا نعرفه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم، أو تفرد ليلة الجمعة بقيام، ثم وجدنا في الاستذكار لـ ابن عبد البر أنه ذكر نصوصاً عديدة فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، حتى ذكر عن ابن عباس من طريق طاوس وعطاء، أنهما لم يريا ابن عباس مفطراً يوم الجمعة قط، وذكر آثاراً أخرى، فيكون إسناد مالك صوم يوم الجمعة إلى عمل أهل المدينة قد وجد له مستند عن ابن عباس وغيره، وجاء ذلك مرفوعاً من طريق علي رضي الله تعالى عنه: (أن من صام ثلاثة أيام فليجعل فيها يوم الجمعة، أو صوموا من كل شهر ثلاثة أيام، وصوموا يوم الجمعة) إلى غير ذلك على ما سنأتي عليه إن شاء الله.
والمسألة الثالثة: عند مالك أن من قتل عمداً لا يدفع الدية وإنما عليه القصاص أو يعفو عنه أولياء الدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل فيه أحد أمرين: إما القصاص، وإما العفو كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، فقال مالك: ليس على القاتل عمداً أن يدفع دية، وليس لولي الدم إلا أن يقتل، أو يعفو.
وكنت قد سمعت والدنا الشيخ الأمين يقول في هذه المسألة: إن ولي الدم إذا قال: أنا لا أريد قصاصاً وأريد الدية، فإن جمهور العلماء يقولون: عليه أن يدفع الدية ويستبقي نفسه.
ولكن وجدنا في مذهب مالك ثلاث روايات عنه فيما إذا كانت الجناية في غير النفس، في اليد أو في السن أو في العين، يقول مالك: هو مخيّر بين أن يدفع أرش الجناية، وبين أن يسلم نفسه ليقتص منه، فهنا خرج عن كونه يقول: ليس لهم إلا القصاص، فكذلك إذا كان في النفس يتعين على الجاني أن يدفع الدية ليبقي نفسه.
وهذا الذي سمعته من والدنا الشيخ الأمين: أنه يلزم مالكاً أن يقول: إن من قتل عمداً وطلبت منه الدية فعليه أن يدفعها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] ، وهذا توجه إليه القتل ووجد طريق العفو بالدية فيلزمه أن يدفع الدية، ثم وجدنا هذا القول بعينه عند أبي حنيفة رحمه الله.
وبهذا أيها الإخوة! يكون كل ما سجله مالك رحمه الله في الموطأ من مسائل عمل أهل المدينة لم ينفرد ولا بواحدة منها، ويكون قد انتهى ما كنا نظنه أنه انفرد به، وقد سجلنا ذلك في الرسالة التي جمعناها وطبعناها، ولكن لزم التنبيه على أنه لم تبق مسألة انفرد بها مالك فيما ذكره من عمل أهل المدينة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، وهذا على ما تقدم بيانه من أن الحسنة بعشر أمثالها؛ فالشهر بعشرة أشهر، والستة أيام بستين يوماً أي: بشهرين، فذلك تمام السنة، وهو تمام الدهر فيما إذا عاش وفعل ذلك كل سنة.
ويلتمس العلماء سبب ربط الستة الأيام من شوال برمضان فيقولون: إن من كان يصوم رمضان إيماناً واحتساباً ورغبة ومحبة فإنه لا يستكثر على نفسه أن يواصل صوم ستة أيام من شوال وكأنه يدلل على أن صومه الثابت ليس عن إكراه، وليس عن كراهية، وإنما عن رغبة وهاهو يواصل صوماً نافلةً بعد رمضان، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [2]
الإنسان بطبيعته البشرية يقع في الذنوب والخطايا، وليس معصوماً منها إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولكن من رحمة الله عز وجل أن جعل للعبد أبواباً كثيرة يكفر بها خطاياه ويضاعف بها حسناته، ومن هذه الأبواب باب صوم النوافل، فعلى العبد أن يستغل الفرصة ويكثر من صوم النوافل ليكفر الله عنه سيئاته وخطاياه ويرفع درجاته.


فضل الصيام في سبيل الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفاً) .
متفق عليه واللفظ لـ مسلم.
يسوق المؤلف هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله) ، و (في سبيل الله) يرى بعض العلماء أن ذلك في الجهاد، فإذا خرج الإنسان للجهاد، وكان مرابطاً على الحدود لحفظ وصيانة حدود البلد الإسلامي، وليس هناك كر ولا فر، وليست هناك معركة، ولكنه جالس على حدود البلاد فصام يوماً فهذا اليوم في سبيل الله، ويرى آخرون أن المعنى أعم، وأن من صام يوماً في سبيل الله أي: بدون دافع، وبدون سبب معين، لا هو كعرفات يكفر سنتين، ولا هو كعاشوراء يكفر سنة، ولا هو كست من شوال يعادل مع رمضان صيام الدهر، ولا هو كثلاثة أيام من كل شهر، بل بدون أي سبب ولم يرتبط بأي موجب، ولكن في يوم من الأيام وجد نشاطاً فقال: أصوم غداً في سبيل الله، أو أصوم غداً لوجه الله، فهذا يترتب عليه ما جاء في هذا الحديث: (باعد الله به -أي: بهذا اليوم- عن وجهه النار سبعين خريفاً) ، والخريف هو عبارة عن جزء أو فصل في السنة، والسنة فيها فصل الخريف واحد، وفصل الربيع واحد، وفصل الشتاء واحد، وفصل الصيف واحد، فإذا قيل: سبعون خريفاً، أو سبعون ربيعاً، أو سبعون شتاءً فمعناه سبعون سنة؛ لأن الفصل المذكور ليس مكرراً في السنة مرتين، حتى نقسم العدد على اثنين وإنما سبعون خريفاً، أي: سبعون سنة، وهذا يدل على عظيم فضل الله سبحانه وتعالى على عباده حيث يقبل القليل، ويجازي بالكثير، فهذا صوم يوم واحد يباعد الله به بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً، ولم يقل: سبعين يوماً، أو سبعين ساعة، أو سبعين أسبوعاً، أو سبعين شهراً، ولكن قال: سبعين خريفاً أي: سبعين سنة، وهذا من عظيم فضل الله سبحانه وتعالى، ومما يتعلق بفضل الصوم ما جاء في الحديث القدسي وهو يشهد لهذا: (كل عمل ابن آدم له والحسنة بعشر أمثلها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ، وكما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] .
ورمضان يسمى شهر الصبر، وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله أراد أن يرغب في الصوم تطوعاً مطلقاً، ولو لم يكن في هذه الأيام نص وارد فيها بعينها.


فضل صيام أكثر شعبان
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) ، متفق عليه واللفظ لـ مسلم.
في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عدة قضايا: القضية الأولى أنه صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يداوم الصوم حتى يقول أهل بيته: لا يفطر، وأحياناً يداوم الفطر حتى يقول أهل بيته: لا يريد أن يصوم، أي: أنه ليس في هذا العمل منهج مقعد مرتب منظم كالمشروع وهو رمضان كما قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] وما عداه فهو عمل اختياري، إن شاء صام وإن شاء أفطر، فليس فيه التزام بزمن معين في صوم ولا زمن معين في فطر، وهذا هو عين التطوع أنه إنما يكون باختياره، وهذه قاعدة هامة جداً لئلا يكون للإنسان في النوافل منهج التزام كالفرائض، وأما حديث: (إن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه) ، فنقول: نعم، هذا إذا داوم عليه رغبة، وإذا داوم عليه دون إلزام ودون التزام له حتى لا يوهم أنه مفروض عليه.
القضية الثانية في الحديث: (ما رأيته أكمل صيام شهرٍ قط إلا رمضان) .
والقضية الثالثة في الحديث: كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان، ولذا قالت: (أكثر ما رأيته يصوم في شعبان) ، وجاء في روايات منها: (كان يصومه كله) (كان يصومه إلا أقله) ، فأخذ العلماء من (كله) جواز صوم شهر شعبان كاملاً، ولكن قولها رضي الله تعالى عنها: (وما رأيته أكمل صيام شهر قط إلا رمضان) ، فيه أنه كان يكثر الصوم في شعبان.


سبب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان
وهنا يعلل العلماء كونه صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان مع أنه ليس من الأشهر الحرم، وقد جاء في الحديث (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم فسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، فقال: أما عرفتني يا رسول الله! قال: لا، قال: أنا الذي جئت إليك العام الماضي في مثل هذا، قال: ما لي أرى جسمك نحيلاً؟ -أي: نحل جسمك عن العام الماضي- قال: منذ فارقتك يا رسول الله! ما طعمت طعاماً نهاراً قط، أديم الصوم، فقال صلى الله عليه وسلم: من أمرك أن تعذب نفسك؟! صم من الأشهر الحرم وأفطر) وفي بعض الروايات: (صم شهر الصبر -يعني: رمضان- ويوماً بعده، قال: إني أقوى قال: صم شهر الصبر ويومين بعده) إلى أن ذكر له خمسة أيام، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهذا الرجل: صم من الأشهر الحرم، فالصوم في الأشهر الحرم بمقتضى هذا أفضل منه في شعبان، فلماذا كان يكثر الصوم في شعبان؟ يجيب العلماء عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: وهو جواب الجمهور قالوا: قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هذا شهر يغفل الناس عنه ما بين رجب ورمضان) ، يعلق على هذا بعض العلماء ويقول: أي: أن الناس كانوا يهتمون بصوم رجب، ويهملون شعبان، ويصومون رمضان، إذاً: صوم رجب مندوب إليه، وكان معلوماً لديهم، وهناك من السلف من كان يصوم شهر رجب وشعبان ورمضان، والبعض كان يكره ذلك؛ لأن فيه تشبيهاً لها برمضان، ويقول: يستحب أن يفطر من كلٍ من رجب، ومن شعبان بعض الأيام حتى لا يحاكي بهما رمضان، أما الجواب الثاني: فهو عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: كان ربما يجتمع عليه صلى الله عليه وسلم صيام الثلاثة الأيام من كل شهر؛ لأن صوم ثلاثة أيام من كل شهر من المندوبات، كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وألا أنام حتى أوتر) ، فصوم ثلاثة أيام تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ربما شغل عنها بسفر، أو بمشاغل أخرى فتتراكم عليه هذه الأيام الثلاثيات فكان يصومها في شعبان.
وهناك جواب ثالث وهو: أن زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن كنَّ من أدركتها الدورة منهن في رمضان تفطر، ثم تؤخر قضاء أيام رمضان إلى أن يأتي شعبان، فيصمن ويقضين ما عليهن من رمضان في شعبان، فكان يصوم معهن إرفاقاً بهن، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كنت يكون عليَّ القضاء من رمضان فلا أتمكن من قضائه إلا في شعبان لكثرة ما يصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعله كان يصوم أكثر شعبان حتى يعطي الفرصة لزوجاته أن يصمن ويقضين ما عليهن من عدة أيام من رمضان، والله تعالى أعلم.


فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشر، وأربع عشر، وخمس عشر) ، رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان.
حديث صيام ثلاثة أيام من كل شهر، جاءت فيه زيادة في حديث أبي هريرة بتعيين الأيام، وهي الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، يعني: الأيام التي يكون القمر مكتملاً ضوءه فيها والناس مختلفون في ذلك، فـ مالك يرى أن الحسنة بعشر أمثالها، واليوم عن عشرة فيقول: يجعل عن كل عشرة أيام من الشهر يوماً، فيأخذ يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، ففي كل عشرة أيام يصوم يوماً، وغيره يقول: يصوم ثلاثة أيام بدون تحديد كما في رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لكن هنا جاء التحديد بثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، وأما حول التعيين في هذه الأيام بالذات، فقد تقدم لنا في الحجامة أنهم يستحبونها بالنسبة لجزء النهار في الظهر، وبالنسبة لأيام الأسبوع يوم الأربعاء، وبالنسبة لأيام الشهر الخامس والسابع والتاسع عشر، وقالوا: إن الحجامة يوم الخامس والسابع والتاسع عشر أحسن، ويكرهونها في الخمسة الأوائل من الشهر والخمسة الأواخر منه، ويستحبونها من نصفه وما بعد، هكذا يقولون، والأطباء وأهل الطب النبوي والطب العربي يعللون استحباب الحجامة في منتصف الشهر فما بعد ويقولون: حينما يكتمل ضوء القمر يكون في الدم هيجان، فإذا جاءت الحجامة أخذت هيجان الدم هذا، وبعض المتأخرين يقولون: إن عملية المد والجزر في البحار مرتبطة باكتمال ضوء القمر، ويقولون: إن جسم الإنسان -كالبحر- مليء بالدم فإذا اكتمل ضوء القمر هاج الدم كما يهيج البحر بالمد والجزر، فيقولون: جاءت السنة بحكمة وهي: أن الصوم من طبيعته أن يكسر حدة الشهوة، وأن يخفف من حركة الدم في الجسم، فإذا ما صام تلك الأيام التي فيها هيجان الدم نقص الغذاء على الدم، وإذا نقص الغذاء على الدم خفت حدته ولم يكن فيه إثارة على الإنسان كما لو اكتمل طعامه وشرابه في تلك الأيام، والله تعالى أعلم.


حكم صيام المرأة تطوعاً مع وجود زوجها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) ، متفق عليه واللفظ للبخاري زاد أبو داود (غير رمضان) .
لا يحل لامرأة مؤمنة ملتزمة بالكتاب والسنة وملتزمة بحق الزوج عليها أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه إلا رمضان، وصوم المرأة هو كصوم الرجل، فعندها رمضان وعندها عدة من أيام أخر، وعندها كفارة، وعندها نوافل الصوم، مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وعاشوراء، والإثنين والخميس، فإذا كان صوم المرأة فرضاً معيناً فليس للزوج منعها، مثاله: نذرت أن تصوم يوم مجيء ولدها من السفر، فجاء فصامت؛ لأنها تعين عليها الصوم يوم مجيئه، كأن جاء بالليل وبيتت الصوم وأصبحت صائمة، فبمجيء ولدها أصبحت ملزمة بالنذر وهو فرض عليها لا يحق للزوج أن يمنعها؛ لأنه فرض محدد بزمن، ولو منعها فسيفوت النذر عليها، أما ما عدا ذلك، كقضاء رمضان فليس محدداً بزمن؛ لأن هناك عدة من أيام أخر، وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت يكون عليها قضاء من رمضان، وتأجله إلى أن يأتي شعبان حينما يكثر صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا قالت: لمكانة رسول الله مني؛ لأن الرسول له دورة على زوجاته، فإذا جاء دورها وجدها غير صائمة.
وكذلك رمضان لا يحق له منعها؛ لأن وقته مجدود، وهو حق لله فرضه عليها وعليه، فلا يحق له أن يمنعها؛ لأن أذنها بيدها وأمرها من عند الله، إذاً: لا يحق لامرأة أن تصوم غير رمضان، وغير ما يساوي رمضان من النذر المعين إلا بإذن زوجها، وأما غير ذلك فالأولى أن يسمح لها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، ولا ينبغي أن يضيق عليها ويمنعها.
ومن هنا ينبغي أن نعلم بناتنا وزوجاتنا حق الزوج على زوجته، فهذا الصوم وهو عبادة لله، ومن أعظم القربات عند الله، ومع هذا يمنعها الشرع أن تصوم إلا بإذن زوجها، يا سبحان الله! يشترط إذن الزوج على عبادة الله! نعم، لعظم حقه؛ لأن حق الزوج على زوجته ليس بالأمر الهين، وخاصة فيما يتعلق بالزوجين مع بعضهما؛ لأنه لا عوض عنها، ولا بديل منها، فهي أحق الناس بالوفاء بحقه.
ولذا جعل المولى سبحانه القوامة في البيت للرجال قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا} [النساء:34] ، بالفضل الذاتي للرجولة على النسوة، وبما أنفقوا، ولهذا جاءت النصوص عديدة في هذا الباب ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة طلبها زوجها ولو كانت على ظهر قتب، فامتنعت إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة باتت وزوجها ساخط عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم عظَّم حق الزوج على الزوجة، ومن ذلك ما جاء في الحديث العظيم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) ليس سجود عبادة وإنما سجود تحية، وكذلك الزوجة لها حق على زوجها، وعليه أن يوفيها حقها، بل ينبغي أن يوفي الزوج الحق الذي عليه أولاً، ثم يطالب بحقه ثانياً.
إذاً: الحياة الزوجية عشرة ومعاشرة، وازدواج وتبادل منافع، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ، وقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] ، فلابد من المعادلة في هذه المسألة، ولكن يعظم حق الزوج على المرأة فيما يكون له من حق الإذن أو الرفض في عبادة لله سبحانه.


حكم صيام يوم الفطر ويوم النحر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر) .
متفق عليه] .
نحن نعلم جميعاً أن أيام السنة إنما هي دورة فلكية للشمس سبتها وأحدها وخميسها وجمعتها؛ كلها دورة من شروق الشمس إلى غروبها، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يفضل بعض هذه الأيام على بعض لما تشهده من الأحداث، وقد فضل شهر رمضان على بقية الشهور وهو أيضاً دورة زمنية وإن كان في جملته دورة قمرية فأيامه دورة شمسية، ففضله على غيره من الشهور لما شرفه به من إنزال القرآن الكريم فيه، بل أنزل فيه جميع الكتب السماوية، وكذلك شرف وفضل من أيام الأسبوع يوم الجمعة، ومن أيام السنة الفردية يوم عرفات، بل فضل من يوم الجمعة الذي هو فضيل ساعة من الساعات فيه، وفضل ليلة من شهر رمضان المبارك على غيرها، وجعلها خيراً من ألف شهر، كل ذلك لما تشهده تلك الأيام والليالي من الأحداث.
ويوما العيد في الإسلام كرمهما الله وشرفهما وجعلهما يومي مكرمة لعباده، ولكأنهم في هذين اليومين في ضيافة المولى سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا لوفاء المسلمين بما عهد الله إليهم، وقيامهم به خير قيام، فكان هذا جزاءً لحسن عملهم وإكراماً لطاعتهم ربهم، ويوما العيدين هما: يوم الفطر ويوم الأضحى، أما يوم الفطر فكما نعلم جميعاً أنه يأتي على رأس تمام صيام شهر كامل، فالأمة تصوم شهر رمضان، وتراقب ربها فيه، وكما في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي) ، وهذا جاء في بيان اختصاص الصوم بالمولى سبحانه مع أن كل الأعمال لله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، ولكن خصوص الصوم يقول عنه المولى في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه من أجلي) ، فيكون في الخلوة بعيداً عن الناس، وأمامه شهي الطعام وبارد الشراب، وهو جائع وعطشان، لا يرده في خلوته من الفطر إلا مراقبة الله سبحانه، ومن هنا كان الصوم يعود ويورث التقوى؛ لأن التقوى هي اتخاذ الوقاية مما يغضب الله سبحانه وتعالى، فدوام هذه المشاهد يجعل عند الإنسان قوة مراقبة، ويقرب من المولى سبحانه وتعالى أكثر وأكثر، ويزيل الحجب والحواجز التي تبعده عن الله سبحانه وتعالى، فكأن المولى سبحانه يقول لعباده: أمرتكم فامتثلتم، وكلفتكم فأطعتم، وها أنتم أتممتم صيام الشهر، فهلموا إلى ضيافتي، ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر؛ لأن من صام يوم الفطر كأنه يقول: يا رب! أنت جعلت هذا اليوم مأدبة لعبادك وأنا في غنىً عنها، وإذا استغنى عن مأدبة المولى فإن هذا تكبر، وهذا تعالٍ على الرب سبحانه وتعالى، ولذا لا يقبل الله صوم هذا اليوم.
وكذلك عيد الأضحى نادى الله في الناس بالحج فجاءوا من كل فج عميق، وأدوا مناسكهم، وأدوا طاعة الله في تلك المواقف الكريمة، ثم أفاضوا من عرفات والحج عرفة، وهو ذاك المشهد الكبير الذي يتجلى المولى سبحانه فيه لأهل الموقف -كما أشرنا سابقاً- فيباهي بهم الملائكة ويقول: ماذا يريد العباد، ولماذا جاءوا إليّ؟ فيقول الملائكة: ربنا! إنك تعلم أنهم جاءوا إليك يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول متفضلاً: (أشهدكم أني قد غفرت لهم) ، وقد أشرنا مراراً إلى الحكمة في سؤال المولى للملائكة في ذلك اليوم، وكما يقول البلاغيون: ليس المراد مقتضى السؤال، ولكن المراد لازم الفائدة؛ لأن السؤال قد يراد منه فائدة الخبر، كإخبار السائل عن مجهول بتعيينه، فإذا قلت: هل جاء زيد؟ وأنت لا تعلم، فيكون الجواب: نعم جاء، وقد يكون السؤال عن لازم الخبر وليس عن الخبر، كأن يكون السائل عارفاً أن زيداً جاء، لكن المسئول مدين للسائل، ووفاء الدين يحل عند مجيء زيد، فهو يريد بسؤاله عن مجيء زيد وعدم مجيئه لازم الفائدة، ولازمها هنا أن موعد الدين قد حل؛ لأن موعد قضاء الدين مشروط بمجيء زيد وقد جاء، فالله سبحانه وتعالى في هذا السؤال لا يريد فائدة الخبر؛ لأنه يعلم بحالهم.
ويقولون: أنه كان في الأرض عوالم قبل آدم وقبل الإنس وهم الحن والبِن والجن وأمم وقد وقع بينها قتال، وإبليس كان من جند الله أولاً، فالمولى سبحانه وتعالى لما أراد أن يخلق آدم قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا} [البقرة:30] أي: مستفسرين لا معترضين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] أي: مثل الذين رأيناهم من أول؟ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فإذا أردت أن تجعل فيها خليفة للذكر والتسبيح فنحن نسبح، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] وأظهر الله سبحانه وتعالى شرف هذا المخلوق الجديد، إذ علمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني؟ قالوا: سبحانك، فقال: يا آدم! أنبئهم، فكان هناك عرض على الملائكة بجعل خلافة في الأرض، والملائكة تخوفت لما شاهدت من قبل، وأشفقت على هذا المخلوق الجديد أن يفسد فيها ويسفك الدماء، فطمأنهم الله وقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] .
فجاء آدم وهبط إلى الأرض وتكاثرت ذريته، وعمرت الأرض، وجاء بنو آدم إلى عرفة شعثاً غبراً، وهنا كأن المولى يريد بهذا السؤال لازم الفائدة أي: أنتم كنتم تظنون أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فها هم جاءوا شعثاً غبراً مجردين، تركوا أوطانهم وأولادهم وأموالهم وتحملوا في سبيل تلك الرحلة المشاق، ماذا يريدون؟ هل يريدون الإفساد في الأرض، أو يريدون سفك الدماء؟ فهذا التساؤل كأنه تنبيه للملائكة على ما كانوا تساءلوا عنه سابقاً ثم قال: (أشهدكم -والله خير الشاهدين- أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم) ، وهذه أعظم نعمة على الإنسان، فلقد كان طيلة حياته أسيراً للشيطان يحتنكه، وقد أحاط حبلاً في حنكه يقوده كيف شاء، ليثقله ويحمله ويكبله بكل الذنوب، وهاهو قد أصبح طليقاً خفيفاً، قد خرج من كل ذنوبه، وتخفف من كل أثقاله وقيوده، فيأتي إلى منى وإلى الجمرات ويعلن الحرب على الشيطان: بسم الله الله أكبر، رجماً للشيطان وإرضاءً للرحمان، وقبل هذا لم يكن يقدر، لأنه واقع في الأسر، أما الآن وقد تحرر وطلقت قيوده، ووضعت عنه أثقاله فقد أصبح نشيطاً يعلن الحرب على عدوه، فأي نعمة أعظم من هذه، فيصبحون يوم العيد في ضيافة الله، بل إن الضيافة في عيد الأضحى تمتد إلى ثلاثة أيام وهي أيام منى، فهي أيام أكل وشرب وتبعل، فإذا جاء إنسان وقال: أنا أريد أن أصوم في هذا العيد، فنقول له: أنت مدعو من عند المولى سبحانه فأجب دعوة المولى سبحانه، فلو أن وزيراً من الوزراء جاءته دعوة من الملك فإنه يشرف بهذه الدعوة، فإذا كان شخصاً عادياً جاءته دعوة خاصة ببطاقة وفيها اسمه بتوقيع الملك، فكم سيكون فرحه بهذه الدعوة، وكم سيكون شرفه بهذه البطاقة، بل إنه سيحتفظ بها، وسيعرضها على الناس كل يوم، سبحان الله! فمن المجنون الذي يعرض عن مائدة الله، ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، وقد اتفق العلماء بجميع مذاهبهم على تحريم صوم يومي العيدين، حتى قالوا: لو أن إنساناً نذر صوم يوم العيد فنذره لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يعينه فنذره باطل، وإما أن يعين النذر بعمل، كأن يقول: يوم يجيء فلان من غيبته سأصبح صائماً، فجاء فلان هذا يوم تسعة من ذي الحجة، فإذا جاء يوم تسعة من ذي الحجة فسيصبح يوم العيد صائماً، وهو لم يعين يوم العيد، وإنما عين وصفاً فصادف وفاء النذر في يوم العيد، فقالوا: أيضاً لا ينعقد الصوم ولا يصح، فسواء عين يوم العيد باسمه، أو علقه على وصف فتحقق في يومه فلا يصح الصوم فيه، وهذا مذهب الجمهور، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا عقد النذر وصادف يوم العيد، قال: انعقد نذره وحرم تنفيذه ويصوم يوماً آخر مكانه؛ لأن النذر لازم، ويوم العيد ممنوع صومه، فنأخذه باللازم وننقله إلى يومٍ آخر، وهذا فقه المسألة في صوم يومي العيدين.


المقارنة بين عيدي الإسلام وبقية الأعياد
وبهذه المناسبة يا إخوان! في ذكر يومي العيدين، جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة وجد عند الأوس والخزرج أعياداً يحتفلون بها، وهذه عادة الأمم أنهم يجعلون أيام الخير أو المناسبات أعياداً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (لقد أبدلكم الله بهذه الأعياد يومين خيراً منها: يوم الفطر، ويوم الأضحى) ، وأبطل بقية الأعياد، وإن سميت اجتماعية أو شعبية أو غير ذلك، ولو تأملنا أيها الإخوة! في جميع مسميات أعياد العالم عند جميع الأمم لوجدناها تخيلاً وليست حقيقية، وسنجدها أعياداً في الذاكرة وليس في الواقع، بخلاف عيدي الإسلام، ومن هذه الأعياد التي يختلفون بها: عيد رأس السنة، وعيد الجلاء، وعيد الاستقلال، وهذه أعياد عند أهلها؛ لأنهم نالوا فيها الحرية من سلطة المستعمر، ونالوا خلاء بلادهم ممن كان جاثماً عليها، ولأمور أخرى سواء كانت دينية أو كانت دنيوية، ونقول: إن هذا الحدث الذي وقع عند الأمم لا يتكرر، ولم يقع إلا مرة واحدة يوم أن حدث، فمثلاً: عيد الاستقلال، الدولة التي نالت استقلالها نالته مرة واحدة، فيوم أن استقلوا احتفلوا به وصار ذلك اليوم عيداً عندهم، وموعده من السنة الآتية عيد الاستقلال مع أنه قد ذهب وانتهى، إذاً: فهو عيد للذكرى الماضية، وهكذا جميع الأعياد، أما في الإسلام فعيد الفطر يتكرر؛ لأنّا في كل سنة نصوم ونفطر، كل سنة نصوم ونعيّد، فعيد الفطر على هذا واقع فعلي وليس مجرد ذكرى وخيال، وكذلك عيد الأضحى، ففي كل سنة من الأمة من يحجون ويفيضون من عرفات مغفوراً لهم، فيكرمهم الله بعيد الأضحى.
إذاً: لم يأتِ عيد الفطر ولا عيد أضحى خيالاً أبداً، إنما هو واقع، فعيد المسلمين عملي، يصومون ويعيدون، ويحجون ويعيدون، أما بقية أعياد العالم كله، لا تتكرر على حقيقتها، ولكن على ذكرياتها، مناسبة العيد أنه هو اليوم السعيد الذي عاد على الأمة بخير جديد.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل أعياداً متعددة متكررة لأنها باطلة وقد انتهى مفعولها، وأصبحت على الذاكرة والخيال، وأبقى عيدي الإسلام لأنها عملية، يأتي موجبهما في كل سنة فتتجدد النعمة بمجيئهما، إذاً: من الناحية التشريعية إبطال الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الأعياد التي كانت عندهم أمر واقعي، والنهي عن صوم يومي العيدين أيضاً كذلك أمر واقعي وعملي، ولا ينبغي لعبد أن يعرض عن ضيافة المولى وإكرامه لعباده في هذين اليومين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [3]
دين الإسلام وسط بين الغلو والجفاء وبين الإفراط والتفريط، فهو ألزم المسلم بحقوق لله جل وعلا، وحقوق لنفسه ولأهله، فأمره بعبادات وحرم عليه الغلو فيها حتى لا يؤدي به ذلك الغلو إلى التقصير في أمور أخرى في حقه وفي حق من يعول، ومن أمثلة ذلك أن الشرع أمر بالصيام وندب إليه، ولكنه حرم المبالغة فيه؛ فحرم صيام الدهر، وحرم صوم العيدين، بل وأباح الفطر في الصوم الواجب إذا كان فيه مشقة كمشقة السفر والمرض والعجز.


حكم صيام أيام التشريق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل) رواه مسلم] .


سبب تسمية أيام التشريق بهذا الاسم
(أيام التشريق) التشريق: تفعيل من الشروق، من قولك: أشرقت الشمس، وسميت أيام التشريق تشريقاً؛ لأنهم كانوا في الإسلام وقبل الإسلام، تكثر لحوم الأضاحي والهدايا عن حاجتهم في يومهم، فيدخرون لحومها، فكانوا يشرحونها شرائح رقيقة وينشرونها على الصخور، أو على الحبال، حتى تتعرض إلى أشعة الشمس فتذهب عنها الرطوبة التي هي سببٌ في إفسادها، فيبقى اللحم على أليافه وخلاياه -كما يقال- وتركيبه الطبيعي، واللحم إذا تخلص من رطوبته يبقى لفترات طويلة، ويسمى (القديد) وكانت العرب تأكل ذلك، فكانوا يتزودون ويدخرون لحوم الأضاحي والهدي الزائد عن حاجتهم، سواء في ذلك من كان غنياً أو فقيراً، وسواءً مما زاد عنده مما ذبحه أو مما وجده زائداً عند غيره ومن هنا كانت تسمى أيام التشريق.
وبعضهم يقول: سميت أيام التشريق؛ لأنهم كانوا ينتظرون بالذبح حتى تشرق الشمس، أي: لا يذبحون في الليل وإنما بعدما تطلع الشمس ويطلع النهار.
ولكن التسمية الأولى هي الصحيحة العملية.
كم هي أيام التشريق؟ الجواب: بعضهم يقول: هي يومان لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] .
والآخرون يقولون: هي ثلاثة أيام، وهذا هو المشهور، وعلى هذا فإن أيام التشريق ثلاثة.


سبب النهي عن صيام أيام التشريق
نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق، وسيأتي بيان الاستثناء في حالات خاصة.
وقد بين علة النهي فقال: (أيام التشريق -أيام منى- أيام أكل وشرب وتبعل) ، لاحظوا يا إخوان هذا التنبيه! متى بدأ المحرم إحرامه؟ أقل ما يكون أنه قبل أسبوع، أو عشرة أيام؛ وقد جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الآفاقيين يأتون شعثاً غبراً) أي: مسافرين من بعيد، جائين من الشرق والغرب، رجالاً وعلى كل ضامر، (وأنتم في بيوتكم إلى أن يأتي اليوم الثامن وتحرمون) يعني: أنكم لم تشاركوا الحجاج في وعثاء السفر، ولم تشاركوهم في تفث الإحرام، فأنت أيها المكي! تخرج من بيتك ومن حمامك إلى منى، وغيرك يأتي وله شهر أو أقل أو أكثر، وهو يحل ويرتحل في إحرامه، وقد وجد العناء ووجد وعثاء السفر والتفث، وهو تعبان في هذه المدة كلها، (أحرموا إذا هلّ هلال ذي الحجة) يعني: جعل عليهم بعض صعوبة الإحرام حتى يشاركوا الناس في بعض مشاق الحج.
فإذا كان أقل مدة سيحرم فيها الحاج هي عشرة أيام، وهناك من له في الإحرام شهر كامل، فمتوسط مدة الإحرام عشرون يوماً، فإذا كان إنسان معه زوجته، في سيارة واحدة، على هودج واحد، يحل ويرتحل وهي أمامه، وهو لا يقربها، فإذا ما أدى النسك، فلا نضيق عليه أيام منى كذلك، وإنما نقول له: قد انتهى المحظور وحلت لك زوجتك.
وقوله: (أيام أكل وشرب) هل معنى هذا أن الأيام الماضية ليس فيها أكل وشرب؟ الجواب: لا، ولكن زاد المسافر ليس كزاد المقيم، فالمسافر يجتزئ بالذي يحصل، فإذا كان في منى ليس عنده شيء، وقد ذبح الهدي، وذبح الأضحية فما بقي إلا أن يأكل.
فإذا أكل وشبع وزوجته عنده وله عنها مدة عشرين يوماً في متوسط الزمان، فهو في حاجة إليها أكثر، ولهذا قال: (أيام أكل وشرب وتبعلٍ) ، تبعل: من البعل، والبعل هو الزوج، ويقال: هذا البطيخ بعلي، وتسمعون من أصحاب الحبحب قولهم: هذا حبحب بعلي، يعني: أنه وضع الحب وجاء المطر مرة واحدة وشبعت الأرض بالماء فتبعلت البذرة ونبتت واجتزأت برطوبة الأرض إلى أن أثمرت، إذاً: كذلك الرجل يبعل.
ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق، وهي من الأيام التي نهي عن الصيام فيها كل عام.
وأما يوم الشك فليس معيناً بذاته في كل سنة، فممكن أن تكون هناك شك وممكن أن لا يكون، وأما يوم عرفة فالذي هو قاعد في بيته يصوم وإنما منع صيام يوم عرفة بعرفة.
إذاً: الأيام الممنوع صومها في الحالات العادية يوما العيد ولا عذر لأحد في صومها ولا استثناء فيها مطلقاً، وأما أيام التشريق فسيأتي الاستثناء فيها، وعلى هذا تكون الأيام المنهي عن الصوم فيها طيلة العام بصفة رسمية، وبتشريع عمومي هي خمسة أيام: يوما العيدين، وأيام التشريق.
والله تعالى أعلم.


الرخصة في صيام أيام التشريق للحاج الذي لم يسق الهدي
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) ، رواه البخاري.
] .
لما قدم المؤلف رحمه الله أن الأصل هو المنع من الصوم في أيام التشريق، جاء بالحديث الذي فيه استثناء، والاستثناء يكون حادث بعد المستثنى منه، تقول أم المؤمنين عائشة وابن عمر رضي الله عنهم: (لم يرخص) والرخصة مأخوذة من الرخص وهو اللين كما يقولون: السعر الرخيص فالرخص هو: اللين كما قال الشاعر: ومخضب رخص البنان كأن أطرافه علم (ومخضب) أي: كف مخضوب بالحناء، (علم) والعلم هو: نوع من النبات لين يلف بعضه على بعض، يقول: كأن أصابعها نبات العلم لينة ليس فيها عظام، وهذا أجمل ما يكون في وصف الأطراف، فهنا الرخصة هي: اللين بعد الشدة، كما قال سبحانه وتعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائةٌ يَغْلِبُوا مِائتَيْن} [الأنفال:66] ، كان في البدء الواحد يغالب عشرة، ولما علم الله أن فيهم ضعفاً خفف عنهم وجعل الواحد يغالب اثنين، ومغالبة الاثنين أهون من مغالبة العشرة، وقال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ.
} [المائدة:3] الآية، ثم قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [المائدة:3] ، التحريم هو بالمنع وقد يجد الإنسان الشدة ويصل إلى حد الموت، والميتة عنده، والعزيمة والشدة تمنعه من أكلها، لكن جاءت الرخصة وخففت عليه، فإذا اضطر إليها فيأخذ منها ما يسد الرمق، فجاء اللين بعد الشدة.
إذاً: الرخصة هي: الإباحة بعد المنع مع قيام دليل المنع، فلما أباح الميتة للمضطر، لم يرفع حكم التحريم عن الميتة، لكن هذا لظروفه الخاصة خفف عنه، وأبيح له المحرم مع قيام تحريمه فعلاً، فلا نقول: إنها أصبحت حلالاً له وقد انتفى عنها حكم التحريم، بل هي محرمة، ولكن لظروفه ولاضطراره رخص الله له فيها.
إذاً: فإذا رخص الله في صوم أيام التشريق فمعنى هذا أن الأصل فيها عدم الرخصة، وعدم الصيام.
فلمن تكون الرخصة في صوم أيام التشريق؟ الجواب: تكون رخصة لمن لم يجد الهدي؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] .
هنا يقولون: (ثلاثة أيام) جاءت بقيد (في الحج) ، وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة، يقول البعض: وعشرة أيام من ذي الحجة، وبعضهم يقول: وخمسة عشر من ذي الحجة، ويقول آخرون: وذو الحجة كله، لكن هذا بحسب الأعمال التي يمكن أن تقع في ذي الحجة، فهم يتفقون على أن أعمال الحج ما عدا طواف الإفاضة، يجب أن تنتهي عند أيام التشريق، فإذا تأخر إنسان في رمي الجمار حتى خرجت أيام التشريق فلا قضاء، فلو ترك رمي الجمار الثلاث في اليوم الأول الأولى والوسطى والعقبة، وترك الجمار في يوم الحادي عشر من ذي الحجة الصغرى والوسطى والكبرى، وترك أيضاً رمي الجمار الثلاث الصغرى والوسطى والكبرى في الثاني عشر، وجاء يوم الثالث عشر وهو آخر أيام التشريق وقضى كل ما كان قد تركه من رمي الجمار، فقد أجزأه ذلك ولا شيء عليه، لكن إذا ترك الكل إلى يوم الرابع عشر فقد خرج يوم الرمي وفات عليه الوقت؛ لأن أيام الحج العملية قد انتهت، ولذا فإن أيام التشريق هي آخر فرصة للحاج أن يكمل حجه فيها، ولذا يقول الفقهاء: إن الشخص الذي يريد أن يتمتع ولا يستطيع أن يأتي بهدي التمتع فلابد عليه من إيقاع صوم الثلاثة الأيام في الحج متلبساً بالحج، وأول خطوة يتلبس فيها للحج هي إحرامه بالحج، فالذي جاء بالعمرة وليس عنده قيمة الهدي ينتظر إلى يوم ثمانية وهو يوم التروية، فيستأنف الإحرام للحج من جديد ثم يذهب إلى منى، ويبيت هناك ومن غد في يوم تسعة يذهب إلى عرفات، يقول الفقهاء: فمادام هذا الحاج يعلم من نفسه أنه لا يملك قيمة الهدي فعليه أن يحرم يوم خمسة، أو يوم ستة من ذي الحجة ويصوم ليوقع الصوم في الحج بإحرامه، فيصوم يوم ستة ويوم سبعة ويوم ثمانية، ثم يأتي إلى عرفات مفطراً، ثم يكون في منى مفطراً، فإذا فوت على نفسه تقديم الإحرام وإيقاع صوم الثلاثة الأيام في حجه لم يبق له إلا أن يتداركها في أيام التشريق؛ لأنها من أيام الحج، فهي الأيام التي تذبح فيها الضحايا، ويذبح فيها الهدي، وترمى فيها الجمار، فيصوم فيها إذا لم يستطع الهدي، وعلى هذا لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا لمن لم يجد هدي التمتع، فيصوم الثلاثة الأيام الواجبة عليه في الحج فيها، ويصوم السبعة إذا رجع إلى بلده.
إذاً: الأصل منع الصوم في هذه الأيام ولكن رخص به تخفيفاً على الحاج، وتداركاً لأمره.
والأصل في أيام منى هو الأكل والشرب، ولم يرخص في صومها إلا لحاجة وضرورة لمن لم يجد الهدي، ونجد للعلماء رحمهم الله مباحث فقهية تفريعية في هذا الباب يقولون: الحديث جاء في هدي التمتع، فلو أن إنساناً عليه دم غير التمتع كأن يكون قارناً، وكثير من العلماء يقول: القران تمتع، أو كان عليه دم آخر كأن كان محصراً ولزمه دم، فهل يصوم هنا في أيام التشريق، بعضهم يقول: لا؛ لأن هذه الرخصة خاصة بدم التمتع، وإذا كان حلق رأسه ولزمته فدية، فهل يصوم عنها هنا؟ قالوا أيضاً: لا، وكثير من العلماء يقول: يجزئه أن يصوم في أيام التشريق للتمتع أو للقران أو للإحصار، والله سبحانه وتعالى أعلم.


حكم صيام يوم الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم) ، رواه مسلم] هذه الأحاديث الآتية هي نهاية ما ذكره المؤلف في كتاب الصيام، في باب صوم التطوع وما نهي عن صيامه، وقد ذكر لنا ما يستحب صومه وهي ستة أيام من شوال مع رمضان، وعرفة وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس، وذكر لنا مما لا يصح صومه يوم العيدين، وأيام الشريق، إلا لمن لم يجد هدياً في التمتع، ثم جاء إلى يوم الجمعة، فجاء فيه بالنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
منطوق هذا الحديث هو النهي عن أن يخصص الإنسان ليلة الجمعة بقيام، أو بتلاوة، أي: بإحيائها بعبادة دون سائر ليالي الأسبوع، وكذلك النهي عن تخصيص صوم يوم الجمعة وحده بصيام دون بقية أيام الأسبوع، إلا إذا صادف يوم الجمعة يوم صوم أحدكم، مثلاً: إنسان متعود أن يصوم كل أول يوم في الشهر، أو كل أحد عشر في الشهر، أو كل واحد وعشرين في الشهر، كما كان يرى مالك رحمه الله: أن صوم ثلاثة أيام من كل شهر يكون على قسمين: قسم يوزع على عشرات أيام الشهر من كل عشرة أيام يصوم يوماً، والقسم الثاني: أن يصوم ثلاثة أيام في هذا الشهر من أول الأسبوع ويصوم ثلاثة أيام في الشهر الثاني من آخر الأسبوع، يعني: في الشهر الأول يصوم السبت والأحد والاثنين، وفي الشهر الذي يليه يصوم الثلاثاء والأربعاء والخميس ويقول: لا يهجر شيئاً من الأيام عن الصوم، فإذا كان يصوم يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، وهذه أيام منفردة فهو متعود أن يصوم هذه الأيام الثلاثة على انفراد، فصادف في بعض الأشهر أن يوم واحد هو يوم جمعة، أو يوم أحد عشر، أو يوم واحد وعشرين أنه يوم جمعة، فحينئذٍ لا بأس أن يصومه ولو كان منفرداً؛ لأنه ما صامه لكونه يوم الجمعة، وإنما صامه للوعد الذي قطعه على نفسه والعمل الذي داوم عليه، هذا منطوق هذا الحديث، وسبق أن أشرنا إلى أن مالكاً رحمه الله يقول: إنه لا بأس بصوم يوم الجمعة، ويقول: ولقد رأيت أهل العلم ببلدنا يتحرون صيامه، فقول مالك يدل على استحباب صوم يوم الجمعة مفرداً، وهذا الحديث يدل على النهي عن صومه مفرداً، وسيأتي هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم (نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) يعني: حتى لا تحصل الخصوصية.
والمسألة فيها بحث كما يقولون، قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار: وقد اختلفت الآثار الواردة في إفراد صوم يوم الجمعة، وساق النصوص التي جاءت بالحث على صومه وإباحة صومه وحده، قال: وروى أبو سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وما رأيته يوم الجمعة قط إلا صائماً) ، وكذلك روى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما رأيت رسول الله يوم الجمعة إلا صائماً) ، وذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يديم صوم يوم الجمعة، وذكر عن ابن عمر مثل ذلك، ثم جاء بالنصوص الأخرى التي فيها أنه لا يفرد صوم يوم الجمعة، وإنما يصام معه يوم قبله أو يوم بعده، من ذلك: أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفطر، وكان في يوم الجمعة فقال: (هلمي إلى الفطار فقالت: إني صائمة، قال: أصمت بالأمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري) .
فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم في قضية عينية بالذات، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه سئل وهو بمكة: هل سمعت رسول الله ينهى عن إفراد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إي ورب هذه البنية! أي: الكعبة.
وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (ما أنا نهيت عن صوم يوم الجمعة وإنما نهى عنه محمد صلى الله عليه وسلم) .
فهذه هي النصوص الموجودة من جانب في عدم إفراده، ومن جانب في صحة بل واستحباب إفراده، ويقول ابن عبد البر: إن بعض الآثار التي جاءت بالحث على صوم يومٍ قبله وصوم يومٍ بعده، في أسانيدها مقالات، وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوم الجمعة، فأجاب المانعون عن حديث أبي سعيد: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة مفطراً قط) ، قالوا: لعله كان يصوم يوماً قبله، أو يصوم يوماً بعده جمعاً بين النصوص، وكذلك الآثار، والذين يجيزون قالوا: هذا تأويل لم يأت في الحديث، ومظنة ليس عليها دليل.
إذاً: المسألة خلافية، والأولى في ذلك ألا يفرد وإن كان مالك رحمه الله ذكر أن أهل العلم في عصره كانوا يتحرون صومه، ويجعلون ذلك لفضيلة هذا اليوم، ولكن المانعون من صوم يوم الجمعة جاءوا بعلة وبسبب منع صوم يوم الجمعة فقالوا: لأنه يضعف الإنسان عن واجبات يوم الجمعة، فيقال لهم: فأنتم تجيزون صومه إذا صام معه غيره، وهذا يكون أشد ضعفاً؛ لأنه سيصوم يومين: يوم الخميس ويوم الجمعة، وسيصير في يوم الجمعة أشد ضعفاً مما قبله، إذاً: هذه علة غير صحيحة، والأولى والأقرب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن إفراد يوم الجمعة، فيه -كما يقولون- غلو في اليوم، والدين الإسلامي بعيد عن الغلو في الزمان وفي المكان، إلا ما جاء النص صريحاً فيه، فقد جاء تكريم مكة، وجاء تكريم بعض الأماكن، وجاء تكريم بعض الأزمنة كبعض الساعات والأيام والشهور، كل ذلك جاء بنص من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، فالذين قالوا: لا ينبغي إفراده قالوا: حتى لا يغالي بعض الناس فيه فيصبح يوم الجمعة كيوم السبت عند اليهود، لأن اليهود حرموا على أنفسهم العمل يوم السبت، فامتحنهم الله بالحيتان كما قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف:163] ، فيوم السبت كانت تأتيهم الحيتان شرعاً على وجه الماء، تتلاعب معهم، وفي غير السبت تختفي لا يرونها، فلم يقدروا أن يصبروا على هذا، فاخذوا الشباك يوم الجمعة، وألقوها في الماء وتركوها، وذهبوا إلى بيوتهم يوم السبت، وقالوا: نحن لا نشتغل، فلما كان يوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق بها من حيتان يوم السبت وأكلوها، ولما نهاهم الأحبار قالوا: نحن لا نعمل يوم السبت، بل نحن في البيوت، وما عملنا شيئاً، فكانت هذه فتنة عليهم، فالله سبحانه وتعالى انتقم منهم، وجعل منهم القردة والخنازير.
إذاً: الذين نهوا عن إفراد يوم الجمعة خافوا من الغلو الذي وقع فيه اليهود في يوم السبت، وهذا أقرب ما يمكن أن يعلل به، أما إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلم يكن مفرداً، إنما يكون كبقية الأيام صام في هذا اليوم كما صام في غيره، والذين ينهون عن إفراده بالصوم قالوا: لأنه يوم عيد، وقد جاءت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أن يوم الجمعة عيد، والذي يؤيد وجهة النظر الأولى: أن الله سبحانه وتعالى بين لنا: أن الإسلام لا رهبانية فيه، وأنه دين دنيا وآخرة، فهناك اليهود فرطوا في جانب الدين، وأفرطوا في جانب الدنيا، حتى احتالوا على ما حرم الله ليصلوا إليه كقضيتهم في يوم السبت مع الحيتان، بينما النصارى بالعكس، فرطوا في أمر الدنيا وبالغوا وغالوا في أمر الدين حتى تجاوزوا الحد، وكل منهما لم يفلح ولم يستطع أن يواصل السير بدينه إلى النهاية، وكانت من حكمة الله سبحانه أن ينقل الرسالة من أرض النبوات بالشام إلى الجزيرة العربية إلى العرب عن طريق إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ونشأ الرسول من ذرية إسماعيل، وجاء الإسلام وتلقته الأمة وكان من أمره ما كان، فهنا جاء التشريع الإسلامي مبعداً كل ما يمكن أن يؤدي إلى الغلو في أحد الجانبين، فمنع ما كان غلواً في أمر الدنيا، وما كان غلواً في أمر الدين، وأمر بالاعتدال قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، وسطاً في أعمالها، ووسطاً في أفكارها، ووسطاً في دعوتها، وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، فهذه الأمة الوسط المعتدلة المستقيمة هي بعيدة عن الإفراط والتفريط في الدين وفي الدنيا، وأعظم تطبيق عملي لهذه الوسطية ما جاء في سورة الجمعة، في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] ماذا يكون الحال؟ {فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي الجري ولكن المراد تأهبوا، وخذوا العدة، وتهيئوا {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، ((فاسعوا إلى ذكر الله)) وهذا دين، ((ذروا البيع)) وهذه دنيا، فلكلٍ مكانه ولكلٍ وقته، {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] فهل قال: اعتكفوا في المساجد، واجلسوا لذكر الله إلى آخر اليوم! وامتنعوا عن العمل؟ الجواب: لا، نحن قبل الصلاة كنا في الأسواق نبيع ونشتري، فلما جاء وقت الدين تركنا الدنيا وذهبنا إلى الصلاة، فإذا قضيت الصلاة وأدينا حق الله قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ولم يقل: ارجعوا، أو عودوا إلى أسواقكم، ولكن قال: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَ


الترخيص في صيام يوم الجمعة إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) ، متفق عليه.
] .
هذا أصح النصوص الواردة سنداً فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، وفيه النهي عن صوم يوم الجمعة وفيه استثناء جواز صوم يوم الجمعة إذا صام يوماً قبله، أو صام يوماً بعده، واليوم الذي قبل يوم الجمعة هو يوم الخميس، ويوم الخميس قد جاء النص في صومه بذاته، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي الاثنين والخميس؟ فقال: (أما يوم الاثنين فولدت فيه، وأنزل علي فيه) ولما سئل عن صومه يوم الخميس قال: (هذا يوم تعرض فيه الأعمال على الله، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) وأما يوم السبت فقد جاءت فيه الأخبار مختلفة أيضاً، فقد جاء النهي عن صوم يوم السبت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغها) وجاء النص: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد) ، وسيأتي إيراد ذلك وبيانه، إذاً: لما كان السبت قد جاء نهي عن صومه، فإذا ضم إليه الجمعة فقد انتهى النهي.
وجاءه في بعض الروايات: (أن السبت والأحد يوما عيد لليهود والنصارى، وأنا أحب أن أخالفهما فأصومهما) ، وعلى كلٍ يهمنا أن هذا الحديث المتفق عليه فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله وهو يوم الخميس أو يوماً بعده وهو يوم السبت، وبهذا ينتهي الإشكال وهذا خير ما يقال في هذه المسألة.


حكم الصيام بعد النصف من شعبان
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، رواه الخمسة واستنكره أحمد] .
عوداً على صوم شعبان، تقدم في أول كتاب الصيام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) ، وعلمنا أن العلماء بينوا أن السبب في ذلك حتى لا يضاف إلى رمضان ما ليس منه، وأن في ذلك أيضاً تحذيراً مما وقع من الغلو من بني إسرائيل، فقد كان صوم رمضان مفروضاً عليهم، ولكنهم أخذوا بالشدة، فأضافوا لرمضان يوماً في أوله، تأكيداً واحتياطاً، وأضافوا يوماً في آخره تأكيداً واحتياطاً، فصار الصوم اثنين وثلاثين، فلما طال الزمن ظن الجيل الآخر: أن أصل الصوم اثنان وثلاثون فزادوا يوماً في أوله احتياطاً، وزادوا يوماً في آخره احتياطاً، فصار الصوم أربعة وثلاثين، ومضى زمن وجاء الجيل الذي بعدهم، فظن أن أصل الصوم أربعة وثلاثون يوماً، وهكذا خمس مرات، حتى أصبح الصوم أربعين يوماً، ورمضان شهر قمري، فجائهم في فصل الصيف، فعجزوا عن صومه، فاتفقوا على أنهم يزيدون عشرة أيام ويجعلون صومهم خمسين يوماً ويؤخرونه عن الصيف، فغيروا طبيعة الصيام وصاروا يأكلون بعض الشيء ويقولون نحن صائمون، وأخروا شهر رمضان إلى فصل الربيع، فضاعت عليهم فضيلة الشهر بعينه، والمدة المفروضة التي فرضها الله فضاع عليهم الشهر، ثم لما جاء الإسلام ولكي لا تتكرر هذه الغلطة، حفظ الله رمضان، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم قبل رمضان يوماً أو يومين حتى لا تدخل في صلب رمضان، وحرم صوم يوم الشك كما قال عمار بن ياسر: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم) ، ومن الذي يجرؤ على عصيان أبي القاسم، فحفظ أول الشهر، ثم جاء إلى آخر رمضان، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم يوم العيد.
إذاً: أصبح رمضان محاطاً بسياج التحريم، فلا يقبل زيادة كما لا يقبل نقصاً، وعلى هذا حفظ لنا رمضان أكثر من ألف وأربعمائة سنة بحمد الله، ما زاد ساعة ولا نقص، وهذا بسبب عدم الغلو، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث فقال: [وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، رواه الخمسة واستنكره أحمد] .
قوله: (إذا انتصف شعبان) يعني: أن ما قبل النصف من شعبان لك أن تصومه، ولكن إذا جاء النصف من شعبان فكف عن صوم التطوع، أما صوم القضاء أو النذر، أو الكفارة، أو الصوم الذي هو مطلوب شرعاً فلا بأس؛ لأنك تصومه لطلبه، أما أن تتطوع من نفسك فلا، إذاً: نستطيع أن نقول توفيقاً بين تلك النصوص: أن أول النهي كان (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، ثم جاء التضييق أشد (لا تسبقوا رمضان بصوم يوم أو يومين) ويكون في هذا التدرج فنهى عن الصوم بعد منتصف شعبان حتى يمسك الناس قليلاً ويهونوا، ثم حرَّم وأكد التحريم فنهى أن يسبق رمضان بصوم يوم أو يومين؛ لأنه أشد خطراً، وبهذا يسلم لنا رمضان، وهناك من يقول: هل علي شيء إذا كنت أصوم ولا أدخل في رمضان شيئاً من غيره؟ نقول: كل هذه الاجتهادات إذا جاء فيها النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا قول لأحد، أما قضاء الفوائت فكما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنت يكون علي القضاء الأيام من رمضان فلا أستطيع صومها إلا في شعبان مراعاة لحق رسول الله مني) ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصوم في شعبان، فتنتهز فرصة صومه؛ لأنه إذا كان صائماً وهي صائمة فليس له حاجة، بخلاف ما إذا كان مفطراً وكانت نوبتها فقد تكون له حاجة إليها، وقد تقدم لنا أن المرأة لا تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه، أي: صوم التطوع، إذاً: من كان عليه قضاء من رمضان أو نذر أو كفارة فله أن يصومه إذا انتصف شعبان، أما مجرد التطوع لله فلا، حفظاً لرمضان.


حكم صيام يوم السبت ويوم الأحد
قال المؤلف رحمه الله: [وعن الصماء بنت بسر رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب، أو عود شجرة فليمضغها) رواه الخمسة ورجاله ثقات، إلا أنه مضطرب، وقد أنكره مالك وقال أبو داود هو منسوخ] .
هذا الحديث بصرف النظر عن اضطرابه أو نسخه، النهي فيه صريح عن صوم يوم السبت منفرداً؛ لأنه قد تقدم لنا أنه يمكن أن يصومه ردفاً للجمعة، فإذاً: النهي هنا إذا كان منفرداً؛ إلا في صوم المفروض، مثل لو كان على إنسان نذر عشرة أيام، أو كان عليه قضاء، أو كان في رمضان، فإن في رمضان أربعة أسبت.
إذاً: إفراده بالصوم منهي عنه في هذا الحديث، ثم أكد صلى الله عليه وسلم على عدم الصوم، ولو لم يكن عندك شيء فاذهب إلى شجرة العنب أو إلى غيرها وخذ منها لحاءها أي: قشرتها ومصها، مع أن شجرة العنب من أيبس الأشجار لحاءً، وغيرها من الأشجار في قشرتها ماء أكثر من قشرة العنب، ولكن المعنى: أنك تنظر نباتاً فيه ماء فتمصه حتى يصل هذا الماء إلى الحلق فيبطل الصوم، وفي هذا تشديد في النكير على صوم يوم السبت وحده، ولكن هذا الحديث استنكره مالك، واستنكره غيره، وقال غيره: إنه منسوخ بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم السبت والأحد، لماذا كان النهي قبل النسخ؟ يقولون: لأنه عيد للنصارى، وإذا صمناه عظمناه، وشاركنا النصارى في تعظيمه، وقد كان صلى الله عليه وسلم دائماً يخالف أهل الكتاب في عباداتهم.
إذاً: كان النهي عن صومه ابتعاداً عن محاكاة ومشابهة أهل الكتاب، وقد تقدم في عاشوراء أنهم كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان الرسول يصومه في مكة، ولما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن سبب صومهم له فقالوا: لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه شكراً لله فصمناه، فقال: (نحن أحق بموسى منكم) ، فصام يوم عاشوراء، ولما قيل له: نحن شاركنا اليهود في هذا العمل، قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) ، أي: حتى نغاير صورة صوم اليهود في عاشوراء.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: إنهما يوما عيدٍ للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم) ، أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة، وهذا لفظه.
] الذي يهمنا أن النهي عن صوم يوم السبت منفرداً قد نسخ، وأنه يجوز صوم كل من السبت والأحد وجميع أيام الأسبوع، فيجوز صومها منفردة إلا يوم الجمعة للنهي الذي تقدم في الحديث المتفق عليه: (إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) .


نهي النبي صلى الله عليه وسلم الحاج عن الصوم بعرفة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة) ، رواه الخمسة غير الترمذي، وصححه ابن خزيمة والحاكم واستنكره العقيلي] قد تقدم الكلام عن صوم يوم عرفة بصفة عامة، وأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين: سنة ماضية وسنة آتية، أو السنة التي هو فيها، وسنة مقبلة، وكان ذلك على الإطلاق، وهنا جاء النهي عن صوم يوم عرفة لمن يكون في عرفة، وبين العلماء أن النهي عن صوم يوم عرفة للمعرف إنما هو مراعاة لظروفه، ورفقاً به؛ لأنه كما قالوا: يبدأ في يوم ثمانية -أي: قبل عرفة بيوم- فيصعد إلى منى، ويروي من الماء في البرك -وهذا كان في السابق- ثم يبيت بمنى ويذهب إلى عرفات، ثم في عرفات أعمال عديدة، فهو يصلي مع الإمام جمعاً وقصراً، ثم يأتي إلى الموقف، ومن بعد الصلاة من الزوال إلى أن تغرب الشمس وهو مشتغل بالدعاء والابتهال إلى الله في هذا اليوم العظيم، فإذا كان هذا هو شأن يوم عرفة، فهل يتأتى لإنسان صائم أن يقوم بواجب هذا اليوم، من الاجتهاد في الدعاء والمسألة والمسكنة بين يدي الله، فضلاً عن أنه إذا غربت الشمس وكان صائماً سينزل حالاً إلى المزدلفة ويبيت، ثم يصلي الصبح، ويذهب إلى المشعر الحرام فيذكر الله كما هداه، وقبل أن تشرق الشمس ينزل إلى منى، وبوادي محسر يسرع قدر رمية حجر، ويأتي إلى منى، ثم يرمي الجمرة، ثم يحلق شعره، وينحر هديه، وبعد الحلق والنحر يذهب إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ثم يرجع إلى منى ليصلي الظهر، فهذا العمل الدائب لا يتأتى معه أداء مستوفى مع صوم يوم عرفة.
إذاً: كان الأولى أن يكون مفطراً في يوم عرفة ليتقوى بفطره على أداء واجبات هذا اليوم الفذ النادر في حياة المسلم، ثم وجدنا أن من هديه صلى الله عليه وسلم وهو القائل (إن صومه يكفر سنتين) ، أنه جاء إلى عرفات وهو مفطر، فقد جاء أنه قدم إليه قدح من اللبن بعد العصر فرفعه بيده والناس ينظرون فشرب.
إذاً: سيد الخلق وأقوى الناس في ذلك الوقت، كان مفطراً، وقد قال: (خذوا عني مناسككم) ، فكان يفعل الشيء وهو يحب غيره للتشريع والتخفيف على الأمة، لكن نقول: جاء في موطن آخر وقال: (خذوا عني مناسككم) ، والوقوف بعرفات أهم المناسك، كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) .
إذاً: الأولى للإنسان إذا كان معرفاً في النسك أن يكون مفطراً، ومع هذا وجدنا أن بعض السلف كان يحب صومه، ويتأول ذلك ويقول: النهي عن صومه إنما هو لمن كان يضعف عن أداء الواجب، فإذا كان يجد في نفسه قوة ولا يضيره الصوم، فليجمع بين الحسنيين: الصوم والنسك، ولكن نقول: القوة نسبية والتشريع عام شامل لا يستثني فرداً عن فرد، وسيد الخلق قد أفطر، وهو أقواهم، وقد كانوا في القتال إذا اشتد عليهم القتال وحمي الوطيس يحتمون به صلى الله عليه وسلم، ولما فروا يوم حنين ثبت ووقف وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وجميع القادة العسكريون حينما تشتد الأزمة يختفون؛ لأنه إذا ذهب القائد ذهبت المعركة، فيستتر ليديرها ويسترجع أنفاسه كما يقال، ولكن النبي صلى الله عليه يعلن عن نفسه! وعلى بغلته: أنا، أنا، سبحان الله! يعلن عن نفسه لمن لا يعرفه، وهذا لا يكون إلا من القوة والشجاعة والثبات وشدة اليقين بنصر الله.
إذاً: نقول: إن الأولى بدون شك لكل مسلم حضر عرفات في نسك أن يكون مفطراً كما فعل صلى الله عليه وسلم.


حرمة صيام الدهر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صام من صام الأبد) ، متفق عليه، ولـ مسلم من حديث أبي قتادة بلفظ: (لا صام ولا أفطر) .
] .
يختم المؤلف رحمه الله كتاب الصيام بخاتمة خير إن شاء الله، وختمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صام من صام الأبد) .
هل الكلام هنا خبر أم إنشاء؟ الإنشاء يكون دعاء، والخبر يكون إبطال للعمل، فهل هو يخبر أنه لا صام أو يدعو عليه أنه لا يصوم؟ الجواب: كلا الأمرين كما قال بعض السلف: (ويل لمن أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه لا صيام له، وويل لمن دعا عليه رسول الله ألا صيام له) .
وهنا يفسرون معنى صيام الأبد أو صيام الدهر، بأن الشخص يسرد الصوم ولا يفطر.


سبب النهي عن صيام الدهر
قال بعض العلماء: سبب الدعاء عليه أو إلغاء صومه أنه يصوم جميع الأيام بما فيها المنهي عن صومها، كالأعياد، وأيام التشريق، بدون حاجة، فهذا متعد ومخطئ، فلا صيام له، وبعضهم يقول: سبب الدعاء أن الذي يواصل الصوم يضعف أمام الواجبات الأخرى وهي أولى من نوافل الصوم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في رده على النفر الثلاثة الذين قال قائل منهم: أما أنا فسأصوم ولا أفطر، فخطب الناس وقال: (أما أنا فإني أصوم وأفطر،) ، وقال رداً على الثاني: (أقوم الليل وأنام) ، ورداً على الثالث: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، وقال للرجل الذي جاءه وسلم عليه فلم يعرفه فقال: (ألم تعرفني؟ أنا الذي جئتك العام الماضي، فقال له: وما لي أرى جسمك نحيلاً) ، أي: أنت كنت شباباً ونشيطاً، فلماذا نحلت؟ (قال: منذ فارقتك العام لم أطعم طعاماً نهاراً قط، قال: وما الذي حملك على تعذيب نفسك) ، أي: أن الله غني عن هذا، والذي نحل جسمه كهذا لا يستطيع أن يقاتل عدواً، ولا يزرع أرضاً، ولا يؤدي صناعة، ولا يؤدي حقوق الزوجة، ولا حقوق الأبوين، ولا حقوق الأولاد، ولا حقوق الجيران، وسلمان الفارسي لما جاء إلى أخيه في الإسلام أبي الدرداء وجد زوجة أبي الدرداء في لباس عادي، فقال: ما هذا يا أم الدرداء! أليس لك زوج؟ قالت: يا سلمان! أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في النساء، فنهاره صائم وليله قائم، فجلس حتى جاء أبو الدرداء فبات عنده، فلما تعشوا وناموا، قام أبو الدرداء يصلي فأمسكه سلمان وقال له: نم، فلما كان نصف الليل قام فقال له: نم، فلما كان قبيل الفجر قال له: قم الآن، فقاما فصليا جميعاً، ولما أصبحوا جاء بالفطار فقال له: كل، قال: أنا صائم، فغمس يده في الأكل وقال له: كل، فأكل، ثم قال له سلمان: إن لجسمك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك -أي: الزائر- عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه، فذهب أبو الدرداء واشتكى إلى رسول الله، وطبعاً هذه هي الجهة العليا للشكوى، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان يا أبا الدرداء! إن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) ، ومثل هذا جاء في قصة كعب بن سور، مع عمر في المرأة التي جاءت تشتكي إلى عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي ليله قائم، ونهاره صائم، فقال لها عمر: جزاك الله خيراً، مثلك من يثني بالخير، فالمرأة استحت وقامت لتذهب، وكان عنده رجل اسمه كعب بن سور فقال: يا أمير المؤمنين! المرأة جاءت لتشتكي، لا لتمدح، جاءت تشتكي زوجها، فدعاه وقال: هذا الرجل يقول: إنك جئت تشتكي، فقالت: إي والله! يا أمير المؤمنين! جئت اشتكي، أنا امرأة شابة، وهذا رجل يقوم الليل ويصوم النهار وليس له حاجة عندي، فاستدعى الزوج وقال لـ كعب: اقضِ بينهما، فقال: اقض بينهما أنت، فأنت الأمير وأنت القاضي، قال: ما دمت أنك فهمت قضيتهما فأنت تحكم بينهما، وهذا أساس قضائي، لا يمكن لأي قاضٍ في الدنيا أن يحكم حكماً عدلاً إلا إذا فهم القضية، وبعض الخصوم يكون عنده شيطنة، يلبس على القاضي حتى لا يفهم الحقيقة، ويجره إلى بعض الجوانب وبنيات الطريق، حتى يبعده عن جوهر القضية فيضيع، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا أرى أن يكون لها ليلة من أربع، ويوم من أربعة، وله ثلاث ليال يقوم فيها، وثلاثة أيام يصوم فيها إذا شاء، وأما اليوم الرابع فلا يصومه ولا يقوم ليلته، فقال له: لماذا قسمت ثلاثاً وواحدة؟ قال: أرى أن الله قد أعطاه حق الزواج بأربع، فلو كان متزوجاً بأربع نسوة، فحصتها واحدة من أربع، فقال عمر: والله! لا أدري مما أعجب من فهمك لقضيتها أم من حكمك فيها! اذهب فأنت قاضي أهل البصرة؛ لأن القضاء فهم.
يهمنا من هذه القصة أنها جاءت تشتكي، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول.
وكما يقولون: إذا هجر الزوج زوجته أو قصر معها فحصل منها شيء فهو مشترك معها.
وقوله: (إن لبدنك عليك حقاً) ، هنا يقول بعض الناس أيضاً: لا بأس بصوم الدهر لمن استطاعه، وليس عليه تبعات لأحد، كإنسان معزول ومقطوع وليس عنده شيء، وحياته على نفسه، والتمسوا لذلك مفاهيم من بعض الأحاديث، فقالوا: وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) ، وعلماء البلاغة يقولون: إن الكاف في (كأنما) أداة تشبيه والمشبه والمشبه به يشتركان في وصف واحد، ولكن الوصف يكون أقوى في المشبه به مثل زيد كالأسد أي: في الشجاعة، والشجاعة في الأسد أكثر منها في زيد.
فقالوا: إذاً: ما دام صوم رمضان وستة أيام من شوال مشبه بصوم الدهر فصوم الدهر جائز، لكن هذه تلفيقه؛ لأن هذا صوم مع صوم رمضان، وقد أفطر، ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نحل من الصيام قال له: (عليك بالأشهر الحرم صم منها وأفطر، ثم قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: أطيق أكثر، قال: صم الإثنين والخميس مع الثلاثة، قال: أطيق أكثر، قال: صم يوماً وأفطر يوماً، قال: أطيق أكثر، قال: خير الصيام صيام أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ، أما اليوم الذي يصوم فيه فيتذكر المساكين، وأما اليوم الذي يفطر فيه فيشكر نعمة الله عليه، فقوله صلى الله عليه وسلم: (خير) وخير من أفعل التفضيل وأصلها أخير، ولكن حذفوا الهمزة لكثرة استعمالها، (خير الصيام صيام أخي داود) ، وصيام نبي الله داود هو أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
إذاً: صيام يوم وفطر يوم أفضل من صوم الدهر، أما تشبيه صيام رمضان وست من شوال بصيام الدهر فهذا للمبالغة ولبيان عظيم أجر هذه الصورة في الصوم، وليس معناها تقرير صوم الدهر، وإذا جاء المفهوم وجاء المنطوق يقدم المنطوق؛ لأنه نص في الموضوع، فلما نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر كان النهي مقدماً على ما يفهم من عملية التشبيه ووجه الشبه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.