شرح بلوغ
المرام لعطية سالم كتاب الصيام
- مقدمة كتاب الصيام [1]
التنطع لا خير فيه، وقد زجرت عنه الشريعة وحرمته، ومن ذلك تقدم صوم رمضان
بيوم أو يومين احتياطاً، فهذا لا يجوز، والشريعة مبنية على التيسير،
والعبادات مبنية على التوقيف، وقد بين أهل العلم ذلك بياناً شافياً.
شرح حديث: (لا
تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان
يصوم صوماً فليصمه) متفق عليه.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا
القاسم صلى الله عليه وسلم.
ذكره البخاري تعليقاً، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان] .
كتاب الصيام من أعظم كتب الفقه دراسة وتحصيلاً وعملاً وتطبيقاً، والمؤلف
ابن حجر رحمه الله ساق في هذا الكتاب نحواً من خمسين حديثاً، اشتملت على كل
ما يتعلق بالصيام فرضاً أو نفلاً أداءً أو قضاءً.
وبدأ هذا الكتاب بهذا المبحث، وهو: النهي عن أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم
أو يومين من شعبان.
وعادة العلماء أن يعرفوا الباب لغة واصطلاحاً، فقالوا: الصوم لغة: مطلق
الإمساك: إمساك عن طعام، إمساك عن كلام {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ
صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] ، خيل صيام وخيل
غير صائمة، أي: صيام تمسك عن الجري، ويقول العرب عن الثريا: كأنها علقت
بمصام في مصامها، أي: في موقفها عن الحركة والسير.
والصوم شرعاً: مأخوذ من معنى الصوم لغة، وهو: إمساك مخصوص عن شهوتي الفرج
والبطن في زمن مخصوص، ألا وهو نهار رمضان، أو غيره إن كان نافلة.
البخاري رحمه الله بدأ في كتاب الصيام بإثبات المشروعية، ثم تكلم عن أحكام
الصيام فيما بعد، وعقد فوق الستين باباً لأحكام الصيام، وخمسة أحاديث في
ليلة القدر، وتسعة أبواب في الاعتكاف، ومجموعها حوالى ثمانين باباً، فما
توسع أحد في باب الصوم كتوسع البخاري رحمه الله.
متى شرع الصوم؟
متى بدأ الصوم؟ قالوا: أول ما شرع الصوم بعد الهجرة في يوم عاشوراء، (لما
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء،
فسألهم: لم تصومونه؟ قالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه
شكراً لله، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم -أي:
لأنكم غيرتم وبدلتم ما جاءكم به موسى، ونحن لا نغير ولا نبدل- فصامه وأمر
الناس بصيامه) ، وفي بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم لما نوى صيامه
بعث إلى مياه أهل المدينة منادياً: من كان ممسكاً فليبق على صيامه، ومن أكل
أو شرب فليمسك بقية يومه) ، وكان ذلك في السنة الأولى، ثم في السنة الثانية
فرض رمضان، ونسخ فرضية يوم عاشوراء، وأصبح على النافلة والندب والاستحباب.
ولا يعني سؤال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عن صوم يوم عاشوراء أنه
صامه تبعاً لهم، لا، فصوم يوم عاشوراء كان معلوماً عند العرب قبل الإسلام،
كانوا يصومونه ويجددون فيه كسوة الكعبة، فكان معلوماً لديهم، ولكن سؤال
النبي صلى الله عليه وسلم لليهود -وهم أهل كتاب- ليعلم ما هو السبب عندهم،
فذكروا له نجاة موسى من فرعون، فبين لهم أنه أحق بموسى منهم فصامه.
ويمكن أن يقال من جانب آخر: كان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء
المدينة مهاجراً يحب أن يوافق اليهود من باب المسايرة، وليبين أنه أتى بما
جاء به الأنبياء قبله، فكان يصلي ستة عشر شهراً من أول مقدمه المدينة
مستقبلاً لصخرة بيت المقدس، حتى أن اليهود استدلوا بذلك على أنه تابع لهم،
وكانوا يحتجون بصلاته صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، ويقولون: يصلي إلى
قبلتنا ويعيب ديننا!! فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب
وجهه في السماء يتطلع إلى تغيير هذا الحال، ويحب أن يوجه في صلاته إلى
الكعبة، فجاء قوله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] ، وتم بذلك
استقلالية الإسلام بكامله في معناه وفي شكله عما يتعلق باليهود.
أيضاً لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يصومون يوم عاشوراء صام، ولكن لم
يكن صيامه متابعة لهم حاشا وكلا، بل كان يُصام قبل ذلك، ويقولون: إن يوم
عاشوراء رست فيه سفينة نوح على الجودي، وهو اليوم الذي أخمدت نار النمرود
التي رمى فيها الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو اليوم الذي نجى الله فيه
موسى من فرعون، وهو اليوم الذي أخرج الله فيه ذا النون من بطن الحوت،
ويذكرون في التاريخ أحداثاً عديدة، والله تعالى أعلم، والذي يهمنا ما جاء
ثابتاً، وهو سبب صوم اليهود إياه؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون.
وهنا نقطة أرجو أن ننتبه لها، وأن نأخذها بعين الاعتبار، فيوم نجى الله فيه
موسى من فرعون يوم مبارك ومناسبة سعيدة ففيه نصرة الحق على الباطل، فحينما
تتجدد للمسلمين نعمة كهذه فإنها تستحق الشكر، ويغبط الإنسان فيها، فمن
شكرها أن تقدم للمولى سبحانه طاعة، لا أن تجعلها يوم لهو ولعب، وتخرج عن
الآداب الإسلامية.
ذكر ابن هشام في السيرة: أن النجاشي لما هاجر إليه أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم، وكان من أمرهم ما كان، وأعطاهم الأمان والحرية في بلاده، فإذا
في يوم من الأيام يستدعيهم، فخافوا ما الذي حصل؟! فلما دخلوا الديوان أذن
لهم في الدخول عليه في المجلس الخاص الذي هو فيه، فلما دخل أصحاب رسول الله
على النجاشي، وكانوا يظنونه في الهيئة والهيبة والسلطة والسلطان؛ فهو ملك،
فإذا بهم يجدونه جالساً على التراب، لابساً المسوح، والمسوح نوع من اللباس
خشن يتخذه بعض العباد للعبادة، ابتعاداً عن ترف القطن والكتان والحرير
المحرم، زيادة في الخشوع والخضوع بين يدي الله، ورءوه حاسراً رأسه، فلما
رءوا هذا المنظر ظنوا أن الملك قد وقعت به مصيبة، فقال: أتدرون لم دعوتكم؟!
قالوا: لا -والله- عجِّل، لماذا دعوتنا؟ قال: في هذا اليوم أتاني خبر بأن
النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد لقي عدوه من المشركين في أرض يقال لها:
بدر، كثيرة الأراك، ترعى فيها الإبل، ونصره الله على عدوه، وقد جاء عن عيسى
عليه السلام أنه قال: إن الله يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يظهر منه
التواضع، فلهذا تجدونني على ما أنا عليه على تراب بدون فراش، وفي مسوح لا
في لباس الملك، حاسر الرأس لا ألبس عمامة، فمظاهر الذلة والخضوع إلى الله
كلها تجمعت فيه.
وهكذا: إذا تجددت للمسلمين نعمة فيها نصر الحق على الباطل، كنعمة نجاة موسى
من فرعون، وقد يقول إنسان: لقد تجددت النعم في الإسلام زمن رسول الله، فهذا
يوم بدر يوم الفرقان، جعله الله فتحاً، وجعله الله فرقاناً بين الحق
والباطل، فإذا كان الأمر كذلك فهل الرسول صام يوم بدر؟ نقول: لا، هذه أمور
يتوقف فيها على الشرع، إثباتاً أو نفياً، فهو مقدم على كل رأي، وما لم يكن
فيه نص، ولم يكن فيه أمر أو نهي، وكان مجرد تجدد نعمة؛ فإن على الإنسان أن
يشكر الله على هذه النعمة بالقيام بطاعة لله، لا كما نجعل بعض المناسبات
أعياداً بلعب وبطرب وبلهو!! لا، ليس هذا من باب التعبير عن شكر النعمة، بل
التعبير الحقيقي عن شكر النعمة وشكر المنعم سبحانه هو أن نذل إليه، ونخضع
بنوع من أنواع العبادات التي يحبها، والتي قد شرعها.
إذاً: كان صوم يوم عاشوراء هو بداية الصيام، ثم فرض صوم رمضان ونسخ فرضية
عاشوراء، وبقي صيامه على الندب.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أراد مخالفة اليهود في صوم هذا اليوم،
فندب إلى صوم اليوم التاسع مع اليوم العاشر؛ ليكون مغايراً في الصورة
والهيئة لما كان عليه اليهود في صومهم.
ولما شرع الصوم في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
[البقرة:183] بين أنه كتب على من قبلنا ثم بين عدده: {أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] ، فبعض العلماء يقول: أياماً معدودات هي سوى
رمضان، كما جاء في الأحاديث: صوم الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، أو
صوم ثلاثة أيام من كل شهر على ما في رواية أبي هريرة، ومالك يقول: ثلاثة
أيام من كل شهر، من كل عشرة أيام يوم: يوم واحد، ويوم إحدى عشر، ويوم إحدى
وعشرين، والحسنة بعشر أمثالها.
والبعض يقول: (أياماً معدودات) هي بعينها شهر رمضان، ولكن جاء التكليف
أولاً بصورة التخفيف: (أياماً معدودات) ، عليك الصيام، فتقول: سيكثر
الصيام؟ قال: لا، لا، بل أيام، فيستقبله المكلف في صورة التقليل؛ لأن
الأيام جمع قلة، فتهون عليه، كما في قصة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ
دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] ، ثم لما اطمأنت النفوس، وأحبت الصوم
جاءهم بكماله: ((شهر رمضان)) ، وبين سبحانه أحكام هذا الشهر وفضله.
إذاً: كانت بداية الصوم بالتخفيف والتدريج، ثم أكمل الشهر وأكملت الفرائض،
وانتهى الأمر كما جاء في قوله سبحانه في ختام عمره صلى الله عليه وسلم في
حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] ، ومن هنا يقول مالك رحمه الله: ما كمل
لا يحتمل زيادة، ولا يجوز فيه النقص؛ لأنك إذا زدت عليه كأنك تقول: الخبر
بالإكمال غير صحيح، فبقي عليه هذه حتى يكتمل اكتمالاً تاماً، فهذا خطأ،
ولهذا كان مالك يقول: من سن سنة وظن أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان
الرسالة؛ لأن الله يقول: ((وأكملت)) ، وهذا يأتي ويقول: بقي هذه، فهذه الذي
جئت بها أنت هل محمد صلى الله عليه وسلم يعرفها أو لا يعرفها؟ إن كان
يعرفها ولم يخبرنا بها فيكون قد كتم، وإذا كان لا يعرفها، فشيء لم يعرفه
محمد بن عبد الله هل تعرفه أنت؟! إذاً: شهر رمضان لا يقبل نقصاً ولا يقبل
زيادة، ومن هنا افتتح المؤلف مبحث باب الصيام.
حرمة تقدم رمضان
بصيام يوم أو يومين احتياطاً
يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا -أو لا تتقدموا، المعنى واحد- رمضان
بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) مثلاً: كان لك أمر مهم
جداً، ونذرت لله إن قضاه الله لك فثاني يوم تصوم، ولا تدري متى يأتي، ولا
متى يقضى، فقضي لك يوم السابع والعشرين من شعبان، ففي الغد سيكون يوم ثمان
وعشرين، وفي الحديث: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين) ، لكن يجوز لك الصيام
بصفة خاصة؛ لأنك ستصوم قبل رمضان بيوم أو بيومين لا لرمضان، وإنما لنذرك
الأول الذي التزمت به، فلا دخل لصومك مع رمضان.
إذاً: لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إذا كان نافلة في شعبان، فهذا
ممنوع؛ لأنه إذا فتح باب النوافل قبل رمضان بيوم أو يومين، واستمر الناس
على ذلك؛ سيظن الناس بعد زمن طويل أن اليوم واليومين من رمضان، فيزيدون
فيه، والزيادة مرفوضة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا انتصف شعبان فلا
تصوموا) ، لا يتطوع من نصف شعبان، من خمسة عشر شعبان إلى رمضان لا يتطوع،
إلا إذا كانت له نافلة ثابتة، كان يصوم الإثنين والخميس، والإثنين والخميس
ستأتي في الأسبوع الأخير من شعبان، فيصوم؛ لأنه صامه على نافلة سابقة، أما
إذا كان لا يصوم الإثنين والخميس، ولا كان يصوم نوافل، ويوم أن انتصف شعبان
قال: أريد أن أصوم، نقول له: لا.
وقد جاء التشديد كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا: من صام اليوم الذي يشك
فيه فقد عصى أبا القاسم، ونبقى مع حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو
يومين) .
جميع أركان الإسلام محفوفة بزمن، فمثلاً: الصلاة قال الله عنها: {لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ،
{كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فلا يصح
أن تصلي قبل دخول الوقت، ولا يجوز لك أن تؤخرها حتى يخرج الوقت، فإن خرج
الوقت تكون قضاءً وليست أداءً، كذلك الحج قال الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وكذلك الزكاة {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} [الأنعام:141] ، وفي الحديث: (إذا حال عليه الحول) ، وبعض
العلماء يقول: لا يجوز إخراج الزكاة قبل حولان الحول؛ لأنها لم تجب، ومالك
يقول: يجوز تقديمها لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس
زكاة سنة مقبلة، فأخذ منه زكاة السنة المقبلة لحاجة طرأت، وهذه على غير
العادة.
فجميع الأركان محددة ومقيدة بزمنها، فرمضان مقيد بالزمن، وقد حدث في الأمم
الماضية أنهم صاموا اليوم واليومين المنهي عنهما هنا، وقالوا: نصوم يوماً
قبله احتياطاً له، ونصوم يوماً بعده احتياطاً له، فكان الصوم الرسمي
ثلاثين، وقالوا: للاحتياط نصوم يومين: يوم في الأول، ويوم في الآخر، ومضى
الزمن، وطالت المدة، فدخل الاحتياطي في الأصل، وصار الصوم الرسمي اثنين
وثلاثين، ثم جاء من بعدهم وهم لا يعلمون بدخول الاحتياطي، وظنوه أنه رسمي،
فقالوا: نصوم قبله يوماً احتياطاً، ونصوم بعده يوماً احتياطاً، فصاموا
أربعة وثلاثين يوماً، اثنين وثلاثين رسمي، ويومين احتياطاً، فطال الزمن حتى
دخل الاحتياطي الثاني في الرسمي، وظن الناس أن الصوم أربعة وثلاثون يوماً،
فقالوا: فلنحتاط، فصاموا يوماً قبله ويوماً بعده، وهكذا خمس مرات، حتى
زادوا عشرة أيام.
والأهلة تدور مع فصول السنة، فرمضان تارة يأتي في الربيع، وتارة يأتي في
الشتاء في شدة المطر، وتارة يأتي في الصيف، وأذكر في هذه البلدة المباركة
أن الناس مرة كانوا يصومون ستة عشر ساعة، كان النهار طويلاً والليل قصيراً
في شدة الحر.
وبعض الأمم السابقة زادوا في رمضان حتى صار أربعين يوماً، فجاءهم في شدة
الحر، فعجزوا عن الصيام، فقالوا: الحر شديد، ونحن لسنا قادرين على صيامه،
فننقل الصوم عن الأشهر القمرية إلى الأشهر الشمسية، ونزيد عشرة أيام، فصار
خمسين يوماً، وجعلوا الصيام عن أشياء معينة عن كل ما فيه الروح: الغنم
والدجاج والسمك، والأشياء النباتية يأكلونها، يعني: صيام لعب، يأكل من
النباتيات، ويأكل من الخبز، ويأكل من الفاكهة، فكيف هذا الصيام؟! فعندما
أخطئوا بالزيادة في رمضان، وعجزوا عنه، تحيروا ماذا يفعلون؟ فانتقلوا إلى
الأشهر الشمسية فضاع عليهم الشهر، فخوفاً من أن تقع الأمة في مثل هذه
الخطيئة وضع لرمضان سياج؛ لا أقول: من حديد أو من فولاذ، بل أقوى من ذلك
كله، في أوله لا يمكن أن تتخطاه، ممتد إلى السماء، وآخره لا يمكن أن تزيد
فيه، فجعل اليوم الذي يشك فيه محرم صومه، فلا يصام المتردد بين شعبان
ورمضان، وجعل في نهايته يوم العيد، ويحرم بالإجماع صوم يوم العيد، إذاً:
سلم رمضان من الزيادة في أوله، وسلم من الزيادة في آخره، ولهذا -أيها
الإخوة- بفضل من الله ونعمة من الله أنه قد تكرر رمضان أكثر من ألف
وأربعمائة سنة، ويأتي وكأنه شرع، لا زيد فيه ساعة، ولا نقص منه ساعة، وإنما
حفظ بهذه السنة النبوية الكريمة فلا يتقدم بصوم، وكذلك لا يتبع بصوم، ولابد
أن يفصل بين رمضان وغيره كما جاء في حديث: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من
شوال) ، ليست متابعة ملازمة، بل لابد أن يفصل بينهما، وأقل شيء بصوم يوم
العيد، وإن زاد الفصل فلا مانع، ويهمنا أن هذه السنة النبوية جاءت حفظاً
لرمضان عن أن يدخله زيادة في أوله، أو يتبعه زيادة في آخره، (لا تقدموا
رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان له صوم فليصمه) ؛ لأنه إذا كان له
صوم يصومه فهو في هذه الحالة سيصوم يوم ثمانية وعشرين أو تسعة وعشرين من
شعبان، ولا دخل له في رمضان، إنما يصومه لصومه الذي التزم به، كالنذر يصادف
هذا اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شعبان، وبهذا حفظ رمضان، ونحن على
هذا النعمة، ولله الحمد.
حرمة صوم يوم الشك
الحديث الثاني: (من صام اليوم الذي يشك) ، يقول علماء المنطق: التشكيك هو
دوران المعنى على أمرين متساويين، انظر إلى توءمين متشابهين، أقول: هذا
علي، لا، هو أحمد، تساويا في الشكل، والذي لا يعرفهما حقيقة كالأم والأب
يتردد، لأن بين أحمد وعلي مائة في المائة تشابه، لكن لو كانت هناك قرينة
فلا إشكال، فإن ناداه: ما اسمك؟ قال له: علي.
زال الشك، وتميز، فإذا كان الشيء لا يحتمل إلا أمراً واحداً فهذا علم، أي:
أن المعلوم لا يحتمل إلا معنىً واحداً، فحينما نظرنا إليه دون أن نسأله عن
اسمه، كنا مترددين شاكين بين علي وأحمد، فنميز بالتدريج، فإذا تكلم وكان
الصوت بينهما متفاوتاً، فلما سمعنا الصوت بدا لنا أنه علي، لوجود قرينة،
فوجود القرينة في أحد الجانبين المتساويين تجعل أحدهما ظناً، والثاني
وهماً، لما سمعنا صوته، وكنا نعرف صوت علي الذي نعرفه، لكن ما زالت الشبهة
قائمة، فكونه علياً هذا ظن، والظن قريب من العلم، وكونه يحتمل أن يكون أحمد
هذا وهم، فقوي جانب كونه علياً، إذاً: القرائن ترجح أحد الطرفين، وترفع
الشك، ويكون الراجح ظناً، والمرجوح وهماً.
وإذا لم يكن هناك اشتباه فلا إشكال: من هذا؟ هذا صبري، ليس له توءم، ولا
نختلف فيه، فصبري هو صبري، فهذا هو علم.
وعلى هذا فاليوم الذي يشك فيه هو اليوم الدائر باحتمالين متعادلين بين كونه
نهاية شعبان أو كونه بداية رمضان، ويوضح هذا أنه معلوم بالإجماع أن الشهر
القمري لا ينقص عن تسع وعشرين يوماً، ولا يزيد عن ثلاثين، فإذا تيقنا دخول
شعبان، ورأينا الهلال يوم واحد شعبان، ومشينا معه إلى أن أكملنا تسعة
وعشرين من شعبان، فلما أكملنا تسعة وعشرين من شعبان فاليوم الذي من غد،
يمكن أن يكون ثلاثين شعبان، ويمكن أن يكون واحد رمضان، فيكون عندنا شك،
ولكن متى يقع الشك؟ هل كل يوم ثلاثين شعبان يحصل فيه شك؟ لا، يكون الشك إذا
كان ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم، ولم نر الهلال، فلو رأينا الهلال
لكان يوم غد رمضان يقيناً، وارتفع الشك، فإذا كان في ليلة الثلاثين من
شعبان الجو صحو لا غيم فيه، فنحن بين أحد أمرين: إما أن نرى الهلال ولا شيء
يحجبه، وإما ألا نراه، فإن رأيناه فلا شك عندنا، وإن لم نره فلا شك عندنا؛
لأن السماء صحو، فإن قدر وجود الهلال رؤي، فلا يكون هناك شك، وإن لم يظهر
الهلال علمنا أن الغد تتمة شعبان، وليس عندنا شك.
إذاً: إذا كانت السماء صحواً ليلة الثلاثين من شعبان فلا شك؛ لأنه إما
رمضان بالرؤية، وإما شعبان لعدم الرؤية.
إذاً: ليلة الثلاثين من شعبان إذا كانت صحواً فلا شك، فإذا كانت ليلة
الثلاثين من شعبان فيها غيم يحجب السماء، فيمكن أن الهلال ظهر ولكن يحجبه
السحاب، ويمكن أنه لما يظهر، فالاحتمال متعادل، فهنا يكون الشك، فإن رئي
زال الشك، وإن لم ير بقي الشك على ما هو عليه، ففي هذه الحالة ماذا نفعل
غداً؟ هل نصوم أو نترك الصوم؟ إن صمنا غداً نكون قد صمنا يوم الشك، ومن صام
اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، يا سبحان الله!
عبادة ويكون من يقوم بالعبادة عاصياً! نعم؛ لأنه لم يوقعها في محلها؛ لأنه
أتى بها على غير ما شرعت، والعبادة إذا لم تكن مشروعة فهي باطلة.
فأعظم ذكر لله هو قراءة القرآن، وما عبد الله بشيء أحب إليه مما خرج منه،
فهو كلام الله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فهل يجوز لك وأنت
أقرب ما تكون إلى الله أن تتعبد الله بالقرآن وأنت ساجد؟ أليس أحب شيء إلى
الله كلامه؟ لكن نهيت عن قراءة القرآن في السجود، فإذا قرأت القرآن في
السجود، فهل تقول: أنا أعبد الله بأحب شيء إليه؟! لا، أنت جئت بما يكره،
فيجب أن تكون العبادات على قاعدة التوقيف كما قال الفقهاء، يعني: نتوقف
فيها إلى أن يأتي النص: افعل، لا تفعل.
فهنا: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى) ، وهل عصى أميراً أو مأموراً أو
ملكاً أو وزيراً؟ عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] أي: ومن عصى
الرسول فقد عصى الله، وطاعة الرسول من طاعة الله {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
إذاً: لماذا هذا التشديد، وجعل العبادة معصية؟ لئلا يدخل في رمضان ما ليس
منه، هذا تقرير المبدأ، ولكن نحن كطلبة علم، قد نرجع إلى المكتبة ونجد
أقوالاً أخرى، ونقرأ في الموسوعات فنجد أن البعض يقول: يصام اليوم الذي يشك
فيه احتياطاً لرمضان، وقال بعض السلف: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من
أن أفطر يوماً من رمضان، إذا جئنا إلى الفلسفة العقلية يمكن أن نجد لها
مجالاً، ولكن لا، حتى العقل يردها، فأنت أتريد أن تجعل احتياطاً لرمضان؟
جزاك الله خيراً، وبارك الله فيك، فهل أنت أشد حرصاً على رمضان من رسول
الله؟ إذاً: العقل يقول لك: لا، أنت غلطان؛ لأن الرسول أشد احتياطاً منك،
والرسول أشد حرصاً على رمضان منك، وقد نهاك أن تصوم هذا اليوم احتياطاً كما
تقول، إذاً: لا نحتاط بصيامه.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [2]
الشريعة الإسلامية مبنية على السماحة والتيسير، ومن ذلك جعلها العبادات
علامات يعرفها العامة والخاصة، فالصوم لا يجب إلا برؤية الهلال، فإن لم يُر
فقد أغلقت الشريعة باب التنطع، وأوجبت أن يتم شعبان ثلاثين يوماً، وبهذا
ينتظم الصوم، ويزول الشك والارتياب، وتحصل الطمأنينة والانشراح.
بطلان صوم يوم الشك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: الإمام مالك رحمه الله يقول: يمتنع صوم يوم الشك، حتى لو أن إنساناً
قال: أنا أصومه على أنه إن كان من رمضان فقد صمت رمضان، وإن لم يكن من
رمضان وثبت أنه من شعبان فأنا أعتبره نافلة، يقول مالك: لو فعل ذلك لا يصح
له رمضان إن كان رمضان، ولا يصح له نافلة إن كان من شعبان، يعني: أتعب نفسه
بالجوع والعطش بدون فائدة وبدون مقابل، لماذا؟ قال: لأن صوم الفرض لابد فيه
من تبييت النية جازماً، أما أن تقول: إن كان وإن لم يكن فلا يصلح، مثل أن
تأتي في الصلاة وتكبر تكبيرة الإحرام: الله أكبر.
ولو أنك قلت: الله أكبر.
ونويت لو دق إنسان الباب لتركت الصلاة، وذهبت إليه، أو قلت في نفسك: لو
ناداني إنسان لانصرفت من الصلاة وذهبت إليه، لو حضر هذا الاعتقاد عند
تكبيرك للإحرام لا تنعقد الصلاة؛ لأنها مفروضة على الجزم والقطع، وأنت هنا
تنوي إن كان من رمضان فرمضان! لا يا أخي! لا يقبل الله منك هذا، يجب أن
تكون النية لرمضان قطعاً، وأنت لست جازماً أنه رمضان قطعاً، أنت عندك شك.
فإن قال: أجعلها نافلة.
قلنا: كلا، أنت لم تنو النافلة، أنت شركت بين النافلة والفرض، وهذا لا
يصلح.
إذاً: لا ينبغي لأحد أن تحدثه نفسه أن يصوم اليوم الذي يشك فيه احتياطاً أو
تقديراً أو استعداداً أو بأي معنى يخطر بالبال؛ لأن الرسول صلى الله عليه
وسلم نهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه.
هذا ما يتعلق باستقبال رمضان وحفظه وصيانته من أن يتطرق إليه زيادة في أوله
أو زيادة في آخره، فيضيع عنا الشهر، وبحمد الله أنه بهذه السنة المتواترة
بقي رمضان على ما هو عليه، ونعمة من الله أن تظل الحالة على ما هي عليه،
يتطلع الناس إلى الرؤية، ويوجد من يعرف مطالع القمر ويتحرى رؤيته، ونصوم
على الرؤية، ونفطر على الرؤية.
لا تجوز الزيادة في
الفرض
ومن فوائد هذين الحديثين: أنه لا ينبغي أن يزاد في الفرض باسم التطوع، كما
سئل مالك رحمه الله: أراد إنسان أن يخرج زكاة الفطر -وهي صاع- فأراد من باب
القربة أن يخرج صاعاً ونصف؟ قال: لا، ليفصل الفرض -وهو الصاع-، ثم يتطوع
بما شاء.
وهذا من بُعد النظر والفقه؛ لأننا لو تساهلنا وقبلنا الزيادة على الفرض،
ستأتي زيادة أخرى، ويزيد آخر، حتى يضيع الحد الأساسي المفروض، وتصبح
المسألة اجتهادية لا فرضية، وهكذا إذا أراد في الطواف أن يزيد شوطاً، أو في
السعي أن يزيد شوطاً تطوعاً، فيقال له: لا، أد الفرض الواجب أولاً، ثم افعل
ما شئت من نوافل، وينبغي الحفاظ على ما هو مشروع في حدوده.
والأصوليون يبحثون هذه المسألة فيما إذا كان الفرض والنفل مندمجين ولا فصل
بينهما، فهل الجميع يكون فرضاً أو يجزئ من مجموع ذلك الفرض ويلغى الباقي؟
ومثلوا لذلك في الركوع والسجود، فالقدر الواجب في الركوع هو قدر الطمأنينة،
وقدره بعض العلماء بثلاث تسبيحات، فإذا أطال في ركوعه بما يسع ثلاثين
تسبيحة فهل هذا الركوع الطويل كله هو الفرض في الصلاة أو أن الفرض منه
مقدار الثلاث تسبيحات والباقي يعتبر تطوعاً؟ الأصوليون يختلفون في ذلك،
وأكثرهم يقول: الفرض معتبر بقدره، وما زاد عنه فهو تطوع.
اليقين لا يزول
بالشك
حديث: النهي عن صوم يوم الشك؛ هناك قاعدة أصولية أخرى، وهي: أن اليقين لا
يرفع بشك، فإذا كنا في شعبان فنحن على يقين من الفطر، فإذا حصل شك في يوم
الثلاثين من شعبان، ولم نتبين دخول رمضان من غيره، فنحن على يقين سابق وهو:
فطر شعبان، فنستمر على هذا اليقين حتى يأتي يقين آخر ينقلنا عنه، واليقين
الآخر إما برؤية، وإما بإكمال العدد كما سيأتي.
وفي نهاية رمضان إذا حصل غيم كما حصل في دخول رمضان فاليقين لا يرفع بشك،
فنحن في رمضان على يقين من الصيام، فإذا لم يأت يقين ينقلنا من الصوم إلى
الفطر فنبقى على اليقين وهو الصوم، حتى نستيقن ثبوت شوال بعدد أو برؤية،
وقدمنا عن مالك رحمه الله أن من بيّت النية لليوم الذي يشك فيه على أنه إن
كان رمضان فلرمضان، وإن لم يكن رمضان فنافلة في شعبان، لو ثبت أنه من رمضان
لم يجزئه صوم هذا اليوم؛ لعدم اعتبار تلك النية؛ لأنه لم يجزم ولم يقطع
بها، ولم يكن على يقين من رمضان، ولا يحسب له صوم نافلة؛ لأنه أيضاً لم
يجزم بنية النافلة.
متى نصوم رمضان؟
نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتقدم رمضان بصوم، ونهانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن نصوم اليوم الذي يشك فيه، فمتى نصوم؟ هنا نذكر منهج
الإسلام في بيان التوقيت لكل عبادة مؤقتة، العبادات المؤقتة بالنص هي
الصلوات الخمس، وشهر رمضان، والحج، والعمرة لا توقيت فيها، ولكن جاء توقيت
فيها بالمنع: فتمنع العمرة للحاج في يوم عيد الأضحى، وفي يومين من أوائل
أيام التشريق باتفاق، والخلاف في ثالث أيام التشريق، والمانعون يقولون: هذا
اليوم ثالث أيام التشريق، والحاج مشغول فيه برمي الجمار.
وبعضهم توسط وقال: إن هو قد رمى وانتهى وتعجل فلا مانع، والمانعون يقولون:
لا، وإن تعجل فقد تأخر غيره، فهو يوم محسوب للرمي، فلا يعتمر في ذلك اليوم،
أما ما عدا ذلك فالسنة كلها وقت للعمرة، سواء تكررت على رأي المالكية أو لم
تتكرر، إذاً: العمرة لا وقت لها.
والحج -كما أخبر الله- سبحانه أشهر معلومات، ومن هنا نتأمل علامات التوقيت،
فنجد أن المولى سبحانه ربط المفروض بالتوقيت بعلامات كونية يستوي فيها
العامي والمتعلم، بل إن البدوي أعرف بها من الحضري؛ لأنها ألصق بها في
حياته، أما رمضان فجعل الله سبحانه وتعالى لثبوته الهلال، والهلال أمر كوني
يظهر في كبد السماء، ويراه القاصي والداني، فكل من أعطاه الله نعمة البصر
يراه، والأعراب أقدر على رؤيته من الحضر؛ لأن أهل الحضر قد تحجبهم عن رؤيته
أنوار الأجهزة الحديثة، أما الأعرابي فإذا غربت الشمس فليس عنده مصابيح
كهربائية ولا غيرها، فتستمتع عينه بظلام الليل، وذلك أقوى لها؛ ولذا قال
صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، على ما سيأتي تفصيل
الكلام في الرؤية وغيرها.
التوقيت الهلالي
التوقيت الهلالي هو المعتبر في جميع معاملات المسلمين وعباداتهم؛ ولذا نجد
في القرآن بيان تشريع الصوم وتوابعه، من أول قوله تعالى: ((كتب عليكم)) إلى
قوله: ((شهر رمضان)) إلى قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] ، ثم
يأتي الصوم الأعم: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، ثم يأتي الكلام عن الأهلة: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] أي: في
معاملاتهم {وَالْحَجِّ} [البقرة:189] أي: في عباداتهم، ويلحق بالحج من حيث
التوقيت كل العبادات، فالمطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فإن لم يكن لها قروء
فثلاثة أشهر، وهل هي أشهر إفرنجية أو أشهر عربية هجرية قمرية؟ الثاني،
وكذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}
[المجادلة:2] ، ثم يأتي بعد ذلك: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4] هل صيام الكفارات يكون بالأشهر القبطية أو
بالأشهر القمرية؟ وكذلك بقية العدد: أربعة أشهر وعشراً، تعتبر بالأشهر
القمرية، والعالم الآن فيه سنوات متعددات: شمسية، وقمرية، وميلادية، وكل
هذه اصطلاحات عند أصحابها، والمولى سبحانه وتعالى بين للعالم في كتابه
الكريم {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا
فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] ، وهل يمكن أن نحافظ على الأشهر الحرم في
سنة ميلادية أو قبطية أو شمسية؟ لا يمكن، فهي أربعة حرم من الاثني عشر،
وهكذا بين سبحانه: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] ،
وهذا يعني: حافظوا عليها، وتعاملوا بها.
وهذه الاثنا عشر شهراً من أين تبدأ؟ العرب اختاروا أن تبدأ من محرم؛ لأن
السنة العملية عندهم تنتهي بذي الحجة؛ لأنهم كانوا يسيحون في الأسواق،
ويقول علماء الأدب: أسواق العرب: شحر ومجاز ومجنة وعكاظ ومنى.
كل هذه كانت أسواقاً تجارية للعرب، يأتون من حضرموت وينزلون في نجد، ثم إلى
الحجاز ليحجوا ويحضروا مواسم عكاظ في الحجاز، فإذا انتهوا من هذه الدورة
بدءوا سنة جديدة، واعتبروا أول السنة شهر محرم، وكانوا لا يعتبرون سنة بحد
معين، وكانوا يؤرخون بالأحداث العظام، نحن في هذه الآونة نسمع الناس
يقولون: سنة كسوف الشمس سنة كذا، مثلاً: كسفت الشمس هنا في المدينة عام
[1363] هجرية كسوفاً نصفياً، فصار أهل المدينة يؤرخون بذلك، فكانوا في
السابق يؤرخون بالأحداث، كما أرخوا -مثلاً- بعام الفيل؛ لأنه كان حدثاً
عظيماً جداً في تاريخ مكة، وجعل الله سبحانه وتعالى فيه آية وعبرة، وعظم
العرب جميعاً أهل البيت، وجاءت الآية الكريمة تقرر ذلك: {لِإِيلافِ
قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا
رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:1-3] أي: الذي حماه الله من الفيل {الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] ، وما علاقة
البيت بذلك؟ لأن أهل البيت -وهم قريش- كانوا يرحلون شتاءً إلى اليمن،
وصيفاً إلى الشام، فكانت القبائل تنهب من يمر بها إلا قريشاً تسلم، يقولون:
هؤلاء جوار البيت، حماه الله من الفيل وجيشه، فكذلك نحميهم ولا نعتدي
عليهم، فكان حفظ الله للبيت من أبرهة وجيشه سبب لحماية العرب لأهل البيت
لمجاورتهم له.
بدء العمل بالتاريخ
الهجري
رفع إلى عمر رضي الله تعالى عنه سند بدين يدفع في شعبان، فتساءل: أي شعبان:
الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ فقيل: لابد أن نجعل لنا بداية تاريخ ليضبط
لنا هذه الأمور، فاجتمعوا وتشاوروا، فبعضهم أشار إلى عام الفيل، فقالوا:
هذا يوم جاهلي، فجاءوا إلى أحداث الإسلام، فمنهم من ذهب إلى مولده صلى الله
عليه وسلم، فقالوا: مولده لم يظهر أثره بعد، وجاءوا إلى بعثته، فقالوا:
أثرها لم يأت بعد، وأعظم حدث في الإسلام هو الهجرة؛ لأن بها انتقلت الدعوة
من موضع الضيق إلى السعة والمواساة، وبعدها انطلق الإسلام في العالم شرقاً
وغرباً، فكانت الهجرة أعظم منة من كل ما سواها، وتلك الأحداث الكبرى كغزوة
بدر -يوم الفرقان-، وفتح مكة، والحديبية، قالوا: هي آثار الهجرة، فهي نتجت
عن الهجرة، وما حدث للمسلمين من تجمع؛ فاختاروا أن يكون عام الهجرة بداية
التاريخ الإسلامي.
وكان وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، فقالوا: لا نخرج عن
العرف، ولا نجعل أول السنة ربيع، بل نعتبر أول السنة المحرم.
ومضى التاريخ الإسلامي على التوقيت الهجري إلى اليوم بحمد الله، قال
سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:36] فإذا كانت
عند الله فلا ينبغي الإعراض عنها، وعلينا أن نأخذ ما هو معتبر عند الله،
ونحن نعلم أن ما حدث من الأشهر ومن السنوات السابقة على التاريخ الهجري هي
أيضاً عند الله، وحسابها عند الله، ومجراها من عند الله، فهي باعتبار حركة
الشمس في الفلك، ولكن المعتبر القمرية، ولماذا؟ نسأل عامة الحاضرين: أولئك
الذين يعتمدون التواقيت غير الهلالية بم يعرفون الشهر؟ لا يمكن أن يعرفوه
إلا بتخصص جماعة يعينون دخول الشهر وخروجه، ومن هنا عجزوا عن ذلك، واتفقوا
على أن يجعلوا شهورهم متفاوتة ما بين ثلاثين وواحد وثلاثين، يقبضون الكفين،
فالعظم الناتئ واحد وثلاثون، والمنخفض ثلاثون، وهكذا فاختلف العدد عندهم في
عدد أيام السنة، وكما يقال: سنة كبيسة وغير كبيسة، والفرق عندهم يومان،
فجعلوا فبراير -شهر الكذب- ثمانية وعشرين، ما وصل إلى الثلاثين، يهمنا أنهم
وقعوا في حيرة، واستمر الأمر عندهم على ذلك، أما نحن -بحمد الله- فلم نحتج
إلى هذا ولا إلى ذاك، ولا إلى أن ننقص شهراً عن حسابه، إنما القمر آية
كونية يضيء بالليل، ويراه القاصي والداني، كل من أنعم الله عليه بنعمة
البصر يعرف أن الشهر قد جاء، وسمي الشهر شهراً للشهرة، فهو يشتهر بظهوره،
وسمي الهلال هلالاً؛ لأنهم كانوا من عادتهم إذا طلع الهلال رفعوا أصواتهم،
ورفع الصوت يسمى إهلالاً وتهليلاً، هلل فلان أي: رفع صوته، ويقال: التهليل
والتحميد والتسبيح، من باب نحت الكلمتين في كلمة، التهليل: قولك: لا إله
إلا الله، محمد رسول الله، والتكبير: الله أكبر، والتسبيح: سبحان الله،
والتحميد: الحمد لله، وهذا اصطلاح آخر.
جعل المولى سبحانه وتعالى الأهلة علامة للشهور فيما نحتاج إليه، وفي هذا
مبحث بسيط، وهو: المرأة إذا طلقت وعدتها ثلاثة أشهر، -مثلاً-: طلقت يوم
خمسة عشر في الشهر، هل ينتهي الشهر الأول بخمسة عشر في الشهر الثاني وتنتهي
من الشهر الثاني في خمسة عشر في الشهر الثالث؟ قالوا: لا؛ لأن الأهلة تزيد
وتنقص، بمعنى: أن الشهر يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين، إذاً: كيف تفعل؟
قالوا: تلتزم بالأهلة.
وماذا تفعل في هذا الكسر من الشهر؟ قالوا: إذا طلقت يوم خمسة عشر، تعد
الأيام الباقية من الشهر، فمضى عليها خمسة عشر، ودخل الشهر الثاني وظهر
هلاله، الخمسة عشر التي مضت تجعلها على جهة، وتأخذ الهلال والهلال شهران،
بقي الشهر الثالث، عندها من الثالث خمسة عشر، فتكمله من الشهر الذي يليه،
وتكون بذلك قد اكتملت عدتها ثلاثة أشهر، فتعتبر الأهلة في الشهرين
السليمين، وتعد الأيام للشهر الذي حدث فيه الطلاق، وهكذا بقية المواطن التي
يحتاج فيها المكلف إلى عدة أشهر.
سهولة المواقيت
الزمانية الشرعية
من توقيت الإسلام للعبادات الصلاة، فربط مواقيت الصلاة بحركة الشمس، فلماذا
ذهبنا للشمس؟ قالوا: شهر الصوم حركة شهرية وليست يومية، فكان القمر مجزئاً
فيها، أما وقت الصلاة فحركة يومية، والشمس يومية، فربطت مواقيت الصلاة
اليومية بحركة الفلك اليومي كما قال الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، فلا
يخفى على إنسان قط دخول الفجر؛ لأن انفجار الفجر من ظلام الليل واضح، حتى
الطيور تحس به وتستيقظ قبل الإنسان، والنبات يحس به.
وإذا زالت الشمس عن كبد السماء دخل وقت الظهر، فالشمس من شروقها تدور في
منتصف الدائرة إلى الزوال، وتكون متعامدة مع الأرض، فإذا تحولت إلى النصف
الثاني إلى جهة الغرب تحول الظل من الغرب إلى الشرق، ولما أشرقت وفي طريقها
إلى منتصف السماء كان الظل غرباً، لما وصلت إلى المنتصف وبدأت تتحول إلى
الغرب تحول الظل شرقاً.
إذاً: لو لم ننظر إلى الأفق، ولم يكن عندنا مقياس سنتيمتر أو ميل أو غير
ذلك يحدد موقع الشمس من السماء فعندنا ظل في الأرض يحدد لنا موقع الشمس من
السماء.
وإذا جئنا إلى وقت العصر إذا كان ظل كل شيء مثله، وإذا جئنا إلى المغرب هل
نحتاج إلى شيء؟ الكل يرى الشمس قد غابت في الأفق والحمد لله.
وإذا جئنا إلى العشاء فعلاقته ذهاب الشفق، والشفق هو الحمرة على ما عليه
الجمهور، وبهذا تكون مواقيت العبادات في الإسلام طبيعية، أي: مرتبطة بآيات
كونية يدركها العامي قبل المتعلم.
ويبحث العلماء توقيت الصوم، ومتى يدخل الشهر، وما رمضان إلا دورة أيام من
دورات الفلك، ليست لأيامه ألوان خاصة، ولا أطوال متخصصة، ولا رياح معهودة،
إنه يوم من الأيام، ومعرفة ذلك ببداية الشهر.
وسيأتي المؤلف بالأحاديث التي تدور حول رؤية الهلال، وهل الرؤية تثبت بواحد
أم اثنين؟ وهل الرؤية خبر أم شهادة؟ وهل دخول رمضان كخروجه أو لا؟ وهذه
مباحث باب الصيام فيما يتعلق بدخول شهر رمضان.
شرح حديث: (إذا
رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن
غم عليكم فاقدروا له) متفق عليه، ولـ مسلم: (فإن أغمي عليكم فاقدروا له
ثلاثين) ] .
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا
رأيتموه) ما هو الذي رأيناه؟ الهلال، وأصل حديث ابن عمر طويل، واقتصر
المؤلف منه على موضع الحاجة، وفيه أنهم تراءوا الهلال -تطلبوا رؤية الهلال-
قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: تراءى الناس الهلال فرأيته، وأخبرت
النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام، فالنبي صلى الله عليه وسلم
علمهم: (إذا رأيتموه) ، أي: الهلال، وهو معلوم من السياق بالضرورة، مثل
قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] أي:
الروح، فهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم بما يثبت عندنا دخول رمضان، فقال:
(إذا رأيتموه) ، ولم يقل: إذا رأيته.
فالخطاب هنا للجمع، فهل يتعين على كل واحد أن يراه ليصوم؟ بعض الناس ضعيف
النظر، سيصوم على رؤية غيره، إذاً: (إذا رأيتموه -أي: في مجموعكم، بمعنى:
لو رآه واحد منكم فكأنكم جميعاً رأيتموه- فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) ،
وفي بعض روايات حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
زيادة: (فانسكوا) ، من النسك وهو العبادة، ويشمل ذلك الحج، أي: إذا رأيتم
هلال ذي الحج، فإنكم تعرفون يوم الوقفة، وتعلمون دخول الحج برؤية الهلال في
أول ذي الحجة، والنسك: مطلق العبادة.
فلو لم نره، كانت السماء مغيمة، ويوجد رعد وبرق ومطر، والسماء لا ترى،
فماذا نفعل؟ وهذا أمر واقع، فهل انتظر أن يسألوه؟ هل قالوا: وإذا لم نره
لغيم أم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأهم بذلك؟ هو ابتدأهم؛ لأنه يعلم أن
هذه أمور واقعية، فماذا يكون الحكم؟ أتاهم بالحل والجواب مقدماً: (فإن غم)
، يقال: الغمام لأنه يغم الجو، (فإن غم) أي: ستر وغطى، إما بغمام وهو
السحاب، وإما بقتر، وهو: الغبار التي تثيره الرياح أو الأحداث، فيكون في
الأفق طبقة رمادية لا تبصر معها، ولهذا أحياناً حينما تتلقى ماء المطر في
إناء نقي تجده معكراً، من أين أتاه هذا التعكير وهو الآن نازل من السماء؟
الرياح أثارت التراب فعلق في الهواء لخفته ونعومته، فإذا ما نزل الماء
أنزله معه؛ ولذا ترى السماء بعد المطر نظيفة نقية، كأنك أخذت مرآة ومسحتها،
لماذا؟ لأن قتر الغبار كان يحول دونها، فلما نزل المطر أنقاها.
معنى (فاقدروا له)
قال: (فإن غم عليكم -بشيء ما- فاقدروا له) ما معنى (فاقدروا) ؟ المعنى
اللغوي يدور على معنى التضييق والقلة، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] ، فبعضهم يقول: (نقدر له)
نضيق، أي: نحتاط ونصوم في اليوم الذي يشك فيه إقداراً للشهر، هذا مدلول
فاقدروا وحدها، ولكن لم تقتصر الرواية على قوله: (فاقدروا) بل فسرت بقوله:
(أكملوا العدة ثلاثين) .
والمؤلف جاء براوية (فاقدروا) عن عبد الله بن عمر وانتهى، وهذا عند
البخاري، قال: ولـ مسلم: (أكملوا العدة ثلاثين) ، ويريد المؤلف بهذا أن
قوله: (فاقدروا) مجمل يحتاج إلى تفصيل، ووجد عند مسلم التفصيل بعدد الأيام،
ولهذا يقول ابن عبد البر في الاستذكار: إن من حكمة مالك وفقهه أنه لما بحث
هذا الباب أورد حديث عبد الله بن عمر هذا، ثم أورد حديث ابن عباس الذي فيه:
(فاقدروا له ثلاثين يوماً) ، قال ابن عبد البر: لقد ساق مالك حديث ابن عباس
بعد حديث ابن عمر وأخره عنه؛ لأن فيه بيان ما أجمل في حديث ابن عمر؛ ولهذا
مراراً نقول: إن من تأمل إيراد مالك للأدلة في الباب، وأمعن النظر فيها
بملكة فقهية، يستطيع أن يعرف مراد مالك، فيشرح الموطأ بالموطأ، وهذه من دقة
ملاحظة الفقهاء، حديث ابن عمر وحديث ابن عباس كلاهما في معنى واحد، فكان من
الممكن أن يقدم حديث ابن عباس لأنه أبين، لكن قدم حديث ابن عمر الذي فيه
الإجمال، وأردفه بحديث ابن عباس ليرفع الإجمال الموجود في حديث ابن عمر.
وبعض العلماء فسر كلمة (فاقدروا له) بأنه بالحساب، قدروا أي: خمنوا، وكيف
يقدرون؟ قالوا: بعلم الفلك، وأجمع العلماء عل عدم حساب الصوم بالحساب إلا
ما روي عن ابن سيرين، وما روي عن الشافعي قد كذبه ابن عبد البر، فقال: ما
ذكر عن الشافعي أنه قال: من كان يعلم علم الحساب وثبت عنده رمضان فله أن
يصبح صائماً، بناءً على يقينه بعلمه، رد ابن عبد البر هذا النقل، وقال:
الذي وجدناه في كتب الشافعي خلاف ذلك.
يعني: أنه لا يقول بالحساب.
والذين يقولون: (فاقدروا له) أي: فاحسبوا له، ويذكرون قاعدة عجيبة، وهي من
علم الفلك، يقولون: يقدرون لهلال رمضان إذا علموا يقيناً بهلال شعبان
باليقين.
فكيف يعرفون رمضان بهلال شعبان، وشعبان يمكن يكون تسعة وعشرين أو ثلاثين؟
قالوا: القاعدة الفلكية في حركة القمر وظهوره وغيابه أنه أول ما يرى الهلال
في أول الشهر يمكث في الأفق ستة أسباع الساعة، ثم في الليلة الثانية يطول
مكثه ستة أسباع الساعة مرة ثانية، وفي الليلة الثالثة يزيد مكثه، وهكذا إلى
الليلة السابعة، وفيها غياب القمر في منتصف الليل.
نعيد هذا مرة ثانية، يقولون في علم الفلك بالنسبة للقمر: أول ما يظهر لا
يغيب حالاً، يمكث ستة أسباع الساعة، نحو الأربعين دقيقة؛ لأننا لو قلنا:
تسعة في سبعة، ستكون ثلاثة وستين، وثلاثة زائدة، وإن قلنا: ثمانية في ستة
ستكون ثمانية وأربعين، وتسعة في ستة بأربعة وخمسين، إذاً ننزلها ونقول: ستة
في ثمانية بكم؟ بثمانية وأربعين، إذاً: ثمانية ونصف، ستة في ثمانية ونصف
حوالى الأربعين دقيقة، فلنصطلح على أربعين دقيقة، فالليلة الثانية يمكث في
الأفق أربعين مرتين، أي: ثمانين دقيقة، والليلة الثالثة يمكث أربعين ثلاث
مرات، ويغيب في ليلة سبعة من الشهر في منتصف الليل.
ثم يظل في مكثه ستة أسباع الساعة إلى أن تأتي ليلة أربعة عشر، ويظل طيلة
الليل لا يغيب، وهي ليلة بدر التمام.
إذاً: ليلة أربعة عشر يظهر القمر من أول الليل إلى آخره، وبعد أربعة عشر
يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة، وليلة ستة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة
-مرة ثانية- وهكذا، فكل ليلة من النصف الثاني من الشهر يتأخر طلوعه ستة
أسباع الساعة عن الليلة التي قبلها، إلى ليلة ثمانية وعشرين في الشهر، ففي
ليلة ثمانية وعشرين المفروض أن يرى في الصبح عند الفجر، فإن رؤي فالشهر
كامل أي: ثلاثون يوماً، وإن لم ير عند الفجر ليلة ثمانية وعشرين فالشهر
ناقص أي: تسعة وعشرون يوماً، فإذا علمنا بدخول شعبان وتتبعنا هلاله، وزدنا
في كل ليلة ستة أسباع إلى أن يغيب في منتصف الليل في الليلة السابعة، ثم
يبدأ يزيد إلى أن يستغرق الليل كله، وهي ليلة بدر التمام، ثم يبدأ في
النقصان إلى ليلة ثمانية وعشرين، فإن لم يظهر فيها فالشهر ناقص، فإذا عرفنا
أن شعبان ناقص فيوم غد رمضان، هكذا يقولون في علم الحساب، ولكن البعض يقول:
قد يختلّ هذا النظام، ونحن لسنا مكلفين بهذا العناء، وستة أسباع الساعة نحن
محتارون فيها، فكيف نتتبع ذلك طيلة الشهر، ثم نحكم بأن شعبان خرج، ورمضان
جاء؟ وقد قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [3]
شهر رمضان تتعلق به أحكام كثيرة، وهو أفضل شهور السنة، وفيه فضائل عديدة،
ومن الأحكام المتعلقة بدخول رمضان: بيان كيفية ثبوته، واعتبار اختلاف
المطالع فيه، وحكم تبييت الصيام من الليل، بالإضافة إلى الاكتفاء بنية
واحدة لجميع أيام الشهر، وهذه المسائل اختلف العلماء فيها، فينبغي فهمها
لمعرفة الراجح من الأقوال فيها.
أنواع العلوم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال الغزالي رحمه الله: العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية،
وعلوم ظنية، وعلوم توقيفية.
أما التوقيفية: فهي كل ما يتعلق بالغيب من صفات المولى سبحانه، وأحوال
القبر، وأحوال القيامة، ونعيم الجنة، وعذاب النار -عياذاً بالله-، فكل ذلك
توقيفي لا نجزم بشيء منه إلا بخبر يقين عن صادق، فلا نستطيع أن نحكم بشيء،
بل نتوقف، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مررت بأخي موسى في قبره
قائماً يصلي، ولو كنت هناك لأريتكم قبره بجانب الكثيب الأحمر) ، بالتحديد،
ثم إذا به يرى موسى يستقبله مع الأنبياء في بيت المقدس، ثم إذا به يرى موسى
في السماء السادسة يستقبله، فهل العقل يستطيع أن يحكم بذلك؟ لا، بل هو
توقيف، ومثله قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] ، هل نستطيع أن نحكم أن حقيقة
الخمر واللبن والعسل في الجنة كما هو عندنا؟ والميزان الذي يزن الأعمال، هل
هو ميزان حرارة أو ميزان كذا أو كذا؟ والبطاقة التي فيها "لا إله إلا الله"
ترجح بسجلات مد البصر، هذه أمور غيبية لا دخل للعقل فيها.
العلوم التجريبية: مثل علم الطب؛ لأن الصيدلة ومعرفة خواص الأشياء من
نباتات أو معادن أو كيماويات إنما هي بحسب التجربة، ويقال في علم الصيدلة:
إن أكثر من خمسين في المائة من الأدوية المتداولة اكتشفت عن طريق الصدفة
أثناء التجارب! ينتقل الصيدلي أو الكيميائي في معمله من قصد إلى قصد آخر
لشيء فاجأه في بحثه.
أما العلوم العقلية: مثل الرياضيات -الحساب والهندسة- لا يمكن أن قضية
رياضية تخطئ؛ لأن القواعد الرياضية لا خطأ فيها، وإنما يأتي الخطأ من العقل
الذي يعملها.
مثلاً: (5×6=30، 6-5=1، 1+5=6) فهذه لا تتغير، مهما حورت ومهما دورت في
عمليات الأرقام؛ ولذا جعلوا لها الآن قواعد جمادات، فالآلة الحاسبة نظموها
على تلك العقليات الرياضية فلم تخطئ، الإنسان يخطئ عشرين مرة، والآلة
الحاسبة لا تخطئ لماذا؟! لأنها لا تملك الخطأ، وتعجز عن الخطأ؛ لأن الخطأ
نتيجة اجتهاد، والآلة لا اجتهاد لها.
أما العلوم الظنية: مثل العلوم الفلكية، وإن كان الفلكيون الآن سيروا
المراكب في الفضاء، وأرسلوا الصواريخ، وفعلوا وفعلوا، لكن لا زالوا في
دائرة الظنيات.
إذاً: إذا اعتمدنا في الصوم على الحساب فلن نخرج عن نطاق الظنيات؛ ولهذا
جاء الحديث صحيح: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا
العدة) ، إن كنا في أول رمضان أكملنا عدة شعبان ثلاثين، وإن كنا في آخر
رمضان وغم علينا أكملنا عدة رمضان ثلاثين يوماً، وانتهت القضية، والحمد
لله.
هل يثبت الشهر برؤية
عدل؟
من الذي يعتمد عليه في الرؤية؟ إذا رآه مسلم عدل في أول دخوله اكتفي به،
وهناك من ينقل عن الشافعي أنه يقول: لابد من شاهدي عدل.
وهل الإخبار عن رؤية الهلال شهادة أم إخبار؟ والفرق بين الخبر والشهادة
دقيق جداً؛ لأن كلاً منهما يخبر عن مغيّب، والفرق بينهما: إذا كان مضمون
الكلام -أي: مضمون الخبر- له علاقة بشخص ثالث غير المتكلم والسامع فهو
شهادة؛ لأنه يشهد على إنسان ما، وإن كان موضوع الكلام لا يتوقف على شخص
ثالث فهو خبر، حينما يقول: طلعت الشمس.
يريد أن يخبر السامع بطلوعها، فهل هناك شخص آخر يعنيه ذلك في هذا الخبر؟
لا، وإذا قال: سمعت زيداً يقول عند طلوع الشمس: أعط فلاناً كذا.
فهل هذا خبر أو شهادة؟ شهادة؛ لأنه يتعلق بحق شخص ثالث، ومن هنا: من اعتبر
رؤية الهلال شهادة قال: لابد من اثنين {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ}
[الطلاق:2] ومن اعتبر رؤية هلال رمضان خبر فيكتفي بواحد، حتى المرأة، فخبر
المرأة وخبر الرجل في باب الأخبار سواء، ونحن تأتينا الأحاديث برواية
النساء، فهل نقول: هذه امرأة لا نقبل شهادتها؟ لا، فهي تقول: أنا لا أشهد،
بل أخبرك بما سمعت؛ ولهذا ورد في الحديث: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله
عليه وسلم عشية وقال: أشهد بالله أني رأيت الهلال.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي: ألا فافطروا وامضوا إلى
المصلى غداً) ، وابن عمر قال: (تراءى الناس الهلال، فرأيته فأخبرت النبي
صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام) ، وكل هذا من باب الإخبار.
ومذهب الجمهور قبول خبر الواحد في دخول رمضان، ويتفقون على وجوب عدلين في
خروج رمضان إلا من شذ، والفرق عندهم هو ما قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك،
كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي شهد برؤية الهلال: (أتشهد
أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم.
قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟) سبحان الله! لم يقل: أتشهد أني، بل قال:
أتشهد أن محمداً؛ لأن شخصية الرسالة ليست بالأنية، ولكنها المحمدية، قال
الله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}
[البقرة:285] ، ولم يقل: آمنت بما أنزل إليك من ربك، فقال: (نعم أشهد، فقبل
منه ذلك واكتفى بهذا، وأمر الناس بالصيام) ففي دخول رمضان الأحوط أن نقبل
خبر الواحد؛ احتياطاً لرمضان، وأما الخروج فنحن على يقين من صومنا، فلا
يخرجنا خبر الواحد، ونحتاج إلى زيادة تأكيد، فإذا شهد عدلان خرجنا عن
الصيام، وكان الشهر تسعةً وعشرين يوماً.
خلاف العلماء في
اعتبار المطالع
قوله: (صوموا لرؤيته) خطاب لأهل المدينة في ذلك الوقت أو خطاب للأمة كلها؟
من قال: هو خطاب لمن كان موجوداً في ذلك الوقت، قال: خاص بهم.
ومن قال: هو عام للأمة كلها، قال: إذا رئي في بلد وجب على جميع بلاد العالم
الإسلامي أن يصوم.
ولكن وجدنا الأخبار والعمل على اعتبار كل قطر لمطلعه، كما في قضية ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما مع كريب، فـ كريب أرسلته بعض أمهات المؤمنين إلى
معاوية رضي الله تعالى عنه وهو خليفة بالشام، فأدركه رمضان بالشام، ورءوا
الهلال ليلة الجمعة، وأصبحوا صائمين يوم الجمعة، ثم جاء كريب إلى المدينة
وهم في رمضان، فتحادث هو وابن عباس عن أهل الشام، وعن معاوية وعن رمضان،
فقال كريب: أما رمضان فقد رأينا الهلال ليلة الجمعة.
قال: أنت رأيته؟ قال: نعم، رأيته وصمنا وصام معاوية وأمر بالصوم.
فقال ابن عباس: أما نحن -وكان في المدينة- فلم نره إلا ليلة السبت.
فقال: ألا تكتفي برؤية معاوية وصومه؟ قال: لا، بهذا أمرنا رسول الله،
فقوله: (صوموا) خطاب لكل قطر على حدة.
بقي الخلاف والنزاع في تباعد الأقطار وتقاربها، وبعضهم يقول: السياسة تدير
الأمر، فإذا تقاربت السياسة صمنا برؤية البلد الفلاني، وإذا تباعدت
السياسة، يقولون: لم يثبت عندنا.
يا سبحان الله! ونجد كثيراً من طلبة العلم يشغلون أنفسهم بهذه المسألة،
فالآن السعودية ثبت عندها رمضان يوم الثلاثاء، من الذي يمنع العالم كله أن
يأخذ بهذه الرؤية؟ هل هناك مانع؟ لا يوجد مانع، هل هناك ملزم يجبرهم
بالصيام معنا؟ لا، لا يوجد ملزم، فهي أمور شخصية، فهم يقولون: لا نقبل، لا
نثق، إذاً: سندخل معهم في ملاحاة، فنقول: حينما يثبت عندكم رؤيته صوموا،
وحينما يثبت عندكم رؤيته أفطروا، ونصيحتي: أن هذه القضية بالذات لا ينبغي
أن تكون مجالاً للبحث وللنقاش، ولا نتهم الأمة بالفرقة من أجل هذا، أو ندعو
الأمة إلى الوحدة في هذا، فلا يوجد حاجة إلى هذا كله؛ لأنه لا تكون هذه
الوحدة أبداً، نحن الآن في هذا الوقت هنا، ولو سألت عن بلد يقع شرقاً عنا
على بعد ألفين ميل لوجدتهم قد أفطروا من قبل ساعات، وصلوا العشاء، ولو أنك
أفطرت هنا وسألت عن بلد في الغرب: هل أفطرتم؟ يقولون: لا، نحن لم نصل العصر
بعد! فالتوقيت -مثلاً- بينك وبين الدار البيضاء في المغرب ثلاث ساعات، فنحن
نفطر، ونصلي العشاء، ونصلي التراويح، ونرجع إلى بيوتنا، ثم هم يقولون: باسم
الله، اللهم! لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا.
إذاً: لا يوجد وحدة في هذا، وهل هذا يعيب العالم الإسلامي؟ لا، الوحدة تكون
عملياً في غير ذلك، الوحدة تكون على تحكيم كتاب الله، الوحدة تكون في نظام
الإسلام وفي تشريعه، الوحدة تكون في أعمال المسلمين بما فرض الله، نوحد
الزكاة، نوحد الأموال، هل استطاعوا أن يوحدوا العملة النقدية؟ ما استطاعوا؛
لأنها أمور تختص بالبلد، ولا حاجة لكثرة الكلام في هذا، وإذا ما اتحدت قلوب
المسلمين، فبنعمة من الله يستطيعون أن يوجدوا الوحدة بأبسط من ذلك، الآن
بدءوا يقولون: وحدة التعرفة الجمركية، وحدة التعرفة البريدية، وحدة كذا،
وهم الآن مضطرون إلى أن يوحدوا وسائل المواصلات، وتتبادل الشركات تذاكر
بعضها بعضاً اضطراراً.
إذاً: النزاع في كون رؤية الهلال رؤية للعالم كله أو ليست رؤية للعالم كله،
هذه أمور نظرية وليست عملية، وعلى هذا فكل بلد له مطلعه، والذي يهمنا أن
العالم الإسلامي ينبغي أن يرتبط في دخول رمضان وخروجه بهذه الآية الكونية
الكبيرة، ألا وهي: رؤية الهلال، فإن غم عليكم فأكملوا العدة، أما أن نحسب
مقدماً، ونعلن الصوم قبل مجيئه بأيام، ونقول: سيكون يوم كذا، والعيد سيكون
يوم كذا، على أساس الحساب والتقدير، فالحساب والتقدير قطعاً لا يخلوان من
الخطأ، والله ما تعبدنا ولا كلفنا أن نتحمل هذه المشاق، وإذا عرف الحساب
بعض الأفراد فمن الذي يحسب لأهل البادية، وأهل الأرياف الذين لا يعرفون
حساباً؟ إن قلت: إن الدولة ستخبرهم.
فكيف بالذين لم تصلهم مواصلات الأخبار؟ وكم يوجد من أهل البادية في الجبال
وفي الكهوف! كم يوجد من البوادي بعيدة عن المواصلات! فهؤلاء عندهم توقيتهم،
إذا رءوا الهلال لا يحتاجون إلى إخبار ولي أمر، فيصومون لرؤيته، وإذا رءوا
الهلال يفطرون لرؤيته، وهكذا.
إذاً: قضية الحساب، وقضية تعميم الرؤية، فيها نظر، والله أسأل أن يوفقنا
وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا ونواصي ولاة أمورنا إلى
الحق، وإلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث: (تراءى الناس الهلال ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (تراءى الناس الهلال،
فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه) رواه
أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان] .
أتى المؤلف رحمه الله بحديث ابن عمر؛ لأن فيه أن الذي أخبر بالرؤية واحد،
وهو ابن عمر، (تراءى الناس) ، أي: كل يرى لعله يراه، لكن ما رآه أحد إلا
ابن عمر، وللأحناف هنا مباحث: إن كانت السماء صحواً فلم لم يره إلا ابن
عمر؟ فهم لا يقبلون واحداً، وإن كان في السماء غيم فلا مانع، وقد يخفى
الهلال على بعض أولي الأبصار القوية، ومن الضروري للتمكن من رؤية الهلال
أول ليلة أن يعلم الرائي أين يكون الهلال في أول ليلة؛ ولذا يتتبعه بعض
الناس في خط سير الشمس؛ لأنه يتبعها، فإذا كان يتتبع مجراها فحري أن يرى
الهلال، فهو لا يذهب إلى يمين أو إلى يسار مجرى الشمس في غروبها، فإذا كان
إنسان يعرف ذلك فلربما يراه، والآخرون لا يرونه لوجود الغيم، وهذا الذي
ساقه هنا عن ابن عمر يوافق عليه الجميع.
إذاً: حديث ابن عمر يثبت قبول خبر الواحد، ونبهنا على الفرق بين أن يكون
الأمر خبراً وبين أن يكون شهادة، مواطن الشهادة كما قال تعالى: {ذَوَي
عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، أما الإخبار فيكفي فيه الثقة، حتى لو أن
امرأة أخبرتنا بخبر فلا نرد ذلك الخبر، وكما قيل: وعند جهينة الخبر اليقين.
ومن قصص الجاهلية أن امرأة أخبرتهم أن القاتل ظفر به ولي المقتول فقتله،
وكانوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ وماذا نعمل؟ نقاتل أو لا نقاتل؟ ندفع دية أو
لا ندفع؟ وبينما هم على ذلك، قالت لهم: صاحب الدم قتل صاحبه، فقالوا: قطعت
جهيزة قول كل خطيب، فالخبر يكفي فيه الثقة، لا مجنون ولا سفيه ولا غبي،
فإذا أخبر واحد برؤية الهلال؛ قبل ذلك ولي الأمر، وأمر بالصيام.
شرح حديث: (فأذن في الناس أن يصوموا غداً)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أعرابياً جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال.
فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم.
قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
قال: فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً) رواه الخمسة، وصححه ابن
خزيمة وابن حبان، ورجح النسائي إرساله] .
أتى المؤلف رحمه الله بهذا الخبر، وماذا فيه من زيادة على حديث ابن عمر؟
ابن عمر يقول: تراءى الناس، ورأيت، وأخبرت، فصاموا، والأعرابي يقول: إني
رأيت، فأخبره، فقال: (فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً) ، الناحية
الموضوعية في الحديثين واحدة، وليست هناك زيادة إلا أن ابن عمر صحابي جليل
ثقة، حريص على اتباع سنة رسول الله أكثر من غيره، لكن الأعرابي هذا يسكن
البادية، ولا نعرفه، وقد قال الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا
وَنِفَاقًا} [التوبة:97] ، {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ
مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98] ، فالأعراب فيهم
وفيهم، فجاء المؤلف بحديث شهادة الأعرابي، وهل تثبت شهادته؟ هل قال له:
أحضر لي شهوداً، أحضر لي مزكين، أين شيخ القبيلة حتى أسأله عنك؟ لا، بل
قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم أشهد.
قال: أتشهد أن محمداً -وهذا التجريد كما يقولون- رسول الله) ، ونبهنا على
أن الرسالة ليست أنية، لم يقل: أتشهد أني رسول الله؟ لا، محمد بن عبد الله
هو الذي أرسله الله قال الله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:28-29] ، لم يقل: وكفى بالله شهيداً أنك رسول
الله، لا، مع أن هناك قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] ،
لكن هنا في معرض التقرير قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم أشهد.
ويتفق العلماء على أن هذا وحده يكفي للعدالة، قالوا: لأن الإسلام يجب ما
قبله، فهذا الأعرابي مهما كانت درجته في سلوكه وانحرافه فأسلم، فقد محا
الله عنه كل آثار الماضي قبل ذلك، وهكذا التوبة كما نعلم بقضية الرجل من
بني إسرائيل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فتداركه الله بلطفه، وهداه إلى
التوبة، فذهب إلى عابد من العباد ليس فقيهاً، فقال: هل لي من توبة بعد
التسعة والتسعين؟ قال: أعوذ بالله! قتلت تسعة وتسعين وتريد توبة أيضاً؟!
قال: يعني ما هناك فائدة؟ قال: لا.
قال: إذاً نكمل المائة، وقتله.
فحدثته نفسه بالتوبة مرة أخرى، فذهب إلى عالم من العلماء، فقال: يا سبحان
الله! ومن يحول بينك وبين الله؟ تب إلى الله يقبل توبتك، ولكن اخرج من هذه
القرية التي ارتكبت فيها هذه الجرائم إلى تلك القرية الفلانية ففيها أناس
صالحون، فتعبد الله معهم.
فخرج فأدركه الموت في منتصف الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة لأنه مقبل
عليهم، وملائكة العذاب لأنه مجرم من سابق، فبعث الله ملكاً يحكم بينهم: أن
قيسوا بين البلدين، وألحقوه بأقربهما منه، وفي بعض روايات الحديث الصحيحة:
(أن الله أوحى إلى هذه أن اقتربي -أي: التي خرج إليها-، وأوحى إلى تلك أن
تباعدي) -ورواية أخرى (أن الله سبحانه قربه بصدره - يعني: انقلب وهو ميت
ليكون أقرب- فقاسوا فكان أقرب إلى البلد التي خرج إليها قدر ذراع) .
والذي يهمنا: أن الصحابة مهما كانوا فكلهم عدول؛ لأن الله قد شهد لهم
بالعدالة، ولذا يقول بعض علماء الحديث: إن المرسل في الحديث يقبل، وهو الذي
سقط منه الصحابي، والتابعي يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع
أن التابعي لم يلق رسول الله، ولو لقيه لكان صحابياً، فيقولون: غاية ما في
الأمر أن الصحابي غير مذكور وغير معلوم لنا، وعموم الصحابة عدول، فعدم ذكره
لا يضر في الحديث شيئاً.
فهذا الأعرابي مسلم، وثبتت له الصحبة بأنه رأى رسول الله وخاطبه، ولا يشترط
في الصحبة طول الملازمة كما يقول بعض العلماء، فاكتفى منه بالشهادتين فقبل
خبره، وأمر بلالاً أن يؤذن في الناس بأن يصوموا غداً، ولم يكن عندهم مدافع،
ولا برقيات، ولم يكن هناك إذاعة، والأذان كان أكبر وسائل الإعلام.
شرح حديث: (من لم
يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)
قال رحمه الله: [وعن حفصة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه الخمسة، ومال الترمذي
والنسائي إلى ترجيح وقفه، وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان، وللدارقطني:
(لا صيام لمن لم يفرضه من الليل) ] .
كأن المؤلف رحمه الله يذكر الأحاديث بالتسلسل التشريعي، فذكر أولاً: (لا
تصوموا قبل رمضان بيوم أو يومين) ، قبل أن يأتي الشهر، فإذاً: ما صمنا
اليوم ولا اليومين، ثم جاء اليوم الذي يشك فيه فقال: (لا تصوموا يوم الشك)
، ثم تعدى يوم الشك، قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، فهذا تسلسل
حدثي ماض، وبعد أن رأينا الهلال، وصمنا لرؤيته، بدأ في بيان الصوم، فإذا
كنت رأيت الهلال وثبت عندك وستصوم، فلابد أن تبيت النية بليل.
وهذا الحديث عن حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وابن عمر يروي عن أخته هذا الحديث، وبعضهم يقول: هذا موقوف عليها،
أي: من قولها هي.
والبعض يقول: لا، لقد رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذه
الرواية.
إذاً: حديث تبيت النية للصوم جاء عن حفصة تارة مرفوعاً إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، وتارة موقوفاً صناعة أو شكلاً على حفصة، ومهما يكن من شيء،
فتصحيح الصوم بالنية، وعدم تصحيحه بدونها هل هذا من حق أحد سوى الوحي
المنزل؟ فكون الصوم يشترط فيه تبييت النية أو لا يشترط هل من حق أحد أن
يجتهد فيه؟ هل من حق أحد أن يتدخل فيه؟ لا، إنما ذلك لا يكون إلا توقيفاً
عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً حفصة رضي الله تعالى عنها حينما قالت: لا صيام لمن لم يبيته بليل.
لم تأت به من اجتهادها ولا تفكيرها، بل نجزم يقيناً أنها ما قالته إلا بعد
أن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا أنها زوجه، ومن أقرب
الناس إليه، ولا يفوتها مثل هذا، وعلى هذا فهو وإن كان موقوفاً شكلاً على
حفصة؛ لعدم ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو مرفوع حكماً؛ لأنه ليس
مما يحتمل الاجتهاد.
وعلى هذا يكون صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يُجمع -من لم يزمع، من لم
يبيت.
كل هذه ألفاظ جاءت في هذا الحديث وغيره- الصوم بليل فلا صوم له) ، وكلمة
(ليل) هنا: ظرف لنية الصوم نهاراً، ومتى تكون النية إذاً؟ قالوا: من بعد
غروب الشمس أول الليل إلى قبيل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من
الفجر، وهذا كله ليل، إذاً: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ليل.
حكم النية في الصوم
وهنا يبحث العلماء عن حكم النية في الصوم، فيقسمون الصوم إلى صوم رمضان وما
في حكمه: صوم النذر، صوم الكفارة، والقسم الآخر صوم التطوع، والجمهور على
أن صوم رمضان وما يلحقه في الحكم لا يصح إلا إذا بيت النية من الليل، ومن
أي جزء من الليل؟ قالوا: من عند غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ففي أي لحظة من
ذلك الوقت نوى الصوم فقد حصل المطلوب.
وقوله: (يبيت) هل يشترط أن يأتي بهذه الألفاظ والقوالب لمعانيها، فيقول:
نويت الصوم يوم غد الخامس عشر من رمضان سنة ألف وأربعمائة وخمسة عشر
بالمدينة المنورة؟ هل يلزم هذا كله؟ لا أبداً، ونويت الصوم غداً.
هل تلزم هذه؟ أيضاً لا، وكونه بعد غروب الشمس علم بثبوت رمضان، وحمد الله
أنه أدركه، وغداً سيصوم الناس، وهو مع الناس، فهذه نية، وهذا الإدراك في
نفسه هو بنفسه نية، ولو كان نائماً، ولا يدري عن مجيء رمضان، وأيقظه أهله
وقالوا: قم! قال: ما الأمر؟! قالوا: قم تسحر.
قال: لماذا؟ قالوا: جاء رمضان.
قال: الحمد لله، وقام فتسحر معهم للصيام غداً، فهذه نية، فالنية في الصوم
هو ورود الصوم على خاطره بالجزم أنه صائم غداً.
وهل يتعين كل ليلة نية لصيام نهارها أم يكفي من أول ما ثبت رمضان أن ينوي
أنه صائم الشهر إن شاء الله، وتكون نية بالجملة تشمل الشهر كله؟ بعض
العلماء كالحنابلة يقولون: تجزئ.
ويأتون بقاعدة: هل رمضان بأيامه الثلاثين عبادة واحدة أو كل يوم عبادة
مستقلة عن الآخر؟ فمن نظر إلى أن رمضان فرضاً واحداً قال: تجزئه نية واحدة.
ومن نظر إلى أن كل يوم فرضاً مستقلاً بذاته قال: لابد لكل يوم من نية.
والنية على ما تقدم بيانها.
وهل صيام رمضان عبادة واحدة أم أن كل يوم عبادة مستقلة؟ يترجح لي -والله
تعالى أعلم- ما ذهب إليه المالكية من أن كل يوم عبادة مستقلة بذاتها.
ولماذا؟ يقول المالكية: من أفسد صوم يوم من رمضان، -مثلاً- يوم تسع وعشرين
من رمضان، فهل أفسد رمضان كله أو هذا اليوم فقط؟ هذا اليوم فقط، إذاً: هذا
اليوم عبادة مستقلة بذاتها، فالأولى تبييت النية لكل يوم.
وكما أشرنا أن مجرد خطور الصوم على باله ليلاً يجزئ.
وينبه العلماء على أنه من كان عازماً على سفر، وحجز في الطائرة، والموعد
غداً في التاسعة صباحاً، والحجز مؤكد، والتذكرة في جيبه، والسيارة ستوصله
إلى المطار، إذاً: السفر بالنسبة لهذا (99.
9%) ، فهذا الشخص يتعين عليه ما دام في بلده أن يبيت الصوم لذلك اليوم الذي
هو غداً مسافر فيه، ولماذا؟ لهذا الواحد من عشرة من مائة، لاحتمال أن يتخلف
السفر، -مثلاً-: ألغيت الرحلة غصباً عنه، جاء الذي كان سيسافر من أجله، كأن
يكون طلب شيئاً من جدة أو من خارج البلاد وتأخر عليه، وعزم أن يسافر ليأتي
به، ففي الصباح الحجز الساعة التاسعة، وفي الساعة سبعة جاء الذي يقول له:
خذ حاجتك.
فهل سيسافر أم يمتنع؟ سيمتنع لانتهاء المهمة.
إذاً: عليه أن يبيت النية، حتى إذا تعطل السفر يكون قد احتاط ومعه شرط صحة
صوم يوم غد، وإن حصل سفر فمع السلامة.
وكذلك المرأة التي تعلم من نفسها مجيء الدورة، ومتعودة أنه يوم كذا تأتي
الدورة، وتعلم أن غداً موعد الدورة بعد الظهر، فعليها أيضاً أن تبيت النية
للصوم؛ لأن الدورة ليست حركة ميكانيكية مثل الساعة، قد تتأخر إلى ما بعد
غروب الشمس، إذاً: تبيت النية للصوم، فإن جاءت الدورة خرجت من الصوم، وإن
لم تأت الدورة واصلت الصوم، وصح صومها لهذا اليوم.
عدم اشتراط تبييت
النية في صوم التطوع
الصوم منه فرض ومنه نافلة، هل يشترط لصحة صوم النافلة أن يبيت الصوم بليل
أيضاً أو يصح للإنسان أن ينشئ نية الصوم للنافلة في النهار بعد طلوع الفجر؟
الجمهور على أنه بالنسبة للنوافل له أن يعقد الصوم في النهار ما لم يكن قد
أكل.
إذاً: تبييت الصوم بليل عام، ويستثنى منه النوافل، وما الذي أخرج النوافل
من عموم الصوم؟ قالوا: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فقال: هل عندكم من شيء؟ قلنا: لا.
قال: إني إذاً صائم) (إني إذاً) أي: في هذا الوقت نويت الصوم، فما دام لا
يوجد أكل فسأصوم، وهذا بشرط ألا يكون أكل قبل ذلك.
وبعضهم يقول: لو أكل في يومٍ صومه واجب، وهو غافل عنه، فيمسك حينما تبين
له، ويقضي يوماً آخر، فمثلاً: الصبي يبلغ في نصف النهار، احتلم وأصبح
مكلفاً، فيمسك عن الطعام في ذلك اليوم، ولأنه قد أكل فعليه قضاء يومه، وإذا
لم يكن قد أكل فكثير من العلماء يقول: يجزئه؛ لأنه قبل البلوغ غير مكلف،
واليوم سليم لم يقطعه بطعام.
والآخرون يقولون: لا، يقضي يوماً غيره؛ لأنه لم يبيت الصوم بليل، ومثل ذلك
الكافر إذا أسلم أثناء النهار.
والحائض إذا طهرت أثناء النهار، فإنها تمسك لحرمة رمضان، ولأنها أمسكت
وصامت نصف نهار، والنهار لا يتجزأ، فعليها أن تقضي هذا اليوم المجزأ.
هذا ما يتعلق بوجوب تبييت النية للصوم.
بعض العلماء يقول: بالنسبة للنية الإجمالية من أول الشهر، لو قدر أن هذا
الذي نوى إجمالاً طرأ له سفر يبيح الفطر، لكنه اختار الصوم، فهل تجزئه نية
الإجمال الأولى أو يتعين عليه لكل يوم نية؟ قالوا: المسافر عليه أن يبيت
النية لكل يوم، وما الذي أخرج المسافر على القول بأن الشهر كله تكفيه نية
واحدة؟ لأن المسلم مكلف أن يصوم الشهر كاملاً، لكن المسافر جاءته رخصة، فله
أن يصوم، وله أن يفطر، والمقيم ليست عنده رخصة، وليس مخيراً، بل عليه
الصوم، فتكفيه النية الأولى، أما إذا أنشأ سفراً، فالسفر يعطيه حق الصوم
وحق الفطر، فهذه الليلة لا ندري هل هو في الغد صائم أم مفطر؟ فيتعين على
المسافر عند الجميع أن يبيت النية لكل يوم؛ لأنه دائر بين جواز الصوم وجواز
الفطر، فلا بد أن يحدد.
هذا ما يتعلق بمبحث تبييت النية في الصوم ما بين فرض وما بين نفل، وما بين
سفر وحضر.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [4]
إن مما يشرع للصائم في صومه تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وقد بين النبي
صلى الله عليه وسلم أن من لوازم بقاء الخير في هذه الأمة حرص أفرادها على
هذا الأمر.
شرح حديث: (فإني إذاً صائم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي
النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا.
قال: فإني إذاً صائم.
ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: أهدي لنا حيس.
فقال: أرنيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل) رواه مسلم] .
بعدما قدم لنا المؤلف رحمه الله تعالى وجوب تبييت النية في الفرض، جاء
بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الذي يخصص ذاك العموم، ويتعلق
بنية النافلة، فتقول رضي الله تعالى عنها: (دخل علينا النبي صلى الله عليه
وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: قلنا: لا.
قال: فإني إذاً صائم) .
قبل الحديث عن النية، وعن نوافل الصيام، وعن أحكام الفطر، ننظر إلى هذا
الحديث في مدلوله، سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه أن تكون
جبال الدنيا ذهباً في يده، يسأل أهله: هل عندكم طعام؟ فيقولون: لا، ليس
عندنا! هل ذلك لهوانه على الله؟ هل ذلك لنقصان ما عند الله؟ لا والله! بل
هو ابتلاء وامتحان لآل بيت النبوة، وقد تحلوا بالصبر والعفة والرضا
والقناعة بما لا يقوى عليه أحد في الدنيا.
قد يقول قائل: هذه عائشة ليس عندها شيء، وقد يكون عند بعض زوجاته طعام،
فيأتي حديث ضيف رسول الله، عندما أرسل إلى جميع زوجاته يسألهن: هل عندكن ما
تعشين به الضيف؟ وكل واحدة تعتذر: ليس عندي.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (من يستضيف هذا الليلة وله الجنة؟) يا سبحان
الله! الجنة بعشاء ضيف ليلة! ليس لهوان الجنة، ولكن لعظم قري الضيف، بيوت
رسول الله التسعة ليس فيها ما يعشي به الضيف؛ وذلك لندرة الطعام وقلته،
ولماذا صار الذهب غالياً؟ لقلته وندرته، فيذهب به الرجل إلى بيته، فيقول
لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله.
فتقول: والله ما عندي إلا عشاء عيالك! فيقول لها: علليهم حتى يناموا، ثم
قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج، كأنك تصلحينه فأطفئيه، فإني
سأمد يدي في القصعة لتلتقي بيد الضيف فيظن أني آكل معه وأرفعها خالية؛
لأوفر الطعام لضيف رسول الله! وبات العيال والرجل والمرأة خماصاً، وشبع ضيف
رسول الله وهو لا يعلم، فما كان لهذا الرجل الذي احتال على الضيف طاعة لله
ومرضاة لرسول الله إلا أن استقبله رسول الله في صلاة الصبح قائلاً: (لقد
ضحك ربنا من صنيعكما البارحة!) .
فهذا رجل من عامة الناس، والطعام الذي عنده إن عشّا به عياله لا يعشي
الضيف، وإن عشا به الضيف لا يجد ما يعشي عياله وأمهم ونفسه.
أيها الإخوة الكرام! إن أوجب ما يجب على المسلم وعلى العاقل -لو لم يكن
مسلماً- أن يحفظ نعمة الله عليه، وإن أعظم أسباب حفظ النعم الشكر لله
سبحانه، فهذا الرجل ليس عنده إلا عشاؤه وعشاء عياله، وكم الذين يتجاوزون
الحد في إهمال شكر النعمة، ولا يضعونها في مواضعها! فنسأل الله تعالى أن
يردهم إلى الصواب، ونوصيهم أن يفيضوا بما أفاض الله عليهم على أولئك الذين
يبيتون طاويين لا طعام لهم.
يقول: (هل عندكم من شيء؟ قالت: قلت: لا) !! بل تقول رضي الله تعالى عنها:
كان يمر بنا شهران هلال وهلال وهلال، ولم يوقد في بيوت رسول الله صلى الله
عليه وسلم نار.
فقيل لها: فما كان طعامكم حينئذ يا أماه؟! قالت: الأسودان: الماء والتمر.
يا سبحان الله العظيم! لما أراد أمير المدينة عمر بن عبد العزيز أن يدخل
الحجرات في المسجد النبوي، وكان لإدخالها سبب سياسي ومنافسة، بكى أهل
المدينة، وقام سعيد بن المسيب يعارض ذلك، فقال عمر: والله! ما هي إلا عزمة
أمير المؤمنين -أي: لا أستطيع أن أخالف ذلك- فقال سعيد: وددت لو بقيت حتى
يأتي الناس من كل مكان فيروا كيف كانت حالة رسول الله، وكيف كان يعيش، وكيف
كان يبيت، وكيف كان يسكن، يقول أنس: إذا مددت يدي نلت سقفها! (هل عندكم من
شيء؟ قالت: لا.
قال: إني إذاً صائم) ، أعتقد أن هذا الموقف لا يمكن أن تترجم عنه الكلمات،
ولا يمكن أن يدركه إلا ذو حس رهيف، وحساسية شفافة يستطيع أن يقايس بين حياة
الناس وحياة سيد الناس صلى الله عليه وسلم.
يذكر العلماء خلافاً ضعيفاً، وهو: أن النفل والفرض يستويان في وجوب تبييت
النية، ولكن الجمهور على أن النافلة تغاير الفرض، ويجوز للإنسان إن لم يأكل
أن ينشئ نية صوم من ضحى النهار، وبعضهم يقول: إلى زوال الشمس، وابن عبد
البر يذكر في "الاستذكار" عن البعض: ولو إلى قبل الغروب.
ثم البعض يقول: هذا الذي أخر تبييت الصيام وأنشأه من النهار له ثواب من وقت
إنشاء النية إلى غروب الشمس، والجمهور يقولون: له ثواب اليوم كله.
وبعضهم يستدل بما وقع عملياً حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم يوم
عاشوراء من ينادي: (من كان أكل فليمسك، ومن لم يكن أكل فليصم) فقالوا: هذا
إعلام وإلزام بالصيام في وضح النهار، ولم يعلمهم بالليل، ولم يبيتوا الصوم
بالليل، وإنما أنشئوه نهاراً، وبعضهم يقيس الفرض على عاشوراء، وبعضهم يجعل
ذلك للنافلة فقط، فالذين يقيسون يقولون: صوم عاشوراء في بادئ الأمر كان
فرضاً، ولكنه نسخ لما جاء ما هو أهم منه وهو رمضان.
وبعض العلماء يناقش في كلمة (إني إذاً) ، (إذاً) ظرف، فهل معنى (إذاً)
يعني: الآن أنشأت نية الصوم أو أني كنت قد بيت النية لصوم، وإذا وجدت شيئاً
أكلت، فلما لم أجد شيئاً فأعلمكم أني صائم، يعني: مبيت للصوم من الليل؟ كل
هذه أشياء فيها تكلف، وإذا ثبتت لفظة (إذاً) فهي تدل على إنشاء النية
نهاراً، وعلى هذا يكون سياق المؤلف رحمه الله تعالى لحديث عائشة رضي الله
تعالى عنها إنما هو بيان لما يستثنى من عموم (لا صيام لمن لم يبيته بليل) ،
فيخصص هذا العموم بصحة صيام النافلة لمن لم يبيته بليل.
حكم الفطر في صيام
التطوع
جاء في حديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي عليه
الصلاة والسلام جاءها في يوم وسأل: (هل عندكم من شيء؟ قالت: بلى، أهدي
إلينا -تعني: ليس من عندنا، الله أكبر! - حيس) والحيس من الحوسة: الدقيق مع
التمر مع الأقط مع السمن، الكل يخلط ويعرك ويصير طعاماً، وهو طعام جيد،
والنسوة يصنعن ذلك للنفساء؛ لأنه ينفعها لما فيه من التمر والسمن، فقال:
(أرنيه، فأكل) ، وأخبر أنه كان صائماً، فقالت: كنت صائماً وتأكل؟! قال: (يا
عائشة! إنما صاحب التطوع كرجل أخرج من ماله جزءاً ليتصدق به، فإن شاء أمضاه
وتصدق به كله، وإن شاء أمضى البعض وأمسك البعض) ، وفي الحديث الآخر:
(الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر) .
ولكن المالكية ينصون عن مالك رحمه الله أنه لا ينبغي للمتطوع أن يفسد
تطوعه، والمالكية يشددون في هذا، وينقلون عن مالك: أن من أفطر في التطوع
قضى يوماً مكانه.
ويذكرون حديثاً عن عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما فيه: (كلا، وصوما
يوماً مكانه) ، والجمهور على أن النوافل لا تقضى، والقضاء للفرائض.
شرح حديث: (لا يزال
الناس بخير ما عجلوا الفطر)
قال رحمه الله: [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) متفق عليه، وللترمذي من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله
عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) ] .
في الحديث السابق: (إني إذاً صائم) ، جاء عن أبي أيوب وأبي طلحة أنهما كانا
يفعلان ذلك، يصبح أحدهم فيسأل أهل البيت: عندكم شيء؟ فإن وجد أكل، وإلا
صام، وذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيدنا أن إنشاء
النية في النهار ليس خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو تشريع
عام، بدليل فعل بعض أصحابه رضوان الله تعالى عليهم.
انتهينا من مسألة تبييت النية، وما بعد النية إلا الصوم، وما بعد الصوم إلا
الإفطار، فجاءنا المؤلف رحمه الله بآداب الإفطار، فذكر حديث: (لا يزال
الناس بخير ما عجلوا الفطر) ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) .
إذا صمنا اليوم، واستقبلنا المغرب، هل نبادر بالفطر أو نتأخر عنه احتياطاً؟
جاءنا المؤلف رحمه الله بهذا الحديث القدسي عن الله سبحانه: (أحب ... )
(أحب) أفعل تفضيل، أصلها: أحبب، وأدغم المتماثلين: (أحب عبادي إلي -يعني:
عبادي كلهم محبوبون عندي، لكن أشدهم حباً إلي، وخاصة من الصائمين - أعجلهم
فطراً) الذي يتأخر ويقول: أنتظر بعد غروب الشمس قليلاً حتى أتأكد زيادة،
وزاد في صومه نصف ساعة من الليل، فصام النهار، وزاد نصف ساعة، فهل هذا أحب
إلى الله أم الذي وقف عند نقطة الصفر؟ تأملوا في أصول التشريع، وسيأتي
الحديث الآخر: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر) ، ما الفرق بين تعجيله
وتأخيره؟ وما المشكلة لو جاع الرجل ساعة أو ساعتين زيادة على الوقت المحدد،
ففعله هذا على نفسه؟ نقول: لا، قدمنا سابقاً تنبيه العلماء على ضرورة
الوقوف عند حد المفروض، ولما سئل مالك رحمه الله: هل يجوز أن يعطي في زكاة
الفطر صاعاً وزيادة؟ قال: لا، احص الصاع أولاً وحده، ثم زد ما شئت في غير
هذا الحال.
لماذا؟ حتى لا يضيع حد الصاع، ويبقى المشروع محدوداً منتظماً، فإن كان هذا
يزيد، وهذا يزيد، وهذا يزيد؛ ضاع الأصل، وهكذا هنا، الله تعالى يقول:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، وبمجرد
اكتمال غروب الشمس تحقق الليل، إذاً: هذا حدك، فعجل الفطر بعد ثبوت دخول
الليل لا أن تتعجل قبل الغروب، فإذا حافظ الإنسان وحافظت الأمة على هذا،
ووقفت عند حد الله في هذا العمل؛ ظل هذا العمل محفوظاً بدون زيادة ولا نقص؛
لأنه لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقص، ولهذا قال: (أحب عبادي إلي أعجلهم
فطراً) ، وجاء في الحديث: (إذا أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من
هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) ، وبعض العلماء يقولون: أكل أو لم
يأكل، وبعضهم يقول: وجب عليه الفطر، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ} [البقرة:233] يعني: أرضعن، وهنا قال: (أفطر الصائم) ، وفي بعض
الروايات: (ولو لم تجد إلا لحا شجرة فامضغه) ، حتى لا تحسب نفسك على إمساك
وصيام؛ لأن الليل ليس وقتاً للصيام ولا يصلح له، إذاً: إمساكك جزءاً من
الليل مع النهار ليس إلا زيادة جوع وعطش وليس لك فيه أجر.
فحفظ النهار يكون من أوله من حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من
الفجر، ويكون من آخره إذا غربت الشمس.
وجاء في بعض الأخبار والروايات: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر؛ لأن
اليهود تؤخر الفطر حتى تشابك النجوم في السماء) .
في وقت الفطور يتوجه للصائم أمران: فطره من صومه وصلاته المغرب، فأيهما
يقدم؟ هل يقدم الفطر ثم يصلي أو يقدم الصلاة ثم يفطر؟ يذكر العلماء رحمهم
الله عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يصليان المغرب ثم
يفطران، ولا يكون ذلك تأخيراً للفطر لاشتغاله بالركن.
ويذكر ابن عبد البر رحمه الله أن الجمهور على الفطر ثم صلاة المغرب، ويذكر
عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يأكل ثلاث تمرات ثم يصلي المغرب) ،
ولعل هذا أقرب؛ لأن صلاته للمغرب إذا لم يفطر ستكون وهو في صيام، وهذا ليس
مشروعاً، وفعل عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما يخالف فعل الجمهور، وفعل
النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على كل فعل، فهو (كان يتناول ثلاث تمرات ثم
يقوم ويصلي المغرب) ، فهذه السنة، ثم العشاء بعد صلاة المغرب.
شرح حديث: (إذا أفطر
أحدكم فليفطر على تمر)
قال رحمه الله: [وعن سليمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر) ] .
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على -سبحان الله! الإرشاد
حتى في نوع الفطور رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد فليحسو حسوات من
ماء) ، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه يحسن أن يفطر الإنسان على شيء
لم تمسه النار، وبعض الناس أول ما يفطرون على (السمبوسة) ، وهي مما مسته
النار، ويقول العلماء: هذا تفاؤل بأن يجنبه الله النار.
أرشد صلى الله عليه وسلم أن يفطر الصائم على رطبات، يعني: إذا كان الرطب
موجوداً، وإلا فعلى تمرات، والله لا أدري أيهما أقوى مادة غذائية: الرطب أم
التمر؟ يختلفون في هذا، الرطب فيه رطوبة زيادة، والتمر تخلص من كل
الرطوبات، وفيه جميع المواد الغذائية، والعرب كانت تعتقد أنه خال من
الدهونات، فكانوا يضيفون إلى التمرة الزبدة، والآن اكتشف بأن التمر فيه
المادة الدهنية أيضاً، ولا يوجد ثمر يمكن لإنسان أن يعيش عليه المدى الطويل
مثل التمر، وتقدم حديث عائشة: هلال فهلال فهلال، شهران طعامكم التمر
والماء، وهو كما قالوا: زاد المسافر، وفاكهة المقيم.
وهنا يتكلم علماء الطب النبوي، وسبحان الله! يا إخوان: كان السلف يدرسون
الطب والفلك كما يدرسون الصيام والزكاة، وكان غالب العلماء أطباء، جاءنا
حافظ من باكستان، كان صاحب مصحة في كراتشي، وصحيح البخاري عنده كصورة في
مرآة، حينما تسأله: الحديث الفلاني في البخاري؟ إن غيرت حرفاً قال لك: ليس
هذا في البخاري، تزيد هذا الحرف يقول: هذا نعم موجود! فكانوا يدرسون الطب،
وانظر كتاب الطب النبوي لـ ابن القيم، والطب للسيوطي، والطب للذهبي، وهو ما
جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الطب، وتأملوا قصة مريم عليها وعلى نبينا
الصلاة والسلام، كانت في ذلك الموقف الحرج {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى
جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] ، أجاءها غصباً عنها، إلى أن أرشدها الله:
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] ، امرأة في النفاس هل
عندها القوة لكي تهز الجذع؟! لكن تهز بقدر ما تستطيع {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ
رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] ، ولم يذكر تمراً، إذاً: الرطب أحسن في تلك
الحالة؛ لأنه أبرد من التمر، ويتفق الأطباء على أن الرطب في تلك الحالة
أحسن ما يمكن أن تستقبله المعدة الخالية، وأشد ما يستفيد من حواس الإنسان
البصر؛ لأن الجوع يضعف قوة الإبصار، فإذا ما تناول الحلو -وخاصة الرطب-
استفاد البصر أكثر من جميع أعضاء الجسم.
ويقول الأطباء: حينما يكون الإنسان جائعاً ظامئاً فهو في لهفة إلى أن يأكل
ويشرب كثيراً، وهذا على المعدة الخالية مضر، فإذا أكل الحلو -مطلق الحلو
عندهم- فإنه يكسر شهوة النهم، ويجعل الإنسان يكتفي بالقليل من الطعام، فإذا
كان جائعاً عطشاناً وأكل الرطبات انكسرت حدة الجوع، واكتفى بما تيسر، فيكون
أنفع له.
إذاً: هذا إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير الإنسان عند فطره
أحد هذه الأنواع.
قد يقول إنسان: هناك مناطق باردة لا توجد فيها النخل، ولا يوجد فيها رطب
ولا تمر، وعندنا فواكه متنوعة من حمضيات وحلويات.
إلخ، فنقول: إن لم تجد هذا، فلتأخذ أقرب ما يكون إليه، إن وجدت الزبيب، إن
وجدت التين، إن وجدت البرتقال، إن وجدت التفاح، إن وجدت هذه فهو أولى من أن
تذهب إلى الماء.
وهنا لفتة بسيطة: أولاً: ينبغي للإنسان ألا ينسى نفسه عند الإفطار من دعوة
خير؛ لأن الدعاء عند الإفطار مستجاب.
ثانياً: لا ينسى أن يفطر أخاً له، غنياً كان أو فقيراً؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (من فطر صائماً فله كأجره، ولا ينقص من أجره شيء.
قالوا: يا رسول الله! ليس كل واحد منا يجد ما يفطر الصائم.
قال: يؤتي الله ذلك على تمرات أو على قبضة سويق أو على جرعة لبن أو على
جرعة ماء) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، يا سبحان الله! أجر إنسان صائم
طول النهار تحصل مثله على تمرات تقدمها له: شيء من سويق، جرعة ماء، جرعة
لبن؟! هذا فضل الله.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليدخل باللقمة ثلاثة الجنة -لقمة
واحدة يدخل الله بها ثلاثة-: صاحبها -الذي يمتلكها-، وطاهيها -الذي طبخها-،
ومناولها للمسكين) ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي لم
ينسَ خدمنا) ، الخادم يناول اللقمة للمسكين على الباب فيدخل الجنة، هذا إذا
احتسب ذلك لوجه الله.
إذاً: إذا أفطر أحدكم فليفطر على رطبات أو تمرات أو حسيات من ماء.
شرح حديث: (تسحروا
فإن في السحور بركة)
قال رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه] .
إذا فطرنا، وأكلنا طوال الليل أو نمنا، فبقي السحور، هل أقول: أنا شبعان،
أو ما عندي غرض في الأكل؟ لا، لابد من السحور، وليس بلازم أن تمد الموائد،
وتعرض الأصناف، بل ولو تمرات، المهم أن تعمل بهذه السنة، وجاء في الحديث
أيضاً: (فرق ما بين صيامنا وصيامهم: أكلة السحر) .
إذاً: (تسحروا فإن في السحور بركة) ، ومن الذي لا يريد هذه البركة؟ الكل
يريدها، والبركة تحصل ولو بتمرات وجرعة ماء.
ثم من مباحث السحور: تأخيره وعدم تعجيله، هل تعجيله تورع وتحفظ؟ لا، بعض
الناس يقول: أنا أكلت ونويت، وبقي على الأذان ساعة، ثم يعرض عليه الماء،
فيقول: لا، لا، أنا نويت، ماذا يعني هذا؟! هل سيبطل نيتك؟! هل سيبطل صومك؟!
مادام الوقت باقياً، ولم يتبين الفجر إلى الآن، فكل واشرب ما شئت، وقد يبيت
النية للشهر كله من أول يوم، وكل يوم يأكل ويشرب.
إذاً: عقد النية لصوم الغد لا يمنع الإنسان من أكل ولا شرب ما دام الخيط
الأبيض لم يتبين.
سئل بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: كم كان بين سحوركم والصلاة؟ قال: قدر
خمسين آية، أي: بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية كنا نمسك عن الطعام
والشراب، ويأتي وقت الصلاة، لا كما يفعل بعض الناس: يؤخر شرب الماء إلى أن
يسمع طقطقة الميكرفون للأذان فيبادر إلى الماء، وبعضهم إلى أن يسمع المؤذن
يقول: الله أكبر!! لماذا؟! الله جعل حداً لا تتعداه.
ويؤسفني أن البعض يحتج على ذلك الخطأ بحديث أبي داود رحمه الله: (إذا كان
القدح على كف أحدكم فسمع النداء فلا يضعه حتى يقضي حاجته) ، والجمهور على
أنه لابد أن يمسك جزءاً من الليل ليضمن إمساكه كامل النهار، على قاعدة: ما
لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فمثلاً: قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
[المائدة:6] ، وحد الوجه: منابت الشعر من الجبهة، ولكن قالوا: يزيد قليلاً
فوق منابت الشعر؛ ليتأكد أنه قد استوعب الوجه، فكذلك قالوا: يمسك قبل تبين
الخيط الأبيض ولو بدقائق، ويفطر بعد أن يكتمل غياب قرص الشمس ولو بدقيقة
واحدة، لا أن يكون فطره مع نقطة الصفر أول سقوط القرص، لا، هذا مشترك، ولا
يصلح.
وقد ناقش البعض هذه المسألة ليلة طويلة مع أفاضل العلماء في المدينة جزاهم
الله خيراً، وتمادى الحديث بهم، وأطالوا الأمر، وقال بعضهم: لو كان يأكل
والمائدة موجودة وسمع النداء، فلا يقوم عن المائدة حتى يشبع.
فقال لهم شيخ ذاك المجلس: الله يقول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة:187] ،
والحديث يقول كذا، فقلت: لو سمحتم! إذا أخذنا بنص الحديث فهو يقول: (والقدح
على كفه) ، لا والمائدة بين يديه، وروح اللغة العربية وجمالها في ألفاظها
وتعبيرها؛ لأنه قال: (والقدح على كفه) ولم يقل: في الأرض يتناوله، أو في
الثلاجة، أو في الترامس يذهب يبحث عنها، بل قال: (والقدح على كفه) ، وهل
وضع القدح على كفه ليراه؟! وهل وضعه على كفه ليرى كم ثقله؟! إنما تناول
القدح من الأرض ليشرب، وفي منتصف المسافة ما بين الأرض وفمه فاجأه الأذان،
فلا ترده، خذ غرضك منه؛ لأن تبين الخيط الأبيض فيه من النسبية ما يحتمل شرب
الماء الذي في القدح، ولو كنا جميعاً في الصحراء نترقب الفجر، فهل كلنا في
لحظة واحدة سنقول: طلع الفجر؟ لا يمكن، سيطلع الفجر ونختلف فيما بيننا؛
فطلوع الفجر وتبين الخيط الأبيض ليس كطلوع الشمس، وليس كغروبها؛ لأن الشمس
جرم أمامنا، يبتدئ الطلوع ويبتدئ بالنزول، لكن الفجر خيط، ورؤية الخيط
دقيقة، وليس كل الناس يرون هذا الخيط رؤية كاملة.
إذاً: إلى أن نقول ظهر أو لم يظهر يكون هذا قد شرب القدح كله، ولا يضر ذلك
صومه.
إذاً: هذا الحديث في حالة ضرورية: رجل رفع القدح من الأرض ليشرب ليصوم
غداً، فالرسول قال: لا بأس، خذ حاجتك، فلا ينبغي أن نمطط فيها ونزيد حتى
نأتي بالمائدة ونأتي بأنواع الطعام، حتى قال له شيخ ذلك المجلس: يمتد إلى
متى؟ قال: إلى أن يشبع، قال: حتى تطلع الشمس؟! قال: ولو! هذه -يا جماعة-
هفوة، ونصف العقل لا يقبل ذلك.
فنصيحتي للإخوان: كل شخص بيده ساعة، والجدران معلقة بالساعات والإمساكيات،
ومعلن متى يكون الإمساك، ومعلن متى أذان الفجر، ولا يعذر في هذا أحد
بجهالة، فليحتط المرء لدينه، وليمسك قبل طلوع الفجر بزمن احتياطاً للنهار.
قد يأتي واحد يقول: هذا الاحتياط من الذي أتى به؟ ابن أم مكتوم وبلال ما
كان بين أذان هذا وهذا إلا أن يصعد هذا وينزل ذاك.
فنقول: أنت جعلت وقتاً للصعود والنزول، فاجعل فرقاً بين أكلك وإمساكك،
فكفيف البصر عندما يطلع إلى السطح، ويستقبل القبلة، ثم يؤذن؛ سيأخذ دقائق.
يا إخوان: السنة ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وما
كان أحد منهم يفعل مثل هذه الفعلات، وينبغي أن يكون مع تأخير السحور احتياط
لأول النهار؛ حفظاً للصوم.
وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [5]
إن الله عز وجل إنما يريد بعباده اليسر، وهذه الشريعة مبنية على التيسير،
ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولهذا حرمت الشريعة الوصال في الصوم، ومن
استشهد على ذلك بوصال النبي صلى الله عليه وسلم فيرد عليه: بأن وصاله كان
مما اختص به صلى الله عليه وسلم دون سائر الأمة.
شرح حديث: (نهى عن
الوصال)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال.
فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله! فقال: وأيكم مثلي؟! إني
أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً
ثم يوماً ثم رءوا الهلال، فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم.
كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا) متفق عليه] .
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى آداب الفطر والحث على السحور، جاء بهذه
المسألة المشهورة في الصيام، وهي: الوصال، والوصال: مأخوذ من الوصل، وأصله:
وصل الشيء بغيره كما تصل طرفي الحبل، وهو في العرف الشرعي: أن يصل صوم
النهار بالليل، ويصير صائماً نهاراً وليلاً، وهذا يسمى وصلاً، ولأنه يتكرر
مرة ومرتين سمي وصالاً.
ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن الوصال) أي: نهى الصائم أن يصل النهار بالليل سواء
مرة واحدة أو كرر ذلك، ولما نهى والحال أنه صلى الله عليه وسلم يواصل، وجد
المسلمون نهياً يغاير فعلاً! فقال رجل من المسلمين: نهيتنا عن الوصال وأنت
-يا رسول الله- تواصل! ونحن إنما نستن بسنتك ونقتدي بهديك.
وهذا فعلاً سؤال في محله، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا
مثله، فقال: (لست كهيئتكم أو لستم مثلي) .
ومن هنا يقول الأصوليون: يشترط لصحة القياس أن يستوي الطرفان، فكأنه قال:
تقيسون أنفسكم بي، والحال أن هناك فرقاً بيني وبينكم، وما هو الفرق في هذا
الباب؟ قال: (إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، وفي بعض الروايات: (لستم
مثلي؛ فإن لي طاعماً يطعمني، وساقياً يسقيني) .
الحكمة من تحريم
الوصال
يبحث العلماء حكم الوصال، وقبل أن نذكر الحكم الفقهي -كما جرت العادة- نذكر
ما يستفاد من الحديث ومدلوله العام.
الوصال هو زيادة عبادة، فبدلاً من أن يصوم النهار اثنتا عشرة ساعة، فسيصوم
الليل معه أيضاً اثنتا عشرة ساعة، ويكون قد صام أربعاً وعشرين ساعة مرة
واحدة، وهذه عبادة فيها زيادة حمل النفس على الصبر وتهذيبها وإلخ، ولكنه
صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا، والغاية البعيدة من تحريم ذلك لها جهتان،
وينضمان أو يصبان في غاية واحدة: الجهة الأولى: لئلا يحمل المكلفون أنفسهم
فوق طاقتهم تحت عاطفة حب العبادة، فيأتي الإنسان يعمل عملاً بعاطفة
وانفعال، وهو مندفع، وبعد أن يمشي قليلاً يحس بالكلفة، فيريد أن يتراجع لكن
بعد أن فات الأوان، ولكن من هنا من البداية لا تواصل.
الجهة الأخرى: لحفظ الدين؛ لأن الذي يحمّل نفسه الوصال، تتكرر عليه السنوات
والأيام، ويتقدم في السن، ثم يحصل هناك عنده كراهية للعمل الذي شق عليه،
وبعد أن كان يعمله بسهوله صار يعمله بتكلف، وهذا من التشدد المنهي عنه، كما
في حديث النفر الثلاثة الذين ذهبوا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها ليسألوها عن أعمال رسول الله في البيت، قالوا: أعماله في البيت لا
نراها، نراه في الصلوات الخمس، وتعليم الناس، وذكر الله، لكن ما العمل
الخفي الذي يعمله في البيت حتى يتأسى به؟ فعندهم زيادة رغبة في الخير.
فلما سألوها قالت: في الليل أحياناً يقوم وينام، وفي النهار أحياناً يصوم
ويفطر، وأحياناً يكون في شغل أهله في البيت -يساعدهم: يحلب الشاة، يخصف
نعله صلوات الله وسلامه عليه-، فهؤلاء سمعوا هذا الشيء، ولما لم يكن هناك
جديد قالوا: إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن نحن في حاجة إلى
الإكثار من العبادة، فلنبحث، دعنا نبحث عن عمل نلتزم به ونجتهد فيه، فقال
أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام.
والثاني قال: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر.
والثالث قال: وأما أنا فلا آتي النساء، أي: أتبتل إلى الله بأنواع
العبادات.
وكانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حكيمة، لما سمعت هذا لم تناقشهم من
وراء الحجاب، فذهبوا، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما سألوا،
وبما أجابتهم، وبما قالوا فيما بينهم.
ونستطيع أن نقول: نموذج جديد في الاجتهاد في العبادة حصل في ذلك اليوم،
وعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل فرح الرسول بوجود مثل هذه
النوعية في الأمة، يحبون الاجتهاد في العبادات، والرغبة في الخير، وإلخ؟ لا
والله! بل غضب، هل يغضب لزيادة الخير؟ نعم؛ لأن الزيادة إذا كانت ستأتي
بنقص فهي ناقصة، فيأتي المسجد ويصعد المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا
كان هناك أمر أمر بالمنبر، فينبه بعضهم بعضاً ويجتمعون، فحمد الله وأثنى
عليه وقال: (ما بال رجال -وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم يكني عن
الرجال ولا يعرفهم بالذات، ولا يحب أن يسميهم ويحرجهم، والغرض الفائدة-
يقولون: كذا وكذا وكذا -وذكر للناس ما ذكر هؤلاء الثلاثة- أما إني والله!
لأعلمكم بالله، وأتقاكم لله -ولن تكونوا أحسن مني- وإني والله! -مع أفعل
التفضيل هذه- أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس
مني) صلوات الله وسلامه عليه.
خير الأمور أوسطها
هذه الأمة وسط كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا} [البقرة:143] بأقواله وأفعاله، ما زاد ولا نقص، وقلنا: إنها وسط
بين ماذا؟ الوسط: الشيء المتوسط بين طرفين، يقول علماء التفسير: الأمم التي
سبقتنا عندهم إما تفريط وإما إفراط، وعلماء الأخلاق يقولون: الفضيلة وسط
بين طرفين، وبها جاء القرآن، فالبخل طرف مذموم، والتبذير طرف مذموم، والوسط
وهو الإنفاق باعتدال هو الكرم {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ} [الإسراء:29] بخيل شحيح إلى أقصى حد {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ} [الإسراء:29] يعني: كن معتدلاً {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
[الفرقان:67] .
وهكذا يقولون في الشجاعة، الجبن والخور طرف مذموم، والتهور وعدم النظر في
العواقب طرف مذموم -أيضاً- كما قال الشاعر: قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن
علا زلقاً عن غرة زلج انظر في العواقب، فوسطية هذه الأمة بين الأمم الماضية
هي: أن الإنسان -كما يقول العلماء- مركب من جسم وروح، يعني مادة ومعنى،
فالجسم له متطلبات الحياة من أكل وشرب ونساء وتوالد وتكاثر.
إلخ، والروح لها الغذاء الروحي من الذكر والتلاوة والتأمل والخوف من الله
والرغبة في الله.
إلخ.
والإفراط: هو أن يفرِط في إشباع أحد الجانبين الجسم أو الروح، ويفرِّط في
الجانب الآخر، وهذا الذي وقع من اليهود والنصارى، فاليهود أفرطوا جداً في
جانب المادة، واحتالوا للوصول إلى المادة المحرمة بالحيل، لما حرم الله
عليهم الصيد يوم السبت احتالوا في حصولهم على الحوت يوم الجمعة ويوم الأحد،
ولما حرم عليهم الشحوم إلا ما استثني احتالوا فجملوا الشحوم وباعوها وأكلوا
الثمن، وقالوا: ما صدنا يوم السبت، ولا أكلنا شحماً، وفرطوا كل التفريط في
جانب الروح، فجنحوا ومالت بهم السفينة.
والنصارى بالعكس: فرطوا في أمر الدنيا، وأفرطوا في جانب الروح، واتخذوا
رهبانية، وابتدعوا عبادات {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ،
فجنحوا إلى الجانب الآخر.
ومن هنا وقفت مسيرة الدعوة الإسلامية، ما استطاع اليهود أن يواصلوا بها
السير، ولا استطاع النصارى أن يواصلوا بها السير، فجاء الإسلام ووضع
الموازنة المعتدلة بين الجانبين، ونقرأ قوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] هذا النداء روحي أم مادي؟
روحي {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]
البيع هذا روحي أم مادي؟ مادي {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:9-10] هل قال بعدها:
امكثوا في المصلى، امكثوا في الأديرة، اعتكفوا في المساجد، اتركوا الدنيا؟
لا، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] ، انتشروا وابتغوا من الدنيا مع ذكركم لله سبحانه
وتعالى، يعني: فاجمعوا بين الدين والدنيا.
وقد شاهدنا هنا في المدينة في الستينات صاحب الدكان والبقالة أو القماش في
رمضان يفتح المصحف ويقرأ، وعنده ريشة، وإذا جاء زبون يطلب شيئاً من البقالة
أو القماش وضع الريشة حيث انتهى من القراءة وأغلق المصحف وباع واشترى، فإذا
ذهب الزبون رجع إلى المصحف، دين ودنيا.
النهي عن الغلو
لما كان الاهتمام بأحد الجانبين مضر بالجانب الثاني كان الغلو في الدين أضر
من التقصير؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن كل باب يدخل الإنسان في الغلو
في الدين.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعرف إليه، وسلم عليه، وأسلم ورجع،
وبعد سنة جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه رداً عادياً،
فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: (لا، ما عرفتك.
قال: أنا الذي جئتك العام الماضي بكذا وكذا وكذا.
قال: ما الذي غيرك بعدي؟ كنت نضر الوجه، غض الجسم، ما الذي غيرك؟ قال: منذ
فارقتك -يا رسول الله- ما أفطرت يوماً -أسرد الصوم- قال: لا، أتعبت نفسك،
أين أنت من الأشهر الحرم؟ صم من الأشهر الحرم وأفطر) ، ما رضي له أن يظل
صائماً، فإن ضعفت من الذي سيحرث الأرض؟ من سيصنع في المصنع؟ من الذي سيقاتل
العدو؟ من الذي سيرعى الأولاد والزوجات والأبوين؟ لا، ولهذا نهى صلى الله
عليه وسلم عن الوصال.
وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم الليل كله، وبلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فجاء وقال: (بلغني عنك كذ وكذا، قال: نعم يا رسول الله!
قال: إن لعينك عليك حقاً، ولجسمك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً - وفي بعض
الروايات: ولزوجك-) .
وسلمان الفارسي لما جاء إلى أبي الدرداء وجد أم الدرداء مبتذلة، كأن ما
عندها رجل، فقال: ما هذا يا أم الدرداء؟! ما عندك رجل ينظر إليك؟! ما عندك
واجب تؤديه لزوجك؟! قالت: لا، أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في النساء،
ولما رأى هذه الحال لم يكن أبو الدرداء موجوداً، فانتظر حتى جاء وبات عنده،
فلما صلوا العشاء وتعشيا وأخذا في النوم قام أبو الدرداء يصلي في البيت،
فأمسكه وقال: نم.
فلم يقدر على مخالفته فنام قليلاً وقام، لا يستطيع أن يصبر، فأمسكه وقال:
نم.
حتى ما بقي إلا ثلث الليل الأخير، فقام يصلي فقال له: قم فصل إذا أردت.
وقام هو أيضاً فتوضأ وصلى ما تيسر.
وفي الغد أم الدرداء أتت بالفطور، فـ أبو الدرداء قال: كل أنت، أنا صائم.
فأخذ سلمان يده في الإدام وقال: كل، فأكل.
وقال له سلمان: إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً.
إلخ، فأعط كل ذي حق حقه.
فذهب أبو الدرداء في الظهر إلى رسول الله واشتكى وقال: يا رسول الله! سلمان
صنع معي كذا وكذا، وعطل علي كذا وكذا وكذا.
فقال: (صدق سلمان) .
الإفراط في العبادة
له آثار سيئة
الإفراط في جانب يؤثر على الجانب الثاني، جاءت امرأة إلى عمر رضي الله
تعالى عنه، وقالت: يا أمير المؤمنين! إن زوجي نهاره صائم، وليله قائم.
فقال: مثلك يثني بخير.
يعني: جزاك الله خيراً، مدحت زوجك، وكان بجانبه كعب بن سور، فالمرأة غطت
وجهها وانصرفت، فقال كعب لـ عمر: المرأة تستعديك على زوجها وتشتكي.
قال: هي تشتكي؟! بل هي تمدح زوجها.
قال: لا، بل أتت تشتكي.
فناداها: تعالي، قال: هذا الرجل يقول: إنك جئت تشتكين زوجك، قالت: إي
والله! يا أمير المؤمنين! أنا امرأة شابة، وأنتظر ما تنتظر النسوة، وزوجي
يصوم النهار ويقوم الليل، ولم يبق له حاجة فيَّ، فعرف أمير المؤمنين.
لكن أنا أسأل: هل عمر ما فهم دعواها؟! عمر بصفته كخليفة وكحاكم وكأمير لا
يقف ضد إنسان في غيبته، بل يأخذ الأمور على ظواهرها، وفي فن الأدب يذكرون
هذه الأبيات: قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل وما سمي
العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل تعاف الكلاب الضاريات لحومهم
وتأكل من لحم كعب بن نهشل فجاء رجل إلى عمر وقال: إن الشاعر هجانا.
قال: وماذا قال؟ قال: يقول: قبيلة لا يخفرون بذمة.
قال: نعم الوفاء، عندهم وفاء.
قال: ولا يظلمون الناس حبة خردل.
قال: إن الله حرم الظلم.
قال: وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل.
قال: خادم القوم سيدهم.
قال: ويقول: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم -أي: لحومهم زفرة- وتأكل من لحم
كعب بن نهشل.
قال: كفى بالأمة أن تأكل الكلاب لحومها، فصرف الهجاء إلى مدح، فـ عمر بليغ،
وكان السفير لقريش في المناسبات، وكانت قريش إذا أرادت أن تهنئ قبيلة بنبوغ
شاعر أو فارس فيها تبعث عمر، وإذا أرادت قريش أن تعزي قبيلة في سيد مات
فيها تبعث عمر، وهو القائل: إذا أتتك كلمة من صديقك لها خمسون معنىً سيئاً،
وفيها معنى واحد حسن، فاحملها على الواحد الحسن.
إذاً: عمر ما خفي عليه شكوى المرأة.
ولما تكلم الرجل أصبح مسئولاً، فاستدعاها عمر رضي الله عنه فأقرت، فقال: يا
كعب! أنت فهمت قضيتها فاحكم بينها وبين زوجها.
فأحضر الزوج، وجلسا، فقال: يا أمير المؤمنين! أقضي أمامك وبين يديك؟ قال:
نعم.
القضاء مبناه على الفهم، أنت فهمت القضية وأنت الذي تستطيع أن تحكم فيها،
وهذا تفويض من ولي الأمر إلى أحد الأفراد للقيام بالقضاء، وهذا عين تنصيب
القاضي نائباً عن الخليفة.
سأل الرجل: لماذا أنت كذا؟ قال: والله! أنا أخاف من الله، وأخاف من البعث
وأخاف.
وأخاف.
إلخ.
فقال: اسمع يا أمير المؤمنين! أنا أحكم بينهم بأن يكون لزوجها ثلاث ليال
يتهجد فيها، ويتعبد فيها كيفما شاء، وثلاثة أيام يصوم ويفطر كيفما شاء،
والليلة الرابعة واليوم الرابع لا يتهجد ولا يصوم ويكون من حقها هي.
فقال له: ومن أين أخذت هذا الحكم: ثلاثة وواحد؟! قال: الله أعطى للرجل حق
التزوج بأربع، فلو كان مستوفياً لحقه من أربع زوجات لكانت لها مع الزوجات
واحد من أربعة، فحق الزوجات الثلاث أعطيته إياه، ويوم من الأربعة أعطيتها
للمرأة، فقال عمر: والله! لا أدري هل أعجب من فهمك لشكواها أو من حسن
قضائك؟! كلاهما.
وقد قال عمر في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: الفهم الفهم، وأول باب القضاء
الفهم.
إذاً فرط إنسان في جانب المادة، واجتهد في جانب الروح أفسد الجانب الآخر،
ولهذا جنحت سفن الأمم الماضية، أما الإسلام فكالطائر يحلق بجناحيه في
الأفق، ولا زال بحمد الله يحلق بتشريعاته خمسة عشر قرناً، وكأنه اليوم
أنزل، بأي سبب؟ بالاعتدال، بالتوازن، بعدم طغيان جانب على جانب.
حكم الوصال
نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال، هل هذا النهي يقتضي الفساد أم الكراهية
أم التحريم؟ ماذا يكون الحال فيه؟ نجد العلماء يبحثون ذلك، فمنهم من يقول:
النهي للكراهية.
لماذا والأصل في النهي التحريم؟ قالوا: لأن النهي لعلة ولحكمة يناط بها
وهي: الإشفاق على الناس؛ لأن الوصال فيه صعوبة، فنهاهم أن يشقوا على
أنفسهم، كما قالوا في صيام يوم عرفات لمن في عرفات، فبعضهم قال: هذا شفقة
بهم.
بالأمس كانوا في منى واليوم في عرفات، وفي الليل في مزدلفة، ومن الفجر في
منى ورمي ونحر وحلق، ثم طواف إفاضة، فالصوم يشق عليه، ويجعله يقصر في بعض
هذه الواجبات التي هي أهم، فمن استطاع ووجد في نفسه قوة صام، وهذا اجتهاد
منهم، فكذلك هنا.
والآخرون قالوا: لا، النهي يقتضي التحريم، فلا يجوز أن يواصل.
وجاءت بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يواصل فليواصل
إلى السحر) ، لا يكمل إلى الليل، فوقت يأتي السحور يتسحر، يعني: يقطع صومه
بأكلة السحور، وهذه رخصة وإباحة، ومواصلة صوم الليل كله مع النهار لا يجوز.
وبعض السلف كـ ابن الزبير وطلحة كانوا يواصلون، وينقلون عن ابن الزبير
عجائب: كان يواصل خمسة أيام وستة أيام بلياليها! ولكن فعلاً كان يجد العنت،
وإذا انتهت مدة وصاله لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب نظراً لحالة المعدة،
فكانوا يذيبون له التمر في السمن، ثم يلعق من مجموع التمر والسمن إلى أن
يلين المعدة ويرطبها، وتمتص هذا الخليط شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك يأكل
الطعام.
الوصال من خصوصيات
النبي عليه الصلاة والسلام
لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال وهو يواصل تساءلوا -وهم محقون
في ذلك-: نهيتنا والأصل أننا نتبعك ونستن بسنتك، ونهتدي بهديك وأنت تواصل!
فمن حقنا من باب اتباعك أن نواصل لمن قدر عليه.
فبين لهم الفرق، فقال: (لا، لست مثلكم، إني أبيت -وأكثر الروايات ليس فيها:
عند ربي- يطعمني ربي ويسقيني) ، (إن لي طاعماً يطعمني، وساقياً يسقيني) ،
هذا اللفظ في هذا الحديث احتار العلماء فيه وإلى الآن، ولم نجد جواباً
شافياً في ذلك، إنما هي معجزة لرسول الله، والمعجزة -كما يقال- فوق الطاقة
الإدراكية، فوق طاقة العقل؛ لأنها لو نزلت لمستوى إدراك العقل خرجت عن
كونها معجزة، جميع المعجزات لا يحيط بها العقل: نبع الماء بين أصابعه،
تسبيح الحصى في كفه، تفتيت الصخرة بضربات وهم قد عجزوا عنها، تكثير الطعام
القليل حتى يكفي ثمانين شخصاً أو ثلاثمائة شخص، هذه أشياء لا تقاس بمقاييس
العقول، هي معجزات.
وهنا قال بعض العلماء: يطعمني ويسقيني من طعام وشراب الجنة، فقيل: وهل طعام
وشراب الجنة لا يفطر؟ قالوا: لا، لا يفطر؛ لأنه ليس من الدنيا، قيل: إذاً
ما واصل، وكل الناس ستواصل ويأتيها طعام من الجنة.
فهل نحمل (يطعمني ويسقيني) على حقيقة الطعام والشراب أو نحمل (يطعمني
ويسقيني) على أمر معنوي؟ القضية دائرة بين هذين، فإن حملناه على أكل وشرب
حقيقة فليس هناك وصال، ولماذا لست مثلنا؟ ما دام أنك تأكل وتشرب فليس هناك
وصال.
وإن حملناه على الأمر المعنوي فما هو إذاً؟ أكثر من أطال في هذا ابن القيم
رحمه الله، ونقل عن العلماء، وتوسع في هذه المسألة، وقال: إن العبد إذا
اشتد حبه لله، وقويت صلته بالله، كان دوام ذكره لله غذاء له، ولربما يكتفي
بأبسط الأشياء من الطعام، ويغذي الجانب الروحي، وإذا تغذت الروح ساعدت
الجسم، بخلاف الجسم، فإذا تقوى الجسم ضعفت الروح، وإذا تقوت الروح قوت معها
الجسم، وقد وجدنا نماذج ليست في نفس المستوى ولكن للتقريب: السرية التي كان
أميرها أبا عبيدة، فقل طعامهم فقام بتموين إجباري، فجمع كل ما في أيدي
أصحابه من الزاد وجعله عنده، وصار تموين منظم، يعطي كل واحد تمرتين أو ثلاث
أو كذا حتى قل التمر فصار الواحد يأخذ تمرة في اليوم، غزاة في سبيل الله
وزادهم وتموينهم تمرة! والله! لو كان واحد نائماً في الفراش وتقول له: هذا
طعامك اليوم، لا يصبر على هذه الحال، ولكنهم لما كانوا في سبيل الله،
وأحسوا أن جوعهم قربة لله، وأحسوا أنهم يتحملون في جانب الله؛ هانت عليهم
الشدائد، وأحسوا بالشبع والقوة.
تقول القصة: وفي آخر يوم نقصت تمرة عن عددنا، فوجدنا لها وجداً شديداً
-حزنا عليها؛ لأن واحداً منا سيظل بدون أكل، سبحان الله! - ثم ساق الله لهم
حوت العنبر، وقعدوا عليه شهراً كاملاً يأكلون من لحمه، ويدهنون من ودكه،
ويتفكهون أربعة وعشرين قيراطاً.
فهذه الحالة عندما يقوي الإنسان صلته بالله، ويشفف روحانيته، فإن هذه
الشفافية، وهذا القرب من الله، غذاء له، أليس بعض الناس تحصل لهم غيبوبة
ولا يدركون ما حولهم استغراقاً في التفكير في ذات الله؟ يحصل لبعض الناس
هذا، ونقول: مغمى عليه، وليس مغمى عليه، بل هو في غيبوبة القرب من الله
سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا بعض الخواص.
إذاً: قوله: (أبيت يطعمني طاعم، ولي طاعم يطعمني) نحاول أن نفهمها، ولكن
نعترف بأننا لن نفهمها.
الذي يهمنا: أنهم يغايرونه، له طاعم وله ساق، وكيف يكون ذلك؟ نتركها لله ثم
لرسول الله.
إذاً: في بادئ الأمر إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمراً أو نهى نهياً، وإن
كان هو المتكلم فهو داخل تحت الأمر والنهي؛ لأنهم قالوا: تنهانا عن الوصال:
(لا تواصلوا) ، وأنت تواصل، فلولا أنه داخل تحت النهي لما حق لهذا السائل
أن يقول: أنت تواصل، وكان يمكن أن يقول لهم: أنا خارج عن هذا، لا، فهو
المتكلم، وهو داخل في النهي.
وهكذا يقول الأصوليون: الآمر يدخل تحت الأمر، والناهي يدخل تحت النهي إلا
إذا جاء صارف.
وعلى هذا، يذكر ابن عبد البر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: الوصال مكروه
لمن شق عليه، ومن قدر فليواصل.
ويقول ابن عبد البر: الجمهور أنه لا يجوز لأحد الوصال، وما ذكر عن بعض
الأفراد فهذا اجتهاد شخصي لا يكون حجة على الآخرين، والله تعالى أعلم.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [6]
الحكمة من فرض الصيام هي التقوى، فعلى الصائم أن يحرص على تحقيق التقوى حال
صومه، ومن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه.
شرح حديث: (من لم يدع قول الزور ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في
أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري وأبو داود واللفظ له] .
ما مناسبة مجيء قول: (من لم يدع قول الزور) بعد النهي عن الوصال؟ لماذا ما
أتى به في الأول حتى نحتاط لصيامنا؟ ولماذا جعله في الأخير؟ لماذا أتى به
بعد حديث النهي عن الوصال؟ ما السر في هذا؟ أم هو مجرد رص؟ في الحديث
السابق، قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحدكم، لكنهم ما اكتفوا بهذا، وطمعوا
ورغبوا أن يحصلوا الفضل، وما دام أنهم لا يستطيعون أن يواصلوا وهو يواصل
فقالوا: دعنا نواصل، فأرشدهم ألا يواصلوا، ولا يكلفوا على أنفسهم، قالوا:
لا، قال: (أنتم لستم مثلي) أي: أنا عندي استطاعة ليست لديكم.
قالوا: لا.
فواصل بهم يوماً، واليوم إذا أطلق يشمل الليل والنهار، ثم يوماً، فصارت
ثمانية وأربعين ساعة، فرءوا الهلال، يعني: ربنا رحمهم، لما رءوا هلال شوال
انتهى الصيام، ولم يعد هناك وصال، فقال لهم: (لو لم نر الهلال لواصلت بكم
يوماً آخر) ، كان يقول لهم: لا تواصلوا، والآن يقول: أريد أن أواصل بكم،
هذا الأسلوب ماذا نسميه؟ هذا تشديد أو تخفيف؟ تشديد، والتشديد من ورائه
التنكيل، الراوي يقول: ينكل، أي: يشدد عليهم ويعزرهم حتى لا يعيدوا الكرة
مرة أخرى، كما أنك تنهى إنساناً عن شيء مصلحةً له، ولكنه يتطلع ولا ينتهي،
تقول له: تعال، -مثلاً-: تقول له: أنا ذاهب إلى قباء ماشياً.
فقال: أمشي معك.
قلت له: أنت لا تستطيع، أنا أقوى على المشي أما أنت لا تقوى.
قال: لا، بل أقوى.
فقلت له: هيا نمشي، وفي نصف الطريق قعد وأخذ يفرك رجليه.
ماذا بك؟ قال: يكفي.
قال: لا، لابد أن تواصل، لابد أن تمشي.
قال: أنت قلت من قبل: لا تمشِ أنت لست تقوى، والآن تقول: لا، لابد أن
تمشي!! لماذا؟ حتى لا يعود إلى هذا الإلحاح، كالمنكل بهم، والتنكيل:
التعذيب، كأنه يحمل عليهم نتيجة لتشددهم وعدم قبولهم الرخصة في أول الأمر،
ولم يقبلوا اللين فكأنه قال: تعالوا، تحملوا.
ومن هذه الجزئية قال الشافعي: لو كان الوصال حراماً ما واصل بهم اليوم
واليومين؛ لأنه لا يجوز التنكيل بمحرم.
وإلى هنا عرفنا أنه مكروه، وأنه جائز لمن يستطيع.
إذاً: لا ينبغي لإنسان أن تأتيه الرخصة في الإسلام ويرفضها، وهو في حاجة
إليها، زيادة ورغبة في الخير، قبولك الرخصة رغبة في الخير، إلا إذا لم يكن
هناك أية مشقة، وكان أمراً عادياً، وكان اتباعاً للأصل على ما سيأتي في
الصوم والفطر في السفر إن شاء الله.
إذاً: واصل بهم اليوم واليومين على غير ما كان يريد، كان لا يريد أن يواصل
بهم، لكن فعل ذلك تأديباً، كما يقال: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ
أحياناً على من يرحم لم جاء المؤلف بحديث: (من لم يدع) بعد حديث النهي عن
الوصال، وجعلهما مقترنين؟ فما العلاقة بينهما؟ التأليف فن وحكمة، وأشرنا
إلى ما قال ابن عبد البر في إيراد مالك لنصوص رؤية الهلال، حيث قدم حديث
ابن عمر: (فاقدروا له) ، ثم جاء بحديث ابن عباس: (فاقدروا له ثلاثين) ،
وقال: حديث ابن عمر مجمل، وحديث ابن عباس يفسره، فأخر المفسر ليكون بياناً
للمطلوب، يعني: أن العلماء حينما يوردون الأدلة في الأبواب يكون إيرادهم
إياها عن حكمة وعن دلالة خاصة، وليست مجرد رصف أحاديث ونصوص، والله سبحانه
وتعالى أعلم.
كنا تساءلنا ما هي العلاقة بين مجيء هذا الحديث وبين النهي عن الوصال؟ وكما
قال الأخ: لما نهاهم عن الوصال وهم يرغبون في الوصال زيادة في الخير، فكأنه
يقول لهم: إذا كنتم تريدون الخير بزيادة فليس في نوعية زيادة العمل، ولكن
في إحسانه وفي جودته، وهو أن تحافظوا على صوم النهار من الفجر إلى الليل،
وأن تصوموا عما لا يليق بالصائم.
معنى الزور
قال في الحديث: (من لم يدع) يدع: فعل مضارع، وأمره دع كحديث: (دع ما يريبك
إلى ما لا يريبك) بمعنى: الترك، من لم يترك قول الزور.
والزور -كما يقول علماء اللغة-: هو ملتقى نهاية الفم بأول البلعوم، ففيه
زاوية، هذه الزاوية هي الزَور، والعلماء يطلقون عليها الزُور، زَور
الإنسان، زَور الحيوان، وسمي الزور زوراً لأنه جاء جانبياً؛ لأن فتحة الفم
كان مقتضاها الاعتدال إلى الرقبة، لكن انحنت ونزلت إلى الحلقوم وإلى
المعدة.
فالزور: هو ما انحنى عن طريق الاستقامة، ومنه الزائر يأتيك من جانب البيت،
لا يأتيك عامداً بطول، مثلاً: يأتي في الشارع، وإذا وصل إلى بيتك انحنى
وانعطف على باب مزوره.
وقول الزور: هو القول الذي ينعطف عن الطريق المستقيم، فكل قول انحرف عن
الصراط السوي فهو زور، أكبر ما يكون في ذلك شهادة الزور -أي: الكذب- يليها
بعد ذلك الكذب في القول، يليها أيضاً النميمة، الغيبة، التنابز بالألقاب.
كل هذه قول الزور؛ لأن التنابز بالألقاب يسيء إلى صاحب اللقب، فكان هذا من
قول الزور؛ لأنه مغاير للطريق الذي يحبه أو يرضاه صاحب اللقب.
فقول الزور: هو كل قول جانب الحق، وكما أشرنا: أعلاه شهادة الزور؛ لما جاء
عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان متكئاً بين أصحابه، وحذر من الكبائر، ثم
اعتدل وقال: ألا وشهادة الزور، وأخذ يكررها حتى قلنا: ليته سكت) .
ونحن نعلم -يا إخوان- أن شهادة الزور وقول الزور يكفي في تقبيحها أنها تغير
الحقائق، وتقلب الأمور، وتبطل الحق، وتحق الباطل، وتضلل العدالة، وأشياء
كثيرة جداً، ومن هنا اهتم لها صلى الله عليه وسلم، وكذلك الكذب، ففرق بين
الكذب والصدق كما بين الظلام والنور، وما بين الحق والباطل، وما بين الليل
والنهار؛ لأنه أيضاً يغير الوقائع، ويحق الباطل، ويبطل الحق.
ما الفرق بين شهادة الزور والكذب؟ شهادة الزور تتعلق بحق لثالث، والكذب
يكون مطلق إخبار، مثلاً: جاء زيد؟ لم يجئ، وهو قد جاء ورآه، فهذا كذب.
وفي الحديث: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق) ، الرفث: من الزور
أيضاً، وهو الحديث عن النساء بحضرة النساء، (ولا يفسق) : الفسوق الخروج عن
الطاعة، كما يقول العرب: فسقت النواة عن الرطبة، أي: خرجت عنها، وفسقت
الحبة عن الرحا، أي: نقزت من تحتها ولم تطحن، ومنه الفويسقة، وهي الفأرة
تخرج بالخفاء ليلاً وتفسد أو تضرم على الناس بيوتهم، كما قال صلى الله عليه
وسلم: (أوكئوا السقاء، وخمروا الإناء، وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا السراج،
فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم) وقوله: (تضرم على الناس بيوتهم) لأنهم
كانوا يستصبحون بالسرج، والسراج: عبارة عن إناء صغير يوضع فيه الزيت، وفتيل
يأتي إلى الزيت، وعلى حافة هذا الإناء مثل الكأس، يشعل الفتيل فيظل يضيء
ويستمد من الزيت إلى أن يفرغ الزيت وينطفئ، فتأتي الفأرة تريد أن تلحس هذا
الزيت، ولكن إشعال طرف السراج بالنار يضايقها، فتدخل ذنبها تحت الفتيل هذا
وتخرجه عن إناء الزيت، والحال أنه مشتعل، فينزل هذا الفتيل بما فيه من
الشعلة على الفراش فتضرم النار في بيوتهم، فسميت فويسقة بخروجها للإفساد.
إذاً: الفسق يكون بالقول بما يغاير الحق، ويكون بالعين بالنظر إلى ما لا
يحل له، ويكون بالسمع حينما يتسمع إلى قول خطأ، اثنان يتكلمان على شخص ثالث
بالغيبة أو بالنقيصة، واستمع إليهما، هو لم يتكلم ولكن مجرد سماع، فكما
قيل: وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل فإذا تسمع إنسان
لاثنين أو جماعة يتكلمون على شخص في عرضه، بنميمة أو بذم أو بكذا، ولم
يشارك في الحديث، ولكنه يستمتع بالسماع أو يصغي إليه دون أن ينكر عليهم،
فهو مشارك معهم.
والفسق باليد يكون بالبطش وامتدادها واكتسابها ما لا يجوز شرعاً، وكذلك
بالقدم حينما يسعى إلى أمر منهي عنه محرم، فكل هذا من أنواع الفسق بالجوارح
التي يكون عن طريقها.
معنى العمل بالزور
قوله: (من لم يدع قول الزور، والعمل به) العمل بالزُور يشمل كل عمل منهي
عنه؛ لأن الزور باطل، وكل عمل منهي عنه فهو باطل، يبدأ الإنسان في معاملاته
أولاً في بيته مع أهله، إذا لم يفِ بالوعد، أو كانت معاشرته فيها نوع من
التعالي، أو نوع من الامتنان، أو نوع من التقصير.
فكل ذلك عمل بالزور، أو إذا خرج إلى السوق يتعامل بالمعاملات المنهي عنها،
وأعلاها: الربا، ثم التدليس، الغش، فالصانع في صنعته، والأجير في عمله، إذا
لم ينصح ولم يؤدِ الواجب الذي عليه فهو عامل بالزور؛ لأنه يأخذ أجراً على
غير ما عمل، مثلاً: كان مؤاجراً على يوم كامل، واليوم عمله ثمان ساعات أو
عشر ساعات حسب العرف، وهو أخذ يراوغ حتى لم يعطِ من العمل إلا نصف الوقت،
أو استئجر على بناية جدار أو صناعة شيء فدلس في البناء ولم ينصح، فمثلاً
ربط اللبن بعضه ببعض، ولم يحسن العمل، أي نوع من الغش في الصنعة فهو عمل
بالزور.
إذاً: الحديث يحث الصائم على أن يكون صومه -كما قال بعض السلف- عفيفاً
كريماً، كما قال جابر: لا يصوم الإنسان حتى تصوم جوارحه.
وصوم الجوارح -كما أسلفنا - هي أن تصوم العين عن التطلع إلى المحرم، وإذا
صادف أمامه شيئاً فجأة غض البصر، ولم يتبع النظرة النظرة، وكذلك إذا سمع
قوماً يخوضون في حديث لا يرضي الله أعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره،
وإذا رأى جماعة يشتركون في عمل فيه فساد، سواء كان لفرد أو للجماعة أو
للأمة من إتلاف المرافق العامة أو نحو ذلك فإنه إن سكت عن ذلك فهو أيضاً
داخل في هذا الباب.
عظم ارتكاب الصائم
للذنب
هذا الحديث يحمل الصائم على أن يكون مسلماً مثالياً؛ ولهذا يقول العلماء:
هل النهي عن قول الزور به خاص برمضان فقط؟ يعني: هل بعد رمضان يكون كيفما
شاء، ويعمل كيفما شاء؟ لا، هو محرم قبل أن يأتي رمضان، ومحرم في رمضان وفي
غير رمضان، ولكن حرمته في رمضان أشد.
ويقول ابن عبد البر في "الاستذكار": قال العلماء: الكبر محرم في كل وقت،
والزنا محرم في كل وقت، لكن جاءت شدة تحريم في أوصاف مناسبة كحديث: (إن
الله سبحانه وتعالى يبغض الفقير المتكبر) ، وفي الحديث القدسي: (الكبرياء
ردائي) ، فأي إنسان فقير أو غني لا يجوز له أن يتكبر، لكن يكون فقيراً
ومتكبراً! لو تكبر إنسان غني معافى فإن الله تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ
الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، فالجبلة
والغريزة حملته على ذلك، لكن الفقير الذي لا يجد شيئاً ما الدافع له على
الكبر إلا خبث النفس.
ومثل ذلك: (وشيبة زان) ، فالشاب إذا زنى فلديه دوافع، وغره الشيطان، مع أنه
لا عذر في محرم، لكن عجوز شائب بالكاد يمشي على عصاتين ويذهب يزني أيضاً!
هذا منه أكثر قبحاً.
فكذلك قول الزور والعمل بالزور طيلة العام محرم، لكن إذا دخل رمضان فيجب أن
يكون أطهر منه في غير رمضان، فإذا كان مرتكباً للزور في غير رمضان فيجب أن
يستحي في رمضان ويتركه، وإذا لم يكن مرتكباً له في غير رمضان فمن باب أولى
أن يحافظ على صومه، وأن يبتعد كل البعد عن قول الزور والعمل به.
وإذا أخذنا في الجملة بهذا، صار المجتمع الإسلامي في رمضان مجتمع حق،
ومجتمع صدق، لا زور فيه، أفراده كلهم على الصدق، أفراده كلهم صادقون،
وأفراده كلهم عفيفون، وأفراده كلهم كرام بررة، بعيدون عن الهزل، بعيدون عن
المزاح، بعيدون عن الزور، كيف نتصور هذا المجتمع؟! أعتقد أنه يكون مجتمعاً
مثالياً وفوق المثالية؛ لأنه تخلق بأخلاق الإسلام.
ويمكن أن نقول أيضاً: من معطيات الصوم تربية النفس على مكارم الأخلاق، وكل
ركن في الإسلام نجد له معطيات أخلاقية، ففي الصوم في أول تشريعه في كتاب
الله قال سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ، وهنا: ترك الزور
قولاً وفعلاً.
إذاً: سيصبح الصائم -كما قلنا- النموذج المثالي.
وإذا جئنا إلى الصلاة نجد لها أيضاً عطاء وأثراً {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ، وإذا جئنا إلى الزكاة
نجد لها عطاءً مزدوجاً {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]
، وإذا جئنا إلى الحج فكذلك الحال، وعلى كل فعطاء الصيام في الناحية
النفسية وفي سلوك الإنسان أخلاقياً؛ عطاءً عظيماً.
معنى الجهل
قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس
لله حاجة ... ) الجهل له مدلولان: جهل ضد العلم، وجهل ضد الحلم، فالجهل ضد
العلم هو جهل الإنسان بما لا يعلم ويعلمه غيره، فنحن مثلاً نجهل علوم
الفلك، ونجهل علوم الذرة، هذا جهل ضد العلم، وليس كل جهل مذمة، إذا كان في
حدود الطاقة، وفي حدود العامة، هذا أمر عادي؛ لأن الناس كلهم لن يكونوا
سواء في العلم، وهذا ليس مطلوباً؛ لأن العلم موجود في الأمة في أفرادها،
وفي بعض الجماعات، ولكن الجهل أمر نسبي، ولا ينبغي للمسلم أن يكون جاهلاً
جهلاً ضد العلم فيما يلزمه من ضروريات الدين، لا يحق لإنسان أن يدعي الجهل
بأحكام الصلاة؛ لأنها ضرورية وفرض عين، كذلك لا يصح لإنسان أن يدعي الجهل
أو يكون فعلاً جاهلاً بأحكام الصيام أو جاهلاً بأحكام الزكاة، ومعرفة
الأنصباء إذا كان من أهلها، وكذلك من أراد أن يحج لا ينبغي له أن يكون
جاهلاً بأحكام الحج، هذا من الناحية الدينية، ووجوب طلب العلم لما يلزمه
عمله.
والجهل الثاني ضد الحلم، وهو -كما يقولون-: التعدي، الحماقة، إساءة الأدب،
انتهاك الحرمات، وقد قال الشاعر الجاهلي: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق
جهل الجاهلينا الجهل هنا ضد الحلم، ومراده: لا يأتي إنسان يغضب علينا، فإذا
غضب علينا إنسان غضبنا عليه أكثر من غضبه، فتكون: المقابلة بالمثل وزيادة،
وهذا الجهل هو المراد هنا: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل) أي: ضد
الحلم، ومنه تسمية ما قبل البعثة بالجاهلية، فكلمة (الجاهلية) ليست جهلاً
عن كل علم، فالعرب كانت عندهم علوم الطب، وعلوم النجوم، وعلوم السير.
فهذه أشياء كانوا يعلمونها، ما وصفوا بالجهالة التي ضد العلم، ولكن وصفوا
بالجهالة التي ضد الحلم، على أتفه الأسباب تقوم الحروب بينهم، حرب داحس
والغبراء كانت على فرسين، وحرب يوم ذي قار، وغير ذلك، كانت العرب في
الجاهلية قد تقوم الحرب بينهم على أتفه الأسباب، وهذا من الجهل الذي هو ضد
الحلم.
إذاً: فليدع الصائم العمل بالجهل، ولذا في الحديث: (إذا سبه أحد أو شاتمه
أحد فليقل: إني صائم) ؛ لأنه إذا رد عليه خرج عن كونه حلم عنه إن جهل عليه،
فيكون الجهل مسايرة من يشاتمه، ومن يسبه، ومن يعتدي عليه، لكن إذا انصرف
عنه وقال: إني صائم.
ترك الجهل.
أيها الإخوة! هذه الصفات: قول الزور، والعمل به في جميع الشئون، والعمل
بالجهالة التي هي ضد الحلم، يجب أن يكون الصائم بعيداً منها، وأن يكون على
سعة بال وسعة صدر، وحسن أخلاق؛ ليكون ذلك أدعى لكمال صومه، والله تعالى
أعلم.
معنى قوله: (فليس
لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)
من لم يدع هذه الأشياء فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، إذا لم
يتركها فليس لله حاجة في أن يصوم؛ لأنه صام عن جزئية من الصوم، والصوم صوم
عن كل شيء نهى الله عنه، فمن لم يدع هذه الأشياء فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه.
سؤال: إذا تركها الإنسان، وأصبح المسلمون على أعلى مثالية في الآداب
والأخلاق، فهل لله حاجة في ذلك؟ يقول الفقهاء: هل مفهوم المخالفة مراد في
قوله: ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه؟ أي: فهل لله حاجة فيمن لم
يرتكب ذلك؟ الجواب: لا، فالله سبحانه وتعالى غني عن عبادة العباد، وغني عن
عمل العباد، وإنما مردود العمل راجع إليهم (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم
أوفيكم إياها) والله غني عن ذلك، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية
العاصين.
إذاً: (فليس لله حاجة في أن يدع ... ) لا مفهوم لذلك؛ لأنه ليست له حاجة
فيما لو ترك الصائم هذه الخصال الذميمة، ولكن المراد بهذا: أنت تركت الطعام
والشراب، وهذا أنت مأمور به، ولكنك تذهب وترتكب قول الزور والعمل به
والجهالة، وأنت منهي عنه، فهل إذا لم تأكل ولم تشرب وعملت بالزور، وفرت في
خزائن الله زيادة؟ لا، لم يكن تركك الطعام والشراب لحاجة عند الله أو قلة
في العطاء، أو لأنه يزيد في خزائنه، كل ذلك لا أصل له، إنما ليس هناك داع
أو ليس هناك موجب لأن تبقى على ترك الطعام والشراب وأنت أفطرت بغيره، كما
جاء في حديث المرأتين اللتين صامتا في يوم حار، وسألتا رسول الله أن يسمح
لهما بالفطر فأبى، وسمح لغيرهما ولم يسمح لهما، ثم استدعاهما وأحضر قدحاً
وأعطاه للأولى وقال: قيئي في هذا.
فتقيأت، وما تقيأت طعاماً: دماً ولحماً عبيطاً -أي: طرياً- حتى تناصف
القدح، ثم أعطاه للثانية ففعلت كذلك، ثم قال: (تصومان عن الحلال -أي:
الطعام والشراب- وتفطران على الحرام) ، أي: على غيبة الناس، كانتا تأكلان
لحوم الناس، فهذا الدم العبيط واللحم العبيط الذي قاءتاه من الغيبة:
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] ، فهما صامتا عن الطعام والشراب، وأكلتا
لحوم المسلمين.
إذاً: هذا تناقض؛ ولهذا جاء الحديث بالعموم: (من لم يدع قول الزور والعمل
به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ؛ لأنه لا فائدة له.
وبعض العلماء يقول: الغرض من هذا هو إبطال هذا الصوم وإن أسقط الفرض عنه،
ولا نقول: عليه القضاء.
والعجب أن بعض الطوائف -وهم موجودون الآن- يقولون: من كذب على الله أو على
رسوله في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة، ومن كذب على أحد من عامة الناس
في نهار رمضان فعليه القضاء! ويدينون بذلك نظراً لهذا الحديث: (فليس لله
حاجة في أن يدع) ويقولون: أي: ليس له حاجة في صومك، فصومك مردود، ويقولون:
الكذب يبطل الصوم، فإن كذب على الخلق فعليه القضاء، وإن كذب على الله أو
على رسوله فمع القضاء كفارة.
والله أسأل أن يحفظ لنا صيامنا.
تهذيب غريزة الغضب
يا إخوان! هل العالم كله معصوم من قول الزور أو العمل به أو الجهل؟ قد يأتي
إنسان يمتحن الإنسان -كما يقولون- ويغضب عليه ويصيح، هذه جهالة، ولكن هل
أحد يسلم من هذه؟ الرسول لما قال للرجل: (لا تغضب) هل معنى ذلك: أن تخلص من
غريزة الغضب؟ لا يمكن، من تخلص من غريزة الغضب فلا خير فيه؛ لأن غريزة
الغضب تحمي الإسلام؛ لأن من لا غضب عنده ولا غيرة يرى المنكر أمامه ولا يحس
به ولا يتغير له، فإذا كانت الغيرة والغضب والحمية موجودة فإنه لحميته
ولغضبه ولغريزته تلك يتحرك، حمزة رضي الله تعالى عنه أول إسلامه حمية لرسول
الله، قالت له المرأة: انظر ماذا فعل فلان مع ابن أخيك! قالت: رأيت أبا جهل
يسب ابن أخيك، وكان آت من القنص بأداة الصيد، فذهب إلى الكعبة ووجد أبا جهل
في نادي القوم، فضربه بالقوس على رأسه فشجه، وقال: أتسب محمداً وأنا على
دينه؟ منذ متى كنت على دينه؟ الآن فقط، فهذه حمية وغيرة حركته إلى الخير.
وهكذا من فقد الغيرة وفقد غريزة الغضب فلا خير فيه، فهو ميت، لكن لا ينبغي
التجاوز في ذلك؛ لأن التجاوز يأتي بضد النتيجة، يغضب لأقل شيء، يثور لأقل
شيء، تأتيه الحمية لأبسط الأشياء لا، يجب أن يكون مع الاعتدال والوسطية،
وكذلك المرأة إذا تسلطت عليها الغيرة من ضرتها أفسدت حياتها وحياة زوجها،
لكن إذا كانت بقدر، وكانت بأمر في حدود الجبلة، فلا بأس، الرسول صلى الله
عليه وسلم لما جاءته قصعة الطعام من عند حفصة في بيت عائشة، وعائشة تعرف
بأن حفصة كانت تحسن الطهي، فلما جاء الجارية بالقصعة ضربتها بيدها فسقطت
القصعة فانكسرت، وتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: (غارت أمكم) .
فهذه غيرة، لكن ما تجاوزت حدها، صبت غضبها على القصعة، وما لمست حفصة بشيء،
ولا لمست جانباً آخر بشيء، ولكن موضوع الغيرة هو القصعة، فجمع الطعام وأخذ
قصعة من بيت عائشة وقال: (قصعة بقصعة) .
وتدارك المسألة.
إذاً: الجهالة لا ينبغي أن تتجاوز حدها، ولا ينبغي أيضاً أن تُطفأ وتُخبأ
نارها؛ لأن الإنسان إذا فقد الحمية والغضب يكون فاقد الدفاع أو فاقد
الإحساس.
إلخ.
شرح حديث: (كان
النبي يقبل وهو صائم)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه
وسلم يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه) متفق عليه
واللفظ لـ مسلم، وزاد في رواية: (في رمضان) ] .
المناسبة بين هذا الحديث والذي قبله، أنه لما نهى عن قول الزور والعمل به
والجهالة ربما يظن بعض الناس بأن ملاطفة، ومداعبة الزوجة من هذا الباب،
ويجب أن يترك، فجاء المؤلف بهذا الحديث ليبحث حكم ملاطفة الزوجة بصفة عامة،
والملاطفة لا حد لها، ما دامت بعيدة عن علبة اللؤلؤ كما يقولون.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو معتكف يقدم رأسه لـ عائشة، سريره في
الروضة ورأسه في البيت، وتمشط شعره وتدهنه، وهذا العمل من أحسن المداعبة أو
المؤانسة للزوجة، ويعجبها أن تجد فرصة مع زوجها بهذه الحالة.
نأتي إلى حكم التقبيل، عن عائشة قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يقبل بعض
زوجاته وهو صائم) وضحكت، وما الذي يضحكك؟ كأنه من حلاوة النسبة إليها هي؛
لأن الحدث كان معها هي، وما كان أحد يراه يقبل زوجاته في بيوتهن، إذاً:
أخبرت بما وقع معها، وكونه صائماً ويقبلها هذا معناه زيادة معزة ومحبة لها،
لكن أم المؤمنين حكيمة، ما قالت: كان يقبل؛ لكي تتأسوا به، وتذهبون تقبلون
ثم تزل قدم أحدكم، لا، بل نبهت بقولها: (وأيكم أملك لإربه) ، والإرب
الحاجة، وهي في هذا المقام معلومة، فكأنها تبين المشروع، وتنبه عن المحظور.
اختلاف العلماء في حكم القُبلة للصائم
اختلف العلماء في القبلة للصائم، فهناك من منعها كلية، وقال: من قبل فقد
بطل صومه وعليه القضاء مطلقاً، وهناك من قال: القبلة ليست ممنوعة لذاتها،
لو أن امرأة قبلت يد زوجها أو رأس زوجها ماذا في هذا؟ ولا شيء، لكن القبلة
في محل التقبيل هي محل التماس كما يقولون، ويقولون: القبلة من حيث هي ليست
ممنوعة وليست محظورة، وليست مبطلة للصوم، ولكنها منعت من باب سد الذرائع،
القبلة ماذا بعدها؟ وقد قال القائل: نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء، وأظن
هذا من شعر شوقي، يقول: نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء.
وما بعد اللقاء؟ الالتقاء.
فالأمور تأتي بالتدرج، وكما يقولون: بعضها يجر بعضاً، فقالوا: إن النهي عن
التقبيل إنما هو من باب سد الذرائع.
والآخرون قالوا: لا، نحن ننظر إلى هذا الشخص الذي يريد أن يقبل، إذا كانت
حرارته زائدة، وبمجرد التقبيل يقع منه الخطأ، فهذا نقول له: ابتعد بعيداً
جداً.
ومن كانت حرارته منطفئة، وليس هناك إلا العاطفة، وليس هناك إلا المودة،
فنقول: دونك! وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفاً
ومرفوعاً، جاء عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان في مجلس
أصحابه، فجاء رجل فسأله عن القبلة، فنهاه، ثم جاء آخر وسأله عن القبلة فرخص
له) ، ولهذا مالك بوب في الموطأ: باب الرخصة في القبلة، ثم جاء بعده بباب
آخر: باب التشديد في القبلة.
الترخيص والتشديد! الترخيص لمن؟ والتشديد على من؟ على هذه الصورة التي
ذكرها ابن عباس، وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما منع الأول وأباح للثاني،
التفت لأصحابه وقال: (لكأنكم تعجبون أني منعت الأول وأجزت الثاني؟! قالوا:
إي والله -يا رسول الله- نتعجب! قال: نظرت إلى الأول فإذا به شاب فخشيت
عليه، وإلى الثاني فإذا به شيخ لا يخشى عليه) .
ونقول: هذا التشريع يكون عاماً؛ لأن أحكام التشريع لا تنظر إلى الأفراد،
تنظر إلى العمومات كما قال الشاطبي رحمه الله: تكون شاملة عامة، ولكن يختلف
الأفراد في هذا الشمول، قد يكون شائباً ولكنه أنجح من الشباب، فإذا كان شخص
في مشيبه، ولكنه في هذا الباب شباب، هل نقول: نرخص للشيوخ ونمنع الشباب على
أنه شيخ وشاب أم ننظر إلى مظنة المنع في حالة الشباب؟ قد يكون شاباً عنيناً
لا يصلح للنساء، وقد يكون الشيخ منجباً، ونسمع قصصاً كثيرة عن أشخاص أنجبوا
بعد المائة سنة! تزوج بعد المائة وجاء بأولاد! إذاً: المسألة شخصية،
التشريع عام، والتطبيق خاص، أي: جزئي من هذا العموم، وأنت أعرف بنفسك، فإذا
عرف الإنسان من نفسه أنه أملك لإربه فنقول: إنه جائز.
وأبعد ابن حزم وقال: إنه مستحب؛ لأن الرسول قبل، لكن عائشة قالت: أيكم أملك
لإربه؟ فلينظر الإنسان في خاصة نفسه.
جاء في بعض الروايات أن (الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلمس وجه عائشة وهي
صائمة) ، إذاً: فمتى قبلها؟! هو يمكن وهو صائم وهي مفطرة؛ لأن عائشة تأتيها
الدورة، وإذا جاءتها الدورة منعتها من الصيام، فيكون هو صائم وهي مفطرة،
فلماذا لم يلمس وجهها وهي صائمة؟ هذا ينبغي أن يلاحظ، هي زوجة شابة، ومع
المداعبة قد تغلبها نفسها، وكما قال صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة:
(إن الله لا يستحيي من الحق يا رسول الله! فهل على المرأة من غسل إذا
احتلمت؟ قال: نعم؛ إذا رأت الماء) إذاً: المرأة عندها ماء، وهو يأتي
بالمداعبة أو باللقاء، وإذا خرج منها وهي نائمة فتكون قد احتلمت، وعليها
الغسل.
إذاً: في حالة اليقظة هي شابة، وكان الزوج يملك إربه وهي لا تملك، ويقولون
في بعض كتب الأدب: الشهوة مائة جزء، تسع وتسعون للمرأة، وواحد للرجل، ولكن
المرأة يمنعها حياؤها، فإذا كانت المرأة لا تستطيع مسايرة الزوج في
المداعبة فيجب أن يعرف طاقتها، ويحجب عن ذلك؛ لئلا يفسد عليها صومها.
إذاً: حكم القبلة للصائم هناك من يمنع مطلقاً، ويقول: من قبل فعليه القضاء،
وهناك من يبيح مطلقاً دون أن ينظر إلى شيء، بل قال: إنه مستحب كما قال ابن
حزم، وهناك من يقول: ليس على الإطلاق، إنما ينظر الشخص في حالة نفسه، وكذلك
المفتي يجيز للبعض بنظره واجتهاده، فتباح لمن يملك إربه، وتمنع لمن لا يملك
إربه.
والله تعالى أعلم، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه،
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبالمناسبة هذه يذكر الفقهاء أشياءً عميقة -لا أظن أن عندنا نسوة يسمعن
هذا-، يذكرون تبعاً للقبلة: أنه من دواعي المؤانسة مع المرأة أن يمتص
لسانها، فإذا امتص لسانها هل له أن يبتلع ريقه بعد هذا الامتصاص؟ قالوا:
لا؛ لأن هذا إدخال شيء غريب إلى جوفه.
إذاً: القبلة من الخارج ليس فيها ريق، وليس فيها سائل، وليس فيها شيء، لكن
إذا امتص لسانها فيحتاط، ولا يبلع الريق في هذه الحالة.
والله أعلم.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [7]
اختلف أهل العلم في حكم الحجامة للصائم، ومعرفة أدلة كل قول، ووجه الجمع
بين أدلة المسألة؛ يفيد طالب العلم زيادة في العلم، وسعة في الصدر.
هذا وللحجامة فوائد كثيرة، وورد في الترغيب فيها أحاديث عديدة.
شرح حديث: (احتجم
وهو صائم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم) رواه البخاري]
.
انتقل المؤلف رحمه الله تعالى إلى مفطرات الصوم، ما يكون منه الفطر وما لا
يكون، أو ما يجوز فعله للصائم وما لا يجوز، وبدأ بالحديث عن الحجامة، وقدم
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو
محرم، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم) ، وعلى هذه الراوية يكون
الحديث عن الحجامة مرتين: مرة في الصيام، ومرة في الإحرام، وهناك رواية
أخرى: (احتجم وهو محرم صائم) فتكون الحجامة مرة واحدة في حالة الإحرام ومعه
الصيام.
والحجامة من المسائل التي يتناولها الباحث من جهتين: جهة المعالجة، وجهة
الفقه.
ويتفقون في الجملة أن للمريض الصائم أن يتداوى كيفما شاء ما لم يصل الدواء
إلى الجوف، فإذا كان الدواء يصل إلى الجوف من أي منفذ فلا يجوز للصائم إلا
إذا كان يحتاجه ويفطر، وكذلك قال البعض: دواء الشجاج -وهي الشجة في أم
الدماغ من الداخل- يبطل الصوم؛ لأن الرأس مجوف، والنووي ينص على أنه لا
يبطله.
معنى الحجامة
وقبل الكلام على الحجامة للصائم ينبغي أن نعلم ما هي الحجامة، ولعل البعض
لم ير حجاماً ولا محجوماً ولا آلة حجام، وكانت الحجامة منتشرة بكثرة في
المدينة، وكان لهم موطن معروف، والآن لا نجدها في ذلك الموطن الذي كان
معروفاً للناس، ولا في غيره، وكأنها لم تكن! الحجامة: هي استخراج الدم من
الجسم بواسطة شرطة موس، وشفط الدم بالقرن أو ما يماثله، إذاً الحجامة:
إخراج الدم من الجسم عن طريق الجلد، وهناك إخراج الدم عن طريق العرق
مباشرة، ويسمى الفصد، وهناك إخراج الدم أيضاً عن طريق الجرح أو عن طريق
الرعاف، وكل أنواع إخراج الدم من الجسم ما عدا الحجامة يتفق العلماء أنه لا
يفطر، ما عدا الحجامة عند الحنابلة كما سيأتي بيانه عند الكلام على الحجامة
للصائم إن شاء الله.
فوائد الحجامة
الحجامة معروفة من القدم أنها من أنواع العلاج، وثبت عنه صلى الله عليه
وسلم الحث عليها، حتى جاء عند أبي داود أن جبريل أوصى النبي صلى الله عليه
وسلم بالحجامة، وهناك: (لو أن دواء يصل الداء لوصلته الحجامة) ، وهناك:
(احتجموا لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم) .
والحجامة من الناحية الطبية يتكلمون عنها من حيث الزمن، ومن حيث الشخص
الحاجم والمحجوم، أما من حيث الزمن فإنهم يستحبونها أن تكون في ساعات
النهار ما بين الثانية والثالثة بالتوقيت الغروبي -يعني: عند الضحى-، وأما
في أيام الأسبوع فيكرهونها يوم الأربعاء ويوم السبت، وأما من حيث الشهر
فإنهم يكرهونها في أول الشهر وفي آخره، ويمتدحونها من منتصف الشهر فما
بعده، وينصون على السابع عشر والتاسع عشر والواحد والعشرين، ومن العجب أن
الفقهاء فطنوا إلى مسألة عجيبة جداً! وهي: أن الحجامة في السابع عشر
والتاسع عشر تكون عند هيجان الدم، وينص الفقهاء على أن هذا الوقت هو بتأثير
اكتمال ضوء القمر، وهو الذي يعبر عنه الآخرون بالمد والجزر؛ لأن المد
والجزر في البحار أشد ما يكون عند اكتمال ضوء القمر في ليلة الرابع والخامس
والسادس عشر، ومن هنا قال بعض العلماء الحكماء: إن من حكمة صوم الثلاثة
الأيام البيض من كل شهر: اليوم الثالث والرابع، والخامس عشر؛ لأنها تصادف
شدة مد الدم في الجسم، والصوم يخفف ويلطف ذلك؛ لئلا يؤثر على الإنسان أكثر،
وقالوا: إن الإنسان بحر دم، فكما أن البحر يتأثر مداً وجزراً باكتمال ضوء
القمر فكذلك الدم في الإنسان في تلك الآونة تشتد حركته على صاحبه، فإذا صام
خفف من هذه الآثار ومن تلك الإثارة.
إذاً: الحجامة من جهة الطب ومن جهة المداواة يختار لها زمن، ثم من حيث
المواضع في الجسم يحدده المختص في ذلك، سواء في نقرة القفا، أو على الركبة،
أو في الفخذ، أو.
إلخ، بحسب الحاجة التي دعت إلى استعمال الحجامة.
وينبهون على أن من لم يحتجم قبل الأربعين لا يحتجم بعدها؛ لأنه لا يتحمل
ذلك، ويفرقون بين الحجامة والفصد في العلاج بأن الحجامة علاج للدم في خارج
الجسم -أي: الجلد وتحته-، والفصد علاج لداخل الجسم كما هو في الأعضاء
الداخلية كالكبد والمعدة والكليتين وغير ذلك.
هذا ما يتعلق بالحجامة، وكان استعمالها سابقاً بكثرة، وأما الآن فتكاد تكون
قد تلاشت بالكلية.
حكم الحجامة للصائم
في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم،
وذكر لنا وقت حجامته: احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم، ويستدل العلماء به
على جواز تداوي المحرم حالة إحرامه، سواء كان إحرامه بالحج أو بالعمرة،
فالتداوي جائز، والحجامة لا تضر الإحرام بشيء.
بقي الكلام على حكم الحجامة في الصوم، وسواء كانت حجامة النبي صلى الله
عليه وسلم في حال كونه محرماً، أو صائماً بدون إحرام، ونجد العلماء يناقشون
في ذلك ويقولون: ما صام صلى الله عليه وسلم في سفر فيه إحرام قط؛ لأنه ما
سافر محرماً إلا في حجة الوداع وفي عمرة القضية، أما عمرة ذي الحليفة فما
كانت في رمضان، وعمرة حنين أيضاً لم تكن في رمضان، فإذا احتجم وكان قد خرج
صائماً محرماً فمتى ذلك؟ قالوا: لم يثبت أنه صام في حال إحرامه، سواء كان
إحرام حجة الفرض -وهي حجة الوداع- أو كان إحرامه في عمراته الثلاث التي
اعتمرها.
وعلى هذا قالوا: لعله كان صائماً صوم تطوع، وهذا ممكن في بعض أسفاره تلك،
فيكون صائماً صوم تطوع، ثم يحتجم وهو صائم، أما رواية: (احتجم وهو صائم) ،
لم تحدد المكان، فمن الممكن أن يكون احتجم وهو صائم وهو مقيم، وحينئذ يحتمل
أن يكون في رمضان أو في غير رمضان.
والمهم إثبات فعله صلى الله عليه وسلم للحجامة وهو صائم، وبهذا أخذ جمهور
العلماء، وقالوا: الحجامة لا تبطل الصوم بصفة إجمالية، لكن جاء عن رافع وعن
أوس بن شداد وعن غيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم
والمحجوم) وقال أنس في حديثه: (أول ما كرهت الحجامة للصائم أن النبي صلى
الله عليه وسلم مر بـ جعفر وهو يحتجم فقال: أفطر هذان -أي: الحاجم
والمحجوم-) وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع
فوجد رجلين يحتجمان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم) ، والكلام على (أفطر
الحاجم والمحجوم) من جانبين: الجانب الأول: معناه أساساً، والجانب الثاني:
معارضته لحديث ابن عباس.
أما الكلام على نفس الحديث: (أفطر الحاجم) ، الحاجم: هو الشخص المداوي الذي
يشرط الجلد ويضع القمع، ويشفط من منسم فيه الدم، هذا هو الحاجم، والمحجوم
هو الذي يشرط جلده، ويعالج بالحجامة، ويخرج الدم من جلده، فقال العلماء: هل
أفطر الحاجم والمحجوم على الحقيقة أو على المجاز؟ ومعنى المجاز هنا: أن
يكون مآلهما إلى الفطر، يعني: أخذا بأسباب الفطر، أو تسببا بالفطر
وسيفطران، أما حمله على الحقيقة بأنهما أفطرا فعلاً فهذا فيه نظر؛ لأن
الحاجم لم يخرج منه دم، هو شرط الجلد، وشفط بفيه الدم، فبم يفطر؟ قالوا:
(أفطر) يعني: كاد أن يفطر؛ لأنه لا يسلم أحياناً من كونه يشفط الدم من
الجلد إلى المحقن ثم يغلبه الدم ويدخل إلى فيه، فيسبق إلى حلقه فيفطر،
قالوا: إذاً: لم يفطر بنفس الحجامة؛ ولكن يفطر بما يغلبه من الدم ويصل إلى
جوفه، فإذا لم يصل إلى جوفه شيء فلم يفطر على الحقيقة.
أما المحجوم فإن فطره بخروج الدم.
والحنابلة يقولون: إذا شرط وشفط ولم يخرج دم فلا فطر؛ لأن الأصل في ذلك
خروج الدم.
إذاً: الذين قالوا: إن الحجامة تفطر أخذوا بظاهر هذا النص، وسواء كان الفطر
على الحقيقة أو على المجاز.
خلاف الأئمة في
الفطر بالحجامة
الأئمة الثلاثة رحمهم الله أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون: الحجامة لا
تفطر، ولكن يخشى منها أن تئول إلى الفطر، ومن هنا ينبغي أن يتجنبها الصائم
سداً للذريعة؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد يفطر، منعت القبلة لمن يخشى عليه منها
مخافة أن يقع فيما هو أبعد من ذلك، فيكون منعها سداً للذريعة.
ومذهب أحمد رحمه الله وتبعه أكثر أصحابه -كما في المبدع والإنصاف- أن
الحجامة تفطر، قال في الإنصاف: وهو من مفردات المذهب، واختار بعض الحنابلة
أنها لا تفطر، وذكر الخلاف بين علماء الحنابلة في أن الحجامة تفطر أو لا
تفطر، ولكن الراجح عندهم في المذهب أنها تفطر.
ثم ذكر الفصد، وذكر الخلاف فيه، ورجح أنه لا يفطر، والفصد -كما أشرنا-: هو
أن يقطع العرق، ولا يجرح الجلد، يقطع العرق فيتقاطر الدم منه، كما في عملية
نقل الدم وأخذ الدم، فإن الطبيب يأتي إلى العرق مباشرة ويدخل فيه تلك
الإبرة، ويسحب الدم من العرق مباشرة.
فهذا الفصد فيه خلاف عند الحنابلة في كونه مفطراً أم لا، والصحيح عندهم أو
المقدم عند أكثرهم: أنه لا يفطر.
وكذلك ينصون على أن من لم يرد أن يحتجم، ولكن جرح نفسه بدلاً من الحجامة،
وليس هناك شفط، وخرج الدم من الجرح فإنه لا يفطر.
واختلفوا فيمن أخرج الدم عن طريق الرعاف من الأنف عامداً متعمداً، هل يفطر
أو لا يفطر؟ وعلى هذا فالحجامة للصائم عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله أنها
لا تفطر، وبالتالي الفصد، وبالتالي الرعاف، وبالتالي الجرح، وأن للصائم أن
يبط الدمل، ويقلع السن إذا احتاج إلى ذلك، وليس فيه إبطال للصوم، وكذلك له
أن يعطي الدم لغيره إن كان يستطيع ذلك، فالذي يعطي الدم أو يأخذ الدم لا
علاقة لصومه بالدم الذي يعطيه أو يأخذه، هذا عند الأئمة الثلاثة رحمهم
الله.
أما عند الحنابلة فالحجامة والفصد والرعاف والجرح موضع اختلاف بينهم، وأما
الحجامة فالراجح فيها عندهم، وهو المقدم عندهم في المذهب أنها تفطر، وهذا
القول من مفردات المذهب، واختلفوا في الفصد، والراجح عندهم أنه لا يفطر،
فإذا كانت العلة خروج الدم فخروج الدم من العرق أكثر وأغزر من خروجه من
الجلد، فلم تفطر الحجامة ولا يفطر الفصد؟ وكذلك إذا لم تحصل الحجامة، ولم
يأت بحجام، ولكن جرح جلده وخرج الدم كما لو كان يخرج من الحجامة بمقداره أو
أكثر أو أقل، فإذا كانت العلة خروج الدم فلم لم يفطر بتعمده جرح يده؟ وهل
الفطر يختص بشرط الجلد؟
الجمهور على أن
أحاديث الفطر بالحجامة منسوخة
الحنابلة يعولون على هذا الحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وهذا نص صريح،
ويناقشون في الجمع بين الحديثين، والجمهور يقولون: إن أحاديث الحجامة
منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم.
وابن القيم في زاد المعاد يقول: إن دعوى النسخ لا تثبت حتى نعلم تاريخ
الحديثين، وأيهما متأخر؟ هل فعله صلى الله عليه وسلم أم قوله لـ جعفر أم
قوله للرجلين عند البقيع؟ التاريخ غير معروف، ثم لا نعلم في أي سفر كان،
وهل هذا الصوم كان نافلة أو فريضة؟ ويذكر نقاطاً، واستبعد أن حديث ابن عباس
يكون ناسخاً لأحاديث الحجامة، ويقول: دعوى النسخ لا يمكن أن نثبتها، وبقي
الحديثان متعارضان: حديث من فعله صلى الله عليه وسلم، وحديث من قوله، وإذا
تعارض القول والفعل قدم القول على الفعل.
فالحنابلة يأبون دعوى النسخ، ويقدمون أحاديث الحجامة على حديث ابن عباس،
وبعضهم يقول: أفطر الحاجم والمحجوم لا لكونهما يحتجمان، ولكنه رآهما
يغتابان وهما يحتجمان، كانا يتكلمان وقت الحجامة، فكان حديثهما غيبة
للآخرين، فقال: (أفطرا) .
أي: بالغيبة.
وكثير من العلماء يتندر بهذه العلة، ويقول: وهل كل من اغتاب إنساناً يفطر؟!
وأحمد رحمه الله لما سمع هذا القول قال: لو أن العلة هي الغيبة لما سلم صوم
أحد أبداً.
إذاً: كونهما يغتابان لا دخل له في هذا الموضوع.
إذاً: من الناحية الصناعية الحديثية يكون الحديثان أحدهما فعلي، والآخر
قولي، والقولي مقدم، فإذا لم نعرف التاريخ لا نستطيع أن ندعي النسخ، وإذا
وجد الفعل منه صلى الله عليه وسلم، ووجد أن الأئمة الثلاثة على أنها لا
تفطر، فلابد لترجيح مذهب الأئمة الثلاثة من مرجح، قالوا: جاء عن أنس رضي
الله تعالى عنه أنه سئل: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، ولكن من
أجل الإرفاق به أو الإبقاء عليه) ، وجاء عن أنس أيضاً قال: (ما نهى صلى
الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم والحجامة للصائم إلا إرفاقاً بأصحابه) ،
وجاء أيضاً: (ثلاث لا تبطل الصوم: القيء، والحجامة، والاحتلام) ، والقيء
سيأتي فيه تفصيل، والاحتلام مفروغ منه، فبالإجماع أن من نام في نهار رمضان
فاحتلم فلا شيء عليه، بخلاف من تسبب في إخراج المني، وهذا محله في بحث
القبلة، ولكن أخرناه إلى حديث الأعرابي الذي قال: واقعت أهلي، وستأتي تتمة
البحث هناك إن شاء الله، ومن هذه الثلاث التي لا تبطل الصوم الحجامة، وهذا
محل الشاهد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبرها مفسدة للصوم، وكان
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يحتجم في نهار رمضان، فلما تقدمت به السن
وكبر صار يؤخر حجامته إلى الليل، ومن هنا أخذ الأئمة الثلاثة -من فعله صلى
الله عليه وسلم، ومن فعل أصحابه رضي الله تعالى عنهم- أن الحجامة لا تبطل
الصوم، ولكن -كما قال الشافعي رحمه الله- يُنظر إلى الشخص في ذاته، إن كان
ضعيف البنية، وإن احتجم زاد ضعفه، واحتاج إلى أن يتناول ما يعوض ما خرج من
دمه، ويلجئه ذلك إلى الفطر؛ فهي محرمة عليه، وإن كان معتدل الصحة، لا تؤثر
عليه الحجامة، ولا تلجئه إلى الفطر فلا شيء في ذلك، وهذا أعدل الأقوال في
قضية الحجامة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
شرح حديث: (أفطر
الحاجم والمحجوم)
قال المصنف رحمه الله: [وعن شداد بن أوس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى
على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم) رواه
الخمسة إلا الترمذي، وصححه أحمد وابن خزيمة وابن حبان] .
قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، حُمل على أنه فطر
حقيقي، ومشى على هذا الحنابلة، وحمله الجمهور على أنهما أوشكا أن يفطرا،
أما الحاجم فلإمكان سبق الدم إلى حلقه فجوفه، وهذا نظيره حديث لقيط بن صبرة
حيث جاء في باب الوضوء: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) لماذا؟
لأن المبالغة في الاستنشاق قد تنزل الماء إلى داخل أنفه، فيصل إلى الدماغ،
فينزل إلى الحلق فيبطل صومه، فالنهي عن المبالغة في الاستنشاق للصائم
تحفظاً على صومه من أن يسبقه الماء إلى حلقه فجوفه فيبطل صومه، وكذلك هنا
منع الحاجم أن يحجم أحداً تحفظاً على صومه من أن يسبقه الدم إلى حلقه فإلى
جوفه فيفسد صومه.
أما المحجوم فهو تحفظ عليه؛ لأن في الحجامة إخراج الدم، والإنسان إنما يسير
بالدم، فالدم في الجسم هو حياة الإنسان، ويسمى الدم نفْساً كما في قولهم:
(ما لا نفْس له سائلة إذا مات في السمن لا ينجسه) مثل: الذباب إذا وقع في
الشراب تغمسه في السائل ثم تشربه إن شئت؛ لأن موته فيه لا ينجسه؛ لأنه لا
نفس له سائلة، فالدم يطلق عليه النفْس، وإذا خرج الدم من الإنسان اصفر وصار
كالشن، أي: كالقربة الفارغة لا قيمة له، وفارق الحياة، فإذا احتجم الإنسان
يضعف قليلاً، وقد يحجمه من لا يعرف قانون الحجامة، فيسحب كل الدم، فحينئذ
ينهي دم صاحبه، وقد يموت بين يديه! ولكن الخبراء في عمل الحجامة يعرفون
المقدار الذي يؤخذ، وفي أي موضع من المواضع، إما بتغير لون الدم، وإما
بتغير ريحه، ويعرفون الموضع الذي يحجم فيه كم يمكن أن يؤخذ منه، ويراعون سن
المحجوم، فهؤلاء لهم خبرة، فإذا لم يكن الحاجم ذا خبرة، أو أخطأ في خبرته،
وتجاوز حد ما يؤخذ من الدم، فحينئذ يكون المحجوم على خطر.
فـ (أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أوشكا أن يفطرا.
شرح حديث: (رخص
النبي بعد في الحجامة للصائم)
قال رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أول ما كرهت الحجامة
للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة
للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم) رواه الدارقطني وقواه] .
انظروا إلى فقه المؤلف رحمه الله! ساق لنا الأحاديث التي بينها التعارض:
ذكر أولاً حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم، ثم حديث:
(أفطر الحاجم والمحجوم) ، ثم ختم البحث بحديث أنس، ماذا في حديث أنس؟ أنس
ممن روى الحجامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سئل: (أكنتم تكرهون
الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا إبقاءً عليه) فحديث أنس هذا فصل الخطاب.
[قال: (أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم) ]
.
انظروا إلى عرض أنس رضي الله تعالى عنه! لم يقل: رخص النبي بالحجامة للصائم
لا، بل أتانا بتاريخ الحجامة شرعاً: (أول ما كرهت الحجامة) يعني: هو مستوعب
لفقه الحجامة من أولها، ما أولها؟ (أول ما كرهت) يعني قبل قصة جعفر لم تكن
مكروهة، كانت ماضية في سبيلها، وأول ما كرهت لما رأى النبي صلى الله عليه
وسلم جعفر يحتجم، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم) .
قال: [ (فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي
صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم) ] .
لما أخبرنا أنس رضي الله تعالى عنه عن بداية كراهية الحجامة بسبب احتجام
جعفر رضي الله تعالى عنه، ومرور النبي صلى الله عليه وسلم به وهو يحتجم
بالفعل، وقوله لهما: (أفطر هذان) ؛ يأتي أنس بالحكم العملي والفقهي: (ثم
رخص بعد ذلك) ثم رخص بعد ذلك في الحجامة للصائم.
إذاً: حديث أنس هذا يدلنا على أن الحجامة أول كراهيتها عند قصة جعفر، وبعد
ذلك رخص في الحجامة للصائم.
إذاً: تكون الحجامة للصائم رخصة، والرخصة تستعمل عند الحاجة، فإذا كان
الصائم في حاجة إلى الحجامة نهاراً فعنده رخصة باستعمالها، ولا قضاء عليه،
أما إذا كان في غنىً عنها، وعنده ما ينوب عنها، أو عنده سعة ويمكن أن
يؤجلها إلى الليل فليست له رخصة فيها، بل يتركها لغيرها أو يتركها لوقت آخر
ليس هو فيه صائم، وأعتقد أن حديث أنس هذا هو الفصل، وتقدم لنا عن الشافعي
رحمه الله أنه قال: ينظر في حالة الشخص الذي يريد أن يحتجم: إن كان يستطيع
أن يتحمل أثر الحجامة من الضعف والفتور، ولا يلجأ إلى الفطر؛ فلا مانع، وإن
كان لا يستطيع ذلك فيمتنع من الحجامة.
وهكذا سماها أنس رضي الله تعالى عنه رخصة للصائم، يعني: لا تستعمل إلا عند
الحاجة الداعية إليها، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (اكتحل في
رمضان وهو صائم)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه
وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف، وقال الترمذي:
لا يصح في هذا الباب شيء] .
هذا مما يتعلق بما يكره للصائم وما يجوز، وقد تكلمنا عن الحجامة، وذكرنا
الخلاف الخفيف فيها، وقول أنس: إنها رخصة للصائم عند الحاجة، ثم أتى المؤلف
بموضوع الاكتحال، وأتى بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله
عليه وسلم اكتحل) ، و (اكتحل) : افتعل بوضع الكحل، والكحل محله العين، ومن
هنا أخذ بعض العلماء أن الاكتحال لا يضر الصائم، ولكن نص بعض العلماء أن
الكحل له حالتان: حالة يكون خفيفاً جداً لا يتعدى موضعه، وحالة يصل فيها
إلى الحلق، فإذا كان يصل إلى الحلق فقد أفطر الصائم؛ ولذا نص الحنابلة على
أن من المبطلات والمفسدات للصوم: إذا اكتحل بما يصل إلى الجوف، وهناك أشياء
تسري، وهناك أشياء لا تتعدى موضعها، ولكن تمنع سداً للباب، وجاءت آثار فيها
النهي عن الاكتحال بالإثمد المطيب، أو الإثمد المروح.
فمن أجاز الاكتحال للصائم قال: النهي عن نوع خاص وهو الإثمد المروح -يعني:
الذي فيه رائحة طيبة-؛ لأن الصائم ممنوع من استعمال الروائح الطيبة، ولكن
الإثمد مهما كان مروحاً لا يصل إلى حد أن يمنع الصائم منه من أجل الرائحة،
وكراهية الروائح الطيبة للصائم إنما هي من قبيل باب القُبلة، قالوا: لأن
عرقا الخصيتين في الإنسان مرتبطة بالأنف، فإذا شم رائحة زكية تحرك عليه
العرقان؛ فمنعوا من الروائح الطيبة الصائم والحاج، فالحاج إذا أحرم لا يحق
له أن يتطيب؛ لأنه مدعاة إلى الإثارة، إذاً: الطيب من حيث هو ليس ممنوعاً،
ولكن الممنوع موجب الإثارة، ومهما يكن في الإثمد من رائحة لا تصل إلى الحد
الذي يثير عند صاحبه شيئاً.
إذاً: النهي عن الاكتحال إنما هو لكونه في العين، والعين منفذ، فإذا وصل
إلى الحلق -كما قال الحنابلة- فإنه حينئذ يكون قد أدخل شيئاً إلى الجوف
عامداً، وحينئذ يمتنع عليه أن يكتحل.
والذين يقولون بأن الكحل يؤثر على الصوم يلحقون به كل معالجة للعين ما عدا
الماء، فيمنعون الَصِبر للعين، وكذا التوتياء أو الششم أو القطرة، أو أي
محلول فيه مادة كيماوية، ويجعلون كل نوع من أنواع المعالجات التي تصل إلى
الحلق تابعة للإثمد.
أما علاج العين بالماء فهذا أمر جائز، والإنسان يغسل وجه في الوضوء أكثر من
مرة، ومن أنواع علاج العين بالماء: إذا كانت هناك رجرجة أو كانت هناك
حرارة، أن تأخذ كأساً من الماء البارد العادي، وكما يقول بعض الأطباء:
يبيته في الخلاء في الليل، ثم يأخذه صباحاً، ويفتح العين فيه، ويكون الإناء
مليئاً بالماء، ويضعه على بؤبؤ العين، ويحرك حاجبيه أو رمشيه، فيدخل الماء
البارد تحت الحاجب هنا أو تحت الرمش -كما يقولون- ويصل إلى شحمة العين،
فيستخلص الحرارة منها، هذا نوع من العلاج، وينفع من ضعف البصر في بعض
الأحيان، لكن لا دخل له ولا سريان له إلى الدماغ.
إذاً: الكحل للصائم ممنوع، ويلحق به كل ما له نفوذ من العين إلى الجوف،
واعتبروا العين منفذ، والأنف منفذ، والأذن عند الحنابلة أيضاً منفذ، وكل
دواء لهذه الجهات أو عن طريقها يصل أثره إلى الحلق فهو مبطل للصوم، والله
تعالى أعلم.
شرح حديث: (من نسي
وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله
وسقاه) متفق عليه.
وللحاكم (من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة) ، وهو صحيح] .
ذكر المؤلف رحمه الله من مبطلات الصيام الحجامة، والكحل، ثم جاءنا بمن أفطر
أو أكل ناسياً، وكذلك أيضاً إذا احتجم ناسياً أو اكتحل ناسياً، فما حكم من
تعاطى مبطلاً للصوم ناسياً بصفة عامة؟ يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث:
(من أكل أو شرب وهو صائم ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) .
هذا الحديث يعتبر منة من الله سبحانه وتعالى، ولطفاً من الله، فإنه لا
يؤاخذ الإنسان في نسيانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] إلخ، وقال صلى الله عليه
وسلم: (رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) .
فإذا نسي الإنسان صومه، وتناول الماء تلقائياً وشرب، أو تناول الأكل
تلقائياً وأكل، ثم تنبه بأنه صائم، ماذا يفعل؟ الحديث يقول: (فليتم) ، تذكر
أنه صائم فليمسك، ويتم صومه بقية يومه، ولا يفطر بما أكله، قال الله:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، والذي أكل أو
شرب في نهار رمضان ما أتم الصوم، بل قطعه، لكن الحديث صريح بأن الإنسان يتم
صومه، وأنه فضل من الله، وقد أطعمه الله وسقاه.
وقوله: (أطعمه الله وسقاه) هنا واضح، أكل وشرب حتى ولو شبع، كما في بعض
الآثار أن جارية دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده ذو اليدين وهما
يفطران، فقال: (هلم إلى الطعام) ، فجلست وأكلت، ولما انتهوا قالت: أوه! أنا
كنت صائمة، نسيت.
فقال لها: أبعدما شبعتِ؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (أتمي صومك؛
فإنما أطعمك الله وسقاك) .
إذاً: تفسير: (أطعمه الله وسقاه) واضح، أطعمه ما أكل، وسقاه ما شرب،
فالإطعام والسقيا هنا حقيقة واقعية لا تحتاج إلى تأويل، بخلاف (لي طاعم
يطعمني، وساق يسقيني) ، فهناك فيه الإشكال، أما هنا فلا إشكال، أطعمه الله،
أي: ساق له الطعام، وعفا له عن أثره، وصحح له الصيام، فهذه منحة جاءته من
حيث لا يعلم.
والأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله يقولون: من أكل أو
شرب ناسياً فلا قضاء عليه، ويتم صومه ولا شيء عليه.
ومالك رحمه الله يقول: عليه قضاء يوم مكانه.
لماذا -يا مالك - فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أطعمه الله وسقاه) ؟
قال: نعم، ولكن لم يقل: وليس عليه قضاء.
بل قال له: (يتم صومه) ، وكونه يتم صومه فصومه ماض، لكن في بعض الروايات:
(ولا قضاء عليه) قال: لا تصح، والله تعالى يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، وهذا لم يتم، (أطعمه الله
وسقاه) هذه نعمة من الله، وأنه لم يؤاخذه على الأكل والشرب في رمضان؛ لأنه
لو أكل أو شرب عامداً لكان عليه القضاء، ومع القضاء كفارة؛ لأن مالكاً يوجب
الكفارة بالأكل والشرب، خلافاً لمن لا يوجبها إلا بالجماع.
فـ مالك أخذ الحديث على الرخصة أو على العفو، وطالب من أكل ناسياً بيوم
مكان اليوم، ولكن الصحيح الواضح أن من أكل أو شرب ناسياً فإنه يتم صومه،
وصومه كامل، ولا قضاء عليه، والله تعالى أعلم.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [8]
اختلف الفقهاء في الأفضل للمسافر في رمضان، فقيل: الصوم أفضل له، وقيل:
الفطر أفضل له، وقال المحققون من العلماء: الأفضل الأيسر له، وهذا يختلف
باختلاف الأشخاص والأحوال، ومعرفة طالب العلم لهذه المسألة بتفاصيلها،
وأدلة كل قول فيها؛ تدربه على التفقه، وعلى معرفة الراجح من الأقوال، وأنه
قد يمكن الجمع بين جميع الأقوال في المسألة الواحدة.
شرح حديث: (من ذرعه
القيء فلا قضاء عليه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه القيء فلا قضاء
عليه، ومن استقاء فعليه القضاء) رواه الخمسة، وأعله أحمد، وقواه الدارقطني]
.
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في مباحث ما يمنع أو يباح في الصوم ما يتعلق
بالقيء، والقيء: هو لفظ المعدة لما فيها من الطعام عن طريق الفم.
ومعنى: (ذرعه) أي: غلبه، تقول: ضقت بالأمر ذرعاً.
أي: غلبت عليه، فمن غلبه القيء، وخرج بدون رغبة منه ولا إرادة له وهو صائم
فإن صومه صحيح، ولا قضاء عليه، سواء كان هذا القيء قليلاً أو كثيراً، تغير
أو لو لم يتغير.
والقلس: هو أن تخرج المعدة عند امتلائها شيئاً من الماء ملء الفم أو دون
ذلك، فهذا يسمى قلساً، ويكون حديث عهد بأكله وبتناوله، أما القيء فيكون
الطعام قد تغير لمكثه في المعدة، وكما قيل: إن المعدة تعمل آلياً
وكيميائياً، آلياً بمعنى: أنها تتحرك بنفسها على الطعام كالرحا تطحنه،
وكيميائياً ما يأتيها من إفراز من المرارة، فإنه يساعد على هضم الطعام،
كالحمضيات مثلاً تساعد على إذابة الأجرام، فإذا ما عملت المعدة في الطعام
ثم طرأ عليها عدم ارتياح لهذا الطعام، وقد يكون شيء طارئ يتقدمه مثل المغص
أو القلق النفسي، أو أسباب أخرى، فلا تقبل الطعام، فتتقلص وتدفعه، فهذه
الحالة إذا وقعت بالصائم فهو لم يتسبب فيها، ولم يكن له عمل فيها، ولا رغبة
منه، فهذا لا قضاء عليه.
وقوله: (استقاء) الهمزة والسين والتاء -كما يقولون- للطلب، كما تقول:
(أستغفر الله) أي: أطلب الله الغفران، (أستعين الله) : أطلب الله العون،
(أستهدي الله) : أطلب من الله الهداية، (من استقاء) يعني هو الذي طلب القيء
بنفسه، وذلك حينما يحس بازدحام الطعام، وإرهاق النفس، وعدم الارتياح، فإنه
لا يريحه إلا إخراج الطعام من المعدة، ويسميه الأطباء القدامى (استفراغ)
أي: افراغ المعدة مما ازدحم فيها، وقد تكون بالمعدة بعض الأشياء الصفراء
والسوداء، وكانوا يعالجون الجسم على حسب تلك الطبائع، فإذا كان بالمعدة شيء
من ذلك، وغالباً يكون قديماً، فيأتيها شيء من الطعام لا يوافقها، إما
لدهنيات، إما لقلويات، إما لأشياء أخرى، فلا تستطيع المعدة أن تهضمها، ولا
يستطيع هو أن يتحمل غثاء المعدة، فلا يجد له راحة إلا استفراغ بعض ما في
المعدة.
فإذا استقاء هو -أي: حاول وطلب القيء- فإنه يبطل صومه وعليه القضاء،
والاستقاء أو الاستفراغ يكون بأحد أمرين: إما بتعاطي ما طبيعته أنه يثير
القيء، وإما بإدخال جرم إلى الحلق ويجعل عنده قدحاً فتلقي المعدة ما فيها،
وإذا كان صائماً فلا يستطيع أن يتعاطى ما يثير القيء مثل الماء الدافئ الذي
فيه قليل من الملح، أو نترات النحاس، أو بعض الأشياء التي يذكر الأطباء
أنها تجعل الإنسان يستفرغ حالاً، فالصائم لا يتناول شيئاً من هذا؛ لأن
تناوله إياه يفطره قبل أن يستقيء.
فإذا وضع إصبعه أو أدخل جرماً إلى حلقه فأثار المعدة فخرج القيء، ففي هذه
الحالة يُبطل صومه، ويمسك بقية يومه، وعليه القضاء.
وهنا يتساءل الناس: إذا ذرعه القيء فلا قضاء، وإذا استقاء هو فعليه القضاء،
والقضية واحدة وهي إخراج الطعام من المعدة، ذرعه أو استقاءه! فما الفرق
بينهما؟ هل الفرق أنه تسبب أو لم يتسبب؟ هل الفرق أنه ليس له سبب إذا ذرعه
القيء كما يقولون -مثلاً- في إخراج المني، لو نام واحتلم فلا شيء عليه؛
لأنه لم يتسبب في إخراجه، أما إذا باشر أو تسبب في إخراج المني يقظة فهناك
الكلام في القضاء والكفارة وما يتعلق بهذا الباب؟ فيقولون: ليست العلة
التسبب وعدم التسبب، ولكن العلة في طبيعة إخراج هذا الطعام؛ لأنه إذا ذرعه
القيء فمعناه: أن المعدة هي التي تقلصت ودفعت الطعام عنها، فيكون دفعها
قوياً، وتخرج الطعام على دفعات فلا ترجع منه شيئاً إليها.
أما إذا استقاء فكأنه يسحبه من عنده، وقد يخرج البعض وقد يرجع البعض؛
فلاحتمال رجوع بعض الطعام ممن يستقيء، ورجوع الطعام بعدما يصل إلى الحلق،
ورجوعه إلى الجوف مرة أخرى كأنه أدخل الطعام من جديد، فيكون ذلك مفطراً.
إذاً: حكم القيء أنه إن ذرعه القيء وغلب عليه فلا قضاء عليه، وإن تسبب هو
في إخراجه فإنه يكون عليه القضاء، والفرق بينهما في إيجاب القضاء في إحدى
الحالتين وعدم إيجابه في الأخرى: هو طبيعة خروج الطعام من المعدة؛ لأن
خروجه في حالة غلبته على الإنسان يخرج دفعات ولا يرجع منه شيء إلى المعدة،
أما في حالة استعصائه ومحاولة إخراجه فإنه يغصب المعدة على الإخراج وهي لا
تريد إخراج، فقد يخرج البعض ويرجع البعض إلى ما كان عليه، فيكون في ذلك
صورة من أدخل طعاماً جديداً إلى المعدة، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (أفطر
النبي في رمضان بعد العصر في السفر)
قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع
الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه فشرب، ثم
قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام.
فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) ، وفي لفظ: (فقيل له: إن الناس قد شق
عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب)
رواه مسلم] .
أيها الإخوة الكرام! يأتي المؤلف الآن إلى مسألة عملية واقعية، صحبها
الخلاف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وسيظل فيها الخلاف،
وهي: قضية الصوم في السفر أو الفطر، وهذه القضية اهتم بها العلماء كثيراً،
وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار تكلم عنها، وأورد ما يزيد على مائة أثر
مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الآثار يوردها بتعدد طرقها، وابن
عبد البر في الاستذكار أطال أيضاً في التفصيل فيها، وكذا في التمهيد،
والشوكاني في نيل الأوطار أورد الآثار في هذه القضية إلى حد بعيد.
والناس في هذه القضية طرفان وواسطة، فهناك من يقول: لا يصح الصوم في السفر،
وهناك من يقول: الصوم في السفر أفضل من الفطر مطلقاً، وهما قولان متباعدان
جداً، ويقول ابن عبد البر: جمهور علماء أمصار المسلمين على أن الصوم على من
لا يشق عليه أفضل.
وكان يمكن -أيها الإخوة- أن نكتفي بذلك؛ لأنها الخلاصة والنتيجة، ولكن
سأتوسع فيها نظراً لما في هذه المسألة من مباحث عديدة، والخلاف فيها أكثر
وأشد ما يكون بين طلبة العلم، والعامة لا يختلفون فيها اختلافاً شديداً،
العامة يأخذون بما أفتاهم المفتي، ولكن النزاع والشدة إنما هي بين طلبة
العلم، وموجب النزاع عندهم ليس هو حباً في المخالفة، ولكنه اختلاف في فهم
النصوص الواردة.
وهذه المسألة نص الله سبحانه وتعالى عليها في كتابه، ونص عليها النبي صلى
الله عليه وسلم في سنته، ونص عليها الخلفاء الراشدون فيما أثر عنهم، وكذلك
بقية الصحابة والتابعين.
وقد ذكرت في كتاب الله مرتين، قال الله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] ، والمرة الثانية
في نفس السياق: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ، فهنا بين سبحانه وتعالى أن
المريض -وفي حكمه المسافر والحامل و.
إلخ- يعجز عن الصوم، والمسافر مثله، فإذا شق عليه الصوم فله أن يفطر، وعليه
عدة من أيام أخر.
ونجد قولاً غريباً يقول: إن الله أسقط صوم رمضان عن المسافر والمريض، ونقل
فرضه إلى عدة من أيام أخر، فإذا صام وهو مسافر أو وهو مريض فلا يصح صومه؛
لأنه ليس من أهل رمضان، وإنما عليه عدة من أيام أخر! وهذا قول ابن حزم ومن
وافقه.
والجمهور يقولون: قوله سبحانه وتعالى: ((فمن كان مريضاً أو على سفر)) هل هو
للمرض وللسفر فقط أو يوجد كلام مقدر؟ يوجد كلام مقدر لولا تقديره لكان في
الآية خلل يتنزه كتاب الله عن ذلك، قالوا: وما هو الكلام المقدر؟ قالوا:
ومن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر.
وهذا عند علماء الأصول يسمى بدلالة الاقتضاء، أي: أن المقام اقتضى أن نقدر
هذا القسم من القول ليلتئم الكلام ويصح، ومثل هذا ما في قصة موسى عليه
السلام: {أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ}
[الأعراف:160] ، هل المعنى: لما قلنا له: اضرب بعصاك الحجر انبجست أو فضرب
فانبجست؟ فضرب فانبجست، إذاً: التقدير بحسب الاقتضاء أسلوب عربي، والقرآن
جاء به.
فإذا كان الأمر كذلك، ووجدنا المريض تحامل على مرضه وصام، فبإجماع المسلمين
بلا نزاع أن صومه هذا يجزئه ما عدا ابن حزم، وكذلك يقولون: المسافر إذا
تحمل الصوم وصام أجزأه، وهذا على مقتضى دلالة الاقتضاء: فأفطر فعدة.
وابن حزم يأتي في نظيرها ويقول بدلالة الاقتضاء ولا يقول بها هنا! ففي قوله
تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] ، فهو بنفسه في المحلى يقول: ليست الفدية للمرض
ولا للأذى، ولكن نقدر: فحلق ففدية.
فنقول: لماذا قدرت (فحلق) ورتبت الفدية على الحلق وليس على المرض والأذى
ولم تقدر (فأفطر) في آية الصوم؟ فكما أن في محل الأذى من رأسه قدرنا فحلق،
والفدية مرتبطة بحلق الرأس؛ فكذلك نقدر في الصوم، مريضاً أو على سفر فأفطر
فعدة من أيام أخر مرتبة على دلالة الاقتضاء وهو (فأفطر) ، كما أنك قلت:
فحلق ففدية، وهذا كلام لا غبار عليه، ولا ينبغي المكابرة فيه.
إذاً: سياق القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى جعل للمريض والمسافر أن
يفطرا في رمضان، ثم بعدد أيام فطرهما يقضيان عدة من أيام أخر.
ونحن الآن في حكم المسافر فقط، فإذا سافر الإنسان وكان يستطيع الصوم، فهل
عليه أن يفطر وجوباً ثم يقضي عدة من أيام أخر أم ننظر في حالة من استطاع
الصوم أو لم يستطع؟ نأتي إلى أساس التشريع والتطبيق الفعلي من سيد الخلق
صلوات الله وسلامه عليه، فهذا الحديث الذي ساقه جابر مستفيض عند علماء
المسلمين، جاء عن ابن عباس وأبي هريرة و.
إلخ؛ لأن هذا كان في عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، وأصحاب رسول
الله حوله، ومعه منهم العدد الكثير.
إذاً: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح سنة ثمان من الهجرة صائماً،
وفي بعض الروايات: لعشر خلون من رمضان.
يعني: في يوم الحادي عشر من رمضان كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى
مكة للفتح، وهناك من يقول: ليال خلون.
هذا أجمل العدد، وهذا فصل العدد، والذي يهمنا أنه خرج في رمضان.
وتتفق الروايات كلها أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة سنة ثمان
من الهجرة، وأنه خرج من المدينة صائماً، ويظل يصوم يومياً حتى بلغ كراع
الغميم، وبعضهم يحدد إلى قديد -أي: بعد رابغ وقبل عسفان-، وتلك المنطقة
تحتاج إلى سفر حوالى ستة أيام بالإبل، فمتى كانت مشروعية الصوم؟ في شعبان
في السنة الثانية من الهجرة.
إذاً: قوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] كان قد مضى على نزولها ست
سنوات، والمسلمون يحفظون ذلك، وبعد ست سنوات من نزولها يخرج صلى الله عليه
وسلم في رمضان، فهل أوجب على نفسه الفطر ونقل ما وجب عليه إلى عدة من أيام
أخر أو أخذ بقوله تعالى: ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه)) ؟ أخذ بأصل
المشروعية، وهذا أمر واضح، فمضى صلى الله عليه وسلم صائماً ومن معه من
الصوام، يقول ابن عباس: خرج في عشرة آلاف مقاتل، وأنس رضي الله تعالى عنه
يقول: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في بعض الغزوات،
منا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على
الصائم، إذاً: كان من أصحاب رسول الله عام الفتح من هو صائم ومن هو مفطر،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصائمين، وفي مجموع الروايات التي
جاءت في أحداث المسير هذا أن بعض الناس قد شق عليه الصوم، ولكن ينظر إلى
فعل رسول الله، فقيل: (يا رسول الله! إن الناس قد شق عليهم الصوم، وينظرون
ما تفعل، فأخذ قدحاً، ووضعه على كفه بعد العصر، ثم شرب والناس حوله ينظرون)
، وفي بعض الآثار: (فأفطروا) ، وفي بعض الروايات الأخرى أنه مر على رجل
يظلل عليه تحت شجرة، فقال: (ما باله، ما مرضه؟) قالوا: ليس بمريض، ولكنه
صائم، فقال: (ليس من البر الصوم في السفر) ، فأخذ البعض أنه ليس من البر
الصوم في السفر مطلقاً، وأن الفطر أفضل، ومسألة الأفضلية نؤجلها قليلاً،
نحن نريد الآن أن نثبت جواز الصوم والفطر، وأن الصوم والفطر متعادلان،
والتفضيل يأتي من جانب آخر، فإذا ثبت صحة الصوم في السفر انتهت نصف القضية،
وبقي النصف الثاني: ما هو الأفضل؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر
الصوم في السفر) قال العلماء: لأنه صام إلى الحد الذي أغمي عليه فيه، وفي
بعض الروايات: (كانت ناقته تطرح نفسها على الشجر) أي: لم يعد يتحكم فيها،
فإذا وصل الحال بإنسان في الدوخة وفي الضعف إلى هذا الحد وعنده رخصة من
الله ((عدة من أيام أخر)) ؛ فهل يكون البر بأن يلحق بنفسه هذا الأذى أو أن
يأخذ برخصة الله ويكون معافى مع الناس؟ وفي بعض الروايات أن الرسول صلى
الله عليه وسلم بعد كراع الغميم وصل إلى كديد، وكديد ماء عند قديدة -كما
يقولون- قبل عسفان، فقال للناس: (لقد دنوتم من عدوكم) ، هل كانوا ذاهبين
للنزهه أم حجة وعمرة أم ذاهبين للقتال؟ هم ذاهبون للقتال، وسيقاتلون أناساً
في عقر دارهم، تحدٍ إلى أقصى حد، فقال: (إنكم دنوتم من عدوكم فأفطروا) ،
فأصبح بعض الناس مفطراً، والبعض صائماً، ويقول أبو سعيد: لقد رأيتنا وما
منا من أحد إلا ويضع الماء ويده على رأسه من شدة الحر، وليس فينا صائم إلا
رسول الله وابن رواحة، فلما قال لهم: (أفطروا) أفطر البعض وظل البعض على
صومه، فقيل له: (يا رسول الله! إنك أمرت بالفطر بالأمس، وأصبح البعض
صائماً، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) كما في حديث جابر، والذين
قالوا: لا يصح الصوم في السف
جواز الفطر والصوم
في السفر والتفضيل بينهما
إذا صح وثبت عندنا جواز الصوم في السفر، فسنرجع إلى النقطة الثانية: ما هو
الأفضل؟ نجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في ذلك، فنجد ابن
عمر رضي الله تعالى عنه ورواية عن عمر يريان بأن الفطر أفضل، ويقول ابن
عمر: أرأيت لو أن إنساناً أهدى إليك هدية، فرفضتها، أكان يرضيه ذلك أم
يغضبه؟ قال: يغضبه.
قال: فالفطر صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته.
ونجد الآخرين يقولون: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون
معه في رمضان، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، إذاً: يستويان.
ولكن في الحديث الذي جاء به المؤلف ثانياً أن رجلاً سأل رسول الله: إني
كثير السفر، وكان يديم الصوم، وفي بعض الروايات أنه جاءه رجل هو أو غيره
وقال: (يا رسول الله! إني صاحب ظهر أكريه) يعني: عندي من الإبل ما أكريه في
نقل الأمتعة أو الأشخاص، وإني أحب أن أديم الصوم، وقد يصادفني الشهر وأنا
في السفر، أأصوم في السفر؟ فقال: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت، وفي بعض
الروايات يقول: (يا رسول الله! إنه قد يأتيني الشهر في الشتاء، وأكره أن
أفطر في الشتاء وأقضي في الصيف، فقال: صم إن شئت) ، وفي بعض الروايات: (إني
أكره أن أفطر والناس صيام، ثم أصوم والناس مفطرون، فقال: صم) ، فإذاً الأمر
دائر بين الأمرين، ووقع نزاع بين رجل وبين عروة بن الزبير، فقال أحدهما:
أنا أفطر في السفر.
وقال الثاني: أنا أصوم في السفر، وارتفعت أصواتهما، وهذا يقول: أنا أروي عن
ابن عمر، والثاني يقول: أنا أروي عن عائشة؛ لأن عائشة كانت تصوم في السفر
حتى أزلقها -يعني: أنحفها-، فارتفعت أصواتهما، وكان عندهما عمر بن عبد
العزيز رضي الله تعالى عنه، فقال: أوه! تتنازعون في ذلك! أيهما أيسر لكما
فخذا به.
وهذه القاعدة منطوق القرآن الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}
[البقرة:185] ، فإذا كان الصوم أيسر للإنسان بأن كان الصوم في شتاء، أو كان
لا يحب أن يقضي وحده، أو كان لا يشق عليه؛ فالصوم أفضل، وإذا كان العكس:
الحر شديد، والمشقة موجودة، والمسافة بعيدة؛ فيكون الفطر أولى، وهو منطوق
قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] ، فمسألة:
أيهما أفضل الفطر أم الصوم؟ نقول: ترجع للإنسان في حد ذاته وظروفه في سفره،
فلينظر أي الأمرين أيسر عليه فليأخذ به.
وكما جاء عن أنس أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: الصوم أفضل عندي - وأنس
من رواة حديث الفطر- فذكرت له الأحاديث والآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} [البقرة:184] ، فقال: كنا نسافر جياعاً، وننزل جياعاً، والآن نسافر
شباعاً، وننزل شباعاً.
يعني: من قبل كان يشق علينا الصوم، والآن ليس هناك مشقة.
فإذا جئنا في الوقت الحاضر، وأراد إنسان أن يسافر السفر الذي تقصر فيه
الصلاة، ويصح فيه الفطر، وركب السيارة أو الطائرة، ومن جهة الحر ومن جهة
الجو فكما يقول العامة: السيارة مكيفة، والطائرة مكيفة إلى أن ينزل إلى
بيته الثاني، والطعام ميسر معه أو في محل سفره حيثما نزل يجد الطعام، فليست
هناك مشقة عليه تلحقه بسبب صومه، إذاً: مثل هذا نقول: الأيسر عليه الصوم.
لكن قد يكون بعض الناس مع وفرة وسائل الراحة لا يتحمل الصوم في السفر،
فنقول: يفطر، ونرجع إلى مقالة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه:
أفضلهما أيسرهما، ويكون ذلك مرده إلى الإنسان في ذاته.
ونوصي طلبة العلم: ألا يجعلوا من هذه المسألة مصدر خلافيات، ويثيرون فيما
بينهم الجدل والنقاش على أن هذا أفضل أو ذاك أفضل، ومن أراد أن يقف على ما
لا زائد عليه فيه، فليرجع إلى مسند علي عند الطبري، فسيجد ما لا يقل عن
مائة أثر في هذا الباب، وذكر آراء العلماء سواء من الصحابة أو من التابعين،
ويفصل القول في الترجيح، وأن من قدر على الصوم فالصوم في حقه أفضل، ومن شق
عليه فالفطر في حقه أفضل، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (الفطر
رخصة من الله)
قال رحمه الله: [وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول
الله! إني أجد فيّ قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم
فلا جناح عليه) رواه مسلم، وأصله في المتفق عليه من حديث عائشة أن حمزة بن
عمرو سأل] .
هذا الحديث هو الفصل في المسألة السابقة، هذا الصحابي يسأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويقول: أجد في نفسي قوة على الصوم، فهل علي من حرج إن أنا
صمت؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بأنه لا حرج عليك، والذين يقولون بأن الفطر
أفضل قالوا: غاية ما في هذا الحديث أنه رفع عنه الحرج، أما الفطر فلا حرج
فيه، ولكن يقول العلماء: جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حرج عليك) ،
إنما هو مطابق لسؤال السائل؛ لأن السائل قال: فهل علي من حرج؟ فأجابه صلى
الله عليه وسلم بمقتضى سؤاله: (ليس عليك من حرج) ، وكونه ليس عليه من حرج
لا يمنع أن يكون فعله أفضل.
إذاً: هذا الحديث يكفي في الدلالة على صحة الصوم في السفر.
كان في حياة والدنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه نزاع شديد جداً بين
بعض الإخوة من طلبة العلم في أنواع المناسك، بعضهم يقول: لا يصح إلا التمتع
فقط، وكانت هناك مباحثات، وتوسعت، فبعض المشايخ سأل والدنا الشيخ الأمين
رحمة الله تعالى علينا وعليه في الفسحة الوسطى: أيهما أفضل من الأنساك
الثلاثة؟ فقال: الأفضلية أمرها هين، ولكن يجب أن نعلم جميعاً أن المناسك
كلها صحيحة، وليس هناك منسوخ منها، أما الأفضلية فبحسب ما ترجح عند البعض،
والأئمة رحمهم الله اختلفوا فيما هو الأفضل، فـ الشافعي ومالك فضلا
الإفراد، وأبو حنيفة فضل القران، وأحمد فضل التمتع، وهذه مسألة جانبية.
فنحن كذلك هنا يهمنا في هذا الحديث الذي رواه مسلم، وله أصل في الصحيحين
-أي: في البخاري ومسلم -، أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للرجل الذي يجد
في نفسه قوة أن يصوم في السفر.
ثم نحن نأتي بسؤال عام: هل فطر المسافر والمريض أصل التشريع أم رخصة بعد
الشدة؟ إنما هي رخصة، إذاً: إذا كانت هناك رخصة وهناك عزيمة، والمكلف
يستطيع أن يأخذ بالعزيمة، فأيهما أولى في التشريع؟ الأصل في ذلك العزيمة،
وإنما ينتقل إلى الرخصة حينما يعجز عنها، فمثلاً الوضوء والتيمم، فالتيمم
رخصة للمريض وعادم الماء، والأصل إنما هو الماء، وإنسان سليم معافى وعنده
الماء فليستعمله، وهل يحق له أن يذهب للتيمم؟ لا؛ لأن التيمم رخصة عند
انعدام الماء، فكذلك الصوم في السفر والفطر في السفر، الصوم عزيمة، والفطر
في السفر رخصة إذا احتاجها، والرخص لا يعمل بها إلا عند الحاجة، والله
تعالى أعلم.
شرح حديث: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم
عن كل يوم مسكيناً)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (رخص للشيخ الكبير
أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني والحاكم
وصححاه] .
هذه القضية تتعلق بالمرضى ومن في حكمهم، والمرضى على قسمين: قسم مرضه مؤقت
عارض، ينتظر زواله، وتمتعه بالصحة، ومرض لا يرجى زواله، إما أن يكون مرضاً
عضالاً -عافانا الله وإياكم- وإما أن يكون مرض الشيخوخة، والشيخوخة لا علاج
لها إلا الشباب، وكما قيل: ليت شباباً بوع فاشتريته، و (ليت) لا تأتي بشيء.
فإذا كان إنسان مريضاً مرضاً مزمناً، واتفق الأطباء على أنه لا شفاء له
منه، وإنما يصحبه مدة حياته، وما قدر الله له أن يعيش، فهل ننتظر من هذا
عدة من أيام أخر؟! لا ننتظر منه، كذلك الشيخ الكبير، وصل إلى التسعين أو
المائة وتعدى إلى القرن الثاني، فهل ننتظر منه أن يعود إلى شبابه ليأتينا
بعدة من أيام أخر؟ قالوا: لا، فهذان الصنفان: مريض بتلك الحالة أو كبير في
السن إلى ذلك الحد؛ رخص الله لهما ابتداءً من أول الشهر، فلكل واحد منهما
أن يفطر ولا قضاء عليه؛ لأنه لا ينتظر مجيء فرصة قضاء، وماذا يفعل؟ يطعم عن
كل يوم مسكيناً، وهل يطعم ذلك يوم بيوم أو يؤجل ذلك كله إلى آخر الشهر أو
يعجل هذا كله في أول الشهر؟ كل ذلك جائز باتفاق، وكان أنس رضي الله تعالى
عنه حينما كبر، إذا دخل عليه رمضان جمع ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، ثم قال: يا
رب! هذا إطعام عن صومي طيلة الشهر.
إذاً: هذا ليس عليه صيام، ولا ينتظر منه قضاء، وإنما عليه إطعام، فيطعم عن
كل يوم مسكيناً {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}
[البقرة:184] ، يعني: إن أطعم عن اليوم مسكينين أو ثلاثة أو أكثر فلا مانع
من ذلك، لكن يعرف الحد الأدنى وهو إطعام مسكين عن كل يوم، وما زاد بعد ذلك
فهو تطوع منه.
وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [9]
حديث الرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان، من الأحاديث التي استخرج العلماء
منها مئات الفوائد الفقهية، فحري بطالب العلم أن يهتم بدراسته، ومعرفة ما
يؤخذ منه من المسائل والأحكام المتنوعة.
من أحكام الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: هناك مباحث تتعلق بالصوم والفطر في السفر، وهي
من متطلبات الوقت الحاضر، وفيها تتمة بيان أحكام الصيام، تلك المباحث هي:
ما المسافة التي يفطر فيها الصائم؟ ومن أين يفطر الصائم؟ وإذا نزل منزلاً
مؤقتاً فهل يصوم أو يفطر؟ وإذا عاد من سفره وعلم أنه سيدخل نهاراً، أيدخل
مفطراً أم صائماً؟ وإذا دخل مفطراً فهل يمسك أو له أن يأكل بقية يومه؟ وإذا
وجد زوجته مفطرة فهل له أن يأتي أهله؟ كل هذه النقاط من متطلبات بحث الفطر
في السفر.
السفر الذي يفطر فيه
الصائم
أما مسافة السفر التي يفطر فيها الصائم فقد اتفق العلماء أنها هي المسافة
التي تقصر فيها الصلاة، وهذه قد حددت بالمكان والزمان، والمكان أضبط كما
جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما بين مكة وجدة، أو ما بين
مكة والطائف، أو ما بين مكة وعسفان، وحددت بالمسافة أيضاً ذرعاً أربعة برد،
والبريد ثلاثة فراسخ، والفرسخ أربعة أميال إلخ، وبالحساب المتعارف عليه
اليوم هي حوالى الخمس والسبعين كيلو متراً، فإذا كان الصائم يسافر مسافة
بهذا المقدار فإن هذه المسافة تعطيه حق الفطر، بصرف النظر عن نوعية وسيلة
السفر، سافرها على الأقدام في يوم أو في عشرة، سافرها على الدواب في يوم أو
في خمسة، سافرها على السيارة في يوم أو في ساعة، مطلق قطع هذه المسافة في
رمضان فإنه يعطيه حق الفطر، سواء كان في السفر مشقة فعلاً أو لم يكن في
السفر أدنى مشقة؛ لأن الأصوليين قالوا: الرخصة من أجل التيسير رفعاً
للمشقة، ولما كانت المشقة ليست أمراً محدداً بعينه، ولكنها نسبية، فما كان
مشقة في حق زيد قد لا يكون مشقة في حق عبيد، بل ما كان مشقة على زيد اليوم
قد لا يكون مشقة عليه هو بنفسه غداً، فلاختلاف تحديد المشقة قالوا: إذاً:
تناط بالسفر الذي هو مظنة المشقة، كما جاء: (السفر قطعة من العذاب) .
فعلى هذا، فإن هذه المسافة إذا وجدت فللمسافر الحق في أن يفطر.
حكم من سافر في نهار
رمضان
إذا أراد أن يفطر في سفره فمتى ينشئ الفطر؟ نجد -يا إخوان- أن الأقوال
متعددة، فهناك من يقول: من دخل عليه رمضان في بلده فلا يحق له أن يفطر إذا
سافر؛ أخذاً بعموم قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، وهذا -كما يقول ابن عبد البر وغيره- قول لم
يلتفت إليه أحد؛ لأن السنة جاءت بغير ذلك.
وإذا حضر الشهر، وأراد أن يسافر أثناء الشهر، يوم ثلاثة أو يوم خمسة أو يوم
عشرة، فمن حيث اليوم قالوا: إن كان قد طلع عليه الفجر وهو في بلده، فكما
قدمنا في باب تبييت النية أن المسافر المتحقق السفر، والحائض المتحققة مجيء
حيضتها غداً على كل منهما تبييت النية، فهذا المسافر سيسافر غداً، وهو
حاجز، والتذكرة في جيبه، لكن عليه أن يبيت نية الصوم، فهو أصبح مبيتاً لنية
الصوم، فإذا أراد ضحى النهار أن يسافر، فالجمهور -ومنهم المالكية والشافعية
والأحناف- يقولون: هذا الشخص الذي أدرك جزءاً من هذا النهار مقيماً لا يحق
له أن يفطر في هذا اليوم؛ لأنه بيّت النية، وصام جزءاً من النهار، فلا يبطل
هذا الجزء، ويسافر ثم إذا أراد الفطر فيكون من الأيام التالية المقبلة.
وإذا لم يطلع عليه الفجر في بلده، أراد أن يسافر، فتهيأ وجمع عدة السفر،
وركب، وهو في طريقه في سفره طلع الفجر وهو في أطراف البلد، فهل يفطر؟
قالوا: لا، لا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها، فحينئذ له أن
يفطر، كما قالوا في بداية قصر الصلاة: لا يجوز لإنسان أن يبدأ قصر الصلاة
من بيته، بل إنما يبدأ القصر بعد أن يغادر حدود البلد، كما جاء عن علي رضي
الله تعالى عنه أنه خرج من الكوفة، وواجهتهم صلاة العصر، فنزلوا في طرف
البلد فصلوا أربع ركعات، فقيل لـ علي: ألسنا مسافرين؟! قال: بلى.
قالوا: لماذا تتم ونحن قد خرجنا؟! قال: لولا هذا الخصيِّص -والخصّ: مثل
الحجرة من أغصان الشجر وأعواده- لقصرت الصلاة.
يعني: أن علياً رضي الله تعالى عنه اعتبر الخصيِّص هذا من توابع القرية،
وأنه لم يخرج عنها كلية.
إذاً: متى يبدأ المسافر فطره في سفره؟ القول الأول لم يلتفت إليه أحد من
العلماء، والراجح أنه إذا سافر في أثناء النهار، وأدرك جزءاً من النهار في
بلده، فهذا اليوم الأول لا يفطره، بل يمسك ويتم صومه، وينشئ الفطر بعد ذلك
اليوم من أيام سفره، وإذا كان في البلد وأراد أن يفطر في صومه، فلا يفطر
حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها.
هل يفطر المسافر إذا
أقام إقامة مؤقتة؟
ما حكم الفطر للمسافر إذا نزل في أثناء سفره منزلاً لحاجة؟ لنفرض أن
إنساناً سافر من المدينة إلى مكة لعمرة، أو سافر من المدينة إلى الشام
لتجارة، وهو في رمضان، وكان يفطر أثناء السير في الطريق، فوصل البلد الذي
يريده مؤقتاً، فهل يظل مفطراً بحكم السفر أو بمجرد وصوله إلى البلد الذي
نزل فيه انقطع عنه حكم السفر؟ الجمهور قاطبة يقولون كما قالوا في قصر
الصلاة: إن كانت إقامته في تلك البلدة المؤقتة أربعة أيام فأقل فله الفطر،
ولكن يكون سراً، ولا يظهر فطره للناس، وإن كان أكثر من ذلك فليصم من أول
يوم وصلها، وقالوا: إن دليل ذلك من الحالة والعرف، واقتباساً من النص أو
الفعل الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم.
وإن كانت إقامته في تلك البلدة مجهولة النهاية عنده، فيختلف الحكم عن
الحالة الأولى التي عرف أنها أربعة أيام فأقل، وينقطع عنه حكم السفر، فإذا
عرف أنها أربعة أيام فأكثر محددة، عشرين، شهر، أو أكثر أو أقل؛ فإنه يرتفع
عنه حكم السفر ويصبح صائماً.
وإذا لم تكن المدة معلومة، هل هي يوم أو أربعة أو عشرة أو عشرين؟ ويشبهون
ذلك بمن يسافر برفقة غيره، كأتباع التجار وأتباع الأمراء وأتباع القادة، لا
يعلمون متى تنتهي المهمة، وعندما يرجع المسئول عنهم يرجعون معه، ولم
يخبروهم متى سنرجع أو متى سنرحل، فالمدة مجهولة عندهم، فإذا كان شخص كذلك
ذهب إلى الشام للتجارة، أو ذهب إلى مكة عمرة، وجاءت شواغل وهو لا يدري متى
تنتهي، العمرة معروف أمدها، لكن إذا كان في سفر آخر يريد أن يلقى فلاناً،
يريد أن يصنع كذا، ولا يدري متى ينتهي التصنيع؛ فحينئذ له أن يفطر ويقصر
إلى عشرين يوماً، وما زاد عن ذلك وجب عليه الصوم، هكذا يقولون فيمن أقام
مدة لا يعلم مداها.
والآخرون يقولون: ما دام قد وصل فعليه الصوم؛ لأن مشقة السفر قد انتهت عنه،
ولكن يقولون: الثلاثة الأيام وما شابهها تتبع ما قبلها؛ لأنه لا يزال في
عناء السفر، وسيواصل السفر بعدها.
حكم من رجع من سفره
وهو مفطر في نهار رمضان
إذا انتهى المسافر من حاجته، وقدم إلى بلده، وهو في العودة إلى بلده، علم
بحسب طبيعة السفر ووسيلة السفر أنه سيدخل بلده غداً في النهار، فإذا علم
ذلك، فعليه أن يدخل بيته صائماً، ويروى عن بعضهم أنه أراد السفر في آخر
الشهر -في خمسة وعشرين منه- فقال لأصحابه: (أرى الشهر تشعشع -تششع بمعنى:
تخلخل- وكاد أن ينتهي، فأرى أن نحفظ شهرنا) ، فصام وسافر صائماً ليكمل صيام
الشهر، فهذا عند البداية، وكذلك في العودة يقدم صائماً، يعني: يبيت الصوم
من الليل ما دام أنه يعلم أنه سيصل إلى بلده أو إلى بيته نهاراً؛ لأنه إذا
وصل إلى بيته مفطراً فسيمسك لحرمة الشهر، فما دام أنه سيمسك وتلحقه حرمة
شهر رمضان؛ فيبيت النية ويصوم، ويدخل صائماً، أما إذا وصل نهاراً وكان
مفطراً، فهل له أن يظل مفطراً بقية نهاره؟ الجمهور على أن الأولى له أن
يمسك لحرمة الشهر.
ونجد الخلاف في قضية قد تكون نادرة، ولكن الفقهاء رحمهم الله يذكرونها
للتنبيه عليها: إذا قدم من سفره مفطراً، ودخل البلد مفطراً، فوجد زوجه كانت
مريضة مفطرة وتعافت في نصف النهار، أو كانت فيها الدورة وارتفعت عنها ضحىً،
فهي تمسك من أجل حرمة الشهر وستقضي هذا اليوم، فلو وجدها مفطرة بعد ارتفاع
حيضتها وقبل مجيء الليل، فإذا واقع زوجه وهي على هذه الحالة، فهو مفطر
للسفر، وهي مفطرة للدورة، فهل يكون عليه كفارة في ذلك أو ليس عليه شيء؟
المالكية والشافعية ينصون أنه لا شيء عليه، ونجد الخلاف عند غيرهم.
إذاً: هذه مسائل من أراد الفطر في سفره في بداية أمره، وفي أثناء طريقة،
وفي حالة عودته.
شرح حديث كفارة
المجامع في رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟
قال: وقعت على امرأتي في رمضان.
فقال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا.
قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا.
ثم جلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا.
فقال: أعلى أفقر منا؟ ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك)
رواه السبعة واللفظ لـ مسلم] .
هذا حديث من أفسد صومه في رمضان بالجماع، والصوم يكون بالإمساك عن شهوتي
البطن والفرج، فإذا لم يمسك إحدى الشهوتين -شهوة البطن بأكل أو شرب، أو
شهوة الفرج بوطء- فماذا يكون حكمه؟ المالكية والأحناف يقولون: من أفسد صومه
بأكل أو شرب عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، وعندهم مبحث في نوعية الأكل
-أي: للتغذي- وهذا لا حاجة للخوض فيه؛ لأنهم انفردوا بذلك، كما لو ابتلع
حصاة فإنها غير طعام، فعندهم خلاف في المذهب، والمقدم عندهم أنه لا كفارة
عليه، ويروى عن زفر ومحمد أنه إن فعل ذلك عامداً فإن عليه القضاء والكفارة،
ونحن نبحث في مسألة من أبطل صومه بأكل أو شرب عامداً، أما النسيان فقد تقدم
الأمر فيه: (فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) .
وأما الحنابلة والشافعية فعندهم أن من أبطل صومه بتعاطي الأكل أو الشرب أو
ما يلحق به عامداً فإن عليه القضاء فقط، ولا كفارة عليه؛ لأنهم لا يجعلون
الكفارة إلا في شهوة الفرج، وأن يكون بوطء حقيقي، وعلى هذا فمن أفسد صومه
بوطء فهو الذي عليه الكفارة، وسيأتي التعليق أيضاً على ملحقات الأكل
وملحقات الوطء.
روايات حديث المجامع
في نهار رمضان
روايات هذا الحديث وطرقه تختلف في الإيراد، ففي بعضها وصف حالة مجيئه:
(يضرب صدره، وينتف شعره، وينادي بالويل: هلكت وأهلكت يا رسول الله! قال:
وما أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان - (واقعت أهلي) كناية عن الجماع، وهو
حقيقة في الوطء، بخلاف مقدماته- فقال له صلى الله عليه وسلم: أتجد رقبة
فتعتقها؟ فضرب على صفحة عنقه وقال: لا أملك إلا هذه.
قال: أتستطيع صوم شهرين متتابعين؟ قال: والله! ما أهلكني إلا الصوم -أنا ما
استطعت صيام رمضان فكيف أصوم شهرين متتابعين؟! - قال: هل تجد ما تطعم ستين
مسكيناً؟ قال: لا -والله- ما عندي.
قال: اجلس.
فجلس الرجل، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -تنطق هذه الكلمة
بتسكين الراء أو فتحها (عرْق أو عرَق) ، وهو نوع من الأوعية المصنوعة من
خوص النخل، ويسمى قفة أو مقطف، ليس كبير الحجم- فناداه وقال: خذ هذا وتصدق
به عن نفسك.
فقال: يا رسول الله! أتصدق به؟! أعلى أفقر منا؟! والله -يا رسول الله- ما
بين لابتيها أفقر مني) ، واللابتان: هما الحجارة السوداء المحيطة بالمدينة،
ومعروفة بدايتها ونهايتها، فهي تأتي من الغرب من جهة سلطانة، وتدور من وراء
قباء إلى قربان إلى أن تأتي إلى قريبة، وتقطع الخط إلى أن تنزل إلى المغرب
مرة أخرى، وكما يقول بعض المؤرخين: اللابتان محيطتان بالمدينة كالحدوة
للحصان، وليس لها إلا فتحة واحدة كالحدوة، وتلك الفتحة هي مجرى وادي
العقيق، وهو المحل الذي احتفر فيه صلى الله عليه وسلم الخندق؛ لأن اللابتين
حصن طبيعي للمدينة، لا تقوى الخيل ولا الإبل أن تقطعه، يعسر المشي عليه،
فكان مدخل المدينة الوحيد يأتي من أبيار علي، ومع وادي العقيق إلى سلطانة،
ويدخل من هناك من باب الشام، وهناك كان محل الخندق في طرف الحرة من جهة
عمائر أو فلل المدني، ويمتد إلى أطم الشيخين من الجهة الأخرى.
وعلى كل فقال: (ما بين لابتيها أحد أحوج إليه منا -هذا الذي تريدني أن
أتصدق به لن أجد فقراء ولا محتاجين أشد حاجة إليه منا- فضحك صلى الله عليه
وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: قم فأطعمه أهلك) .
إلى هنا انتهى عرض هذه القضية، فالشافعية والأحناف أخذوا بهذا النص،
وقالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يكفر للوقاع، ولم يأمر
أحداً أن يكفر للأكل والشرب، ولكن مالك رحمه الله يروي في الموطأ عن عبد
الله بن عمر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً أفطر في رمضان
فأمره صلى الله عليه وسلم أن يُكَفِّر) فهذا النص: (أفطر) ، ولكن من صنيع
مالك أنه ذكر حديث أبي هريرة في أول الباب: (رجل أفطر فأمره صلى الله عليه
وسلم أن يكفر) ، وجاء بعده بهذا الحديث: (أعرابي جاء وقال) ، فبعض الناس
يقول: حقيقة مذهب مالك أنه حمل عموم الفطر على خصوص الوقاع؛ لأنه جاء بحديث
الأعرابي ليبين نوعية الفطر الذي أمر رسول الله بالكفارة فيه.
والبعض الآخر يقول: لا، إنما ساق الحديثين ليبين أن الكفارة لمن أفطر
مطلقاً، سواء أفطر بأكل أو وطء فعليه كفارة، ومن أفطر بوطء -كما هو المنصوص
عليه- فعليه الكفارة، والمالكية يروون عن مالك أنه يوجب الكفارة على من أكل
أو شرب متعمداً في نهار رمضان ولو لم يجامع.
حكم من أمنى في نهار
رمضان بدون جماع أو أمذى
يناقش العلماء رحمهم الله مسألة: لو أن إنساناً باشر أهله ولكن لم يواقع
-بمعنى: لم يولج-، فهل عليه في تلك المباشرة من شيء؟ يختلفون إن أمنى
بالمباشرة دون الفرج، فـ مالك يقول: فيه كفارة، وغيره كالحنابلة والشافعية
يقولون: لا، بل عليه القضاء، ويستغفر الله، ولا كفارة إلا بالإيلاج.
وإذا باشر أهله ولم يمنِ، ولكنه أمذى، فما حكمه؟ مالك يقول: عليه قضاء
يومه، وغيره يقول: المذي لا شيء فيه؛ لأن حكم المذي حكم البول.
وإذا لم تكن مباشرة، ولكن كان هناك مقدمات المباشرة كالقبلة، اللمس، دوام
النظر، دوام التفكير، هل هذا يتعارض مع صومه؟ قالوا: هذه الأشياء القبلة
اللمس المداعبة دوام النظر تكرار الفكر، إن أحدثت منياً فـ مالك يقول: عليه
القضاء والكفارة، والآخرون يقولون: إن أمنى بسببٍ كقبلة فعليه القضاء.
دقة الإمام مالك في
الأصول
سألت والدنا الشيخ الأمين عن صنيع مالك في الباب، حيث قرن حديث أبي هريرة
مع حديث قصة الأعرابي، ولم أخذ مالك الكفارة في غير الجماع مع أن النص فيه:
(واقعت أهلي) ؟ فقال: مالك عنده دقة في الأصول؛ لأن حديث الأعرابي تناوله
العلماء بتنقيح المناط، وتنقيح المناط وتحقيق المناط مبحثان أصوليان، فمثال
تحقيق المناط: أن الله أوجب الكفارة على المحرم إن قتل صيداً {فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] ، فهذا حكم موجود، ولكن
بقي التطبيق العملي في حق كل صيد؛ لأن الحكم عام، ففي كل الصيد جزاء مثل ما
قتل، فلو قتل إنسان غزالاً، أو أرنباً، أو بقراً وحشياً، فالحكم موجود
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة:95] ، لكن تحقيق المناط في هذه
القضية بغزال، أو في هذه القضية بأرنب ما هو؟ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ}
[المائدة:95] فيحكم اثنان من ذوي المعرفة: ماذا تقولان في قتل الأرنب؟ ما
هو جزاؤه؟ ماذا تقولان في قتل الغزال؟ ما الذي يماثله؟ فتحقيق المماثلة في
كل صيد على حدة هو تحقيق المناط.
لكن التنقيح: هو كالرجل بعد حصد الغلة، أثناء دوسها يريد أن يصفي الحب من
التبن، فيعزل الحب عن التبن، فيأخذ الحب وفيه التبن، فيأخذه في غربال
وينقح، بحيث أنه يلقي الشوائب عن الحب حتى يبقى الحب صافياً، هذا هو
التنقيح -يعني: التصفية-، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا
وعليه: الجمهور نقحوا قضية الأعرابي عدة مرات، ومالك زاد تنقيحه عليهم،
والتنقيح هو إسقاط الوصف الذي لا يصلح لتعلق الحكم به، وتعليق الحكم بالوصف
المناسب له، فقوله: (جاء رجل -هذا محل الحكم؛ لأنه مكلف، بخلاف الصبي- يضرب
صدره، ينتف شعره -هل هذه الصفات قيد وشرط فيمن جامع حتى تكون عليه الكفارة
أو كونه يضرب الصدر وينتف الشعر لا علاقة له بالحكم؟ لا علاقة له، فهذه
تنقيحة تسقط هذه الصفات: ضرب الصدر، ونتف الشعر، يصيح ويقول: هلك وأهلكت) ،
فهل من شرط وجوب الكفارة على من جامع أن يأتي يصيح يقول: هلكت وأهلكت؟ لا،
إذاً: نسقط هذه أيضاً، فلو جاء في غاية الهدوء، وفي غاية البساطة، وأسر إلى
رسول الله في أذنه، هل يتعلق به الحكم أو لا؟ يتعلق به الحكم، إذاً: تلك
الصفات قد نُقحت، نقحها الجمهور وقالوا: يتعلق الحكم بالكفارة على الوصف
المعتبر، وهو (واقعت) ، ومالك قال: صحيح، وأنا معكم إلى هنا، ولكن عندي
زيادة، ما هي الزيادة -يا مالك - على هذا؟ قال: انتهاك حرمة رمضان، وهذه
تستوي فيها (واقعت) و (أكلت) .
ومن هنا، بزيادة هذه التنقيحة الأخيرة أخذ مالك من نفس هذا الحديث وهذه
القضية: أن من انتهك حرمة رمضان فعليه القضاء والكفارة.
حكم من جامع في نهار رمضان ناسياً أو
مكرهاً
إذا واقع أهله ناسياً؟ تقدم في الأكل والشرب (إنما أطعمه الله وسقاه) ،
فإذا جامع زوجته ناسياً وهي أيضاً ناسية أو متناسية، فهل تلحقه الكفارة
للفعل أو لا تلحقه للنسيان؟ نرجع إلى تحقيق المناط: هل يمكن أن ينسى مثل
هذا؟ يعني: هل يتصور أن إنساناً في رمضان ينسى بأنه صائم ويواقع أهله؟ فمن
قال: يمكن ذلك، فلا شيء عليه بسبب النسيان.
ومن نفى ذلك وقال: هذا مستحيل فوقائع الحال تشهد أنه مستحيل على إنسان يكون
في رمضان صائماً، ثم في ضحى النهار ينسى أنه صائم ويواقع أهله! فإذا نسي هو
وزوجته أو توطآ على النسيان؟ قالوا: إن أمكن أن يقع بالنسيان فلا مانع، كما
قالوا في المكره: لو أكره على وقاع أهله، هل عليه كفارة؟ أو أكره الزوج
زوجته فهل عليها كفارة؟ فمن تصور إمكان وقوع ذلك بالإكراه قال: لا شيء
عليه؛ لأنه مكره (وما استكرهوا عليه) ، ومن استبعد أن يكون الإكراه في هذا
الفعل قال: عليه كفارة، كما قال ابن تيمية رحمه الله وغيره: هذا الفعل لا
يتأتى إلا بالاختيار، فإذا كان مكرهاً فليست عنده الصلاحية لأن يباشر هذا
العمل.
وقالوا: من قال: يمكن أن ينتصب ذكره ويباشر بإكراه السوط، أو إكراه القتل،
أو إكراه كذا وكذا؛ فلا شيء عليه، ومن قال: لا يتأتى الإكراه، وإنما أكره
في الأول ثم رغب في الحال، وباشر وهو راض راغب، فكان الإكراه في البداية،
وكان الرضا في أثناء العمل، فعليه الكفارة.
إذاً: تحقيق المناط في الإكراه والنسيان يتعلق به الكفارة وعدم الكفارة،
وهذه مسائل نادرة، ولكن الفقهاء -رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء-
بينوا هذه الوقائع، ولو كان وقوعها نادراً.
اختلاف العلماء في
قدر الكفارة من الطعام
يبحث الفقهاء في قوله: (عرق من تمر) ، كم كان فيه؟ الأقوال كثيرة: عشرون
صاعاً، خمسة وعشرون صاعاً، أكثر أو أقل، وإذا قلنا: إن عليه أن يطعم ستين
مسكيناً، فهل الكفارة في هذا العمل على الترتيب المذكور أو هو بالخيار؟
الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أولاً عن إعتاق الرقبة، إذاً: أولاً: العتق،
فإن لم يجد فصيام -كما يقول الفقهاء ككفارة الظهار- إذاً: يبدأ الذي عليه
الكفارة بعتق الرقبة، فإن لم يجدها أو لم يجد قيمتها فالصيام، بعض الناس
الآن يقولون: لا يوجد رقاب، والمال موجود ولكن لا يوجد رقاب، وهل يوجد في
بعض البلدان الإسلامية أو لا يوجد؟ هذا شيء آخر.
إذاً: بحسب الترتيب يبدأ بالعتق، فإن لم يجدها أو وجدت ولم يجد قيمتها
انتقل إلى صيام شهرين متتابعين، والتتابع في الشهرين شرط، فلو قطع التتابع
بغير عذر استأنف من جديد، أما إذا قطع التتابع بعذر من مرض، أو امرأة كانت
تكفر وجاءتها الدورة، وقطعت من أجل الدورة فتستأنف عند رفع المانع حالاً،
فإنسان كان يصوم شهرين متتابعين وفاجأه المرض، وأعجزه عن الصوم، فأول ما
يتعافى من مرضه ويستطيع الصوم يستأنف حالاً وهكذا.
ثم إن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام، والستون مسكيناً كم إطعامهم؟
قدروا للمسكين نصف الصاع، يعني الصاع الذي يخرج به زكاة الفطر يكفي عن
نفرين، فيكون خمسة عشر صاعاً من الطعام، سواء هيأ الطعام في بيته ودعاهم
وأكلوا، أو أعطاهم إياه ليهيئوه عندهم، فإن أخرج تمراً فالتمر طعام جاهز،
وإن أخرج الأرز -مثلاً- فهو طعام يصنع، وإن أخرج البر فيحتاج إلى طحن وغير
ذلك، فبعض العلماء يقول: يجعل مع البر أو مع الأرز ما يصلحه، والبعض يقول:
هو مقدار كافٍ.
وعدد الستين هنا هل هو مقصود لذاته، فيطعم ستين شخصاً أو هو مقدار ما يطعم
الستين حتى ولو أعطاه لستة أشخاص؟ فهناك من يقول: المراد مقدار ما يطعم
الستين؛ لأن الغرض المقدار، ومالك يؤكد على أنه يجب أن يكون العدد ستين
مسكيناً، ويقول: حينما يأكل طعامك ستة أشخاص فأنت تستفيد من استغفار ودعاء
ستة نفر فقط، أما إذا جمعت العدد في الإطعام، ووزعت الكفارة على ستين
شخصاً؛ فكل واحد سيستغفر لك، وكل واحد سيدعو لك، وكل واحد سيصوم بطعامك
الذي قدمت له، ويكون لك زيادة وانفساح في الأجر.
هل على المرأة
كفارة؟
الوقاع وقع من طرفين، فهل على المرأة كفارة أيضاً؟ وهل يتحملها الزوج أو لا
كفارة عليها؟ هناك من يقول: لا كفارة عليها، والكفارة من الرجل تجزئ عن
الوقاع، والمرأة لم تواقع، إنما هي محل العمل، والعمل للرجل.
وهناك من يقول: لا، إن كانت مكرهة فلا شيء عليها، وكفارتها عليه، وإن كانت
مطاوعة فعليها كما هو عليه أيضاً، ثم إن قلنا بأنها مكرهة، وألزمنا الزوج
بالكفارة، فقالوا: الرسول لم يسأل الرجل: هل المرأة مطاوعة أو غير مطاوعة؟
والرسول لم يقل: اعتق رقبتين عنك وعن زوجك، إنما أفتاه فيما يتعلق بنفسه
فقط، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم بأن الوقاع لا يكون إلا من طرفين، فلما
سكت عن المرأة سكتنا.
والآخرون يقولون: على حسب قواعد الأصول أو قواعد الفقه أو القياس أنه
يلزمها الكفارة، فإذا قيل: إنها مكرهة، وقلنا: كفارتها على من أكرهها وهو
زوجها، ونلزمه الكفارة من أجلها، فهل كفارتها مثل كفارته أم تختلف؟ إن كانت
من ذوي الأموال فإن كفارتها العتق، فعليه أن يعتق عنها، ولو عجز عن العتق
لنفسه، لكن هو لم يعتق عن نفسه فكيف يعتق عن غيره؟ وإن كانت كفارتها بالصوم
فالصوم لا يصوم أحد عن أحد، بل تصوم هي، وإن كانت كفارتها بالإطعام أطعم
عنها كما يطعم عن نفسه.
من عجز عن الكفارة
فهل تبقى في ذمته؟
هذا الموطن من مباحث الصيام يتفرع عليه أشياء كثيرة، منها أنه صلى الله
عليه وسلم: (أُتي بعرق بتمر، فقال: قم فأطعمه أهلك) ، فأطعمه أهله، فهل هذا
هو مقدار الكفارة؟ بعضهم يقول: الباقي دين في عنقه، فهل الرسول قال له: كمل
الباقي؟! الرسول ما قال له: أطعم هذا، وكمل ما بقي عليك من إطعام ستين
مسكيناً، بل أعطاه الطعام وقال له: اذهب؛ ولذا هناك من يقول: المعدم يطعم
قدر ما يستطيع، ويسقط عنه الباقي.
ولا نستطيع أن نستوعب كل جزئيات هذه المسألة، ولعل في القدر الذي أوردناه
الكفاية أو التنويه عن مسائل ومباحث هذه المسألة، والله أسأل أن يوفقنا
جميعاً وإياكم لما يحبه ويرضاه!
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [10]
ثبت عن السلف الصالح أنه كان يقع بينهم خلاف في بعض المسائل الشرعية، مثل
خلافهم في حكم الرجل يصبح جنباً ثم يصوم، وكان خلافهم بأدب وسعة صدر ورجوع
إلى الحق إن اتضح، وهكذا ينبغي أن يكون طلاب العلم؛ ولذا فمن الضروري معرفة
آداب الخلاف، فبالتأدب بها يحصل الائتلاف.
شرح حديث: (كان يصبح جنباً ثم يغتسل ويصوم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة وأم سلمة رضي
الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع،
ثم يغتسل ويصوم) متفق عليه، وزاد مسلم في حديث أم سلمة: (ولا يقضي) ] .
هذا الحديث تتمة لمبحث من واقع في نهار رمضان، أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يصبح جنباً فيغتسل ويصوم ولا يقضي، وذلك في رمضان.
خلاف الصحابة في هذه
المسألة
حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها هذا، ومثله عن عائشة رضي الله تعالى
عنهما، وقعت فيه قضية في هذا المسجد النبوي الشريف، وذلك كما يروي مالك في
الموطأ أن العلماء في مجلس مروان بن الحكم -وهو أمير المدينة آنذاك-
تذاكروا ما يكون منه الصوم والفطر، فقال قائل: إن أبا هريرة رضي الله تعالى
عنه يقول: من أصبح جنباً فلا صوم له.
يعني: من باشر أهله ليلاً، ونام حتى طلع الفجر قبل أن يغتسل، فلا صوم له في
ذلك اليوم.
والاغتسال من الجنابة يجوز في أول الليل أو أوسطه أو آخره كما جاء في سنن
البيهقي رحمه الله: (أن رجلاً سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها
وقال: يا أماه! أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معكِ وأنت حائض؟
قالت: نعم، كنت آخذ العظم فآكل ما عليه من اللحم، وأناوله رسول الله فيعرشه
من بعدي، وأشرب القدح وأناوله رسول الله فيضع فاه في موضع فمي ويشرب.
قال: قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: يا أماه! أكان
صلى الله عليه وسلم يوتر من أول الليل أو من آخره؟ قالت: من كل الليل أوتر
رسول الله -من أوله، من أوسطه، من آخره- قال: قلت: الحمد لله الذي جعل في
الأمر سعة.
قلت: يا أماه! أكان صلى الله عليه وسلم يغتسل من الجنابة قبل أن ينام أو
ينام ثم يغتسل؟ قالت: كل ذلك كان يفعل، أحياناً يغتسل ثم ينام، وأحياناً
ينام ثم يغتسل.
فقال: قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة) .
وهنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه نقل عنه في هذا المجلس: أن من أخّر غسل
الجنابة، وطلع عليه الفجر وهو جنب، فلا يصح صومه من الغد، فلما سمع مروان
هذا الكلام، واختلف العلماء الذين عنده، قال لرجل عنده اذهب إلى أم
المؤمنين أم سلمة فسلها عن ذلك، فذهب وسلّم وسألها، فقالت: (كان صلى الله
عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام، فيغتسل ويصوم ولا يقضي، وسلوا
عائشة) ، فذهب أيضاً إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت للسائل: أترغب
عن سنة أبي القاسم يا فلان؟! قال: لا والله! ولكن تذاكرنا وأخبرنا إنسان عن
أبي هريرة أنه قال: كذا وكذا.
قالت: لا، ليس الأمر كما قال أبو هريرة (كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً
من جماع لا احتلام، فيغتسل ويصوم ولا يقضي) ، فرجع وأخبر مراون ومن عنده
بما أفادت به أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما.
وإلى هنا يكون قد تبين الأمر، ولكن نظراً لوجود رأي مخالف، نجد منهجاً
عظيماً نرجع إليه بعد نهاية هذه القضية، فقال مروان: يا عبد الرحمن! أقسمت
عليك لتركبن دابتي وهي بالباب، وتذهب إلى أبي هريرة في بستانه بوادي العقيق
-وبستانه هناك على طريق الهجرة -كما يقولون- وراء أرض السراني، أي: قريباً
من ذي الحليفة- وتخبره بما حصل، قال: فذهب عبد الرحمن فسلم عليه، ثم تحدث
معه قليلاً، ثم قال: يا أبا هريرة! لقد كنا في مجلس مروان، وتذاكرنا ما منه
الصوم والفطر، فقال قائل: إنك تقول كذا، فأرسلني إلى أم المؤمنين عائشة وأم
المؤمنين أم سلمة، فسألتهما، فأخبرتا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يصبح جنباً من جماع لا احتلام فيغتسل ويصوم، فقال أبو هريرة: أو قالتا ذلك؟
قال: نعم، وسمعته منهما وبلغته للقوم، فقال: أما أنا فلا أدري، فقد أخبرني
مخبر، وبعض الروايات تسمي هذا المخبر، وبعضها يسكت عنه، وحيث سكت أبو هريرة
فنسكت عنه، والذي يهمنا أن عبد الرحمن رجع إلى مروان ومن عنده، وأخبره بما
قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.
ويذكر ابن عبد البر في الاستذكار أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه نزع عن
هذا القول بعد أن بلغه خبر عائشة رضي الله تعالى عنها، وانتهت القضية برفع
الخلاف، وانعقد الإجماع على صحة صوم من أصبح جنباً، وأنه يغتسل بعد الفجر
ويكمل صومه.
يقول علماء الأصول: إن صحة صوم من أصبح جنباً تؤخذ من باب الإيماء والتنبيه
من كتاب الله، وقد نص على ذلك ابن عبد البر وقال: إن الله سبحانه أباح
للصائم المباشرة ليلاً في قوله سبحانه: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا
مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
[البقرة:187] ، فإذا أباح الله ليلاً للصائم المباشرة والأكل والشرب حتى
يتبين الفجر، لم يبق وقت لإيقاع الاغتسال إلا بعد الفجر، وهذا من دقة
استنتاج العلماء رحمهم الله.
إذاً: فقه الحديث، وصحة صوم من أصبح جنباً انتهينا منها، ويلحق بذلك أيضاً
الحائض التي تطهر وترى القصة البيضاء قبل الفجر، ولكنها تتأخر في غسلها حتى
يطلع عليها الفجر وهي طاهر لم تغتسل، فحكمها حكم الجنب الذي وقع منه سبب
الجنابة ليلاً، وأدركه الفجر وهو بجنابته، فكذلك الحائضة أو النفساء إذا
طهرت قبل الفجر، فإنها تغتسل بعد الفجر وتصوم ذلك اليوم.
هذه المسألة أو هذه القضية قد انتهينا من موضعها الفقهي، وهو: صحة صوم من
أصبح جنباً، ويزيدون في الاستدلال أيضاً ويقولون: الجنابة لا تمنع الصوم،
لو أن صائماً في منتصف النهار نام فاحتلم، فهل الاحتلام في نهار رمضان يبطل
صومه؟ لا يبطل صومه، ولا يلحقه في ذلك كفارة ولا قضاء ولا شيء، يغتسل
لجنابة الاحتلام، وهو كغيره في باب الصوم سواء.
كيفية معرفة الراجح
من الأقوال
في هذه الآونة نجد المسائل الخلافية لربما تناولها بعض الإخوة بشيء من
الجدل، وبشيء من الشدة فيما بينهم، وكنت سابقاً قبل الاشتغال بالموطأ،
والوقوف على هذه القضية، أدرس بداية المجتهد، وهو الكتاب الوحيد في بابه
الذي يورد أسباب الخلاف، وعند كتاب زكاة الحلي وما فيها من خلاف وضعت
منهجاً وقلت: لا يمكن لإنسان يريد أن يفهم مسألة خلافية إلا إذا تتبع خطوات
أربع: الخطوة الأولى: معرفة الخلاف على ما هو عليه، فلان قال، فلان قال،
فلان قال، احصِ الأقوال المختلفة.
الخطوة الثانية: قف على دليل كل صاحب قول، هذا القول ما دليله؟ دون مناقشة.
الخطوة الثالثة: إذا أحصيت الأقوال، ثم عرفت أدلتها عند أصحابها تساءلت مع
الجميع عن دليل كل شخص آخر: لم لم يأخذ به؟ وبم يرد عليه؟ وهذه الخطوات
الثلاث تشبه عند المناطقة التصور.
ثم تأتي الخطوة الرابعة النهائية، وهي: الترجيح والحكم، وهي ما تعادل عند
المناطقة بالتصديق.
فلما وقفت على قضية مروان هذه وجدتها طبق الأصل لما ذكرته من منهج تحقيق
المسائل الخلافية، وبيان ذلك: مجلس منعقد في مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ومسألة فقهية أثيرت: هل الصائم الذي يصبح جنباً، يصح صومه أو لا يصح
صومه؟ وجدنا الخلاف من طرفين: طرف يقول: لا يصح.
وطرف يقول: يصح.
ما مستند كلا القولين؟ مستند من يقول: لا يصح، ما جاء عن أبي هريرة، ومستند
من يقول: يصح، ما يأتيه من أخبار أخرى، ولم يسمع بقول أبي هريرة، ومروان لم
يعرف الدليل الثاني إلا بعد ذلك، فقبل أن يأخذ برأي أبي هريرة أو يرفضه
احترمه ووقف عنده، ولكنه رد الأمر إلى أهله؛ لأن زوجات رسول الله صلى الله
عليه وسلم أعلم بحاله الداخلي من غيره، ولما سأل جاءه الجواب، فتبين عند
المجتمعين وجود القولين ووجود الدليلين، بقي حينئذ أن نسأل أبا هريرة عن
قول عائشة: ماذا يجيب عليه؟ ولم لم يأخذ به؟ وبم يرد عليه؟ فأرسل إليه
بتلطف، ولم يستدعه إليهم، ولكن أرسل إليه في مكانه وسأله، فتبين أن ما قاله
أبو هريرة لا يرفعه إلى رسول الله، بل يقول: أخبرني مخبر.
فحينئذ يبقى الترجيح، وكيف نعادل بين دليل يقول: أخبرني مخبر.
ودليل يقول: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويصبح صائماً؟ أعتقد أن الحق
اتضح، والطريقة واضحة.
أدب الخلاف
ينبغي على طلبة العلم حينما يصادفون مسألة خلافية، أن يتأدبوا بأدب الخلاف،
ولا يجوز لأصحاب الأقوال المختلفة أن يعنف أحدهم الآخر، ولا أن يسفه رأيه،
ولا أن يطرح قوله، بل يعتبره إلى أن يصفي القضية، أنت قلت كذا، وأنا بلغني
كذا، وهذا بلغه كذا، على ما تستندون؟ فإذا بحث كل منهم عن الحق، وكان الغرض
من ذلك البحث الوصول إلى الحق، وليست نصرة الرأي، وليست شهوة الانتصار
والغلبة، بل الغرض هو إصابة الحق، فالجميع يتعاونون ليصلوا معاً إلى معرفة
الحق.
ونظير ذلك أيضاً في هذا المسجد النبوي الشريف: أن عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه جلس مع بعض أصحابه، فتذاكروا الغسل من الجنابة، فقال قائل: إذا
أولج ولم ينزل فلا غسل.
وقال آخر: إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل أنزل أو لم ينزل.
فوقع الخلاف، هناك من يقول: لا غسل إلا إذا أنزل، والثاني يقول: مجرد
الإيلاج يوجب الغسل، وليس بشرط أن يُنزل.
إذاً: الخلاف من شقين، وكل من الحاضرين يبدي ما عنده، فدخل عليهم علي رضي
الله تعالى عنه، فسأله عمر: القوم اختلفوا، ماذا عندك؟ فقال علي رضي الله
تعالى عنه لـ عمر: ولم تسألني وتسأل غيري من هؤلاء وبجوارك أمهات المؤمنين
وهن أعلم بذلك؟! أرسل إليهن وسلهن.
فقال: أحسنت، وأرسل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت:
(كان صلى الله عليه وسلم يفعله ويغتسل -يعني: يولج ولم ينزل ويغتسل- وقالت:
أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا جاوز الختانُ الختانَ
وجب الغسل -وهذا متفق عليه، ويزيد مسلم في روايته:- أنزل أو لم ينزل) ، وقد
تقدم معنا هذا الحديث في نفس هذا الكتاب المبارك بلوغ المرام في باب الغسل.
فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع قول عائشة أن هذا فعل رسول الله، ثم
يسمع بعد ذلك ما يخالف هذا قال: والله! لن أوتى بأحد يقول: لا غسل إلا من
إنزال، إلا جعلته مثلة لغيره -أدبت به غيره- فقال أبي بن كعب: على رسلك يا
أمير المؤمنين! أنا أخبرك -أي: لماذا كان هذا الخلاف، وهذه هي نتيجة رجوع
طالب العلم للسلف وعلماء الأمة؛ لأنهم جمعوا شتات المسائل- أنا أخبرك لماذا
اختلفوا وما هو السبب- كنا في بادئ الأمر لا غسل إلا من إنزال، ثم بعد ذلك
عُزم علينا، وأصبح إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، فكنا
في بادئ الأمر: (إنما الماء من الماء) ، فإذا ما جامع ولم ينزل المني فلا
ماء للغسل (الماء من الماء) الماء الذي هو ماء الغسل من الماء الذي هو ماء
المني، ثم عزم علينا أن نغتسل.
فهذا مجلس بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في مسألة تعم بها
البلوى في كل البيوت، فالمباشرة أمر طبيعي، ويختلفون في حكم من جامع ولم
ينزل: أيغتسل أو لا يغتسل؟ إذاً: كانت هناك مسائل ربما تخفى على بعض الناس،
وكان عثمان رضي الله تعالى عنه طرفاً في هذه المسألة.
إذاً: لا غرو أن تخفى بعض المسائل على كبار أصحاب رسول الله، أو على صغار
أصحاب رسول الله، أو على كبار التابعين، ثم بعد ذلك مع البحث والتنقيب يطلع
على الراجح، ومن هنا كان السلف من التابعين ومن يأتي بعدهم أجمع لجزئيات
المسائل، وانتهى الخلاف فيما يتعلق بهذه القضية، وأصبحت مطردة (إذا جاوز
الختانُ الختانَ وجب الغسل) .
أمر يتعلق بالإخوة طلبة العلم في الدراسات العليا، وهو بعيد عن أحكام
الصيام، ولكن له صلة بالأصل العلمي الفقهي، وهو ما نراه في الآونة الأخيرة
أو المتقدمة قليلاً، حيث يقوم طالب علم مجتهد فيختار لموضوع رسالته (فقه
فلان) ، مثل كتاب فقه سعيد بن المسيب في حوالى سبعة أو ثمانية مجلدات، فقه
إبراهيم النخعي، فقه مجاهد، فقه ابن المبارك، وينفرد الطالب ببحث مسائل
فقهية وردت عن صحابي أو تابعي.
وأقول: أيها الإخوة! هل هذا الصحابي أو هذا التابعي قد جمع جميع مسائل
الفقه الاختلافية والاتفاقية؟ لا يمكن أن يدعي ذلك أحد، فإذا ما اقتصرنا
على مسائله التي وردت عنه فأين بقية مسائل الفقه؟ وإذا اقتصرنا عليها هل
نأخذ بها ونترك غيرها؟ وهل نتمذهب بمذهبه فتصبح عندنا عشرات المذاهب،
والناس يضيقون ذرعاً بالأربعة؟ الحقيقة إنه ترف علمي، أما عملياً بالنسبة
لخدمة الفقه الإسلامي فلا أعتقد ذلك، بخلاف الموسوعات العلمية، فمثلاً
البخاري في صحيحه ما اقتصر على صحابي، ولا على تابعي، وإنما جمع ما صح
عنده، وليس كل ما صح عنده جمعه، إنما أودع لنا في صحيحه من الصحيح فقط دون
الضعيف، ولكن لا يقتصر في الباب على ذكر صحابي، بل يأتي ما حضره من
الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، فيقف طالب العلم على آراء جملة من الصحابة
في الباب الواحد، وحينئذ يكون أدعى إلى استيعاب النصوص في هذه المسألة أو
في هذا الباب، وتنظر -مثلاً- في فتح الباري، فتجد أنه يطوف في آفاق أوسع من
البخاري عشرات المرات، ويأتينا بالنصوص عن أصحاب السنن جميعاً، وعن أصحاب
رسول الله جميعاً، فيجمع لك المسألة بأطرافها، وكما قيل: لا هجرة بعد
الفتح، تستغني به عن غيره، ولا تستغني بغيره عنه؛ لأنه جمع ما لم يجمعه
غيره.
سعة الصدر في مسائل
الاجتهاد
المنهج العلمي في بحث المسائل الخلافية، يكون بالرفق وحسن القصد، وينبغي أن
تكون الغاية عند الباحثين إنما هي الوصول إلى الحق.
ونجد جزئية هي كلية بالنسبة إلينا: فـ أبو هريرة رضي الله تعالى عنه صحابي
جليل، سمع أن عائشة رضي الله تعالى عنها روت خلاف ما سمع هو، فهل تعصب لما
سمع؟ هل بقي على ما كان عليه؟ بل إنه حالاً نزع عما كان عليه، ورجع إلى
الحق، وهذه هي سمة طلاب العلم، والرجوع إلى الحق أحق.
فالإنصاف من سمات علماء المسلمين حقاً، وفي هذا المسجد النبوي الشريف كان
والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في درسه في رمضان بعد
العصر كهذا الوقت، وكان يتكلم على الأشهر الحرم، ثم قال: وليعلم الإخوة
أننا كنا تكلمنا عنها سابقاً، وظننا أنها قد نسخت بآيات القتال، ثم الآن
تبين لنا أنها لم تنسخ، وأنها محكمة، وأن حرمتها باقية؛ ولهذا وجب التنبيه
على ذلك! مسألة تكلم فيها، ومضى عليها زمن طويل، وسمع بها من سمع، ولم
يسأله أحد، ولن يطالبه أحد بالتدقيق في ذلك، ولم يناقشه أحد فيما قال،
ولكنها أمانة العلم، ولكنه الوفاء للحق، ولكنه الرجوع إلى الله وإلى الحق،
يعلنها في المكان الذي أعلن فيه الرأي الأول! أيها الإخوة! إن أجمل ما
يتحلى به طالب العلم هو سرعة الرجوع إلى الحق حينما يتبين له، ومن هنا نعلم
حقيقة أن غرضه وقصده وغايته من طلب العلم إنما هو الحق، ولا شيء سوى الحق.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً -أيها الإخوة- إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا
وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
التشاور قبل
الاجتهاد في معرفة الراجح من الأقوال
ينبغي لطالب العلم أو المسئول أو العالم إذا واجهته قضية ليس عنده فيها نص،
وليس عنده فيها ما يعتمد عليه؛ أن يتوقف ويستشير، ويبحث ما استطاع ليصل إلى
الحقيقة، فإن وجد من القواعد والنصوص والأصول ما يبني عليه قوله فالحمد
لله، وإلا اجتهد طاقته والتوفيق من عند الله.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سافر إلى الشام، وفي قرية بينه وبين
الشام نزل، وجاءه القواد بالشام ليستقبلوه، ثم أخبر بأن الطاعون قد نزل
بالشام، فماذا يفعل؟ أيقدم بالقوم على الطاعون فيهلكهم أم يرجع عن مسيره
الذي خرج إليه؟ ما استبد برأيه، مع أن عمر يسمى الملهم، إذا سار في طريق
شرد الشيطان منه، وقد نزل الوحي موافقاً لرأيه في عدة مواطن، ماذا فعل؟ دعا
مشيخة المهاجرين، فجيء بمشيخة المهاجرين فسألهم فاختلفوا عليه، منهم من
قال: امضِ إلى ما خرجت إليه، ومنهم من قال: لا تدخل أصحاب رسول الله على
هذا الوباء، قال: قوموا عني.
ثم دعا مشيخة الأنصار فسألهم، فاختلفوا عليه، منهم من قال: امض إلى ما خرجت
إليه متوكلاً على الله، ومنهم من قال: لا تدخل أصحاب رسول الله على هذا
الوباء.
قال: قوموا عني.
ثم طلب مشيخة قريش، فاجتمعوا عنده وسألهم، فما اختلف عليه واحد فيهم،
وأجمعوا رأيهم على أن يرجع بمن معه، فلما كان الليل قال: إني مصبح على ظهر
-يعني: راكب راجع- فجاء عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً من قبل، وسمع
بالذي حدث، فقال: يا أمير المؤمنين! عندي في ذلك علم -إذاً: ظهر النور-
قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نزل
الطاعون بأرض فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا كان بأرض فلا تدخلوها) ،
فحمد الله عمر وكبر، وشرح الله صدره، وفرح بأن اجتهاده بأنه مصبح على ظهر
راجعاً موافق لما جاءه من هذا العلم النبوي الشريف، وهو أننا إذا سمعنا به
في أرض فلا ندخلها.
أيها الإخوة! ليس هناك من يدعي علم عمر، ولا خيال علم عمر، وليس عندنا من
يدعي ورع عمر، إذاً: مع فضله وجلالة قدره، وهو الخليفة، وله الحق في أن
يشرع ما لم يكن فيه نص (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) ؛ ومع ذلك يستشير، ويبذل
الجهد حتى يفرغ ما في وسعه، ثم يجتهد ويستقر رأيه على جهة، ثم يأتيه العلم
مطابقاً لرأيه الذي استقر عليه.
وقد سمعت والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في مسألة:
والله! لقد مكثت عشر سنوات وأنا أبحث عنها حتى وجدتها في كتاب الله! إذاً:
طالب العلم إذا عرضت عليه مسألة أو واجهته مشكلة أو قضية لا يبادر، ولا
يسارع، سواء كانت فتوى، أو كانت علماً، أو كان غير ذلك، بل يستشير ويبذل
الوسع، ويراجع، ونحن في الوقت الحاضر أمامنا -ولله الحمد- مصادر التشريع من
كتب التفسير ومن كتب الحديث.
ابن تيمية رحمه الله الذي عاش ومات وحياته كلها في العلم، ويمكن أن تقول:
قد عجن بماء العلم؛ يقول: كنت أقرأ للآية مائة تفسير، وأقول: اللهم! يا
معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، لم يقتصر على تفسيرين أو على
عشرة أو عشرين، يقرأ مائة تفسير في الآية الواحدة؛ ليطلع على آراء العلماء؛
ليستوعب الأقوال فيها، والشيء بالشيء يذكر، اليوم نكون في جولة في هذا
الموضوع.
سبب اقتصار الشنقيطي
على تدريس التفسير والأصول
سألت والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في هذا المسجد، في
رمضان، بعدما انتهى من الدرس، وقد ذهب الناس، تقدمت إليه وقلت له: يا شيخ!
أنا لي سؤال من زمان يتردد على لساني ولم أستطع أن أقوله.
قال: وما هو؟ وكان -رحمة الله تعالى علينا وعليه- يعطيني شيئاً من السعة
قليلاً، قلت له: منذ أن جئتَ إلى هذه البلاد وأنت مقتصر على تدريس التفسير
وأصول الفقه، ما غيرت، مع أنك بحر في علوم العربية: نحو، صرف، بلاغة، أدب،
وكل ما يتعلق بها، والفقه ما أظن مسألة في مذهب مالك في تخوم وبطون الكتب
إلا وهي في دماغك، والحديث ما أعتقد أنه يعجزك معرفة رواة الحديث ومعاني
متون الحديث، والتوحيد نسمع منك فيه الشيء الكثير وهكذا.
فقال لي: ما الذي حملك على هذا السؤال؟! قلت: الذي حملني عليه أن هذا
السؤال ورد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقرأت عنه أنه قيل له: يا أبا
حنيفة! أنت في زمن تدوين الحديث، وما رأيناك تشتغل بالرواية! وأنت في زمن
اشتهر فيه علم الكلام، وما رأيناك تتكلم في علم الكلام -يعني: التوحيد
والعقائد، ومعلوم أنه في ذاك الوقت كانت العلوم متوافرة من فقه وحديث وفقه
وتوحيد وتفسير- ورأيناك تشتغل بالفقه فقط! قال: نعم، أما رواية الحديث فإن
هناك رجالاً يتتبعون الرواة، وهم علماء الرجال، فيتتبعون أحوال كل راوٍ من
مولده إلى موته، فإن وجدوا عليه هفوة تركوه، وصارت سبة فيه إلى الأبد، وأنا
لست في حاجة إلى هذا.
أما علم الكلام فلو أن شخصاً سمع منك هفوة بدون قصد في التوحيد رماك
بالزندقة، وأنا في غنىً عن هذا.
وأما التفسير فالقرآن ميسر، وعلماء التفسير كثيرون.
أما الفقه فإني نظرت فإذا العامة والخاصة والغني والفقير والرجال والنساء
في أمس الحاجة إليه؛ فاشتغلت به.
فقال رحمه الله: والله! معه الحق في هذا.
قلت: وأنت؟ قال: أقول لك: أما علم العربية الذي ذكرت فهو وسيلة وليس بغاية.
وفعلاً علوم العربية بأجمعها ليست غاية، فلا ينبغي لإنسان أن يضيع عمره كله
في أن المبتدأ مرفوع، والخبر مرفوع، والجملة الفعلية والجملة الاسمية، ولكن
تكون دراسة علم اللغة لمعاني كلمات القرآن، وللبلاغة، فهي وسيلة وليست
بغاية.
قال: وأما علم الكلام فليس علماً يثار على الحاضرين على اختلاف طبقات
عقولهم وأفهامهم؛ لأن فيه من الشبهات وفيه من المزالق ما تزل فيه أقدام
الفحول، فكيف يثار على عوام الناس! فليس عملياً.
وأما علم الحديث فهو تتبع الرواة وعدالتهم وقبولهم وتصحيحهم، وتتبع المتن
في فقهه ومعارضته، ومطلقه ومقيده، وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه.
إلخ.
وأما الفقه فيحتاج إلى اجتهاد كثير، ولا يمكن أن تبحث مسألة؟ بجميع أطرافها
هنا في المدينة، وكنا في بلادنا نقتصر على فقه مالك، وهنا في المدينة
يأتيها أناس من كل المذاهب، ولا يتأتى لإنسان أن يتعرض لمسألة فقهية خلافية
إلا إذا استوعب أقوال الأئمة الأربعة فيها؛ من أجل أن الحاضرين من أهل
المذاهب الأربعة، وإذا جمعت أقوال مسألة وغبت عنها مدة، ثم رجعت إليها
احتجت إلى تجديد البحث فيها مرة أخرى، فهو متعب.
أما التفسير -وهذا محل الشاهد عندي- فما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما
قيل فيها! ابن تيمية يقول: كنت أقرأ مائة تفسير، والشيخ الأمين يقول: ما من
آية في كتاب الله إلا وعندي في حافظتي وفي ذاكرتي جميع ما قيل فيها من
علماء التفسير جميعاً! قلت: إذا كان الأمر كذلك فلك الحق في اقتصارك على
تدريس التفسير، والأصول ما هو السبب في تدريسه؟ قال: نعم، أما الأصول فهو
ضروري لطالب العلم؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء، وقال:
ثم اعلم أن التفسير يأتي فيه اللغة متناً وإعراباً وصرفاً وبلاغةً، ويأتي
فيه التوحيد، فآيات التوحيد في كتاب الله كثيرة، ويأتي فيه الأحكام
الفقهية، فالفقه أكثره يؤخذ من كتاب الله، ويأتي.
ويأتي.
وعدد كل العلوم التي تصب في كتاب الله.
والذي يهمني من هذا أن طالب العلم إذا عرضت عليه مسألة وأشكلت عليه، فلا
يستنكف عن المشاورة والسؤال، بل يبحث ويجتهد، لعل الله أن يفتح عليه، فهو
يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها، يعني: لو راجعنا جميع
كتب التفاسير الموجودة، والخلافات عن أئمة التفسير لوجدناه محصلاً إياها!!
وهكذا أقول: ينبغي لطالب العلم إذا تعرض لمسألة أن يجمع أكثر ما قيل فيها،
ليكون على بينة من أمره.
ولكن لو عمل الجميع بهذا لما وجدنا من يستطيع أن يجلس يدرس الناس، فإذا
وجدنا عُشر ذلك ففيه البركة والخير.
والله أسال أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
بركة طلب العلم في
المسجد النبوي
أقول: يا إخوان! ما وجدنا أيسر تحصيلاً وأكثر بركة في طلب العلم من هذا
المسجد النبوي الشريف، جئت إلى شيخنا الأمين مرة وقلت: يا شيخ! يطرأ لي أن
أبحث عن مسألة في البيت، وأتطلبها في مظانها جميعاً، فيتعذر علي الوقوف
عليها، فأصر على أني أتجاوزها، فيصادف بعض الأحيان حينما آتي إلى المسجد
النبوي وأضع إحدى قدماي في المسجد، وقبل أن أدخل الثانية، إذا به يخطر على
بالي حكم المسألة! فإذا به يقول: لست وحدك! قلت له: كيف لست وحدي؟! قال:
وأنا يحصل هذا عندي، أستشكل الأمر، ويطول إشكاله عندي، فإذا ألقيت الدرس في
المسجد النبوي ألهمني الله الجواب! ولهذا -أيها الإخوة- حث النبي صلى الله
عليه وسلم على طلب العلم في هذا المسجد، فقال: (من راح أو غدا إلى مسجدي
هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) .
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، والله! الحديث ذو
شجون! وبالمناسبة أيها الإخوة: أحمل طلبة العلم بالمدينة ما حملهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، كما روي عنه أنه قال: (يا معشر أهل المدينة! إن
الناس لكم تبع، وستفتح الأمصار، ويأتي رجال يطلبون العلم -أي: هنا- فآووهم
وعلموهم) ، وكان سعيد بن المسيب إذا جاء واحد من خارج المدينة لطلب العلم
يقول: مرحباً بوصية رسول الله.
وهذا هو الواجب على من أكرمه الله سبحانه بطلب العلم في المسجد النبوي،
فإذا جاء طالب جديد فينبغي أن يشرح له صدره، وأن يوسع له باله، وأن ييسر له
طريقه، وأن يبذل ما في وسعه لمساعدته لطلب العلم.
والله الموفق.
كتاب الصيام - مقدمة
كتاب الصيام [11]
مسألة انتفاع الميت بعمل الحي، من المسائل التي يكثر فيها الخلاف والجدال،
فينبغي لطالب العلم أن يعرف خلاف العلماء فيها، ودليل كل قول فيها، ولعله
بهذا يتضح له الصواب، وعليه ألا ينكر على من خالفه؛ لأن مخالفته مبنية على
أدلة، ومن عرف أقوال العلماء وأدلتهم اتسع صدره، وكثر علمه.
شرح حديث: (من مات
وعليه صيام صام عنه وليه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله
تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه
وليه) متفق عليه] .
موضوع هذا الحديث -وهو صيام الحي عن الميت- جزء من قضية كبرى، ألا وهي: مدى
انتفاع الميت بعمل الحي.
وقوله في هذا الحديث: (من مات) ، (من) من صيغ العموم تشمل الرجل والمرأة.
وقوله: (وعليه صيام) الصيام جنس، هناك صوم الفريضة، وصوم النافلة، أما صوم
النافلة فليس بداخل هنا؛ لأنه يقول صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه) ،
والنافلة لا تكون ديناً على الميت؛ لأنها غير واجبة، والصوم الواجب ينقسم
إلى قسمين: واجب بتكليف من الله، وهو صوم شهر رمضان، وواجب بتكليف الإنسان
نفسه دون أن يكون واجباً عليه، وهذا في صوم النذر والكفارات، فالنذر جائز،
ولكن الإنسان هو الذي يلزم نفسه به.
قوله: (من مات وعليه صوم) صوم هنا نكرة، وتشمل الفرض بتكليف من الله،
والواجب بتكليف الإنسان نفسه به.
وقوله: (صام عنه وليه) وليه أي: من أقاربه، وولي الإنسان أول من يدخل فيه
عصبته، والولي هنا ليس خاصاً بالرجال، بل يدخل فيه النسوة، فعلى القول
بالصوم عن الميت، لو أن أبناء الميت وبناته وزوجاته صاموا عنه بتقسيم
الأيام بينهم أجزأ، ولكن هذه المسألة لم يتفق عليها العلماء، هناك أحاديث
فيها عموم انتفاع الميت بعمل الحي، وهناك نص في خصوص الصلاة والصوم، وهناك
نص: (لا يصم أحد عن أحد، ولا يصلِ أحد عن أحد) ، ومن هنا وقع الخلاف فيمن
مات وعليه صوم، هل يصوم عنه وليه أم لا؟ قيل: (يصوم عنه) بمعنى: يطعم؛ لأن
الإطعام بدل عن الصيام.
والذين يجيزون عمل الحي عن الميت قالوا: هذا الحديث نص بأنه يصوم عنه.
والمانعون يقولون: من مات وعليه صوم المراد به: صوم النذر؛ لأنه هو الذي
ألزم نفسه به، بخلاف صوم رمضان، فالله كلفه، والله أماته؛ فلا شيء عليه.
هل ينتفع الميت بعمل
الحي؟
ما مدى انتفاع الميت بعمل الحي؟ ينقسم العلماء إلى قسمين: قسم يبيح ذلك
مطلقاً، فيقولون: كل عمل للإنسان الحي ينفع الميت، وقسم يقابل ذلك ويقول:
لا ينتفع الميت بأي عمل من أعمال الحي، وفصل الجمهور بين هذا وذاك، وقسموا
أعمال الإنسان التكليفية من العبادات إلى قسمين: عبادة مالية، وعبادة
بدنية، فالعبادة البدنية هي ما ليس فيها المال: كالصلاة، الصيام، الحج،
الجهاد، كل هذه من أعمال البدن، وكذلك الذكر والدعاء، وأعمال المال:
كالصدقة، سداد الديون، وكل ما يبذل فيه المال فهو عبادة مالية.
نقل ابن عبد البر وابن تيمية إجماع المسلمين على أن كل عبادة مالية فإن
الميت ينتفع بها من الحي، ومثلوا لذلك بسداد الديون، وبالصدقة عنه ابتداءً،
وبالتكفير عنه إذا كانت عليه كفارة، وكان التكفير بالمال كإطعام ونحوه.
وقالوا: جاءت النصوص الصحيحة في هذه الأصناف عن النبي صلى الله عليه وسلم،
أما تسديد الديون فمنها (أن امرأة -ومرة رجلاً- أتيا النبي صلى الله عليه
وسلم وسألاه، هذا يقول: إن أبي، وتلك تقول: إن أمي مات أو ماتت، وعليه
الحج، أفينفعه أن أحج عنه؟ قال: أرأيت -أو أرأيتِ- لو أن على أباك -أو أن
على أمكِ- ديناً فقضيتيه، أكان ينفعها ذلك؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق
بالقضاء) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أحال السائل والسائلة في جواز وإجزاء الحج عن
الميت على سداد الدين، وسداد الدين بالفطرة أنه يجزئ عن الميت، فقالوا:
إذاً: من مات وهو مدين، وليس عنده ما يسدد الدين -ولو كانت عنده تركة تسدد
الدين؛ سدد من تركته، ولا حاجة إلى أحد- فقام إنسان من ذويه أو أصدقائه أو
أحد المسلمين فسدد الدين، فيسقط عنه الطلب، وبرئت ذمته.
وجاء في خصوص الدين بالذات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر
في أول الهجرة وأول الإسلام (إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟
فإن قالوا: نعم، عليه دين.
قال: صلوا عليه أنتم.
وإن قالوا: ليس عليه دين يصلي عليه.
فقدم مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ميت، وسأل وقيل: نعم، عليه ديناران.
فقال: صلوا عليه أنتم.
فقام أبو قتادة رضي الله تعالى عنه -وبعضهم يقول: علي رضي الله تعالى عنه-
فقال: يا رسول الله! صل عليه ودينه علي.
قال: في ذمتك؟ قال: نعم.
قال: برئت منها ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه) .
ثم لما جاءت الفتوحات، وجاءت الغنائم، ووسع الله على المسلمين، قال صلى
الله عليه وسلم: (من مات وعليه غرم فغرمه عليَّ، ومن مات وله غُنم فغنمه
لذويه) ، وصار صلى الله عليه وسلم إذا أتاه ميت وعليه دين يسدد ذلك من مال
الصدقات.
إذاً: الميت ينتفع من الحي بسداد دينه، وكذلك الصدقة سواء تصدق عنه بنقد أو
بطعام أو اشترى شاة وذبحها وتصدق بلحمها عنه، أو نحو ذلك، وقد جاء عنه صلى
الله عليه وسلم (أنه بعد الهجرة كان يذبح الشاة، ويقسم لحمها، ويقول: صدقة
عن خديجة) ، وخديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها توفيت بمكة، فمن كثرة
ما كان يفعل ذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تغار، والغيرة
تلحق النسوة: خديجة خديجة حتى بعد الممات خديجة! نعم، ولم لا؟! وقد وقفت
بجانبه صلى الله عليه وسلم وقفة لم يقفها أحد معه في أشد الحالات، عندما
رجع من الغار ترعد فرائصه، وقال: (زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي) ، ما
جلست بجواره تبكي، ولكن بحصافة العقل قالت: أخبرني ماذا حصل؟ فأخبرها،
فقالت له: والله! لن يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب
الدهر، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل.
وأخذت تعدد من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، واستدلت بذلك على أن الذي
ألمَّ به ليس شيطاناً، وبينما هو في تلك الحالة يقول: (زملوني زملوني)
قالت: قم وانهض! -لم تغطه وتجلس بجانبه- ومضت به إلى ورقة بن نوفل -وكان
قريبها- فقالت: اسمع من ابن أخيك ماذا يقول، فقص عليه، فقال: يا ابن أخي!
هذا الناموس الذي أنزل على موسى وعيسى والنبيين من قبلهم، ليتني كنت فيها
جذعاً ليتني أكون حياً حينما يخرجك قومك فأنصرك.
فقال: (أوهم مخرجي يا عم؟!) قال: نعم، ما جاء أحد قوماً بمثل ما جئت به إلا
عودي وأوذي.
فهذه هي خديجة! ولما اشتد الأمر على المسلمين، وانحازوا إلى الشعب، وكتب
الكفار صحيفة المقاطعة، دخلت معه، ثم في يوم أحس وقال لها: (يا خديجة! لقد
أكثرت عليك، وأسرفت في مالك على الضعفاء) ، فشق عليها ذلك، وجمعت سادة
قريش، وجاءت بكل مالها وقالت: هذا مالي بين يدي محمد، والله! لا أسأله عن
شيء أنفقه، ولا عن شيء تركه.
هذه هي خديجة رضي الله تعالى عنها! واختبرت جبريل، قالت للنبي عليه الصلاة
والسلام: هل تستطيع أن تخبرني حينما يأتيك؟ قال: (نعم، قالت: افعل.
فلما أن جاء جبريل قال لها: لقد أتى.
قالت: قم فاجلس في حجري.
فقام فجلس في حجرها، قالت: اقعد على فخذي.
فقعد على فخذها الأيمن، ثم الأيسر، قالت: أتراه؟ قال: نعم أراه، نعم أراه،
فحسرت عن رأسها -كشفت رأسها- وقالت: أتراه؟ قال: لا، قالت: اثبت، إنه ليس
شيطاناً، إنه ملك، لم يرض أن ينظر إلى شعري) .
ومن الغد تخرج خديجة بطعام لرسول الله وابن عمه علي رضي الله تعالى عنه إلى
جبل أجياد، وكانا يخرجان يتعبدان هناك بعيداً عن قريش، فلقيها جبريل في
صورة رجل فقال: أين تذهبين يا خديجة؟! قالت: لي حاجة.
قال: أين محمد؟ قالت: لا أدري، خافت عليه منه، فلما جاء جبريل إلى رسول
الله قال: يا محمد! السلام يقرئك السلام، ويقرئ خديجة السلام، ويبشرها بقصر
من قصب، لا نصب فيه ولا صخب.
فكان صلى الله عليه وسلم يتصدق عنها، ولما قالت عائشة مقالتها، قال: (وما
لي لا أفعل ذلك ولي منها الولد، وآمنت بي أولاً، وآزرتني بنفسها ومالها؟!)
.
والذي يهمنا: أنه صلى الله عليه وسلم كان بنفسه يتصدق عن خديجة.
إذاً: الميت ينتفع من عمل الحي إذا كان العمل مالاً ينفق: سداد دين، أو
أداء كفارة، أو صدقة مطلقة.
خلاف العلماء في
جواز إهداء ثواب الأعمال البدنية للموتى
يقول ابن تيمية رحمه الله: العبادات البدنية هي التي فيها النزاع.
إذاً: العبادة المالية لا نزاع فيها، والخلاف في العبادة البدنية: الصلاة،
والصيام، والحج، يقول شارح الطحاوية رحمه الله -والطحاوي من علماء القرن
الثالث الهجري، وشارح كتابه من علماء القرن السابع أو السادس-: إن الحج
عبادة بدنية، والفقهاء يقولون: هو جامع بين البدن والمال، وهو يقول:
الحقيقة أنه بدني محض، والمال مساعد له، بدليل أن القادر على المشي من أهل
مكة يتعين عليه الحج ماشياً، ولا حاجة له إلى المال، ولكن الآفاقي يحتاج
إلى المال للسفر وللسكنى.
إلخ.
وباتفاق علماء المسلمين أن الميت ينتفع بحج غيره عنه، كما جاء في سؤال
الرجل عن أبيه والمرأة عن أمها: إن أبي مات وعليه حج، أينفعه أن أحج عنه؟
إن أمي ماتت وعليها حج، أينفعها أن أحج عنها؟ والمرأة أو الرجل الذي قال:
إن أبي شيخ كبير لا يقوى على الثبات على الراحلة، وخشيت إن أنا ربطته عليها
أن يهلك، أفحج عنه؟ قال: (نعم) ، فهذه الصور في الحج، وسمع الرسول صلى الله
عليه وسلم رجلاً يلبي حول البيت ويقول: لبيك اللهم عن شبرمة.
فقال: (ومن شبرمة هذا؟ قال: أخ لي أو قريب.
قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك أولاً ثم حج عن شبرمة) .
إذاً: بإجماع المسلمين أن الميت ينتفع بحج الحي عنه، وهناك خلاف عند
المالكية إذا مات الرجل وقد وجب عليه الحج ولم يحج ولم يوصِ، قيل: لا يحج
عنه، هو الذي قصر في نفسه.
والآخرون يقولون -كما يقول الشافعي -: من مات وقد وجب الحج عليه ولم يحج،
وبقي في ذمته فمات، فيتعين على الورثة أن يخرجوا من تركته ما يحجج غيره عنه
من بلده؛ لأنه حق في ذمته تعلق بالتركة.
فهذا الشافعي يوجبه وجوباً، ويقدمه على الوصايا الأخرى، ويقدمه على الوارث،
ولا يقدم عليه إلا الدين.
إذاً: باتفاق المذاهب الأربعة أن الحج -وهو عمل بدني- يجزئ عن الميت، فمن
مات ولم يحج، فيجوز أن يحج عنه غيره، وينتفع به وإن لم يكن قد وجب عليه،
فيكون له أجر حج النافلة، وللحاج عنه مثل ذلك الأجر.
بقي حكم إهداء ثواب الصلاة، والصيام، وذكر اللسان من دعاء واستغفار وتلاوة
القرآن للموتى.
أما الصلاة: فيحكون النزاع فيها لحديث: (لا يصلي أحد عن أحد) ، وبعضهم
ينازع في ذلك؛ لأن في ضمن الحج صلاة ركعتي الطواف عن الميت، فهي ضمن عمل
الحج، وأجزأت عن الميت، وجاء في الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم وقال: يا رسول الله! كان لي أبوان أبرهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟
فقال: أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، وتبر من كانا يبرانه)
يعني: تصل أصدقاءهما وأقاربهما، فقال صلى الله عليه وسلم في إرشاد الذي طلب
بر أبويه بعد موتهما: (أن تصلي لهما مع صلاتك) ، فقال في هذه الكلمة (تصلي
لهما) ، لكن نجد المانعين يقولون: المعنى: تدعو لهما في صلاتك، ولكن
الأصوليين يقولون: لا يجوز حمل اللفظ الواحد على المعنيين المختلفين في وقت
واحد، فالصلاة لها معنى لغوي وهو الدعاء، ومعنى شرعي وهو الركوع والسجود
والتحية، فهؤلاء قالوا: (تصلي لهما مع صلاتك) فقوله: (صلاتك) أي: ذات
الركوع والسجود الشرعي، وقوله: (تصلي لهما) أي: الدعاء! فإما أن تجعلوها
الدعاء في الموطنين، وإما أن تجعلوها الصلاة الشرعية في الموطنين، وأما أن
تشكلوا بهذا وبهذا فالأصوليون يمنعون ذلك.
فهذا حديث يثبت أن من بر الوالدين بعد موتهما أن تصلي لهما، وليس المراد:
صلاة الفريضة، فالفريضة انقطعت (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) ، ولكن ذلك في
النافلة، أصلي ركعتين وأقول: لأبوي، أو ركعتين لأبي، وركعتين لأمي.
وقوله: (وتصوم لهما مع صومك) ، في النافلة أيضاً، فكما تصوم تطوعاً لنفسك
تصوم أيضاً تطوعاً لهما.
وهذا الحديث من ضمن أدلة القائلين انتفاع الميت بأعمال الحي، (من مات وعليه
صوم، صام عنه وليه) ، فهو انتفع بصوم الولي، وانقضى الدين عنه.
حكم الدعاء للميت
وقراءة القرآن له
هل ينتفع الميت بالدعاء؟ يقول ابن تيمية رحمه الله: هذه العبادة ينتفع بها
الميت بإجماع المسلمين، ومن جحدها فقد كفر، يقول: نصلي صلاة الجنازة إذا
مات الميت ولا نعرفه، فتشرع الصلاة عليه، وهي تشتمل على الفاتحة، والصلاة
والتسليم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، فإذا كان
الميت لا يستفيد ولا ينتفع من دعاء الأحياء لما كان للصلاة عليه فائدة، وفي
القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}
[الحشر:10] ، فهذا القرآن يسجل دعوات المسلمين الأحياء للمسلمين السابقين
بالإيمان، وهذا جائز بإجماع المسلمين.
وقالوا: كذلك تلاوة القرآن؛ لأنها عبادة بدنية قولية، فإذا قرأ الإنسان
قرآناً يبتغي به وجه الله، ثم جعل هذا القرآن لميته وصله، يقول ابن تيمية
رحمه الله: هذا باتفاق العلماء، وإنما نازع في ذلك الشافعي رحمه الله، وبعض
أتباع المذاهب الأخرى، ويلحق بالقرآن الذكر والدعاء، فإذا سبح الله كذا،
استغفر الله كذا، كبر الله كذا، وقال: يا رب! هذا لميتي.
فإنه يصله، وأطال الكلام في ذلك، وروى ذلك عن كثير من سلف الأمة، وذكر نزاع
الناس في مسألة التردد إلى القبر لقراءة القرآن، قال: أما في أول مرة عند
دفنه فيجوز؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أوصى أهله إذا
دفنوه، أن يمكث الماكث عند قبره، ويقرأ أوائل سورة البقرة وخواتيمها
وخواتيم سورة الحشر، أما أن يتردد ويتخذ ذلك عادة، فقال: هذا لم يفعله
السلف، وليس بجائز.
ولو كان إنسان لا يقرأ، هل يجوز أن يستأجر من يقرأ؟ قال ابن تيمية: هذا عمل
لم يعمله السلف قط.
ولكن إن كان ولي الميت أعطى من يقرأ لميته نظرنا: هل هو فقير أو غني؟ فإن
كان غنياً فليس له ولا لميته شيء من ذلك؛ لأن من أخذ الأجرة من الخلق فليس
له عند الخالق أجر؛ لأن الثواب مبني على الإخلاص وابتغاء وجه الله، وهو أخذ
نقداً ممن أعطاه، فتعجل الأجر مسبقاً فلا أجر له عند الله، إذاً: ليس عنده
ما يهديه للميت.
وأما إن كان الآخذ فقيراً، وأخذ المال ليستعين به على القراءة؛ فإن له ذلك،
وأقل ما يكون أن ما دفعه ولي الميت لهذا القارئ من سبيل الصدقة؛ لأنه فقير
محتاج.
نخلص من هذا كله -أيها الإخوة- أن هذه النصوص في هذه القضية تثبت استفادة
الميت من عمل الحي.
أدلة من قالوا: لا
ينتفع الميت بعمل الحي
نحن قدمنا سابقاً في قضية مروان بن الحكم في مسألة صيام الجنب، أنه لابد أن
نطلع على أدلة الفريق الآخر، وكيف نرد عليها، فالذين منعوا استفادة الميت
من عمل الحي قالوا: جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا
مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به،
أو صدقة جارية) ، وجاء في القرآن الكريم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ
إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] .
ويجيب على ذلك شارح الطحاوية وابن تيمية رحمهما الله بأجوبة متعددة، وخلاصة
ذلك: أن في الحديث أنه انقطع عمله المباشر، أما عمله بالواسطة الذي تسبب به
في حياته، فلا نقطع، كالصدقة الجارية، مثل أن يكون بنى مسجداً، أجرى نهراً،
حفر بئراً، بنى مسكناً للمساكين، فهذه صدقة جارية من بعده، وهي من عمله،
فيقولان: هذا الميت حينما كان حياً، وصلته بالمسلمين عموماً كانت حسنة،
وكان يتودد إليهم ويساعدهم ويتألفهم، فهو أوجد لنفسه عندهم تعاطفاً معه؛
فلما مات تصدقوا عليه، فلما مات صاموا عنه، فلما مات قرءوا له، فهذه
القراءة التي جاءت من الغير لهذا الميت هي من عمله، وما هو عمله؟ هو حسن
علاقته معهم في حياته، أليس عطف قلوبهم عليه، وصحبتهم له، وتذكرهم له
بالدعاء والمغفرة؛ نتيجة لعمله معهم؟ بلى هو من عمله.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]
، فسعيه وكسبه بالسعي انتهى، ولكن الآية لم تمنع أن ينتفع بسعي غيره، نعم
إن صلاة غيره لمن صلى، وصدقة غيره لمن تصدق، وليس للميت شيء، فهذا الذي سعى
بصلاة أو بصيام سعيه له، فبالقياس الصحيح أنه لما أصبح سعيه له فهو حر فيه:
إن شاء أمسكه لنفسه، وإن شاء قدمه للميت، فإذا سعى إنسان حي لتحصيل الأجر
من أي عبادة كانت، فأصبح الأجر ملكاً لهذا الساعي وهو على قيد الحياة، ولما
أصبح ملكاً له، فله أن يضعه حيث شاء.
وذكر شارح الطحاوية مثالاً: الأجير يعمل ويؤدي الخدمة لمن استأجره ويأخذ
الأجرة، وبعدما يأخذ الأجرة يضعها حيث شاء، يستبقيها لنفسه، يعطيها لوالده،
يعطيها لولده، وله أن يعطيها للميت كما يعطي الآخرين.
قالا: لا تعارض بين قوله: (تصوم لهما مع صومك، وتصلي لهما مع صلاتك) ،
وقوله: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، وبين حديث: (انقطع عمله) ، فهذا
عمله الشخصي، ولم يقل الحديث: ولم ينتفع بعمل الغير، بل قال: (انقطع عمله)
هو، ولم ينفِ أن ينتفع بعمل الغير، إذاً: عمله انقطع، وجاءته المنفعة من
عمل الغير، والحديث لم يمنع ذلك، وكذلك الآية الكريمة.
قالوا: وقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]
، تدل على أن العقاب لا يتحمله إنسان عن ذنب إنسان آخر، وهذا لا دخل له في
ذلك.
أيها الإخوة! نكون في الجملة قد عرجنا على الجانب الأول، وهو: أن الميت
ينتفع بعمل الحي، سواء كان الانتفاع مالياً أو بدنياً، وذكرنا القول
المخالف وما استدلوا به، وجواب العلماء عنها، وبالله تعالى التوفيق.
ونأتي لفقه الحديث: مذهب مالك والشافعي وقول عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه
لا صيام عن الميت، ولكن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومذهب أحمد رحمه الله وبعض
أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أنه إن صام عنه أجزأ عنه، وبرئت ذمته من
ذلك، والله تعالى أعلم.
|