شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [1]
إذا أراد المحرم أن يحرم بالحج أو العمرة فيشرع له أن يهل بالنسك، والإهلال هو التلبية، ويشرع رفع الصوت بها، ولها معان عظيمة جليلة، كإفراد الله تعالى بالتوحيد والعبودية، ونحو ذلك من المعاني، وعند الإهلال يجب على الناسك أن يتجرد من ثيابه ويلبس ثياب الإحرام، ويسن له الاغتسال، وبعد الاغتسال يلبس ثياب الإحرام، وعليه أن يجتنب لبس القميص والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف، ولا يلبس ثوباً مسه الزعفران أو الورس.


الإهلال بالحج والعمرة وصفته
قال المؤلف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) متفق عليه] .
بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى المواقيت للإهلال، وكأن كل مريد للحج قد وصل إلى ميقاته، شرع في بيان ميقات أهل المدينة؛ وذلك لقرب المدينة من مكة، وأراد أن يبين لنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خرج صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الظهر في هذا المسجد النبوي الشريف أربعاً، وسار إلى ذي الحليفة ووصلها قبل العصر وصلى العصر قصراً ركعتين وبات ليلته هناك، ثم أهلّ بنسكه.


تعدد الروايات في مكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم
ويأتينا المؤلف رحمه الله بهذه الرواية: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع إهلاله في الميقات.
وقد تقدمت الإشارة إلى أنه أهل قبل الميقات المكاني وهو خاص، وهنا جاءت روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ من عند المسجد، وهناك رواية: أنه أهلّ حينما استوت به راحلته، وأخرى أنه أهلّ حينما كان بالبيداء.
وقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس! لقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ووقع في نفسي شيء لكثرة ما سمعت في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وما ذاك؟ قال: سمعت من يقول: أهلّ بالمسجد، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوت به راحلته، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوى بالبيداء -والبيداء: هي الأرض المرتفعة المطلة على ذي الحليفة وليست بعيدة عنها- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك بذلك كله.
ووضع لنا ابن عباس رضي الله عنهما منهجاً علمياً في مسألة: كيف نعمل مع الأحاديث إذا تعددت وكان فيها شبه تعارض؟ قال: يا ابن أخي! أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة بالمسجد، فسمع ذلك أقوام فأخبروا بذلك، ثم لما نهضت به راحلته أهلّ، فسمع بذلك أقوام آخرون ولم يكونوا قد سمعوا ما تقدم فأخبروا بما سمعوا، ثم لما كان بالبيداء أهلّ، فسمع بذلك أقوام ولم يكونوا قد سمعوا بما قبلها فأخبروا بما سمعوا، فكل صادق، وكل أخبر بما سمع.
إذاً: فقد تعددت الروايات في مكان إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الروايات: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ومعلوم أن السنة في الإهلال هي اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد قدمنا ما جاء عن مالك رحمه الله تعالى أن رجلاً أتاه وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد، فقال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة وأنا أحرم من مسجد رسول الله، إنما هي خطوات أزيدها؟ قال: هذه هي الفتنة، أخشى أن يقع في نفسك أنك زدت في إحرامك خطوات لم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك.
وعلى هذا: فمن قدّم الإهلال على الميقات المكاني فإن إهلاله صحيح، ولكن الأفضل أن يكون من الميقات، مخافة أن يطول عليه الزمن أو المكان فيقع في بعض المحظورات وقد كان في عافية من ذلك.
وإذا لاحظنا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (خذوا عني مناسككم) ؛ علمنا أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأعمال هو الأولى والأفضل.


معنى الإهلال بالنسك
وقوله: (أهل) أي: رفع صوته مهلاً بنسكه، والإهلال: مأخوذ من التهليل وهو رفع الصوت، والتهليل مأخوذ من الهلال، يقول أهل اللغة: إن أسماء المعاني مأخوذة ابتداءً من أسماء الذوات، أي: المحسوسات، فالاسم يوضع أولاً للذات المحسوسة، ثم ينقل منها إلى المعنوي، كما تقول: أذن الآذن بكذا، وفلان مأذون بكذا، فإن أصل مادة (أذن) هي الأذن؛ لأنها يلقى فيها الأمر الذي أُذن فيه للسامع بما أُذن، فكذلك الإهلال، فقد كانوا إذا رأوا هلال الشهر رفعوا أصواتهم بالتهليل، أي: إعلاناً برؤية الهلال لهذا الشهر، ثم انتقل الاستعمال لكلمة الإهلال والتهليل لكل صوت مرتفع، ولهذا يقال للصبي عند ولادته: أهلّ باكياً، إذا استهل صارخاً ثبتت حياته وثبت ميراثه ولو مات بعدها بلحظة.
وعلى هذا فقوله: (أهلّ النبي من عند المسجد) أي: رفع صوته بالتهليل بالنسك الذي أراده، وهنا يقول العلماء: إن عقد النية لجميع أعمال العبادات يكون سراً في القلب إلا في أحد النسكين، فله الحق في أن يتلفظ به رافعاً صوته: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجاً، أو لبيك اللهم عمرة وحجاً، وما عدا ذلك من صيام وصلاة وزكاة وغير ذلك فلا يرفع فيها صوته ولا يتكلم بالنية إلا بقدر ما يسمع به نفسه توكيداً لما انعقد عليه القلب.


رفع الصوت بالإهلال
قال المؤلف رحمه الله: [وعن خلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان] .
الخبر الأول: في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهل.
والخبر الثاني: في حق أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، وهنا نجد جبريل عليه السلام مع رسول الله في هذه الحجة، فنجده صلى الله عليه وسلم يقول: (أتاني جبريل) ، فهو يأتيه بكل ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوحيه إليه، فقد يأتيه بوحي من كتاب الله قرآناً، وقد يأتيه بخبر آخر سوى ذلك.
فهنا أتاه جبريل وأمره، ولم يلقِ الأمر جزافاً، بل قال أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال، وهناك رواية: (بالتلبية) ؛ لأن الإهلال هو التلبية، والتلبية هي الإهلال، ورفع الصوت من شعار الحج، وهذا خاص بالرجال، أما النسوة فيسمعن أنفسهن فقط.


من معاني التلبية
وهذه التلبية وشعار الحج لو وقف الإنسان عندها لوجد -كما أسلفنا سابقاً- أن الحج يشمل عموم أعمال الإسلام، وقد أسلفنا أيضاً أن رحلة الحج لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي رحلة عامة للدين والدنيا والآخرة، فهنا حينما يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، التلبية في اللغة تأتي بمعنى: الإقامة، أي: إقامة على طاعة الله، وتأتي بمعنى: إجابة النداء، كأن تنادي: يا زيد! فيقول: لبيك، أي: أنا سامع مجيب مستعد لما تأمرني به.
وهنا يقول العلماء: (لبيك) إجابة لنداء، وأين هذا النداء الذي يلبيه الحاج عند إهلاله بالنسك؟ قالوا: هناك نداء سابق وهو ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] ، ولما بنى إبراهيم البيت أمره الله أن ينادي في الناس: (إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فقال: يا رب! وأين سيبلغ ندائي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد أبا قبيس ونادى وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) ، فأبلغ الله سبحانه وتعالى بقدرته هذا النداء لجميع الخليقة إلى يوم القيامة، فقد بلغ الصوت للحاضرين آنذاك، وللأشخاص في الذراري في أصلاب الآباء قبل أن يوجدوا، فشمل كل أجيال بني آدم، وقالوا: من لبى مرةً حج مرة، ومن لبى أكثر حج أكثر.
فمجيء الإنسان إلى الميقات وإعلانه: لبيك اللهم لبيك، عبارة عن إجابة لذلك الدعاء الذي دعاهم به إبراهيم عليه السلام لحج بيت الله الحرام، وفي قول الحاج أو المعتمر: لبيك اللهم لبيك، تكرار للتأكيد.
وقوله: (لا شريك لك لبيك) ، هذه هي عقيدة التوحيد التي خلق الله الخليقة من أجلها ليعبدوه ويوحدوه، (لا شريك لك) رد على أهل الجاهلية، فقد كانوا يقولون في حجهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فهم يعترفون بأنه شريك صغير، وأنه مملوك لله، ولكن ذلك لم ينفعهم، فجاءت التلبية تخلص العبادة لله وحده: (لبيك لا شريك لك) لا في هذا الحج ولا في غيره.
ثم يعقب ذلك بما يشبه التعليل لنفي الشراكة عن الله، فيقول: (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) فكأنه يقول: موجب التوحيد وعدم الشريك هو أن الحمد والنعمة لك، والحمد يكون لكمال الممدوح لذاته، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، و (رب العالمين) فيها التنصيص على أن جميع النعم في جميع العوالم هي لله، وهنا: تحمد الله لكمال ذاته، والحمد يتضمن الشكر على نعمه؛ لأن جميع النعم لله، (إن الحمد) أي: الكمال الذاتي، (والنعمة) : التي نعيش بها ونرجوها في الدنيا أو في الآخرة هي لله.
إذاً: ما دام الكمال لله فلا نعبد غيره، وما دامت النعمة كلها لله فلا نطلب من غير الله شيئاً؛ بل نتوجه إلى الله بكليتنا بدون شراكة في ذلك.
والملك كله لله، إذاً الخير والشر لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، فلا تخشى في دنياك أحداً؛ لأن النعمة التي ترجوها عند الله، والشر الذي تتقيه وتخشاه لا يأتيك إلا بقضاء الله؛ فلا وجود لمن ترجوه أو تخشاه إلا الله، وبهذا تكون بداية الناسك تجديد العهد بربه إيماناً وتصديقاً ورضاً، ويظهر شعار الحج بهذا النشيد المبارك: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ، أي: في ذلك كله، فهذا هو معنى الإهلال.
ومن المعلوم أن الأذان وهو شعار الإسلام في أعظم ركن وهو الصلاة يبدأ بالتكبير ثم بالتهليل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم نجد الدعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح، فنجد فيه أيضاً توحيد الله سبحانه، والتصديق برسوله في النطق بالشهادتين، ونجد تكرار التكبير؛ لأنك في عملك أياً كان نوعه، أو في جلوسك ومتعتك أياً كانت صفتها، حينما تسمع: الله أكبر، توقن بأن الله أكبر مما أنت فيه مهما كان، فلا يمنعك ولا يؤخرك عن إجابة المنادي (حي على الصلاة) ؛ لأن الله أكبر مما أنت مشغول به، أو مما تسعى إليه.
وهكذا يكون الإمعان في التلبية بمعنى: الإمعان في أسس التوحيد والعودة إلى الله سبحانه وتعالى.


التجرد من الثياب والاغتسال عند الإهلال
قال المؤلف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: تجرد لإهلاله واغتسل) ، رواه الترمذي وحسنه] .
التجرد: هو الخروج من هذا اللباس العادي، وإذا ما تجرد فلابد أن يستتر فيلبس الإزار والرداء بعد التجرد، وقبل اللبس يغتسل، ولذا اتفق الجميع على أن من شروط الإحرام: التجرد، ولكنه ليس شرط صحة، فإذا أهل ولم يتجرد صح إهلاله وانعقد نسكه، ثم يجب عليه أن ينزع ما هو لابس من ثيابه، فإن لم يفعل فتلزمه فدية.
ويصح أن يتجرد الإنسان قبل الميقات أو في الميقات، أما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فهو أنه تجرد في بيته في المدينة واغتسل ثم خرج إلى ذي الحليفة بإزاره وردائه، وطيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
إذاً: السنة والواجب على المحرم أن يتجرد من ثيابه، وإذا نظرنا إلى هذا العمل نجده من غرائب حكمة التشريع فحينما تأتي وفود المسلمين من أقطار شتى ويجتمعون في المدينة، فتجد كل جنس في كل قطر له لباس خاص به يميزه عن غيره، ولو رأيته بلباسه لعرفت من أي الأجناس أو من أي الأقطار هو، فإذا ما أرادوا الحج فلا يجتازون الميقات إلا وقد خرجوا من تلك الألبسة وتوحدوا بلباس واحد إزار ورداء، وهناك تكون قد ذهبت الفوارق، وألغيت العادات، وظهر المسلمون أمة واحدة في شكل واحد، توحدت أشكالهم كما توحد شعارهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
وفي هذا التجرد خروج من مظاهر الدنيا، سواءً كانت مظاهر غنى أو فقر، مظاهر إقليمية أو جنسية أو غير ذلك، والإسلام في ذاته لا يعترف بشيء من هذا إلا للتنظيم فقط: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] ، للتعارف والتنظيم فقط، والحقيقة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
فهنا حينما يريد الحاج أو المعتمر أن يهل فإن عليه قبل ذلك أن يتجرد، فإذا تجرد اغتسل، وكما أسلفنا فإن التجرد شرط للإحرام، ولكن إذا لم يفعله جبر بدم، وسيأتي أن البعض قد يعذر في تجرده من بعض ما يحتاج إليه من لباس، فيترخص ويدفع قيمة ذلك الترخص.
ويسن كذلك الاغتسال، وقد سن الاغتسال للمحرم في عدة مواطن، وكلها -كما أسلفنا- سنة حسب ما تيسر له، وهي: عند إرادته الإحرام بعد التجرد، وعند دخول مكة، وعند الوقوف بعرفات، فقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن، فإذا لم يتيسر له أن يغتسل توضأ وأجزأه ذلك، وإن كان معذوراً في استعمال الماء أو لم يجد الماء تيمم.
ثم إن أهل دون أن يغتسل ودون أن يتوضأ ودون أن يتيمم فإن إهلاله صحيح؛ بل إن المرأة الحائض أو النفساء عند الإهلال تغتسل للإهلال وليس للحيضة، فإذا جاءتها الحيضة مثلاً في الصباح فتهل في المساء ولا زالت بحيضتها، والسنة أن تغتسل لا لحيضتها ولكن تطهراً واستقبالاً لهذا النسك، كما جاء (أن أسماء بنت عميس -زوج الصديق رضي الله تعالى عنهما- نفست -أي: ولدت- في ذي الحليفة ليلة مبيته صلى الله عليه وسلم بها فجاء أبو بكر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: مرها فلتغتسل) ، وبين له أنها تفعل ما يفعل الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر من نفاسها، وكذلك مثلها صاحبة الحيضة.
إذاً: الإهلال ينعقد ويصح ولو لم يغتسل، ولو لم يتوضأ، ولو لم يتيمم، ولكن الغسل هو السنة، وكذلك مس الطيب في البدن لا في الثياب، على ما سيأتي إن شاء الله.
إذاً: على المحرم أن يتجرد من ثيابه، وأن يغتسل لإهلاله، وأن يلبس إزاراً ورداءً أو ما ينوب عنهما، كما سيأتي إن شاء الله.


شرح حديث: (ما يلبس المحرم من الثياب)
قال المؤلف رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
بعدما قدم المؤلف رحمه الله التجرد والاغتسال للإهلال وموقع الإهلال ومكانه، كأنه قيل: بعدما تجرد واغتسل لابد أن يلبس شيئاً، فجاء بهذا الحديث الشامل العام في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا يلبس المحرم؟) وهذا الحديث من نماذج أسلوب الحكيم في الإجابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سُئل: ماذا يلبس؟ فأجاب: (لا يلبس) ، أي: سُئل عن بيان ما يجوز للمحرم أن يلبسه فكان الجواب عكس السؤال: لا يلبس المحرم كذا وكذا.
وقد ذكر العلماء أن القاعدة الأساسية في الجواب أن يطابق السؤال، ولكن المسئول إذا كان حكيماً راعى حالة السائل، فقد يزيده عما سأل، وقد يغاير ويجيبه عن غير ما سأل؛ ليبين له أن الأهمية فيما تضمنه الجواب، أو يختصر في الجواب ليسهل على السائل فهم الجواب.
ومن مغايرة الجواب للسؤال، ما جاء في كتاب الله عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] ، فهم يسألون عن ماذا ينفقون؟ وفي آية أخرى: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] ، أي: الزائد عن حاجتكم، وهذا مطابق للسؤال، ولكن هنا قال: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، فقد سألوا عن نوعية ما ينفقون فأجابهم بأن دلهم على جهة ما ينفقون عليه؛ لأن معرفة ذلك أهم من معرفة ماذا ينفقون.
وكذلك من الزيادة في الجواب على السؤال حديث: (قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فالسؤال محدود عن صحة الوضوء من ماء البحر، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه الحل ميتته) ، مع أنهم لم يسألوا عن ميتته أحلال هي أم حرام؟ ولكن نظر صلى الله عليه وسلم إلى السائل عن صحة الطهور من ماء البحر ورأى أن تحريم وتحليل ميتة البحر أشد إشكالاً عليهم، فإذا كانوا قد استشكلوا الوضوء من ماء البحر لكونه مالحاً فلأن يستشكلوا حِل ميتته من باب أولى، فزادهم فيما يرتبط بركوب البحر.
وهنا سُئل صلى الله عليه وسلم: ماذا يلبس المحرم؟ قال بعض العلماء: لقد أجابهم بما كان ينبغي أن يتوجه السؤال إليه، وهو: ما الذي يمتنع علينا لبسه في الإحرام؟ فكأنه يرشدهم إلى ما كان ينبغي أن يجعلوا السؤال عنه، وهو: ما الذي نجتنبه إذا أحرمنا؟ وقد عللوا ذلك بأن الأصل جواز لبس أي شيء، فالأصل في اللباس إباحة كل شيء حتى يأتي المانع، كما نهي عن لبس الحرير والذهب للرجال، فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت الدليل المانع، لكن اللباس في الإحرام من حيث هو خرج عن هذه القاعدة؛ لأن تاريخ لبس المحرم في الجاهلية كان مغايراً، فقد كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عرايا لا يلبسون شيئاً رجالاً ونساء، وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: من شدة مكيدة الشيطان للإنسان؛ لأنه ما وجد مصيدة أشد وأقوى للرجال من النساء، ويقول: إن فتنة الرجل بالمرأة من أول ما وجد جنس الإنسان، فقد كان آدم عليه السلام في الجنة منعماً مطمئناً في عيشة رغيدة، فلما طرد الشيطان حسد آدم على بقائه، فأراد أن يكيد له ليخرجه ليستويا في الحرمان، فجاءه عن طريق حواء وأغراه حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، فخرجا معاً، قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22] .
والعجيب أن الشيطان جاء لآدم بالطريق الذي يريده ليكون انقياده أهون عليه، قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ} [طه:120] ، فكلمة (أدلك) تعني: أنه يريد أن ينصحه.
(هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ، وهذا هو ما يريده آدم، وتخيل إنساناً في الجنة منعماً، فإن أخوف ما يخافه هو الخروج منها، فقال له: أنا أدلك على الطريق الذي يؤمنك من هذا الخوف، فدله على ما أراد، وجاء عن طريق حواء وحصل ما حصل، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] .
ثم بعد ما نزل آدم إلى الأرض وبدأ يكون مجتمعه جاءت فتنة المرأة، فكان قتل أحد ولديه لأخيه بسبب المرأة، بسبب أخته، ثم واصل الطريق معه عن طريق المرأة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) ، وكما قال جرير: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا وهذا هارون الرشيد ينادي جارية صغيرة ويقول لها: تعالي، فتقول له: لا! خليفة المسلمين الذي سمعت به الدنيا! ومع ذلك جارية صغيرة تقول له: لا! فتمثل بهذه الأبيات: ما لي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطاني فسلطان الهوى أعز من سلطان الملك، ومما يذكر أن جورج الخامس أو غيره نزل عن عرشه لامرأة! يقولون: لم تكن بارعة في الجمال، ولكنها كانت بارعة في الظرف والأدب والحديث، فأراد أن يتزوجها، فقيل له: لا يمكن؛ لأن الملك في انجلترا لا يتزوج إلا من بيت الملك، فأنت مخيّر بين الملك وامرأة، فقال: خذوا الملك كله.
فتنازل عن عرش بريطانيا وتزوج بالمرأة؛ لأن سلطانها أعز عليه، ولهذا يقول صريع الغواني: وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز فدمه متحرز حرام لكنها تقتله.
فالمقصود: أن الشيطان اتخذ المرأة وسيلة لإغواء الرجل، فما زال يغوي العرب إلى أن جعلهم في تلك الصورة التي يستنكرها كل عاقل حتى صاروا يطوفون بالبيت رجالاً ونساءً عرايا، حتى يذكرون عن بعض النسوة أنها قالت وهي تطوف: اليوم يبدو جله أو كله وما بدا منه فلا أحله وكيف وصل بهم إلى هذا الأمر الشنيع؟ وصل إلى ذلك بحيلة، فقد جاءهم وقال: أنتم جئتم تحجون وتطوفون تريدون المغفرة من الذنوب؟ فقالوا: هذا كلام صحيح.
فقال: إن ثيابكم التي تلبسونها في الطواف قد باشرت معكم وشهدت عليكم ارتكاب المعاصي، فكيف تطوفون بالبيت وهذه الثياب عليكم شاهدة بمعاصيكم؟ فقالوا: وما هو الحل إذاً؟ قال: اخلعوها، وطوفوا مجردين من كل شيء.
فقالوا: لقد أصبت.
وأضلهم بهذه الحيلة، وكان الواحد منهم إذا استحى أن يطوف عرياناً ولم يستطع وتأبى عليه مروءته ذلك، كان عليه أحد أمرين: إما أن يستعير ثوباً من جيران البيت الحرام فيلبسه، على أن جيران البيت لا ذنوب ولا معاصي لهم، أو لأنهم مكرمون عن هذا.
وإما أن يشتري ثوباً جديداً ما شهد معصية، فيلبسه ويطوف به، فإذا أنهى طوافه خلعه ورماه عند البيت ويكون هدية لسدنة البيت.
ثم جاء الإسلام وكرم الإنسان، وقد كان المسلمون يعلمون بأن المشركين كانوا يطوفون عرايا، ففي سنة تسع لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس قال له: (ولا يحجنّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان) ، فما ألغي هذا الأمر إلا سنة تسع من الهجرة بعدما فتحت مكة بسنة.
إذاً: هم يعلمون أن الطواف في الجاهلية كان يقع والناس عرايا، إذاً ماذا يلبسون؟ فالسؤال منهم عما يلبس المحرم هو عين الصواب، والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم المغاير للسؤال الصحيح السليم إنما هو لبيان وحصر ما يمكن تجنبه، ومعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
أيضاً قالوا: إن ما يمنع المحرم من لبسه محدود ومحصور، وما يجوز له أن يلبسه مطلق دون حد أو حصر، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا هذه المذكورات وما عداها فالبسوا ما شئتم.
وسواء كان ذلك في عمرة أو كان ذلك في حج، وقوله (لا تلبسوا) خطاب للرجال يخرج عنه النساء، وإن كان المؤلف لم يورد ما تجتنبه المرأة، لكنه معروف عند الجميع وفي غير هذا الموطن، وقد ذكره المصنف في فتح الباري في شرح صحيح البخاري.
وقوله: (لا تلبسوا القمص) القمص: جمع قميص، وهو كناية عن الثوب، سواء كان القميص الذي يلبس مع البدلة، أو مع السروال الطويل، أو كان نفس الثوب المعروف، فإنه يسمى ثوباً ويسمى قميصاً، فما كان على هيئة البدن بكمين فهو قميص.
ويراد بالقميص كل مخيط على هيئة البدن وله كمان، وسواء كان هذا القميص مخيطاً بيد أو بمكينة أو ملصقاً بلصقة أو مشغولاً بالإبرة، أو نحو ذلك؛ لأن الغرض منع لبس المحيط بالجسم، فالنهي هو عن المحيط لا المخيط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.


كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [2]
إذا أراد المحرم أن يلبس ثياب الإحرام فعليه أن يجتنب أموراً، منها: لبس القميص، والعمامة، والسراويل، والبرانس، والخفين، إلا إذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين، على خلاف بين العلماء في ضرورة قطعهما أسفل من الكعبين، وكذلك لا يلبس ثوباً مسه الزعفران أو الورس، وأما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب، إلا أنها لا تلبس النقاب ولا القفازين.
ويمنع المحرم من الطيب، على تفصيل وخلاف بين العلماء مذكور في بابه.


النهي عن لبس القميص في الإحرام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص) أي: على الهيئة المعهودة، ولو أن إنساناً وجد إزاراً ولم يجد رداء، فأخذ ثوبه الذي كان يلبسه قبل أن يتجرد وجعله على كتفيه وارتدى به فلا مانع من ذلك، ولو أن إنساناً أخذ (دراعة) -وهي معروفة عند المغاربة والشناقطة وهي كبيرة مثل الملحفة- وجعلها إزاراً فلا مانع من ذلك؛ لأنها مخاطة من الأمام ومن الخلف.
إذاً: المراد هو النهي عما يحيط بالجسم على هيئته بأي نوع من الإحاطة، سواء كانت بخياطة، أو بدبابيس، أو بمسامير، أو بتلصيق ونحو ذلك، حتى هذا الذي يسمونه: التريكو، فما دام محيطاً بالجسم فهو ممنوع.
ويدخل في مسمى القميص كل ما يحيط بالبدن: كالفنيلة، والجاكيت، والبالطو، والجبة، ونحوها.


النهي عن لبس العمائم للمحرم
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا العمائم) العمائم: جمع عمامة، قالوا: العمامة رمز لتغطية الرأس، وكل ما غطى الرأس فهو مندرج تحت العمامة: كالطاقية، والقلنسوة، والكسكيتى، والبرنيطة إلخ، فكل ما يجعل لباساً خاصاً للرأس فهو ممنوع.
وهنا يقول العلماء: قوله: (لا تلبسوا القمص) أي: المحيط وليس المخيط، أو المخيط على هيئة الجسم، وفي الرأس لا يغطى الرأس بالعمامة، وكل ما يغطي الرأس فهو مندرج تحتها، ولو أن إنساناً معه متاع فحزمه ووضعه على رأسه وكان رخواً، فدخل الرأس في ضمن المحمول، ونزل على جانبي الرأس وغطاه إلى أذنيه، فإنه يكون قد غطى رأسه، بحمل، فهل يكون داخلاً في معنى العمامة؟ يقول بعض العلماء: إذا قصد بهذا الوضع تغطية رأسه من شمس ونحوها فهو لابس، وإن كان فيه متاعه وحمله ونزل إلى هذا الحد فلا يقال له: لابس له، إنما يقال له: حامل متاعه.
ولو أنه أخذ شريطاً على منتصف الرأس إلى أسفل الحلق لجرح أو لصداع أو لأي حاجة من الحاجات، فهذا الذي أخذ شريطاً عرضه (5سم) ونزل به إلى أسفل حلقه يقال له: رابط رأسه، فلا يكون لابساً ولا يكون مغطياً.
وإذا نام على فراش وثير ولين وغطس فيه رأسه، فلا يقال: لبس المخدة، ولا يكون مغطياً رأسه وهكذا.
إذاًَ: المنع من تغطية الرأس بعموم مسمى العمامة وما يلحق بها، كالغترة ونحوها، وإذا كان في الحر أو في المطر وظلل رأسه بالمظلة، فهذا يقال عنه: استظل بالمظلة.
وأبعد من هذا يقول النووي: لو وقف الحاج في الخيمة، والخيمة واطية، فدخل رأسه في الخيمة ورفعها، فهل يكون غطى رأسه أو حمل الخيمة على رأسه؟ يقال: رفع الخيمة على رأسه.
أريد أن أبين بهذا أن الفقهاء عند هذه النقاط الأساسية يفرعون عليها بتوسع، ولهذا يؤكد العلماء ضرورة أو حتمية دراسة الفقه قبل دراسة الحديث لطالب العلم إذا أراد أن يتوسع في معرفة الفقه، ويكون الحديث تثبيتاً وأدلة لما قرأ من الفقه، وإذا درس طالب العلم الحديث فلا يقتصر على كتب الحديث مهما كان الشرح فيها متوفراً واسعاً، وللأسف لم أجد كتاباً شارحاً لبلوغ المرام شرحاً وافياً يكتفى به أو يستغنى به عن غيره.
ولا يمكن أن تقف على حقيقة شرح بلوغ المرام إلا في الأحاديث التي رواها البخاري أو هي من المتفق عليه، فترجع إلى شرح المؤلف وهو فتح الباري على صحيح البخاري، فتجد الكلام وافياً على ذلك الحديث في ذاك المكان، أو ترجع إلى شروح السنة، فحينما يقول: رواه النسائي أو أبو داود أو الترمذي، فترجع إلى مراجع الحديث وتقرأ الشرح هناك موسعاً، فتستطيع أن تلم بحقيقة الأحاديث أو النصوص الواردة في بلوغ المرام.
ومن وراء ذلك المجاميع والموسوعات الفقيه، مثل المجموع للنووي، وهو خاص بمذهب الشافعية، ولكنه يفرع ويذكر مذاهب الأئمة الآخرين، وكذلك المغني لـ ابن قدامة، فإنه وإن كان خاصاً بالحنابلة إلا أنه أيضاً يفرع ويأتي بأقوال بقية المذاهب.
إذاً: العمامة هنا رمز لكل ما يغطي الرأس، ثم نأتي إلى تحقيق المناط فيما هو غطاء للرأس.


نهي المحرم عن لبس السراويلات
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا السراويلات) ، السراويلات: جمع سروال، وهو ما يسمى باللباس، وهذا من تسمية الخاص باسم العام؛ لأن كلمة (لباس) تطلق على كل ما يلبس في الجسم من فنيلة أو قميص أو دراعة أو نحو ذلك، فكل هذا لباس، ولكن أصبح العرف يخصص كلمة (لباس) بما لبُس في موضع الإزار، وهو ما كان له ساقان على ساقي القدمين، فهذا لا يلبسه المحرم؛ لأن فيه إحاطة بهذا الموضع من البدن.
وهذا يشمل ما استجد عند الناس من السراويل القصيرة وهي ما يسمى: (كلسيون) أو ما إلى ذلك، فكل هذا داخل تحت مسمى السراويلات، وقد كان السروال القصير موجوداً عند السلف وهو ما يسمى: التبان، وقد جاء في خبر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تسمح لمن يرحلها أن يلبس التبان تحت الإزار؛ وذلك تحفظاً من أن تنكشف عوراتهم.
إذاً: يندرج تحت السراويل: البنطلون، والكلسيون، والتبان، وكل ما يلبس تحت الإزار بساق طويل أو بدون ساق، فهذا ممنوع لبسه للمحرم.


نهي المحرم عن لبس البرانس
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا البرانس) ، البرانس: جمع برنس، ويكثر وجوده في المدينة أثناء الحج إذا كان الوقت شتاءً، وأكثر من يلبسه هم المغاربة والليبيون، وهو كما قالوا: كل لباس خيط به غطاء للرأس؛ لأن البرنس معه مثل المثلث يغطى به الرأس، وهو مخيط من عند رقبة اللباس، والبرنس شبيه بالعباية والجبة ونحوها، ولكن غطاء الرأس مخيط فيه، فإذا كان وقت الشتاء غطى رأسه، وإذا لم يرد تغطية رأسه خلعها ورماها وراء ظهره، فهذه البرانس سواء غطى رأسه بالغطاء الموجود معها أو لم يغطِّ رأسه، فإنها ممنوعة.
والفرق بين القمص والبرانس: أن القمص محدودة، فالقميص يصدق على الفنيلة، ويصدق على القميص القصير، لكن البرانس واسعة، يدخل فيها الدراعة، ويدخل فيها المشالح، ويدخل فيها اللباس الفضفاض كما يوجد في لباس البادية، وهو الثوب ذو الأكمام الواسعة الطويلة.
إذاً هذه البرانس رمز لكل لباس فضفاض على الجسم.


حكم لبس المحرم للخفين
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا الخفاف) ، الخف لباس القدمين، والأصل فيه أن يصنع من الجلد، وأن يكون طويلاً بحيث يغطي الكعبين ويتجاوزهما، وهو الذي يجوز المسح عليه في الوضوء.
فالخفاف التي يصح المسح عليها في الوضوء ممنوعة في الإحرام، وسواء كان الخف من الجلد كما هو الأصل، أو كان من القماش خفيفاً أو متيناً في هذا الباب، بخلاف المسح في الوضوء فإنه يجب أن يكون قوياً ثخيناً، سواء كان من صوف، أو من قطن، أو من كتان، أو من نايلون، أو من بلاستك، حتى قال النووي في الممسوح عليه: ولو من زجاج يكشف البدن.
فإذا كان محرماً فلا يلبس الخف، ولكن سيأتي الاستثناء في صورة ما.
إذاً: يمنع المحرم من لبس الخفين في القدمين، ويلبس النعلين، ولو مشى حافياً فهو وما أراد، لكن تكريماً له ولأجل الحر والبرد والأمن من الحجارة ومن الشوك ونحوها يلبس نعلين، وأصل النعل ما كان على قدر أسفل القدم، ويكون ظاهر القدم مكشوفاً، وذلك مثلما يسمونه: (زنوبة) ، وهي المصنوعة من البلاستك، ونحوها، فإذا كان ظهر القدم مكشوفاً بطبيعة التركيب والتفصيل فهو النعل، أما إذا كان مغطى وساقه مرتفعة مع ساق الرجل إلى ما فوق الكعبين.
فهذا هو الخف.


حكم من لم يجد نعلين عند الإحرام
ثم استثنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إلا أحد لا يجد نعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) ، فإذا أراد أن يحرم وأراد أن يلبس ثياب الإحرام، فإن وجد نعلين فليلبسهما، وإن لم يجد نعلين وعنده خفان فله أن يلبس الخفين ولكن بشرط أن يقطع ساق الخفين من تحت الكعبين.
أظنه ما يسمى الآن (بالكندرة النصف) وهناك (الكندرة) العسكرية التي يلبسها الجندي إلى نصف الساق، وهناك المدنية التي تكون تجدها صغيرة قصيرة من تحت الكعبين وتسمى: نصف رباط.
فهنا الخف لباس على قدر الرجل مثل الجورب، وساقه يمتد إلى أعلى فوق الكعبين، فإذا لم يجد النعلين لبس الخفين وقطعهما أسفل من الكعبين، وكيف يتحقق عدم وجود النعلين؟ قالوا: بأن تكون غير موجودة في السوق بالكلية، أو كانت موجودة ولكن البائع عرف أن هذا محرم فرفع عليه في قيمتها، كأن تكون بخمسة ريالات مثلاً، فرفع قيمتها إلى عشرة أو إلى عشرين ريالاً، فليس بلازم أن يشتريها وفيها هذا الفحش، أو كانت رخيصة كأن تكون بريالين لكن لا توجد عنده قيمتها، فتكون غير موجودة في حقه.
وهنا يقول العلماء: لو جاء شخص وقال له: يا أخي! أنا أعطيك نعلين تحرم فيهما هبة مني لك، فهل يجب عليه أن يأخذها أم لا؟ قالوا: لا يلزمه قبولها، مخافة المنة عليه، ولو جاء وقال: أعيرك إياها، فلا يوجد مانع من أن يأخذها؛ لأن العارية مردودة، يعير بعضهم بعضاً، ولو قال: أؤجرها لك، وكان عنده الأجرة، فعليه أن يستأجر.
إذاً: من لم يجد بمعنى تعذر وجوده، أو وجد مع مشقة عليه في زيادة السعر، أو وجد ولكن بمنة من الغير؛ لأنهم قالوا في الحج: إذا كان هناك إنسان غير مستطيع، وجاء آخر وقال: أنا أعطيك مالاً لتحج هبة مني لك، فليس بلازم أن يقبل؛ لأنه فيما بعد قد يمن عليه، ويقول: أنا حججت لك أنا أعطيتك لكن رب العزة سبحانه لا يمتن علينا، والله عز وجل إذا لم يعطه ولم يجعله مستطيعاً فقد أسقط عنه الواجب.
فمخافة المنة على الإنسان، ومحافظة على كرامة الإنسان عند الله، يسقط الفرض عنه، وكأنه يقول: يا عبدي! لا تتمنن على عبدي فلان، أنا أولى به منك، أنا أعطيه بغير منة، وأعطيه ما يستحق وأتفضل عليه بدون شيء.
وفي الصدقة قال الله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، فلا فائدة من صدقة هذا الذي سوف يؤذي المسكين ويكسر خاطره.
إذاً: من لم يجد بالكلية، أو وجد ولكن بما يشق عليه فيه فكأنه معدوم، فإذا كان عنده خفان فليس هناك مانع من أن يلبسهما ولكن بشرط أن يقطعهما، ولماذا يقطعهما؟ حتى يصبحا في صورة النعلين، أي: كاشفين ظهر القدم ونازلين عن الكعبين.
ومسألة قطع الخفين وقع فيها نزاع بين العلماء رحمهم الله، فإن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (وليقطعهما) ، قيل: في المدينة قبل أن يلبس المحرم، حين بين لهم ما يلبسون، وفي عرفات خطب صلى الله عليه وسلم وبين ما يجتنبه المحرم فقال: (من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل) ، ولم يذكر قطعاً للخفين، بل قال: (فليلبس الخفين) ، ولم يقل: وليقطعهما أسفل من الكعبين.
فأصبح عندنا حديثان في خصوص لبس الخفين: حديث في المدينة يأمر بالقطع، وحديث في عرفات يرخص في لبس الخفين من دون قطع.
فقالوا: إن حديث عرفات عام مطلق عن قيد القطع، وحديث المدينة خاص أو مقيد بشرط القطع، فيحمل العام في عرفات على الخاص في المدينة، فقوم قالوا: حديث المدينة يقضي على حديث عرفات، ويحمل المطلق في عرفات على المقيد في المدينة، فيكون حديث ابن عباس في عرفات: (فليلبس الخفين) ، بشرط القطع المذكور في حديث المدينة، ومن هنا وقع النزاع: هل حديث ابن عباس في عرفات مقيد بقيد القطع في المدينة فيجب القطع، أم أنه متأخر عنه وقد عرفنا التاريخ فيكون ناسخاً لحكم القطع؟ الناس في هذا على مذهبين: مذهب حمل العام على الخاص وأمر بالقطع مطلقاً.
ومذهب يقول بأن القطع قد نسخ بحديث ابن عباس المتأخر الذي سكت فيه عن القطع.
ويقال لأصحاب المذهب الأول: تقولون: إنه ترك ذكر القطع في عرفات؛ لأنه ذكره في المدينة، وهل كل من كان في عرفات وسمع حديث ابن عباس: (فليلبس الخفين) ، قد سمع حديث ابن عمر في المدينة؟ إذ أن حديث ابن عمر فيه القطع، فمن قال لكم: إن الذين في عرفات قد علموا وسمعوا بحديث ابن عمر في المدينة؟ إذاً هناك مجتمع يحتاج إلى بيان، وهنا مجتمع يحتاج إلى بيان، ولو كان بيان حديث ابن عمر كافياً لما كانت هناك حاجة إلى حديث ابن عباس في عرفات.
إذاً: الحاجة باقية لبيان ما لا يلبسه المحرم، أو حكم لبس الخف للمحرم، ولهذا أعاد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث مع ترك القطع.
ومن ناحية أخرى، فإن الخف مال محترم، والمال يجب أن يحترم وأن يصان، وما دام أنه لم يأتِ في حديث ابن عباس الأمر بالقطع، فإذا لبسناه ولم نقطع بناءً على حديث ابن عباس وحافظنا على المال من أن نتلفه، فلا يوجد هناك مانع من هذا.
وعلى كل حال: ما دامت المسألة عند العلماء دائرة بين الأمرين: وهو حمل المطلق على المقيد، أو القول بالنسخ، وقد عرفنا التاريخ، فأعتقد أن من أخذ بأحد الطريقين فحمل المطلق على المقيد أو أخذ بطريق النسخ، فكل منهما له وجه.


نهي المحرم عن لبس ما مسه زعفران أو ورس من الثياب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس) .
الزعفران: نبات مخصوص قيل: هو زهر أشبه ما يكون بزهر الرمان، وله لون أحمر ورائحة زكية، وله خصائص كثيرة.
قالوا: إذا كان هناك ثوب أبيض وصبغ بالزعفران، والزعفران يستعمل لصبغ الثياب والتجميل ونحو ذلك، قالوا: فلا يجوز لبسه، إذا كان قد صبغ الثوب بهذا النوع على أساس أن الصبغ ثبت وأصبح بحيث لو غسل فلن يخرج من الصبغ الموجود شيء.
والثوب الذي مسه الزعفران أو الورس ينقسم إلى قسمين: ثوب صبغ ولبس بعد الصبغ مباشرة، بحيث أنه لو عرق فيه لانطبع في جسمه، ولو وقع عليه ماء لخرج اللون مع الماء، فهذا ممنوع، أما إذا ثبت الصبغ ولم يبق إلا اللون فقط بحيث لو عرق لما انطبع فيه شي، ولو غسل لما وقع في ماء الغسيل منه شيء، فقالوا: لا بأس به، ولكن في العموم في غير الإحرام لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المصبوغ بورس أو زعفران، فإنه للنساء وليس للرجال.
فعلى كلتا الحالتين منع من لبس الملون، ولكن في الوقت الحاضر لو وجدنا هذه البشاتير التي تكون محمرة أو مخضرة أو مصفرة، والصبغ ثابت لا ينطبع على الجسم، فلا بأس بها؛ لأن الأصل في ذلك المنع هو الرائحة وليس اللون، فإذا كان لوناً ثابتاً لا رائحة فيه، بأن غسل قبل ذلك وبقي اللون كالخضاب وأثر الحناء، فلا مانع من ذلك.
وبعضهم يقول: منع الرجال من الثياب المعصفرة أو المصبوغة بالزعفران عام في الإحرام وغيره، فيكون المنع لأجل اللون أعم من كونه فيه رائحة أو ليست فيه رائحة.
هذا ما يتعلق بلباس الرجل في الإحرام في الجملة.


لباس المرأة في الإحرام
بقي ما تجتنبه المرأة من اللباس في الإحرام، فنقول: المرأة تلبس كل شيء حتى حليها، وليس محظوراً عليها لون عن لون، ولا نوع لباس عن لباس، ما دام اللباس تصح فيه الصلاة، أي: ساتراً لجميع بدنها، إلا النقاب والبرقع والقفازين، والنقاب والبرقع: نوعان من اللباس خاصان بوجه المرأة، وبعض البلاد تختلف عن بعض في شكله وحجمه، وهو شريط من القماش بعرض الوجه يتدلى من الرأس إلى الصدر، مثقوب أمام العينين وكل ثقب يكون بحجم العين ترى المرأة من خلاله، والنقاب يكون أوسع منه، وقد يكون على مجرى الأنف نوع من الذهب كالقصبة، أو نوع من الحلية، وقد توضع أنصاف الجنيهات أو أرباعها من الذهب على أطرافه زيادة ومبالغة في حلية المرأة، فهذا هو الذي تمنع منه المرأة، وكذلك القفاز، وهو قطعتان تغطيان الكفين والساعد فتمنع المرأة من لبسهما.
وكونها لا تلبس النقاب ولا البرقع معناه أنها تكشف وجهها، قالوا: لأن وجه المرأة في الإحرام كرأس الرجل، فهو يكشف رأسه وهي تكشف وجهها، ولكن عند عدم وجود الأجانب، أما في حضرة الأجانب فتغطي بخمارها لا ببرقع ولا نقاب، بل تسدل خمار أو غطاء رأسها على وجهها فتغطيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا نكشف وجوهنا، فإذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها) .
وبهذا ينتهي بحث: ما يجتنبه المحرم من اللباس ومحظوراته.
وبالله تعالى التوفيق.


حكم الطيب للمحرم
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) متفق عليه] .
موضوع هذا الحديث هو تطيب المحرم، وألفاظه: (كنت) يقول بعض العلماء: (كنت) تدل على التكرار، ويقول البعض في هذا الحديث: ليس فيه دلالة على التكرار؛ لأنه أحرم للحج مرة واحدة.
ولكن إن كان أحرم للحج مرة واحدة فقد أحرم للعمرة ثلاث مرات، أي: منفردات، وهي: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والرابعة من عمراته كانت قراناً مع الحج، فلا مانع أن يكون هذا الفعل قد تكرر من عائشة رضي الله تعالى عنها.
أما أحكام الحديث فقولها: (أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه) ، أي: إذا أراد أن يحرم طيبته، أي: أنها توقع الطيب قبل أن يحرم، وهنا يبحث العلماء: هل للمحرم أن يتطيب؟ أجمع العلماء على أنه لا يتطيب ابتداءً، أي: إذا أحرم وقال: لبيك اللهم حجاً أو عمرة، حرم عليه أن يمس الطيب.
ولكن إذا تطيب قبل أن يحرم، أي: تطيب لإحرامه، فقال بعضهم: إن كان هذا الطيب ستبقى له رائحة فيمنع منه، كما هو مروي عن عمر وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والجمهور على أنه إذا تطيب قبل الإحرام وبقي أثر الطيب بعد الإحرام فلا مانع من ذلك، ولهذا يقولون: الإحرام مانع ابتداء لا مانع دوام، كما سيأتي في النكاح، فإن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، فهو مانع ابتداء للتزويج ولكن ليس مانع دوام؛ لأن المتزوج يحرم وتبقى الزوجية على ما هي عليه، فهو مانع ابتداء يمنع ابتداء المحرم من أن يتزوج من جديد، ويمنع المحرم أن يتطيب من جديد، ولكن لا يمنع دوام الطيب الذي وقع قبله، ولا دوام النكاح الذي وقع قبله.
ومن هنا استدلوا أيضاً بحدث عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض رواياتها: (وإني كنت أرى وبيص -والوبيص: البريق واللمعان- المسك في مفرقه صلى الله عليه وسلم) ، والمفرق هو موضع فرق شعر الرأس، وكان صلى الله عليه وسلم له شعر يصل إلى منكبيه، وكان يفرقه قسمين: قسم إلى اليمين، وقسم إلى اليسار، حتى تظهر فروة الرأس، فتقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (كنت أطيب) ، ثم بعد الإحرام: (كنت أرى وبيص المسك في مفرق رسول الله) .
إذاًَ: هنا دوام الطيب، والذين قالوا: إن المحرم لا يتطيب بطيب يدوم، قالوا: صحيح أنها طيبته لإحرامه، ولكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من المدينة وقد لبس ثياب الإحرام، وتطيب ولبد رأسه- فأتى إلى ذي الحليفة وبات هناك، وفي تلك الليلة التي بات فيها طاف على نسائه اللاتي معه، واغتسل عند كل واحدة، فإذا كان الأمر كذلك فيكون هذا الاغتسال المتكرر قد أزال وأذهب الطيب الذي طيبته إياه بالمدينة، ثم أصبح فاغتسل وأحرم) ، فقالوا: إن هذا الطيب الذي طيبته عائشة أذهبه الاغتسال في الليل.
وأجاب الآخرون عن ذلك بقولها: (وكنت أرى وبيص المسك في مفرقه) ، وقد رأت هذا الوبيص حينما كان في الطريق وبعد أن غادر ذا الحليفة ومضى بإحرامه.
وعلى هذا يأتي نوع من التفريع: هل يصح الطيب للمحرم في ثوبه إزاراً ورداءً، وفي بدنه، وفي شعره، وفي رأسه، وتحت إبطه، وفي يديه؟ قالت المالكية: يكون الطيب في البدن وليس في الثوب، وجاءوا بالتعليلات الفقهية التي تذهب إلى الدقة، وقالوا: إن الطيب في البدن ثابت مكانه، وأما إذا كان الطيب في الرداء، فقد يطرح الرداء عنه، ثم يرجع فيلبس الرداء والطيب في الرداء فيكون لبسه الرداء وفيه الطيب بمثابة ابتداء الطيب من جديد؛ لأنه أخذ الطيب الموجود في الرداء حينما أخذه للمرة الثانية، وهذه المسألة من الدقائق التي علم حقيقتها عند الله.
وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه شم ريح طيب من رجل -سواء كان معاوية أو غيره- فقال: من طيبتك هذا؟ قال: أم حبيبة يا أمير المؤمنين! فقال: عزمت عليك لتذهبن فلتغسلن عنك هذا الطيب.
وجاء عن ابن عمر أنه قال: لأن أتلطخ بالقار وأنا محرم أهون عليَّ من أن أتلطخ بالطيب.
فإذا كان الأمر كذلك فإننا نجد هذا الحديث الصحيح من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فقد تجرد في بيته وتطيب في بيته، فأهل بيته أعلم الناس بطبيعة إحرامه وما أخذ من طيب وغيره، ولقد جاء عنها في بعض الروايات أنها قالت: (طيبت رسول الله لا كطيبكم هذا) قال بعضهم: (لا كطيبكم هذا) أي: يزول بسرعة، وقال بعضهم: لا إنما قالت ذلك لتبين أن طيبكم لا يصل إلى هذا الطيب، وقد صرحت في بعض الروايات: (بأحسن طيب المسك) .
وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم قبل أن يهل له أن يتطيب ويكون الطيب في بدنه.
وإذا جئنا إلى ما ذكره صلى الله عليه وسلم: (إني أحرمت، وقلدت هديي ولبدت شعري) ، وتلبيد الشعر هو إمساكه بما يكون من أنواع الدهون أو الطيب لئلا يتشعث؛ لأن المدة من المدينة إلى عرفات إلى أن ينزلوا إلى منى طويلة، كما جاء عن ابن عباس: أنهم حينما قدموا للحج استغرقوا تسعة أيام في الطريق، وأربعة أيام في مكة قبل عرفات، ويومين بعد عرفات، فهذه خمسة عشر يوماً، فهذه المدة إذا ترك الشعر كما هو فإنه يتخلله الهواء ويسري إليه التراب ويعلق به ما كان في الجو، فإذا كان ملبداً سلم من هذا كله.
وبماذا يلبد؟ قالوا: يلبد بالطيب: كالمسك ونحوه، أو كما قالت رضي الله تعالى عنها: (بطيب ليس كطيبكم هذا) ، وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم يحق له أن يتطيب قبل أن يحرم.
بقي النصف الثاني من الحديث وهو قولها: (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) ، الجمهور على أن الإحلال من الإحرام قسمان: الأول: التحلل الأصغر.
الثاني: التحلل الأكبر.
فالتحلل الأصغر: يحل فيه للمحرم كل شيء إلا النساء، وبعضهم يلحق بها الطيب، وهو أن يفعل اثنتين من ثلاث: رمي الجمرة، وحلق الرأس، والطواف بالبيت، فإن فعل اثنتين من هذه الثلاث أياً كانت حل له كل شيء، فيلبس الثياب، ويقلم الأظفار، ويحلق الشعر، فكل الذي كان ممنوعاً منه فإنه يحل له إلا النساء، فإذا فعل الثالثة حل له كل شيء.
فبعضهم يقول: إذا فعل اثنتين من ثلاث حل له كل شيء إلا النساء، وبعضهم يقول: إلا النساء والطيب.


العلة في النهي عن الطيب للمحرم
العلماء متفقون على أن الطيب ليس ممنوعاً على المحرم لذاته؛ لأن الطيب من حيث هو شيء طيب ومحبب، وقد جاء في الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، لكن يقولون: الطيب يعتبر من الترفيه، والمحرم يجب عليه أن يتجنب المرفهات، وأن يكون أشعث أغبر.
إلخ.
وبعضهم يقول: العلة أن الطيب يثير عند الإنسان الغريزة.
وبعضهم يقول: إنه يوجد داخل الأنف عروق لها صلة بالإثارة، فمنع من الطيب لئلا يكون ذلك مدعاة لإثارته وهو محرم، فإذا كان الطيب ممنوعاً لا لذاته وإنما لأمر آخر سداً للذريعة، فبعضهم قال: هذا من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطيب قبل أن يطوف بالبيت ويبقى الوطء محرماً عليه، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان أملككم لإربه) ، أي: أن الطيب لا يثير رسول الله، ولا يتسلط عليه، ولا يتأثر به من تلك الناحية بخلاف غيره.
وقال بعضهم: ليست هناك خصوصية إلا بالنص، وهنا لم يأت نص في ذلك عن عائشة، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: من عمل بهذا الحديث في هذين الموضعين: عند إرادة الإحرام قبل أن يحرم، ويبقى أثر الطيب ويدوم معه حال إحرامه، وعندما يريد أن يتحلل قبل أن يطوف بالبيت، فمن عمل بالحديث في طرفيه فلا مانع؛ لما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، والمحظور أن يستأنف طيباً بعد أن يحرم.


حكم شم المحرم للطيب
وهنا مسألة: إذا مر الإنسان بريحان أو فل أو ورد وشم ريحه من البستان، أو من يد شخص آخر، فهل في ذلك على المحرم من شيء؟ قال العلماء: له أن يشم الرياحين لكن لا يعمد إليها، وإذا جاء الإنسان إلى الكعبة وإلى الحجر والناس يتقربون وينثرون الطيب -العود والمسك والورد- على الحجر الأسود وعلى كسوة الكعبة، فجاء إنسان ليستلم الحجر فمسح بيديه على الحجر فتلطخت بالعود ونحوه من الطيب الذي عليها، فهل هذا محظور عليه؟ ليس عليه شيء إنما يمسحه عنه في كسوة الكعبة أو في الحجر أو في غير ذلك، ولا مانع أن يشمه من نفس الحجر، فإنه لم يتطيب، ولكن الطيب موجود أمامه، ولابد أن يمسح الحجر، فليس عليه شيء إذا كان الحجر مطيباً وقبل الحجر وفيه الطيب.
والله تعالى أعلم.


كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [3]
إذا أحرم المحرم للحج أو للعمرة فلا يجوز له أن يَنكح ولا أن يُنكح، وكذلك يحرم عليه أن يصيد صيداً، أو أن يأكل صيداً صيد لأجله، أما إذا لم يصد لأجله فلا بأس أن يأكل منه، ولذلك حكم عظيمة من تربية النفس وتهذيبها وتعويدها على اجتناب المحرمات، فما دام أن الإنسان قد امتنع عن الحلال حال إحرامه، فمن باب أولى أن يجتنب الحرام حال إحلاله.


شرح حديث: (لا ينكح المحرم)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) رواه مسلم] .
من محظورات الإحرام عقد النكاح والوطء، فإذا أحرم الإنسان حرم عليه وطء زوجه، وحرم عليه أيضاً أن يعقد عقد نكاح لابنته أو أخته أو مولاته.


مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة في عمرة القضاء
وهنا وقع خلاف بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الجمهور في قضية أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية -وتسمى عمرة القضية، وعمرة القضاء، وهي العمرة الثانية بعد عمرة الحديبية لما خرج صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية، وما كان من قريش حين أن منعوه من دخول مكة، وصالحهم على ما فيه مصلحة المسلمين، وتمت فيها بيعة الرضوان، وتحلل المسلمون وحلقوا رءوسهم في الحديبية على مشارف حدود الحرم، ورجعوا وحسبت لهم عمرة، وكان من شروط الاتفاق: أن يتحللوا مكانهم ويرجعوا إلى بلدهم ثم يأتوا في العام القادم، على أن تخلي قريش مكة للمسلمين حتى يقضوا عمرتهم ويقيموا فيها ثلاثة أيام.
وسميت القضية؛ لأنها العمرة التي كانت بمقتضى التقاضي بين الفريقين والاتفاق عليها، وسميت عمرة القضاء كذلك، لكن بعض الناس يقول: إنها قضاء عن العمرة الأولى، ولكن المحققين من العلماء يقولون: العمرة الأولى انتهت، ولهذا لم يلزم النبي صلى الله عليه وسلم جميع الذين حضروا معه عمرة الحديبية أن يرجعوا معه في العام الثاني ليقضوا ما فات، فإن هذه عمرة مستقلة وتلك عمرة مستقلة.
الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في الطريق إلى مكة لأداء العمرة أرسل إلى ميمونة من يخبرها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطبها للزاوج منها، فلما أتوا إلى العمرة وانتهت الثلاثة الأيام، جاءت قريش وقالوا: يا محمد! اخرج بمن معك فقد انتهت الموعدة، قال: أمهلونا، نحن نريد أن نتزوج من عندكم، ونريد أن نحتفي ونريد أن نطعم سوية، قالوا: لا حاجة لنا في زواجك ولا في طعامك، اخرج، فخرج صلى الله عليه وسلم وتزوجها ودخل بها في سرف في عودتهم إلى المدينة، وسرف تبعد عن مكة مرحلتين.
وهنا اختلفوا: هل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم حينما أرسل يخبرها، أم تزوجها بعد أن حل من عمرته وانتهى وبنى بها في سرف؟ والعجيب أنهم يقولون: المكان الذي بنى لها فيه خيمة وبنى بها هو المكان الذي توفيت ودفنت فيه.
فقال بعضهم: تزوجها وهو محرم، وأخذ بذلك أبو حنيفة رحمه الله.
وقد اختلفت الروايات فـ رافع بن خديج كان السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة وقد روى أنه تزوجها وهو حلال.
وابن عباس هي خالته، وقد روى أنه تزوجها وهو محرم، فلما اختلف الناس في ذلك سألوا ميمونة رضي الله عنها، فقالت: تزوجني وهو حلال.
فهنا اختلفت الرواية في قضية واحدة، ولا يمكن أن يدعي أحد تكرار القضية وتعددها -كما يقال في غير هذا الموضع- فتحمل بعض الأحاديث على نوع وبعض الأحاديث على نوع آخر، لكن هذه قضية واحدة لم تتكرر.
فقالوا: في هذه الحالة يؤخذ بالترجيح، فيرجح بالقرائن التي تدل على صدق أحد الفريقين، ومن القرائن: أن الذي يروي أنه تزوجها وهو حلال هو الواسطة بين الطرفين، فـ رافع بن خديج هو الواسطة في تزويجهما، فيكون أعلم من غيره: أتزوجها وهو حلال أم وهو محرم؟ وابن عباس يروي عن خالته، ومن روى عن خالته ليس مثل شخص آخر يسمع بواسطة، فلو قارنا رواية ابن عباس عن خالته برواية غيره، فإن الذي يكون أعلم بهذا الأمر هو ابن عباس بلاشك.
إذاً: هنا اختلف رافع بن خديج وابن عباس، فالأول يروي أنه تزوجها وهو حلال، والثاني يروي أنه تزوجها وهو محرم، وهنا رجعوا إلى ميمونة فسألوها عن ذلك فقالت: تزوجني وهو حلال.
فاختلفت رواية ابن عباس عن رواية رافع وميمونة، وابن عباس يروي عن خالته، فهو يعادل حديث رافع، ورافع هو الرسول بينهما، وابن عباس هو ابن أختها، فاختلفا، وكلاهما له صلة قوية بها، فقالوا: إذاً نرجع إلى صاحبة القصة وهي ميمونة، فسألوها فقالت: تزوجني وهو حلال.
وبهذا أخذ الجمهور أنه لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح.
ثم بعد ذلك ذكروا مسائل أخرى، مثل هل يطلق؟ وهل يخالع؟ هل يرد الزوجة في طلاقها قبل تمام العدة؟ كل ذلك موضع بحث في هذا الحديث.
والذي يهمنا أن من محظورات الإحرام: النكاح، أي: أن يكون النكاح ابتداء لا دواماً، فالمحرم يكون متزوجاً ويبقى حكم الزواج بعد الإحرام، ولكن لا يبتدئ ولا يستأنف النكاح، وإذا كان العقد ممنوعاً وهو مجرد قبول وإيجاب؛ فالوطء من باب أولى.


حكمة تحريم النكاح على المحرم
وهنا يقال: إن هذه المحظورات تعتبر من خصائص الإحرام، فإن الزوجة حلال بكتاب الله، وحينما أحرم قيل له: لا تمس الزوجة فإنها محرمة عليك مدة الإحرام، سبحان الله! الإحرام الذي هو قربة إلى الله يحرم عليه الزوجة؟! والشخص الحلال الذي لم يحرم زوجته حلال له؟! قالوا: لأن معطيات الإحرام تهذيب النفس وتربية المسلم تربية مثالية، فإذا كانت الزوجة معه في هودجهما، والاثنان على بعير واحد متقابلان، ويكونان معاً في خيمتهما، ومعاً في طعامهما وشرابهما ومنامهما، ويمسك نفسه منها وهي كذلك مدة الإحرام، وكم من نوازع تأتي بينهما، وكم تكون هناك من تفاعلات نفسية غريزية، لكنه يتذكر أنه محرم فيكف عن ذلك؛ بل ربما لا يفكر نهائياً في هذا الموضوع؛ لأنه محرم.
ولو قدر أنه اختلى بأجنبية لظروف ما فإنه تكون عنده حصانة ومناعة، وقد تعلم كيف يمتنع من زوجته التي هي حلال له في كتاب الله، فتكون الأجنبية من باب أولى، فيأخذ هذا الدرس، ويتعود هذا التعود بالنسبة للمحرمة عليه بناء على الحلال التي أحلها الله له، ولكن بالإحرام كف وامتنع.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة -وهذا قطعاً-في عمرة القضية، وبنى بها في سرف، لكن جاء عن ابن عباس أنه عقد عليها وهو محرم، وجاء عن رافع بن خديج أنه ما عقد عليها إلا بعد أن تحلل، فتعارضت الروايتان عن صحابيين كل له صلة بالقصة؛ هذا يروي عن خالته، وهذا كان السفير بينهما، فجاء حديث صاحبة الموضوع وفصل في النزاع وعرفنا أنه تزوجها وهو حلال.


حكم عقد المحرم للنكاح من حيث الصحة والبطلان
والحكم عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل أن المحرم لا يحق له أن يعقد نكاحاً، وإن عقد فهو باطل؛ فلا يزوج وليته ولا يتزوج، ولا يتوكل عن إنسان في الزواج، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن له أن يتزوج بناءً على وجود الخلاف في الروايتين.
وهنا نشير مرة أخرى إلى أن الخلاف إذا وقع بين الأئمة رحمهم الله في قضية واحدة كهذه، لم يكن الخلاف عن دوافع شخصية، ولا عن تعصب في الرأي، إنما يكون الخلاف في معنى الحديث، وفي الرواية التي وصلتنا، فلا يستطيع إنسان أن يقول لـ أبي حنيفة: أنت خالفت الحديث، ولكن يقال: إن الحديث الذي تمسكت به حديث صحيح وعن إنسان له علاقة، ولكن الآخر أرجح.
وأما رواية ابن عباس فقالوا: هذا ثقة خالف الثقات، ويقال في علم الحديث: هذه رواية شاذة، والله تعالى أعلم.


حكم الصيد للمحرم
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قصة صيده الحمار الوحشي وهو غير محرم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وكانوا محرمين (هل منكم من أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه) متفق عليه] .
وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفق عليه] .


ابتلاء الله تعالى للمؤمنين بمسألة الصيد
موضوع هذين الحديثين أن المحرم لا يقتل الصيد، ولا يأكل لحم صيد صِيد لأجله، ولكن القضية في التشريع الإسلامي أوسع بكثير من هذه الكلمة والنصف، فإن الله سبحانه وتعالى قد امتحن المسلمين بقضية الصيد، وامتحن قبلهم بني إسرائيل بقضية الصيد، فكيف كان نوع الامتحانين؟ وكيف كانت النتيجة؟ قال الله تعالى عن بني إسرائيل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] فذكر حال هذه القرية وما فعلت وما حل بها، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] ، فبنو إسرائيل قالوا: لا نعمل في يوم السبت، وكانوا يقولون بأن يوم السبت هو اليوم الأسبوعي، وأنه خير من يوم الجمعة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمم اختلفت في يوم الجمعة، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله المسلمين ليوم الجمعة، فقال بنو إسرائيل: إن يوم السبت فيه السبوت، قالوا: إن الله خلق الكائنات فبدأ من يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وسبت في يوم السبت فلم يخلق شيئاً، فقالوا: ففي يوم السبت لا نعمل شيئاً، فأخذهم الله بادعائهم، وامتحنهم الله بالحيتان في يوم السبت الذي أخذوا على أنفسهم أنهم لا يعملون فيه شيئاً، ففي يوم السبت كانت تأتيهم الحيتان على سطح البحر، فما استطاعوا أن يصبروا، فأتوا بالشباك وألقوها يوم الجمعة وربطوها وذهبوا وناموا في بيوتهم، ويوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق فيها من الحيتان يوم السبت، وقالوا: نحن لم نفعل شيئاً، فقد كنا يوم السبت في بيوتنا وما فعلنا شيئاً، فكان ما كان، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] .
ثم جاءت هذه الأمة وامتحنها الله بالصيد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ، فمنعهم من قتل الصيد ثم قال: سأبتليكم بالصيد وأنتم حرم، فجاء منع الصيد، فخرجوا في عمرة القضية، فأرسل الله الطيور تقع على أسنة الرماح، وتقع على أعواد الركاب أمام الإنسان، وجاءت الغزلان وصيد البر تتخلل بين أرجل الخيل والإبل كأنها غنم تمشي معهم، وهذا شيء يسيل له اللعاب وخاصة عند العرب، فإن الصيد من ألذ ما يكون لهم وإن لم يأكلوه، فلم تمتد يد إنسان منهم لا على طائر فوق رمحه ولا على غزال بين قدم فرسه، وكفوا أيديهم فعلاً؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم مر على ظبي عاكف في ظل شجرة مصوب بسهم إنسان عادي كان قد رماه فجاء ونام عند الشجرة، فأوقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من المسلمين يحرسه لئلا يهيجه أحد؛ لأنه مصوب مجروح، ومروا في هذا الامتحان بنجاح، فبنو إسرائيل امتحنوا بالصيد ففشلوا، والأمة الإسلامية امتحنت بالصيد فنجحت، وهذا الابتلاء بالطعام أشد ما يكون على الأمم.
وكذلك طالوت لما فصل بالجنود قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249] فابتلاهم الله بالماء، يقول ابن كثير: كانوا في شدة الحر {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:249] ، ولم يمنعهم من الشرب مرة واحدة، ولكن من يغترف بيده فلا بأس.
وحينما تبتلى الأمم وتمتحن بمن يحاربهم في أرزاقهم وفي حياتهم وفي طعامهم، ويتحكم في موادهم الغذائية ويتاجر بها كيف شاء، فهي محاربة وبلاء شديد، وأشد ما يكون ابتلاء على الأفراد، وكذلك يكون الابتلاء بإخراجهم من ديارهم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء:66] ، فجعل الإخراج كالقتل سواء، فقد ابتليت الأمم وامتحنت، ولتمام هذه القضية بالذات امتحن بنو إسرائيل في مادة أخرى امتحنت فيها الأمة المحمدية، فسقطت تلك ونجحت هذه.
كذلك قضية القتال لما قال لهم نبي الله موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:21-22] .
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ، قالوا كلمة يستحيا من التلفظ بها، ونفس المادة والدرس امتحنت به هذه الأمة في غزوة بدر.
فقد خرج صلى الله عليه وسلم ليأخذ عير أبي سفيان، وقال: (إن هذه عير قريش، نخرج إليها لعل الله ينفلكموها) فأرادوا أن يجمعوا جيشاً يخرج معه فقال: من كان ظهره حاضراً فليركب، وخرج في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وحينما مشى وقبل أن يصل إلى بدر جاءته عيونه بأن العير فاتتهم وأقبل النفير، وأصبحوا بين أمرين: إما أن يرجعوا ولا يقابلون النفير، وأما أن يجازفوا بلقاء النفير.
وقد علم صلى الله عليه وسلم أن القوم ما بين التسعمائة والألف، وذلك عن طريق الإحصاء لما أخذوا الغلام ليلاً وسألوه عن عدد القوم، فقال: لا أدري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم ينحرون في اليوم؟ قال: يوماً تسعة ويوماً عشرة من الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف) ، وهذه مهمة القائد اليقظ، يجب أن يعرف عدد عدوه وآلاته ومنهجه في القتال، فعلم عدد المشركين وما معه صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر، وهنا احتاج أن يشاور أصحابه، فإنه قد خرج لأخذ العير، وجاء النفير، وقد كان العهد بينه وبين الأنصار -وهم أكثر الموجودين- عند بيعة العقبة أن يحموه إذا خرج إليهم مما يحمون منه نساءهم وأطفالهم، وهذه الحالة لم يكتمها عن القوم؛ لأن الجهاد في الإسلام مشورة ومشاركة، والفرد في الجيش الإسلامي كالقائد يشعر بمسئولية المعركة؛ لأن الكل جند في سبيل الله، فشاورهم وقال: يا أيها الناس! ذهبت العير وجاء النفير، فماذا نفعل؟ فقال البعض: يا رسول الله! نحن ما خرجنا للنفير بل خرجنا للعير، ومعنى هذا: أن نرجع، وقال آخرون: لعلك خرجت لأمر وأراد الله أمراً آخر، فلتمض إلى ما أراد الله، وتكلم المقداد وعمر وأبو بكر، فيثني عليهم خيراً ويقول: (أشيروا علي أيها الناس) حتى قال قائلهم: يا رسول الله! والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك، وقال آخر: والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] لكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وبعد هذا الكلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، فيقوم سعد بن عبادة وقيل: سعد بن معاذ، فكلاهما سيد الأوس والخزرج، فقال: لكأنك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟! -لأن الذين تكلموا من قبل هم من المهاجرين - فقال: نعم، أريدكم -أي: لأن العهد بيني وبينكم في بيوتكم ولكنكم الآن خارج منازلكم، ولكم أن تقولوا: ليست لك علينا نصرة لأننا خرجنا عن بيوتنا، ومنعتنا من أن نأتي بالباقي من العوالي، ومنعت الآخرين أن يأتوا، فلهم أن يقولوا هذا، وهذا لم يحصل تصريحاً ولكن يفهم من المقام، فقال: (والله يا رسول الله! لقد تخلف عنك بعض أصحابنا، ووالله ما نحن لك أشد حباً منهم، ووالله لو علموا أنك تلقى قتالاً ما تخلف واحد منهم، والله يا رسول الله! لوددنا أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر عند اللقاء.
ثم قال: امض لما أمرك الله يا رسول الله!) فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهلل وجهه وقال: (أبشروا، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان) ، وأخذ يعدد مصارع صناديد قريش الذين سيصرعون غداً في يوم بدر.
ويهمنا من هذه المقارنة أن بني إسرائيل قالوا: اذهب أنت وربك، وهذه الأمة قالت: والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك؛ ولهذا جاء القرآن الكريم بالشهادة الإلهية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، وليست مسألة عاطفية ولا مسألة ابتدائية، بل إنها مؤسسة على سوابق، فقد نجحوا في امتحان الأكل والشرب في الصيد، ونجحوا في امتحان القتال واتصفوا بما وصفهم الله به ونفاه عن بني إسرائيل، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] ، وقال عن بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] ، فالأمور التي عرضت على بني إسرائيل فأخفقت فيها: الصيد والقتال والأمر بالمعروف، وهذه الأمة نجحت في هذه الثلاث.


الحكمة من تحريم الصيد على المحرم
ولماذا حرم الصيد في الإحرام؟ شخص يقول على ظهر البعير: لبيك اللهم لبيك، حرام عليه أن يصيد، وقائد البعير وليس بمحرم فيصيد ويأكل، فهل الحلال غير المحرم أفضل على الله من المحرم الذي يقول: لبيك اللهم لبيك؟ والصيد هو كرامة، ولو أتينا إلى العقل لكان المحرم أولى من غيره، ولكن هذا من باب التربية، فإذا كان المحرم لا ينكح ولا يمس زوجته وهي حلال له؛ ليكون ذلك دربة وتمريناً له على العفة عن الحرام، فكذلك الأمر هنا إنما هو دربة وتعليم وتهذيب وكف لليد عن أن تريق دماً ولو كان لشيء حلال وهو الصيد، فإذا ما حل من إحرامه وعاد إلى بلاده، فاليد التي لم تمتد إلى صيد حلال مباح ستكف عن الدم الحرام، ولن يعتدي على أخيه المسلم فيريق دمه من غير ما ذنب.
وهكذا تكون كل خطوة في الحج لها حكمة ولها مدلول ولها عطاء، ويحتاج المسلمون أن يتعلموا هذه المواطن وما فيها من توجيهات، وما يمكن أن يستخلصه الإنسان من تعاليم الإحرام، سواء مما كان جائزاً فيه أو كان ممنوعاً عنه.
وبالله تعالى التوفيق.


حكم أكل المحرم مما صيد لأجله ولغيره
وبقي الكلام على فقه الحديث وما يتعلق بالحمار الوحشي.
كان أبو قتادة رضي الله عنه في عمرة الحديبية غير محرم، قيل: لأنه كان قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهمة فلم يخرج معهم في تلك العمرة، وإنما التقى معهم في الطريق، وقيل: لأنه كان طليعة للمسلمين عند قدومهم على مكة، والحاصل: أنه رضي الله تعالى عنه كان مع أصحابه في المهمة التي بعثه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم قد أحرم وبعضهم لم يحرم، فرأى حمار وحش فأراد أن يشد عليه فسقط سوطه، فقال لبعض إخوانه المحرمين: ناولني السوط، فقال: إنا حرم، فانطلق وأتى بحمار الوحش -ومعلوم أنه رجل غير محرم، والصيد جائز لغير المحرم إذا صاده لنفسه أو لغير المحرم- فلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه) والبعض يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، والبعض الآخر يقول: لم يأكل؛ لأنه جاء في بعض الروايات أن أبا قتادة صاده لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يأتي، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صاده بنفسه أو صاده غيره من أجله، وينص النووي وغيره في مناسك الحج: لو أن قرية من القرى يمر عليها الحجاج وهم محرمون، وفيها الذبائح واللحم، فقام أرباب الصيد وذهبوا واصطادوا وجاءوا بلحم الصيد للبيع، وعلم المحرم أنهم صادوه من أجله ولو للبيع عليه أو للهدية، فلا يجوز له أن يأكل من ذلك؛ لأنه صيد من أجله، أما إذا صاده ابتداء لنفسه أو لأهله، وحضر محرم هذا اللحم أو هذا الطعام ولم يشارك لا هو ولا جنسه من المحرمين، فله أن يأكل من هذا اللحم.


حكم أكل المحرم من لحم الصيد إذا اضطر إليه
وهنا يبحث العلماء: إذا لم يجد المحرم طعاماً إلا الصيد، فهل يباح له كما أبيحت الميتة لغير المحرم؟ وإذا وجد ميتة ووجد صيداً ووجد غير صيد من بهيمة الأنعام مملوكة للغير، فهل يأكل الصيد؟ أم يأكل الميتة للرخصة؟ أم يأكل من مال الغير؟ كثير من العلماء قالوا: لا يأكل الصيد، وله أن يأكل من الميتة؛ لأن الصيد محرم على كل حال ولم يأت فيه استثناء في حالة الاضطرار كما جاء في الميتة؛ ولأن الميتة جاءت فيها رخصة مستقلة، وقالوا: الصيد حرم على المحرم على الإطلاق في كل زمان ومكان، والميتة محرمة إلا على المضطر، فقالوا: يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد، فضلاً عن أن يقتل الصيد وهو حي، وهذا يدل على التشديد في تحريم لحم الصيد للمحرم.
ثم جاء الحديث الآخر بأن الصعب أتى بحمار وحش أو بلحم حمار، أو حمار وحشي -بأي لفظ كان من هذه الألفاظ- وفي بعض الروايات: يقطر دمه، فقدمه للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، فرده عليه صلى الله عليه وسلم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه الصحابي لأن الرسول رد هديته، ولم يعلم الحكم، فجبراً لخاطره أزال عنه هذا الأثر وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) أي: محرمون، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صيد من أجله، ففي حديث أبي قتادة رخص لهم أن يأكلوا ما لم يشارك أحد منهم في صيده، وهنا لم يسأل، ولكن رده ابتداء، وهنا قالوا: هل يمنع المحرم من أكل الصيد مطلقاً، أم لا يمتنع منه إلا إذا شارك فيه؟ في حديث أبي قتادة لم يشارك فيه أحد، فأكلوا منه، وهنا لم يسأل، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرده عليه إلا لأنه تيقن أو غلب عليه الظن أن هذا لم يأت بحمار الوحش يقطر دمه إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت القرائن محتفة بأن هذا الآتي لم يأت بهذا الحمار إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم رده عليه؛ لأن المحرم لا يأكل ما صيد من أجله، وبهذا يجمع بين الحديثين؛ فيقال: في الحديث الأول أباحه لأنه لم يصده من أجلهم، ولا شارك أحد منهم في صيده، وفي الحديث الثاني غلبة الظن أنه صاده من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا رده صلى الله عليه وسلم.
وهنا ينبغي الاستفادة من جانبين: جانب تحريم الصيد على المحرم، وجانب جواز أكل لحم حمار الوحش، والفرق بينه وبين الحمار الأهلي، مع أن كليهما حمار، فالجنس واحد والفصيلة واحدة.


من حكم تحريم النكاح والصيد على المحرم
يقول بعض العلماء الذين تكلموا في حكمة التشريع: لقد تبين لنا بالتتبع أن كل خطوة في الحج وراءها حكمة وموعظة، وفيها توجيه وتهذيب للنفس الإنسانية، فإذا نظرنا -كما تقدم- في قضية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة، وأن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، وبالتالي {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197] ، والرفث: هو الحديث في شأن النساء عند النساء، فإذا كان الحديث ممنوعاً؛ فمن باب أولى الوطء، وقد أجمع العلماء على أن من وطئ بعد الإحرام وقبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه، وعليه أن يمضي في فاسده وأن يحج من عام آخر، وذكروا أن المحرم يقترن بحليلته قرابة العشرين يوماً أو الشهر، فإنه يخرج من ذي الحليفة -مثلاً- ميقات المدينة، وهو أبعد المواقيت، ويظل حتى يصل إلى مكة تسعة أو عشرة أيام، ثم بعد ذلك إلى عرفات، ثم الرجوع إلى مزدلفة ومنى وحتى يطوف بالبيت هذه تأخذ سبعة أيام، فيظل قرابة العشرين يوماً وهي قرينته في ركوبهما على البعير وفي أكلهما وشرابهما، وفي كل لحظة وهما مختلطان معاً، ومع ذلك يستطيع أن يمسك نفسه وأن يتعالى ويبتعد عنها مع موجب الحليِّة وهي الزوجية، فقالوا: هذا تمرين وتعليم له، وتهذيب للنفس وتربية لها على العزيمة على ترك الحلال حينما يطلب ذلك منه، فإذا رجع إلى بلده ولم يكن هناك إحرام ولكن هناك التحريم عن الأجنبيات والخلوة مع الأجنبية ساعة أو ساعتين، ففي الحج استطاع أن يمسك نفسه مع الخلطة الكاملة، وهذه الأجنبية لا تتاح له الفرصة بالخلوة معها أكثر من نهار، فإذا كان قد استطاع أن يتماسك عن الحلال عدة أيام، فمن باب أولى أن يستطيع أن يتماسك عن المحرم بضع ساعات، ففي هذا تهذيب للنفس.
وقالوا: كذلك في الصيد، فهو أحل الحلال؛ لأن الشاة التي تربيها وتذبحها أنت مسئول عن رعايتها: من أين جئت بالعلف؟ ومن أين جئت بثمنها؟ لكن الصيد لست مسئولاً عن شيء فيه، وهو هدية لك من الله سبحانه وتعالى، وكذلك النفس تنشرح وتنهض للظفر به، وهو من ملك الله، ومع ذلك فإن الحلال يصطاد ويأكل والمحرم يلبي ولا يأكل.
قالوا: لأنه إذا استطاع أن يكف يده عن هذه الغزال في البر وهي ملك لله، وهو أحق بها من غيره، فإذا رجع إلى بلده فلا يمكن أن تمتد يده إلى مال أحد من المسلمين بغير حق؛ لأنه درب وكف يده عن أحل الحلال في الخلاء بوجود حرمة الإحرام، وهو الآن يكف يده عن حلال غيره لحرمة التحريم.
إذاً: تحريم الصيد على المحرم ليس تقتيراً عليه ولا تهاوناً بشأنه، ولكن تدريباً لنفسه على أن يكف يده عن الحرام، فإن هذا محرم بالإحرام، وهذا محرم بالتحريم.


كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [4]
أجاز الشارع للمحرم قتل الفواسق الخمس ولو كان ذلك في الحرم، وهي: العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور، وألحق بها بعضهم الحية.
ويجوز للمحرم أن يحتجم، وإذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام لعذر، كحلق الرأس ونحوه، فعليه فدية: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.


الأشهر الحرم والحكمة منها
لقد نهى الله سبحانه وتعالى الأعراب أو سكان البوادي أو من يقعون على طريق الحجاج، ويسوقون الهدي معهم، وقال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ} [المائدة:2] (لا تحلوا الهدي) ، أي: لا تأخذوه ولا تؤذوه؛ بل اتركوه يمضي آمناً.
وهنا أمر يلفت النظر وهو أن العرب في الجاهلية قديماً كانوا يعظمون الأشهر الحرم فلا يقتلون فيها ولا يقاتلون ولا يقتصون، وربما يلقى الرجل قاتل أبيه أو قريبه فلا يمد يده عليه؛ لأنهم في الأشهر الحرم، وغزوة نخلة وما ترتب عليها من الأمور أمرها معروف.
وهنا هؤلاء الذين يتصيدون الناس، ويقطعون الطريق، إذا مر عليهم الهدي مقلداً مشعراً ليس معه من يدافع عنه كفوا أيديهم؛ لأنه هدي يساق إلى الكعبة؛ فلحرمة الكعبة ولكونه هدياً يكفون عنه، وأنت أيها المحرم يجب أن تبادلهم هذا الأمر، فإنهم قد حفظوا لك هديك، وتركوه يمضي آمناً، فاترك لهم الصيد الذي يعيش في بلدهم وفي منطقتهم؛ لأنهم أحق به منك، وإنما أنت وافد عليهم، فلا ينبغي أن تقتل الصيد وتذهب وتتركهم جياعاً، فكما أمنوا لك هديك فأمن لهم صيدهم.
ومن العجيب أن الأشهر الحرم -ذا القعدة وذا الحجة والمحرم ورجب الفرد- متزامنة مع أشهر الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وهي بالإجماع: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فهذه أشهر القدوم إلى مكة، وينتهي الحاج من حجه في منتصف ذي الحجة، ويعود إلى بلده، فالله سبحانه وتعالى دعا الناس إلى حج بيته وقد كان الناس يقطعون السبيل، فنشر لهم الأمن في سفرهم تحت مظلة أمن الأشهر الحرم؛ ولهذا فإن الحاج يأتي من أقصى الجزيرة شرقاً وغرباً من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ويقطع المسافة في شهر أو شهرين على قدر حالة المسير، فيبدأ من أول شهر شوال، فإذا ظهر هلال شوال وأفطر الناس في عيد الفطر جاز الإهلال بالحج زماناً، فيكون أمامه شوال وذو القعدة وجزء من ذي الحجة، فيأتي من دول الخليج ومن وراء دول الخليج إلى مكة آمناً مطمئناً، فإذا وفّى حجه وانتهى أصبح عنده ذو الحجة والمحرم، وهذا يرده إلى بلده في أقصى الجزيرة؛ فيكون آمناً في سفره إلى مكة وفي العودة إلى بلده.
إذاً: الحاج مضمون له الأمن في مسيره، وعليه أن يكون أميناً على ما يلقاه في طريقه، فتزامن الحج مع الأشهر الحرم مع تحريم الصيد مع احترام الهدي، وكلها وحدة متكاملة.


تحريم الحمر الأهلية والحكمة من ذلك
إن فصيلة الحيوان تتفق في ماهيتها، فالإبل كلها على وجه الأرض فصيلة واحدة؛ أبو سنامين وأبو سنام واحد، والصغير والكبير سواء.
والحمر تنقسم إلى قسمين كما قيل: أهلي ووحشي، فالجنس واحد، والوحشي صيد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأكلوا منه، وصيده مشهور ومعروف، وفي عام خيبر حرمت الحمر الأهلية وبقيت الوحشية على أصل الحل والإباحة.
وهنا يأتي السؤال: ما الذي فرق بين أبناء الجنس الواحد وهي الحمر، فهذا حلال وهذا حرام؟ وما هو الموجب أو السبب في ذلك؟ لأن بعض الناس يطعنون في الشريعة ويقولون: إن الشريعة تفرق بين أفراد الجنس الواحد، وتفرق بين المتساويين، والتفريق بين المتساويين لا يصح عقلاً، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) قالوا: فهذا بول وهذا بول، وهذا آدمي وهذه آدمية، وهذا طفل رضيع وهذه طفلة رضيعة، فلم فرق بينهما؟ حتى قال بعض المسلمين: لا فرق في ذلك، ويذكر عن بعض المالكية أنه يغسل الجميع، ولكن فيما بعد ثبت من الناحية الكيميائية: أن هرمون الأنوثة يغاير هرمون الذكورة فيتأثر به البول، وأن طبيعة بول الأنثى ثخين يحتاج إلى غسل، وطبيعة بول الذكر أقل كثافة فيكفي فيه الرش، مع أنه لا يتوقف التشريع على المعامل الكيميائية والتحليلات ونحوها، فإن الشرع جاء لأمة أمية لم تدخل إلى مختبرات ولا إلى معامل، فما جاء عنه صلى الله عليه وسلم نقبله من دون أي نقاش أو اعتراض.
وهنا قالوا: لماذا حرم لحم الحمار الأهلي وبقي لحم الحمار الوحشي على حليته وهما شيء واحد؟ قالوا: إن للغذاء تأثيراً على جسم الإنسان، وهناك بعض الناس يسمون النباتيين، لا يأكلون اللحم أبداً، ويقولون: إن اللحم لحيوان، وهذا يؤثر على طباعنا ويأكلون مما تنبت الأرض، وهناك أشخاص يعيشون على الألبان، والذي يهمنا أنه باتفاق علماء التغذية والأطباء أن كل نوع من الأطعمة له تأثير على الجسم في خصائصه وغرائزه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من لحم الإبل وعدم الوضوء من لحم الغنم؛ حتى قال بعضهم: هذا أيضاً تفريق بين متساويين لحم ولحم، فقالوا: إن في الإبل خصائص كالكبر والخيلاء، وفي الشاة التواضع ونحو ذلك، وذلك لطبيعة المعاشرة، فالشخص الذي يعايش الإبل يحتاج إلى عصا متينة غليظة قوية ليضرب بها، والذي يعايش الشياه لو أشار بيده بقضيب من أراك فإن الشاة تمشي أما الإبل فقد يكابر ويعصي ويتمرد، فهناك فرق بينهما، فالذي يعايش الإبل بطبيعته وسلوكه وأخلاقه غير الذي يعايش الغنم؛ ولذا يصلح لرعي الإبل راعي الغنم قبل أن يصلح لرعي الإبل؛ ولذا حرمت الشريعة لحوم بعض الحيوانات حفاظاً على الإنسان من أن يتسرب إليه بعض خصائص تلك الحيوانات.
يقول أبو حيان رحمه الله تعالى في تفسيره عند تحريم لحم الخنزير، الخنزير فاقد الغيرة على أنثاه، وقد شاهدنا أن المكثرين من لحمه عندنا لا غيرة لهم على نسائهم.
وكان بعض العلماء يقول: كل الحيوانات كانت متوحشة حتى الخيل، ثم استؤنست ودربت على أن تعيش مع الإنسان، فالحمار حينما كان وحشياً قبل أن يكون إنسياً، كان يعيش على سعيه على نفسه، وحمايته لنفسه، ويأنف الضيم، ولا يخضع لنوع من الذلة، فلما استأنس نوع من الحمر وأصبح إنسياً أصبح ينتظر العلف من صاحبه، ويحرسه صاحبه ويستذله، حتى إن الطفل الصغير ليضربه ويحمل عليه وينقاد له، حتى قيل: ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد عير الحي: هو الحمار، فهو صبور، ويضرب به المثل في الصبر، وفيه طبع اللآمة؛ لأنه إذا عرف أن الذي يقوده طفل صغير تلاءم وتعاجز وتناوم وتقلب في التراب، وإذا وجد الجد ممن هو معه شمر ونشط وخاف، ففيه الذلة واللآمة، وأصبح يضرب به المثل في البلادة؛ رغم أن عنده الفهم للطريق أكثر من الإنسان، ومعرفته للطريق أكثر من معرفة الإنسان إياها، فإن الحمار إذا مشى طريقاً ولو عشرات الكيلومترات وأراد أن يمشيه مرة ثانية فلا يمكن أن يضل الطريق أبداً، ولذلك فإن أهدى المخلوقات إلى الطريق هو الحمار، لكن في الأشياء الأخرى: كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ والماء فوق ظهورها محمول قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] ولا يدري عنها شيئاً.
فقالوا: حرمت الحمر الأهلية لما لها من صفات ليست موجودة في الحمر الوحشية؛ لأن الحمار الوحشي يعتمد على نفسه، ويقول الدميري صاحب كتاب الحيوان: إن حمار الوحش الأنثى إذا ولدت كسرت رجل تولبها - والتولب: الحمار الصغير الذي تلده- ليبقى في جحره لا يخرج إلى أن يشب ويكون قادراً على الجري سريعاً، فإذا ما خرج من جحره ولقيه وحش ليفترسه استطاع أن يفلت بالجري.
إذاً: هو يقوم على حماية نفسه ويسعى على علفه ومرعاه، فهو لا يحمل منة لأحد، ولا يخضع لذلة عند أحد، فسلم مما ابتلي به الحمار الإنسي.
ومن هنا: نعلم أن الشريعة ما حرمت شيئاً إلا لمضاره ومفاسده، وعلى هذا جاءت المناسبة في هذا العرض فيما يتعلق بالحمار الوحشي والحمار الأهلي أو الإنسي، وكان تحريمها يوم خيبر، والله تعالى أعلم.


الخمس الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور) متفق عليه] .
من دقة المؤلف رحمه الله أن ذكر هذا الحديث بعد الحديث الدال على تحريم الصيد على المحرم، وما دام أن المحرم لا يمد يده على الصيد، فماذا يفعل في المؤذيات؟ يقتلها فكما أنه ذكر تحريم الصيد على المحرم، والصيد قتل الحيوان المباح، ذكر هنا الاستثناء وقال: أما المؤذيات فاقتلها.
والفواسق: جمع فاسق، كفوارس جمع فارس، والفاسق في اللغة: ما خرج عن طريقه، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج عن طريقها وتضرم على الناس بيوتهم -أي: تحرقها - ولذا أمر بإطفاء السراج عند النوم؛ لأنهم كانوا قديماً يستضيئون بالمسرجة، وقد كان يوجد البعض منها هنا في المدينة، وهي تأتي على شكل قناديل من الزجاج مستديرة تشبه البطيخة مفتوحة من الأعلى، وهذه كانت مسارج المسجد النبوي، وكان يوضع فيها الزيت ويؤتى بالفتيل ويلقى طرفه في الزيت والطرف الآخر على حافة المسرجة ويشعل فيه الضوء، فيستجر من الزيت كما تفعل الشمعة، ويستضاء به، فتأتي الفأرة وتريد أن تشرب هذا الزيت، والمسرجة صغيرة، وهي تخاف من النار، فتأتي بذنبها وترفع الفتيل من المسرجة وتلقيه خارجاً عنها، والنار مشتعلة فيه فيحرق ما سقط عليه، فهذا هو فسقها، والعرب تسمي كل من خرج عن طريقه السوي: فاسقاً.
ويقولون: فسقت النواة عن الرطبة، وذلك إذا أردت أن تأخذ القمع خرجت معه النواة، وفسقت الحبة عن الرحى، عندما يطحنون الحب بالرحى ويكون الحب كثيراً؛ فتتناثر الحبيبات وتبتعد عن الرحى ولا تطحن، فيقولون: فسقت الحبة عن الرحى؛ لأنه كان المفروض أن تبقى الحبة في الرحى حتى تطحن.
وفي اصطلاح الشرع: الفاسق من خرج عن الصراط السوي إلى بنيات الطريق فيما نهي عنه.
وقوله: (يقتلن في الحل والحرم) أي: أن حرمة الحرم لا تحرمها ولا تمنعها؛ بل يجوز قتلها مع وجود حرمة الحرم، وكذلك حرمة الإحرام لا تمنع هذه الفواسق من أن يقتلها المحرم.
إذاً: تلك الفواسق يقتلها في الحرم المحرم وغير المحرم، وكذلك خارج الحرم يقتلها المحرم وغير المحرم.


العقرب من الفواسق
ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يذكر هذه الفواسق فقال: (العقرب) لفظ العقرب يطلق على المذكر والمؤنث، وقد يلحق به التاء فيقال: العقربة على المذكر والمؤنث، وهي دابة معروفة، وهي سامة، وهي من المؤذيات، فتقتل في الحل والحرم وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي، فلدغته العقرب وهو يصلي، فأمسكها بيده وقال: (قاتل الله العقرب؛ لا تدع مصلياً ولا غير مصلٍ) .


الحدأة من الفواسق
قوله: (والحدأة) الحدأة كما يقولون: من جوارح الطير، فهل يلحق بالعقرب بعض الحشرات المؤذية كبعض العناكب أو الوزغ؟ والحدأة هل يلحق بها نظيرها من الصقور والشاهين والبازي ونحو ذلك؟ قالوا في الحدأة: إنها تخطف اللحم، وقد ذكروا أن جارية مملوكة كانت عند قوم في المدينة، فضاع لابنتهم عقد، قالت: فاتهموني فيه وفتشوني حتى ما بين رجلي، فلم يجدوا شيئاً، وهم كذلك وإذا بالحدأة تأتي وترمي هذا العقد من أعلى؛ لأنه كان في خرقة حمراء، فظنت الحدأة أنه لحم فاختطفته، وقد ذكرت هذه القضية عند عائشة رضي الله عنها.
والحدأة تخطف صغار الطيور، كفراخ الدجاج والحمام، وتخطف اللحم من الأطفال، فهي مؤذية، فهل يلحق بها من كان من جنسها بجامع الإيذاء أم أنه لا يتعدى النص؟


الغراب من الفواسق
قوله: (والغراب) الغراب ينقسم إلى قسمين: غراب الزرع، والبعض قد يسميه: أبا قردان، وهو أبيض ناصع، وقد يوجد على ظهره أو على رأسه نوع من الحمار يشبه الحناء.
وغراب أسود، وهو قسمان: أسود كله وأسود أبقع، والأبقع سواده أقل من الأول، وبين جناحيه بياض، قالوا: فهذا مؤذ يقارب الحدأة في إيذائه.
أما الغراب الأبيض، فيسميه أصحاب الأراضي الزراعية: صديق الفلاح؛ لأنه حينما يسقى الزرع بالماء تظهر الحشرات الكامنة في الأرض، فعند ذلك يصيدها ويأكلها وكأنه مبيد للحشرات، فالغراب المقصود في الحديث: هو الغراب المؤذي وليس غراب الزرع.


الفأرة من الفواسق
قوله: (والفأرة) الفأرة سماها صلى الله عليه وسلم: الفويسقة، وهي معروفة، وهي محرمة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مضارها، فتقتل كذلك.


الكلب العقور من الفواسق
قوله: (والكلب العقور) بعض العلماء يجعله اسماً لنوع من الحيوانات، والبعض يجعله اسماً لكل حيوان يفترس، وقد جاء في قصة أحد المشركين حينما دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) ، وكان هذا المشرك قد سمع بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مع أناس في سفر، فنزلوا أرضاً مسبعة يكثر فيها السباع، فقال: والله إني لأخشى على نفسي من دعوة محمد، فقالوا: لا تخف نحن نحيطك، فناموا حوله وهو في الوسط، فجاء أسد في الليل وقفز إلى وسط الدائرة واختطفه وذهب به، فالأسد كلب من الكلاب، فقالوا: كل ما يعدو بنابه فهو كلب، ويشمل ذلك الأسد والفهد والنمر وغير ذلك.
والكلب العقور بخلاف الكلب المسالم المعلم الذي لا يعقر ولا يعتدي، قالوا: فما دام أنه لا يعتدي ولا يعقر فليس فيه صفة الإيذاء بل قد ينتفع به، فبعضهم قال: يلحق بالكلب العقور الذئب؛ لأنه مؤذٍ، وكذلك الثعلب والأسد.
إلخ.


الحية من الفواسق عند بعض الفقهاء
وهناك من يزيد في هذا الباب: الحية؛ لأنها مؤذية، وجاء وقد جاء أن بعض الصحابة كانوا جالسين في منى، فخرجت عليهم حية، فأرداوا قتلها فهربت وفاتتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (كفيت شركم، وكفيتم شرها) ، فقد أرادوا قتلها فلم يمنعهم، وهناك آثار الله أعلم بصحتها، منها: (من رأى الحية ولم يقتلها برئت منه كذا وكذا ... ) وفيه الحث على قتل الحيات.
ويجب التنبيه على ما يستثنى من بعض أنواع الحيات وفي المدينة خاصة، فقد جاء أنه في غزوة الخندق استأذن رجل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته في المدينة -وكان حديث عهد بعرس - فأذن له وقال: (خذ سلاحك إني أخشى عليك بني قريظة) ، فذهب، فلما وصل إلى زوجته وجدها بين عضدي الباب، فهم بأخذ رمحه ليطعنها بسبب وقوفها على هذه الحالة؛ لأن هذا كان بعد نزول الحجاب، فإن الحجاب كان في السنة الثانية وهذا الحادث كان في السنة الرابعة أو الخامسة، فقالت له: لا تعجل، رد عليك رمحك وادخل إلى بيتك وانظر ما في فراشك، فدخل فإذا حية متمددة على طول الفراش، وقيل: ملتوية على وسطه، فاخترطها برمحه ثم أخذ الرمح وركزه في عرصة البيت، يقولون: فانتفضت الحية وسقط هو ميتاً، تقول زوجته: والله لا أدري أيهما كان أسرع موتاً، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنها من الجن، وقد انتصر لها قومها - لأنه لم يسم الله حينما طعنها-إذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تؤاذنوها ثلاثاً) أي: يقال لها: اذهبي عنا ثلاث مرات، لكن هل يكون هذا في أول ظهورها أم حينما تظهر المرة الأولى والثانية والثالثة؟ قالوا: الثلاث مرات في أول رؤيتها، لأننا لا ندري بعدها ماذا يحدث، فإن ذهبت فاتركها، وإن لم تذهب فاقتلها.
واستثني من ذلك نوعان: الصفراء أو الرقطاء، وهي التي يكون على عينيها نقطتان صفراوان، كاللتين تكونان على عيني الكلب الأسود.
والبتراء: وهي القصيرة؛ لأن البتراء إذا نظرت إلى الحامل أسقطت حملها، وكذلك ذات الطفيتين، فإن سمها سم ساعة لا يعطي فرصة لعلاجه أو تداركه، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تؤذن الحية البيضاء، ولم يأمر بأن تؤذن الرقطاء ولا البتراء.
إذاً: هذه خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم، وذكروا أن الحية تكون سادسة، ويستثنى من ذلك في المدينة خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن المدينة ليهاجر إليها مسلمو الجن كما تهاجرون أنتم إليها) .


الحكمة من قتل الخمس الفواسق في الحل والحرم
وماذا نستفيد من قتلهن في الحل والحرم؟ نقول: إن المسلم مهما كان في إسلامه وفي ديانته وورعه وزهده وطيبته إنما يكون سلماً لمن سالم وحرباً على من حارب، فهو محرم لله يقول: لبيك اللهم لبيك، فهو يكف يده عن الصيد الحلال، وهو خارج في طاعة الله وعبادته، لكن إذا واجهه شيء لا يؤذي فلا يستسلم له، بل يقتل ويقاتل إذا ما اعتدي عليه، وهكذا المسلمون يجب أن يتعلموا من هذا التحليل والتحريم أن يقفوا مع كل موقف بما يناسبه، فإذا جاء واعتدى عليهم قوم فلا يقولوا: نحن مسلمون، ولن نؤذيهم أو نعتدي عليهم، فإن هذه ليست صفات الكمال في الرجال، بل كما قيل: نسالم من سالمنا، ونعادي من عادانا.
وهذا هو الواجب على المسلم، وهذا ما يفيده هذا الموقف من إباحة قتل الفواسق والمؤذيات وإن كان محرماً وفي الحرم؛ لأن حرمة الحرم لا تعيذ المؤذين.
ثم يأتي البحث الآخر بما يتعلق بالاعتداء في مكة، وسيأتي في حديث حرمة مكة وأن الله حرمها وأباحها لرسوله، وهل يستثنى من ذلك شيء أم لا؟ وبالله تعالى التوفيق.


شرح حديث: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) متفق عليه] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هنا خبر احتجام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وما علاقة الحجامة بالإحرام؟ أولاً: الحجامة نوع من الطب القديم، وهي: إخراج الدم من الجلد عن طريق تشريطه وجذبه بالهواء، وهناك الفصد وهو: إخراج الدم من العرق عن طريق قطعه أو خرقه.
وهناك كما يقال: كاسات الهواء، وهو سحب الرطوبة المتجمعة تحت الجلد.
أما الحجامة فهي تدخل في كثير من أنواع العلاج، وقد احتجم صلى الله عليه وسلم وحث على الحجامة في أمور متعددة، وقد أطال ابن القيم رحمه الله فيما يتعلق بالتداوي بالحجامة، وأين تكون، ومما ينبغي التنبيه عليه: النهي عن الحجامة في الثالث والرابع والخامس عشر من الشهر؛ لأنها ليالي اكتمال الهلال، فيكون هناك شدة المد والجزر في البحار، فإذا احتجم في تلك الليالي، فيكون خروج الدم من الجسم أشد من المعتاد، وبالمناسبة يقول بعض الأطباء: إن من الحكمة في تعيين صيام الأيام البيض -التي هي الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر- إنما هي لهذه الحكمة؛ لأن أسباب المد والجزر في البحر بسبب القمر، فيكون هيجان الدم في الجسم كهيجان الماء في المحيطات، فإذا صام في تلك الأيام يكون الصوم أدعى لخفة هذا الهيجان في جسم الإنسان.
فالحجامة تفيد من أمراض عديدة، وقد حددوا لها أوقاتاً، وعينوا لكل مرض محلاً يحتجم فيه، وهي من الطب العربي القديم.
ويقولون: سوق هذا الحديث هنا ليدل على أصل التداوي، فالمحرم كما يتداوى بالحجامة فإنه يتداوى بغيرها من الأدوية المشروعة النافعة، ولكن الحجامة من حيث هي تحتاج إلى تشريط البشرة تشريطاً خفيفاً، وتارة تكون في موضع منبت الشعر كنقرة القفاء، وهذه يحذرون منها لأنها تؤثر على العين وعلى الدماغ، لكن لها صلة بالأكحل أو غيره، وكذلك على الفخذ إذا كانت الحجامة للمحرم تحتاج إلى إزالة بعض الشعر للتشريط أو لتركيب المحجم وشفط الدم؛ لأن الشعر يعمل فجوات يتخلل منها الهواء فلا يتوجه إلى الدم مباشرة، فإن كانت الحجامة للمحرم في موضع فيه شعر، وكانت الحاجة إليها مطلوبة، فله أن يحلق من شعره وهو محرم من أجل الحجامة ولا إثم عليه، وعليه كفارة هذا الحلق.
وإذا كانت الحجامة لغير حاجة؛ فإنه يكون آثماً، لحلق الشعر بدون حاجة، وعليه دم.
أما إذا كان موضع الحجامة في الإحرام لا شعر فيه كما يكون في بعض الحالات على ظاهر الكف، أو على الساعد، أو على الكتف ولا تحتاج إلى حلق شعر؛ فله أن يستعملها ولا شيء عليه؛ لأن الفدية من أجل حلق الشعر.
إذاً: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، والحجامة من الأدوية النافعة المستعملة، فإن احتاجها المحرم فلا مانع في ذلك، كما أن له أن يداوي الجرح ويتعاطى الدواء للمرض الباطني، أو يجري جراحة أو غير ذلك، فإن سلم من حلق الشعر فلا شيء عليه، وإن احتاج إلى حلق الشعر من أجلها فيحلق المحل الذي يحتاج إليه، وعليه الفدية لما حلق من شعره، والله تعالى أعلم.


شرح حديث كعب بن عجرة في فدية الحلق من الأذى
قال المؤلف رحمه الله: [وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أرى، أتجد شاة؟ قلت: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع) متفق عليه] .
هذا الحديث جاء بروايتين: هذه الرواية المتفق عليها، وفيها قال: (حملت) سواء حمل على الأيدي للمرض، أو أخذ بالقوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (والقمل يتناثر على وجهي) طال عليه الزمن، والمحرم لا يسرح شعره، حتى قال المالكية: لا يقتل القملة، فإذا وجدها أخذها وطرحها في الأرض، وقد أثاروا مناقشة حول قتل القملة، ولا أدري ما هو السبب في ذلك كله، والبعض يقول: لا يرميها فتموت فيكون قد قتل دابة.
سبحان الله! دابة مؤذية كيف يحاسب على قتلها! والبعض يقول: القملة إذا رميت في الأرض تنمو فتصبح عقرباً، والقمل كما يقولون: أشد عنصر ينقل التيفود.
والذي يهمنا أن هذا الرجل القمل كثر في رأسه، ولا يستطيع أن يحلق شعره لأنه محرم، ولا أن يمشط القمل من شعره؛ لأن المشط ينتزع بعض الشعرات، فصبر على حاله.
وفي رواية أخرى: (مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ على برمة لأصحابي، فإذا به يرى القمل يتناثر من الشعر) .
فالحكم يتعلق في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى) ، (أُرى) و (أرى) كلاهما من الرؤية، ولكن الرؤية البصرية والرؤية الفكرية البصيرية، تقول: أرى هذا حلالاً، أرى هذا حراماً، أرى أن تعمل كذا، فهذه رؤية علمية وليست بصرية، وتقول: أنا أرى اللون أحمر، فهذه رؤية بصرية، و: (أُرى) بمعنى: أظن، أي: ما كنت أظن أنه قد بلغ بك الوجع إلى هذا الحد، وإلا لكنت رخصت لك من قبل، فما دام أنه قد وصل بك إلى هذا الحد فقد أصبح هذا عذراً يباح معه حلق الشعر.


وجوب الفدية على من اضطر إلى فعل محظور
وأما إيجاب الفدية مع أنه معذور فقالوا: هو معذور رُفع عنه إثم الحلق لعذره، وفرضت عليه الفدية لحلق شعره؛ لأنه استفاد من حلق الشعر الممنوع عليه وهو محرم.
إذاً: المسألة متعادلة، فقد عذر بالمرض فلا إثم عليه، ولو حلق الشعر بدون مرض فإنه يكون متعدياً آثماً، لكن العذر أسقط عنه الإثم في حلق الشعر، واستفادته من حلق الشعر جعلت عليه الفدية مقابل هذا الشعر الذي حلقه.
إذاً: من اضطر إلى فعل محذور في الإحرام فله فعله وعليه الفدية، ومحظورات الإحرام فيها أشياء تدخلها الضرورة، وأشياء لا تدخلها.
فلو أن إنساناً معه زوجته في الحج، فهل هناك ضرورة لأن يباشرها؟ ليس هناك ضرورة، والبعض يذهب بعيداً ويقول: إذا كان مريضاً بالشبق ولا يستطيع أن يصبر، فإن هذه ضرورة، والمرأة ما ذنبها إذن؟ وهذه التقديرات البعيدة الأصل فيها أن تترك.
ومن حالات الضرورة أن تكون هناك شدة برد، فمن الضروري أن يلتحف أو يتغطى أو يلبس؛ فإن وجد ما يلتحف به-كالبطانية ونحوها- وضعه فوقه أو لفه على جسمه، وهذا ليس فيه مانع، فإنه يتقي البرد ولم يلبس شيئاً.
وإذا كان عنده صداع في رأسه، ولابد أن يربط رأسه ويلبس عليه عمامة، فهنا ضرورة، فله ذلك، كذلك إذا اضطر إلى تقليم ظفره، كما لو دق إصبعه في شيء فكسر ظفره، فقالوا: إن بقي هذا الجزء المكسور وجاء عليه الهواء فإنه قد يؤذيه، فمن أجل أن يتجنب هذا الإيذاء له أن يزيله، وعليه كفارة.
فمن اضطر إلى شيء ممنوع عليه في الإحرام فعله وعليه كفارته.
وهكذا أباح له صلى الله عليه وسلم أن يحلق شعره من أجل الأذى الذي فيه، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] يقول العلماء: هنا دلالة الاقتضاء، وابن حزم يوافق الجمهور في ذلك، والتقدير: فمن كان مريضاً أو به أذىً من رأسه، فحلق بسبب الأذى من رأسه، فعليه فدية، وابن حزم يوافق على ذلك.
لكن نجد أن ابن حزم يخالف في مثل هذا الموقف في الصوم في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة:184] والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر بسبب المرض أو مشقة السفر فعدة من أيام أخر، لكن ابن حزم يقول: إذا كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، سواء أفطر أو لم يفطر.
ولماذا قدر هناك (فحلق) ولم يقدر الاقتضاء هنا (فأفطر) ؟ حصلت مغايرة ولا نستطيع أن نقول: تناقض، فهو إمام جليل رحمه الله، ولكن الأسلوب اختلف عنده، فهنا {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] أي: فحلق، كما قال ابن حزم نفسه: لأن المرض والأذى في الرأس لا يستوجب فدية، إنما الذي يستوجب الفدية هو حلق الرأس.
ثم جاء أوسع من هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من ترك نسكاً فليرق دماً) ، والنسك هنا يشمل كل أعمال الحج، قال تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128] لكن هناك من المناسك ما يجبر بالدم، ومن المناسك ما لا يجبر إلا بفعله ذاتياً، فالطواف والسعي والوقوف بعرفات مناسك، لكن إذا فات واحد منها لا يجبر بالدم، بل لابد من فعله، لكن المبيت بمزدلفة والمكث في عرفات حتى تغرب الشمس وأن يجمع جزءاً من الليل مع النهار، هذا واجب، ومن ترك يوماً من أيام منى، فقد ترك نسكاً، ومن ترك طواف الوداع، أو طواف القدوم، فإن هذه مناسك لكنها تجبر بالدم.
إذاً: المحرم قد يترك واجباً، وقد يفعل محظوراً، فإن كان للضرورة فلا إثم عليه وعليه الفدية، وإن كان متعمداً فهو آثم وعليه الفدية.


مقدار الفدية لمن ارتكب محظوراً لعذر
وقصة كعب بن عجرة جاء بها المؤلف ويذكرها العلماء لبيان أن العذر يبيح إزالة هذا العذر أو سببه مقابل فدية.
فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتجد شاة؟) وهذا سؤال الحكيم الخبير، يسأل الشخص الذي عليه المسئولية، إن كان باستطاعته أن يجد الكفارة، ثم ينتقل به إلى ما هو أسهل من ذلك وهو صيام ثلاثة أيام، ثم ينتقل به إلى الإطعام، فهو محيز بين هذه الأمور الثلاثة، وبعضهم يقول: هي على الترتيب، فلا يصوم إلا إذا عدم الشاة، فإذا وجدت الشاة فلا يجزئ الصوم، والبعض يقول: هو مخير في ذلك، فإن لم يستطع صوماً فيطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
يقول بعض العلماء: نصف صاع من أي طعام موجود تصح منه زكاة الفطرة، ويقول أبو حنيفة رحمه الله: نصف صاع، إن كان سيطعم من البر، وصاع كامل إن كان سيطعم من الشعير أو التمر أو الزبيب أو غيره.
والحديث لم يفرق بين طعام وطعام، وقد جعل كفارة الأذى في الإحرام أن يخير بين ثلاثة أشياء، والأولى أن يكون على الترتيب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة لصيام الثلاثة الأيام: هل يصومها متتالية أو متفرقة؟ يقول ابن مسعود: يصومها متتالية، ويقول غيره: تصح متفرقة، وإذا كان سيصوم في أي مكان فله لك، وفي أي وقت كان قبل عرفات أو بعد عرفات، المهم أن يصوم بعد أن يزيل الأذى.
فإذا انتقل إلى الإطعام؛ فإن الإطعام يكون في الحرم بمكة، فالنحر والهدي والفدية وكل ما يتعلق بجزاء في الحج أو العمرة فإن محل إطعامه هم أهل مكة، قال تعالى: {هدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] ، وكذلك يقاس عليه كل ما يكون إنفاقاً أو إطعاماً بسبب الحج أو العمرة فإنما هو لأهل مكة.
وتتمة لما تقدم في قضية كعب: إذا أحس المحرم بألم في الضرس فله أن يتداوى، وكذلك لو أحس بألم في العين أو الأذن فله أن يضع القطرة، وله أن يقلع ضرسه، لكن إذا في بدنه شيء من دماميل فهل له أن يفتحه ويخرج ما فيه من الأذى أم لا؟ وإذا أصيب في رأسه وجاء بعصابة وعصبها على الجرح، فهل يكون قد غطى رأسه أم يكون عاصباً له؟ وهل يلزمه في ذلك شيء؟ والباب في هذا واسع، والمراد التنبيه على أصل المسألة في أمر الحجامة، وفي إزالة الأذى.


كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [5]
لقد جعل الله سبحانه وتعالى لمكة مكانة عظيمة، ومنزلة رفيعة، فقد حبس عنها الفيل وأصحابه، ولكنه سلط عليها رسوله والمؤمنين، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده، ومن عظيم مكانتها أن الله تعالى حرمها من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، فلا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، ولا أن ينفر صيدها، أو يختلي شوكها، أو يقطع شجرها، ولا يجوز أن تؤخذ لقطتها إلا لمن أراد أن ينشدها ويعرف بها.


شرح حديث حرمة مكة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال: إلا الإذخر) متفق عليه] .
هذا الحديث وهو حديث حرمة مكة يتناول عدة مسائل، ولنأخذ الحديث جملة جملة، ثم سنأخذ بعض الجوانب التي تحتاج إلى تنبيه وييسر الله تعالى أمرها.


دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً
قوله: (لما فتح الله على رسوله مكة) لم يقل: لما فتح رسول الله مكة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي فتحها عليه، وهل فتحت مكة عنوة أو صلحاً؟ في ذلك خلاف بين العلماء، ويترتب على ذلك الخلاف في رباع مكة، فمن قال: فتحت صلحاً فليست هناك غنائم، وليست هناك قسمة غنيمة، وإن افتتحت عنوة فهي غنيمة وهي حق للمقاتلين، وكما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: فتحت عنوة فله وجه، ومن قال: فتحت صلحاً فله وجه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة دخل متواضعاً لله سبحانه وتعالى، حتى إن جبينه ليمس قربوس راحلته تواضعاً لله على نعمة فتح مكة عليه.
وإذا تأملنا السيرة النبوية نجد أنها كعقد متراص كل حلقة تأخذ بعجز الأخرى، وكل غزوة من غزواته صلى الله عليه وسلم أو سرية من السرايا نجد أنها تجر ما بعدها، وهكذا تترتب الغزوات ترتب النتائج على أسبابها.
لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعشرة آلاف، ودخل من أعلاها، فحينما أراد الدخول قالوا: من أين تدخل يا رسول الله؟ لأن مكة لها مدخلان كَداء وكُداء، فقال: (انظروا ماذا قال حسان) ، وهنا تكريم للشاعر الإسلامي حسان بن ثابت رضي الله عنه؛ لأنه قال هاجياً أبا سفيان ومدافعاً: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء فدخلوا من حيث قال حسان، والفقهاء يرمزون لهذا بقولهم: افتح وادخل، واخرج وضم، أي: افتح الباب، كناية عن فتح الكاف في كَداء، واخرج وضم، أي: اخرج وأغلق الباب، كناية عن ضم الكاف في كُداء.
فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، وأرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه وجماعة آخرين من الجهة الأخرى، فوجد خالد بعض الأشخاص المتحمسين من مكة، فتناوشوا، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: إنها فتحت عنوة، نظر إلى قتال خالد مع من اعترضه، ومن قال: إنها فتحت صلحاً، نظر إلى دخول النبي صلى الله عليه وسلم بدون قتال، وقال: (من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن) ، فدخل يؤمن الناس على دمائهم وأنفسهم.
إذاً: فتح الله على رسوله مكة، والناظر في تاريخ العالم لا يجد فيما يسمى بحركات الإصلاح أسرع من حركة الإصلاح في الإسلام، فإن الفتح كان في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ثمان سنوات خرج النبي صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين إذ هما في الغار، وخرج متخفياً عن قومه ولجأ إلى الغار ثلاثة أيام، ثم خرج إلى الصحراء وكان يسير ليلاً ويقف نهاراً خشية الطلب، ثم بعد ثمان سنوات يرجع إلى مكة فاتحاً ويدخلها بعشرة آلاف مقاتل، هذا لم يحدث له في التاريخ نظائر أبداً.


عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة
قال رضي الله عنه: (قام صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه) لما فتح الله على رسوله مكة، لم يتجبر أو يتكبر، ولم يسلب أو ينهب؛ بل إنه ضرب المثل الأعلى في الإحسان لمن أساء إليه، حينما وقف بباب الكعبة وقال: (يا أهل مكة! ماذا تظنون أني فاعل بكم؟) في هذه الكلمة يعيد عجلة التاريخ السابقة حينما كانوا يؤذونه، ويضعون عليه سلى الجزور وهو ساجد في ظل الكعبة، ويؤذون أصحابه، وها هو اليوم يقول: ماذا تظنون أني فاعل بكم بعد أن قدرت عليكم؟ وحينها تنازلوا عن ذلك الكبرياء والطغيان والإيذاء، ولجئوا إلى صلة الرحم والعطف، فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم.
استجداء واستعطافاً بالأخوة آلآن أصبح أخاً كريماً، وبينما عند إيذائهم له لم يكن كريماً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
فقد كانوا في يده، وكان بإمكانه أن يحكم بأخذهم أسارى، ولكن أطلقهم لله وصلة للرحم، ووفاء للموطن، ولأشياء عديدة لا يمكن حصرها في هذا المقام.


حماية الله للكعبة من أصحاب الفيل
ومما قاله في ذلك الموقف رداً على تساؤلات في نفوسهم، وهذا فيه توجيه إلى أنه ينبغي على ولاة الأمر أن ينتبهوا لمشاعر الناس وما يدور في خلجاتهم بمقتضى القرائن، فالموقف الآن اقتحام مكة ودخولها بالسلاح، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر، أي: أنه ليس بمحرم بل مقاتل، فلما كانت الصورة صورة استباحة واستحلال مكة، وهي محرمة، يعظمون حرمتها وقد كان الرجل قبل الإسلام يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمد يده عليه إعظاماً لحرمة الحرم، قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، أي: ومن دخله من إنس أو طير أو حيوان؛ بل حتى النبات فهو آمن فيه؛ فلا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولقطته محرمة، أين ذهبت هذه الحرمة؟ فهنا أزال عنهم كابوس هذا التفكير فقال (إن الله حبس) فأتى بهذه المقدمة حتى نعلم جميعاً أن مكة محرمة، وأن الله حبس عنها الفيل، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، فقد جاء أبرهة بجيش عرمرم، وأتى بالفيل من أجل أن يستعين به على هدم الكعبة؛ لأنه كان قد بنى كنيسة وسماها (القليس) وزخرفها وزينها ليصرف عرب اليمن إليها بدلاً من الحج إلى الكعبة، وبالتالي يصرف القبائل المجاورة لليمن، فجاء رجل أعرابي غار على الكعبة، وأراد أن يكيد للملك، فدخل القليس وتبرز فيها، فبلغ الملك هذا الفعل، فغضب وقال: لأهدمن بيتهم الذي يعتزون به انتقاماً للقليس.
فجمع الجيش وأخذ الفيل وتوجه إلى الحجاز، وعندما وصل الطائف كان هناك الصنم الذي يعبدونه، فقالوا له: ليس هذا الذي تريد، مطلبك أمامك، وأخذ دليلاً من الطائف يدله على البيت الحرام، فلما وصلوا إلى وادي محسر ونزلوا، جاء الدليل الذي يدلهم على مكان البيت وهمس في أذن الفيل وقال: يا محمود! أتدري إلى أين أنت ذاهب؟ إنهم يريدونك لهدم بيت الله - يقولون: أذكى الحيوانات الفرس والفيل- فلما أرادوا الذهاب أتوا إلى الفيل ليمشي فإذا به يرفض، فضربوه ولكن دون فائدة، حتى جاءوا بمحاجم من نار وكووه في مناعمه فلم ينهض، وتحمل كي النار، وكانوا إذا حولوه عن جهة الكعبة قام يهرول، فإذا قام ومشى وحولوه إلى الكعبة برك؛ فسمي: وادي محسر؛ لأن الفيل انحسر فيه.
وأعتقد أن أبرهة كان غبياً مثل فرعون، أو أن الطغيان يعمي، فإن فرعون لما رأى موسى وقومه عندما فتح الله لهم في البحر طريقاً يبساً ومشوا فيه، فلم يفكر من الذي شق لهم البحر وجعل لهم طريقاً يبساً، وجعل الماء كل فرق كالطود العظيم، فلم يعلم أنه لا يقوى على ذلك إلا الله، وأن الذي فعل له ذلك لا يفعله لكل إنسان، إذاً: فهو ليس كالناس العاديين، فاقبل رسالته، وسالمه، وابتعد عنه، واتركه يمشي في سبيله وارجع، لكنه لج في طغيانه ودخل البحر.
وكذلك أبرهة، فقد رأى أن الفيل رفض المشي، وعظم الجهة التي هو ذاهب إليها، ولم تخضعه حرارة النار، ومع ذلك لم يفكر في هذا الأمر؛ بل أصر على الذهاب، فعومل بنقيض قصده.
والفيل هو أضخم حيوان ثم يأتي بعده وحيد القرن، ثم الجمل، فهو عندما جاء بالفيل الكبير أهلكه الله بطير أبابيل تحمل الحجارة، كل طائر يحمل ثلاثة أحجار، إذا أسقط الطائر هذا الحجر على رأس أحدهم وهو راكب على دابته اخترقت رأسه واخترقت الدابة التي هو عليها حتى تصل إلى الأرض، فيا ترى ما هي المادة التي كانت منها هذه الحجارة حتى تخترق الفرس والفارس؟! إنها قوة عجيبة! والشيء بالشيء يذكر، يقولون: إن معدن اليود يابس مثل الكحل لكن لونه بني، إذا وضع على الحديد أحرقه، وإذا وضع على الخشب أشعل فيه النار، وإذا وضع على رصاص أذابه، وإذا وضع على الزجاج فإن الزجاج لا يحتر ولا يتأثر، فهذا معدن مستخلص من ماء البحر، ويكون له هذا الأثر مع تلك المواد ومع ذلك لا يتأثر به الزجاج، ولذا يحفظ في أواني زجاجية، والغطاء يكون زجاجاً أيضاً، وقدرة الله فوق كل شيء.
فهنا قال صلى الله عليه وسلم (إن الله حبس عن مكة الفيل) ، وكذلك في صلح الحديبية لما قال: (هل لنا من رجل يدلنا على الحرم ونتجنب طلائع قريش) وقال القائل: أنا، ومشوا إلى أن وصلوا إلى حدود الحل والحرم، فبركت الناقة، فقال قائل: خلأت القصواء، أي: تعبت من السفر وبركت إعياء وتعباً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا والله، ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والله لا يعرضون عليّ خطة يعظمون فيها محارم الله إلا أجبتهم إليها) ، ولهذا تنازل معهم في مواد الصلح، حتى إن عمر غلبه الغضب وما استطاع أن يتحمل؛ لأنه كان من بنود الصلح: من جاءنا منكم نرده، ومن جاءكم منا لا تردونه علينا.
إذاً: الحيوان الأعجم يلهمه الله عظمة حرمة البيت، وبعض الناس -نسأل الله السلامة والعافية -تحجب بصائرهم وتتحجر قلوبهم ولا يرون لمكة حرمة، الفيل يعظم حرمة مكة ويبرك مكانه ولا يتحرك من كي النار، والإنسان الطاغية الجبار يخترق حرمة مكة وينتهكها ويقاتل أهلها، أرأيت مقارنة مثل هذه؟! إذاً: الحيوانات لها إدراك، وقد جاء في موطأ مالك في فضل يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) فما أدرى الحيوانات بالجمعة أو السبت؟ وما أدراها بقيام الساعة؟ وما أدراها حتى تصيخ بسمعها لتسمع النفخة؟ إذاً: تلك الحيوانات لها إدراك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] ، بل قد يكونون أحسن منكم، ولذلك لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى من سورة الرحمن على وفد الجن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] ردوا وقالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، وقرأها على الإنس فلم يتكلم أحد، فقال: (والله للجن أحسن سماعاً منكم) .
ولما ورد كتاب من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج، فقرأه على أهل العراق وفيه: من أمير المؤمنين إلى أهل العراق، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فما رد عليه السلام أحد، فقال لقارئه: أمسك، واستل سيفه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني ويحكم! الخليفة يسلم عليكم ولا تردون عليه السلام، إني لأرى رءوساً قد أينعت وقد حان قطافها، ثم بعد ذلك قرأ الكتاب من أوله، فقالوا كلهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.


حرمة مكة إلى يوم القيامة
قال صلى الله عليه وسلم: (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) أي: في فتحها، (وإنها لم تحل لأحد كان قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار) جاء في بعض الروايات ( {وقد أحلها الله لي ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي) .
وقوله: (لم تحل لأحد قبلي) أي: في الجاهلية وما قبلها، وتاريخ مكة طويل، لا يعلم مداه إلا الله، وقد أشار المولى سبحانه بأولية الكعبة فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، والكعبة موجودة قيل: من زمن آدم عليه السلام بنته الملائكة، وقيل: من زمن شيث عليه السلام، وقيل: بناه العمالقة، وقيل غير ذلك، إلى أن جاء القرآن بتاريخ إسلامي قريب، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ} [البقرة:127] فقد كانت القواعد موجودة موضوعة، لكنها انطمست قيل: لما جاء الطوفان وغمر الكعبة، وأخذ الحجر الأسود وأخفي في أبي قبيس، حتى جاء الإسلام وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم عليّ) قيل: هو الحجر الأسود، وقيل: هو غيره، ثم جاء إبراهيم عليه السلام والبيت مندثر، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] ، فاندثر البيت ولم يبق له أثر، وجاء جبريل عليه السلام وبين مكانه لإبراهيم، كما جاء لـ عبد المطلب وبيّن له مكان زمزم، وقيل: إن الله أرسل سحابة في وسط النهار وقال لإبراهيم: خط عليها ثم احفر، فحفر حتى وصل إلى القواعد.
وقد جاء في الحديث الآخر: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض) ، وسيأتي الحديث الآخر: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة) ، وجمعوا بين الحديثين: بأن تحريم الله مكة حينما أمر القلم أن يكتب فكتب: إن مكة حرام؛ فهو تحريم من الله، ثم إن إبراهيم حرم مكة التحريم للناس وأعلنه وبين حدود حرمها.
إذاً: لم تحل مكة لقتال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، ولن تحل لأحد بعده، أي: لا يحلها الله لأحد بعده، فإذا استحلها إنسان فهو معتد؛ لأنها غير حلال له.
قال: (وإن الله أحلها لي ساعة من نهار) المقصود بالساعة هنا الساعة اللغوية، وليست الساعة الزمنية التي هي ستون دقيقة، والمعنى وقتاً من نهار، سواء كان النهار كله أو أكثره أو أقله، فقد أحلها الله له أن يدخلها بسلاحه عنوة مستعداً متهيئاً للقتال، وقد وقع فعلاً بعض القتال في بعض جوانبها حينما دخل خالد بن الوليد ومن معه من الجهة التي تقابل جهة دخول النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولن تحل لأحد بعدي) يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدل على أن مكة ستظل إسلامية إلى يوم القيامة؛ لأنها ستظل حراماً، والحرمة إنما هي أمر شرعي، فلا يجوز لأحد أن يستحلها أبداً.
وهنا يبحث الفقهاء فيما إذا طرأ طارئ، يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره: (فإن ترخص أحد بقتالي فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسوله ولم تحل لأحد بعده) ، وفي بعض الروايات: (وقد عادت إليها حرمتها إلى يوم القيامة) .
إذاً: حرمة مكة قديمة، سواء كانت بتحريم الله، أو كانت بتحريم إبراهيم، وتحريم إبراهيم إنما هو تحريم عن الله، أي: بلاغ عن الله سبحانه وتعالى بحرمتها.


حكم إقامة القصاص والحدود داخل مكة
وهنا يذكر الفقهاء ويفرعون على هذا من الأحكام: لو أن أحداً قاتل في مكة فماذا يكون موقف المسلمين منه؟ هل يحرم عليهم استحلالها لأنها محرمة إلى يوم القيامة، وهذا آثم عاصٍ بقتاله فيها، أم يقاتلون من قاتل فيها؟ قالوا: إذا انتهك أحد حرمة الحرم فقد أسقط عن نفسه حرمة الأمن فيُقاتل فيها.
وقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] أي: بدون اعتداء، وإذا قتل إنسان إنساناً بمكة فهل يقتل أو يترك؟ الجمهور على أنه يقتص منه في مكة، ويقول الإمام أبو حنيفة: لا يقتل حتى القاتل قصاصاً بمكة، ولكن يضيق عليه حتى يُخرج أو يخرج إلى الحل فيقتص منه هناك.
وحينما أسر الصحابي الجليل خبيب بن عدي وبيع في مكة واشتراه بعض من له ثأر ودم في بدر، فلما أرادوا قتله خرجوا به من مكة إلى التنعيم وهي من الحل، وهناك صلب وقتل، فلم يستبيحوا قتله في مكة لحرمتها، مع أنهم قد اشتروه أسيراً من أجل أن يقتصوا منه لبعض قتلاهم في بدر، فتركوا قتله في مكة لحرمتها.
فهناك من يقول: إن حرمة مكة تحمي كل ذي دم وكل ذي نفس؛ لأن قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] عام في الإنسان والطير والحيوان حتى الشجر.
وبعض العلماء يقول: الذي ينتهك حرمة مكة؛ تزول عنه الحرمة والإيواء والأمن فيقتل، وأيضاً من جاء معتدياً وقاتل أهل مكة من البغاة والخوارج فإنهم يُقاتلون في مكة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن النفس، ورفعاً للطغيان والبغي، ولا يؤوى إلى الحرم من كان بهذه الصفة.
وكذلك قالوا في بقية الحدود سواء كان الحد رجماً أو قطعاً أو جلداً: هل تقام في مكة أم يخرج إلى الحل وهناك يقام عليه الحد؟ قال بعضهم: يقام عليه الحد ولو كان قتلاً، واستدلوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؛ وذلك لأنه غدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء فأسلم ثم ارتد وهجا النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فعندما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ( {إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، قال: اقتلوه) .
وأجاب الآخرون بقولهم: إنه قتل في الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتل بعد أن عادت إليها حرمتها، والنقاش في ذلك نقاش فقهي.
والذي يهمنا في هذا الباب أن المحرم يحترم حرمة البيت ولا يعتدي -كما تقدم- لا على صيد، ولا على شجر، ولا على إنسان، ولا على غير ذلك.


حكم تنفير صيد الحرم
قال صلى الله عليه وسلم: (فلا ينفر صيدها) .
من حرمتها أن لا ينفر صيدها، والتنفير: هو التخويف والإهاجة، وهنا كما يقولون: من مفهوم المخالفة وفحوى الخطاب: إذا كان الصيد فيها آمناً فلا تزعجه ولا تنفره من مكانه، فهل يجوز صيده وقتله؟ من باب قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] ، فهل يجوز له أن يفعل أكثر من ذلك؟ لا يجوز له ذلك.
والصيد: هو كل حيوان بري يحل أكله، أما إذا كان وحشياً كالسباع فقد تقدم: (يقتلن في الحل والحرم) .
ويضيف العلماء أيضاً: لو أن حلالاً اصطاد خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فإنه يطلق من يده؛ لأنه منهي عن إمساك الصيد أو قتله أو تنفيره في الحرم.


حكم قطع شوك الحرم وشجره
قال: (ولا يختلى شوكها) .
الاختلاء: هو أخذ الحشيش من الخلاء كالصحراء والوادي، ويذكر عن الشافعي رحمه الله: أنه أباح قطع الشوك الذي في الأغصان، كما يقول الصنعاني شارح البلوغ، وقد استدل بأن الشوك مؤذٍ، وإنما أبيح قتل الفواسق الخمس لأجل الأذى، فلما كانت الفواسق تقتل في الحل والحرم لوجود الأذية، والشوك مؤذٍ، فيقاس عليها ويجوز قطعه، لكن يقول الصنعاني أو غيره: إنما أباح قطع الشوك من الأغصان.
وأعتقد أن هذا مغاير لطبيعة الحرم؛ لأنه يوجد في الحرم نبات قصير جداً ينبت على وجه الأرض وفيه الشوك، فهذا هو الذي يؤذي؛ لأنه إذا أراد الإنسان أن يجلس أو أن ينصب خيمة أو أن يفرش فراشه، فإن هذا الشوك سوف يؤذيه، فقد يضطر لقلعه من أجل أن يمهد له مكاناً يجلس فيه، فإذا نقل عن الشافعي أنه أباح قلع الشوك للإيذاء فيكون هذا النبت من باب أولى؛ لأن الشوك في الأغصان فوق الدوحة ونحوها لا يؤذي أحداً بشيء، فيكون هذا أولى بحمله عليه.
وإذا كان الشوك المؤذي لا يختلى، فإن النباتات الأخرى من باب أولى.
قال صلى الله عليه وسلم (ولا يعضد شجره) أي: لا يقطع شجره، قيل: في الشوك النبات وفي الشجر ما لم ينبته الآدمي، فما كان من نبات الآدمي فهو يزرع ويحصد، أما ما كان نبتاً طبيعياً من خلق الله سبحانه دون أن يكون للإنسان فيه عمل كالنباتات الصحراوية، فهذه هي التي لها حرمة ولا يعتدى عليها.


حكم لقطة الحرم
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد) .
الساقطة: هي اللقطة التي سقطت من صاحبها، وقوله: (إلا لمنشد) أي: لا يأخذها شخص من مكانها إلا على نية الإنشاد، أي: الإعلام بها، فهي لا تملك بالالتقاط، بخلاف اللقطة في غير الحرم؛ فإن حكمها أن ينشدها لمدة سنة، فإن ظفر بصاحبها سلمها إليه، والإنشاد لمدة سنة إنما هو إن كانت صالحة للبقاء سنة، وإلا باعها أو تصرف فيها بعد أن يعرف قيمتها، وتكون ديناً عنده وأمانة، فإذا ظهر صاحبها أعطاه إياها، فكل ضالة أو ساقطة للإنسان أن يأخذها بنية التعريف والإنشاد، وينشدها على أبواب المساجد، أو مظنة وجود صاحبها، ولا ينشدها في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: (إذا سمعتم من ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك) ؛ لأنه سوف يستغل المسجد في غير ما وجد له، كما جاء النهي عن البيع والشراء في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع، فقولوا: لا أربح الله تجارتك) ، وكما قال عمر رضي الله عنه: (من أراد الثواب والأجر وسوق الآخرة فليأت إلى المسجد، ومن أراد البيع أو الشراء أو الحديث فليخرج إلى أسواق الدنيا) ، وقد بنى رحبة في غربي المسجد، وقال: (فمن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى هذه الرحبة، ومن أراد حديث الآخرة فليبق في المسجد) فالذي يجد ساقطة في الحرم في مكة فلا يحل له أن يأخذها إلا إذا كان على استعداد أن ينشدها، ومهما أنشدها سنة أو سنوات فلا يتملكها، بخلاف الساقطة في غير الحرم المكي، فإنه يتملكها بعد سنة، فإن جاء صاحبها بعد ذلك فإن كان قد استفادها لنفسه واقتناها سلمه قيمتها، وإن كان قد تصدق بقيمتها على نية صاحبها فيخبره ويقول له: لقد انتظرت وعرفت فلم يأت أحد، فتصدقت بها على نية صاحبها، فإن قبلت الصدقة فأجرها لك، وإن لم تقبل فأكون قد تصدقت بغير ما أملك، فهذه قيمتها والصدقة لي.
وهنا يأتي السؤال: لماذا تملك ساقطة غير الحرم بعد سنة وساقطة الحرم لا تملك أبداً؟ قالوا: لأن حرم مكة يأتيه الحجاج في كل سنة من كل مكان، ولا ندري ممن سقطت تلك اللقطة، ولا يلزم أن من سقطت له ساقطة يعود في العام القادم من أجل أن ينشد ساقطته أو ضالته، ويمكن أن لا يتأتى له المجيء إلا بعد خمس سنوات على أقل تقدير، أي: في التطوع؛ كما في الحديث القدسي: (من عافيته في بدنه وأغنيته في ماله، فلا يحق له أن يهجر البيت فوق خمس) أي: خمس سنوات، فيمكن أن لا يأتي إلا بعد خمس سنوات، فنقول: هذا خاص بالحرم، فإذا سقطت لقطة من حاج آفاقي، وأنشدها الملتقط سنة أو سنتين، ولم يأت صاحبها، ولا يدري عنها أحد شيئاً، فتبقى أمانة في يد ملتقطها وينشدها إلى أن يأتي صاحبها.


كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [6]
لقد حرم الله سبحانه وتعالى مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، ومن حرمتها: أن من قتل خارج مكة ثم لجأ إليها فلا يقتل حتى يُخرج منها، أما من قَتَل فيها فإنه يُقتل فيها، ومن قٌتِل له قتيل فهو بخير النظرين: القصاص أو الدية.
ومن حرمة مكة: أنه لا يجوز قطع شجرها إلا الإذخر، فإنه يجوز قطعه للحاجة.
والمدينة حرم كمكة، فلها حرمتها وتعظيمها، فلا يجوز قطع شجرها، ولا قتل صيدها، ومن فعل ذلك فهو آثم ولا جزاء عليه، وحدود حرم المدينة ما بين الحرتين شرقاً وغرباً، وما بين جبل عير وثور شمالاً وجنوباً، والحد وهو الحرتان وعير وثور داخل في حدود الحرم.


شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين) .
قوله: (فهو بخير النظرين) : النظران في قتل العمد؛ لأن قتل الخطأ فيه نظر واحد وهو الدية، أما العمد فله الدية وله القصاص، ومناسبة ذكر القتل في هذا الحديث: قالوا لأن حرمة مكة تعيذ القاتل من القتل، وتجعل من دخلها آمناً، حرمة مكة تعيذ من لجأ إليها، أي: أن من ارتكب جريمة خارج مكة ولجأ إليها دخل في نطاق الأمن، لكن مجيء هذا الحديث بهذا السياق يشعر بأن القاتل في مكة لصاحب الدم الخياران، فله أن يقتله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإخراجه من الحرم، والمعروف أنه يقتل حيث قتل، إذاً: الحديث هنا يشعر بأن حرمة تلك النباتات والحيوانات في الصيد وحرمة مكة لا تمنع القاتل من أن يقتص منه في الحرم، وهذا ما يرجح القول -وهو قول الأكثرين- بأن الجاني في مكة يقتص منه في مكة، بخلاف من جنى خارج مكة ولجأ إلى مكة؛ فإنه يخرج إلى الحل ويقتص منه.
وقوله: (فهو بخير النظرين) النظران هما: القصاص أو الدية، وفي قوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] اتفق العلماء في هذه القضية على أن اليهود كان عندهم حكم واحد: وهو أن القاتل يقتل، ثم جاء النصارى وأصبح الحكم عندهم أن القاتل يدفع الدية، ثم جاء في الإسلام التخيير بين الأمرين.
وفي فقه المسألة عند الأئمة رحمهم الله: أنه إذا قبل أولياء الدم عن القاتل عمداً بالدية فعليه أن يدفعها.
وذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أنه ليس لولي الدم على القاتل إلا نظر واحد إما القصاص وإما الترك، وهذا مذكور عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ولم يذكر في العمد دية، فقالوا: الجاني إن لم يرض ويقبل بدفع الدية عند طلبها من ولي الدم فليس بملزم، بل إما أن يقتص ولي الدم أو يتركه، وفي المذهب المالكي في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول هو هذا، وهو المشهور عن مالك.
القول الثاني: وافق فيه الجمهور: وهو أنه إذا طلب ولي الدم الدية فعلى القاتل أن يدفعها.
القول الثالث: التفصيل: فإن كانت الجناية في النفس، وطلب ولي الدم الدية، وكان الجاني واجداً، وجب عليه أن يدفع الدية، وإذا كانت الجناية في عضو؛ كأن اعتدى على يده أو عينه أو أذنه، فإن طالبوا بالقصاص فعليه أن يقدم القصاص، وإن طالبوا بالأرش ودية العضو فالجاني بالخيار؛ إما أن يمتنع من دفع الأرش ويقول: اقتصوا كما جاء في الشرع، ولست ملزماً بالدية.
وفي هذه المسألة سمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: الراجح أنه في قتل النفس إذا طلب الولي الدية فيتعين على الجاني أن يدفعها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] ، فإذا وجد الدية وعوفي من القصاص فلا يقل: اقتصوا؛ لأنه حينئذ يكون كقاتل نفسه؛ لأن الدية تعفيه من القتل وهو يأبى إلا أن يقتص منه.
إذاً: الحديث هنا يرد على هذا القول، سواء كان عند مالك أو عند أبي حنيفة رحمهما الله.


حكم المصالحة على أكثر من الدية
لو أن ولي الدم تمسك بالقصاص، وعرض الجاني الدية، وبدلاً من أن تكون دية جعلها عدة ديات، فمثلاً: الدية مائة بعير، فهو يعرض مائتين وثلاثمائة أو أكثر، فإذا قبل ولي الدم فلا مانع، يعني: لا يقال: إن ولي الدم لا يحق له أن يأخذ من الجاني أكثر من الدية؛ بل إذا كان الحكم قصاصاً، فهو الآن لم يأخذ الدية إنما يأخذ الصلح عن التنازل عن القصاص، وهذا راجع للتراضي بين الطرفين، والحد الأدنى للدية هو مائة من الإبل، وهذا في قتل الخطأ، لكن في العمد يكون الطلب هو القصاص، وإذا تصالح الجاني عن قتل نفسه بعدة من الديات فلا مانع لولي الدم أن يقبلها.


جواز قطع الإذخر من الحرم للحاجة
قال العباس لرسول الله بعد أن ذكر حرمة شجر الحرم: (إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في قبورنا وفي بيوتنا، فقال: إلا الإذخر) .
قول العباس رضي الله تعالى عنه: (إلا الإذخر يا رسول الله) (إلا) أداة استثناء، والإذخر نبات، فالإذخر مستثنى من قوله: (ولا يختلى شوكها) ومن قوله في الحديث الآخر: (ولا يختلى خلاها) والخلاء: هو النبات الذي ينبت في الأرض على الأمطار أو السيول أو غير ذلك، وهنا من ضمن الخلاء الذي ينبت في الأرض البيضاء: الإذخر، وهو نبت حجازي معروف، طيب الرائحة، وله خصائص مذكورة في كتب الطب، وقد كان يؤخذ الإذخر قديماً ويوضع على أفواه أكياس الفحم.
فـ العباس رضي الله تعالى عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستثني من الخلاء الإذخر، ولما كان معروفاً عندهم ما احتاج إلى تعريف، ثم علل رضي الله عنه موجب هذا الاستثناء فقال: (فإنا نجعله في قبورنا) ، فقد كانت العادة أن أهل مكة يشقون وأهل المدينة يلحدون، والشق: هو أن يحفر القبر، ثم يحفر في الوسط خد على قدر الجسم ويمدد فيه، واللحد: بعد أن يحفر القبر في جهة القبلة قدر ما ينام فيه الميت ثم يسد عليه، وفي كلتا الحالتين يسد على الميت باللبن أو بالحجارة، وكان يتخللها فراغ، فإذا أهيل التراب على الميت تساقط التراب من بين الأحجار أو الطوب على الميت، فيجعلون الإذخر يسد المسام والفراغ الذي بين الحجر والآخر، وقد يتعذر عليهم استعمال الطين خاصة وأنه لا يوجد هناك؛ لأن الأرض رملية.
إذاً: العباس رضي الله تعالى عنه طلب استثناء الإذخر لمصلحتهم وحاجتهم: الأولى: أنهم يضعونه في قبورهم.
والثانية: أنهم يضعونه في بيوتهم، وذلك حينما يسقفون بالخشب ويأتون بالجريد أو الأغصان ويضعون فوقها من الطين ما يحميها من الأمطار، فيكون بين الأخشاب فراغ، فيجعل الإذخر طبقة فوق الأغصان أو الجريد أو الخشب، ثم يوضع فوق ذلك ما يطلى به السقف من الطين.
الثالثة: قوله: (ولقيننا) واللفظ هذا موجود في بعض النسخ، القين: هو الحداد، وحاجة الحداد إلى الإذخر حينما يأتي بالحطب ليشعله ليذيب به الحديد، والحطب الكبير إذا أشعل فيه الكبريت لا يشتعل، فيحتاج إلى صغار الأغصان ودقائق النباتات، فيؤتى بالإذخر فيشتعل حالاً ثم توضع الأخشاب الكبيرة بعد ذلك، فنار الإذخر تحرق الأخشاب، وهكذا يكون وسيلة لإشعال الحطب، وإلا لما استطاع الحداد أن يشعل النار في الحطب الجزل، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم استثناء العباس، وعرف حاجتهم إليه؛ قال: (إلا الإذخر) .
وهنا مسألة: وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بعد السؤال مباشرة، أي: أنه لم يتربص مجيء الوحي ليجيبه عن هذا السؤال؛ بل أجاب حالاً، فهل تكون هذه الإجابة اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم؟ أم أن الوحي جاء سريعاً وأخبره بالحكم؟ فمكة حرام منذ أن خلق الله السماوات والأرض، لا يختلى خلاها، فهو استثنى من ذلك الإذخر، فيقول ابن دقيق العيد: يحتمل أن هذا اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم وقد أقره الله عليه، ويحتمل أن يكون الوحي قد جاء بسرعة؛ لأن الوحي إعلام في الخفاء، فيكون جبريل عليه السلام قد جاءه بالجواب.
وما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب العباس لحاجته، فهل كل ما نهى عنه رسول الله يباح للحاجة؟ قالوا: لا؛ لأن النص جاء باستثناء الإذخر بخصوصه، ولم يأت باستثناء الحاجة في الخشب لسقف البيوت، ولا لآلات البيت من النجارة وغيرها، ولم يأت باستثناء الخلاء للرعي، حتى قال بعض العلماء: الخلاء الرطب وهو المرعى الذي ترعاه الدواب لا يحل رعيه، ولكن أين يذهبون إذا كان عندهم دواب؟ يقال: هذا من نبت الله، المهم أنهم لا يعتدون.
إذاً: أعلن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة مكة، وأنها محرمة من قبل، وإنما أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت إلى يوم القيامة، ومن حرمتها أن يتجنب فيها قتل الصيد وتنفيره، وقطع شجرها، واختلاء شوكها، والتقاط لقطتها إلا لمنشد، وهنا يبحث الفقهاء فيمن ارتكب أحد هذه الأشياء المنهي عنها في الحديث السابق، فمن اختلى خلاها، أو اقتطع شجرها، أو نفر أو قتل صيدها، هل عليه في ذلك جزاء أم لا؟ من المعلوم أن المحرم إذا قتل الصيد {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] قالوا: وفي الحرم كذلك، فهناك لحرمة الإحرام خارج الحرم، وهنا لحرمة الحرم في الحج وفي غيره، للمحرم ولغيره، حتى قالوا في الشجرة الكبيرة فيها نعامة، والشجرة الصغيرة فيها شاة، قياساً على كبار الصيد وصغاره، ولكن لم أقف على نص مرفوع فيما يتعلق بجزاء النباتات والأشجار، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها ... )
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) متفق عليه] .
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة) هنا إسناد التحريم إلى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهناك إسناد التحريم إلى الله سبحانه وتعالى، والحديثان كلاهما صحيح، وقد جمع العلماء بين هذين الخبرين: بأن الله قد حرمها فعلاً يوم خلق السموات والأرض، وأخبر ملائكته بذلك، ولكن العمل بهذا التحريم لم يكن إلا زمن إبراهيم عليه السلام، فيكون تحريم الله سابقاً تكريماً، وتحريمه في زمن إبراهيم عليه السلام تعليماً، وإنما التكليف حصل بتحريم إبراهيم عليه السلام، أو أن إبراهيم أظهر تحريمها بعد أن نسيه الناس وتوالت عليه القرون الطويلة، والذي يهمنا أن حرمة مكة أمر مقطوع به.


حرمة المدينة المنورة وحرمها
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني -يسند النسبة إليه- حرمت المدينة) يقول بعض العلماء: إن حرمة المدينة قديمة أيضاً، وإنما أظهرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في تاريخ الهجرة ومعالمها أنه صلى الله عليه وسلم قال (أريت دار هجرتي أرضاً سبخة ذات نخيل، أُراها هجر أو يثرب) وهجر هي الأحساء حديثاً، ويثرب هي المدينة المنورة، ويذكر في أخبار الإسراء والمعراج أن جبريل عليه السلام في رفقته للنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى أنزله مرتين يصلي، ففي الأولى قال: (أعلمت أين صليت؟ قال: لا، قال: بيثرب، وهي المهاجر، والثانية في بيت لحم) إذاً: حرمة المدينة أو اختيارها إنما هو من ذي قبل، ولكن إعلان حرمتها إنما هو على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.


المفاضلة بين مكة والمدينة
وهنا ربما تناول بعض العلماء المقارنة بين مكة والمدينة بأن تحريم مكة من إبراهيم، فيكون هناك المقارنة بين ما حرمه إبراهيم عليه السلام وبين ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخلوا هذا في باب المفاضلة بين مكة والمدينة، واستدل بذلك من يفضل المدينة على مكة، وهنا ينبه -كما يقول العلماء- إلى أن الخوض في المفاضلة بين مكة والمدينة إنما هو إشغال وقت وإثارة شعور لا طائل تحته، إنما ينظر فيما هو أفضل للمهاجر والمقيم، هل الأفضل له أن يهاجر إلى مكة أم إلى المدينة؟ وهل الأفضل أن يقيم في مكة مجاوراً أم في المدينة مهاجراً؟ هناك قول لبعض العلماء وعلى رأسهم مالك: أن الهجرة والإقامة بالمدينة خير من الهجرة والإقامة بمكة، والبعض يستدل على أن الإقامة بالمدينة أفضل: بأن مكة تتضاعف فيها الحسنات وكذلك السيئات، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فيؤاخذ الإنسان في مكة بمجرد الإرادة ولو لم يفعل، أما المدينة فتضاعف فيها الحسنات ولا تتضاعف فيها السيئات، إن فضل الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، وهذا لا قول لأحد فيه، وهو صحيح بالإجماع، وجاء أن صوم رمضان في المدينة بألف، وجمعة في المدينة بألف، وهذان الخبران فيهما مقال.
وقد فضل بعض العلماء المقام في المدينة لأن الله اختارها مهاجراً لرسوله ومقاماً له، ثم كان فيها مثواه صلى الله عليه وسلم.


المقارنة بين حرمة مكة وحرمة المدينة
ونحن الآن نتكلم عن تحريم المدينة وليس عن تعداد فضائلها وخصائصها، فقد عدد بعض العلماء خصائص المدينة وأبلغها إلى حوالي مائة خصيصة، وهذا أمر يطول بيانه، لكن يهمنا تحريمه صلى الله عليه وسلم للمدينة، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرم آمن) ، فتسميته صلى الله عليه وسلم المدينة حرماً يرد على بعض العلماء المتأخرين الذين يقولون: لا يسمى حرماً إلا مكة، ولكن هذا صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المدينة حرم آمن، ثم بين صلى الله عليه وسلم حكم الحرم المدني كما بين حكم الحرم المكي بأنه لا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد، فذكر حرمة الخلاء والشجر في حرم المدينة إلا لحاجة علف دابته أو خشبه، فإن ذلك لا بأس به للحاجة، ومع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها، أو أن يقطع شجرها إلا لحاجة، أو أن ينفر صيدها، اتفق العلماء -إلا ما جاء عن بعض المالكية- أن من قتل بها صيداً فإنه لا جزاء عليه كجزاء صيد مكة، لكنه آثم بانتهاكه حرمة الحرم، ويعزر من جانب ولي الأمر، بل قال بعض العلماء: يسلب، أي: تؤخذ ثيابه، كما جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى غلاماً يصطاد في حرم المدينة فسلبه ثيابه، فأبى أهله وطلبوا رد الثياب إليه، فقال: (حاشا، طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أردها عليكم، إن شئتم أعطيتكم قيمتها فعلت، أما هي فلا) .
ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بأهلها خيراً، وبين أن من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله في النار كما يذاب الرصاص، أو أذابه الله كما يذاب الملح في الماء.
ثم حث صلى الله عليه وسلم وحذر من أحدث فيها أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإحداث الحدث يراد به عند العلماء: الابتداع، أي: أن يبتدع في دين الله في المدينة ما ليس من دين الله، أو يبتدع أمراً لم يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأملنا في ذلك فإننا نجد أن حرمة المدينة وتعظيم شأنها والحفاظ على أمر الدين فيها من ضروريات الدين؛ لأن مكة بحرمها كانت وما زالت مأوى المؤمنين؛ وهي دار السلم والسلام: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، ولما ضيق على المسلمين في بادئ الأمر واضطروا إلى الخروج إلى مكان آمن كانت المدينة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى المدينة أصبحت المدينة آنذاك عوضاً لهم عن مكة، وأصبحت العاصمة للعالم الإسلامي كله، يفد إليها الناس من مشارق الأرض ومغاربها؛ فكان لزاماً أن يبقى الدين كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أتى آتٍ من الآفاق وأراد أن يأخذ أحكام الدين وجدها نقية بعيدة عن أي الشوائب والعلائق.
وهكذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لكم تبع، ستفتح الأمصار، ويأتي إليكم رجال يطلبون العلم، فأقرئوهم وعلموهم) .
وقد اعتبر مالك رحمه الله أن عمل أهل المدينة حجة، وقد استدل به على أعمال عديدة لم يأت بها نص من الكتاب ولا من السنة، ولكن يستدل بمجرد عمل أهل المدينة -أي: عمل علمائها- ويقول: إنهم يأخذون ذلك خلفاً عن سلف، ويأخذونه كابراً عن كابر.
وقد جاء تطبيقاً لذلك أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله لما جاء مع هارون الرشيد إلى المدينة ولقي مالكاً رحمه الله، تذاكرا العلم وتدارسا في المدينة، وسأل أبو يوسف مالكاً عن الصاع، فقال: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فقال أبو يوسف: بل هو عندنا ثمانية أرطال، فقال مالك لجلسائه: من كان عنده صاع يؤدي به زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به غداً، ومن الغد اجتمعت عند مالك ما يقارب خمسين صاعاً، وكلهم يخبر عن أبيه أو عن أمه عن جده عن جدته أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو يوسف: فنظرتها فإذا بها كلها سواء، فأخذت واحداً منها وذهبت به إلى السوق، فعايرته بعدس الماش فإذا هو خمسة أرطال وثلث، فلما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث، قالوا: خالفت شيخ القوم -أي: أبا حنيفة رحمه الله- فقال: وجدت أمراً لم أجد له مدفعاً، أي: منقولاً عن ذاك العدد الكبير.
فكان عمل أهل المدينة وما ينقلونه عن سلفهم حجة، وكان ذلك عملاً لـ مالك، وقد أحصي ما في موطأ مالك مما هو مسند لعمل أهل المدينة دون أن يورد عليه آية أو حديثاً أو قول صحابي أو خليفة فوجد أنه يزيد على ثلاثمائة وثلاث عشرة مسألة، وقد قورنت هذه المسائل مع ما عند الأئمة الثلاثة فما اختلفوا مع مالك إلا في مسألة واحدة انفرد بها ولم يوافقه غيره عليها، وأما بقية المسائل فقد شاركه فيها غيره، فقد يتفق معه إما الثلاثة أو اثنان أو واحد، فكان ذخيرة للمسلمين أوردها مالك في موطئه ليس عليها نص من آية أو حديث، ولا يتأتى لإمام غيره أن يحصل عليها؛ لأنه أخذها مباشرة عن أهل المدينة المعاصرين له، وهم أخذوها عن أسلافهم فيما قبل.
إذاً: المدينة حرم آمن، وينبغي أن تظل بحرمتها إلى يوم القيامة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحفاظ على تلك الحرمة، وحذر وزجر ونهى من إحداث البدع فيها أو إيواء محدث.
ثم حث على الإقامة فيها، بل والموت فيها لمن استطاع، بل قال: (من استطاع أن يتخذ له أصلاً في المدينة فليفعل) أي: من سكن أو زراعة أو غير ذلك، وقال: (من مات بالمدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) ، قالوا: (شهيداً) فيمن حضره، و (شفيعاً) فيمن كان بعده.
ثم يذكر العلماء من الفضائل العديدة: أن أهل البقيع في المدينة أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة بعد القبور الثلاثة المشرفة، وهكذا دعوته صلى الله عليه وسلم بالبركة لأهل المدينة، ولأجل هذا ذكر المؤلف رحمه الله حرم المدينة وحرمتها بجوار ذكره لحرم مكة وحرمتها، وقد أشرنا إلى أن أحكام حرم المدينة كأحكام حرم مكة سواء بسواء، إلا أنه ليس فيه جزاء كجزاء مكة، إلا ما جاء عن بعض المالكية أنه رأى في حرم المدينة جزاء كجزاء حرم مكة.
وهناك حرم ثالث لا يطلق إلا بالقيد وهو: وادي وج، وهو وادٍ في الطائف، فيرى الإمام الشافعي رحمه الله أنه يطلق عليه حرم ولكن بملازمة الإضافة، فيحرم صيده، وله أحكامه المعلومة.


حدود حرم المدينة
حدود حرم المدينة بحث قديم متجدد، وقد أطال العلماء البحث فيه، ولكن كل ما يطرأ من بحث حول حدود الحرم فإنما هو لتحقيق المناط ولتبيين المراد، وإلا فقد أجمع المسلمون على مسميات حدود الحرم، والمجمع عليه في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين لابتيها) واللابتان: الحرتان، واللابة: الحرة، أي: الحجارة السوداء، والمدينة محاطة باللابتين الشرقية والغربية، وهي في الحقيقة حرة واحدة لكن لها طرفان: طرف في المشرق وطرف في المغرب، وجنوب الحرة قد يمتد ويوغل في الامتداد حتى يصل إلى المهد أو يزيد أو ينقص، فهي مدورة حول المدينة.
يقول النووي رحمه الله: إن الحد هنا داخل في المحدود، أي: أن اللابتين داخلتان في مسمى الحرم، والحرتان طرفان أو حدان للحرم شرقاً وغرباً، فالطرف الشرقي يمتد من وادي قناة وينزل إلى مسامتة ما يقرب من وسط جبل أحد، والطرف الغربي يمتد وينزل إلى قريب من طريق سلطانة إلى جبل أبي عبيد، وهو خلف المعهد المهني بقليل.
أما من الشمال والجنوب فقد جاء في الصحيحين: (المدينة من عير إلى ثور) وجبل عير موجود في منطقة ذي الحليفة، ولم يختلف أحد من المؤرخين في موضعه، وإن خالف بعض من كتب في ذلك ونفى أن يكون بالمدينة جبل يقال له: عير، أو جبل يقال له: ثور، وحمل الحديث على تقدير المسافة بين عير وثور بمكة، ولكن التحقيق الذي عليه العلماء وتناقله الناس خلفاً عن سلف: أنه يوجد في المدينة جبلان: جبل عير، وجبل ثور، وعير يقع في الجهة الجنوبية الشرقية من ذي الحليفة، أي: من مسجد الميقات، وهو مشهور لأهل المدينة جميعاً، فهذا حد الحرم من الجنوب، أما حده من الشمال فهو جبل ثور، وقد اختلف في مسمى هذا الجبل حتى قال البعض -كما ذكرنا-: لا يوجد في المدينة جبل يسمى: جبل ثور، ولكن المحققين أثبتوا ذلك وتناقلوه خلفاً عن سلف، وحقق المطري في تاريخه للمدينة وجود هذا الجبل، وقال: قد حققته بالمشاهدة، وكبار السن الموجودون الآن في تلك المنطقة يتناقلون أخباره وهو الذي يسمى: جبل الدقاقات، وهو يقع شمال الخط الجديد الذي يمر به، وبينه وبين الخط مسافة ميل، ويقول المؤرخون: إنه يقع شمال جبل أحد إلى الغرب، وهو أحمر مدور، وهو فعلاً على ما قالوا، وهو حد الحرم من الشمال، ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الروايات: (وجبل وعيرة) وجبل وعيرة: هو الجبل الذي بعد محطة الكهرباء الجديدة التي على خط المطار، وهو مسامت لجبل ثور من وراء أحد بالفعل.
وعلى هذا: فإن حرم المدينة الذي يحرم فيه الصيد إنما هو ما بين هذه المعالم الأربعة: الحرتان من الشرق والغرب، وعير وثور من الشمال والجنوب، وقد جاء في حديث أبي ذر وحديث أبي هريرة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حدد ذلك بالمسافة: بريد في بريد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف بالحساب الحديث، وعلى هذا يكون حدود الحرم إن اعتبرناه دائرة فيكون قطر الدائرة بريدان: بريد من الشرق وبريد من الغرب، وبريد من الشمال وبريد من الجنوب.
وبعضهم يقول: إن حدود الحرم من الجنوب الشرقي من البيداء وذات الجيش، والبيداء: هي التي يصعد إليها الحاج من ذي الحليفة، وقد قدم معنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل: أهل حينما سلم من صلاته في مصلاه، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحلته، ومن قائل: أهل بالبيداء، والبيداء ملاصقة لذي الحليفة، وبقربها أيضاً ذات الجيش، ومن جهة الشمال الحفياء، والحفياء تمتد خلف جبل ثور إلى مسافة ليست بعيدة، وأحكم الأقوال في ذلك والمتفق عليه بلا نزاع هو: بريد في بريد في بريد.


حكم قطع شجر حرم المدينة وقتل صيده
وعلى هذا يتعين على كل مقيم بالمدينة أن يحفظ هذا الحرم بحدوده، ولا يقطع الشجر إلى لحاجة، ولا يختلي خلاه إلا لحاجة، ولا ينفر صيده ولا يقتله، وإن قتله فهو آثم، ولكن لا عقوبة عليه.
والذين قالوا: لا عقوبة عليه، والذين قالوا: لا بأس بالصيد فيه - مع أنه مخالف للجمهور- استدلوا بقصة أبي عمير، وأبو عمير غلام لـ أبي طلحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشاه كثيراً، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوجد بيده طائراً يعرف عند أهل المدينة بالنغر، ولا يزال هذا الطائر موجوداً في البساتين إلى اليوم وله تغريد طيب في الصباح، فإذا به يلعب به، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم، وفي عودته وجد الغلام يبكي والطائر ميت في يده، فقال (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، فقالوا: هذا صيد في يد الغلام، فلم يطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رآه ميتاً لم يحمله صلى الله عليه وسلم جزاءه ولا قيمته.
وأجاب المانعون بأن هذا غلام، وليس على الغلام تكليف؛ فتركه صلى الله عليه وسلم، أو لعله أتى به من خارج الحرم، وهو في هذا خلاف حرم مكة؛ لأن من أدخل صيداً من الحل إلى حرم مكة أُجبر على إطلاقه، بخلاف المدينة.


دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة كدعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن إبراهيم دعا لأهل مكة) إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة بأدعية كثيرة، منها قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:126] وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] ودعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا زال أثرها باقياً حتى اليوم، فقد أوجد الله سبحانه وتعالى حب القلوب وهفوها وميلها ورغبتها إلى مكة، سواء استطاع الشخص أن يأتي أو لم يستطع، فكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها تجده يهفو قلبه إلى مكة، وكيف لا وهو في كل يوم خمس مرات على الأقل يتوجه إليها في صلواته، وقبلته الكعبة التي هي شرف مكة كما هو معلوم.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] ، فهو أمن لمن كان فيه، ومثابة للبعيد عنه، يأوي ويثوب إليه، أي: يرجع إليه، سواء يرجع إليه في لجوئه، أو يرجع إليه في هجرته، أو يرجع إليه في حجه وعمرته، أو يرجع إليه في صلواته كل يوم خمس مرات، فهذه بركة دعوة إبراهيم عليه السلام، قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126] يقولون: إنه توجد في مكة ثمرة الصيف في الشتاء، وثمرة الشتاء في الصيف، قال تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] .
وهذا خبيب رضي الله تعالى عنه لما أخذ أسيراً وبيع على أهل مكة لينتقموا منه لقتلى بدر، تقول المرأة التي حبس في بيتها: والله ما رأيت مثل خبيب، كنت والله أراه يأكل في يده قطف عنب، وما على وجه الأرض في ذلك الوقت من حبة عنب، أي أنه في غير أوانه، ولكنها كرامة لهذا الصحابي الشهيد الذي ضحى بنفسه، والذي أعلن مدى حبه للنبي صلى الله عليه وسلم ووفائه وفدائه له حينما قدم ليضرب عنقه، فقيل له: أتود أن محمداً مكانك تضرب عنقه وتكون أنت آمناً في أهلك؟ قال: لا والله، ولا أن يصاب بشوكة في قدمه وأنا في أهلي.
وهكذا كان فداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غائب من أن يشاك بشوكة في قدمه ويسلم من ضرب عنقه، ولذلك أكرمه الله في حال أسره أن جاءه بالعنب في غير وقت العنب وفي غير زمنه.
ونحن الآن نجد كل ثمرات العالم يؤتى بها إلى مكة والمدينة؛ من الشمال ومن الجنوب ومن الشرق ومن الغرب، من آسيا ومن أوربا ومن أفريقيا؛ فكل الثمرات تجبى إلى مكة والمدينة.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) ، وفي بعض الروايات: (ومثليه معه) وقد جاءت نصوص عديدة أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة، وسيأتي الحديث الذي يبين تعلق البركة في دعواته صلى الله عليه وسلم.


شرح حديث: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور) رواه مسلم] .
هذا اختصار من المؤلف رحمه الله تعالى لحديث علي رضي الله تعالى عنه، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء؟ أي: هل خصكم بشيء دون الناس؟ فقال علي: لا والله، إلا رجلاً أعطاه الله فهماً في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، قالوا: وما فيها؟ فأخرج سيفه وأخرج من غمده صحيفة مكتوب فيها: فكاك الأسير، ودية القتلى، وأنصباء الأموال في الزكاة، وهذا الأثر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام من عير إلى ثور) ، وهذا نص من علي رضي الله عنه، والمؤلف أخذ المعنى فقال: عن علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام من عير إلى ثور) ، ثم قال: رواه مسلم، والتحقيق أنه متفق عليه، فقد جاء في صحيح البخاري: (المدينة حرم من عير إلى كذا) بالكناية، ولم يصرح بلفظ (ثور) ، فأخذ العلماء من ذلك أن كلمة (ثور) ليست في صحيح البخاري، وقال البعض: الأصل: (المدينة حرم من عير إلى أحد) ، ولكن هذا غير صحيح؛ فقد جاء في البخاري: (من عير إلى ثور) ولكنه لم يذكره في بيان حرم المدينة، إنما الذي ذكره البخاري قوله باب: حرم المدينة من عير إلى كذا، ولم يصرح ما هو كذا، ولكن في باب الفرائض ذكر البخاري رحمه الله: ما بين (عير) إلى (ثور) ، وصرح رحمه الله بذكر (ثور) مقابل (عير) ، وهذا ما ينبغي التنبيه عليه؛ لأن ابن حجر رحمه الله أغفل ذلك وقال: لم يأت عن البخاري إلا: (عير وكذا) بينما هو موجود بالتصريح بلفظ (ثور) مع (عير) في باب الفرائض، فيكون لفظ (ثور) متفق عليه وليس قاصراً على رواية مسلم.
وبالله تعالى التوفيق.