شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [1]
حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة حجة واحدة، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، وهي التي سميت بـ (حجة الوداع) لأنه ودع فيها الناس، وفي هذه الحجة بين النبي صلى الله عليه وسلم للأمة مناسك الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فبين في حجته تلك أنواع الحج، وأركانه، وشروطه، وواجباته، وسننه، وكذلك بين فيها مفسدات الحج، ومحظوراته، ومكروهاته، وبهذا التبيين كمل دين الإسلام، وتمت نعمة الله على العباد.


شرح حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، فقال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به على البيداء أهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ] .
(صفة الحج ودخول مكة) يعنون العلماء في كتب الحديث لهذا الحديث بقولهم: حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث جابر الذي صدّر به المؤلف الباب هنا هو أوسع وأشمل رواية لحج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يرويها من بداية خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى نهاية الحج والعودة إلى المدينة.
وقد عني كثير من العلماء بهذا الحديث، بل وكتب فيه بعض السلف رسائل مستقلة، وقد ذكر النووي رحمه الله عن بعض السلف أنه استخرج منه ما يفوق المائة والخمسين قاعدة فقهية فيما يتعلق بالحج وبغيره، وجابر رضي الله تعالى عنه حدّث بذلك في الكوفة، حينما أتاه جماعة من التابعين وسألوه عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (فعقد تسعاً) والعقد هو: نوع من الحساب بالأصابع، وهو هنا أن يضم أصابعه العشر وينصب إبهام إحدى الكفين، أي: عشراً إلا واحدة، قال: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسعاً) أي: تسع سنوات، وفي العاشرة أعلم الناس أنه حاج، فاجتمع إلى المدينة خلق كثير، كلٌ يريد أن يأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية أعمال الحج، وسميت هذه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: في الإسلام، وما حج صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إلا تلك الحجة.


تسميات حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأسبابها
وتسمى حجة الإسلام وحجة الوداع وحجة البلاغ.
فسميت حجة الإسلام؛ لأنها هي الوحيدة التي أدى بها الفرض، وسميت حجة الوداع؛ لأنه ودع الناس فيها وقال: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وسميت حجة البلاغ؛ لأنه بلغ الناس في خطبه التي كانت في الحج وهي ثلاث أو أربع، بلغهم أصول الدين كله، وحقوق الإنسان مع أخيه، وحق الله سبحانه، وحق المرأة، وحق الملوك، وأشياء عديدة أوصاهم بها في تلك الخطبة.


بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل البعثة
وقد حج صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان في حجه ذلك مغايراً لما كان عليه أهل الجاهلية، وذلك أن أهل مكة كانوا يقولون: نحن الحمس، والحمس هم: خدَّام البيت، أو جيران البيت، أو سدنة البيت، فكانوا يقولون: نحن لا نخرج عن الحرم، وكانوا في يوم عرفة يقفون في المزدلفة ويقولون: لا نخرج عن حدود الحرم، ويقفون عند المشعر الحرام، وكان بقية العرب يذهبون إلى عرفات، فلما حج صلى الله عليه وسلم قبل البعثة اجتاز المزدلفة ومضى ووقف مع الناس في عرفات، حتى قالوا: ما بال هذا الرجل وهو من الحمس؟ أي: كيف نقف مع عامة الناس؟ فلم يقف صلى الله عليه وسلم مع قريش، وإنما ذهب ووقف مع عامة الناس واستمرت قريش على هذا إلى أن جاء الإسلام ونزل قوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ، فتركت قريش موقفها بالمزدلفة وصارت تقف في عرفات حيث يقف الناس، ويفيضون من حيث يفيض الناس.


عدد الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
وفي هذه الحجة التي يصفها جابر رضي الله تعالى عنه اجتمع فيها خلق كثير كما قال جابر: (كنت أنظر أمامي فلا يقطعهم البصر، وخلفي فلا يقطعهم البصر، وعن يميني وعن شمالي كذلك) قدر بعضهم ذلك بعشرة آلاف، وبعضهم بأربعين ألفاً وبعضهم أكثر، وبعضهم بأقل، ولكن جابراً قدر ذلك بمدى النظر، قال: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ينزل عليه الوحي، وهو أعلم به، ويفعل ما يوحى إليه، ونحن نأخذ عنه) .


سبب عناية العلماء بحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
وهكذا عني العلماء بهذا الحديث؛ لما فيه من التفصيل للجزئيات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشرت سابقاً أن ابن كثير رحمه الله في كتابه التاريخ في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم في أحداث السنة العاشرة من الهجرة اعتمد حديث جابر، ثم أتى بجزئيات من الأحاديث الأخرى، والروايات المتنوعة في أماكن أخرى تتمم وتبين ما أجمل في حديث جابر؛ لأنه هو الأصل عنده، ويعتبر ما أورده جابر منسكاً كاملاً وافياً، ولهذا فنحن سنمشي مع المصنف في حديث جابر، وإن كان قد اختصره في بعض المواطن، واكتفى بما يلزم من الضروري منه، وأشمل سياق لحديث جابر هو ما ورد في صحيح مسلم، حيث جاء بكل جزئياته وبما لم يأت به المصنف هنا.
وقوله: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه) .
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه) هذا موجز لما تقدم من أنه أعلن للناس أنه حاج، بل أرسل إلى القبائل قبل الحج: (إني حاج هذه السنة، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) ، فوافاه أناس بالمدينة، ووافاه أناس بالطريق، ووافاه أناس بمكة، كلٌ بما تيسر له بالنسبة لمقامه ومحل سكناه، فهو أعلمهم وبين لهم وواعدهم وهم توافدوا إليه.


الأولى للحاج الذي طريقه قريب من المدينة أن يبدأ بالمدينة
وقول جابر: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً فخرجنا معه) هذه الصحبة الكريمة التي يقتفون فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كثير من العلماء يقول: إذا كان للإنسان في حجه نية في الذهاب إلى المدينة وكان الطريق إلى المدينة أقرب فليبدأ بالمدينة؛ ليكون إهلاله وطريق حجه من حيث أهلّ وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان طريقه أقرب إلى مكة فليقدم الواجب الذي هو الركن وهو الحج، ثم بعد ذلك إن شاء ذهب إلى المدينة.


حكم تلبيد الشعر للمحرم
في حديث جابر وفي غيره: (خرج رسول الله) ، (حج رسول الله) يبين الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج تجرد من ثيابه، واغتسل، وادهن، ولبد شعره، ولبس إزاره ورداءه، يقول بعضهم: لبد شعره ببعض الزيت، ويقول بعضهم: لبد شعره بالعسل، أي: ليجتمع الشعر ولا يتشعث مع الهواء، فيكون موضع الغبار والقذى ونحو ذلك، ثم خرج صلى الله عليه وسلم ولم ينو ولم يلب.


قصر الصلاة للمسافر يبدأ بعد خروجه من أطراف بلده
بعد ذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في المسجد النبوي الشريف أربعاً، أي: أنه لم يشرع في قصر الصلاة من مكانه وإن كان على سفر طويل؛ لأن السنة في قصر الصلاة للمسافر أن شروعه في القصر يبدأ بعد أن يغادر أطراف القرية التي خرج منها، ويستدلون لذلك بكون علي رضي الله تعالى عنه حينما كان خارجاً من الكوفة في سفر صلى الظهر أو العصر أربعاً، فقيل له: ألسنا مسافرين، ألا نقصر الصلاة؟! قال: (لولا هذا الخصيِّص لقصرت الصلاة) .
والخصيِّص تصغير الخص، وهو: عبارة عن عشة أو غرفة من الأعشاب والجريد وأغصان الشجر، فجعله علي رضي الله تعالى عنه تابعاً للقرية، ولا يقصر الإنسان الصلاة إلا بعد أن يغادر معالم القرية وتوابعها، وهكذا فعل هنا صلى الله عليه وسلم.
وبهذه المناسبة يرى بعض الناس أن المسافر بالطائرة إذا وصل إلى مطار المدينة النبوية مثلاً، فإنه يقصر، ويرى أنه خارج عن حدود المدينة، والواقع أن المطار اليوم يعتبر جزءاً وضاحية من المدينة النبوية؛ لاتصال البنيان أكثر المسافة، ولوجود الخدمات التي تمتد إليه من المدينة، من ماء وكهرباء وطرق وغير ذلك، فالأولى أن لا يقصر الإنسان في هذا المطار في أول سفره، والله تعالى أعلم.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تجرد واغتسل وادهن، ولبس الإزار والرداء، وصلى الظهر بالمسجد النبوي أربعاً، فلما أتى ذا الحليفة جاء وقت العصر فصلاها ركعتين، وذا الحليفة هي التي تسمى عند العامة: آبار علي، والمسافة بينها وبين المدينة معروفة، وليس هناك اتصال عمراني متشابك من المدينة إليها.
وفيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر ركعتين، وبات كذلك بذي الحليفة، وكان معه نساؤه التسع، فطاف عليهن واغتسل عند كل واحدة منهن، ثم في ضحوة النهار اغتسل لإحرامه.


متى يبدأ الإهلال والتلبية؟
ثم بعد ذلك صلى الظهر وأحرم ولبى قيل من مجلسه الذي صلى فيه، وقيل: بعد أن انبعثت به راحلته، وقيل: حينما استوى على البيداء، كما في حديث جابر هنا: (أتى إلى ذي الحليفة، فلما أتى البيداء أهلّ) .
والإهلال هو: رفع الصوت بالتلبية، وهو مأخوذ من الهلال، وهو القمر في أول ظهوره، لأنهم كانوا إذا أهل الشهر وطلع الهلال ورأوه رفعوا أصواتهم إعلاماً بوجود الهلال وبدخول الشهر الجديد، فصار الإهلال مأخوذاً من رفع الصوت بالتلبية، ثم صار يطلق على كل من رفع صوته، يقال: هلل أي: رفع صوته بما يتكلم به، فأهل بمعنى رفع صوته بالتلبية.
وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الذي في صفة الإحرام قالت: (منا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة معاً) وفي بعض روايات حديث جابر هنا: يقول صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت البارحة -يعني: في الليل- وقال: صل بهذا الوادي المبارك) ولذا يقال له: الوادي العتيق، والوادي المبارك، وقد نزله كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى وبات فيه كما تقدم، ثم أهل ووبيص المسك يظهر في مفرق رأسه، كما جاء عن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، قيل: بم كنت تطيبينه؟ قالت: بأطيب الطيب) ، وتقول: (وكنت أرى وبيص المسك في مفرق رأسه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام) ، أي: بعد ثلاثة أيام من إحرامه.


وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ووصوله إلى مكة
يتفق العلماء على أن خروجه كان لخمس بقين من ذي القعدة، يعني: يوم خمسة وعشرين من ذي القعدة، وماذا يوافق من أيام الأسبوع؟ يقول بعضهم: يوافق يوم الجمعة وهذا هو قول ابن حزم وقد ردوا عليه، ومنهم من يقول: يوافق يوم الخميس، وأكثرهم يقول: إنه كان يوم السبت، وأياً كان من الأيام، فالذي يهمنا من الناحية الزمنية أنه خرج من المدينة في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، ووصل مكة لأربع خلون، ويعبرون ببقين أو خلون، وبقين يعني: في آخره، وخلون يعني: من أوله، ووصل مكة لأربع خلون -يعني: مضين- من ذي الحجة، فكانت الفترة الزمنية التي قطع فيها المسافة من المدينة إلى مكة تسعة أيام، خمسة أيام من ذي القعدة، وأربعة أيام من ذي الحجة.


جواز الإهلال بأحد الأنساك الثلاثة
وفي قول عائشة رضي الله تعالى عنها: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج، فمنا من أهل ... ) ، وبينت أنواع الأنساك الثلاثة فمن أراد أن يهل بالعمرة متمتعاً أهل، ومن أراد أن يهل بالحج مفرداً أهل، ومن أراد أن يهل بهما معاً أهل، ولم يعب بعضهم على بعض، وتركهم صلى الله عليه وسلم إلى أن أتى مكة وطاف وسعى، وهناك كان أمر جديد.


ما يشرع للمرأة إذا حاضت أو نفست قبل أن تحرم وبعد أن تحرم
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (حتى إذا أتينا ذا الحليفة، ولدت أسماء بنت عميس) وهي زوج أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولدت له محمداً، وهي في تلك الحالة مقبلة على الإحرام، فتساءلت: ماذا تفعل؟ لأن المحرم يذكر الله ويصلي ويطوف، والحائض ممنوعة من ذلك، والنفساء مثل الحائض، فماذا تفعل؟ وهل يصح منها الإحرام وهي نفساء أو لا يصح منها؟ فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية في الموطأ: (فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلاً: إن أسماء نفست، فماذا تفعل؟ فقال: مرها فلتغتسل ولتستثفر بثوب ولتهل) وفي القاعدة الأصولية: (الآمر للآمر آمر للمأمور) فهل يا ترى! تنطبق هذه القاعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: (مرها فلتغتسل) وهل يكون الأمر لـ أبي بكر أو لـ أسماء؟! الصحيح عند الأصوليين أن الأمر لـ أسماء وإنما جاء من طريق أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومثل هذا ما جاء في قضية عبد الله بن عمر لما طلق زوجته وهي حائض، فأخبر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له: (مره فليراجعها) فراجعها عبد الله بن عمر إلى آخر الحديث.
ومن هنا نعلم أن الحيض والنفاس لا يمنعان المرأة من أن تهل بالحج أو بالعمرة، أي: من أن تهل بنسك، ولها -كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها- أن تصنع كل ما يصنعه الحاج، غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فتلبي مع الناس، وتذكر الله مع الناس، وتحمد وتسبح وتهلل وتفعل كل ما يفعله الحاج، إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وكذلك إذا وصلت إلى مكة لا تسعى حتى تطهر؛ لأن السعي لا يكون إلا بعد طواف مشروع، والطواف المشروع لا يكون في حالة الحيض أو النفاس، إذاً: لا تسعى؛ لأن السعي مرتب على الطواف، والطواف مرتب على الطهر.
وقوله: (مرها فلتغتسل ولتستثفر) الثفر في الأصل هو: الحبل الذي يوضع تحت ذنب البعير ليمسك الرحل من أن يتزحزح إلى الأمام، وكذلك صورة ما تفعله المرأة فهي تشد على نفسها مثل الحزام، ثم تأخذ خرقة، فترم بها بين فخذيها وتربطها من الخلف ومن الأمام، ليكون ذلك مانعاً من تساقط الدم عليها أو على الأرض، خاصة في المسجد، وليبقى الدم في محله ولا تتلوث به أو ينجس ثيابها أو بدنها، فأرشدها صلى الله عليه وسلم إلى ما تعمله تحفظاً من دم النفاس.
ودم النفاس كما يقول العلماء: لا حد لأقله، وأما أكثره فيختلفون فيه ما بين الأربعين يوماً وبين الخمسين يوماً، إذاً: المسافة طويلة، ولكن متى ارتفع الدم عنها ولو بعد ساعة أو يوم أو أسبوع فعليها أن تغتسل؛ لأنها قد أصبحت طاهرة، ولها كل ما هو للطاهر التي لا حدث عليها، وهنا مضت أسماء مع الحجاج.
وهكذا فقد أخذت قضية الحيض والنفاس حيزاً في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله! من حكمة الله أن تقع تلك الأحداث في صحبة رسول الله وفي بيته، فهذه أسماء زوج الصديق، والصديق مع رسول الله دائماً كما نعلم جميعاً، وبيتهما كأنه بيت واحد، وحينما جاءوا إلى سرف في أثناء الطريق حاضت عائشة، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال لها: (ما يبكيك لعلك نفست؟! -لأن الحيض يسمى نفاساً أيضاً، للتنفيس بخروج الدم- قالت: نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء) وفي هذا رد على من يقول: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل فنقول: لا، هو موجود في بنات حواء عموماً؛ لأن الخلقة للمرأة من حيث هي أنها تحيض، وهذا كما يقال: دورة الرحم الشهرية، وأما دورة الرحم السنوية فهي بالحمل.
وقوله: (قولي: لبيك اللهم! حجة في عمرة) لأنها كانت قد أهلت من ذي الحليفة بالعمرة، وبكت لأن الوقت قصير، ومن سرف إلى مكة مرحلتان، والوقوف بعرفة قريب، وليس عندها مدة تطهر فيها قبل الصعود إلى عرفات، فلا تتمكن من إتمام عمرتها، فبكت لهذا السبب، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لا عليك قولي: حجة في عمرة) يعني: حتى تصيري قارنة، وهكذا الحيض الذي يطرأ على الإحرام لا ينقضه ولا يتعارض معه، بل تمضي المرأة في إحرامها وإن طرأ عليها حدث الحيض أو النفاس، كما أنه في بداية إحرامها لا يمنعها الحيض ولا النفاس من عقد الإحرام.
وفي نهاية الحج بعد النزول من عرفات، وحينما أراد صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة كانت نوبة صفية في ذلك اليوم، فسأل عنها، فقالت عائشة: إنها حائض، فقال: (عقرى حلقى، أحابستنا هي) يعني: أننا سننتظر حتى تطهر لتطوف بالبيت طواف الإفاضة، فقالوا له صلى الله عليه وسلم: إنها قد طافت، يعني: طافت قبل أن تحيض، قال: (فانفروا إذاً) فبين صلى الله عليه وسلم حكم حيض المرأة في بداية الإحرام عند الميقات، وفي أثناء الطريق بين الميقات ومكة، وفي نهاية الحج قبل الطواف بالبيت طواف الإفاضة، وبهذا اكتملت دورة معالم حيضة المرأة بالنسبة لإحرامها.


حكم التلبية ورفع الصوت بها وصفتها ووقتها
ولما صعد على البيداء أهل ولبى، وفي بعض الروايات: (أهل بالتوحيد) لأن التلبية في الحج هي بمثابة الأذان في الصلاة، وكل منهما يرفع فيه الصوت إلا المرأة لا ترفع صوتها، وقد جاء الحديث في رفع الصوت قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) .
وصيغة التلبية هي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هذا لفظ حديث جابر في بيان تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويذكر بعض العلماء زيادة عن عبد الله بن عمر: (لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل) ، ويذكر بعض العلماء أن الإنسان بعد التلبية يسأل الله المغفرة، ويسأله الجنة، ويستعيذ به من النار إلى غير ذلك من المسائل التي يحرص عليها المسلم عقب كل قربة إلى الله سبحانه.
وأما حكم هذه التلبية فيقول بعضهم: هي ركن في الحج ولو مرة، وبعضهم يقول: هي واجبة، ولا خلاف في ذلك، فمن قال: إنها ركن نظر إلى النية؛ لأنه في التلبية قد أهلّ بحج، يعني: نوى الحج، فإذا اعتبرنا أن التلبية في أول الأمر نية للنسك فهي ركن ولا شك في هذا، وإن اعتبرنا أن النية محلها القلب وإنما التلبية إظهار وبيان لنوع النسك الذي اختاره الملبي، فتكون واجبة، ويقولون: للإنسان أن يلبي أو يسبح أو يكبر إلى أن يأتي البيت ويرى الكعبة، فإذا رآها قطع التلبية؛ وذلك لأن معنى التلبية السمع والطاعة والإقامة على طاعة الله، كما يقال: لبى بالمكان بمعنى أقام فيه، وتكون جواباً للنداء، فإذا ناديت وقلت: يا زيد! فإنه يقول: لبيك، أي سمعت وأطعت وأنا مقيم ومستديم على طاعتك، فإذا كانت (لبيك) إجابة للداعي، والحاج إنما خرج مجيباً للداعي الذي دعاه وهو في عالم الذر، والداعي هو إبراهيم كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] فنادى إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس: (أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) وقد سأل إبراهيم ربه فقال: (يا رب! أنا إذا ناديت أين يبلغ صوتي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ) ، وأبلغ الله سبحانه نداء إبراهيم إلى كل من أراد الله له الحج إلى يوم القيامة، فأجابوا وهم في عالم الذر في أصلاب الآباء، ومن لبى النداء مرة حج مرة، ومن لبى أكثر حج بعدد ما لبى نداء إبراهيم عليه السلام، فحينما تقول: (لبيك) فأنت تجيب الداعي، والداعي هنا هو قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] فأنت الآن تجيب حينما جئت إلى عالم الوجود، وكلفت وأردت أن تؤدي ما عليك من فريضة الحج.
وقوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك) هذا هو التوحيد وهو بمعنى: لا إله إلا الله، وقد كان العرب في الجاهلية يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فإذا كان هو لله، والله يملكه وهو لا يملك شيئاً، فلماذا تعبدونه؟ اتركوه وأخلصوا التلبية لله وحده، لكن هكذا كانوا يقولون، وهكذا نقل إلينا.
وقوله: (إن الحمد والنعمة) الحمد هو: الثناء على المحمود لكمال ذاته، لا بشيء يصدر منه إلى الحامد، واللغة فيها الحمد، وفيها الثناء، وفيها الشكر، وكلها ثناء على المحمود والمثنى عليه والمشكور، إلا أن الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته ولو لم يصلك منه شيء، وكمال الذات ليس إلا لله سبحانه وحده، وليس في الكون ولا في المخلوقات من هو كامل لذاته، بل هو مكمَّل من غيره، ولابد أن فيه جانب نقص، حتى الرسل أقل ما يقال فيهم: أنهم ماتوا، والموت نقص، والمولى سبحانه وتعالى حياته دائمة باقية.
والحمد هو: الثناء على الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقولون: (أل) في قولك: الحمد لله للاستغراق، أي: تستغرق جميع المحامد التي يمكن أن يحمد الله تعالى بها وتكون لله وحده، والثناء يكون على حسن فعال المثنى عليه، كأن يصنع شيئاً ويبرز فيه، مثلاً: رأيت عمارة جيدة، وأعجبك التصميم والتنسيق الذي فيها فأثنيت على المخطط لها أو المنفذ لها لحسن فعاله لا لكماله في شخصه، ولكن لحسن فعله ولو لم يأتك منه شيء، ومثله لو اخترع إنسان دواءً نافعاً، أو جهازاً صالحاً للناس، أو خدمة للناس، فتثني عليه لحسن فعاله ولو لم يأتك منه شيء.
وأما الشكر فهو يكون في مقابل ما يصل إليك ممن تشكره، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فتشكر الله على نعمة العافية ونعمة الرزق ونعمة العلم ونعمة التوفيق، وعلى كل ما جاءك من الله من النعم، وكذلك تشكر زيداً؛ لأنه خدمك في كذا، أو ساعدك في كذا، فتشكره مقابل ما أسدى إليك من النعم، فتشكر الشخص على ما أتاك منه من خير، وتثني على الشخص على ما يفعله من حسن فعال، ولو لم يكن لك، وتحمد ولا يكون الحمد إلا لكمال الذات، ولا يكون ذلك إلا لله.
وقوله: (إن الحمد والنعمة) النعمة هي: كل ما فيه نعومة: كالعيش والرخاء والصحة والمال، كل ذلك فيه نعومة الحياة؛ لأن الشخص إذا توفرت له الأموال توفر له الغذاء، واكتملت له الصحة، وكانت حياته ناعمة، بخلاف ما إذا كان في شظف من العيش، أو كان في مرض، أو كان في شدة فحياته تكون خشنة، فالنعمة من النعومة التي يطمئن إليها الإنسان، ويركن إليها ويستريح بها، وكل ما في الوجود من نعمة فهي من الله كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] وقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] أي نعمةٍ؛ لأن النكرة إذا أضيفت إلى معرفة دلت على العموم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] و (من) هنا جاءت قبل النكرة للتعميم، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ، فهي تفوق الحد وتفوق الحصر، والإحصاء مأخوذ من الحصر: كالعد من واحد واثنين وثلاثة إلى ما لا نهاية، فإذا جاء الإنسان ونظر في شخصه فقط، وفيما أنعم الله عليه في ذاته وفي تكوينه من بصر وسمع وتذوق وحركة فلن يستطيع أن يحصي هذه الفضائل والنعم التي أنعم الله تعالى بها عليه.
وهنا قال: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) أي: إن كمال الذات لا يساويك يا رب! فيه أحد ولا شريك لك في ذلك، وكذلك في نعمك على خلقك ليس هناك من هو شريك لك في الإنعام، فالحمد والنعمة لك، والملك لك تتصرف فيه كيف شئت لا شريك لك.
وهنا يقال: إذا أعلنت على ملأ العالم، وسمع وشهد الحجر والشجر والمدر والجن والإنس أنك تقر بأن الحمد والكمال لله سبحانه، وأن كل نعمة على منعم عليه بها فهي لله لا شريك له، فهل يليق بك أن تتوجه بعد ذلك إلى غير الله بتزلف أو ثناء، أو بطلب أو باستعانة، أو برغبة فيما عنده؟! هذا الذي تتوجه إليه هو من مخلوقات الله، وكل ما عند المخلوق نعمة من الله، فلماذا تذهب إلى هذا المخلوق الذي أنعم الله عليه، ولا تذهب إلى المنعم سبحانه؟ ولهذا فإن في التلبية تجديد التوحيد لله سبحانه وتعالى.
وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هكذا ذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه صيغة التلبية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الطويل.
وقد أشرنا إلى أن ابن عمر كان يزيد: (لبيك وسعديك، والملك كله بيديك، والرغباء إليك والعمل) (الملك كله بيديك) فلماذا تسأل مخلوقاً هو نفسه من ملك الله؟! (والرغباء) أي: الرغبة إليك، لا نرغب إلى غيرك؛ لأنك أنت بيديك الخير وغيرك محتاج إليك، (والعمل) أي: نعمل العمل خالصاً لك وليس لغيرك.
وبالنسبة للتلبية يقول الفقهاء رحمهم الله: ليستمر الحاج في التلبية، كما نقول: مثل الشريط المسجل: لبيك لبيك لبيك طول الوقت، ويقولون: لا يتركها بالكلية، ولا يشغل جميع أوقاته بها فيشق على نفسه، وقالوا: يحسن به أن يجدد التلبية عند كل تجدد حال له، فكلما تجدد له حال جدد التلبية، فمثلاً: إذا كنت تمشي فأدركت ركباً فهذا حال جديد، فأعلن التلبية، وإذا وجدت أمامك وادياً منحدراً فنزلت هذا الوادي فهذا أمر جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا صعدت من الوادي إلى مرتفع فهذا حال جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا نزلت منزلاً للمقيل أو للطعام أو لشيء من ذلك فهذا حال جديد فجدد التلبية، وإذا أردت أن ترحل من هذا المكان فهذا حال جديد فجدد التلبية، وهكذا تكون التلبية عند كل حال متجدد للحاج أو للمعتمر.
وتستمر التلبية كما أشرنا مع المعتمر إلى أن يرى الكعبة، ثم بعد ذلك حينما يحرم في يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) عليه أن يجدد التلبية لحجه إلى أن ينزل من عرفات إلى المزدلفة وإلى أن يصل إلى منى، ويصل إلى جمرة العقبة.


حكم المبيت والاغتسال بذي طوى قبل دخول مكة
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم أتى مقام إبراهيم فصلى، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا) ] .
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (حتى إذا أتينا البيت) وقبل إتيان البيت في حديث جابر وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مجيئه من المدينة إلى مكة حينما وصل مكة لم يأت إلى البيت مباشرة، بل بات بذي طوى، وهو المكان المسمى الآن بأبيار الزاهر، وهو معروف إلى الآن بـ (أبواب الزاهر أو بأبوار الزاهر) ، وكان مسمى بذي طوى سابقاً، فبات واغتسل لدخول مكة، ولما أصبح دخل إلى مكة نهاراً، وهنا يقول العلماء: من تيسر له المبيت والغسل في هذا المكان فبها ونعمت، وإن لم يتيسر له المبيت وتيسر له الغسل فبها ونعمت، وإن تيسر له المبيت ولم يتيسر له الغسل فبها ونعمت، يعني: أيهما تيسر له من الأمرين إما المبيت وإما الاغتسال فليفعله، والاغتسال يكون تكريماً لمكة، ومن هنا قالوا: إن على المحرم أغسالا ًمسنونة وهي: الغسل لإحرامه، والغسل لدخول مكة، والغسل للوقوف بعرفات، فهذه الاغتسالات مسنونة في الإحرام، وهي للإحرام وليست للنظافة أو للرفاهية، ولكن من أجل النسك ومن أجل المكان.
فإن لم يتيسر للإنسان المبيت بذلك المكان، ولأن الحال الآن قد تغير عن ذي قبل، فإذا لم يتيسر له فليعمد إلى مكة وإلى مقر سكناه، فإذا وصل واستقر في موطن سكناه إن تيسر له أن يغتسل فبها ونعمت، وإن لم يتيسر له فعليه الوضوء حتى يأتي إلى الكعبة للطواف وهو على طهارة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
والحمد لله رب العالمين.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [2]
شعار المرء المسلم إذا أمره الشرع أو نهاه السمع والطاعة، والرضا والتسليم سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر، وسواء عقل المعنى أو لم يعقل.
ومن تلك الأوامر التي يجب السمع والطاعة فيها استلام الحجر الأسود وتقبيله، فاستلام الحجر الأسود وتقبيله ليس لحجريته ولا لذاته، وإنما هو لامتثال أوامر الشرع.


بيان العمل الذي يعمله المحرم إذا وصل إلى البيت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) ] .
لما وصل إلى البيت أي: بعد ما كان منه من مبيت واغتسال أتى البيت، وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله لتعظيم هذا البيت وتشريفه وتكريمه، وبعض الفقهاء يقول: يدخل الحاج الآن من باب السلام، وأما في ذلك الوقت فلم يكن هناك باب السلام ولا باب الرحمة ولا غيرهما؛ لأنه لم يكن هناك بنيان على المسجد، وإنما كان الناس يطوفون حول الكعبة، والبيوت من حولها تطوقها عن بعد، ثم بني المسجد بعد ذلك.


من أين يبدأ الطواف؟
وقوله: (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) أي: الحجر الأسود، وهو نقطة البداية؛ لأن الطواف حركة دائرية حول الكعبة، والحركة الدائرية تكون البداية فيها من قطر الدائرة، فإن بدأت من الركن اليماني فسوف تنتهي بالركن اليماني، وإن بدأت بالركن الشامي الأيمن أو الشامي الأيسر، فسوف تنتهي الدائرة أو الشوط عند نقطة البداية التي بدأت منها، ولكنه صلى الله عليه وسلم قد حدد نقطة البداية في الطواف.
إذاً: أيّ نقطة في الدائرة يصح منها البداية للشوط، ولما كانت جميع النقاط صالحة للبداية خص صلى الله عليه وسلم منها نقطة، وفي هذا ترجيح بعض المتساوي على بعض ليتعين البداية به، وما دام أنه قد بدأ صلى الله عليه وسلم بالركن فيتعين البداية بالركن، ومن بدأ مثلاً: بالركن اليماني فلا يحتسب له ما بين الركن اليماني والحجر الأسود في هذا الشوط، ويكون بداية شوطه من الحجر.


كيفية استلام الركن وحكمه
فجاء (واستلم الركن) والاستلام إنما هو للحجر الأسود؛ لأنه في الركن، كما هو معلوم للجميع، وأما كيفية استلام الركن فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم بيان ذلك أنه استلمه ووضع كفيه عليه وقبّله بدون صوت، فإذا تيسر للإنسان ذلك فبها ونعمت، وإذا لم يتيسر له ولمسه بيده عن بعد قبّل يده، وإذا لم يتيسر له وكان بيده محجن أو عود أو شيء ولمس بالعود طرف الحجر قبّل الجزء الذي لمس الحجر من ذلك العود أو القضيب أو نحوه، حتى ولو بطرف الغترة إذا كنت بعيداً وأعطيتها لشخص قريب من الحجر وقلت له: مس بهذه الغترة الحجر، فإذا مسها أخذتها وقبّلتها، وإن لم يتيسر هذا أشرت بيدك وكبّرت ومضيت في طريقك.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الزحام عند الحجر، قال لـ عمر رضي الله عنه لما قال: (كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية فماذا أفعل؟ فقال: أوف بنذرك، ثم لما أراد الذهاب، قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول: إن الضعيف والقوي لا ينبغي أن يزاحما؛ لأن القوي يؤذي غيره، والضعيف يتأذى بغيره، إذاً: لا حاجة إلى الزحام، وإن كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه له في ذلك رأي آخر، ولكن رأي الجمهور وحث النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى، وخاصة مع ما نشاهده الآن من مزاحمة النسوة على استلام الحجر أشد من مزاحمة الرجال، وهذا ما أنزل الله به من سلطان، ولا يحق للمرأة -كما يقولون- أن تهدم مِصراً لتبني قَصراً، أتريد أن تصل إلى فضيلة تقبيل الحجر على أكتاف الرجال؟!! فلا ينبغي لها هذا أبداً، وكذلك يجب على الرجل الذي معها أن يحدها وأن يمنعها عن مثل هذا الزحام الذي لا يليق بحرمة المرأة، وخاصة تحت جدار الكعبة.
إذاً: لا ينبغي الزحام على الحجر، لا من رجل ولا من امرأة، لا من قوي ولا من ضعيف.
وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حينما قدم إلى الركن ليقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ، يقولون: جاء في رواية -الله أعلم بصحتها-: أن علياً سمع قول عمر، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه يضر وينفع؛ لأنه يأتي يوم القيامة له لسان وعينان، يشهد لكل من استلمه) ، ويذكر العلماء في هذا آثاراً عديدة منها: (الحجر يمين الله في أرضه) ومنها: (الحجر نزل من الجنة) وتاريخ الحجر طويل.
ويهمنا هنا قول عمر: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع) فيه ما يرد به على أولئك الذين يشككون ويوردون شبهة وهي: أنهم يقولون: الإسلام ينهى عن تعظيم الأحجار، ويحطم الأصنام، ثم يقول: قبلوا حجراً! فما الفرق بين هذا الحجر وبين الصنم؟ ويوردون بهذا تشكيكاً على بعض الناس، ومن الأسف كل الأسف أني وجدت من يتصف بالعلم قدم من الآفاق، وطاف بالبيت وامتنع عن استلام الحجر، وقال لي من يصحبه: أنا لا أؤمن أو لا أوقن بمشروعية تقبيل الحجر بعد أن حطمت الأصنام، وهذا تحكيم للعقل، والعقل يقتضي أيضاً الإيمان بالله وبما جاء عن رسول الله؛ لأن سيد الخلق الذي حطم الأصنام بقضيب في يده جاء وقبّله، أي: لبيان الامتثال لأمر الله سبحانه.
ثم لنعلم أيها الإخوة! أنه صلى الله عليه وسلم عندما طاف بالبيت واستلم، وجاء إلى مقام إبراهيم وصلى ركعتين سنة الطواف، ماذا قرأ فيهما؟ قرأ بالتوحيد، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] فكأنه بعد أن قبّل الحجر واستلمه يعلن بأن الله واحد أحد، وأنه ما قبّل الحجر عبادة له، وما قبّل الحجر تعظيماً لحجريته، وإنما قبّله امتثالاً لأمر الله، ولسان حاله أنه يقول: يا أيها الكافرون! أنتم في دين وأنا في دين، وأنا بعيد عنكم وأنتم بعيدون عني كما قال تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] أي: فلم أقبّل الحجر كما تقبلون أنتم، وهكذا تأتي سورة الكافرون، وسورة الإخلاص في ركعتي الطواف رداً على هذه الشبه مسبقاً من ذلك التاريخ.


استحباب الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى وسبب ذلك
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً) ] .
يقول جابر رضي الله عنه في إيراد حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خرجنا مع رسول الله إلى أن قال: ثم أتى البيت) ، والبيت أي: الكعبة، (واستلم الركن) والركن هو: الذي فيه الحجر الأسود، وقد تقدمت الإشارة إلى كيفية الاستلام، والصورة الأكمل في الاستلام هو أن يضع الشخص كفيه على الحجر ويقبل الحجر من بين الكفين، وبعد ذلك يمسحه بيده ويقبل يده، أو يمسحه بواسطة ثوب أو عصا أو نحو ذلك، ويقبل تلك الواسطة، فإن لم يتيسر له لا هذا ولا ذاك فيشير ويمضي ولا يقبل يده.
وكذلك يستلم الركن اليماني إلا أن الركن اليماني ليس فيه تقبيل، والخلاف إنما هو إذا لم يتيسر له أن يستلمه، فهل يشير إليه بيده كما يشير إلى الحجر أو لا؟ البعض يرى الإشارة إليه إذا لم يتيسر له استلامه بيده.
يقول جابر رضي الله عنه (فرمل ثلاثا) ً الرمل هو: مشي سريع ببطء، بمعنى: أن يكون سريع الحركة بطيء الانتقال، يعني: أنه يمشي بخطىً متقاربة، في صورة الجري ولكن بدون إسراع، كما لو كان الإنسان معه طفل صغير والطفل يجري، فهو يريد أن يجري معه، لكن لا بخطىً واسعة بل بقدر جري الطفل، كان للرمل سبب في مشروعيته، وقد استمرت هذه المشروعية بعد انتفاء السبب، وبقي هذا العمل تسجيلاً لذلك السبب لما له من عظيم الأهمية، ولهذا دائماً نقول: إن جميع أعمال الحج هي تاريخ ومواعظ وإرشاد، وبيان لما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، والسبب هو أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهب معتمراً في عمرة الحديبية، وقد رأى صلى الله عليه وسلم قبلها رؤيا أنه يأتي البيت معتمراً، فأخبر أصحابه بذلك وخرج في ألف وأربعمائة رجل، فلما سمعت بهم قريش واجهتهم على حدود الحرم ومنعتهم من الدخول، وصدتهم عن البيت، ثم جرت المفاوضة بين الطرفين على أن يرجعوا من عامهم هذا، فتحللوا في مكانهم، وعظم ذلك على المسلمين، وتم الاتفاق على أنهم يأتون من عام قابل ويعتمرون وتخلي قريش لهم مكة ثلاثة أيام، على أن يدخلوا بغير سلاح القتال، ولكن بسلاح المسافر وهو السيف في قرابه.
فخرج صلى الله عليه وسلم من العام الثاني الذي بعده على هذا الاتفاق، ولكنه أخذ معه سلاحاً كافياً، وأودعه قبل مكة، وأقام عليه الحراس، تخوفاً من غدر قريش، فلما دخلوا المطاف جلس سادة قريش على جبل أبي قبيس وما حوله ينظرون ماذا سيفعل المسلمون في عمرتهم، أيطوفون كما كانوا يطوفون بالسابق أم سيفعلون شيئاً جديداً جاء في الإسلام؟! فلما وصلوا إلى البيت أتاهم الشيطان وقال لهم: هذا محمد وصحبه قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليهم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم، وهذه مؤامرة خطيرة؛ لأن المسلمين يعتبرون كالعزَّل، وهم بعيدون عن أي مدد، فلو انقضَّت عليهم قريش ولو بالحجارة لآذوهم، لأن أولئك فوق الجبل، وهؤلاء في بطن الوادي، وأهل مكة بكاملهم، وهؤلاء عددهم محدود.
فلما تآمروا على ذلك كان الوحي أسرع، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمه بما تآمروا عليه، وهنا يقف كل عاقل ويتأمل كيف سيصنع المسلمون أمام هذه المؤامرة الغادرة؟ وليس هناك أحد قريب يمكن أن يسعفهم بعدد من الرجال والسلاح، ولكن يوجد هنا نور النبوة، وتوجد الحكمة النبوية الكريمة، كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بواقع الحال، ليتعاونوا معه على مواجهة هذه الأزمة، وأمرهم وقال: ما دامت قريش تظن بكم الضعف والوهن فيجب أن تقلبوا عليهم فكرتهم، وعكس الضعف والوهن هي القوة، ولذا قال: (فأروهم منكم اليوم قوة) كي يخلف الظن عندهم، ويعلموا أن هؤلاء ليسوا بضعفاء وليس الوهن يعتريهم، فأمرهم بالاضطباع، وذلك بأن يجعلوا وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، وأن يرملوا، وتلك هي صورة المشمر المستعد القوي الفتي، فلما رأى المشركون ذلك، ورأوا المسلمين يطوفون وهم أشداء قالوا: أتقولون: إن هؤلاء قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر وهم ينقزون كالجن، والله! ما هم بأنس إنهم كالجن لا طاقة لنا بهؤلاء.
وبهذا أحبطت مؤامرة الشيطان مع أعوانه، وسلم المسلمون من الغدر الذي كان يحاك ضدهم جميعاً.
وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم أن يكون الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، وأن يمشوا مشياً عادياً في الأربعة الأشواط الباقية، وكذلك يرملون من الحجر الأسود حين يطوفون بالكعبة إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، فيمشون مشياً عادياً يلتقطون أنفاسهم فيه، فإذا قيل: لماذا لم يرملوا في الأشواط الأربعة الباقية؟ الجواب: المتأمل في هذه الحالة يرى أنه لا يمكن أن الألف والأربعمائة سينزلون المطاف في لحظة واحدة، ويستلمون الركن في لحظة واحدة، ويسيرون معاً جميعاً في لحظة واحدة، لا يمكن هذا، بل سيأتون إلى المطاف أرسالاً، فإذا كانت الدفعة الأولى في الشوط الثاني ستكون الدفعة الثانية في الشوط الأول، وإذا كانت الدفعة الثالثة في الشوط الأول فستكون الدفعات التي سبقتها في الشوط الثالث أو الرابع وهكذا، فدخلت الأشواط الأربعة ضمن الثلاثة الأولى في صورة الهرولة، ولن يخلوا المطاف من جماعة تهرول في مدة الأشواط السبعة، وعلى هذا كانت مشروعية الرمل من أجل أن يعكسوا على المشركين خطتهم وتآمرهم مع الشيطان.
وبعد ذلك فتحت مكة، وصارت بلداً إسلامياً في إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وفتح مكة كان في السنة الثامنة، ولما فتحها أقام عليها أميراً، وكان الحج في السنة العاشرة، ولما جاء صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة بعد فتح مكة بسنتين ومكة آمنة ليس فيها عدو، والمسلمون آمنون مطمئنون، وقد انقضت دولة الشرك، وانتفى الإيذاء، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل في الأشواط الثلاثة أول ما قدم إلى مكة، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال هذه الهرولة، لقد هرولنا سابقاً ونحن في خوف، والآن نحن في أمن، وليس هناك خوف؟ يعني: أن العلة قد انتفت، والمعلول باقٍ.
فقال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية وهرولنا معه، وفتحت مكة وجاء رسول الله فهرول في حجة الوداع وهرولنا معه، إذاً: فهي سنة باقية، ومثل هذا قد يقال في القوادح عند الأصوليين بالكسر وهو انتفاء العلة مع بقاء المشروع.
ولهذا صفة الهرولة باقية إلى اليوم.
والهرولة للرجال وليس للنساء فيها شيء، وكذا العاجز وكبير السن والذي لا يستطيع الهرولة ليس عليه في ذلك شيء، وإذا تركه الإنسان ليس عليه دم في تركه، وإذا كان هناك زحمة ولا يستطيع أن يهرول فعليه أن يتحرك حركة المهرول كما يقولون في رياضة الصباح: محلك سر، يرفع أرجله وينزلها وهو لا يتقدم إلى الأمام، فبقدر ما يستطيع يهرول، وبهذه المناسبة لا يكون الاضطباع في الإحرام إلا عند البيت لمن سيهرول، أما الذين يكشفون أكتافهم من الميقات فهذا خطأ، ومغاير للسنة، ويعرضون أنفسهم بذلك للحر وللبرد، حتى إن بعض الناس يتقشر جلده من شدة الحر وهو باق على هذه الحالة.
إذاً: محل الاضطباع والهرولة إنما يكون في الطواف الذي يعقبه سعي، فإذا كان هناك شخص حج فإذا طاف طواف القدوم، أو طاف طواف الإفاضة وليس عليه سعي فليس عليه هرولة؛ لأن الهرولة لا تكون إلا في الطواف الذي يعقبه سعي، سواء كان في طواف العمرة الذي يأتي بعده السعي للعمرة أو كان في طواف القدوم الذي يسعى بعده للحج تقديماً.
وها نحن في هذه الآونة وبعد أربعة عشر قرناً نهرول؛ لأننا بهذا العمل نحيي تلك الذكرى، ونتذكر موقف المسلمين في ذلك الوقت، وكيف صبروا وتحملوا، وكيف كانت حياتهم في سبيل الإسلام وفي نصرته، وكيف يواجه الناس مكائد الأعداء، لو تركنا ذلك لنسيناه ولانمحى من تاريخ المسلمين، ولكن إذا استمر الناس على إحيائه وعلى فعله فإنه بمثابة السجل الناطق على مدى الزمن على تلك الأحداث.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته أنه إذا بدأ عملاً واظب عليه ولو لم يكن واجباً، وقد يصير في حقه واجباً، وأما في حق الأمة فعلى حسب التشريع من وجوب أو ندب أو استحباب أو غير ذلك.
إذاً: (رمل ثلاثا) ً أي ثلاثة أشواط من السبعة، (ومشى أربعاً) أي مشى مشياً عادياً.
والله تعالى أعلم.


مشروعية الصلاة خلف المقام واستلام الحجر بعد الانتهاء من الطواف
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم أتى مقام إبراهيم فصلى، ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ] .
بعدما أكمل الطواف سبعة أشواط أتى إلى مقام إبراهيم فصلى ركعتين، وفي رواية عند مسلم في هذا الحديث: وقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، وهذا من المواضع التي وافق عمر فيها ربه سبحانه، أو وافق القرآن فيها رأي عمر؛ إذا ثبت أن عمر رضي الله عنه أول ما جاءوا قال: يا رسول الله! ألا نصلي خلف المقام؟! فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، وقد أشرنا إلى أن هاتين الركعتين هما سنة الطواف، وأن السنة أن يقرأ المصلي فيهما بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وأشرنا إلى أن هذا المعنى الذي تضمنته هاتان السورتان فيه رد عملي على أولئك الذين يثيرون الشبه والشكوك عند ضعاف النفوس، لأنا وجدنا من يقول: الإسلام يحطم الأصنام وأنتم تعظمون بنية من الحجارة وتقبلون حجراً، وهذا بعينه هو الوثنية، ولكن غاب عنهم الابتلاء والامتحان لمجرد الامتثال، فالمؤمن إذا قيل له: افعل هذا، قال: على العين والرأس، وإذا قيل له: لا تفعل هذا، قال: مرحباً وأهلاً وسهلاً، والكلام في هذا يطول، وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1-6] فأين الوثنية هنا؟ وأين المشابهة والمشاكلة؟ الجواب: لا توجد، وهكذا في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] إلخ.
إذاً: ليست هناك شبهة بين الطواف بالكعبة وتقبيل الحجر قطعاً.
يقول بعض الفقهاء -والله تعالى أعلم-: إن الله سبحانه وتعالى ينزل مائة رحمة على البيت: ستين للطائفين، وعشرين للمصلين، وعشرين للناظرين، أو ثلاثين للمصلين وعشراً للناظر أي: الذي ينظر إلى الكعبة، وهناك بعض الآثار أن من طاف سبعين شوطاً يعني: عشر مرات أجر كذا وكذا، والله تعالى أعلم، فإذا أراد إنسان أن يطوف سبعين شوطاً نافلة، فهل يا ترى! يصلي ركعتين بعد كل سبعة أشواط، ثم يستأنف الطواف، أو أنه يواصل الطواف سبعاً سبعاً سبعاً ثلاث مرات ثم يذهب إلى المقام فيصلي ركعتين ركعتين ثلاث مرات؟ الجمهور على أن الأفضل في ذلك أن يصلي ركعتين خلف كل سبعة أشواط من الطواف.
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ] .
بعد أن صلى خلف المقام رجع صلى الله عليه وسلم إلى الركن، أي: إلى الحجر فاستلمه قبل أن يخرج إلى السعي، إذاً: استلمه في بادئ الأمر في أول الطواف، ثم بعد ذلك على ما تيسر من استلامه في بقية الأشواط، ثم صلى ركعتين خلف المقام سنة الطواف، ثم رجع إلى المقام فاستلمه، أي: كالاستلام الأول، ثم ذهب إلى الصفا والمروة.


السعي بين الصفا والمروة
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:) ] .
قوله: (خرج من الباب) يشعر هذا أنه كان هناك باب، وبعض التواريخ تقول: إن أول من بنى المسجد إنما هو عمر، والآخرون يقولون: عمر إنما وسعه وأدخل فيه دار الندوة، والله تعالى أعلم، فهنا خرج إلى الصفا، فلما وصل إلى الصفا رقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة وهو على الصفا، ثم نبه وقال: (أبدأ بما بدأ الله به، أو: ابدءوا بما بدأ الله به) ، أو أنهم سألوا: (من أين نبدأ يا رسول الله؟! قال: ابدءوا بما بدأ الله به) ، أو سألوا: (من أين تبدأ يا رسول الله؟! قال: أبدأ بما بدأ الله به) ومن هنا نجد أن المنهج العلمي في كتاب الله أنه سبحانه إذا قدم أحد المتماثلين كان لتقديمه دلالة أولولية في الموضوع، والصفا والمروة كلاهما غاية، والجمهور على أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط والعودة من المروة إلى الصفا شوط، إلا رواية عن ابن بنت الشافعي وغيره يقولون: إن الذهاب من الصفا إلى المروة والعودة إلى الصفا شوط واحد، وهذا ما يقول به ابن حزم، ولكن كما قال النووي: هذا شاذ مغاير لما عليه إجماع المسلمين.
فهنا صعد صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وهذا الترتيب هو المنهج في كتاب الله، ومن ذلك ما جاء في الحدود: ففي حد السرقة قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة:38] وفي حد الزنا قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ففي حد السرقة قدم الرجل؛ لأن الرجل في السرقة أقوى؛ لأنه يقاوم ويدافع، وأما المرأة في السرقة فهي ضعيفة، وفي باب الزنا قدم المرأة؛ لأنها هي السبب، وهي التي تغري الرجل كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فلما كان الرجل أقوى في عنصر السرقة قدمه على المرأة، ولما كانت المرأة أقوى فاعلية في أمر الزنا قدمها على الرجل؛ لأن الرجل لا يمكن أن يزني بامرأة إلا إذا وجد منها الميل، أو جد منها الإغراء بنفسها.
إذاً: إذا وجدنا في القرآن الكريم متساويين فبدأ أو قدم ذكر أحد هذين المتساويين عرفنا أن لهذا المقدَّم خصائص أو أولوية في الموضوع، لهذا قال صلى الله عليه وسلم هنا (أبدأ أو ابدءوا بما بدأ الله به) فبدأ صلى الله عليه وسلم بالصفا.


ما يقوله المحرم على الصفا والمروة والبدء بالصفا
قال المؤلف رحمه الله: [ (فلما دنا من الصفا قرأ: إن {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] .
أبدأ بما بدأ الله به) ] .
والمناسبة هنا هي مثل التي هناك في المقام في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] وكأنه يشير إلى المناسبة، وهنا لما صعد على الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] يعني: أنه ذكر الآية التي تنص على السعي.
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] .
شعائر جمع شعار، وجمع شعيرة، والشعيرة هي: النسك، والشعار هو: العلامة المظهرة، كما تقول: شعار الشركة الفلانية كذا، وكذلك هنا الصفا والمروة من شعائر الله، وجميع مناسك الحج من شعائر الله.
قوله: [ (أبدأ بما بدأ الله به، فرقى الصفا حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبره) ] .
وحد وكبر، وحد عنوان لقوله: لا إله إلا الله، هذا هو التوحيد، وكبر قال: الله أكبر، وكبر من ألفاظ النحت، تقول: كبر، وسبح، وحمدل، وحوقل، فكبر أي: قال: الله أكبر، وهلل قال: لا إله إلا الله، وحوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا سبحل قال: سبحان الله، فهذه ألفاظ يسمونها ألفاظ النحت.
قوله: [فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] .
وهنا عيّن الذكر الذي يقال على الصفا كما عيّن الذكر الذي جاء في التلبية وهو: (لبيك اللهم، لبيك لبيك لا شريك لك) .
إلخ، وكذلك هنا وحد الله وأعلن أن الملك كله لله.
قوله: [لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده] .
في هذا تذكير بغزوة الأحزاب (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده) أي: بنصر دينه ونبيه والمسلمين، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] فهذا وعد الله والنصرة بالفعل، ((وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا)) والجنود هنا غير الرياح؛ لأن الرياح مذكورة وحدها، وجنود الله لا يعلمهم إلا الله كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] .
وقد جاء في حديث حذيفة في غزوة الأحزاب أن الملائكة شاركت في القتال، ففي قصة حذيفة حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم؟) ولشدة البرد والجوع والخوف لم يتحرك أحد، كما قال حذيفة: فلم يتحرك أحد، ثم قال صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية: (من يذهب فيأتيني بخبر القوم وأضمن له العودة؟) فلم يتحرك أحد، وفي الثالثة قال: (وأضمن له العودة ويكون رفيقي في الجنة) فما قام أحد، فتتبع الحاضرين واحداً واحداً حتى إذا وقف علي وقال: حذيفة.
قلت: نعم، وكنت أتقاصر إلى الأرض، فلما سماني لم يكن لي بد من أن أقوم، فقمت وأنا أقرقر من البرد أي: يرتعش وأسنانه تدق في بعضها، قال: وهو ملتف في مرط لأهله فضمني إليه، فوالله! لكأنني في حمام، وقال لي: (اذهب وائتني بخبر القوم، ولا تحدث حدثاً حتى تأتيني) فذهبت.
وهو خبر طويل وفيه عند رجوعه قال: (لقيت عشرين رجلاً معمماً على خيل، فقالوا لي: أخبر صاحبك بأن الله قد كفاه) وهؤلاء العشرون المعممون على هذه الخيل من أين جاءوا؟ لو كانوا من جيش المسلمين لعرفهم حذيفة، فإذاً: هؤلاء ليسوا من جيش المسلمين، وليسوا من جيش المشركين، فهم فريق ثالث، فمن يكون؟ لاشك أنهم من الملائكة.
إذاً: نصر الله عبده وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، هزمهم بتسليط الريح عليهم، وبالجنود التي لا يعلمها إلا هو.
قوله: [ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة] بعد ما أدى نسك الصفا والذكر الوارد في ذلك نزل إلى المروة، والسنة هنا في السعي هي أن يستغرق الساعي كامل المسافة بين الغايتين، يبن الصفا والمروة، فكيف يتحقق الشخص أنه قد استغرق البينية؟ والبينية نهايتها من الطرف الأول الصفا ومن الطرف الثاني المروة؟ لا يتحقق الإنسان من ذلك إلا إذا صعد على جزء من الصفا، ومشى وأتم المشوار وصعد على جزء من المروة، فإذا كان قد أخذ في مشواره جزءاً من الصفا وجزءاً من المروة جزمنا يقيناً أنه قد استغرق بينية ما بين الصفا والمروة.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [3]
الخلاف الذي يقع بين الفقهاء وأصحاب المذاهب هو من الخلاف الجائز، وهو إما خلاف أفهام وإما خلاف تنوع، ومن هذا الخلاف ما حصل بينهم في تفضيل أنواع الحج الثلاثة، فمن أخذ بهذا أو بهذا فلا ينبغي الإنكار عليه، ولكن ينبغي على المسلم أن يتحرى الحق وأن ينظر الأقرب إلى الصواب.


مشروعية الإسراع في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) ] .
أي: ذهب متجهاً إلى المروة (حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) أي: كان يمشي مشياً عادياً، ولكن لما وصل إلى بطن الوادي سعى، أي: أسرع في المشي، وهنا أيضاً فقال: إن سبب هذا السعي قد انتهى، ولكن المشروعية لا زالت باقية، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسعوا، فإن أمكم هاجر قد سعت) .


سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة
وما هو سبب هذا السعي؟ يتفق العلماء جميعاً أن سببه: هو سعي هاجر حينما جاء الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بها وبابنها إسماعيل ووضعهما في مكة، والقصة معروفة وسببها أن سارة غارت من هاجر، وسارة هي زوج إبراهيم عليه السلام، ومن أكرم نساء العالمين في زمانها، وهاجر كانت جارية، وهبها لها حاكم مصر لما عرضت عليه في قصتها الطويلة معه، فأخدمها هذه الجارية، فوهبتها سارة لإبراهيم، فحملت هذه الجارية من إبراهيم، وسارة الزوجة الحرة لم تحمل فغارت منها، فأبعدها إبراهيم عليه السلام منها، والحقيقة أن الأساس هو قدر الله سبحانه وتعالى؛ لينقل الدعوة من موطن لم تعد صالحة فيه إلى موطن جديد؛ لأن الدعوة كانت -كما يقال- في أرض الأنبياء؛ في فلسطين، والشام، ولكن طال المدى، ولم تعد تلك المنطقة صالحة لحمل الرسالة العالمية.
وعلم الله سبحانه وتعالى أنه سيأتي في هذه البقعة من يصلح لحمل الرسالة إلى العالم وتكون رسالته باقية إلى الأبد، فكان ذلك أولاً في نقل إسماعيل وهو طفل عند أن جاء به إبراهيم مع أمه ووضعهما في مكة وهي وادٍ قفر كما قال تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] ولكن {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، وأحاطهما بأعظم وسائل التموين المتوفرة {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] وهذه الدعوة كفيلة بإيوائهما، وكفيلة بالإنفاق عليهما، وكفيلة بالمعيشة الرغدة لهما، وبكل ما تتطلبه الحياة؛ لأن هذا مشوار طويل، فلما جاء إبراهيم بـ هاجر وإسماعيل لم يكن معهما إلا جراب من تمر وسقاء من ماء، فلما وضعهما في ذلك المكان رجع عائداً من حيث جاء، فأمسكت هاجر بزمام راحلته وقالت: إلى أين تذهب وإلى من تدعنا هاهنا؟ قال: لله.
من منا يترك ولده أو زوجه أو رجلاً بكل قواه في فلاة لا ماء فيها ولا نبات ولا أنيس ولا جليس؟! وقد كنا قبل مدة إذا تعطلت علينا السيارة في الطريق في الليل نجتمع مع بعضنا ونخاف ونحن في أمن، فإذا كان هذا واد غير ذي زرع، فمعنى هذا أنه غير مسكون، وليس فيه ماء، وهذه امرأة معها طفل، ولو كانت وحدها لكانت المسئولية أخف؛ لأنها مسئولية شخصيتها فقط، أما الآن فإنها تتحمل مسئولية شخصها ومسئولية الطفل الذي معها؛ لأن عاطفة الأمومة تتحرك فيها فقالت: لمن تدعنا؟ قال: لله.
إنه اليقين بالله فعلاً؛ لأن الله هو الذي وجهه ليأتي بـ هاجر وإسماعيل إلى هذا المكان: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] فهما ضيوف عليك يا رب! وفي جوارك ونعم الجوار.
ونحن لو أودعنا أسرة بكاملها في جوار أمير أو ملك لقام بإكرامهم، ولقام بمسئوليتهم فكيف برب العالمين؟! وقد أتى بهما ووضعهما عند بيته، الله أكبر! والله! إننا لنمر على هذه المواقف ونحن غافلون لا نعي منها إلا حروفها وذكراها، فعلينا أن نتأمل وأن نحكم العواطف والشعور الجياشة في هذا المقام، وفي هذه القصة قال تعالى: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] .
مهما كان السقاء، ومهما كان جراب التمر فلابد أن ينتهي وينفد، فلما انتهى وليس عندها مدد عطشت، وقل حليبها، وعطش الصبي وبكى، فأخذت تبحث عن الماء، أين تجد الماء؟ فلم تر شيئاً، ولم تر رائحاً ولا غادياً، فنظرت إلى الصفا وهو أقرب مكان مرتفع فصعدت عليه لتستطلع ما وراءه لعلها تجد مغيثاً، أو ترى ماءً، أو ترى رائحاً أو غادياً يسعفها بماء فلم تجد ولم تر شيئاً، فنظرت إلى الجهة الأخرى وأقرب مكان مرتفع إليها هو المروة، فنزلت من الصفا وصعدت على المروة لتستطلع ما وراء المروة كاستطلاعها إلى ما وراء الصفا، ولكن كان من طبيعة الأرض وجغرافية المكان أن إسماعيل كان في مكان منخفض، وأوطى مكان في مكة هو مكان الكعبة، وأوطى مكان في المدينة هو مكان المسجد النبوي، وهذا باتفاق.
فكان إسماعيل في مكان منخفض، ولما كانت هي في المرتفع على الصفا كانت قريبة وتراه، ولما انصبت قدماها في بطن الوادي صار مستوى نظرها دون مكان إسماعيل فلم تره، فانشغلت عليه فأسرعت حتى أتت إلى شاطئ الوادي من الجهة الأخرى فرأته فاستقرت، فمشت مشياً عادياً، فنظرت وراء المروة فلم تجد شيئاً، فرجعت من المروة إلى الصفا، وعادت من الصفا إلى المروة، وتركها الله تفعل ذلك سبع مرات لكي تتقطع علائق قلبها، وينعدم عندها سبب الرجاء من الخلق، فتوجهت إلى الخالق سبحانه بكليتها وبيقينها واضطرارها، فنظر الله إلى قلبها وإلى حالها فأسعفها حالاً لا بدلاء ولا بسقاء ولكن بجبريل الذي نزل فشق الصخر حتى نبع الماء، وأصبحت زمزم تفيض للعالم، وأصبحت مكة هي السكن والأمن الغذائي -كما يقولون- وفيها الاستيطان، كل ذلك متوفر فيها، ونحن الآن إذا سعينا بين الصفا والمروة إذا انصبت أقدامنا في بطن الوادي نسرع مع أن السبب قد ذهب، ولكن كما حصل الرمل لسبب قد انتهى وبقي الرمل، وكذلك حصل الإسراع في السعي وقد انتهى السبب ولكن بقي التشريع، ومن الطرائف التي سمعتها في المسعى: أن واحداً كان يسعى، وكان المطوف له طفل صغير، فلما جاء عند أول مكان السعي قال له المطوف: هنا اجر اجر، قال له: لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تسعى هنا وهي تطلب الماء لولدها، فقال له: هذه كانت تطلب الماء لولدها وأنا ما الذي يعنيني؟ المسألة هنا ليست شكلية، وإنما المسألة مسألة تشريع، لتعيش أيها الحاج! في مناسك الحج بروحك وإحساسك وشعورك لا بجسمك دون قلبك، فممكن أن نذهب ونأتي دون شعور، ولكن كل خطوة في مناسك الحج فيها دروس وفيها عبر، وهكذا سعى صلى الله عليه وسلم، ونحن نسعى كما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم.


حكم الهرولة بين الصفا والمروة للنساء
ومن الناحية الفقهية الإسراع على الرجال، وليس على النساء إسراع؛ لأن الإسراع والهرولة فيها حركة لا تتناسب مع حالة المرأة؛ لأن المرأة مبناها على الستر وعلى الوقار وعلى الحشمة، وعلى أمور تليق بها، أما الرجل فلديه استعداد لأمور عديدة.
قوله: [حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي دعا، حتى إذا صعدتا مشى فأتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا] .
وكان الوادي يا إخوان! موجوداً إلى عهد قريب، أي: إلى السبعينات، وإذا جاء السيل يمر منه وكان المسعى سوقاً وعلى جانبيه الدكاكين والمطاعم، وهذا كما كان عليه في السابق، ولكن لما شيد المسعى على هذه الحالة عدِّل في أرضية المسعى، وأصبح الوادي لا أثر له، ولكن المسئولين وضعوا علامات وهي (اللمبات) ذات الضوء الأخضر، فوضعوا علامة في بداية الوادي وعلامة في نهايته؛ لأن الذي يسعى يسعى في بطن الوادي في ذهابه ويسعى في بطن الوادي في إيابه وعودته.


أنواع النسك الثلاثة والخلاف فيها وفي أفضلها
قوله: [ففعل على المروة كما فعل على الصفا وذكر الحديث] .
أي: بأن استقبل البيت، وهلل وكبر وقرأ الآية إلخ.
وهنا المؤلف ترك جزءاً هاماً من حديث جابر، وهو محط الرحال عند طلبة العلم، وأكبر معركة علمية تقام بينهم هي عند هذا الجزء الذي تركه المؤلف، وهذا الجزء هو أن جابراً وغيره يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لما أكمل السعي سبعة أشواط، وهو يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، لما أنهى صلى الله عليه وسلم سعيه وقف على المروة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، وهنا جاء النقاش في فسخ الحج إلى عمرة هل هو خاص بهم في ذلك الحج أو هو عام لهم ولغيرهم؟ والنقاش في هذا طويل، وفيه بحث، وعلى طلبة العلم أن يقرءوا هذا البحث في نيل الأوطار، وفي فتح الباري، وإن كان البخاري لم يسق حديث جابر على ما هو عليه، ولكن المسألة مبحوثة في فتح الباري، حتى يكون لديهم الخلفية لهذه القضية؛ لأنها تحتاج إلى إمعان النظر، والله الهادي والموفق.
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وذكر الحديث، وفيه: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) .
] ساق لنا جابر رضي الله تعالى عنه من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى البيت وطاف سبعاً، وصلى خلف المقام ثم رجع فاستلم الركن، ثم خرج إلى الصفا والمروة للسعي، فبدأ بالصفا فرقى على الصفا حتى رأى البيت، ودعا بالدعاء المتقدم، ثم توجه إلى المروة، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع، فلما ارتفع عن بطن الوادي مشى، أي: مشياً عادياً، وقد أشرنا إلى كل ما يؤخذ من هذا كله من الرمل في السعي، وأنه خاص بالرجال دون النساء، وإن كان الأصل فيه هي المرأة، ولكن كان ذلك سبب المشروعية، ثم رفع عنها الإسراع لما جاء في عموم التشريع من الحفاظ على المرأة؛ لأن الإسراع قد يخرجها عن الوقار، وعما يليق بها من عوامل الستر والحشمة.
فلما صعد المروة صنع عليه كما صنع على الصفا، قال: (وذكر الحديث) وهذا الذي لم يذكره هنا هو من أهم النقاط التي تبحث في مناسك الحج، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى المروة قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) وذكر هنا أيضاً أن علياً رضي الله تعالى عنه قدم من اليمن مهلاً بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو موسى الأشعري، وكانا مبعوثين إلى اليمن قضاة وأمراء، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بم أهللت يا علي؟! قال: أهللت بما أهل به رسول الله، قال: هل معك هدي، قال: نعم، قال: ابق على إهلالك) وسأل أبا موسى رضي الله تعالى عنه: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أمعك هدي؟ قال: لا، قال: فتحلل) وكان مجموع ما جاء به علي رضي الله تعالى عنه من اليمن وما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بلغ مائة بدنة، وأشرك علياً رضي الله تعالى عنه معه.
وفي الحديث أن علياً لما دخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها وجدها قد لبست واغتسلت واكتحلت، فتغيظ عليها وقال: هذا وقت الإحرام، فقالت: أمرني أبي بذلك، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (ألا ترى إلى فاطمة كيف فعلت، اغتسلت وتطيبت واكتحلت وقالت: إن أبي أمرني بذلك؟! قال: صدقت يا علي!) .
وهنا لما قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) توانى الناس ولم يسارعوا إلى التحلل، أي: كل من لم يسق الهدي، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) وهنا يبحث العلماء في تحلل المفرد بالحج، أو القارن بالحج إذا سعى بين الصفا والمروة: هل يتحلل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها عمرة، أم يبقى على إحرامه بالحج مفرداً أو قارناً؟ جاء أن أبا موسى الأشعري كان يفتي: من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، أي: كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في خلافة عمر، قيل له: على رسلك يا أبا موسى! لقد أحدث أمير المؤمنين في النسك، فقال: من كنا أفتيناه بشيء فليمسك، وإن أمير المؤمنين قادم عليكم فاستفتوه، فلما قدم عمر رضي الله عنه سأله: ماذا أحدثت في النسك يا أمير المؤمنين؟! قال: (إن نكمل فبكتاب الله، وإن نتحلل فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: إن نكمل أي: إن نبقى على الإفراد بالحج بدون سوق الهدي فبكتاب الله، يعني بذلك: قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] لأن من فسخ الحج إلى عمرة لم يتمه، بل خرج عنه وقطعه (وإن نتحلل فبسنة رسول الله) يعني قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) .
وهنا النقاش في هذه المسألة طويل وحاد بين العلماء، ولكن الشدة إنما كانت عند الخلف وليست عند السلف، والمسألة هي: هل يجب فسخ الحج إلى العمرة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يسق الهدي) أم أن ذلك كان لظرف خاص في ذلك الوقت لبيان التشريع؟ الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبو حنيفة يقولون: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن جاء مفرداً، وعن أحمد رحمه الله روايتان: رواية تقول كما يقول الجمهور، ورواية تقول: يجوز فسخ الحج، وقول الجمهور على أنه لا يفسخ حجه، ورواية أحمد وقول ابن حزم: يجب أن يفسخ، هذه الأقوال هي محل الإشكال عند المتأخرين.
ولكن للأسف أن بعض المتأخرين تشددوا في ذلك أكثر مما كان عليه سلفهم من قبل، ودليل الذين يقولون: يجب الفسخ هو قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) واللام هنا لام الأمر، ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم تمنى، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) .
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان السبب في أمر الذي لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم كانوا قبل ذلك لا يرون جواز العمرة في أشهر الحج، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر) ويعنون بصفر شهر محرم؛ لأنهم كانوا يقدمون صفر بدل محرم، على خلاف ترتيب الأشهر ذو القعدة ثم ذو الحجة وتنتهي السنة ثم يبدأ المحرم، وكانت الأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة أشهر متوالية، ورجب وهو فرد بين جمادى وشعبان، وكانوا يحترمون هذه الأشهر الحرم، فلا يقاتلون فيها ولا يثأرون، ولا ولا إلخ.
فكانوا يستطيلون هذه الأشهر الثلاثة لكونها متوالية، فيؤخرون المحرم ويجعلونه بدل صفر، ويقدمون صفر ويجعلونه بدل محرم، وهو النسيء الذي ذكره الله في القرآن الكريم بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] .
فكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر) أي: دبر البعير من رحلة الحج ذهاباً وإياباً، (وعفا الأثر) أي: أثر السير في الأرض، (وانسلخ صفر) أي: الذي هو محل المحرم، حلت العمرة، ومعنى ذلك أنها قبل هذا لا تحل عندهم، فيذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقولون بذلك.
(فقدموا) والفاء هنا فاء التعقيب، فقدموا صبح رابعة، وقد أشرنا سابقاً أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة، ووصلوا مكة لأربع خلون -يعني: خرجن- من ذي الحجة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة وسبب ذلك ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد.
(فأمرهم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة) الفاء هنا تفيد السببية والعلة، أي: أن سبب أمرهم بالتحلل هو ما كانوا يعتقدونه من عدم جواز العمرة في أشهر الحج فأمرهم بالعمرة ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج على خلاف ما كانوا يعتقدون، ولهذا تأخر الكثيرون عن أن يتحللوا واستنكروا ذلك وقالوا: (أي حل يا رسول الله؟! قال: الحل كله، قال قائل منهم: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟!) يعني: أنباشر النساء في مكة بعد التحلل ثم نخرج في اليوم الثامن إلى منى ونحن حديثو عهد بالنساء، فكانوا يستبعدون ذلك ويستكثرونه.
ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) يبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لولا الموانع الموجودة لتحلل هو أيضاً ولجعلها عمرة؛ ليبين لهم عملياً أنه مثلهم سيتحلل ويجعلها عمرة، ولكن فاته ما تمناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ إحرامه وإهلاله من ذي الحليفة مفرداً بالحج، ثم أتاه جبريل عليه السلام وقال: (يا محمد! قل: عمرة في حجة) فأمره جبريل عليه السلام في بادئ الطريق أن يضم العمرة إلى الحج، وهو هنا قد اعتمر في أشهر الحج، لكن كان يريد أن يتحلل نهائياً؛ لأن سوقه الهدي وهو قارن يجعله في الإحلال كالمفرد، لا يحق له أن يتحلل.
ومن هنا تساءل أحد الصحابة كما جاء في حديث أبي ذر، وقال: (يا رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني: هذا التحلل، ودخول العمرة في أشهر الحج- قال: بل للأبد وأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) وهل دخلت العمرة في الحج للقارن بأن يكفيه عمل الحج عن عمل العمرة فيكون الطواف واحداً وا


ثبوت استمرارية الإفراد عن الخلفاء الراشدين
ثم وجدنا بعد ذلك هذا التطبيق العملي من الخلفاء الراشدين الأربعة؛ لأنه بعد تلك السنة التي كانت فيها حجة الوداع، والتي ودع النبي صلى الله عليه وسلم فيها أصحابه، رجع إلى المدينة ولقي الرفيق الأعلى، ولما استخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحج بالناس، جاء مفرداً الحج، ولم يتحلل بعد أن سعى بين الصفا والمروة كما نبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أن ذاك التحلل خاص بذاك الركب، وخاص برسول الله ومن معه لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، فهل يا ترى كان أبو بكر غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) ؟ الجواب: لم يكن غائباً، بل كان مع رسول الله، وكانت زاملتهما واحدة، بمعنى أن البعير الذي كان عليه الزاد لـ أبي بكر ولرسول الله كان واحداً.
إذاً: هما لم يفترقا قط، بل كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد سعى معه بين الصفا والمروة، وهو أول من يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنيه: (لو استقبلت ... ) ، (لو لم أسق) ، كل ذلك قد سمعه ووعاه وشاهده، وإذا به في خلافته يحج مفرداً، فهل كان على خلاف رسول الله؟ حاشا وكلا، وهل نحن اليوم بعد أربعة عشر قرناً أشد حباً واتباعاً لرسول الله من أبي بكر رضي الله تعالى عنه؟ حاشا وكلا.
ثم جاء بعد ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، وامتدت خلافته عشر سنوات فكان يأتي في خلافته ويحج بالناس مفرداً، ولم يكن أيضاً غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت ... ) ولم يكن غائباً أيضاً عن قوله: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ولكن علم أن ذلك كان لغرض وقد حصل ذلك الغرض في تلك السنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل جاء عن أمير المؤمنين عمر ما هو أشد من ذلك، فقد كان ينهى الناس أن يحجوا متمتعين بالعمرة، الذي يقول عنه بعض الحنابلة: إنه أولى من الأنساك الأخرى: القران والإفراد، عمر يقول: لا يأت أحد متمتعاً بالعمرة فيتحلل ثم يحج من عامه، قالوا: يا أمير المؤمنين! لماذا تنهى والرسول قد فعل؟ أي: فعله أصحابه معه وهو الذي أمرهم أن يتحللوا؟ قال: أردت أن يكثر المجيء من الحجيج إلى البيت، أي: يأتي الواحد بعمرة في سفرة ويأتي بحج في سفرة أخرى.
إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه لم يفسخ الحج في عمرة فحسب، بل نهى عن العمرة، وعن التمتع في أشهر الحج.
وعثمان رضي الله تعالى عنه لما ولي كان يحج بالناس أيضاً مفرداً، ثم بعد ذلك نهى عن القران بين الحج والعمرة، فسمع بذلك علي رضي الله تعالى عنه، وهو ينجع لبكرات له دقيقاً وحبقاً، والحبق هو ورق الشجر، وصاحب الإبل إذا جاء إلى شجرة مورقة وأغصانها مرتفعة يأخذ عصا ويضرب بها الأغصان، فيسقط الورق على الأرض، فإما أن تأكله الإبل بنفسها وإما أن يجمعه ويخلطه مع الدقيق، ثم يعطيه لها، يقول راوي الحديث: فلا أنسى أثر العجين على يديه، فذهب علي وهو بتلك الحالة، وعجين الحبق على يديه لم يغسله، ودخل على عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال: أأنت تنهى عن القران -أي: بين العمرة والحج-؟ قال: نعم، قال: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: شيء رأيته وأردت أن يكثر مجيء الناس إلى البيت، مثل رأي عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأن القارن بين الحج والعمرة سيأتي لهما مرة واحدة، فإذا ما فرق بينهما على ما رآه عمر فسيأتي معتمراً ويرجع ثم يأتي حاجاً ويرجع.
فقال علي رضي الله تعالى عنه: لبيك اللهم! حجاً وعمرة معاً، وكان علي مفرداً، لكنه أهل بالعمرة مع الحج في ذلك الوقت بين يدي عثمان، ليعلن جواز القران بين الحج والعمرة، كما كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان لـ علي: أردت مخالفتي يا علي؟! قال: لم أرد مخالفتك، ولكنه عمل عملناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.


إفراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج ابتداءً ثم إقرانه الحج مع العمرة
ومن هنا ننتقل إلى المسألة الثانية وهي: أن الرسول بدأ الحج مفرداً، ثم أتاه جبريل وقال: (قل: عمرة في حج) فيكون في بداية الأمر قد اختار ما هو الأفضل، ولكنه أمر وكلف أن يدخل العمرة في الحج، وعلى هذا قال مالك والشافعي: الإفراد أفضل؛ لأنه هو الذي بدأ به رسول الله واختاره من الأنساك الثلاثة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: القران أفضل؛ لأنه هو الذي أتم به صلى الله عليه وسلم حجه وأمر به من الله، وقال أحمد رحمه الله: المتمتع أفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما وصل عند المروة أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ... ) يعني: لو حججت مرة أخرى، أو لو أنني الآن في الميقات لما سقت الهدي، ولجئت بغير هدي وتحللت كما أمرتكم، إذاً: لو حج مرة أخرى لجاء متمتعاً، ومعنى هذا: أن التمتع أفضل، وهكذا وقع الخلاف بين العلماء في: ما هو الأفضل في الأنساك؟ ولكن كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الخلاف إنما هو في الأفضل، وكل الأنساك جائزة بإجماع المسلمين، ومما قاله ابن القيم رحمه الله: ثلاث لا ينبغي الخلاف فيهن: ألفاظ الأذان بتربيع التكبير وبتثنية الإقامة، أو بإفرادهما والإقامة مثل الأذان سواء بسواء لا ينبغي الخلاف في ذلك بل على أي صيغة أذن المؤذن وأقام فلا مانع، وأنواع الأنساك الثلاثة لا ينبغي الخلاف فيها، فمن حج معتمراً أي: متمتعاً، أو من حج مفرداً، أو من حج قارناً فالكل حجه صحيح وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت أم المؤمنين: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا المفرد ومنا القارن ومنا المتمتع، فلم يعب أحد على أحد، أي: فالكل جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.
وقد شهدت موقفاً في منى بين والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وبين الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي آنذاك رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهما هما، وكان من عادة العلماء أن (يعيدوا) على الشيخ محمد، وعلى العلماء من آل الشيخ جميعاً في خيمة خلف القصر في صبيحة يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة، فدخل الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وسلم و (عايد) على المشايخ آل الشيخ جميعاً، وكان المكان مملوءاً بكبار العلماء في ذلك الوقت، فسأل الشيخ محمد بن إبراهيم الشيخ الأمين وقال: بلغني يا شيخ! أنك حججت مفرداً؟ قال: نعم، وقصداً فعلت، فقال الشيخ محمد: ألأنه أفضل في مذهب مالك؟ قال: لا، ليس للأفضلية ولا لـ مالك فعلت ذلك، قال: فلماذا إذاً؟ قال: لأني سمعت أن أشخاصاً هنا لا يرون من الأنساك إلا التمتع، وليتهم اقتصروا على أنفسهم فيما يرون، بل سمعت أنهم يقفون على المروة ويحللون الناس إجبارياً من الحج إلى العمرة، ولما لم أكن أملك سلطة أمنع بها هؤلاء، والعالم الإسلامي يحج من قديم الزمن كل يحج بما يتيسر له من الأنساك الثلاثة فلا أملك إلا نفسي، فجئت مفرداً الحج أبين بعملي في شخصي ما أراه صحيحاً.
ثم قال -ويا نعم ما قاله- كلاماً ومن ضمنه أنه ساق حديث ابن عباس، والأحاديث التي جاءت في أن ذلك كان من خصائص ذلك الوفد، وما يتعلق بهذا الأمر، وأطال وأفاض في هذا الأمر، والكل مصغون منصتون له، إلى أن فرغ رحمه الله، فما كان من الشيخ محمد بن إبراهيم رحم الله الجميع إلا أن قال: أحسنت بارك الله فيك.


الفرق بين التقليد والاتباع لأهل العلم
أقول هذا يا إخوان! لأننا لا زلنا أيضاً نسمع هذا من بعض الشباب ومن بعض الذين يرون أنهم مجتهدون وأنه لا حاجة إلى الأخذ بمذهب من المذاهب، وأنهم يرون أن هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم للوجوب، ولا يصح إلا هو، وقد سبق لي في الجامعة الإسلامية تدريس هذا الباب في كتاب بداية المجتهد لـ ابن رشد، وهو كتاب منهجي في الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة، وأطلت في هذه القضية وقد كنا نأخذ في الحصة مسألة ونمضي عنها، فأخذت في هذه المسألة مع الإخوان أربع حصص، وأخيراً قال لي بعض الإخوة -وهو موجود إلى الآن-: أراك أطلت في هذه المسألة، فقلت له: اليوم انتهيت، ولكني أريد منكم جميعاً إذا أوى أحدكم إلى فراشه وتوسد الوسادة أن يغمض عينيه ويوقد قلبه وضميره، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم على المروة: (لو استقبلت من أمري) (لو لم أسق) ، ويتصور أن خلفاءه الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا حوله يسمعون هذا المقال، ثم بعد ذلك كل منهم في خلافته يأتي مفرداً، ويتساءل: عن الذين سمعوا ذلك مشافهة من رسول الله، وعن الذين وجدوا ذلك خطاً مكتوباً في صحف، أي الفريقين أجمع للمعنى، الذي سمع من شفتي رسول الله بأذنيه ووعى ذلك وحضر وشاهد، أو الذي أخذ ذلك من أوراق صامتة وجد ذلك مكتوباً فيها؟ لا شك أن الذين شاهدوا رسول الله كانوا هم أوعب وأدعى للفهم والإدراك منا نحن المتأخرين، ثم ليتساءل: أينا أسرع إجابة لرسول الله هل هم هؤلاء الصحب الكرام، أو نحن معشر المتأخرين في القرن الخامس عشر؟ وأينا أشد تمسكاً واتباعاً لرسول الله نحن أو هم؟ والله! إنه سيجد قطعاً أنهم هم أولى وأنهم أشد إدراكاً، وأنهم أسرع متابعة لرسول الله، فإذا ما تصور ذلك فليسأل نفسه وسيتلقى الجواب من داخله لا من الكتب ولا من الخلاف ولا من المنازعات، ولما كان الغد إذا ببعض الإخوان أذكر اسمه وأعرفه شخصياً يدخل ويقف عند الباب، ولم تكن عادة الطلاب أن يستأذنوا، فقال: عندي كلمة أقولها، قلت: ادخل واجلس ثم تكلم، قال: لا، بل أقولها من هنا، قلت: خلصنا، قال: سامحك الله يا أستاذ! قلت: آمين، ولكن هذه كلمة يقال وراءها شيء، قال: البارحة ما خليتني أنوم، قلت: يا أخي! صحح الكلام وقل: أنام، ليس فيه نام ينوم، وإنما نام ينام، قال: لا، هذه لغتنا، فقلت: بكيفك أنت ولغتك، لكن لماذا لم تنم؟ قال: لأنني فعلت كما قلت، ومنذ أن استحضرت ذلك لم أستطع النوم؛ لأنني تحيرت هل نحن أشد حباً لرسول الله؟ وهل نحن أكثر فهماً من أصحاب رسول الله؟ وهل نحن أشد اتباعاً لرسول الله من خلفائه الراشدين؟ لا والله! إذاً: الأمر فيه شيء، فقلت له: وما الذي وصلت إليه؟ قال: وصلت إلى أن في عقولنا شيئاً، قلت له: نعم، في عقولكم عدم الاتباع لسلف الأمة، والأخذ بما عليه العلماء.
ويهمني أيها الإخوة! في هذا الموقف ما قاله جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من معه في هذا الحج المبارك ممن لم يسق الهدي أن يتحلل، ويجعل إحرامه بعمرة، ثم بعد ذلك يحرم في اليوم الثامن ويكمل حجه.
وقد أطلت القول في هذه المسألة بالذات لما نراه ونسمعه من بعض الإخوان الذين يجدون في أنفسهم الاجتهاد والعمل بالحديث وعدم التقيد، ويقولون لغيرهم: هذا مقلد، ونقول: لا، والله! إن من أخذ بأقوال الأئمة فهو متبع وليس بمقلد، وفرق بين التقليد والاتباع، فالمقلد هو من أخذ كلام من يقلده من غير أن يعلم ما هو دليله عليه، والمتبع هو من يختار قول العالم مع علمه بدليله فيه.
إذاً: في تلك الحجة من لم يسق الهدي تحلل ولبس ثيابه، وعاد حلالاً كما لو كان في بلده قبل المجيء إلى مكة، ومن كانت معه أهله حلت له.


بيان الأعمال التي يعملها الحاج يوم التروية
وفي يوم الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يروون الدواب في ذلك اليوم، ويملئون قربهم وآنيتهم بالماء ويصعدون بها إلى منى ثم إلى عرفات، خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى، وجاء في بعض الآثار أنه خطب الناس بمكة في اليوم السابع وبين لهم ما يحتاجونه من الغد، أي: في اليوم الثامن، ثم خطب في عرفات، وبين البيان الوافي، فخرج صلى الله عليه وسلم يوم الثامن أي: يوم التروية، وخرج معه الجميع.


من أين يحرم المتمتع للحج يوم الثامن من ذي الحجة؟
وهنا سؤال: من كان قد تحلل إذا جاء اليوم الثامن من أين يحرم بالحج؟ الجواب: اتفق العلماء على أنه يحرم من منزله الذي هو فيه، وليس بلازم عليه أن يذهب إلى المسجد الحرام ويعقد الإهلال للحج من المسجد الحرام أو من عند الكعبة، بل يحرم من بيته أو من محل سكنه، فيتجرد ويغتسل ويتطيب ويلبد شعره، ويلبس لباس الإحرام، ويهل بالحج من مسكنه، ثم يذهب إلى منى.


الوقت الذي يحرم فيه أهل مكة بالحج
وطرأ على الناس أيضاً ما أتى به عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وأنتم منعّمون في بيوتكم ولا تهلون إلا في اليوم الثامن، أهلوا بهلال الشهر) فأمر أهل مكة ألا يؤخروا الإهلال إلى يوم التروية، وأن يبادروا بالإهلال من أول يوم في ذي الحجة، فقال بعض الناس: لماذا يا عمر! والرسول لم يأمرهم بذلك؟ قال: لأن الناس كلهم يأتون شعثاً غبراً عليهم آثار السفر وهؤلاء يظلون جالسين في بيوتهم منعمين إلى يوم التروية ثم يلبون، فلابد أن يلبوا من أول يوم من ذي الحجة حتى يشاركوا الناس في أحوال الإحرام والتجرد، والتحمل إلى غير ذلك، وهذا لاشك أنه اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه، ولنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... ) ويهمنا في ذلك أن الأمر من حيث الإجزاء أو الوجوب أو الندب سواء.


الوقت الذي يخرج فيه الحاج من مكة إلى منى وبيان الأعمال التي يعملها في منى
خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى يوم الثامن ضحىً، وهناك صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبات في منى ثم صلى الصبح، وكانت صلاته صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يقصر الرباعية دون أن يجمع، فلم يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء في منى عند ذهابه، بل كان يقصر الرباعية فقط، ويصلي كل صلاة في وقتها، ولما صلى الصبح انتظر حتى أشرقت الشمس، وكما قيل: كانت على قمم الجبال كالعمائم على الرءوس، وبعد أن أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات.
قوله: [ (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) ] .
قوله: (وركب صلى الله عليه وسلم) هناك من يقول: الذهاب إلى المناسك راكباً أفضل؛ لأن الرسول حج راكباً، وهناك من يقول: الرسول إنما جاء مسافراً من المدينة، ومعه راحلته، فهو لن يسوقها ويمشي على قدميه، وعلى هذا فالمشي أفضل؛ لأن فيه زيادة تكلفة، ولكن نقول: إن الله سبحانه وتعالى غني عن أن يكلف الإنسان نفسه في شيء في غير محله، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يسوق بدنة ويمشي، قال له: (اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها -أي: ولو كانت بدنة مساقة إلى البيت- إن الله غني عن أن يعذب أحدكم نفسه) والذين يقولون: إن المشي أفضل قالوا: يكون المشي من المسجد الحرام إلى عرفات ثم العودة، أو من المسجد الحرام إلى عرفات إلى منى أو إلى مكة إن كان سيطوف الطواف النهائي، واستدلوا على أفضلية المشي برواية جاءت عن ابن عباس: (من حج ماشياً كتبت له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم) والحسنة من حسنات الحرم بمائة ألف حسنة، فهناك من رغب في الحج ماشياً، وهناك من رغب في الحج راكباً، فالذين قالوا: يحج راكباً قالوا: تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه ركب، والذين قالوا: المشي أفضل قالوا: لأن في كل خطوة حسنة من حسنات الحرم.
ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حج ماشياً لشق ذلك على الناس، ولكان كل واحد يريد أن يقتفي أثر رسول الله في ذلك، ولذا جاء في شأن زمزم أنه قال: (اسقوني، لولا أن يغلبكم الناس على زمزم لمتحت معكم) أي: لسحبت الحبل وأخرجت الدلو وشربت بنفسي، ولو فعل ذلك لكان كل إنسان يريد أن يمتح لنفسه ويشرب بنفسه، وكذلك عمر رضي الله تعالى عنه لما ذهب لاستلام مفاتيح بيت المقدس دخل كنيسة، فلما حضرت الصلاة خرج منها فقال بعض النصارى: صل فيها، قال: لو صليت فيها لأخذها العرب منكم، يقولون: نصلي كما صلى عمر، فيحتلونها ويأخذونها منكم، إذاً: ما منع عمر الصلاة في الكنيسة، ولكن خشي أن يغلبهم الناس على حق من حقوقهم.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [4]
الوحدة كلمة ترتاح لها النفوس الزكية، وتتطلع إليها القلوب النقية، لما لها من مدلول عظيم، فالوحدة بها لم الشمل، وتوحيد الصف، وقوة الأمة، ولا أعظم ولا أدل على هذه الوحدة من الموقف الذي يتوحد فيه المسلمون ويجتمعون فيه ألا وهو موقف يوم عرفة، ذلك اليوم الذي يجتمع فيه المسلمون من شتى بقاع العالم، ويلبسون لباساً واحداً، لا يتميز فيه الغني عن الفقير، ولا القوي عن الضعيف، ذلك اليوم الذي يباهي الله عز وجل ملائكته بمشهد عباده المجتمعين في ذاك الصعيد في مشهد لا يتكرر إلا في ذلك الزمان وذلك المكان.


بيان الوقت الذي يذهب فيه الحاج من منى إلى عرفة والأعمال التي يعملها في يوم عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة) ] .
مكث النبي صلى الله عليه وسلم في منى في صبيحة يوم عرفة إلى أن أشرقت الشمس وارتفعت قليلاً ثم واصل السير إلى عرفات، ويقال: عرفات للأرض كأذرعات، ويقال: عرفة لليوم، أي: للزمن، صوم يوم عرفة، إذاً: عرفة للزمن.
قوله: (فأجاز حتى أتى عرفة) .
أجاز يعني: تجاوز المزدلفة والمشعر حتى أتى عرفة.
قال المؤلف رحمه الله: [ (فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها) ] لما وصل عرفات -وهي أرض الموقف- وجد القبة قد نصبت له بنمرة، ونمرة هو: الوادي الذي يفصل أرض عرفات عن المزدلفة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) وجد القبة قد ضربت له، والقبة هي: الخيمة، وضربت بمعنى: نصبت، فنزل بها حتى جاء الزوال، أي: نزل بعرنة ولم يدخل أرض الموقف إلى أن زالت الشمس.


حكم استظلال المحرم في يوم عرفة
وهنا يبحث البعض: هل المحرم يدخل الخيمة أو لا يدخل؟ وهل يستظل أو لا يستظل؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم لما وجد القبة مضروبة نزل بها؟ وهنا: نجد أن بعض الطوائف لا يرون للمحرم أن يستظل، ويستدلون بما جاء عن عبد الله بن عمر أنه قال: (اضح لمن أحرمت له) وعند بعض المالكية المتأخرين تفصيل وهو: أن الاستظلال للمحرم يجوز عند نزوله ولا يجوز عند مسيره، وهذا من باب المستحبات ولا دخل في صحة الإحرام وعدمه، وليس من الواجبات التي يجب فيها دم، لكن يأخذ العلماء من كل نقطة ومن كل خطوة -كما ذكرت- من أعماله صلى الله عليه وسلم أحكاماً ومواعظ وتوجيهات.


مسجد نمرة ليس كله في عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس) ] .
نزل في القبة في بطن عرنة حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت بالتخفيف وبالتشديد فرحِّلت، أي: وضع الرحل عليها، وهيئت للركوب والمسير، ثم أتى المكان الذي فيه الآن مسجد نمرة، والمسجد كما يقولون: جزء منه وهو حائط محرابه خارج عن حدود عرفات، ومؤخرة المسجد من أرض عرفات، ولذا فإن الذين يجلسون في المسجد في نمرة ويصلون في الصف الأول، أو في الذي يليه ينالون أجر التقدم في الصفوف، لكن إذا قضيت الصلاة فعليهم أن يتنحوا إلى مؤخرة المسجد، حتى يتحقق وقوفهم في الموقف لقوله صلى الله عليه وسلم: (ارتفعوا عن بطن عرنة) .
وقد جاء في موطأ مالك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ذهب إلى الحجاج وكان أمير الحج، فنادى: أين فلان؟ قالوا: ها هو ذا، فقال له: هيا قد آن أوان الرحيل إن كنت تريد السنة، وذلك عندما زالت الشمس، فقال: أمهلني يا أبا عبد الرحمن! حتى أغتسل، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه اغتسل في عرنة قبل أن يتوجه إلى الموقف، وقبل أن يخطب، فاغتسل لإحرامه، واغتسل لدخول مكة، واغتسل لوقوفه بعرفات، فاغتسل صلى الله عليه وسلم وأمر بناقته فرحلت له، ثم ذهب من محل إقامته في القبة إلى موضع نمرة لأداء الخطبة.
وهنا يقول بعض العلماء: على أمير الحج ألا يعمد إلى عرفة رأساً، بل عليه أن يأتي وينزل في عرنة، فإذا ما زالت الشمس ذهب إلى نمرة وأكمل النسك على ما سيأتي في الخطبة والصلاة.


الخطبة في يوم عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً) ] .
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا أيضاً، وهو من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من منى بعد شروق الشمس أتى إلى عرنة، فوجد القبة قد ضربت له فنزل فيها إلى أن زاغت الشمس، فأمر بناقته فرحلت له، وقد أشرنا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل للوقوف بعرفة، وهذا إن تيسر فبها ونعمت، وإلا فهو من الأغسال المسنونة في ذلك اليوم، فلما زاغت الشمس أمر بناقته فرحلت له، ثم أتى بطن الوادي أي: أتى نمرة وهو مكان المسجد الموجود الآن، فخطب الناس، وهذه الخطبة في ذلك اليوم هي عبارة عن خطبتين أو خطبة طويلة مفصول بينها، وكذلك بقية خطبه صلى الله عليه وسلم التي خطبها في هذا الحج المبارك، سواءً التي في اليوم السابع قبل الصعود إلى منى، والتي بين لهم فيها أعمال اليوم الثامن وأعمال منى، أو التي في يوم الحج الأكبر بعد أن نزل من عرفات ورمى جمرة العقبة، أو غيرهما من الخطب المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم.
ولما فرغ من الخطبة أذن فصلى.


قصر الظهر والعصر والجمع بينهما في عرفة والخلاف في سبب ذلك
وهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله أنه صلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، وجمع بينهما جمع تقديم، ولم يسبح بينهما أي: ولم يصل بينهما شيئاً، وهذا الجمع والقصر اختلف فيه العلماء: هل هو للنسك، أو هو للسفر؟ فالذين يقولون: هو للنسك قالوا: كل من حج سواء من أهل مكة أو حتى من أهل منى أو حتى من سكان أرض عرفات فإنه يقصر ويجمع من أجل النسك، والذين قالوا: إن هذا الجمع والقصر من أجل السفر قالوا: يقصر ويجمع الآفاقي الذي قدم من خارج مكة، أما أهل مكة الذين يحجون من مكة أو سكان منى الذين يحجون من منى فلا يجمعون ولا يقصرون، ومذهب أبي حنيفة على أن هذا الجمع من النسك، ولهذا لا يوجد عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله جمع بين صلاتين إلا في النسك -أي: بين الظهر والعصر جمع تقديم، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير- وما عدا ذلك من نصوص الجمع بين الصلاتين فحملها رحمه الله على الجمع الصوري، كما جاء في خبر المستحاضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (وإن استطعت أن تؤخري الظهر إلى آخر الوقت وتغتسلين وتصلين العصر في أول الوقت فافعلي) يعني: تغتسل للوقتين، وتجمع بينهما بالغسل، ولكنها توقع كل فرض في وقته، فتصلي صلاة الظهر في آخر وقتها، وتصلي صلاة العصر في أول وقتها، فتكون الصورة صورة جمع.
أما الأئمة الثلاثة رحمهم الله فقالوا: إن هذا الجمع والقصر للصلاة إنما هو للسفر، وأما كيف يقصر ويجمع أهل مكة وليست المسافة بين مكة وعرفات مسافة قصر؟ فأجابوا عن ذلك: بأن الغرض هنا هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أنه قد حج معه المكي والمدني والأعرابي الذي جاء من ضواحي عرفات، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، كما قال لهم ذلك في فتح مكة؛ لأنه في فتح مكة إنما صلى قصراً تبعاً لسفره من المدينة إلى مكة، وكان في طريقه إلى الطائف وإلى ثقيف، فكان يقصر بسبب السفر، فقال لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) .
ولما جاء في الحج وهو يعلم أن معه من الحجاج من مسكنه قريب فلم يقل لهم: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، إذاً: الكل قد قصر وجمع معاً، سواء القادم من بعيد أو القادم من قريب.
وهناك من العلماء من يقول وهذا القول مروي عن الشافعي رحمه الله، وأخذ به الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن كل ما سمي سفراً، واحتاج الإنسان فيه إلى زاد وراحلة فهو سفر تقصر فيه الصلاة، ولا يشترط له مسافة ولا يقال: لابد من مرحلتين، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (تقصر الصلاة فيما بين مكة وجدة، وفيما بين مكة وعسفان، وفيما بين مكة والطائف) .
وتقدير هذه المسافات الثلاث تدور حول السبعين والثمانين كيلو، والذين حددوها حددوها بأربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وتقدر باثنين وسبعين كيلومتراً بالمقاييس الحالية.
والذي يهمنا في بيان حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع وقصر، ونحن الآفاقيون إذا قدمنا إلى الحج لنا أن نجمع ونقصر كما فعل صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد قال: (خذوا عني مناسككم) إذاً: الكل متفق في أن القريب والبعيد في ذلك اليوم يجمع ويقصر، سواء قلنا: إنه للسفر أو للنسك، على ما تقدم من تفصيل في مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وفي أقوال الأئمة الثلاثة، وفي عدم بيانه صلى الله عليه وسلم بقوله: (أتموا) ، كما قال ذلك في فتح مكة، وعلى هذا فالجميع يقصر ويجمع الصلاتين في ذلك اليوم.


الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم مع العصر في عرفة
ومن الناحية العلمية وقع نقاش: هل كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات صلاة جمعة أو صلاة ظهر وأضاف إليها العصر؟ الجمهور يقولون: إنما كانت صلاة ظهر.
وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمه الله ناقش هذه المسألة مع مالك رحمه الله، وكان أبو يوسف يرى أنها صلاة جمعة ليوم الجمعة، فقال له مالك: لماذا؟ قال: لأنها ركعتان لخطبتين، وهذه هي الجمعة، فسأله مالك رحمه الله قائلاً: أترى جهر بالقراءة أو أسر بها؟ قال: أسر بها، قال: والجمعة يجهر بها.
إذاً: هذه الصلاة تكون ظهراً والخطبة فيها إنما هي لبيان أعمال يوم عرفة وليلة المزدلفة وصبيحة يوم العيد، إلى أن يأتي إلى منى فيبين ما بقي في الخطبة العظيمة التي خطبها في يوم الحج الأكبر.
قوله: (لم يسبح صلى الله عليه وسلم بينهما) لأنه هنا أذن ثم أقام فصلى الظهر والعصر، ثم أقام أي: بدون أذان آخر وصلى العصر، وهناك من يقول: تكفي الإقامة الأولى للفريضتين، وهناك من يقول: يؤذن مرة أخرى للعصر ويقيم لها، ولكن المنقول الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أذان واحد وإقامتين.


المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم ركب حتى جاء الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) ] .
يقول: (ثم ركب) أي: من مكان الصلاة من نمرة، (حتى أتى الموقف) أي: الموقف الذي في عرفات، ويرد على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) قالوا: نعم عرفة كلها موقف هذا للعموم، وحيثما وقف الحاج في جزء من أرض عرفات فقد تم وقوفه، ولكن الموقف هنا، أي: الموقف الذي اختاره صلى الله عليه وسلم، و (أل) للعهد، فهو تقدم من نمرة إلى ما يسمى الآن بجبل الرحمة، وهو عبارة عن مجموع صخرات ضخمة كبيرة، تقدم إليها ووقف عندها وجعلها بينه وبين الكعبة، فكان مستقبلاً جبل الرحمة والكعبة من وراء الرحمة في سمت اتجاهه، فيكون بهذا مستقبلاً كلاً من الصخرات والكعبة.
وهنا يبحث العلماء في هذا الموقف: هل يتعين الوقوف في هذا المكان على كل حاج؟ الجواب: بإجماع المسلمين لا يتعين على من أتى عرفات أن يذهب إلى ذلك الموقف، ويصح حجه ويتم بالوقوف في أي مكان من أرض عرفات، حتى ولو كان جالساً ولو كان نائماً، إذا كان قد أدرك لحظة من وقت الوقوف وشعر أنه بعرفات فقد تم حجه.
وهنا يتساءل الإنسان ويقول: ما دام أن الأمر كذلك وأرض عرفات كلها موقف فلماذا ذهب صلى الله عليه وسلم إلى هناك؟ قالوا: لأنه كان قد آذن الناس وأعلمهم قبل الخروج إلى الحج من المدينة، بل وأرسل رجالاً إلى القبائل على مياههم: (إني حاج، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) فتوافد الناس إلى رسول الله فمنهم من أدركه بالمدينة وخرج معه، كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: كنت أنظر عن يميني مد النظر، وعن يساري مد النظر ومن أمامي ومن خلفي، أي: أنهم عدد لا يقطعهم نظر العين.
فهؤلاء توافدوا إلى المدينة، وهناك من توافد إلى رسول الله وهو في الطريق ولقيه في الطريق، وهناك من قدم إلى مكة، بل إن هناك من قدم إلى عرفات مباشرة، ولم يكن قد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا يقولون: هؤلاء الذين جاءوا ليحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروه ويأخذوا عنه أين سيبحثون عنه في عرفات؟ الجواب: لو لم يكن هناك مكان معلوم للجميع لتعذر على كل من أراد أن يراه البحث عنه في أرض عرفات المتسعة مع كثرة هؤلاء الخلق، فإذا كان له موقف معين وجبل الرحمة في عرفات والفضاء من حوله، وهو في الوسط مثل العلم، فإذا سأل سائل: أين رسول الله؟ قيل له: عند ذاك الجبل، فيكون الجبل علامة، أو علماً على موقفه ليذهب الذاهب إليه كيما يراه.
ومن تمام الإعلام وتيسير الوصول إليه أنه صلى الله عليه وسلم قضى يوم عرفات على ظهر راحلته وهي قائمة، إذاً: المكان كان معلماً بالجبل -جبل الرحمة- ومحيط الجبل كان معلماً بالناقة وهي قائمة وهو عليها، حتى قال بعض العلماء: هل الوقوف بعرفات على الدابة أفضل أو الوقوف بعرفات على قدميه أو جالساً أفضل؟ الجواب: هذا مما يذكره الأصوليون من أفعاله صلى الله عليه وسلم الدائرة بين الجبلة والتشريع، فبعضهم يقول: جلس على الناقة لأنه أريح له فالركوب أفضل، والآخرون يقولون: لا يعذب الحاج الناقة طيلة النهار بالجلوس عليها، بل عليه أن يريحها، وهذا دائر بين الاعتبارين، فمن اعتبر أن الوقوف على الناقة من أفعال الحج قال: الأفضل أن يقف على ناقته وراحلته، ومن رأى أن ذلك كان لقصد الإعلام قال: الوقوف في الأرض أولى من تعذيب الراحلة.


حكم الإمارة على الحج
والذي يهمنا أنه صلى الله عليه وسلم اختار هذا المكان، ومن هنا يقول العلماء: يتعين على أمير الحج، وإمارة الحج قديمة من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده في زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم، وكذلك في زمن بني أمية وبني العباس إلخ.
فلابد للحج من أمير ليسير الحجاج بسيره وينزلوا بنزوله ويكون هو بذاته أهلاً لأن يرشد الحجاج إلى ما يحتاجونه، فإن لم يكن فيه الكفاءة ولا الأهلية فليكن معه من أهل العلم من يفعل ذلك، وعمر رضي الله تعالى عنه في خلافته لكثرة مشاغله، ولأنه كان يكثر الناس عليه أقام للناس على الحج ابن عباس ليقيم للناس المناسك، ولما أمره أن يقيم للناس المناسك، قال: يا أمير المؤمنين! لا أقوى على سكنى بلدٍ تتضاعف فيه السيئات كما تتضاعف فيه الحسنات، وإني سأتخذ الطائف مسكناً، فإذا جاء الحج نزلت إلى مكة.
ومن بعده كان عطاء رضي الله تعالى عنه، وكان ينادى: لا يفتي أحد في المناسك إلا عطاء، ومن هنا يجب توحيد الفتوى، وتوحيد البيان والإرشاد والتعليم حتى لا يُشوش على الناس باختلاف الآراء، فقد يأتي إنسان ويسأل هذا عن مسألة فيفتيه بقول، ويذهب إلى ذاك في عين المسألة فيفتيه بقول آخر، فيكون في ذلك الحيرة والتذبذب لهذا السائل، ولا يدري بما يأخذ، فكانت الفتوى توحد في موسم الحج لئلا يشكك الناس ولئلا يقعوا في الحيرة.
فأتى صلى الله عليه وسلم ووقف في ذلك المكان وعليه يتعين على أمراء الحج أن يقفوا هناك، أي: ينصبوا خيامهم أو منازلهم بجوار ذاك الجبل، وليس بلازم عليهم أن يقفوا على رواحلهم كما وقف صلى الله عليه وسلم.


حكم استقبال القبلة يوم عرفة وبيان الوقت الذي ينتهي فيه الوقوف
قال المؤلف رحمه الله: [ (وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة) ] .
لما جاء إلى الموقف جعل حبل المشاة بين يديه، أي: بينه وبين الصخرات.
قال المؤلف رحمه الله: [ (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس) ] .
فلم يزل واقفاً في موقفه ذلك على ظهر راحلته حتى غابت الشمس، يقول العلماء: ينبغي على الإمام أن يتأخر في نفرته من عرفات إلى ما بعد غياب الشمس بقليل، حين يصفر الأفق، تأكيداً في غروبها.
قال المؤلف رحمه الله: [ (وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص) ] .
حتى غاب قرص الشمس وانتهى واستكمل غروب الشمس، وذهبت الصفرة، أي: التي تعقب الشمس عند الغروب.


حكم الصوم بعرفة للحاج
هنا يبحث العلماء في يوم عرفات وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم هل كان صائماً في هذا اليوم أو كان مفطراً؛ لأنه قد قال: (صوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر سنتين: السنة التي هو فيها، والسنة الماضية) وبين أن صوم يوم عاشوراء يكفر السنة التي هو فيها، قيل: لأن عاشوراء لموسى عليه الصلاة والسلام فكان يكفر سنة واحدة، وعرفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكفر سنتين.
وقد اختلف الصحابة في صومه صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يجرءون أن يسألوه: هل أنت صائم أو مفطر؟ فذهبوا إلى أم الفضل رضي الله عنها وسألوها، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم قدحاً من اللبن بعد العصر، وهي تعلم أنه صلى الله عليه وسلم لا يرد ثلاثاً: اللبن والريحان والوسادة، إذا كان جالساً وقدمت إليه وسادة ليتكئ عليها فإنه لا يردها، وإذا قدم إليه الريحان أو النباتات العطرية فإنه لا يردها، وإذا قدم إليه اللبن فإنه لا يرده، وإنما يأخذه ويشرب منه، فلما علمت ذلك أرسلت إليه بقدح من اللبن بعد العصر، فأخذه ورفعه على رءوس الأشهاد وشرب، فعلموا يقيناً أنه مفطر وليس بصائم.
وهنا نجد أن بعض العلماء اجتهدوا وقالوا: النص قد جاء في فضل صوم يوم عرفة، وفطر النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ليبين الجواز وليس فيه الوجوب، فمن صام وقوي على أعمال الحج ولم يقصِّر في واجباته فلا بأس أن يجمع بين الفضلين، ومن كان يضعفه الصوم عن أداء واجبات الحج فلا يصم وليفطر، ولكن نقول: النبي صلى الله عليه وسلم أفطر مع ما أعطاه الله من القوة البدنية، فقد كانوا إذا اشتد بهم الأمر في الحرب يحتمون بشخصه صلى الله عليه وسلم، وفي حنين حينما انصرفوا ورجعوا وقف وأعلن عن نفسه، وهذا على خلاف المعتاد، فإن العادة جرت أن القائد يخفي نفسه في حالة الانهزام أو الرجوع، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي ويعلن عن نفسه: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب يعني: الذي لا يعرفني فأنا هاهنا؛ وذلك لثقته بنصر الله، ولقوته وشجاعته، فكان صلى الله عليه وسلم قد أوتي قوة ثلاثين رجلاً، ومع ذلك لم يصم في عرفات، والله تعالى أعلم.
ونحن الآن إذا تأملنا نجد: أن الله سبحانه وتعالى قد خفف في التكليف الواجب؛ ليعطي الحاج وقتاً لاغتنام فرصة عمره؛ لأن الحج قد لا يتيسر في العمر إلا مرة، فنجد أن الصلاة التي قال عنها سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] أي: كل واحدة في وقتها، لكن خفف الله عز وجل فيها عن الحاج، فأذن له أن يقدم العصر مع الظهر، ويؤخر المغرب مع العشاء، ليصبح عنده نصف الزمن، فهو من زوال الشمس إلى منتصف الليل -الذي هو آخر وقت فضيلة للعشاء- غير مطالب في هذا الوقت بفرض الصلاة؛ لأنه قد انتهى منها، فقد قدم الظهر والعصر عند الزوال، وأصبح متفرغاً ليس مشغولاً بالعصر، وأما المغرب فقد أخرها حتى يصل إلى المزدلفة، فأعطى الله عز وجل الحاج فرصة فسيحة ليؤدي فيها واجب هذا اليوم العظيم؛ لأن يوم عرفة يوم عظيم وأنا أسميه يوم الأمة الإسلامية، العالم الآن يحتفل بأيام معينة؛ كيوم الاستقلال، ويوم النصر، ويوم الأمة، ويوم كذا ويوم كذا، ويجعلون هذا اليوم فخراً لهم، أو تذكاراً لنصرتهم إلخ.
وهذا اليوم هو يوم العالم الإسلامي كله، ويكفي أن الله سبحانه اختص هذا اليوم بتمام النعمة وكمال الدين، وقد جاء رجل من اليهود إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! والله! إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا نزلت لجعلنا يوم نزولها عيداً، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقال عمر: والله! إني لأعلم متى نزلت، لقد نزلت في يوم عيد في يوم عرفة وهو عيد للمسلمين.
فهنا هذا اليوم العظيم الذي أتم الله فيه الدين وأكمل فيه النعمة لا يوازيه يوم في العام، هذا اليوم الذي يجتمع فيه العالم الإسلامي من جميع أنحاء الأرض؛ شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، يجتمعون في صعيد واحد، في لباس واحد، وفي شعار واحد ينادون: لبيك اللهم لبيك فأي وحدة للأمة أعظم من ذلك؟! ونحن الآن لو أردنا أن نعقد مؤتمراً دولياً تجتمع إليه جميع الأمم، وطلبنا من هيئة الأمم أن تجمع لمؤتمر مثل هذا المؤتمر والله! إنها ستعجز، ولكن في هذا اليوم كلٌ يأتي بنفسه، وكما يقولون: عجباً لهذا الجمع في سرعة اجتماعه، وعجباً له في سرعة انصرافه.
قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي في هذا اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير) فلعظمة هذا اليوم ووجوب الاجتهاد فيه بالذكر والدعاء يحتاج إلى جهد، فإذا صمنا سننام ونعجز عن أداء أعمال هذا اليوم، وإذا غربت الشمس سيأتي الرحيل إلى مزدلفة، وهناك مشاعر أخرى، ومن بعد الفجر سيأتي الرحيل إلى منى على ما فيها من أعمال الرمي والذبح وغيرها، ومن بعد منى إلى مكة والعودة فالحاج في حركة دائبة خلال أربع وعشرين ساعة.
إذاً: من حكمة التشريع ومن الرفق بالأمة أن يكون الحاج في هذا اليوم مفطراً، ثم إن من فضل الله أن من كانت له أوراد كتلاوة، أو صلاة، كان يفعلها في الإقامة وفي الصحة فسافر أو مرض وقصر عنها، فقد أمر الله ملائكته أن تكتب له مثل أعماله في الإقامة والصحة في مدة سفره ومرضه حتى يرجع ويعافى، فلم ينقص عليه من أجره شيء.
والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف مفطراً وليس صائماً.


الرحيل من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها
قال المؤلف رحمه الله: [ (ودفع وقد شنق للقصواء الزمام) ] .
لما غرب القرص دفع، أي: نزل إلى المزدلفة، (وقد شنق للقصواء الزمام) الشنق هو: الخنق في الرقبة، أي: شد زمامها إليه، والناقة إذا شددتها ورفعت رأسها قل سعيها، ومشت مشياً خفيفاً؛ لأنها إذا أرادت أن تسرع مدت عنقها أمامها، فكان يشنق لها الزمام لتقصر من خطوها.
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله) ] .
شنق لها فرفعت رأسها حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ومورك الرحل يقولون: هو قطعة من الجلد أو وسادة خفيفة من قطن خفيف تكون أمام الرحل يضع الراكب فخذه عليها، ويرفع رجله من الجهة الأخرى ويضعها على مقدمة ظهر الناقة وأول عنقها، لكي تتوسد رجله هذه المؤخرة، فرفعت رأسها حتى كادت أن تصيب هذا الموضع، يعني: أنه شنق لها إلى أقصى غاية.


مشروعية الدفع من عرفة إلى المزدلفة بسكينة
قال المؤلف رحمه الله: [ (ويقول بيده اليمنى: يا أيها الناس! السكينة السكينة) ] .
في هذا الدفع إلى المزدلفة كل الناس يدفعون، وكل يريد الإسراع، ومن طبيعة الدفع السرعة، حتى السيارات الآن يزاحم بعضها بعضاً، والمشاة يزاحمون السيارات، فكان يشير بيده اليمنى؛ لأن اليسرى كانت تشنق الزمام للناقة، وإلا لأشار بيديه إلى الجهتين، فكانت يده اليسرى تشنق الزمام للناقة ويده اليمنى تشير إلى الناس وهو يقول: (أيها الناس! السكينة السكينة) يعني: عليكم بالهدوء في السير، يعني: رفقاً بأنفسكم وببعضكم بعضاً.
قال المؤلف رحمه الله: [ (وكلما أتى حبلا ًمن الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد) ] .
(وكلما أتى حبلاً من الجبال) إذا كنت في الصحراء تجد أن من عوامل الرياح أنها تجمع الرمل ويمتد في اتجاهك كأنه حبل متين ممتد على وجه الأرض، وهذا يسمى الحبل، وربما وجدت في بعض النسخ جبلاً، بالجيم والصحيح أنها (حبلاً) أي: حبلاً من الرمل.
(أرخى) أي: أرخى لها الزمام حتى تستطيع بمد عنقها إلى أمامها أن تصعد حبل الرمل، والسير في الرمل متعب؛ لأن الرِجْل تغوص فيه، ولكن المولى سبحانه جعل للناقة قواعد تمشي عليها، وليست مثل الفرس وغيرها التي حافرها يغوص في الرمل، فخفها يجعلها لا تغرز، ومع ذلك أيضاً يشق عليها المشي في الرمل، فلو كان شانقاً لها لصعب عليها أن تصعد الرمل مع الشنق، فكان يرخي لها زمامها لتمد عنقها ويسهل عليها قطع هذا الحبل من الرمل.
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى أتى المزدلفة) ] .
دفع على هذه الصفة وهو يشير: (السكينة السكينة) وكان شانقاً للقصواء، مرخياً إليها عند حبال الرمل حتى أتى المزدلفة.


حكم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة بين عرفة ومزدلفة
وفي الطريق ميّل صلى الله عليه وسلم إلى بعض الوادي ونزل فبال وتوضأ، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كلما حج إذا مر بذلك المكان نزل وبال وتوضأ، فقيل له في ذلك، فقال: هكذا فعل رسول الله.
وهل رسول الله فعله لكي يذهب كل الناس ويبولون هناك في ذلك المكان أو فعله لحاجة عرضت له؟! ابن عمر يقول: الرسول فعل ذلك وأنا أفعله، ولكن جمهور الصحابة لم يتابعوه على هذا العمل، وهو قطعاً من أعمال الجبلة، وليس من أعمال التشريع.


مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة
فلما توضأ وضوءاً خفيفاً، قيل له: الصلاة، يعني: أن الشمس قد غربت وما زلنا في نصف الطريق، فنريد أن نصلي المغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة أمامك) أي: إن الصلاة ستكون في المزدلفة، ومن هنا يقولون: من كان عنده فسحة من الوقت وليس عليه عائق يلزمه المكث فلا يصلين إلا في المزدلفة، ولو تأخر وصوله إلى المزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل، وبعضهم يقول: إلى ثلث الليل الأخير، فإن تأخر في عرفات لظرف ما، كما يقع الآن في السرات يحبس الناس من أجلها، فإذا تأخر في عرفات أو في الطريق وعلم أنه لن يصل إلى المزدلفة إلا بعد أن يدخل ثلث الليل الأخير، فهل يؤخر المغرب والعشاء أيضاً حتى يطلع الفجر؟ قالوا: لا، بل عليه أن يصلي في مكانه؛ لأنه تعذر وصوله قبل خروج الوقت، وأصبح بين أحد أمرين: إما أن يأتي بالسنة بإيقاع الصلاة بمزدلفة وقد خرج وقتها، وإما أن يؤدي الفرض الذي هو الصلاة قبل خروج وقتها، فالحفاظ على الفرض أولى من الحفاظ على السنة.
فله في تلك الحالة أن يصلي حيثما تأخر، ويجمع أيضاً المغرب مع العشاء، والفقهاء رحمهم الله يقولون: في حالة الجمع ينوي ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، إن كان يريد جمع تأخير، فعند دخول وقت الأولى لا يؤخرها سهواً ولا إهمالاً، بل ينوي أنه سيؤخرها إلى الثانية، فإذا جاء وقت الثانية صلاهما جمع تأخير، وبدأ بالأولى، فيصلى الظهر ثم العصر، وإذا جمع جمع تقديم ينوي جمع الثانية مع الأولى قبل أن يدخل في الأولى، فمثلاً: قبل أن يدخل في صلاة المغرب يكون قد نوى أنه سيجمع معها العشاء وهكذا.
فإذا لم يتأخر في الطريق فالصلاة تكون في المزدلفة، وإن كان هناك ما يؤخره لظرف ما فيصلي حيثما كان على صورة الجمع، يؤذن ثم يقيم فيصلي المغرب ثم يقيم ويصلي العشاء ركعتين، ثم يواصل السير إلى المزدلفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع من عرفات ومشى إلى أن جاء إلى المزدلفة.
قال المؤلف رحمه الله: [ (فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين) ] .
(فصلى بها) أي: بالمزدلفة، والمزدلفة تسمى أيضاً جمعاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) وليس بلازم أن تتحرى موقع المشعر الحرام وتنزل فيه؛ لأن المشعر الحرام مكان صغير، ولا يمكن أن يسع جميع الحجاج، ولكن المزدلفة كلها موقف، فإن تيسر لك بعد ذلك أن تأتي مكان المشعر وتدعو فالحمد لله وإلا دعوت في مكانك، فصلى المغرب والعشاء في المزدلفة بأذان واحد وإقامتين، كما صلى في عرفات الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين.


مشروعية النافلة بين المغرب والعشاء في المزدلفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (ولم يسبح بينهما شيئاً) ] .
(ولم يسبح) أي: لم يتنفل بينهما شيئاً، يعني: أنه لم يأت بنافلة بين المغرب والعشاء.
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم اضطجع حتى طلع الفجر) ] .
(ثم اضطجع) أي: بالمزدلفة، (حتى طلع الفجر) ، أي: اضطجع بعد صلاة المغرب والعشاء حتى طلع الفجر.


مشروعية الوتر في ليلة مزدلفة
وأما الوتر فقد بحثنا على نص بخصوص الوتر في ليلة المزدلفة حتى تعبنا فلم نجد ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أوتر أو أنه لم يوتر، ولم يبق عندنا إلا عموم النصوص في الوتر، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يترك الوتر وركعتي الفجر -أي: السنة- في حضر ولا في سفر، ولما ناموا إلى أن طلعت الشمس ولم يصلوا الفجر، كانوا قد أوتروا من قبل، فصلوا سنة الصبح بعد طلوع الشمس، ثم صلوا الفجر.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [5]
يوم النحر يوم عظيم، فهو اليوم الذي لا يماثله يوم في كثرة الدماء التي تراق فيه تقرباً إلى الله عز وجل، سواءً دماء الأضاحي أو دماء الهدي، وهو اليوم الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم خطبته البليغة التي تعد دستوراً للأمة، لما اشتملت عليه من أحكام عظيمة، وهو اليوم الذي يبدأ فيه التحلل من الإحرام.


الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، كل حصاة مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر) ] .
وصل بنا الحديث في الكلام على حديث جابر رضي الله تعالى عنه في بيان صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة، إلى أن صلى المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما، قال: (اضطجع حتى الفجر) فلما طلع الفجر صلى الصبح بأذان وإقامة، وفي غير حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ وتبسم، فقيل له: (تبسمت يا رسول الله! في موطن لم تكن تتبسم فيه؟ قال: كنت سألت ربي أن يغفر لأمتي ويرحمها، فأعطاني ذلك إلا التبعات، فألححت على ربي -أي: في موقف عرفات- فلم يعطني، وقد أعطانيها الليلة) ، وفي بعض الروايات أنه قال له: (أما ما كان من ذنوب أمتك فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، ولكن التبعات) والتعبات: هي تبعة كل إنسان على الآخر، أي: حقوق العباد فيما بينهم، كأن يكون لإنسان مظلمة عند أخيه في مال، أو في دم، أو في عرض، أو في أي شيء، فهذه تسمى حقوق العباد فيما بينهم، وأما ما كان بين العبد وبين الله ولا تعلق لحق عبد فيه فهذه هي حقوق الله سبحانه وتعالى، ويقولون: حق الله مبني على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحّة.
وهنا ذكر صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى استجاب له، وجاء في بعض الروايات أنه قيل له: (إلا التبعات، فقال: يا رب! إنك قادر أن ترضي صاحب الحاجة، أو صاحب المظلمة عن حاجته أو عن مظلمته، وتغفر لصاحبه، فلم يعطه) ، وفي تلك الليلة استيقظ متبسماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى استجاب له وغفر لأمته حتى التبعات.
وهذه التبعات تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، يقول: عبادي جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فتقول الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه، جاءوا يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول سبحانه: أشهدكم يا ملائكتي! أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه) والعشية في اللغة من بعد العصر إلى غروب الشمس.
وفي قوله: (فقد غفرت لكم) اختلف العلماء هل يغفر كل شيء أو تستثنى التبعات؟ أكثر العلماء يقولون: كل شيء؛ لأنه لم يستثن شيئاً في هذا الحديث.
وبعض العلماء يقول: إلا التبعات، أي: التي لم يعطها صلى الله عليه وسلم، وقد أعطيها صلى الله عليه وسلم في ليلة المزدلفة.
وبالمناسبة ذكر العلماء سبب هذه المباهاة فقالوا: لما أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشراً جديداً كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71-72] فتساءل الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:30-31] ، فقالوا: إن الملائكة تساءلوا لما سمعوا من المولى سبحانه قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] ؛ لأنه كان في الأرض أجناس من الخلق قبل آدم، عمروها، ففسدوا فيها وأفسدوا، وسفكوا الدماء، وكان إبليس ممن يقود الجيوش في سبيل الله، ورفع إلى مكانة عليا، وكان مع ملائكة السماء الدنيا؛ لكثرة جهاده وعبادته.
ولما كان الملائكة قد رأوا السلوك الذي كان من عمّار الأرض تساءلوا: (أتجعل فيها) يعني: مرة أخرى، فأعلمهم سبحانه وتعالى وقال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ، ثم بين فضل آدم بتعليمه الأسماء، وعرضهم على الملائكة، فاعتذروا وقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] ، ثم أنبأهم آدم بها، ولما ظهر فضله أمرهم الله أن يسجدوا له سجود تعظيم وتكريم، فإذا جاء يوم عرفة، واجتمع الخلائق من كل فج عميق يباهي الله بأهل الموقف الملائكة، كأنه يقول لهم: كنتم تقولون: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ وهؤلاء هل هم مفسدون؟ ولم جاءوا؟ وماذا يريدون؟ فيقولون: (جاءوا شعثاً غبراً يريدون رحمتك، ويخشون عذابك) ، فهذه هي -كما يقولون- مناسبة أن الله سبحانه يباهي بأهل الموقف ملائكة السماء.
وقوله سبحانه: (أفيضوا مغفوراً لكم) يقولون: هل غفر لهم كل شيء بدون استثناء، أو غفر لهم كل شيء إلا التبعات؟ قد تقدم الكلام على هذا، وسواء كان هذا أو ذاك فإن الله سبحانه قد تكرم على عباده، ومنحهم غفران التبعات أيضاً.
فهو سبحانه وتعالى يغفرها لمن ارتكبها، ويرضي أصحابها عنها.
وجاء في حديث آخر: (إن الله سبحانه وتعالى إذا كان يوم القيامة والناس في الموقف يرفع غرفاً يراها أهل الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا رب! لمن هذه الغرف؟ فيقول: لمن عفا عن مظلمة لأخيه، فكل من كانت له مظلمة عند أخيه يقول: يا رب! عفوت عنها) أي: لينال من تلك الغرف.
وفي الجملة: فإن الله سبحانه وتعالى تكرم على هذه الأمة بهذه المنح العامة، وتكرم عليها بأن جعلها شاهدة على الأمم، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، إلى آخر خصائص هذه الأمة على غيرها.


مشروعية التغليس في صلاة الفجر يوم النحر
وهنا استيقظ صلى الله عليه وسلم متبسماً، ثم صلى الصبح في أول وقت يمكن أن تصلى فيه، حتى قال بعض الناس: لقد صلى الصبح قبل وقتها أي: قبل الوقت المعتاد في كل يوم، أي: أنه كان بعد أن يطلع الفجر، ويستبين النهار، يؤذن المؤذن، ثم يقيم على مهل، أما هنا فأول ما تبين الفجر وتبين النهار من الليل أذن المؤذن وأقام وصلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه بادر بصلاة الصبح في ذلك اليوم دون بقية أيام السنة.


الانتقال من المزدلفة إلى المشعر الحرام والدعاء عند المشعر
وقوله: (صلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) .
يبين بقوله: (ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) أن نزوله كان في غير المشعر الحرام؛ لأنه لما استيقظ وصلى لم تكن صلاته في المشعر الحرام، وإنما ركب وأتى إلى المشعر الحرام بعد الصلاة.
إذاً: المزدلفة كلها موقف، والمشعر الحرام جزء منه في طرف منها، وهو كان عبارة عن جبيل صغير وبني بجانبه مسجد، ثم وسع المسجد وهو المعروف الآن بمسجد المزدلفة.
قوله: (فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله) .
يقولون هنا: إنه صلى الله عليه وسلم وقف عند المشعر الحرام ودعا الله طويلاً، ويقول بعض العلماء: إن في بعض الروايات: أنه كان رافعاً يديه وضاماً لها إلى صدره في صورة المسكين الذي يطلب إحساناً، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم لربه في سؤاله وحاجته، وهل كان يسأل لنفسه أو كان يجتهد في سؤاله للأمة، كما كان في عرفات يجتهد ويسأل الله تعالى للأمة أن يغفر لها، وأن لا يجعل بأسها بينها، وأن لا يهلكها بكذا؟ الجواب: أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يكون للأمة ولنفسه معهم.
وبعض الناس ربما يأتي إلى المزدلفة ويذهب عنها وهو لا يعلم أين المشعر الحرام ولم يذهب إليه، فما حكم حجه هذا؟ الجواب: وقع الإجماع على أنه لا شيء عليه، فإن تيسر له الذهاب إليه وعلم مكانه فأتاه ودعا عنده فهذا أفضل؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ، وهذا مكان -كما يقولون- تستجاب فيه الدعوة، والرسول اجتهد بدعاء ربه فيه، وإن لم يتيسر للإنسان الذهاب إليه، أو كان هناك زحام شديد لم يستطع بسببه المكث فيه، فمر عليه ووقف بإزائه ودعا فلا مانع، وإذا بقي في مكان نزوله بعيداً عن المشعر الحرام كما نزل رسول الله، وصلى مكانه أو مع الإمام أو مع جماعة من جماعته فليرفع يديه وليدع الله بقدر ما يتيسر له ويستطيع.
قوله: (فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً) .
لم يزل واقفاً عند المشعر الحرام يسأل ربه حتى أسفر، والإسفار هو: من السفر وهو النور، ولذا سمي السفر سفراً؛ لأنه ينير ويكشف عن حقيقة الصاحب في السفر، فأنت إذا كان لك صاحب في الحضر وفي الرخاء تجد منه العسل؛ لأنه ليس هناك مشقة، وليس هناك إيثار على النفس، وليس هناك حاجة إلى أن يمده إليك، وأما عند الأسفار فهناك التعب، وهناك الظنة بما في اليدين، وهناك الشح بما يملك الإنسان، وهناك الكسل وعدم المبادرة إلى المساعدة، فتظهر حقائق الرجال في السفر، ولهذا كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا جاء إنسان ليزكي إنساناً عنده، وتزكية الشهود لم تحصل إلا في زمن عمر، وقبلها كان الشهود يُقبلون بدون تزكية.
فجاء رجل إلى عمر، وقال: يا أمير المؤمنين! أدرك الناس، فإن شهادة الزور قد تفشت في العراق، فأمر أن لا تقبل شهادة مجهول إلا بشاهدين يزكيان هذا الشاهد أنه صدوق وعدل، فكان عمر إذا جاءه إنسان ليزكي إنساناً يقول له: هل تعرفه؟ فيقول: نعم، فيقول له: هل بينك وبينه رحم؟ فيقول: لا، فيقول له: هل بينك وبينه معاملة في الدرهم والدينار؟ فيقول: لا، فيقول: هل سافرت معه؟ فيقول: لا، فيقول له: اذهب فأنت لا تعرفه.
لأن هذه هي الحالات التي تكون فيها المخالطة عن قرب، وتكون فيها مشاحة النفس؛ لأن الحياة بين الأرحام يحصل فيها شدة ويحصل فيها ضيق، ويحصل فيها غضب، ويحصل فيها رضا، كما هي شئون حياة البشر، فتعرف حقيقة الإنسان عندها، ويعرف إن كان شحيح النفس أو واسع الصدر.
وكذلك المعاملة بالدهم والدينار، يعرف عندها الإنسان هل هو يحرص على تحصيله من أي سبيل أو أنه يتعفف ويتورع عن الذي فيه شبهة؟! وكذلك السفر يعرف عنده الإنسان هل هو يحافظ على الصلاة في السفر؟ وهل يؤدي الأمانة في السفر؟ وهل يساعد رفيقه في مشاق السفر؟ وهل وهل.
إلخ.
قوله: (حتى أسفر) يعني: ظهر ضوء النهار من الليل جداً، يعني: قبيل طلوع الشمس، وربما بدأت إشعاعاتها البعيدة تحت الأفق في جهة الشرق.


مشروعية الدفع من المشعر الحرام والإسراع في بطن وادي محسر
قوله: (فدفع قبل أن تطلع الشمس) .
دفع قبل أن تطلع الشمس، يعني: قبيل طلوعها؛ لأننا إذا صلينا الفجر عند الأذان فقد صلينا قبل طلوع الشمس، وإذا صلينا بعد طلوع الفجر بنصف ساعة فقد صلينا قبل طلوع الشمس، وإذا صلينا قبل طلوع الشمس بعشر دقائق فقد صلينا قبل طلوع الشمس، ولكن إذا قيل: قبل طلوع الشمس فمعناه: قرب طلوعها.
قوله: (حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً) .
دفع من المشعر الحرام حينما أسفر جداً، وقبل أن تطلع الشمس، وذلك مغايرة لما كان قبل الإسلام، فقد كانوا يقولون: (أشرق ثبير كيما نغير) ولم يكونوا يفيضون من المزدلفة حتى تشرق الشمس على رأس جبل ثبير، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الجاهلية ونزل من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، ثم دفع حتى أتى بطن وادي محسر بين مزدلفة ومنى، فحرك راحلته قليلاً، وهنا من أعظم الدروس التي يأخذها الحجاج في حجهم في بطن هذا الوادي موجب هذا الإسراع، وموجبه أن هذا الوادي أنزل الله سبحانه فيه العذاب على قوم فأهلكهم، وجميع الأماكن التي هي مواطن المسخ أو مواطن العذاب، لا ينبغي لإنسان أن يقيم فيها ولا أن يمر بها، ولا أن يدخلها إلا للحاجة، ووادي محسر لابد للحاج أن يقطعه؛ لأنه بين المزدلفة وبين منى، وليس هناك طريق غيره، فإذا دخله فعليه أن يسرع الخطى حتى يخرج منه، وقالوا: إن الإنسان يسرع في هذا الوادي مقدار رمية الحجر، بقدر المستطاع؛ لأن الأمور تقديرية، فإن كان راكباً حرك الدابة، وإن كان ماشياً على قدميه أسرع خطاه، بقدر ما يتيسر له دون إرهاق.
والسبب في ذلك كما هو معلوم للجميع ما كان من قصة جيش أبرهة حينما جاء ومعه الفيل قاصداً هدم الكعبة، فلما وصل إلى الطائف رأى صنماً كبيراً فظنه الكعبة، فقالوا له: لا، إن مطلبك أمامك، فقال لهم: أعطوني رجلاً يدلني على الطريق، فأعطوه رجلاً، فمشى معه إلى أن نزلوا ببطن الوادي، وقد أصبحت مكة قريبة منهم، فجاء هذا الرجل إلى الفيل وهمس في أذنه وقال: أتدري يا محمود! إلى أين تذهب، وماذا يراد منك؟ وكان محمود اسماً للفيل، والناس قد يسمون بعض الحيوانات، فيسمون بعض الغنم سعدية وسعدة ونحو ذلك، فبقي الفيل جالساً، فلما أرادوا أن ينهضوا به حينما أرادوا الرحيل لم يقم، فضربوه وآذوه بمحاجم فلم يتحرك، فحولوه إلى حيث أتى فقام يهرول راجعاً، فحولوه إلى جهة الكعبة فبرك مكانه.
ودائماً ننبه في مثل هذه الحالات على أن الإنسان إذا كان طاغياً، وفكرة الطغيان مسيطرة عليه فإنه تغلق عليه الأبواب وتظلم بصيرته، ولا يرى الرشد، ونظير هذا ما وقع لفرعون عند أن جاء ووجد البحر مفلوقاً لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كل فرق كالطود العظيم، فأنت يا فرعون! لو كان عندك عقل، وأنت ترى البحر الذي تعرفه قد أصبح الآن طرقاً، والماء الرجراج قد أصبح مثل الجبل، فستعلم أن هذا شيء ليس بعادي، وستعلم أن هذا وقع لنبي كان يدعوك من قبل، وقد أراك تسع آيات، وأراك العصا والحية، ودعاك إلى الله وتعب معك في الدعوة، وأنت الآن أمام أمر يفوق قضية العصا والحية أو يعادلها، وقد مشى فيه موسى، فلماذا لم تقف وتتذكر وتعتبر بأن الذي فعل هذا لموسى ليس بقدرة موسى، وإنما هو بقدرة رب موسى الذي كان يدعوك إليه؟ ولماذا لم تأخذ العبرة والموعظة ما دام أن ربه قد عمل له هذا؟ إذاً: هو على الحق، فكان المنطق السليم أن يرجع فرعون أمام هذه الآية، ولكن طغيانه أنساه، وأظلم بصيرته، فلج ودخل في تلك الطرق وسط الأمواج، فأطبق الله عليه البحر وأغرقه هو وجنوده.
وكذلك نقول هنا لـ أبرهة: أنت قد رأيت الفيل وهو كما يقولون: أغلظ الحيوانات طبعاً، ولكنه ذكي، ويذكرون عن الفيل في تعليمه أنه من أذكى الحيوانات، ويفاضلون بينه وبين الفرس في الذكاء؛ لأن الفرس ذكي جداً، فها أنت يا أبرهة! قد رأيت أن الفيل ليس قادراً على أن يُقبل على ما أنت مقبل عليه، وقد جعل يرجع ويهرول إلى الموضع الذي أتى منه، أفلا ترجع؟! كان عليك أن تتأسى بالفيل، وأن تحجم عن الذي جئت من أجله، وأن ترجع كما رجع الفيل عنه، ولكنه أصر على المضي، فكان كما قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} [الفيل:1-3] الإبيل والأبابيل جمع: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] سبحان الله! يقولون: كان الطير يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في مخلبيه وحجراً في منقاره، وكان الحجر الذي يرميه على الفارس يخترق الفارس والفرس حتى يسقط إلى الأرض، وقد ذكرت لكم سابقاً أن بعض الناس يتساءلون ويقولون: إذا كان في الحجر قوة الاختراق هذه، وتخترق إنساناً من رأسه إلى الفرس إلى الأرض فكيف استطاع الطير أن يمسكها بمخالبه، وأن يمسكها بمنقاره؟ الجواب: قد ذكرت لكم أن هذا ممكن في الموجودات الأخرى، فقد وجد مثل هذا في حجر اليود، وهو يستخرج من ماء البحار المالحة، إذا وضعته على الحديد صهره، وإذا وضعته على الخشب أشعل فيه النار حالاً، وإذا وضعته على الزجاج لا يؤثر فيه شيئاً ولا يرفع الحرارة فيه حتى درجة واحدة، فالذي خصص الزجاج عن الحديد وعن الخشب هو الذي جعل الطير تأخذ هذه الحجارة ولا تؤثر فيها شيئاً، ويهمنا أن الله سبحانه أهلك ذاك الجيش بفيله في هذا الوادي، {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] .
فما كان موطن عذاب، فإن السنة فيه أن يسرع الإنسان ولا يقيم، ويقول كثير من المؤرخين: إن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا من الإرهاصات لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا أسرع النبي صلى الله عليه وسلم الخطى، وكما قال في مدائن صالح: (لا تدخلوها عليهم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا) أي: ولو من باب الشكليات؛ لتظهروا الأسف، وهنا نقول: أبرهة قد انتهى هو وجيشه وفيله، والذي نأخذه نحن في هذا الموطن من الموعظة والعبر أننا ننظر إلى منهجية الفريقين: الفريق الأول: هو هذا الجيش الباغي المعتدي، ودينه النصرانية، وهو على دين سماوي، حرف أو لم يحرف، والفريق الثاني: هم القوم الذين ذهب إليهم أبرهة ليهدم البيت الذي يعظمونه وهم وثنيون، ولا شك عند الجميع أن الكتابيين خير من الوثنيين، ومهما غير الكتابيون في دينهم إلا أن عندهم مبدأ وأصل، ولهذا جاز للمسلم أن يتزوج الكتابية، ولا يجوز له أن يتزوج المشركة الوثنية، وإنما يستمتع بها بملك اليمين، وأما بعقد نكاح فلا، وكذلك يترك أهل الكتاب على دينهم، ويُقبل منهم أن يدفعوا الجزية؛ لأنهم سيتركون على بقايا كتاب عندهم، أما الوثنيون فلا يقبل منهم أن يدفعوا الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإيمان أو السيف؛ لأننا إذا أخذنا منهم الجزية وتركناهم فسنتركهم على عبادة الأصنام، وهذا لا يقبل منهم، فهناك فرق بين الفريقين، ومع ذلك فإن الله أهلك من هم خير في العقائد وهم أهل الكتاب من أجل أولئك الوثنين الذين يعبدون الأصنام، مع أن الأولى والأحق بالنصرة هو الكتابي؛ لأنه على عقيدة، لها أصل وإن كانت محرفة، فلماذا؟ الجواب: إن الفارق الذي غلَّب جانب هلكة الكتابي هو الظلم؛ لأنه جاء ظالماً باغياً طاغياً يريد أن يهدم الكعبة، وماذا عملت به الكعبة؟ وإن أراد أن يؤذي قريشاً فماذا صنعت به قريش؟ هو بنى كنيسة وزخرفها وأراد أن يحج الناس إليها بدل الكعبة، فجاء رجل من عامة أهل البادية وتغوط داخلها، فغضب وأراد أن ينتقم، فيقال له: انظر أين الرجل الذي تغوط وانتقم منه هو، أما أن تأتي لتنتقم من جميع أهل مكة فهذا ليس فيه عقل ولا عدالة.
إذاً: أيها الحاج الكريم! إذا مررت بهذا الوادي وأسرعت فعليك أن تتساءل: لماذا أسرع هنا دون جميع الأماكن في الحج؟ سيقال لك: لأن هذا المكان حصل فيه كذا وكذا، إذاً: فاحذر أن تطغى، واحذر أن تظلم، واحذر أن تبغي على أحد، وتجنب الظلم، واذكر قوله سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) وقوله سبحانه في الحديث الآخر: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ؛ لأن الكافر إذا ظُلم، وطلب من يرفع الظلم عنه فلم يجد، فتوجه إلى الله، فهو عندما يتوجه إلى الله موقناً بأنه وحده القادر على أن يأخذ حقه، فهو في هذه اللحظة مؤمن بوجود الله، ومؤمن بقدرة الله، ومؤمن بعلم الله بظلمه وأنه سينصره، وهذا القدر يكفي في إجابة دعوته، وكما قالوا في قصة فرعون مع موسى: إن فرعون لما جاءه الغرق بدأ ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات، وموسى لم يلتفت إليه حتى لا يجيبه، فلما انتهى أمر فرعون عاتب الله موسى، فقال: يا موسى! فرعون يناديك عدة مرات، ولا تلتفت إليه لو دعاني مرة واحدة لأجبته؛ لأنه حينما يدعوه في تلك اللحظة فهو قد آمن، وهو يعلم أنه قادر على أن يعطيه دعوته.
إذاً: حينما يمر بذلك الحاج الموضع يتذكر ذلك التاريخ، وكما قلنا مثل ذلك في الرمل الذي كان في عمرة القضية عند أن تآمر المشركون على المسلمين لما بلغهم من ضعفهم، وفي موضوع السعي بين الصفا والمروة، في قصة طلب هاجر للماء، وكيف استطلعت من حولها فلم تجد أحداً، فاتجهت إلى الصفا ثم إلى المروة، كل هذه خطوات يجب على الحاج أن يستفيد منها بإحياء ذكراها، والتأسي بما تعطيه من مدلول.


الأعمال التي يعملها الحاج في يوم النحر إذا وصل إلى منى
وهنا أسرع صلى الله عليه وسلم في هذا الوادي، فلما انتهى منه وجاء إلى العدوة الثانية صار في حيز منى، ولما جاء إلى منى، أول ما فعله أنه أتى إلى الجمرة حالاً، ولم يذهب إلى منزله، ولهذا يقولون: إن تحية منى: هو المبادرة إلى رمي جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات من بطن الوادي.
وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس في المزدلفة: (التقط لي سبع حصيات) فأخذ معه سبع حصيات من المزدلفة، وهذا يدل على أن الحاج لابد أن يكون متأهباً للعمل الذي أمامه وهو رمي جمرة العقبة، حتى إذا وصلها شرع في رميها، ولا يذهب ينادي ويقول: ابحثوا لي عن حصى، بل عليه أن يكون متأهباً.
وهنا فكرة طرأت على ذهني في هذا الموقف وهي أن الله سبحانه وتعالى لما امتن على المسلمين بالوقوف بعرفة، وغفر لهم وحط عنهم أثقالهم، وفك عنهم قيودهم التي كبلهم بها الشيطان؛ لأن الشيطان قال: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء:62] فالشيطان قد توعد الأمة بين يدي الله أنه سيأتي بحبل ويضعه في حنكهم ويسحبهم كما يسحب الإنسان الدابة، وفعلاً كثير من الناس ينقاد له كذلك، فكان الإنسان يقترف في حياته خطيئة مع أخرى حتى صارت كالجبال فوق ظهره، وصار مثقلاً ومقيداً يقاد بمقود كالبعير، ولما كان يوم عرفات غفر سبحانه وتعالى له خطاياه وأزال عنه قيوده، فكيف سيكون حاله بعد هذا؟ سيكون على أمرين: الأول: الخفة، والثاني: استشعار النصرة من الله على عدوه، ولهذا ما رؤي الشيطان أصغر ولا أذل ولا أحقر منه من يوم عرفة؛ لما يرى من تنزل الرحمات، ولما يرى من أن الله قد غفر للجميع فينادي بالويل والثبور؛ لأنه طول عمره وهو يسعى وراء هؤلاء لإضلالهم، فإذا به في لحظة واحدة قد بطل مسعاه، وضاع كل جهده مع هذه الملايين التي جاءت ووقفت في الموقف، فيتأسف على ذلك، فإذا ما جاء الحاج إلى المزدلفة أخذ قسطاً من الراحة، والاستحمام، ثم ذهب ليصفي حسابه مع الشيطان -كما يقولون- لأن الشيطان كان معلناً عليه الحرب، وكان مستأسره، وكان مستضعفه، وقد فعل به ما شاء، فهو الآن جاء ليصفي حسابه مع الشيطان، وكأنه سيدخل معركة مع الشيطان، فيتزود من المزدلفة بالسلاح الذي سيعلن به الحرب على الشيطان، والذي يذهب إلى المعركة لابد أن يتزود بالذخيرة قبل أن يأتيها، ولهذا حين أن يأتي ليرمي الجمرة، يقول: (باسم الله، الله أكبر إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) ؛ لأنه بعد أن كان أسيراً للشيطان قد أطلق من أسره، وأصبح في موقف القوة، يعلن الحرب على عدوه، وهاهو يرمز -ورمي الجمرات ما هو إلا رمز، لا كما يظن الجهال أن الشيطان أمامه- إلى أنه قد انتهى من عدوه وبدأ معه طوراً جديداً، ومن أعلن الحرب على عدوه فلا يغفل عنه أو ينام، بل يكون أشد حرصاً من ذي قبل.
فهنا صلى الله عليه وسلم أخذ الحصى من المزدلفة، ويقول العلماء: من شاء اكتفى بسبع حصيات من المزدلفة، ثم يأخذ بقية الحصيات لبقية الأيام من منى، بشرط أن لا يلتقطها من مسجد، ولا يلتقطها من المرمى؛ لأنه قد أدى بها الواجب إنسان قبل، فأنت إذا أخذتها بعده فهو بمثابة الماء المستعمل في الوضوء لا يتوضأ به مرة أخرى.
إذاً: من شاء أخذ الحصى من مزدلفة، ومن شاء أخذ سبعاً من مزدلفة والتقط الباقي من طريقه أو من منى، وقد بين صلى الله عليه وسلم مقدار الحصاة كما جاء هنا: (كحصى الخذف) وحصى الخذف هي: الحصاة التي مثل حبة الفولة تقريباً ويمكن أن تضعها بين أصبعين وتخذف بها، مثل (النبّيلة) فتذهب إلى مسافة بعيدة، ولا ينبغي أن تكون كبيرة مثل الليمونة، ولا أن تكون صغيرة مثل حبة القمح؛ لأن هذه الصغيرة لا يعتبر الرمي بها، والكبيرة إذا أصابت إنساناً عند الحوض فإنها تؤذية، وليست المسألة مسألة إيجاع ولا تحطيم، ولا اعتداء، وإنما هي عبارة عن رمز.


حكم غسل حصيات الرمي والتوكيل في التقاطها
يبحث الفقهاء في هذه الحصى: هل يغسلها الحاج أو لا يغسلها؟ والقول بغسلها جاء عن بعض الشافعية، والجمهور يقولون: غسلها بدعة؛ لأن الرسول لم يغسلها، والأصل فيها الطهارة.
ولك أن تلتقطها بنفسك، ولك أن توكل إنساناً يلتقط لك، كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! التقط لي سبع حصيات) فأتى منى وجاء من بطن الوادي، وجعل منى عن يمينه، ومكة عن يساره، ورمى الجمرة بسبع حصيات وهو على راحلته، ولم يقف عندها، وإنما رمى وانصرف.


نحر الهدي يوم العاشر من ذي الحجة
قوله: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر) .
المنحر وهو اسم المكان الذي ينحر فيه، كما يقولون: المذبح، إذاً: هناك تعيين، فما كل إنسان يذبح في الطريق أو عند خيمته! ولكن عليه أن يأتي المنحر، وهذا من أوائل تنظيم الأعمال التي بها تكون منى صالحة للسكنى، وقبل مجيء المذابح الآلية الجديدة كنا إذا مشينا في أي مكان نرى الشياه مرمَّية في الشارع، وسبحان الله! الله أمر بتطهير البيت ومكة من هذه المظاهر في قوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ، وأين محله؟ قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وهل محله عند الكعبة بأن نذبح في مكة حول الكعبة؟ الجواب: لا، فقد جعل الله منى منحراً، إذاً: منى منحر رسمي لمكة.
وبهذا تكون جيف الذبائح قد أبعدت عن المسجد الحرام؛ لتظل مكة طاهرة طيبة بعيدة عن هذه القاذورات، والفضلات إلى غير ذلك.


عدد الهدي الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم والفرق بين النحر والذبح
أتى صلى الله عليه وسلم المنحر وكان معه من الهدي مائة بدنة، بعضها أخذها معه من المدينة، وبعضها أتى بها علي من اليمن، وشركه في هديه، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، ونحر علي الباقي.
والنحر للإبل والذبح للغنم، وأما البقر فمختلف فيه، والجمهور على أنها تذبح كما تذبح الشاة، والذبح هو: قطع الحلقوم من عند الرأس، والنحر هو: الطعن في اللبة من عند الصدر، والسبب في النحر أنه أسرع لإخراج الدم، فلو ذبح البعير لكانت المسافة بين القلب وبين مكان الذبح طويلة، ولكن لما تنحر الإبل تكون الفتحة التي يخرج منها الدم قريبة من القلب، فيستطيع القلب في فترة ما بين الحياة والموت أن يتخلص من جميع الدم الموجود في جسم الناقة، ولكن لو ذبحت فإنها تحتاج إلى (ماطور) في الصدر حتى يخرج الدم من مسافة رقبة البعير الطويلة، فيحتاج إخراج الدم يحتاج إلى مجهود؛ لأن القلب في مكان منخفض وسيتوقف بالموت قبل أن يخرج جميع الدم، فكان السر في نحر الإبل هو تيسير خروج الدم من جسم الإبل؛ لأن الغرض من النحر أو الذبح هو تخليص اللحم من الدم؛ لأن الدم فيه ثاني أكسيد الكربون، وفيه الأكسجين، فالأكسجين هو مادة الحياة، وثاني أكسيد الكربون هو غاز سام، والدم في خروجه من القلب إلى الجسم يحمل الأكسجين ليغذي به الجسم، وفي عودته من الجسم إلى القلب يحمل ثاني أكسيد الكربون ويمر في عودته بالرئة، فتصفيه من هذا الغاز السام عن طريق (الفلتر) الموجود في الرئة، فمواضع الترشيح التي في الرئة، تستخلص منه الغاز السام وتعطيه الأكسجين ويرجع في دورته إلى الجسم للتغذية مرة ثانية، وهكذا.
ولهذا يقولون: إن الحركة السريعة التي يأتي بها المذبوح من الطير أو الحيوان كبيراً كان أو صغيراً تساعد على إخراج الدم من الجسم إلى الخارج ليصفو اللحم، ومن هنا كانت الميتة فاسدة وضارة؛ لأنها تحتبس وتختزن القسم الذي فيه السم وهو ثاني أكسيد الكربون فيؤذي، ولهذا إذا وجدت شاة ميتة وذبحت شاة أخرى حية وسلختها وعلقت لحمها بجانب هذه الميتة فإن الفساد يسرع إلى الميتة حالاً، ويظل اللحم الآخر الذي هو مذكى ومذبوح صالحاً بعد ذلك لمدة يوم أو يومين لم يطرأ عليه الفساد؛ لأنه تخلص من عوامل الإفساد التي خرجت مع الدم.


نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة فيه إشارة إلى عمره
ويهمنا هنا أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاث وستين سنة، فما هي العلاقة بين ثلاث وستين بدنة ينحرها وثلاث وستين سنة يعيشها وهو في آخر سنة من سني حياته؟ الجواب: هذا كأنه رمز وإشعار منه صلى الله عليه وسلم للألباء أصحاب الفطن أن اعلموا أن عدد سنواتي ثلاث وستون، وأن هذه السنة هي النهاية، ففي هذا إشعار بعدد سنوات عمره صلى الله عليه وسلم.
ثم أمر علياً أن ينحر بقية المائة، ولماذا أكمل المائة ولم يكتف بالثلاث والستين؟ الجواب: أنه قد سبق لأبيه قبل ذلك، أنه وقع عليه السهم في أن يذبحه أبوه في النذر الذي كان عليه كما تقدم لنا أن عبد المطلب قال: (لئن رزقني الله عشرة أولاد يقفون بجاني يحملون السيف ويدافعون عني لأنحرن واحداً منهم) ، فأقرع بينهم، فجاءت القرعة على عبد الله والد رسول الله، ولكن عبد الله كان يحمل أمانة، وما كان الله ليتركه يذهب بها، فجاءت مفاداته وفودي بمائة من الإبل، إذاً: كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: يا رب! معذرة، أبي فودي بمائة من الإبل في الجاهلية، وأنا أقدم مائة من الإبل في الإسلام.


مشروعية أكل صاحب الهدي من هديه
ثم أمر علياً بأن يأتي بالجزارين ليسلخوها ويقطعوها، وأمره أن يأخذ من كل بدنة قطعة، وأمر أن تطبخ تلك القطع كلها في قدر واحد، فأكل من اللحم وشرب من المرق، وعلى هذا كانت السنة أن على من أهدى أن يأكل من هديه؛ من أجل أنه إذا علم أنه سيأكل من هذا الذي سيذبحه، فلن يذبح عجفاء عرجاء ويتركها في الشارع، بل سيتخير الشيء الذي تطيب نفسه أن يأكل منه؛ لأن الواجب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فإذا علم صاحب الهدي أنه سيأكل منها فإنه سيتخير، وهكذا كانت السنة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [6]
أيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعمة، وكلما أحدثوا شكراً على النعمة كان شكرهم نعمة أخرى، فيحتاج إلى شكر آخر، ولا ينتهي الشكر أبداً.
وفي الأمر بالذكر بعد انقضاء النسك معنى عظيم، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة.


بقية الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر بعد نحر الهدي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر) رواه مسلم مطولاً] .


الحلق يوم النحر وكيفيته
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختصره في هذا الموطن، وذكر غيره بقية الحديث، وأجمع من ذكره هو الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وهنا يقول: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه) وقد تقدمت الإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ساق معه من المدينة بعض الإبل، وجاء علي رضي الله تعالى عنه من اليمن أيضاً بجملة من الإبل، واجتمع من ذلك مائة بدنة، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، وأوكل إلى علي رضي الله عنه أن ينحر البقية، وأن يأتي بالجزارين ليسلخوا وليقطعوا وأن يعطيهم الأجرة من غير اللحم، وإذا كانوا مساكين أو يحتاجون إلى اللحم فيأخذون منه بصفة الحاجة، لا بصفة الأجر على عملهم.
وقد تقدم أن العلماء قالوا: كونه صلى الله عليه وسلم اقتصر على نحر ثلاث وستين بيده الكريمة فهذا فيه إشارة خفية إلى أن سني حياته صلى الله عليه وسلم ستنتهي عند الثلاث والستين سنة، وفعلاً توفي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة بقليل، وتقدم أن العلماء بحثوا في كلمة: (نحر) و (ذبح) فقالوا: إن النحر للإبل وهو أن تطعن في نحرها، أي: في لبتها وهي في آخر العنق من جهة الصدر، والذبح يكون في طرف العنق من جهة الرأس، فالذبح للشاة والنحر للإبل، والبقر مترددة بين الإبل وبين الغنم، فبعض العلماء يلحقها بالإبل لضخامة جسمها، وبعضهم يلحقها بالغنم لقصر عنقها، وتقدم أن الحكمة في أن الإبل تنحر والغنم تذبح: أن النحر والذبح كلاهما إنما يكونان من أجل أن يتخلص جسم الحيوان مما فيه من الدم، فإذا ما نحرت الناقة فسيكون موضع خروج الدم قريباً من القلب، ويستطيع القلب أن يظل مستمراً بالنبض إلى أن يخلص الجسم مما فيه من الدم، وتأتي حركة الأطراف في الحيوان المذبوح فتنشط الدم للخروج من الأطراف إلى القلب، والقلب يدفعه إلى الفتحة الناتجة عن النحر، وهي فتحة قريبة من القلب، لا يزيد بعدها عنه على ثلاثين سنتيمتراً، أما إذا ذبحت الإبل ذبحاً فإن القلب يحتاج إلى مجهود كبير ليدفع الدم إلى نهاية هذا العنق الطويل، وربما انتهت حياته قبل أن يخلّص البدن من كامل الدم الذي فيه، فكان الأنسب بالنسبة للإبل أن تنحر؛ لسهولة خروج الدم من هذا الجسم الكبير بالنحر، بخلاف الذبح.
وكان في الغنم الذبح؛ لأن مجمع العروق والحلقوم إنما هو في طرف الرقبة من جهة الرأس.
ولما نحر صلى الله عليه وسلم الهدي أمر علياً رضي الله عنه بأن يكلف الجزارين أن يأخذوا من كل بدنة بضعة لحم، أي: قطعة، وجمعت المائة قطعة من المائة بدنة في قدر وطبخ جميع ذلك، فأكل صلى الله عليه وسلم من اللحم وشرب من المرق، ومن هنا يقول العلماء: من استطاع أن ينحر أو يذبح هديه بيده فهو أولى، ومن لم يستطع أناب عنه، كما أناب النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله تعالى عنه في نحر بقية الهدي، وكذلك من السنة أن يأكل الحاج من هديه؛ وذلك لكي يتخير من الهدي ما تطيب نفسه أن يأكل منه، وعلى مبدأ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، فالذي تطيب نفسه أن يأكل منه يأخذه من أجل أن يأكل منه المسكين، أما إذا جاء إلى مريضة أو هزيلة أو لا تصلح للأكل فذبحها فإن المسكين يعاف أن يأكل منها كما يعاف صاحبها.
وبعد أن أنهى صلى الله عليه وسلم النحر حلق، كما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] بعدما نحر صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الحلاق فحلق له قبل أن يفيض إلى مكة لطواف الإفاضة، وأما كيفية حلقه لشعره صلى الله عليه وسلم فقد دعا الحلاق وناوله شق رأسه الأيمن، فحلقه ثم قال له: قسم هذا الشعر على الناس، يقول بعض العلماء: إنه طيّب به خواطر من لم ينل شيئاً من اللحم، والتحقيق عند أكثر العلماء: أنه أمر بتقسيمه حفظاً له وإكراماً له لئلا يلقى في الأرض فيوطأ، فأمر أن يوزع على الناس، وكل يتمنى أن ينال الشعرة أو الشعرتين ليحتفظ بها ويكرمها دون أن تصاب بأذى أو امتهان.
وقد كان عند بعض الصحابة بعض ذلك الشعر، حتى قيل: إن خالد بن الوليد كان يحتفظ بشعرات في قلنسوته، وأم سلمة رضي الله عنها كانت تحتفظ بشعرات في جلجل من فضة، فكان إذا أتاها محموم جاءت بماء فصبته فيه، وحركت هذا الجلجل بما فيه من هذه الشعرات ثم سقته المريض فيعافيه الله سبحانه وتعالى بفضله، وهكذا لما حلق الشق الثاني من الرأس قال: خذ هذا أنت.


الحلق أفضل من التقصير عند التحلل من النسك
وهكذا حلق صلى الله عليه وسلم والحلق هو الأفضل للتحلل من النسك، كما قال سبحانه وتعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، ومعلوم أن تقديم أحد المتساويين يدل على فضله، أو الاهتمام به، كما جاء في الصفا والمروة في قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] ، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: (من أين ستبدأ؟ قال: أبدأ بما بدأ الله به) أو قالوا: (من أين سنبدأ؟ قال: ابدءوا بما بدأ الله به) ، فهنا تقديم (محلقين) على (مقصرين) يدل على أفضليته، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، أو الحديبية حينما حلق بعض الناس وتأخر البعض وقصر، فقال: (اللهم! ارحم المحلقين ثلاث مرات، فقالوا: والمقصرين يا رسول الله! -وفي الثالثة أو الرابعة قال- والمقصرين، فقيل: وما شأن المقصرين يا رسول الله! وما شأن المحلقين؟ قال: أولئك لم يشكوا) أي: لم يترددوا في الحلق ولو لم يصلوا إلى البيت الحرام.


طواف الإفاضة والخلاف في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم النحر
نحر صلى الله عليه وسلم وحلق ثم ركب ونزل إلى البيت، وطاف طواف الإفاضة، وفي حديث جابر: (وصلى الظهر بمكة) وهذه المسألة فيها ثلاث روايات في صلاته الظهر يوم العيد: الرواية الأولى: كما ذكر المؤلف أنه صلى الظهر بمكة، ثم رجع إلى منى.
الرواية الثانية: أنه رجع من مكة إلى منى وصلى الظهر فيها.
الرواية الثالثة: أنه صلى الظهر بمكة حينما دخل وقتها، ولما رجع إلى منى وجدهم ينتظرونه فصلى بهم الظهر مرة أخرى، ولا مانع من مثل ذلك؛ لأن غاية ما فيه أنه كرر الصلاة مرتين، ووقت صلاة الظهر ليس من الأوقات المنهي عن الصلاة بعده، بل جاء فيما يتعلق بصلاة العصر أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى العصر ذات يوم، فدخل رجل متأخراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟ فقام رجل وصلى معه) حتى اكتسب أجر صلاة الجماعة مرة ثانية، وهنا كذلك.
وسواءً صلى الظهر بمكة أو صلى بمنى أو صلى بالموضعين فإنه رجع إلى منى يوم العيد وبقي هناك وبات، أي: ليلة اليوم الثاني من أيام العيد وهو اليوم الأول من أيام التشريق.


الأعمال التي يعملها الحاج أيام التشريق
ثم بعد ذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الغد، وهو أول أيام التشريق انتظر حتى زالت الشمس، فركب وأتى إلى الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصيات مستقبلاً الجمرة والكعبة، يعني: مستقبلاً القبلة، جاعلاً الجمرة بينه وبين الكعبة، أي: على مستوى مسيره من المسجد، فإذا خرجنا من المسجد وتوجهنا إلى الجمرات فإننا نواجه الجمرة الأولى في طريقنا ونكون مستقبلين الكعبة ومتوجهين إلى مكة، وهناك رمى صلى الله عليه وسلم الجمرة بسبع حصيات، ثم تنحى جانباً، واستقبل القبلة ووقف ودعا طويلاً، ثم مضى إلى الجمرة الوسطى أيضاً وهو مستقبل القبلة، ورماها بسبع حصيات، ثم تنحى جانباً واستقبل القبلة ودعا طويلاً، ثم مضى إلى جمرة العقبة الكبرى، وتياسر مع الوادي، وجعل الجمرة أمامه، ومنى عن يمينه، ومكة عن يساره، ورماها بسبع حصيات وانصرف ولم يقف عندها ولم يدع.
يقولون: إنه لم يقف لأن المكان لا يتسع؛ لأن عندها العقبة، وهي: جبيل صغير، والجمرة تقع بجانبه من جهة بطن والوادي، فيقف الواقف في بطن الوادي ويرمي، وليس هناك متسع؛ لأن كل من رمى إذا أراد أن يدعو، وجاء إلى بعض الجوانب فسيجد العقبة تشغل المكان وليس هناك محل يمكن أن يقف الناس فيه ليدعوا كما دعوا في الأولى وفي الوسطى، فرمى جمرة العقبة الكبرى، وهي الأخيرة، أي: التي رماها بالأمس يوم العيد، وجعلها آخر ما رمى من الجمرات الثلاث، ثم رجع إلى مخيمه.
وهكذا فعل في اليوم الثاني من أيام التشريق مثل ذلك.


الترخيص لرعاة الإبل وأصحاب الأعمال العامة في عدم المبيت بمنى أيام التشريق
وأذن لرعاة الإبل ولأصحاب الأعمال العامة الذين يخدمون الحجاج أن يذهبوا إلى حيث يعملون، فذهب الرعاة بالإبل إلى خارج منى ليرعوا الإبل هناك، ويمكثوا اليوم الثاني من أيام التشريق، على أن يرجعوا في اليوم الثالث من أيام التشريق ليرموا عن اليوم الثاني والثالث، وعلى هذا فعملهم في يوم النحر أنهم رموا جمرة العقبة ثم أفاضوا ثم جاءوا وباتوا في منى، ثم رموا جمار اليوم الأول من أيام التشريق وذهبوا، ومكثوا في مكان عملهم اليوم الثاني ولم يأتوا إلى منى ولم يرموا، وفي اليوم الثالث جاءوا إلى منى فرموا جمرات اليوم الثاني الذي لم يأتوا فيه إلى منى، كما رموا في اليوم الأول: الأولى فالوسطى فالعقبة، ثم رجعوا فرموا لليوم الذي هم فيه وهو اليوم الثالث على الترتيب السابق: الأولى فالوسطى فالعقبة.
وكذلك أذن صلى الله عليه وسلم لأصحاب السقاية أي: الذين يسقون الحجيج في زمزم، وأذن للعباس رضي الله عنه لأنه كان صاحب السقاية أن ينزلوا ويبيتوا في مكة تلك الليلة من أجل مباشرة عمل السقاية، وهي خدمة الحجيج.
وهنا يمكن أن نقول: إن أصحاب المهن المرتبطة بأعمال الحجاج وخدماتهم إذا كان الحال يتطلب خروجهم أو ذهابهم عن منى فإنه لا مانع أن يؤذن لهم كما أذن لرعاة الإبل، وكما أذن لأصحاب السقاية، فمثلاً: توجد المستشفيات في مكة وفي منى وفي غيرها، فإذا كان هناك طبيب محرم بالحج، وملتزم بمناسكه، وجاء وطاف طواف الإفاضة، ثم رجع ليبيت في منى ولكن عمله يتطلب أن يكون في مكة، فله أن ينزل ويبيت ليزاول عمله بعد أن يرمي الجمرات في وقت من النهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكلف الرعاة بأن يفدوا عن غيبتهم وعن تأخيرهم الرمي، وكذلك أصحاب السقاية، ويتفق العلماء على أن من ترك الرمي في أول أيام التشريق، وثاني أيام التشريق، ثم جاء في اليوم الثالث من أيام التشريق فرمى عن اليوم الأول: الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم رجع فرمى عن اليوم الثاني: الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم رجع فرمى عن اليوم الثالث: الأولى فالوسطى فالكبرى، أنه لا شيء عليه، وأن ذلك يجزئه.
وهكذا ينبغي أن يوسع لأصحاب الأعمال؛ لأن الذي يتخلف منهم عن المبيت بمنى لم يتخلف لمصلحة نفسه، ولا لرفاهية يطلبها، وإنما من أجل خدمة الحجيج.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر إلى اليوم الثالث.


حكم المرأة إذا حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة والخلاف في ذلك
وحينما رجع صلى الله عليه وسلم من مكة في يوم العيد، كانت نوبة صفية رضي الله تعالى عنها، فسأل عنها: أين هي؟ فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها: إنها حائض، فقال: (عقرى حلقى، أحابستنا هي؟) أي: أتحبسنا حتى تطهر وتغتسل وتطوف طواف الزيارة ثم نرحل؟! فقيل له: إنها قد طافت، يعني: طافت قبل أن تأتيها الحيضة، فأمرهم بالرحيل، ومن هنا أخذ العلماء المبحث الأول الذي سقناه سابقاً وهو: أن المرأة إذا أتاها الحيض قبل أن تطوف طواف الزيارة، وهو طواف الإفاضة ماذا تفعل؟ الكلام في هذا المبحث كثير، والخلاف فيه مشهور عن الأئمة الأربعة، فـ الشافعي ومالك يشددان في ذلك ويقولان: تبقى على إحرامها وتبقى على حالتها ولو سافرت إلى بلدها فعليها أن ترجع.
أما أبو حنيفة رحمه الله وهي رواية عن أحمد فيقولان: إنها إن لم تستطع أن تصبر إلى أن تطهر، لعدم وجود محرم ينتظر معها، أو لنفاد نفقتها، أو لفوات رفقتها فإنها تتحفظ وتطوف وعليها بدنة فدية؛ لأنها قد أصبحت في هذه الحالة مضطرة بين أن ترجع إلى بلدها وتبقى على إحرامها، وتبقى كذلك محرّمة على زوجها إلى أن تأتي مرة أخرى، وتكمل حجها وتفك إحرامها، وبين أن تبقى في مكة حتى تطهر وتكون وحيدة منفردة وقد فاتتها الرفقة، وقد يكون عليها من الخطر ما يكون.
وقد ناقش العلماء هذه القضية طويلاً، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله كما بينا يجوز لها عند الضرورة القصوى أن تتحفظ وتطوف وعليها بدنة، وجاء الإمام ابن تيمية رحمه الله وبحث المسألة بحثاً ضافياً فيما يقرب من خمسين صفحة وهذا البحث موجود في كتاب مجموع الفتاوى، وبين الأدلة في هذه القضية بياناً لا يوجد نظيره عند غيره، وانتهى إلى القول بأنها معذورة، وأنها لا شيء عليها، لا بدنة ولا غيرها؛ لأنها لم تفرط، وهذا الأمر خارج عن يدها، والمشقة تجلب التيسير، ولا ضرر ولا ضرار إلخ.


نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح والخلاف في سببه
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم من أعمال منى نزل بالأبطح، وكان يسمى (خيف بني كنانة) وهو موجود الآن في أوائل مكة في ما يسمى قصر السقاف، موضع الرابطة سابقاً، وهنا يبحث العلماء في سبب هذا النزول، فبعضهم يقول: نزل فيه نزولاً تابعاً للنسك، وبعضهم يقول: إنما نزل فيه لأنه واسع وهو في بادئ مكة، فيكون أيسر له ولمن معه إذا أرادوا السفر إلى المدينة؛ لأن السفر من هناك أيسر عليهم من أن يدخلوا مكة وبيوتها وأزقتها ثم يخرجون، فهذا فيه مشقة عليهم، إذاً: مبيته في هذا المكان الذي هو خيف بني كنانة اختلف فيه هل هو تابع للنسك أو هو من أجل المصلحة؟ وابن كثير رحمه الله يذكر لذلك سبباً آخر وهو: أن خيف بني كنانة هذا في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان له تاريخ، لما تآمرت قريش على بني هاشم، أن لا يبايعوهم ولا يزاوجوهم، ولا يعاشروهم، حتى اضطروا إلى أن ينحازوا إلى الشعب، واشتد الأمر عليهم، حتى أكلوا ورق الشجر، وكتبوا في ذلك صحيفة، وعلقوها داخل الكعبة، وكانت هذه الصحيفة تسمى: الصحيفة الظالمة، وقد كتبوها في هذا الخيف.
وبعد أن كتبت بمدة جاء جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد سلط الأرضة على الصحيفة فأكلتها، ولم يبق منها إلا: لفظ الجلالة فقط، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، وقال: إن الصحيفة التي كتبوها وعلقوها بالكعبة سلط الله عليها الأرضة فأكلتها، ولم يبق منها إلا لفظ الجلالة، فذهب أبو طالب إلى سادات قريش، وقال: يقول ابن أخي: إن صحيفتكم الظالمة قد سلط الله عليها الأرضة فأكلتها، ولم يبق منها إلا لفظ الجلالة فهلموا انظروا إليها، إن كان صادقاً فلا حاجة إلى هذه القطيعة، والغوا هذه الصحيفة، وإن كان كاذباً فشأنكم به.
ففتحوا الكعبة، ونظروا الصحيفة، فوجدوها كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك استمروا في العناد، فقام أربعة نفر من قريش وقالوا: والله! إن هذا ظلم، أفنقاطعه بعد أن تبين لنا صدقه؟! فتآمروا أنهم إذا جاء الليل يكون كل إنسان من الأربعة في ركن من أركان المسجد، فيقوم الأول ويقول: إن تلك الصحيفة الظالمة لم نحضرها ولم نرض بها ولا نقرها، فيتكلم أبو جهل فيقوم الثاني ويؤيد هذا القول، وهكذا الثالث والرابع، وحينئذٍ ستجد قريش نفسها أمام الأمر الواقع، ففعلوا ما تآمروا عليه حتى قال أبو جهل: إن هذا أمر بيت بليل، يعني: ما جاء صدفة الآن وإنما أنتم متفقون عليه بليل، فيقولون: إن تلك الصحيفة الظالمة كتبت في خيف بني كنانة، حيث اجتمع كفار قريش هناك في ذلك الخيف وكتبوها وجاءوا بها وعلقوها داخل الكعبة، فيقول ابن كثير: كما أن هذا الخيف شهد كتابة الصحيفة الظالمة فليشهد نزول النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه عقب هذا النسك العظيم، فكما شهد الظلم يشهد العدل ويشهد ذكر الله من هذا الرهط الكريم، والله تعالى أعلم.


مشروعية العمرة بعد الحج للقارن
وهناك قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أريد عمرة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (يكفيك عمرتك مع حجك) لأنها بدأت أول ما بدأت من ذي الحليفة متمتعة، لكنها لما وصلت إلى سرف -وسرف قبل مكة بمرحلتين- أتتها الحيضة، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال: (ما يبكيك لعلك نفست؟) والحيض يطلق عليه نفاس أيضاً، قالت: (نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء) وفي قوله صلى الله عليه وسلم هذا يرد به العلماء على من قال: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا أمر كتبه الله على بنات حواء - أي: من أول الدنيا- اغتسلي وقولي: حجة في عمرة) فكانت متمتعة ولكن الحيضة منعتها من أن تتحلل من عمرتها قبل الحج، فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، ولما طهرت طافت للحج والعمرة معاً، فكانت قارنة قد جمعت بين النسكين، فقالت: أترجع صاحباتي كلٌ بحج وعمرة، يعني: مفردة مستقلة، وأرجع أنا بحجة فقط؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن: (اذهب بأختك وأعمرها من التنعيم) والتنعيم هو: المكان المعروف الآن بـ (مسجد عائشة) ، والمسافة بينه وبين الحرم المكي سبعة كيلومترات، وهذا كما يقولون: هو أدنى الحل، لأن حرم مكة وحلها متفاوت المسافات، فبعض الجهات الحل بعيد فيها كما هو الحال فيما وراء مزدلفة، وبعض الجهات قريب؛ كالتنعيم، إذ لا يتجاوز سبعة كيلو مترات، وبعض جهات الحل المسافة إليها فوق العشرين كيلو متراً، فأدنى الحل في مكة إلى الحرم هو التنعيم، ومن هنا اشترط العلماء أن كل مكي سواءً كان آفاقياً أو مكياً أصلياً إذا أراد العمرة فإن عليه أن يخرج من حدود الحرم إلى أدنى الحل، ويعقد الإحرام هناك، ويدخل إلى الحرم عاقداً نية العمرة، وهذا يؤديه المعنى اللغوي؛ لأن العمرة هي بمعنى الزيارة، والحج هو بمعنى القصد إلى معظم، فكيف تكون زيارة وأنت تحرم من وسط البيت؟ وكيف تزور وأنت جالس في البيت؟ فالزائر لابد أن يأتي من الجانب، كما يقولون: الزور، والزور يكون من فتحة الفم، ويعمل زاوية وينزل إلى الرقبة إلى الجوف، يعني: الزائر يأتيك عن جنب، كما أن الزور يأتي عن جنب من الفم، فلا يتأتى أن يقول القائل: أنا زائر وهو جالس في البيت، بل لابد من الخروج.
ويستدلون على ذلك أيضاً أن ابن الزبير لما بنى الكعبة على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابين مساويين للأرض، لما أتم البناء خرج بأعيان مكة إلى التنعيم، وأحرموا منه وجاءوا بعمرة شكراً لله على إتمام بناء الكعبة، وقد اتفق الأئمة الأربعة على أن من كان في مكة وأراد العمرة فلابد أن يخرج إلى الحل، وقالوا: كل نسك عمرة أو حج لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم، أما العمرة فكما ذكرت، وأما الحج فإن من جاء متمتعاً وأحرم يوم التروية من مكة فإنه سيخرج إلى الحل -أي: إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم- ثم ينزل ويدخل إلى الحرم ليكمل نسكه.
فخرجت عائشة مع أخيها وأتت بعمرتها، وانتظرهما صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر، ثم رجعوا إلى المدينة.


حكم طواف الوداع للحائض والنفساء
ومما يتعلق بالمرأة إذا حاضت قبل ذلك، أو فاجأها الحيض بعد طواف الإفاضة وقد بقي عليها طواف الوداع، ما جاء الخبر فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض والنفساء) ، فالحائض أو النفساء لا وداع عليها؛ لعذرها ولعدم الحاجة إلى تأخرها حتى تطهر، وهذا بخلاف طواف الإفاضة.
هكذا كانت حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فرغ من الحج ورجع إلى المدينة رجع كل وفد من الطريق الذي جاء منه، ورجع الناس إلى بلادهم بعد أن وادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا خلاصة ما بقي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.


الكليات الخمس والإشارة إليها في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر
وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد، وهذه الخطبة هي الخطبة العظيمة التي بين فيها صلى الله عليه وسلم مجمع أحكام الإسلام كاملة، وبدأ الخطبة بقوله: (أيها الناس! أي يوم هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم الحج الأكبر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بالشهر الحرام؟ -لأن شهر ذو القعدة وذو الحجة والمحرم هذه الثلاثة من الأشهر الحرم، والرابع هو شهر رجب- قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: ألا -أداة التنبيه والاسترعاء- إن دماءكم وأموالك وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا،) يعني: تحريم مضاعف ثلاث مرات، بحرمة الزمان والمكان.
وهنا يتأمل الإنسان في قوله: (دماءكم وأموالكم وأعراضكم) وهذه أعظم ثلاث جواهر من الجواهر الست التي لا قيام لأي مجتمع بدون الحفاظ عليها، يقولون: هذه الجواهر الست لا غنى لأي مجتمع أياً كان دينه عنها، فإذا ما انتهكت تلك الجواهر ضاع هذا المجتمع، وصار لا قيام له ولا كيان، وأول شيء للمجتمعات هو الدين، فلابد لكل مجتمع من دين أياً كان هذا الدين، سواءً كان سماوياً أو أرضياً صحيحاً أو باطلاً، فلابد من تدين؛ لأن التدين يملأ الداخل، فإن كان سماوياً صحيحاً فهذا هو الرشد، وإن كان غير ذلك فهذا هو الضلال والعياذ بالله! ولهذا يقول بعض الكتاب: من الممكن أن ترى مدينة بدون ملعب، وبدون ملهى، وبدون حديقة، وبدون مسبح، ولكن لا يمكن أن ترى مدينة بدون معبد، فالعبادة والتدين هو من طبيعة البشر، فالدين من الجواهر الست، ولهذا جاء الإسلام بالحفاظ على الدين، وأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يأخذوا بهذا الدين، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] .
وبين صلى الله عليه وسلم حكم من بدل دينه فقال: (من بدل دينه فاقتلوه) وحرم كل ما يؤدي إلى تبديل الدين وتغييره من البدع والخرافات؛ لأن البدع بريد الكفر، وجعل في الردة القتل، وجعل في البدع والخرافات التعزير.
النوع الثاني من الجواهر: العقل، والعقل هو ميزان الإسلام، وهو الجوهرة التي يتميز بها الإنسان عن جميع الكائنات، والتي بها عرف الله سبحانه وتعالى، وتلقى الخطاب بالتكاليف عن الله، والإنسان بغير العقل ينزل عن مستوى الحيوانات؛ لأن الحيوانات لديها تمييز ولديها إدراك، وتعرف ما ينفعها وما يضرها، فتجتنب ما يضر وتسعى إلى ما ينفع، أما فاقد العقل فهو يؤذي نفسه أكثر مما يؤذيه عدوه، ومن هنا أمر الله بالحفاظ على العقل، وحرم كل ما يفسد هذا العقل، وكذلك حرم ما يوصل إلى فساد هذا العقل، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وقال: (كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) وإن كان لا يسكر لكنه طريق إليه، وهكذا حرم كل ما يخل بالعقل من نباتات وكيميائيات، وما أشد مضرة العالم كله اليوم من تلك المفسدات التي دخلت على العقل، وشغل العالم والأمم والدول والحكومات بمطاردة هذه المفسدات التي أفسدت الشباب وأضاعت جهدهم وكيانهم.
النوع الثالث: النفس، حافظ الشرع عليها ولهذا حرم الله القتل وجعل فيه القصاص، وجعل من قتل نفساً واحدة ظلماً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وشرع القصاص فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] .
النوع الرابع: النسب، والنسب هو قوام المجتمعات، ولهذا حرم الله ما يفسد الأنساب، فحرم الزنا، وجعل فيه إما الرجم وإما الجلد، وحرم ما يوصل إليه، من الخلوة بالأجنبية، والسفر بدون محرم، وكذلك سد المنافذ بين الرجل والمرأة عن طريق السمع، وعن طريق البصر، وعن طريق الشم، وعن طريق الحركة، فعن طريق البصر قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] وعن طريق الشم قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة تعطرت فخرجت من بيتها فمرت بقوم فوجدوا منها الطيب فهي زانية) وكلمة زانية عظيمة جداً على الأذن، لكن كما بين صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الزنا على كل شخص، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع -إلى أن قال:- والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) .
وكذلك سد منافذ السمع، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ومنع الرجل من أن يتسمع أو المرأة من أن تلين بكلامها للرجال، وكذلك الحركة قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فكل هذه المنافذ التي توصل شبح المرأة إلى قلب الرجل أو العكس أمر الإسلام بإقفالها، سلامة لها منه وسلامة له منها؛ وذلك لئلا يصلا إلى ما فيه الحد ألا وهو الزنا، وبهذا حفظت الأنساب.
النوع الخامس: الأموال، فقد حفظ الشرع الأموال بأن جعل الله في السرقة حد القطع، وحرم كل ما يوصل إليها، وحرم أكل أموال الناس بالباطل: كالغش، والخداع، والتدليس، وتطفيف الكيل والوزن إلخ، كل ذلك حرمه الله حفظاً للمال، فإذا ما حفظ للمجتمع دينه وعقله ودمه ونسبه وماله كان آمناً، وإذا ما انتهكت فيه بعض هذه الكليات اضطرب ميزانه، وتقوضت أركانه، ففي حجة الوداع في تلك الخطبة العظيمة قال صلى الله عليه وسلم: (إلا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ... ) إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) إلى غير ذلك.
ثم أتبع هذا المبدأ الأساسي بالأمر بالأمن حتى يحتفظ المجتمع بالأمن، وحتى لا يكون هناك مجال للاعتداءات، فجاء إلى المرأة شقيقة الرجل فقال: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، استحللتموهن بكلمة الله) أي: ليس بالصداق الذي يدفع، وإنما الصداق نحلة، وإنما الذي أحلها لزوجها بعد أن كانت محرمة عليه هو قول وليها: زوجتك على كتاب الله وسنة رسول الله، فيرد ويقول: قبلت هذا الزوج على كتاب الله وسنة رسول الله.
ثم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وذكر صلى الله عليه وسلم حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الولاة، إلى آخر ما جاء في تلك الخطبة العظيمة التي لو جمعت أطرافها، وبوبت وشرحت وبين ما فيها لكانت أعظم دستور للأمة؛ لأنها تبين ما أجمله القرآن والسنة من تعاليم الإسلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.


جواز التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر
ومما يذكر يا إخوان! في ذلك اليوم وهو من أهم ما يرفق بالناس أنه صلى الله عليه وسلم سأله: سائل فقال: ما شعرت رميت قبل أن أنحر، وقال آخر: ما شعرت نحرت قبل أن أرمي، وقال آخر: حلقت قبل أن أنحر، وكلما سئل قال للسائل: (افعل ولا حرج) ويقول الراوي: ما سئل عن شيء في ذلك اليوم إلا وقال: (افعل ولا حرج) لأنهم يقولون: يستحب في أعمال ذلك اليوم الترتيب الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهو أنه يبدأ برمي جمرة العقبة، ثم بعد الرمي يذهب وينحر، وبعد النحر يحلق، وبعد الحلق يطوف طواف الإفاضة، هذا هو الترتيب الطبيعي، ولكن في هذا الحديث جاء التيسير على من قدم شيئاً على غيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لكل من سأله: (افعل ولا حرج) أي: وليس عليك فدية في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [7]
دين الإسلام دين الرحمة واليسر، فليس في الإسلام حرج أو مشقة، وإن عرضت فقد رفعها الإسلام، ولهذا فإن من القواعد الكلية في الشريعة أن المشقة تجلب التيسير، ومن ذلك التيسير ما جاء في مناسك الحج، فقد وسع الشرع على المحرم في أداء المناسك، ورفع عنه المشقة كما جاء في القصر والجمع بين الصلوات، والتوسعة في الوقوف في أي مكان من أرض عرفات، وكذلك في المزدلفة، والإذن بالنحر في المكان الذي يكون فيه المحرم، والإذن لأهل الأعمال بالمبيت خارج منى ليالي أيام التشريق، إلى غير ذلك.


مشروعية الدعاء عقب التلبية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار) رواه الشافعي بإسناد ضعيف] .
يذكر لنا المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث الذي رواه الشافعي رحمه الله وإن كان بسند ضعيف، إلا أنه من الأعمال التي هي من نوافل العبادات، والتي ليست من الأحكام كالحلال والحرام، وكما يقولون: أحاديث الترغيب والترهيب لا يشدد فيها كما يشدد فيما يتعلق بالتكليف من حلال أو حرام ومن فعل أو ترك.
يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة) ، وقوله: (من تلبيته) أي: التلبية المنسوبة إليه، والتي كان يأتي بها، وقد تقدم لنا أن التلبية عند الفقهاء واجب من واجبات الحج، يعني: أن كل من أتى بنسك حج أو عمرة فإنه يجب عليه أن يلبي ولو مرة واحدة، أي: أن الواجب يؤدى بمرة واحدة، وما عدا ذلك فهو من باب الزيادة والفضل.
وكان صلى الله عليه وسلم يجدد التلبية كلما تجدد له حدث، بمعنى: أنه إذا كان يمشي في أرض مستوية فهبط وادياً في طريقه جدد التلبية، وإذا انتهى من هذا الوادي وقابل مرتفعاً جدد التلبية، وإذا لقي ركباً في الطريق جدد التلبية، وإذا نزل منزلاً للراحة أو للطعام أو للشراب جدد التلبية، وإذا بدأ الرحيل كذلك جدد التلبية، وهكذا كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (تُجدد التلبية عند كل حدث يواجه المحرم) .
وقد تقدمت صيغة التلبية عنه صلى الله عليه وسلم وهي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) إلى هنا كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يزيد: (لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) ويقول العلماء: إن هذه الزيادة من باب الذكر، ولا بأس بها؛ لأن ألفاظها تتناسب مع التلبية، ومعناها الإقامة على الطاعة والامتثال.
فكان إذا فرغ من تلبيته صلى الله عليه وسلم يعقب ذلك أنه يسأل الله المغفرة والرحمة، ويستعيذ بالله من العذاب.


استحباب الدعاء بعد كل عبادة
وهذا التذييل بالدعاء والإتباع يعتبر قاعدة عامة في التشريع، فإن كل ذكر واجب تجد أن الدعاء مطلوب بعده، ففي الأذان قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تكون إلا لواحد أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) وكذلك يكون الدعاء عقب الصلوات، وكذلك عند الإفطار من الصيام في آخر النهار، وكذلك عند ختم القرآن، فمن ختم القرآن فإن له دعوة مستجابة، وهكذا نجد أنه يستحب الدعاء عقب كل عبادة مشروعة؛ لأن الدعاء طلب ومسألة، وأرجى ما تكون الإجابة للعبد في سؤاله أن يقرب بين يدي مسألته قربة لله بحيث يكون حينما يدعو قريباً من الله، وفرق بين أن تكون قريباً من الله وأن يكون الله قريباً منك؛ لأن الله أقرب للعبد من حبل الوريد، فالله قريب من عبده، ولكن العبد هو الذي يتباعد أو يتقرب إلى الله كما في الحديث القدسي: (من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً) إذاً: العبادة قربة يتقرب بها العبد إلى الله، فإذا اقترب إلى الله -وهذا الاقتراب في حق الله سبحانه وتعالى هو كما يليق بجلاله وكماله، ليس قرب مسافة ولا زمان ولا مقياس بمتر ولا كيلو- استجاب له دعاءه.
وفي الآية الكريمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] كان هذا تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم وإقلالاً عليه من كثرة الأسئلة التي لا طائل منها؛ لأنهم كانوا يشغلونه بأسئلة شخصية، وهو ما جاء للشخصيات، وإنما جاء للعمومات، فلما فرضت عليهم الصدقة قبل مناجاته خففوا من الأسئلة؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يتصدق عند كل سؤال، وكما يقول علماء التفسير: ما عمل بها إلا علي رضي الله عنه، ثم نسخت بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المجادلة:13] .
إذاً: كون الإنسان يدعو عقب التلبية، فيه كما يقال: جلب النفع ودفع الضر، وفيه الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فقوله: (إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة) هذا فيه طلب منفعة، وقوله: (واستعاذ برحمته من النار) هذا فيه دفع مضرة، فهو طلب واستعاذ، طلب الجنة واستعاذ من النار، فلم يبق بعد هذا شيء؛ لأن طلب الجنة هو طلب كل خير وسعادة في الآخرة، وهي السعادة الحقيقية، والاستعاذة من النار هي السلامة من كل سوء، وكما جاء الأثر: أن رجلاً أعرابياً سمع الرسول والصحابة يدعون ويجتهدون بالدعاء، فقال: (يا رسول الله! قال: نعم، قال: علمني دعاء ولا تكثر، فإني لا أحسن دندنتكم هذه) هذه الدندنة التي أنتم تدندنونها وترددونها وتأتون بها أنا لا أعرفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ماذا تقول إذا دعوت؟ قال: أنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: ونحن حول هذا ندندن) .
ولهذا جاء في حديث عائشة حينما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر وفضلها، قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟) انظر الموقف! السؤال عن أفضل ما يكون عن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والسائلة هي أحب من يكون إلى رسول الله، والمجيب هو أحب من يكون إليها، فالموقف كله محبة ووئام، إذاً: التعليم الذي يصدر في هذا الجو وفي هذه البيئة، وفي هذه الأحاسيس هو من حبيب إلى حبيب في محبوب فقال لها: (قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) يقول بعض العلماء: (والله! لقد نظرت في هذا الأثر فإذا به جمع خيري الدنيا والآخرة) ؛ لأن من عوفي في بدنه، ومن عوفي في دينه، ومن عوفي في كل أحواله في الدنيا وعوفي يوم القيامة من الحساب لم يبق بعد ذلك شيء يطلبه.
وهكذا يتحرى الإنسان الدعاء بعد العبادات أياً كان نوعها، حتى في العبادات المالية، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي: بعد الصدقة ادع لهم؛ لأنه بعد قربة وبعد عمل صالح.


آداب السؤال تتجلى في سورة الفاتحة
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: لقد علَّم الله سبحانه وتعالى عباده في سورة الفاتحة آداب السؤال، وطلب الحاجة ممن لك حاجة عنده؛ لأن أعظم مسألة للعبد المؤمن هي الهداية إلى الصراط المستقيم؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] .
قال: فقد جعل الله في الفاتحة سؤال الهداية، ولكن لم يأت السؤال لها مباشرة، بل على العبد أن يقدم قبلها أنواعاً من القرب والتعظيم والإجلال للمولى كما في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] وبعد أن حمد الله على كمال ذاته وصفاته، يعترف لله بالربوبية للعالمين جميعاً {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] .
ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ويقولون في معنى هذين اللفظين الرحمان الرحيم: رحمان في ذاته، رحيم في صفاته لعباده، فهو رحمان الدنيا رحيم الآخرة كما جاء في الحديث: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها واحدة إلى أهل الأرض بها يتراحمون، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها رحمة به) أي: من هذه الواحدة، واحد في المائة للعالم كله يتراحم بها قال: (وادخر تسعاً وتسعين لعباده المؤمنين إلى يوم القيامة) .
ثم يأتي بقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ففي الدنيا هو رب العالمين، وهو رحمان رحيم، وفي الآخرة الملك كله يعود إليه كما قال تعالى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] .
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: أنت رب العالمين، والدنيا الآخرة في ملكك تتصرف فيهما كيف شئت، فنحن نعبدك وحدك؛ لأنك الرب المستحق للعبادة.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لأننا ضعاف، ولولا قوة منك وتوفيق منك وهداية منك لنا ما عبدناك.
وبعد هذه المقدمات في التمجيد والتكريم والتعظيم والاعتراف تأتي المسألة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فأتت المسألة بعد كل هذه الاعترافات والإجلال للمولى سبحانه، وكذلك هنا في قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي: أقمت على طاعتك، واستجبت لندائك الذي قلت فيه لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] .
وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك) هذا فيه اعتراف كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] .
(لا شريك لك) إلى آخر هذه التلبية وهذه الألفاظ الكريمة، وبعد هذه القربى إلى الله: (يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ بالله من النار) وهكذا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يتحرى الإنسان في مسألته أن يكون أقرب ما يكون إلى الله، ومن ذلك بعد العبادات وفيها، ومن ذلك ما جاء في السجود، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء) .


التوسعة على المحرم في أداء المناسك
قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف) رواه مسلم.
هذه الأخبار الثلاثة: النحر في منى، والوقوف في عرفات، والوقوف في مزدلفة، أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الثلاثة في نطق واحد، وفي مجلس واحد، أو أن الراوي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الأخبار كل واحدة منها في مكانها، فسمعه في عرفات يقول: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) لأن (هنا) اسم إشارة للمكان، كما تقول: زيد هنا، ولا يتأتى هذا إلا عند وجوده.
فقوله: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) هل سيقول هذا وهو في منى؟ الجواب: لا، وإنما يصح منه أن يقول: (وقفت هاهنا) حينما يكون واقفاً في الموقف الذي يتحدث عنه، إذاً: هذا من تصرف الراوي فهو ذكر كل ما سمع في مجلس واحد، وهو قد سمعه في أماكن متعددة وفي أوقات مختلفة، فسمعه في منى يقول: (نحرت هاهنا ومنىً كلها منحر فانحروا في رحالكم) وهكذا والله أعلم.
وفي بعض طرق الحديث: (وفجاج مكة وطرقها فجاج ومنحر أو طريق ومنحر) ولهذا يقول العلماء: إن قوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ومَحِلّه بالكسر لا مَحَلّه، (مَحِلّه) يعني: مكان إحلاله، وهو الوقت الذي يحل نحره فيه، وقال الله تعالى في الآية الأخرى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وفي هذه الآية يقول: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] وهل محلها يكون عند الكعبة؟ الجواب: لا؛ لأن الكعبة تطلق على عموم الحرم بكامل حدوده، ومنى داخلة في الحرم، ففي قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] بين النبي صلى الله عليه وسلم أين يكون محله، ومحله تصدق على اسم الزمان والمكان، فتقول: محلها إلى البيت العتيق، ومحلها يوم العيد يعني: زمن إحلالها، ومكان إحلالها على ما بينه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين النبي متى يحل الهدي؟ وأين يكون موضع إحلاله، ويقولون: إن الله جعل منى منحراً للهدي؛ لئلا تصبح مكة مجزرة لكل الحجاج فلا يطاق الجلوس فيها، والآن العالم كله يجعل المجزرة نائية عن محل السكن؛ لئلا تؤذي السكان.
وقوله: (نحرت هاهنا) أي: في المكان الذي نحر فيه، وقالوا: إنه معلوم إلى الآن، وكان جهة (منحر الكبش) وأهل منى يعرفون ذلك، وعندهم منطقة معروفة تسمى: (منحر الكبش) .


حكم نحر المحرم لهديه في محله
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومنى كلها منحر) فيه دليل على أن لكل حاج أن ينحر محله، وقد جاء في بقية الحديث: (فانحروا في رحالكم) ولكن هل ينطبق هذا الحديث علينا الآن؟ لأن صورة النحر في ذلك الوقت لم تكن على ما عليه الناس الآن، فقبل وجود المذبح أو المسلخ الآلي، كنت إذا مشيت في طرقات منى تطأ على أغنام قد أريق دمها وتركت، وهذه الأغنام التي أريق دمها وتركت في الشارع مع الحرارة بعد ساعات ستتغير، فكانت القلابات تمشي في الطرقات، وعمال البلديات يجمعون ويرمون فيها المخلفات حتى يستطيع الناس أن يمشوا، وأما في السابق فقد كان ينحر الهدي ولا يلقى منه مقدار درهم واحد في الأرض، بل كانوا إما أن يأكلوا ويطعموا منه، وإما أن يشرقوه وينشروه على الصخور والحبال، ولذلك سميت هذه الأيام أيام التشريق؛ لأنهم كانوا ينحرون الهدي إبلاً أو بقراً أو غنماً فيأكلون ما يأكلون، ويطعمون من يطعمون، والباقي يجزئونه ويشطرونه إلى أوصال، ويشرقونه على الحبال أو على الصخور، حتى إذا انتهت أيام منى كان هذا اللحم قد جفت رطوبته وأصبح قديداً، فيجمعونه في أوعيتهم ويذهبون به إلى بلادهم.
إذاً: لم يكن النحر في منى في ذاك الوقت يؤذي الساكن أو المار أو المقيم في منى، وإنما كانوا يحافظون على ذلك، حتى لا يتأتى منه إيذاء للآخرين؛ لأن أنعام الهدي الأساس فيها أن تذبح وتسلخ وتقطع وتعطى للمساكين، ولا يبقى منها شيء، حتى جلودها وجلالها كما قال صلى الله عليه وسلم لـ علي: (ادع الجزارين وتصدق بجلودها وجلالها) والجلال هي الأقمشة التي كانوا يزينون بها الهدي، أي: يكسونها بها من باب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، كانوا إذا خرجوا من المدينة غطوها بهذه الأقمشة من باب الزينة، فإذا انسلخوا من المدينة وخرجوا من ضواحيها جمعوها وحفظوها حتى لا تؤذى أو تشقق، فإذا ما أقدموا على مكة ألبسوها تلك الجلال، فإذا جاءوا عند النحر أخذوها عنها حتى لا يلوثها الدم، ثم يتصدقون بها، وكانوا في السابق يجمعون تلك الجلال، ويعملون منها كسوة للكعبة، فإذا أتى من يقوم بكسوة الكعبة على حسابه، تكون هذه من باب الصدقات التي يتصدق بها، فكانوا يتصدقون بكل شيء حتى الجلود.
وكان اليوم الثاني هو يوم الرءوس، أي أنهم كانوا يأخذون رءوس الأنعام التي لم يأكلوها في أول يوم لأن اللحم كان متوفراً، فإذا انتهى اللحم رجعوا إلى الرءوس التي كانوا قد تركوها.
إذاً قوله: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر) هذا فيما لو كان الأمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن مع كثرة الناس ووفرة الهدايا والذبائح، وعدم تحري الناس فيما ينبغي أن يكون عليه الهدي من سلامته من العيوب، بأن لا يكون فيه عجفاء ولا معيبة ولا غير صالحة للأكل، فقد جاءت هذه المذابح الجديدة على هذا النظام الموجود، فمن استطاع أن يذبح بنفسه في تلك الأماكن فهو أولى، ومن لم يستطع وتركها للمسئولين أو أنابهم في الذبح عنه فلا مانع في هذا.
وكذلك (وفجاج مكة) لو أن إنساناً نزل بين مكة ومنى وسكن هناك، وكان إذا جاء المبيت جاء إلى منى وإذا جاء وقت الرمي جاء إلى منى، ثم يرجع إلى ذلك المكان، وفي وقت الذبح ذبح هديه في مكانه، فلا مانع، وإذا كان يسكن في مكة ونزل به إلى بيته في مكة فلا مانع، إذا كان ما زال في محله الزماني، أي: إذا كان في يوم العيد وأيام التشريق، والله تعالى أعلم.


عرفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف على جبل الرحمة
وقوله: (وقفت هاهنا) تقدم معنا أنه صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات، وهو الذي يسميه الناس: (جبل الرحمة) وهو الجبل الوحيد المكون من مجموعة صخرات ضخمة وكبيرة، ويوجد في أعلاه علم مبني لبيان مكانه، وقد اختار صلى الله عليه وسلم هذا المكان لأنه ليس في عرفات علامة سوى هذا، ويقول العلماء: إذا خرجت من وادي نمرة، وكان عن يمينك جبال إلى جهة الشرق، وأمامك جبال إلى الشمال وعن يسارك جبال إلى الغرب فكل ما بين دائرة هذه الجبال فهو عرفة، فإذاً: على هذه السعة لا يوجد في داخل تلك الدائرة في أرض عرفات مكان معلم إلا هذا الجبل الصغير، ولذلك لو ذهبت إلى هناك في غير أيام الحج والدنيا مكشوفة فلن ترى إلا هذا الجبل، واختار صلى الله عليه وسلم وقوفه هناك؛ ليكون في مكان معلوم معلم، ولذا لو أن إنساناً كان في آخر طرف من عرفات، وأراد لقاءه صلى الله عليه وسلم وسأل: أين رسول الله؟ وقلت له: هناك عند ذاك الجبل فسيهتدي إليه، ويتأتى أيضاً لكل من قدم حاجاً أن يراه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حينما أراد الحج قبل أن يخرج أرسل رسلاً إلى العرب على مياههم وقال لهم: (إني حاج هذا العام، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) فتوافد الناس إليه فمنهم من جاء إلى المدينة وذهب معه، ومنهم من لقيه في الطريق، ومنهم من أتى إلى مكة، ومنهم من أتى إلى عرفات، والكل يريد أن يراه، أي: لتثبت له الصحبة؛ لأن الصحابي هو: من رآه ولو لحظة وهو مؤمن به ومات على الإسلام، فكل هؤلاء الحجاج يريدون شرف رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: اختار مكاناً يسهل على الجميع أن يصلوا إليه فيه، وكان في ذلك اليوم على ظهر راحلته؛ ليكون علماً على علم، ولما قال: (خذوا عني مناسككم) فلعل كل إنسان يقول: نأخذ عنه مناسكنا، إذاً: نأتي إلى الموقف الذي وقف فيه ونقف فيه، فبين لهم أن الغرض من الموقف هو الوقوف بأرض عرفات، ولذا نبه الناس أن عرفة كلها موقف، وحيثما وقف الإنسان في أي مكان من أرض عرفات أجزأه، ولهذا قالوا: لو أن إنسانا ًحضر إلى أرض عرفات في زمن الموقف ولو ساعة زمنية ولو ربع ساعة وهو يعلم أنه في عرفات أجزأه، كمن كان مريضاً وهو في حالة إسعاف في المستشفى -عافانا الله وإياكم- فذُهب به إلى عرفات أو مُكث به في عرفات، ثم أعيد إلى المستشفى فإنه يكون قد أدرك الموقف ويجزئه ذلك، وكذلك لو أن إنساناً جاء متأخراً ولم يدرك أرض عرفات إلا قبل فجر يوم العيد بساعة أو نصف ساعة فإذا وقف في أي جزء من أرض عرفات فإنه يكون قد أدرك الموقف.


مزدلفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف في المشعر الحرام
وكذلك قوله في المزدلفة: (وقفت هاهنا وجمع) وجمع هو: اسم للمزدلفة، ومن المزدلفة المشعر الحرام، قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] فهل نقول: يجب على الناس كلهم أن يتكدسوا عند المشعر الحرام؟ الجواب: لا؛ لأنه لن يسع الناس، ولكنه صلى الله عليه وسلم اختار الموقف الذي يكون أيضاً علماً، وقد بين للناس أنه لا يتحتم أن يكون المكوث في المزدلفة عند المشعر الحرام، ولكن لك أن تذكر الله عنده إذا نزلت عنده، وحيثما كنت فصليت وذكرت الله ونمت ثم أصبحت وذهبت وقد وقفت في أي مكان من المزدلفة التي هي جمع فإنه يجزئك ذلك، والله تعالى أعلم.


مداخل مكة التي دخل وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها) متفق عليه] .
هذا من مستحبات السفر، أو من مستحبات العمل، ودخوله من أعلاها وخروجه من أسفلها قال بعضهم: كان من أجل النسك، وبعضهم قال: إن هذا صادف موقعها، وهو لم يتحر أعلاها للدخول ولا أسفلها للخروج، وهنا دخل من أعلاها وخرج من أسفلها، ولهذا يقولون، كَداء وكُداء، كَداء هو أعلاها، وكُداء هو أسفلها، والفقهاء يقولون: افتح وادخل واضمم واخرج، والمراد حركة الكاف فقولهم: افتح أي: حركة الفتحة (كَ) ، واضمم أي: بحركة الضمة (كُ) فتقول: كَداء بفتح الكاف وتدخل أي: من أعلاها، وتقول: كُداء بضم الكاف وتخرج أي: من أسفلها.
ومن أي مكان تيسر للإنسان دخول مكة فالحمد لله، وهنا يقول الأدباء: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كرم شعر الدعوة في دخول مكة والخروج منها، وقالوا: لما جاء صلى الله عليه وسلم لفتح مكة أو للحج قالوا: من أين ندخل أو من أين تدخل يا رسول الله؟! أي: لأن مكة لها مدخلان، والمدينة لها مدخل واحد وهو وادي العقيق على سلطانة على سلع على ثنية الوداع -الباب الشامي- وهذا كان مدخل المدينة الوحيد، وأما مكة فلها مدخلان: كَداء من أعلاها، وكُداء من أسفلها، قالوا: من أين ندخل أو من أين تدخل؟ قال: (انظروا ماذا قال حسان؟) أي: في قصيدته التي يرد فيها على أبي سفيان حينما هجا رسول الله وفيها: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء وفي هذا تنويع، وقد جاء التنويع في نص القرآن قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] .
إلى أن قال حسان رضي الله تعالى عنه: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء أي: الموعد بيننا وبينكم أن ندخل عليكم مكة من كَداء فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا قال حسان؟ قالوا: حسان يقول: كَداء، قال: إذاً: من هناك) وهذا مما يستشعر المسلم أنه فيه إكرام الشعراء الذين سخروا شعرهم للدعوة، ولفعل الخير، ولذا قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] إلى أن قال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا.
} [الشعراء:227] فالشعراء المؤمنون الذين يعملون للدعوة استثناهم الله، وقد كان للرسول شعراء وخطباء في الدعوة وكانوا يمثلون وزارة الإعلام -كما يقال اليوم- لأن وزارة الإعلام في كل دولة هي الناطقة بلسانها، وكان حسان رضي الله تعالى عنه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجاه أبو سفيان فقال: (يا رسول الله! أرد عنك وأهجوهم، قال: كيف تهجو قريشاً وأنا منها؟ قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين) فأخذ يهجوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (اهجهم وروح القدس يؤيدك، والله! إن وقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام) وهكذا كان العرب إذا هجوا يلحقهم العار بهذا الهجاء وتلصق فيهم السبة على لسان الشاعر الذي هجاهم، ولذا كانوا يتحاشون إغضاب الشعراء، وكان صلى الله عليه وسلم ينصب لـ حسان كرسياً في المسجد ويدعوه إلى نصرة الإسلام بشعره.
وذات مرة مر عليه عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وهو ينشد شعراً، فنظر إليه مستنكراً، فنظر إليه حسان وقال: (والله! لقد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك) يعني: أنشدت الشعر في المسجد والمسجد فيه من هو خير منك وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، والحديث عن الشاعر الإسلامي حسان رضي الله عنه مدعاة لتكريم كل من سخر آلة إعلام في خدمة الدين، سواءً بقلمه أو بلسانه نثراً أو شعراً، أو بأي وسيلة من وسائل الإعلام، ما دامت تخدم الدين.


المبيت بذي طوى قبل دخول مكة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
متفق عليه] .
هذه أيضاً صورة من صور كيفية دخول مكة، كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يأتي إلى مكة، أي: من المدينة إلا بات بذي طوى، وذو طوى هو المعروف الآن عند الناس بالزاهر، وهو من أبواب مكة، للقادم من جدة، وكانت كل هذه معلومة للناس بتناقلهم إياها، ولا زالت حتى الآن يقال لها: الأبواب، أو باب مكة، والمنزل الذي نزل به ابن عمر يرجع إلى الشرق من جهة التنعيم، ما بين التنعيم وما بين باب مكة، وهو معروف إلى الآن بالزاهر، وكان بستاناً كبيراً جداً، وقد أخذت عدة مرافق من نفس هذا البستان، وهو على طريق المدينة المؤدي إلى مكة، فكان ابن عمر إذا جاء مكة نزل وبات على أبواب مكة، واغتسل ثم دخل مكة نهاراً، فسئل فأسند ذلك إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يقول العلماء: من صفة دخول مكة للمحرم لعمرة كان أو لحج إذا أتى من ذاك المكان فعليه أن يبيت ويغتسل، وإذا أصبح يدخل مكة، وهل مبيت الرسول بذي طوى كان نسكاً أو أنه وصل ليلاً فأحب أن يبيت خارج البلد، ويدخل نهاراً حتى يتيسر له ولمن معه إدراك المنازل ومعرفة الطرق، أو أنه أيسر لهم في النهار دون الليل، كما قيل في مبيته عند عودته من الحج، لما نزل بخيف بني كنانة بالأبطح، فقالوا: هل نزوله بالأبطح بعدما أنهى الحج تماماً كان للنسك أو أنه كان تيسيراً على الناس في حال خروجهم إلى المدينة؟ كل هذه الاحتمالات واردة.


مشروعية الغسل لدخول مكة
وأما الغسل فهو سنة لدخول مكة، فمن أي جهة دخل الإنسان مكة فإن السنة في حقه أن يغتسل، ولكن إذا كان الإنسان مع غيره أو في ظروف لا يستطيع أن يبيت بذي طوى لعدم وجود مكان يبيت فيه، أو لو أنه أراد أن يوقف سيارته في الطريق فسيأخذها المرور، فلا حرج عليه في عدم المبيت، فإن كان لك أيها المحرم! منزل هناك، أو كان لك صديق تنزل عنده، أو تيسر لك بوجه من الوجوه نقول: الحمد لله، وعليك أن تطبق السنة، وإذا لم يتيسر لك فلا تكلف نفسك المشاق وتقول: هنا بات رسول الله فلابد أن أبيت، فنقول: إنما بات حينما تيسر له المبيت، وأما الآن فقد لا يتيسر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلا عليك أن تمضي وتجتاز إلى محل سكناك، فإذا نزلت في عمارة أو نزلت في شقة أو نزلت في خيمة، أو نزلت في فندق، فاغتسل؛ لأن الغسل سنة، وإن لم يتيسر الغسل عند الدخول فقبل الطواف، حتى تأتي إلى البيت وتكمل الواجب عليك بطواف القدوم إن كنت مفرداً أو قارناً، وإن كنت معتمراً فيكون عليك طواف العمرة وهو يجزئ عن طواف القدوم.
وهكذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يبيت ويغتسل بذي طوى.


حكم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الجبلية
والمشهور أن ابن عمر قد انفرد بهذا عن مجموع الصحابة، فإنه كان يتتبع خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج شبراً بشبر، حتى في الأمور الجبلية التي كان يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين عرفات والمزدلفة في الشعب فبال، فكان ابن عمر إذا جاء إلى ذلك المكان ينزل ويبول، فقالوا له: يا ابن عمر! هذه ليست عبادة؛ لأن الرسول ما فعل هذا ليتأسى الناس به، فإذا كان إنسان ليس به بول وليس هناك حاجة داعية لأن يأتي ويبول بالقوة! فقال: الرسول فعل هذا، أي: أنا أتبعه، فنقول: هذا شدة رغبة في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كما يقول الأصوليون: أعماله صلى الله عليه وسلم الجبلية ليست موضع تشريع، كما قال الناظم: وفعله المركوز في الجبلة كالأكل والشرب فليس ملة الأكل والشرب جبلة في الإنسان وفي كل كائن حي، فالنصراني يأكل، والدرزي يأكل، والحيوان يأكل؛ لأن مطلب الحياة أن يأكل وإلا فسيموت.
إذاً: الأكل والشرب جبلة، من غير لمح الوصف، فلا تقل: أنا آكل لأن الرسول كان يأكل، نقول: لا، أنت ستأكل غصباً عنك اتباعاً للرسول أو لغيره، وأما الوصف في كيفية الأكل، وهل يكون باليمين أو بالشمال؟ فنقول: الوصف هنا هو المراعى، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل بيمينه ويأمر بذلك بقوله للغلام: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك) إذاً: الوصف في الأمر الجبلي هو المطلوب، أما في الأمور من حيث هي فلا تقل: أنا أنام لأن الرسول نام، وأتزوج لأن الرسول تزوج، فنقول: لا، أنت في حاجة إلى النوم والزواج من غير هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينام وكان يأكل ويتزوج، وقد تزوج حتى قبل الرسالة.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [8]
الحجر الأسود نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن، وإنما سودته خطايا بني آدم، ويوصف بالأسود لسواده، والحجر الأسود فيه مسائل عديدة؛ منها الفقهية وذلك فيما يتعلق بالمناسك، ومنها التاريخية، وذلك فيما يتعلق بأصله، ومن أين جاء؟ وكم عمره؟ وما إلى ذلك.


استلام الحجر الأسود وتقبيله والسجود عليه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه كان يقبل الحجر الأسود ويسجد عليه) رواه الحاكم مرفوعاً والبيهقي موقوفاً] .
الواقع يا إخوان! أن القضايا المتعلقة بالحجر الأسود كثيرة، ومما يرد فيه من المسائل: من أين أصله؟ وكيف جاء؟ وكم تاريخه في المكان الذي هو فيه؟ وفي أحكامه، وما طرأ عليه في التاريخ من القرامطة وغيرهم، فلو أن إنساناً أفرد الحجر الأسود بمبحث مستقل لوجد مادة واسعة ينهل منها.
وقد أتت آثار وأحاديث في الحجر الأسود ولا نستطيع أن نناقش أسانيدها، ومنها: (بأنه نزل من الجنة) وهذا مما يتفق عليه العلماء، يقولون في أسانيد الأخبار التي جاءت فيه: يقوي بعضها بعضاً، وفي بعض الآثار: (أنه نزل مضيئاً مشعاً) حتى قال بعض العلماء: إن اختلاف حدود الحرم لمكة هو بحسب ما وصل إليه ضوء الحجر أول ما نزل، ولكن التحقيق العلمي: أن حدود الحرم هي كما أوقف جبريل عليه السلام الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عليها، فإنه وقف معه على أماكن حدود الحرم وعلّم له عليها.
وقيل: إن البيت أول ما بني بنته الملائكة لآدم، لما نزل من السماء؛ لأن في السماء البيت المعمور فجعل الله الكعبة لبني آدم في الأرض مكان البيت المعمور في السماء، ولهذا فهو على سمته عمودياً، فوضع الحجر الأسود في الكعبة، ومر عليه الزمن، ولما جاء الطوفان هدم الجميع، وحفظ الله الحجر الأسود في جبل أبي قيس، حتى جاء إبراهيم وإسماعيل وقاما ببناء ووضع الحجر الأسود في مكانه، ثم جاء القرامطة وأخذوه إلى بلادهم ومكث عندهم فترة ثم ردوه.


بناء الكعبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وكان بناء الكعبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وقد اختلفت قريش في بناء الكعبة وقضية اختلافهم معروفة فيمن ينال شرف وضع الحجر في مكانه من بناية الكعبة، فإنهم لما هدمت الكعبة، اتفقوا على بنائها، ولما بدءوا بالبناء قسموا الجهات الأربع على قبائل قريش، وكل جهة قامت بالبناء إلى أن ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود، فتنازعوا فيمن يضعه حتى كادوا أن يقتتلوا، فألهم الله سبحانه وتعالى بعض عقلائهم، وقال: علامَ نقتتل، لنحكم أوّل من يخرج علينا من هذا الطريق، فنظروا فإذا أول من خرج عليهم هو محمد بن عبد الله -وهذا قبل الرسالة- فأنطق الله الجميع: هذا الأمين ارتضيناه.
إذاً: هو قبل ما يقول لكم: قولوا: لا إله إلا الله كان الأمين، وبعدما قالها كان المجنون؟! هذا تناقض واضح، لكن الله سجل عليهم هذا الاعتراف، فلما جاء صلى الله عليه وسلم أخذ رداءه ووضعه على الأرض، وأخذ الحجر بيديه الكريمتين ووضعه في وسط الرداء وقال: لتأخذ كل قبيلة بطرف الرداء ولترفع، فاشتركوا في حمله وفي رفعه جميعاً، ولما رفعوه إلى أن ساوى موضعه من الجدار أخذه صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين ووضعه في مكانه إذاً: هذا الشرف الذي كادوا يقتتلون عليه جميعاً ظفر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من أول المقدمات للتكريم، ومن أول الاعترافات المنتزعة منهم إجبارياً بأنه الأمين.


الحكمة من تقبيل الحجر الأسود
ولما جاء الإسلام جاء بتقبيل الحجر واستلامه، وقد يعجب المرء من هذا التشريع كيف أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بتحطيم الأصنام، وبإنكار عبادة الحجارة وتعظيمها ثم يأمرهم بتقبيل الحجر، بل يأمرهم أن يطوفوا ببنية الكعبة وهي عبارة عن كتل حجرية! والذي يزيل هذا العجب أنك بعد هذا الفعل تأتي بسنة الطواف التي تقرأ فيها: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ لتنفي عنك الشرك، ولتثبت أنك ما قدست الحجر عبادة ولا تقديساً له، ولكن عملت ذلك طاعة لله.
كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال حينما قبّله: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) .
ففي هذا تقديم النص والاتباع على العقل، أي: أنا أعلم أنك لا تنفع ولا تضر، ولكن مع ذلك أنا أقبّلك، فلماذا يقبله وهو لا ينفع ولا يضر؟ الجواب: لأن الإنسان لا يسعى في حياته إلا لجلب نفع أو لدفع ضر كما قال الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (لولا أني رأيت) فهو قدم النص على العقل؛ لأن النص معصوم، فإذا كان النص صحيحاً ثابتاً فألغ عقلك، واعمل بما جاء في هذا النص، ولكن نبه عقلك بالتأمل والتدبر.
يقولون في هذا الأثر: إن علياً رضي الله عنه قال: (لا يا عمر! إنه ينفع، فقال له: بم ينفع؟ قال: يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه أو قبّله يوم القيامة.


صفة تقبيل الحجر واستلامه
وقد جاء أن ابن عمر كان يسجد عليه، وكذلك ابن عباس كان يسجد عليه، وكان يقبله من غير صوت، أي: يلمسه بشفتيه دون أن يُسمع صوت للشفتين عند التقبيل، ويقولون: صفة التقبيل هي: أن يضع الإنسان كفيه على طرفي الحجر، ويضع شفتيه بين كفيه ويقبل، هكذا يقولون في صفة تقبيل الحجر واستلامه.
وعلى هذا فكلام الفقهاء في تقبيل الحجر: أنك إن استطعت أن تقبل وتستلم على هذه الصفة فهي أكمل الصفات، وإن لم تستطع فمد يدك ولو من بعيد والمس أي جزء منه وقبل يدك، وإن لم تستطع فمد طرف العمامة واطلب من الذي عند الحجر أن يلمسها بالحجر ثم خذها وقبل طرفها الذي لمس الحجر، وإن لم تستطع لا هذا ولا ذاك فأشر بيدك وامض.
والله سبحانه وتعالى أعلم.


الرمل في الطواف حول الكعبة في الثلاثة الأشواط الأولى
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رض الله عنهما: (أنه كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبب ثلاثاً ومشى أربعاً) ] .
الطواف الأول هو إما طواف القدوم للمفرد والقارن، وإما طواف العمرة، والرمل والخبب سواء.
قال المؤلف رحمه الله: [وفي رواية: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط بالبيت ويمشي أربعة) متفق عليه] .
يسعى المحرم ثلاثة أشواط من سبعة؛ لأن الطواف هو سبعة أشواط، ويمشي أربعة، يعني: بدون خبب وبدون إسراع.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بهذا قيل: في حجة الوداع، وقيل: في عمرة القضية، وهو الصحيح، فأمرهم أن يرملوا ثلاثاً، ويمشوا أربعاً، والرمل في الطواف هو أن يمشي الإنسان في صورة المسرع، وتكون خطاه متقاربة إظهاراً للقوة والنشاط، ويكون مع الرمل الاضطباع على ما سيذكره المؤلف رحمه الله، والاضطباع هو: أن تجعل منتصف الرداء تحت إبطك الأيمن، وتجعل طرفيه على عاتقك الأيسر.


سبب الاضطباع والرمل
ويقولون: إن سبب الاضطباع والرمل هو ما كان من المشركين حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، وبعضهم يسميها: عمرة القضاء، وهي: العمرة التي جاءت بعد صلح الحديبية، وصلح الحديبية كان في السنة السادسة، حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أنه قادم إلى البيت معتمراً، فأخبر أصحابه، فخرجوا معه، ولما علم المشركون بمجيئهم، استكثروا على أنفسهم أن يدخل المسلمون عليهم مكة بدون إذن ولا علم منهم، واعتبروا أن ذلك عنوة وعدم مبالاة، فخرجوا ليصدوهم عن البيت.
فلما علم صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد خرجوا ليصدوهم قال: (من رجل يدلنا على الطريق بعيداً عن مواقعهم؟) لأنهم خرجوا ليصدوهم من الطريق المعهود، فقام رجل وقاد الركب إلى أن وصلوا إلى الحديبية من غير الطريق المعروف للمار إلى مكة.
والحديبية تقع على مشارف حدود الحرم، فنزلوا بخيامهم في الحل، وكانوا يصلون الصلوات في الحرم؛ لأنه ليس بينهما فاصل كبير، وقضية الحديبية قضية طويلة معروفة، وكانت في الواقع فتحاً مبيناً، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيها سورة الفتح، وتم فيها الصلح والمفاهمة بين المسلمين والمشركين، وكان من ضمن بنود هذا الصلح: أن يرجع المسلمون من مكانهم دون أن يدخلوا مكة، ولهم أن يأتوا في العام المقبل معتمرين، وتخلي لهم قريش مكة لمدة ثلاثة أيام ليعتمروا فيها ولا يزعجهم أحد، ثم بعد ذلك يخرجون ويرجعون من حيث أتوا.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التي بعدها معتمراً، فسميت عمرة القضية، أي: لما تقاضوا به في الصحيفة التي كتبت بين الطرفين، وقيل: سميت عمرة القضاء، أي: لصدور القضاء بين الطرفين، وليس من القضاء الذي هو ضد الأداء؛ لأن العمرة التي سبقت وتحللوا منها على الحدود اعتبرت لهم عمرة، واعتبرت لهم غزوة، والعمرة الثانية كانت مستقلة، وكانت بناءً على اشتراط الطرفين أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، وأن تخلي لهم قريش مكة، فجاءوا ودخلوا المسجد الحرام، وجلس كفار قريش على قعيقعان وهو: الذي يطل على الكعبة من جهة الحِجْر، وقبل أن يبدأ المسلمون بالطواف جاء الشيطان إلى كفار قريش وقال لهم: أين أنتم؟ ها هم المسلمون قد جاءوا، وقد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم.
وتم هذا التآمر بين الشيطان وبين أعوانه وأتباعه للقضاء على المسلمين في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، ولا يقدِّر هذا الموقف إلا القادة العسكريون؛ لأن المسلمين عزَّل، فقد اشترط عليهم أهل مكة أن لا يأتوا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيف في القراب، وهؤلاء الكفار لو تسلطوا عليهم بالنبل من فوق الجبال بل حتى ولو بالحجارة لقضوا عليهم؛ لأن موقع الكعبة في أخفض مكان في مكة، والجبال مرتفعة من حولها، كما أن موقع المسجد النبوي في أخفض مكان في المدينة، ولذا فإن السيول تأتيه من كل جانب، فلو أنهم نفذوا مخططهم لقضوا عليهم، وليس هناك موالٍ قريب ليمد المسلمين بالمدد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جاء بالسلاح معه، وتركه في العيس، وترك حراساً عليه، ولكن لو انقضوا عليهم فلن يجدوا وقتاً ليأتوا بالسلاح! ولابد أن يكون هناك ضيم على المسلمين.
فكان الحل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر المسلمين بتآمر المشركين مع الشيطان، وكما ننبه دائماً أن الغزو الفكري لا يقاوم بالقوة، ولكن تقاوم الفكرة بفكرة ضدها، وهنا فكرة المشركين أن المسلمين ضعاف من آثار حمى يثرب، وهذا كان أمراً معروفاً في الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في الجاهلية أن من دخل المدينة تصيبه الحمى، فإذا أراد أن يسلم من الحمى فعليه أن يقف عند بابها وينهق ثلاث مرات، فإذا ما نهق ثلاث مرات في اعتقادهم فإنها تشرد عنه الحمى، إذاً: الحمى كانت مشهورة عندهم، ويقول العلماء المتأخرون: هذا أمر طبيعي؛ لأن المدينة كانت مليئة بمياه السيول، وكانت العيون تفيض على وجه الأرض، فينتج عن ذلك غدران ومستنقعات الماء، ومستنقعات الماء في العالم إنما هي حواضن للبعوض، والبعوض هو الذي يسبب الحمى وينقلها.
إذاً: كانت المدينة موطناً طبيعياً للحمى.
فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي وأخبره: أن المشركين قد تآمروا بكذا وكذا، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب! أنزل لي جنوداً أو أنزل لي ملائكة؟!! وإذا كان الله سينزل له ملائكة فغيره ماذا يفعل؟ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عنده السياسة الحكيمة، والفكر الثاقب، ونور النبوة، فقال لأصحابه: إن المشركين تآمروا عليكم بكذا وكذا بسبب كذا، فأروهم من أنفسكم اليوم قوة، يعني: اقلبوا عليهم ظنهم، كما يقال: اعكسوا عليهم الفكرة، فهم يقولون: إنكم ضعاف بسبب الحمى، وإنكم منهكون بسبب طول السفر من المدينة إلى مكة، فإذا رأوكم كذلك فإنهم سيطمعون فيكم ويتحقق فيكم القول، ولكن اعكسوا عليهم الفكرة، وبماذا تعكس؟ قال: (أروهم اليوم من أنفسكم قوة) وليس المراد المصارعة عند البيت، وإنما المراد أروهم القوة في عنصر العمرة، فأمرهم بالاضطباع، وهو: جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، يعني: شمروا، وهذه هي هيئة الإنسان الذي يريد أن يعمل، وأمرهم بالهرولة.
وبداية الطواف هو من عند الحجر الأسود، فكانوا يرملون من عند الحجر الأسود ويطوفون بالبيت من وراء الحجر إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، يعني: ثلاثة أركان من أركان الكعبة يقطعونها هرولة، وإذا وصلوا إلى الركن اليماني ودخلوا في ظل الكعبة وسترتهم الكعبة عن أهل مكة الذين ينظرون إليهم من المقابل، فيمشون على مهل ليكون ذلك أرفق بهم ليستأنفوا الشوط الثاني بنشاط، ولو كانت الهرولة في الأشواط الثلاثة كاملة فقد يظهر عليهم الضعف في الآخر، ولو كانت الهرولة في السبعة الأشواط لكان ذلك شاقاً عليهم، ولكن حينما تبدأ طائفة بالهرولة ثم تتبعها طائفة أخرى في الهرولة تكون الطائفة الأولى قد أنهت الشوط الأول، والطائفة الثالثة تبدأ، وإذا جاءت الطائفة الرابعة تكون الثانية قد انتهت، وهكذا تستمر الهرولة طيلة مدة الطواف، وإن كان الكل لم يهرول السبعة الأشواط، وكذلك أمرهم أن يمشوا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود إرفاقاً بهم من أن يواصلوا الشوط كاملاً، وهكذا الشوط الثاني والثالث حتى لا يظهر عليهم الإعياء.
وهذا الأمر بالرمل التحقيق أنه كان في عمرة القضية، وكان من أجل إظهار القوة، وإحباط فكرة المشركين.
فهل السبب مستمر في الرمل أو قد زال؟ الجواب: السبب قد زال، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة سنة ثمان، يعني: بعدها بسنة واحدة، حينما طاف بالعمرة التي أهل بها من حنين عند عودته من الطائف من ثقيف رمل، ومكة فتحت في العام الثامن وهو اعتمر في نفس العام بعد الفتح، وقد أصبحت مكة في إمرة رسول الله وله عليها أمير، ومع ذلك رمل، وفي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة حج وطاف بالبيت ورمل.
إذاً: العلة كانت موجودة في أول رمل، وبعد ذلك انتفت تلك العلة ولم تعد موجودة، فلماذا بقي الرمل إذاً؟ الجواب: سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وقال: يا أمير المؤمنين! في نفسي شيء، رملنا لما كنا خائفين، يعني: أول ما رملنا، فعلامَ الرمل الآن؟ قال: يا ابن أخي! حج رسول الله، وطاف ورمل فرملنا، أي: لم تكن العلة موجودة في الحج، ولم يكن هناك خوف ولا مؤامرة، ولكن أمر شرع فاستمرت مشروعيته.
وعلى هذا يتفقون على أن الرمل يكون في الطواف الأول الذي يعقبه سعي، وهذه قاعدة: أن كل طواف يعقبه سعي ففيه رمل، وكل طواف بدأ به الحاج أو المعتمر فإن فيه رملاً، فالذي يأتي مفرداً الحج سيطوف طواف القدوم، وله أن يسعى بعده سعي الحج ففي طوافه رمل، والذي يأتي معتمراً فإنه سيأتي ويطوف وطوافه ركن في العمرة، وبعده سعي ففي طوافه رمل.
وأما طواف الإفاضة فمن كان قد سعى قبل عرفات فلا سعي عليه، وعلى هذا لا رمل فيه، وأما طواف الوداع فلا سعي بعده وعلى هذا لا رمل فيه، وهكذا أصبح الرمل مشروعاً في أول طواف يطوفه الناسك حاجاً كان أو معتمراً، وإن كان قد انتهى سببه وانقطعت علته إلا أنه أمر شرع وداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله مع انتفاء العلة، وهي التي يقول الأصوليون: فيه الاعتراض أو الإيماء وهو بقاء الحكم مع انتفاء العلة.


حكم الرمل في الطواف للنساء
والرمل هو حركة سريعة، وفيها إظهار قوة، فهل كل من طاف يرمل أو أن هذا خاص بالرجال؟ الجواب: هو خاص بالرجال؛ لأن القضية في أساسها كانت للرجال الذين رملوا عند أن تآمر عليهم المشركون، إذاً: المرأة لا تضطبع؛ لأنه ليس عندها رداء، وإنما تلبس لباسها العادي، ولا ترمل بل تمشي المشي العادي، ومن كان معه امرأة ويخشى من تركها ويضطر أن يسايرها فليمش معها في هيئة الرمل لكن بخطىً متقاربة، كما لو كان معك طفل، وأردت أن تجرّيه فهو يجري بأقصى ما يستطيع، وأنت أرجلك متقاربة مع بعضها كما يقال: محلك سر، فتكون في صورة الذي يجري وهو لا يجري.
إذاً: الرمل سنة في طواف الرجال وليس سنة في طواف النساء.


استلام الركنين اليمانيين
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين) رواه مسلم] .
تقدم الكلام عن استلام الحجر وتقبيله والسجود عليه، والحجر الأسود هو في أحد الركنين اليمانيين، وهو الركن المجاور لباب الكعبة، وبقي ثلاثة أركان في الكعبة، فما حكم استلامها؟ الجواب: ابن عمر يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين، (اليمانيين) تغليباً كما يقال: القمرين للشمس والقمر، والعمرين لـ أبي بكر وعمر، فهذه من باب التغليب، وهذا جزء من حديث طويل وفيه أن رجلاً سأل ابن عمر فقال: (أراك تفعل شيئاً لم تكن تفعله من قبل أراك تطوف بالسبتيتين -وهما: نوع من أنواع النعال- وأراك لا تستلم من البيت إلا الركنين، فقال: أما لبس السبتيتين فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسهما، وأما استلام الركنين فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين) .
والركنان الآخران يسميان بالركنين الشاميين؛ لأنهما في الجهة الشمالية، ويقولون: إن الذي يواجه المدينة من الكعبة هو الحجر والميزاب، ويقولون: إن الميزاب الذي فوق الكعبة على خط مستقيم مع محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالركنان اللذان يليان الحجر، واحد من الفتحة اليمنى وواحد من الفتحة اليسرى يقال لهما: الشاميان، واللذان مقابلهما من الجهة الأخرى يقال لهما: اليمانيان.


سبب استلام الركنين اليمانيين دون الشاميين
وسبب استلام الركنين اليمانيين وعدم استلام الركنين الشاميين يرجع إلى تاريخ الكعبة؛ لأن الكعبة في العهد الأخير قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما أشرنا سابقاً قد جددت قريش بناءها، والكعبة كانت على قواعد إبراهيم، فلما أرادوا أن يبنوها من جديد حينما تصدعت، أو أحرقت أو إلخ، قال قائل منهم: لا تدخلوا في بيت الله إلا مالاً حلالاً، والقصة من أولها: أن أهل مكة حينما اتفقوا على الهدم كانت تأتي حية في الضحى وتطلع وتستشرف على جدران الكعبة، فكانوا يخافون أن يتقدموا إلى الكعبة، فأرسل الله طائراً وهم يرونه وأخذ الحية بمخالبه وذهب بها، فقالوا عند ذلك: قد أذن الله لكم بالهدم، ولكن لم يتجرأ أحد -تقديساً للبيت واحتراماً له- أن يتقدم للهدم، فجاء رجل وتجرأ وتقدم فتناول حجراً، فانتثر الحجر من يده ورجع إلى مكانه، فقال: يا معشر قريش! لا تدخلوا في بناء البيت مالاً محرماً، فلا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا حلوان كاهن، ولا مالاً ربوياً، فقالوا: وكيف نصنع وغالب أموالنا من هذه الأمور الثلاثة؟ قال: انظروا إلى حلي النساء، وهو ما يسمى بالمال الصامت، أي: الذي لا يكون متحركاً في الأسواق، فجمعوا من حلي النساء ما أمكنهم، ونظروا في قيمته فوجدوه لا يفي بالقدر المطلوب لإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الأربعة، فقالوا: ماذا نصنع؟! فاجتمعوا وقالوا: إذاً: نختصر من البيت من جهة الشمال، ونحجر على الجزء الذي اختصرناه بحجر يحفظه من أن يضيع في المسجد، وفعلوا ذلك.
وفي هذا معانٍ عظيمة جداً فلو تأملنا في هذا النظر من المشركين، لرأينا أنهم كانوا يتأثمون من أن يدخلوا في بناء بيت الله مالاً حراماً، فكيف بالمسلمين الذين جاءهم الشرع الحكيم؟! فحلوان الكاهن ومهر البغي والربا كل ذلك محرم عقلاً وشرعاً، وأهل الجاهلية كانوا يقيمون تجاراتهم على الربا، فقالوا: لا تدخلوا الربا في بناء الكعبة.
وأقول -والله تعالى أعلم-: أراد الله سبحانه أن يقيم من آياته الكبرى عند بيته للعالم كله على مدى الأزمان شاهداً على تحريم الربا من زمن الجاهلية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن كل إنسان يأتي إلى البيت الحرام وينظر إلى هذا الحجر سيتساءل: لماذا احتجروه، ولماذا لم يضيفوه إلى البيت، ولماذا اقتطعوه من الكعبة؟ فسيكون الجواب: لأن أهل مكة قصرت بهم النفقة، ولم يدخلوا فيه الربا.
ولما طلبت عائشة من رسول الله أن يدخلها البيت لتصلي فيه كما صلى فيه صلى الله عليه وسلم، أخذ بيدها إلى الحجر وقال: (صلي هاهنا فإنه من البيت، فصلت، ثم قالت: ما بال هذا من البيت ولم يدخل فيه؟ فقال لها: إن قومك قصرت بهم النفقة ... ) وذكر لها السبب، فكل إنسان سيأتي ويرى هذا الأمر سيسأل سؤال عائشة: ما باله لم يدخل فيه؟! وسيتلقى الجواب كما تلقته أم المؤمنين رضي الله عنها أن السبب في ذلك هو التورع عن إدخال الربا في بناء الكعبة، والحجر هو: الستة الأذرع الممتدة من جدار الكعبة إلى جهة الشمال.
إذاً: كل من أتى البيت وطاف ورأى الحجر وتساءل سيتلقى نفس الجواب، إذاً: هذا الحجر فيه آيات بينات وفيه دلالة واضحة قائمة شاهدة تنادي على العالم أجمع: أن الربا محرم.
فأقاموا البناء من جهة الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم سواء، واختصروا البناء من الجهة الشامية فقطعوا الركنين عن قواعد إبراهيم إلى حيث وصلت بهم النفقة، ولما أبقوا من البيت مكاناً خارجاً عنه حجروه بهذا البناء.
ومن ناحية أخرى كون النفقة قصرت بهم وجعلوا جزءاً من البيت حجراً مفتوح الطرفين فإنه إتاح الفرصة للمساكين، ولمن أراد أن يصلي في البيت أن يصلي فيه؛ لأنه لا يجد من يفتح له الكعبة، كما قال الرسول لـ عائشة عند أن سألته: (ما بالهم جعلوا له باباً مرتفعاً؟ قال: ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا) فبقي الحجر مفتوحاً من هنا ومن هناك، وفي إبقاء الحجر على هذه الحالة آية، فليس كل أحد يستطيع أن يأتي إلى بني شيبة ويقول: افتحوا لي الكعبة، أو يأتي إلى من يتولى شئون الحرمين ويقول: افتحوا لي الكعبة؛ لأنها لا تفتح إلا للرؤساء والعظماء إلخ، أو في المناسبات المعهودة، فجعل الله الحجر -رغماً عنهم- مرجعاً ومأوى وموئلاً للضعفاء الذين لا يستطيعون دخول البيت، وأصبح الحجر جزءاً من البيت مفتوحاً ليلاً ونهاراً لا يرد عنه أحد.
والذي يهمنا في هذا أن الركنين اللذين يليان الحجر ليسا على قواعد إبراهيم، ولهذا يقولون: للركنين اليمانيين خصيصة، وأحدهما له خصيصتان والآخر له خصيصة واحدة، فالركن الذي فيه الحجر الأسود له خصيصتان: الأولى: كونه على قواعد إبراهيم، والثانية: كونه فيه الحجر الأسود، ولهذا يقبل ويستلم، ويقبل ما وصل إليه، وأما الركن اليماني فله خصيصة واحدة: وهو أنه على قواعد إبراهيم، فيستلم ولا يقبل، فليس من السنة أن يقبل الركن اليماني، ولكن يستلم باليد، ولا تقبل اليد بعد استلامه، وهكذا فعل ابن عمر رضي الله عنه، وعزا ذلك وأسنده ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول بعض العلماء: كان الخلاف موجوداً في السابق عن معاوية رضي الله عنه، فقد جاء عنه: أنه كان يستلم جميع الأركان، فسئل عن ذلك، فقال: ليس من البيت شيء مهجور، ولكن كما يقول العلماء: هذا الخلاف قد انقضى وانتهى، ولم يبق استلام إلا للركنين اليمانيين.


حكم الزحام على الحجر الأسود
عند الاستلام للحجر الأسود يجب التحذير من التزاحم عليه، ومن إيذاء الضعفاء، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عمر حينما قال له: (يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية في المسجد الحرام، فقال له: أوف بنذرك، ثم قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول أيضاً: يا ضعيف! لا تزاحمن على الحجر فتؤذى وتعرض نفسك للإيذاء من القوي، إذاً: النهي عن المزاحمة يتوجه للطرفين: للقوي حتى لا يؤذي، وللضعيف حتى لا يؤذى، ومن الضعفاء النسوة، فلا ينبغي لهن أن يزاحمن على الحجر.
ويذكر بعض العلماء أن رجلاً يمانياً قال لـ ابن عمر: أرأيت لو زاحمت على الركن، قال: اجعل أرأيت باليمن، ولم يقبل منه هذا العذر، ومعلوم أن ابن عمر كان عنده شيء من التشديد في هذه المسألة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! إنك رجل قوي فلا تزاحمن) هذا هو المعمول به عند جميع العلماء، وهذا الذي ينبغي مراعاته، والله تعالى أعلم.


بيان أن تقبيل الحجر ليس لذاته وإنما للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عمر أنه قبل الحجر وقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) .
متفق عليه] .
هذه القضية قد أشرنا إليها فيما تقدم، فقلنا: إن الأصنام كانت مثبتة على جدران الكعبة بالرصاص، ولما دخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً كان يشير إلى الصنم بقضيب في يده، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا انكب على وجهه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر على قفاه، وما كان يلمسه بالسوط ولكن بمجرد الإشارة.
ففي هذا معجزة كبرى، وقد يقال: أليس هذا القضيب كان في يده قبل فتح مكة، ألم يكن يصلي حول الكعبة وظلت الأصنام عليها، فلماذا لم يسلط عليها هذا القضيب؟ الجواب: أنه لم يكن قد حان أوان ذلك، ولهذا من الحكمة للداعية أن ينظر في عواقب الأمور، وأن لا يتعجل الأمور قبل أوانها، والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه.
إذاً: عمر رأى أنه قبل سنين كانت الأصنام معلقة، فخاف على العامة أو الدهماء، أو الذين لم يدركوا ذلك، أن يقع في أذهانهم أن في تقبيل الحجر تكريماً للحجر لذاته، فقال لهم: لا، الحجر لذاته لا ضر فيه ولا نفع، فهو حجر وجماد، ولكن قبّله لأمر آخر، فقال: (ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) إذاً: عمر قبل الحجر امتثالاً واقتداءً برسول الله، علم الحكمة أو لم يعلم، وعلى هذا فإن الواجب على كل مسلم، فيما لم تنكشف له الحكمة فيه أن يسلم وأن يمتثل الأمر.
وكذلك إذا انكشفت له بعض الجوانب وخفي عليه الكثير منها فإنه يسلم ويمتثل.
إذاً: إذا جاء الشرع ثابتاً واضح الدلالة، فلا قول للعقل في قبول التشريع، ولا يجوز أن نعرض الشرع على عقولنا، بل نعرض عقولنا على الشرع، فإذا ما ثبت التشريع بطريق سليم صحيح، وكان المعنى واضحاً، والنص صريحاً فلا مكان للرأي ولا محل للاجتهاد فيه، كما يقول العسكريون في تلقي الأمر: نفذ ثم اسأل، أي: نفذ أولاً ما أمرت به، وقد يكون الأمر غير موافق لعقلك وما تدري لماذا أمرك القائد بهذا؟ فلا ترفض الأمر، وتقول: لماذا؟ فإنك قد تفوت الوقت وتضيع الفرصة، وإنما نفذ ما أمرت به ثم اذهب واسأل ما بدا لك، وهكذا الشرع، ولهذا قال عمر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا -هذا محل التشريع- أني رأيت) ويا نعم ما رأى! رأى عمل رسول الله مباشرة ومشافهة؛ لأنهم كانوا يتلقون عنه مباشرة، لا بنقل ينقل، ولا برواية تروى، بل رأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، فامتثلوا أوامره طواعية: (لولا أني رأيته يقبلك ما قبلتك) .
في هذا الموطن يذكر العلماء ومنهم الصنعاني شارح هذا الكتاب أن هناك رواية فيها: أن علياً سمع ذلك من عمر، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه ينفع، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه بحق) (وقد جاءت فيه أحاديث منها: (هو يمين الله في أرضه)) فقال عمر: (من أين يا علي؟! قال: من كتاب الله، قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] ، فكتب ذلك في رق، وأودع هذا الرق الحجر، وكان له فم ولسان وعينان) ونحن نقول: إن هذه الأشياء يتوقف في سماعها على صحة إسنادها، وصراحة مدلولها، ونحن لا نستبعد هذا كما لا نستبعد كيف أخذ الله الذرية بعضها من بعض إلى آخر واحد من آدم، وكيف اجتمع العالم كله في عالم الذر بعرفة؟! أنا وأنت ومن سيأتي بعدنا أرواحنا اجتمعت في عالم الذر؟! ونحن لا ندرك هذا، ولكنه عالم آخر يعلمه الله سبحانه وتعالى.
فإذا جاءت القضايا إلى القدرة الإلهية فاسترح؛ لأنه لا يستعصي على القدرة الإلهية شيء.
إذاً: عمر ينبه بهذا المعنى على أن المسلمين إنما يقبلون الحجر لا لذات الحجر ولا لمعنى فيه، ولكن امتثالاً وطاعة واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الطواف حول الكعبة ليس لأنها زمردة أو ياقوتة، ولو كانت زمردة أو ياقوته، أو أغلى جوهر في العالم فليس الطواف حولها لذاتها، فكيف وهي بنيَّة من حجارة وهذه الحجارة موجودة في مكة، ولكن نطوف حولها لقداستها، ولتعظيمها، فقد عني به المولى سبحانه فقال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ} [البقرة:127] .
وقال: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] ونحن نطوف أيضاً امتثالاً لأمر الله في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] .


مشروعية استلام الركن بمحجن ونحوه
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي الطفيل قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه سلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن) رواه مسلم] .
هذا فيه تتمة لاستلام الحجر، فإن استطعت أن تأتي إلى الحجر وتضع كفيك على جانبيه، وتضع شفتيك عليه وتقبل، بل وتضع جبهتك عليه وتسجد، فهذه هي أكمل الصور، وإذا لم يمكنك واستلمته من بعيد بيدك أو بأنامل أصابعك فقبل يدك أو أناملك وامض، وإذا لم تستطع فبمحجن، يعني: عصا معوجة، فإذا مددته ولمست الحجر به فقبل طرفه ولكن احرص على أن لا تؤذي أحداً، وقلنا: لو أنك مددت رداءك إلى إنسان عند الحجر وقلت له: ألمسه لي، فمسحه بالحجر ورده إليك فقبله وهكذا، فقبل الحجر بذاته أو ما لامسه، أما إذا لم يحصل هذا ولا ذاك، فأشر من بعيد وارفع يدك وقل: باسم الله، الله أكبر، ولا تقبل يدك؛ لأنها في الهواء، لم تلمس الحجر فلا تقبل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [9]
اشتهر عند كثير من العامة عند رمي الجمرات أنهم يرمون الشيطان، وأن الشيطان يتأثر ويتضرر بهذا الرمي، حتى صاروا يرمون الجمرات بحصى كبيرة، بل قد يرمي بعضهم بالأحذية، هذا بالإضافة إلى تسمية الكثيرين للجمرات باسم الشيطان فيقولون: الشيطان الكبير والشيطان الصغير، وكل ذلك إما من الجهل وإما من الغلو الذي حرمه الشرع، وإنما يكون الرمي بحصى كحصى الخذف مع التكبير والدعاء، فيلزم التقيد بما أمر به الشرع فلا إفراط ولا تفريط.


وقت رمي الجمرات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) رواه مسلم] .


بداية وقت رمي الجمرات ونهايته
يبين لنا جابر في هذا الحديث متى ترمى الجمرات، وذكر بأن جمرة العقبة رماها صلى الله عليه وسلم ضحىً؛ لأنه حينما أفاض من المزدلفة قبل طلوع الشمس، والمسافة من المزدلفة إلى منى حوالي ستة أو سبعة كيلو مترات، فلما جاء من المزدلفة على الراحلة، كان في الطريق زحام بين الرواحل فكان ينادي: (السكينة السكينة ... ) ولما وصل إلى منى أخذ في طريقه إلى العقبة، ومعلوم أن أول عمل للحاج في منى هو رمي جمرة العقبة، وكما يقولون: تحية منى يوم العيد هي رمي جمرة العقبة، فوصلها ضحىً فرماها، إذاً: رمي جمرة العقبة ضحىً، والضحى هو: قبل الزوال، وأما بقية الجمرات في أيام التشريق: الأول والثاني والثالث فترمى بعد الزوال، ووقت جمرة العقبة فيه خلاف كما تقدم، فمنهم من يقول: يبدأ بعد منتصف الليل، ومنهم من يقول: يبدأ بعد طلوع الفجر، ومنهم من يقول: يبدأ بعد طلوع الشمس على الخلاف المذكور في وقت الإفاضة من مزدلفة لأهل الأعذار وغيرهم.
لكن متى ينتهي وقت الرمي؟ الجواب: لا حد لانتهائه، والوقت الأفضل الذي رمى فيه رسول الله هو الضحى، فلو أن إنساناً تأخر في عرفات وفي مزدلفة، ولم يصل إلى منى إلا بعد العصر، فأول ما يصل إلى منى عليه أن يرمي جمرة العقبة، ولا نقول: إن وقت الرمي هو في الضحى، وإنما وقت الضحى هو الأفضل، فإذا تأخر إلى الزوال أو إلى العصر، أو إلى ما بعد العصر فلا مانع من أن يرمي، وإنما الخلاف في جواز رمي الجمرات ليلاً، فلو تأخر إنسان ووصل إلى منى ليلاً فهل يرمي الجمرات أو لا يرميها؟ الجواب: الأئمة الثلاثة يقولون: يجوز أن يرمي في الليل عن اليوم الماضي.
والإمام أحمد يقول: إن غربت الشمس فلا رمي، وعليه أن يؤخرها إلى غد؛ لأن الأيام الثلاثة كلها أيام رمي، والرمي فيها أداء لا قضاء، ولا فدية على من تأخر في رمي يوم إلى اليوم الثاني، ولكن عليه الترتيب، كما جاء في حديث الرعاة الذين رخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا ليرعوا الإبل، ثم بين أن عليهم أن يأتوا ليرموا عن اليوم الثاني أولاً، ثم عن اليوم الثالث.
وعلى هذا فالسنة في رمي جمرة العقبة أنه يبدأ من الضحى، ويبدأ قبل ذلك لأهل الأعذار، وأما بقية الجمرات الثلاث في غير يوم العيد فإن جمرة العقبة قد خرجت عن كونها عقبة، وصارت من الجمرات الثلاث في أيام التشريق الثلاثة، ووقتها هو وقت بقية الجمرات حيث يبدأ من الزوال، ولا نقول: قد رميناها بالأمس ضحىً ولابد أن نرميها اليوم ضحىً؛ لأنه إذا خرج يوم العيد لم يعد هناك وقت للرمي إلا من الزوال، إلا قول يذكر عن عطاء وعن غيره في جواز الرمي قبل الزوال، وهذا يذكره بعض العلماء من باب التخفيف، ولكن يقولون: إنما رمى صلى الله عليه وسلم من بعد الزوال.
ويستمر الرمي من بعد الزوال إلى قبيل غروب الشمس وهذا باتفاق، فإذا دخل الليل ولم يكن قد رمى فيرمي في تلك الليلة عن اليوم الماضي، والإجماع على أنه لا يرمي ليلاً عن اليوم الآتي، ولكن يرمي ليلاً عما سبق أن فاته في نهار تلك الليلة، إلا ما جاء عن أحمد رحمه الله فإنه قال: إذا دخل الليل فلا رمي في الليل.
والجمهور يقولون: الليل يستدرك فيه ما فات في النهار، وعلى هذا يبدأ الرمي في أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال، الأولى فالوسطى فالكبرى، والآن نقول: الكبرى، ولا نقول: العقبة؛ لأن العقبة تكون في يوم العيد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.


الترتيب في رمي الجمرات والتبكير والدعاء عندها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم، ثم يسهل، فيقوم فيستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم فيستقبل القبلة، ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) رواه البخاري] .
يبين لنا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الحديث كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرات، فيذكر لنا أنه كان يرميها على الترتيب، فيبدأ برمي الجمرة الدنيا، والدنيا تقابل القصوى، والدنيا والقصوى أمر نسبي، فالمتوجه من منى تكون الجمرة الدنيا بالنسبة إليه هي الأولى التي يقال لها: الصغرى، فيرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات.


حكم رمي الجمرات بغير الحصى
وهنا نص على الحصى، ولذا يتفق العلماء على أن الجمار لا ترمى إلا بالحصى، ولا يجوز الرمي بأي نوع آخر من أنواع الجمادات، فلو رمى الحاج بسبعة دنانير ذهب بدل السبع الحصيات ما أجزأ ذلك عنه، وكذلك لو رمى بسبع حبات فاكهة: تفاح أو رمان أو برتقال ما أجزأ ذلك عنه، ولو رمى بحجر مطبوخ الذي هو الفخار ما أجزأ، أو بقطع من الصبة (الخرسانة) ما أجزأ، أو بطوب من الطين وهو قاس يابس جامد ما أجزأ، ولا يجزئ الرمي إلا بالحصى.
ثم يزيد بعض الفقهاء على ذلك ويقول: بشرط أن تكون على طبيعتها، فلا يأتي بحجر كبير ويكسره ليأخذ منه أجزاء بمثابة الحصى، والحصى معروف وهو: حبات من الرمل كبيرة مستقلة بذاتها مستديرة أو مستطيلة أو مضلعة كل ذلك حكمه سواء.


كيفية رمي الجمرات
إذاً: رمى بسبع حصيات، والرمي لابد فيه من رفع اليد، ومن حركة الرمي والدفع، ولذا يقولون: لو أخذ الحاج الحصاة وهو عند الحوض ووضعها فيه كما يضع الكأس على الطاولة فإنه لا يجزئ، بل لابد من حركة الرمي، وأن تطير الحصاة في الهواء من يد الرامي إلى أن تسقط في الحوض.
والعبرة بالرمي إنما هو إلى دائرة الحوض (المرمى) وليس المقصود أن تصيب البنيان الذي في وسط الحوض الذي يسمى (الشاخص) ؛ لأن هذا الشاخص ما بني إلا مؤخراً، وكذلك الحوض ما بني إلا بعد ثمانمائة سنة من الهجرة، بناه أهل مكة باجتهادهم، وإنما كانوا يقيسون موضع الرمي بثلاثة أذرع، أو بخمسة أذرع على حسب كثرة الرمي، ثم بني هذا الحوض ليحفظ الحصى، وليحدد موضع الرمي، ولذا تجدون في كتب الفقه في أحكام المناسك أنهم يقولون: من رمى وتدحرجت الحصاة إلى أقصى الكوم فإنها لا تجزئ، ولكن إن استقرت في وسط المرمى الذي هو خمسة أذرع من كل جهة أجزأت، يعني: أن دائرة قطر الحوض عشرة أذرع؛ لأن مسافة الوتر من الدائرة أو من المحيط إلى المركز خمسة أذرع، ثم بني هذا الشاخص في الوسط ليكون علامة على موضع الرمي، وليتلقى الحصى من الجهات الأربع حتى لا تتعدى إلى المقابل فتؤذي، فإذا رميت أيها الحاج! وصادفت الشاخص المبني القائم وسط الحوض وارتدت الحصاة من الشاخص إلى الحوض أجزأت، أما إذا كانت الرمية التي رميت بها الشاخص قوية فارتدت بقوة وسقطت خارج الحوض فلا تجزئ ولا يعتد بها؛ لأن الغرض ليس هو الشاخص المبني القائم، ولكن الغرض أن تستقر الحصاة في داخل المرمى.
وقالو: لو أنك رميت الحصاة فصادفت عنق بعير مقابل فتدحرجت ونزلت في المرمى أجزأت، ولو رميتها على هودج مقابل وتدحرجت ونزلت في المرمى أجزأت، وعلى هذا فإنك إذا كنت في الدور الثاني وأردت أن ترمي فإنك ترمي في حوض صغير أسطواني، وتتدحرج الحصاة من المرمى حتى تنزل من الفتحة إلى المرمى الأصلي في الأسفل وهكذا.
وقالوا: في حكم الصغير الذي يحج به وليه ويريد أن يرمي عنه، إن كان يحسن أن يلعب ويأخذ الحصى ويرمي فعل الرمي بنفسه، وإن لم يكن يحسن فإنه يضع الحصاة في كفه، ثم يأخذها هو -أي: الولي- من كف الصبي ويرمي بها نيابة عنه.
إذاً: في قوله: (يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة) فيه الترتيب، وطريقة الرمي، والتكبير عقب كل حصاة، وأن يكون الرمي بالحصى لا بغيره.


الذكر الذي يقال عند رمي الجمرات
قوله: (يكبر عقب كل حصاة) ، قد تقدمت الإشارة إلى هذا، فمن العلماء من يرى أنه يقول: (باسم الله، الله أكبر؛ إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) ، (إرغاماً للشيطان) لأنه كان بالأمس بعرفات، وما رؤي الشيطان أحقر ولا أذل ولا أصغر منه من يوم عرفة؛ لكثرة ما يرى من تنزل الرحمات، وكما يقال: يحثوا على رأسه التراب ويقول: يا ويلتا! لأنه قد اجتهد في إضلال الناس، فمنهم من بلغ عمره عشرين ثلاثين خمسين ستين سبعين ثمانين سنةً، وهو يجلب عليه بخيله ورجله، ويحتنكه ويقوده، ويفعل ما شاء فيه، فإذا كان يوم عرفات تنزل الله سبحانه وتعالى وتجلى لأهل الموقف وقال لهم: (أفيضوا مغفوراً لكم) ، إذاً: كل تعبه مع هذا الإنسان الذي بلغ عمره ثمانين أو تسعين سنةً ذهب وانتهى في عصرية، أو في عشية، إذاً: سيكون في تلك الحالة أشد ما يكون أسفاً على ما كان من عمله سابقاً، وحينما يأتي الحاج إلى رمي الجمار يقول: (إرغاماً للشيطان) ، أي: على ما أصابه في يوم عرفة يكون الرمي، زيادة في إذلاله واحتقاره وإصغاره.
(وإرضاءً للرحمان) لأن الإنسان ما خرج من بلده وترك أهله وولده وماله وتحمل مشاق الحل والترحال إلا ابتغاء وجه الله، كما جاء في حديث المباهاة: (إذا كانت عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، يقول: يا ملائكتي! هؤلاء عبادي جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فتقول الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه، جاءوا يرجون رحمتك ويخشون عذابك) ، إذاً: يقول: (إرضاءً للرحمان) ؛ لأنه جاء يرجو رحمة الله، فمن هنا حينما يتخلص الحاج من تلك الأثقال التي حملها عليه الشيطان، فإنه يطلق من قيوده، ويفك من احتناكه، ويصبح طليقاً قوياً سوياً، فيأتي إلى الشيطان وكأنه يقول له: هاه! قد جلبت علي تلك السنوات كلها وأنا عاجز أمامك، وأما الآن فقد تقويت؛ لأن ما أثقلتني به قد ذهب عني، وما كبلتني به من القيود قد انطلقت منها، وهأنذا أبدؤك بالحرب، (باسم الله، الله أكبر، إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) .
إذاً: رمي الجمار ليس الغرض منه ضرب الشيطان، كما يظن بعض الجهال أنه يضرب الشيطان أمامه، فالشيطان لن يقعد له حتى يرميه! ولا حتى يضربه! ولذا ترى أحدهم يأتي بحجارة أو يأتي بنعل أو يأتي بمظلة ويرمي بها، ولا يدري أن الشيطان يضحك عليه بهذا العمل، إنما الرمي هو كما قال صلى الله عليه وسلم: (بحصاة كحصى الخذف) فيرمي على هذه الوجهة، وبهذا المقصد، وهو يستشعر رحمة الله وفضله عليه، ونعمته عليه بهذا الموقف.


مشروعية الإكثار من الدعاء عقب رمي الجمرات
قوله: (ثم يسهل) لأن المكان هناك في حافة الوادي إلى جهة الميمنة عال، وإلى جهة الميسرة مجرى الوادي، فيسهل ثم يتقدم، أي: بعيداً عن الزحام وعن حلقة الرمي (ويستقبل القبلة، ويدعو طويلاً) يقول بعض العلماء ومنهم شارح الكتاب: جاء عن ابن عمر أنه حدد المدة بين رمي الجمرتين بمقدار ما تُقرأ سورة البقرة؛ لأنه يكثر من الدعاء في هذا المقام.


مشروعية رفع اليدين في الدعاء بعد رمي الجمرات
قوله: (ويرفع يديه) وقضية رفع اليدين في الدعاء في الآونة الأخيرة أثارت المشاكل بين العامة وطلاب العلم، ونرى بعض الناس يعيبون على من يرفع يديه في الدعاء، ويقولون: رفع اليدين في الدعاء ما جاء إلا في مواضع مستقلة، كالاستسقاء وعند رؤية البيت، وفي عرفات وما عدا ذلك لا ترفع فيه اليدان، وبهذه المناسبة فإن النووي رحمه الله ذكر بعض مواطن رفع اليدين في الدعاء، ثم قال: (ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في أكثر من ثلاثين موضعاً، ومن ظن أن رفع اليدين قاصر على هذه الثلاثين فهو أجهل من كذا) .
إذاً: القاعدة العامة هي رفع اليدين في الدعاء، وقد استدل بعض العلماء على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحي من عبده أن يمد إليه يديه فيردهما صفراً) يستحي الله من العبد أن يمد يديه إليه يسأله حاجته أن يردهما صفراً أي: بدون شيء، وإنما يضع له شيئاً فيها، وهذا عام في كل دعاء، وجاء في الحديث الآخر: (وذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام، فأنى يستجاب له) فما ذكر صلى الله عليه وسلم نوعاً من الدعاء، وإنما قال: (الرجل يطيل السفر) أي: أن الدعاء يكون على أي حالة من الحالات.
إذاً: القاعدة والأصل في الدعاء أن يرفع الإنسان يديه إلى الله سبحانه وتعالى، وهنا في هذا الموضع نص على أنه يرفع يديه في الدعاء عقب رمي الجمرة الأولى والوسطى، وأما جمرة ذات العقبة فليس فيها دعاء ولا وقوف، وعلى هذا لا يكون فيها رفع، إذاً: نستصحب الأصل في التشريع وهو أن كل دعاء يجوز رفع اليدين فيه، وأما الذين يحددون الرفع بشيء معين فإنهم يحتاجون إلى نص على إثبات ذلك، وإلى نص بالنفي لما سواها، والنووي يقول: (رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في ثلاثين موضعاً، ومن ظن أن رفع اليدين قاصر على هذه الثلاثين فهو أجهل من كذا) .
إذاً: ننصح أنفسنا أولاً، والإخوة الذين يقولون: نتحرى الوارد في السنة أن لا يشددوا على أنفسهم، ولا يشددوا على الناس، ولا يمنعوا الجائز؛ لأن رفع اليدين في الدعاء هو الأصل.
قوله: (ثم يأتي إلى الوسطى كذلك فيرميها بسبع حصيات يكبر عقب كل حصاة، ثم يسهل، ثم يستقبل القبلة، ثم يدعو طويلاً ويرفع يديه، ثم يأتي إلى ذات العقبة) ذات بمعنى صاحبة، وجمرة العقبة مضاف ومضاف إليه، والإضافة تقتضي التمليك أو التخصيص، والتمليك يكون فيمن يصح تمليكه، كما تقول: كتاب زيد، والتخصيص يكون فيما لا يصح تمليكه، كما تقول: باب الدار، فالباب مختص بالدار، وجمرة العقبة أي: ذات العقبة، فإن الحاج يرميها من بطن الوادي ويذهب ولا يقف عندها.
ولماذا لا يقف ولا يدعو؟ الجواب: أشرنا فيما تقدم إلى أن المكان عندها كان ضيقاً، وأنها كانت ترمى من جهة واحدة، وأن العقبة كانت تمنع الرمي من بقية الجهات.
ثم قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) ومع كونه يقول: رأيته يفعل، نضيف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وبالله تعالى التوفيق.


مسألة في مشروعية رفع اليدين عند الدعاء على الإطلاق
ورفع اليدين كثر الكلام فيه، وحصل فيه النقاش والإساءة في المفاهمة بين الإخوان، وقد سمعت أن بعض الإخوان المنتسبين إلى طلبة العلم يقول: بعض الناس عند الدعاء يخشع ويبكي، وإذا سمع القرآن لا يتأثر، فنقول: هذا ليس بصحيح، بل القرآن أشد تأثيراً، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، لكن يا إخوان! لما قام الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر في العريش، هل قام يقرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ.
} [البقرة:1-2] ، وهل قام يقرأ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2] هل قام يقرأ كتاب الله أو قام يلتجئ ويتضرع إلى الله بالدعاء ويقول: (اللهم! أنجز لي ما وعدت، اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد) ؟ الجواب: كان اجتهاده في الدعاء، وكان رافعاً يديه مبالغاً في رفعهما، حتى إن رداءه كان يسقط من على كتفيه، فيقوم أبو بكر ويرد عليه الرداء ويقول: حنانيك يا رسول الله! بعض ذلك يكفي، إن الله منجز لك ما وعد، فاستكثر أبو بكر هذا، وأشفق على الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كل موطن له حالته، ولكل مقام مقال، ونحن حينما نقرأ القرآن الكريم إذا جئنا إلى قصة موسى عليه السلام مع فرعون ووو فما هو الذي سيخشِّع ويبكِّي؟! فهو سرد تاريخي لقصة رسول مع عدوه، وأمثال هذا، لكن حينما تأتي الآيات التي فيها رقائق، والتي فيها وعد ووعيد، فهذا هو الذي يحرك الشعور ويحرك العاطفة، وربما تذرف منه العين، فقد جاء أن ابن مسعود قرأ على النبي من سورة النساء حتى بلغ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] ، فقال له: أمسك، وذرفت عيناه؛ لأنه تذكر ذلك الموقف، وتذكر تلك الحالة، التي قال الله عنها: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34-35] وقال سبحانه: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] ، إذاً: البكاء يكون في مواطن، وليس في كل حالة.
والدعاء عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة) وقال: (الدعاء هو العبادة) قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] فقال: (عن عبادتي) ولم يقل: عن دعائي، مع أن المذكور في أول الآية هو الدعاء، ولكن الله سبحانه وتعالى في هذا الأسلوب وضع العبادة موضع الدعاء ليبين أن العبادة والدعاء متساويان.
ومثل هذا قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] ولم يقل: (ومن لم يحج) وإنما قال: (ومن كفر) إذاً: من لم يحج وهو مستطيع تساوي: من كفر.
وعلى هذا يا إخوان! فإن الواجب على الإنسان أن يكون في حالة دعائه إلى ربه حاضر القلب، خاشعاً، متذللاً، ضارعاً إلى الله كما فعل صلى الله عليه وسلم عند الملتزم، فنظر إليه عمر فإذا به يبكي، فقال: (أتبكي يا رسول الله؟! قال: نعم يا عمر! هاهنا تسكب العبرات) وهل كل مكان مثل الملتزم الذي عند باب الكعبة؟ الجواب: لا، ليس كل مكان مثله.
إذاً: الدعاء له أوقاته، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء) ولهذا يحرم عليك أن تقرأ القرآن وأنت ساجد، وإنما تدعو وتجتهد في الدعاء.
والله تعالى أعلم.


الحلق في النسك أفضل من التقصير
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال في الثالثة: والمقصرين) متفق عليه] .
فهذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين، والمحلقون هم: الذين حلقوا شعور رءوسهم عند التحلل، والمقصرون هم: الذين قصروا بالمقص أو بالمكينة التي حدثت الآن، ولم يحلقوا بالموسى، والله سبحانه وتعالى ذكر الأمرين فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] فنص على الأمرين، إذاً: كلا الأمرين مجزئ، ولكن تقديم الحلق في قوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) يدل على أن الأفضل هو الحلق، وهنا كون المسألة فيها أفضلية يدل على أنها متقاربة، ودل على الأفضلية أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين مرتين، وهم يسألونه: يا رسول الله! والمقصرين، يعني: وادع للمقصرين، وهو يعرض عنهم ويقول: اللهم! ارحم المحلقين، وفي الثالثة قال: والمقصرين.
ومتى كان هذا الدعاء؟ الجواب: يختلف العلماء في وقته، فمنهم من يقول: كان في صلح الحديبية، ومنهم من يقول: كان في حجة الوداع، والنووي وغيره يرجح أنه كان في حجة الوداع، ولكن الذي يظهر أنه كان في عمرة الحديبية، وذلك أنهم سألوا: ما بال المحلقين يا رسول الله؟! -يعني: دعوت لهم ثلاث مرات أو مرتين- قال: (لم يشكوا في أي شيء) أي: عند أن أمرهم بالتحلل في عمرة الحديبية، فإنه لما منع المشركون المسلمين من أن يأتوا إلى البيت، وأن يطوفوا ويسعوا ويكملوا العمرة على وجهها، تم الصلح معهم وكتبت الصحيفة، وكان في الصلح خير كثير جداً، وقد سمى الله عمرة الحديبية فتحاً، وأنزل فيها سورة الفتح، فقال عمر: (أفتح هي يا رسول الله؟! قال: نعم، هي فتح) وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (والله! ما يطلبون مني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) أي: مطلقاً، فانتزع الله -بفضله- من المشركين اعترافاً بالكيان الإسلامي، بينما الرسول سبق له وأن خرج من مكة مختفياً في الغار ليلاً، لكن وبعد ست سنوات يأتي إلى مكة بجيش، ويأتي معتمراً ويدخل عليهم عنوة، فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على مائدة المفاوضات، وهذه الجلسة على المفاوضة، وتوقيع المسلمين وتوقيع سهيل بن عمرو على الصحيفة يساوي اعترافاً من المشركين بالكيان الإسلامي الذي فاوضوه، يعني: أنهم اعترفوا بالأمة الإسلامية، وهذا يعد فتحاً عظيماً.
لما تم ذلك الصلح قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تحللوا، وانحروا الهدي، واحلقوا شعوركم: أي: أن العمرة قد انتهت، ولكن بعضهم قال: كيف انتهت ونحن لم نر الكعبة؟!! وكيف انتهت ونحن ما طفنا ولا سعينا؟!! لأن لهم مقاييس وللرسول صلى الله عليه وسلم مقاييس أخرى، فتوانوا عن التحلل، فغضب صلى الله عليه وسلم، ودخل على زوجه أم سلمة، فقالت: ما لي أراك غاضباً، أغضب الله من أغضبك؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: تصالحنا مع القوم، وانتهت العمرة، وأمرتهم أن ينحروا ويتحللوا فلم يتحلل أحد قالت -انظر الحكمة والروية والعقل-: أتحب أن يفعلوا ذلك؟ قال: نعم، قالت: لا عليك، خذ المدية، واخرج على الناس ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق واحلق شعرك، ثم الزم خيمتك، فإذا به صلى الله عليه وسلم قد وجد حلاً عملياً يقطع على أولئك المتوانين مطامع الرجاء في حل آخر؛ لأنه إذا كان الرسول قد نحر وحلق، فما هو الذي بأيديهم بعد هذا، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر هديه بادروا إلى نحر هديهم، ودعوا الحلاق وكادوا يقتتلون على الحلاقة، وانتهت القضية، وفي هذا الظرف منهم من حلق، ومنهم من قصر، والذي حلق والذي قصر كلاهما امتثل، وكلاهما تحلل، ولكن الذي حلق شعره كان حلقه على يقين بالأمر (مائة في المائة) ، وأما الذي قصر فكأنه تحلل وهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وليس هو على الثقة وعلى اليقين الذي عليه الذي حلق شعره؛ لأن الذي حلق شعره متيقن وليس عنده شك.
إذاً: الأولى ترجيح أن ذلك الدعاء كان في عمرة الحديبية.


حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره في حجة الوداع وبعض ما يتعلق بذلك
والرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما نحر بعض الهدي وأناب علياً في نحر الباقي، ودعا الحلاق ناوله أولاً الشق الأيمن فحلقه، ثم قال: خذ هذا الشعر وقسمه على الناس -على الحاضرين- ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه، فقال: خذه أنت، وهنا بعض الناس قد يفكر ويسأل: لماذا يقسم الشعر عليهم؟ الجواب: لأن هناك مصلحتين: المصلحة الأولى: إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى على الأرض؛ لأنه إذا ما حصل إنسان على شعرات منه فإنه سيطويها ويحتفظ بها في أعز مكان عنده، وقد كان السلف رضوان الله عليهم من حصل على شيء من شعرات رسول الله يحتفظ بها، فـ خالد بن الوليد كان في قلنسوته التي يضعها على رأسه شعرات من شعر رسول الله، وأم سلمة كان عندها شعرات وضعتها في جلجل فضة، وكانت إذا جاء المحموم إليها ماصتها في الماء وسقته إياه فيعافيه الله، هذه مصلحة أولى وهي إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهان ويلقى على الأرض.
المصلحة الثانية: التبرك، فقد كانوا يتبركون ببصاقه ومخاطه صلى الله عليه وسلم كما جاء في صلح الحديبية حينما قال عروة بن مسعود الثقفي: (والله! لقد دخلت على كسرى في ملكه وقيصر في ملكه، فما رأيت قوماً يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد لمحمد، والله! ما تفل تفالة ولا تنخم نخامة إلا سقطت في كف أحدهم يدلك بها وجهه، ولا توضأ وضوءاً إلا اقتتلوا على مائه ليتمسحوا به) وأم أيمن لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم، قال لها: (لا توجعك بطنك أبداً) ، وابن الزبير لما قال له صلى الله عليه وسلم: (خذ هذا -أي: دم الحجامة- وغيبه عن الناس في مكان لا يراه أحد، فذهب بعيداً وشربه، ولما رجع قال له: ماذا فعلت؟ قال: شربته، قال: ويل للناس منك، وويل لك من الناس) أي: لأثر دم رسول الله الذي في جوفه.
وكانوا يأتون بالأطفال إليه ليحنكهم تلمساً لبركة يده صلى الله عليه وسلم، وأبو قتادة لما خرجت عينه في أحد ردها ومسح عليها بكفه فكانت أحسن عينيه، وأشياء كثيرة في هذا الموضع عملها أصحابها التماساً لبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: علم الله أننا لو أدركنا التراب الذي وطئه لاكتحلنا به في أعيننا، ولكن هل يتعدى هذا إلى غيره؟ الجواب: نقول: لا، بل هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا لم نجد أصحابه فعلوا ذلك مع غيره، إذاً: هذه الأشياء قاصرة عليه؛ لأنه هو الذي اختص بمثل هذه الأمور.
وبهذا يتبين أن قوله: (اللهم ارحم المحلقين) أي: الدعاء للمحلقين كان في صلح الحديبية.


القدر الذي يقصر من الشعر في النسك
وهنا يأتي بحث فقهي: الرسول صلى الله عليه وسلم حلق شعره كله، وبدأ بالشق الأيمن ثم الشق الأيسر، وبإجماع المسلمين أن هذه الصفة هي أكمل الصفات، لكن لو أن إنساناً لم يحلق شعره كله، وأراد أن يقصر فكم يحلق من حجم رأسه، وكم يقصر من طول شعره؟ الجواب: أحمد ومالك يقولان: الواجب تقصير كامل الشعر، فإن حلق فليحلق الجميع، وإن قصر فليقصر الجميع، وأما أبو حنيفة رحمه الله فيقول: يجزئ ربع الرأس حلقاً أو تقصيراً، وهذه المسألة هي مثل المسألة التي تبحث في مسح الرأس عند قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] فكم يمسح من الرأس في الوضوء؟ فيها خلاف، وهذه المسألة مثلها، والشافعية يقولون: كل ما صدق عليه حلق أو تقصير ولو ثلاث شعرات فإنه يجزئ، والنووي رحمه الله يقول: وقد أفرط بعض منا -أي: من الشافعية- فقال: ولو قصر بعض شعرة لأجزأه، ثم قال: وكيف يأخذ بعض الشعرة، فإنه إذا أخذ من شعره بالمقص فسيأخذ كثيراً، فكيف يتمكن من قص شعرة دون غيرها؟ قالوا: إذا غطى الإنسان رأسه بالحناء، فطلعت شعرة من تحت الحناء وبرزت من فوق فجاء بالمقص وأخذ هذا الجزء البارز من الشعرة من فوق الحناء، فإنه يكون قد أخذ بعضها، قال: وهذا إفراط، أي: أنه لا ينبغي مثل هذا في النسك.
وعلى هذا نجد في المسألة عدة أقوال: فمنهم من قال: يحلق أو يقصر كل الرأس، ومنهم من قال: ربع الرأس، ومنهم من قال: ولو ثلاث شعرات، هذه أقوال الأئمة رحمهم الله، ولا نملك أن نقول شيئاً في ذلك إلا أن السنة هي حلق أو تقصير جميع الرأس.
ثم إذا جئنا إلى حديث بيان فضل الحج: (جئنا نسألك، قال: إن شئتما أخبرتكما.
إلخ، وعن حلقك شعر رأسك فلك بكل شعرة حسنة ووضع سيئة ورفع درجة) إذاً: كتابة حسنة وإسقاط سيئة ورفع درجة كل هذا بشعرة واحدة، ثم بعد هذا نذهب ونأخذ شعرة، أو نأخذ ثلاث شعرات، أو نأخذ ربع الرأس! هذا فيه تفريط، بل لو استطعنا أن نأتي برأس آخر جنب الرأس الأصلي حتى نحلق شعراً أكثر لفعلنا، حتى يزداد الأجر.


كيفية حلق رأس الأصلع في النسك
وأما الأصلع فيقولون: الأصلع يمر الموسى على رأسه، وإذا وجد شعر أزاله.
وهنا مسألة عند العلماء: إذا كان المحرم متمتعاً وعنده تحللان: تحلل للعمرة، وتحلل للحج، فهل الأفضل في حقه في تحلل العمرة أن يحلق أو أن يقصر؟ الجواب: بعض الناس إذا كان متمتعاً يحلق البعض ويترك الباقي إلى الحج، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا يسمى قزعة الشيطان؛ لأن الإنسان حتى في الأيام العادية إما أن يحلق شعر رأسه كله أو يتركه كله، وأما أن يحلق بعضاً ويترك البعض فهذا يسمى (قزعة الشيطان) .
ويقول بعض العلماء في هذه المسألة: إن كان هناك وقت بين تحلل العمرة وتحلل الحج ينبت فيه الشعر بحيث يستطيع أن يحلقه في الحج فله أن يحلق في العمرة؛ لأنه يمكن أن يوجد الحلق في النسكين، وإذا كان الوقت قريباً، فإذا حلق في العمرة لا يجد ما يحلقه في الحج فيكتفي في العمرة بالتقصير، وإذا كان سيقصر من الشعر فكم يقصر؟ الجواب: يقولون: لا يقل عن قدر أنملة، فإذا كان إنسان عنده شعر طويل -خمسة سم مثلاً- فعليه أن يأخذ منه اثنين سم، ويشمل جميع جوانب الرأس بالقص، كما تقدم.
وأما المرأة فقد جاءت النصوص بأنه لا حلق عليها، وإنما عليها التقصير، وكيف تقصر؟ قالوا: تجمع شعر رأسها في كفها إلى أن يبقى قدر أنملتين أو أنملة وتقص من أطرافه، وعليها أن تعمم بالتقصير جميع الشعر، وبعضهم يتندر ويقول: إذا حلقت المرأة فهل يجزئها ذلك؟ الجواب: نقول: هذه مثلة، والمرأة لا تحلق شعرها، وما كن يحلقن إلا في المصائب، عياذاً بالله! إذاً: المرأة تقصر ولا تحلق.


الترتيب في أعمال يوم النحر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج) متفق عليه] .
هذا الحديث من أجمع أحاديث الحج، وأيسرها على الحجاج، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم العيد فأخذوا يسألونه، هذا يقول: يا رسول الله! ما شعرت، يعني: نسياناً وسهواً لا عمداً، حلقت قبل أن أنحر، قال: انحر ولا حرج، والترتيب الطبيعي لأعمال هذا اليوم هي كالآتي: أولها: رمي جمرة العقبة، وثانيها: نحر الهدي، وثالثها: حلق الرأس، ورابعها: طواف الإفاضة.
أما رمي جمرة العقبة فإنها تحية منى، وهذا باتفاق، وأما النحر قبل الحلق فلقوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ثم بعد الحلق النزول لطواف الإفاضة، هذا هو الترتيب الطبيعي، فإذا سها إنسان أو جهل وغيّر في هذا الترتيب فلا شيء عليه؛ لأن هذا السائل قال: ما شعرت حلقت قبل أن أنحر -مع أن النحر كان أول- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج، أي: ما دام أن هذا الشيء قد وقع، ونلاحظ أن الأسئلة هنا هي عن أمور قد وقعت بالفعل، وفرق بين كون الشيء وقع فعلاً وبين كونه سيقع، ولم يوجد أحد قال: أنا أريد أن أحلق قبل أن أنحر، وإنما كل من سأل كان يسأل أسئلة عملية واقعية، وما دام أن الأمر قد وقع فهل نرفع الواقع؟ الجواب: لا نرفعه، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أجاز هذا العمل؛ التماساً لقوله: لم أشعر أي: أنا ناسٍ أو جاهل، فماذا أفعل؟ قال: (افعل ولا حرج) ، إذاً: أجاز المغايرة بين الرمي والحلق فقال: (افعل ولا حرج) ، وكذلك قال آخر: نحرت قبل أن أرمي، فقال له: (ارم ولا حرج) ، ثم يأتي الراوي بقضية وقاعدة عامة فقال: فما سئل عن شيء ذلك اليوم قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) ، وما هو الذي سيقدم أو يؤخر في ذلك اليوم؟ هو ما ذكرنا: الرمي والنحر والحلق والإفاضة، أيها قدم سهواً أو جهلاً أو نسياناً، فلا حرج في ذلك ولا شيء على من قدم أو أخر.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [10]
النساء شقائق الرجال، وكل ما شرع للرجل فهو مشروع للمرأة إلا ما جاء تخصيص المرأة به، ومن الأحكام التي تشمل الرجل والمرأة على حد سواء أحكام الحج، فالحج هو نصيب المرأة من الجهاد، وكل ما شرع للرجل في الحج فهو للمرأة كذلك إلا ما جاء استثناؤها فيه كاللباس والاضطباع والرمل والإسراع بين الصفا والمروة والحلق ونحو ذلك مما ينافي حشمة المرأة ووقارها وخلقتها التي خلقها الله عليها.


النحر في النسك قبل الحلق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك) رواه البخاري] .
يسوق المؤلف رحمه الله حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) وكون النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثم حلق هل هذا الفعل المخبر عنه والذي أمر به الصحابة كان في صلح الحديبية أو كان في حجة الوداع؟ فيه خلاف، وأكثر العلماء على أن ذلك كان في صلح الحديبية.
وقد تقدم التنبيه على أن ترتيب أعمال يوم العيد تكون كالآتي: الرمي فالنحر فالحلق فالإفاضة، وما سئل صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عن شيء قدم أو أخر إلا وقال: (افعل ولا حرج) فإذا كان الأمر كذلك وأنه ما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) ، فلماذا يأتي المؤلف بعد ذلك بهذا الحديث الذي فيه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك) ؟ فإن كونه فعل هذا الفعل المرتب وأمر أصحابه به يغاير قوله: (افعل ولا حرج) ؛ لأنه هناك قدم هذا وأخر ذاك، وأخر هذا وقدم ذاك فقال لكل من سأله: (افعل ولا حرج) ، وظاهر هذا وجوب الترتيب، وهنا: فعل وأمر فكيف يكون الجمع بين الحديثين؟ الجواب: يقول العلماء: إن هذا الترتيب وهو تقديم النحر على الحلق كان في صلح الحديبية، وهذا شأن المحصر عن الحج، وسيأتي للمؤلف: (باب الإحصار) ، والإحصار هو: المنع، وسواء كان الإحصار بعدو أو كان بمرض، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فيقول العلماء: إن قوله: (افعل ولا حرج) هذا في الحج، حينما يقع النسيان أو السهو أو الجهالة، أما في الإحصار فيتعين أن ينحر أولاً ثم يحلق ثانياً، وليس فيه: (افعل ولا حرج) .
إذاً: سوق المؤلف لهذا الحديث الذي فيه الترتيب في تقديم النحر وتأخير الحلق مغاير لما تقدم من قوله: (افعل ولا حرج) فقال العلماء: الجمع بين هذا وذاك: أن (افعل ولا حرج) مع العذر بالنسيان أو الجهالة هذا في الحج، وأما الترتيب فيكون في حالة الإحصار، والله تعالى أعلم.
وقد قدمنا قضية الدعاء للمحلقين عند قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! ارحم المحلقين -ثلاثاً-) وبينا أن ذلك اختلف فيه أيضاً: هل كان ذلك الدعاء في صلح الحديبية أو كان في حجة الوداع؟ وبينا أنه في صلح الحديبية، وأن السبب في ذلك والمرجح لكونه في صلح الحديبية أنه أمرهم فتوانوا في العمل، فدخل خيمته وهو مغضب، فقالت له أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (لا عليك، خذ المدية واخرج ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق فاحلق) يعني: أنه نحر أولاً، ثم حلق ثانياً، ثم أمر أصحابه بذلك.
إذاً: هذا الحديث إنما يتعلق بحالة الإحصار، والإحصار سيأتي له باب مستقل.


التحلل من الإحرام
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم فقد حلّ لكم الطيب وكل شيء إلا النساء) رواه أحمد وأبو داود وفي إسناده ضعف] .


متى يكون التحلل كاملاً ومتى يكون ناقصاً؟
هذا الحديث يبين لنا متى يتحلل المحرم من إحرامه، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء) يقول الفقهاء: التحلل الكامل يكون بفعل ثلاثة أشياء، والتحلل الناقص -أي: التحلل الأصغر كما يسمونه- يكون بفعل اثنين من ثلاثة، وهذه الثلاثة هي: الرمي والحلق والطواف، فهذه الأمور الثلاثة إذا فعلها الإنسان في يوم النحر ولو أخر النحر؛ لأن أيام التشريق كلها أيام نحر، فإذا رمى الجمرة، وحلق شعره، وطاف بالبيت فقد تحلل التحلل كله، وحلّ له ما كان ممنوعاً عليه بالإحرام وجميع ما كان محظوراً عليه، وهذا التحلل لا يشمل الصيد بمكة؛ لأن تحريم صيد مكة هو لحرمة مكة سواءً كان حاجاً أو غير حاج، وأما الصيد في الخلاء فتحريمه خاص بالمحرم، فلو خرج الإنسان إلى خارج حدود مكة ولم يكن محرماً وصاد فلا شيء عليه.
إذاً: التحلل الأكبر من كل شيء يكون بفعل ثلاثة أشياء، والتحلل الأصغر بفعل اثنين من هذه الثلاثة.
وهنا ذكر الرمي والحلق، فلو أنه رمى ولم يحلق ونزل إلى مكة وطاف طواف الإفاضة فكذلك حلّ له ما جاء في هذا الحديث: (كل شيء إلا النساء) وهنا في هذا الحديث ذكر الطيب، وهذا يؤيد حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولإحلاله حينما يحل) ، قالوا: كيف تطيبه وهو لم يكتمل له التحلل الأكبر؟! لأن كثيراً من الفقهاء يلحق الطيب بالنساء؛ لأن الطيب من شأنه أن يثير الغريزة إلى النساء؟ فقالوا: منع المحرم من الطيب حتى لا تكون هناك عوامل إثارة، وإلا فإن الطيب شيء طيب، ومقبول للنفس، لكن لما كان له هذا الأثر، والمحرم محرم عليه النساء فكان تحريمه سداً للذريعة ومنعاً للإثارة، ولكن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (فقد حلّ له الطيب وكل شيء إلا النساء) .
إذاً: لا يحق للمحرم أن يمس النساء إلا إذا تحلل التحلل الأكبر وفعل الأمور الثلاثة، وعلى هذا إن فعل اثنين من ثلاثة فقد تحلل التحلل الأصغر، وإن فعل الثلاثة كاملة فهو التحلل الأكبر، وأما الحديث الذي عند أبي داود وفيه: (من لم يطف ذلك اليوم رجع كما كان) فهذا الحديث يرد عليه؛ لأنه إذا رمى وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء، ولم يحدد هذا التحلل بزمن من الأزمنة سواءً طاف في ذلك اليوم أو لم يطف، فإذا رمى وحلق وأخر الطواف إلى أن ينتهي من أيام منى فلا مانع في ذلك، فإن له أن يرمي ويحلق ويجلس أيام التشريق كلها في منى ولا ينزل إلى مكة، إذا كان يريد أن ينزل ويطوف طواف الإفاضة ويسافر، فهذا يجزئه حتى عن طواف الوداع، وعلى هذا فتأخير طواف الإفاضة لا يمنعه من أن يتحلل التحلل الأصغر، والتحلل الأصغر هنا سيتحقق في لبس الثياب، ومس الطيب، وتقليم الأظافر، وأما ما عدا ذلك كأمر النساء فهو ممنوع منه، وكذلك الصيد ممنوع منه في مكة.
والله تعالى أعلم.


حكم الحلق والتقصير بالنسبة للمرأة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على النساء حلق، وإنما يقصرن) رواه أبو داود بإسناد حسن] .
تقدمت مباحث الحلق والتقصير، والمفاضلة بينهما، والقدر المجزئ في الحلق أو في التقصير، وهذا بصفة عامة، والمرأة هي شريكة الرجل في الحج، من أول كل شيء فيه إلى آخره، ما عدا ما استثنيت منه كنوعية اللباس والرمل والسعي -أي: الإسراع- فهي لا ترمل ولا تسرع بين الصفا والمروة؛ لأن هذا يخرجها عن وقارها وما يجب الحفاظ عليه من عفتها وسترها، وما عدا ذلك فهي مثل الرجل، إن تمتعت وإن أفردت وإن قرنت بين الحج والعمرة، فعدد طوافها، وعدد سعيها، وعدد حصيات رميها ومقدار الفدية، كل ذلك تستوي فيه مع الرجل، وكذلك في التحلل فإن رمت وقصرت من شعرها فقد تحللت التحلل الأصغر، وإن طافت فقد تحللت التحلل الأكبر، وإذا كان زوجها معها فقد أصبحا معاً حلالاً.
وهنا جاء بهذا الحديث وفيه: أنه ليس على النساء حلق؛ لأن الحلق في حق النساء مثلة، عياذاً بالله! وإنما عليهن التقصير.
إذاً قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] تنطبق على الرجال (محلقين) وعلى الرجال والنساء (مقصرين) لأن الرجال كذلك يحلقون ويقصرون.


مقدار الشعر الذي تأخذه المرأة من رأسها في النسك
قال العلماء: إنها تأخذ من طرف شعرها قدر الأنملة، فلا تذهب تقص نصف الشعر أو أكثر، وإنما مطلق التقصير، قالوا: بقدر الأنملة من أطراف شعر رأسها، فإذا كانت ذات ظفيرة تأخذ طرف الظفيرة وتقص من طرفها قدر الأنملة، وإذا كانت بغير ظفيرة فتجمع شعرها في كفها وتأخذ قدر الأنملة من أطرافه، وأما الحلق فلا يجوز لها.
وقد أشرنا إلى أن بعض العلماء يورد نقاشاً في هذا ويقول: لو حلقت المرأة مثل الرجل فهل هذا يجزئها؟ الجواب: لا يجوز لها الحلق، فإذا تجاوزت وفعلت فأنا أقول: إنها تكون آثمة؛ لأن هذا بالنسبة للمرأة مثلة ولا يجوز ذلك.


الإذن بالمبيت في مكة ليالي منى لأهل السقاية
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت في مكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له) متفق عليه] .
السقاية كانت من خصائص العباس، والرفادة كانت خصائص تختص بها بعض قبائل قريش، فكان العباس رضي الله تعالى عنه من أصحاب السقاية، والسقاية هي: أنهم كانوا يجمعون الماء -ماء زمزم- في أحواض كبيرة من الحجر المنحوت، وكانوا يجمعون طوال السنة من الزبيب ومن التمر ما يضعونه في هذا الماء الذي يجعلونه في تلك الأحواض قبل الشرب بزمن -بست ساعات أو بعشر ساعات، أو باثنتي عشرة ساعة، أو بأربع وعشرين ساعة، ما لم يتغير ويصير نبيذاً- وكان هذا يعطي ماء زمزم نوعاً من الحلاوة؛ لأن بعض الناس ربما كان ماء زمزم فيه ملوحة عنده أو فيه ثقل عليه، أو أن هذا نوع من إكرام الحجيج عندهم، فكانوا يتكلفون ذلك، واستمرت سقاية العباس على الماء والتمر والزبيب، وكان بعض المتبرعين الآخرين لهم سقايات تبرعوا بها، وربما وضعوا العسل في الماء، وربما جاءوا باللبن، فسأل رجل الفضل بن العباس وقال: ما بال الناس يضعون في الماء العسل واللبن، وأنتم تضعون التمر والزبيب أمن قلة عندكم أم من بخل؟ فقال: والله! يا ابن أخي! ليس هذا من قلة عندنا ولا من بخل، ولكن أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفاً أسامة بن زيد وقال: (اسقوني، فقال العباس للفضل: اذهب وائت لرسول الله بماء من عند أمك، فقال: اسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس، فقال: يا رسول الله! إن هذا يضعون أيديهم فيه وهم كذا -أي: نأتي لك بماء نظيف من عند أم الفضل - فقال: اسقوني مما يشرب منه الناس، فسقاه مما يشرب منه الناس) وجاء في بعض الروايات الأخرى أنه أتى إلى بئر زمزم وقال: (امتحوا، لولا أن يغلبكم الناس لوضعت هذا على عاتقي -يعني: حبل الدلو- ومتحت معكم) ولو فعل هذا لكان كل إنسان يريد أن يفعل مثلما فعل الرسول، وكم هي الدلاء التي ستكفي الناس على هذا؟! فسحبوا له بالدلو وأعطوه الدلو فشرب منه، وهناك جاء أن العباس سقاه مما يشرب الناس من تلك الأحواض.
إذاً: السقاية كانت من زمزم، وكان الأصل فيها للعباس، وكان يحلي ماء زمزم بالزبيب وبالتمر الذي كان يجمعه طوال العام، وكان آخرون ربما وضعوا مع زمزم العسل أو اللبن، أو يسقون اللبن خالصاً في ذلك اليوم، وكل ذلك كانوا يفعلونه إكراماً وتوسعة على الحجيج.
وحينما ينزل الناس لطواف الإفاضة كان بعضهم ربما ينزل في الليل، فكانت السقاية تحتاج إلى عمل مستمر، فإذا بات العباس في منى ربما تعطل عمل السقاية، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل عمل السقاية، فأذن له صلى الله عليه وسلم.
وهنا بحث للعلماء: هل من عمل سقايةً في مكة، مثل أن يأتي بالشراب، كشراب التوت أو شراب المانجو، أو جعل سقايةً كبيرةً ليسقي الناس منها، فهل له ذلك؟ الجواب: قالوا: إنه لا مانع من ذلك، فإذا وسع الله على إنسان وأخذ برميلاً كبيراً ووضعه في مكة حول زمزم، وكلما ينتهي برميل يأتي ببرميل آخر فيجوز له ذلك.
ونحن نرى الآن أنهم يوزعون الخبز ويوزعون الماء ويوزعون أشياء كثيرة، فلو أن إنساناً فعل ذلك خدمة للحجاج، أيحق له أن يستأذن في المبيت بمكة ليالي منى؟ وهل يؤذن له؟ وإذا بات بمكة تلك الليالي فهل يسقط عنه وجوب المبيت؟ الجواب: هناك من يقول: لا مانع قياساً على العباس، وهناك من يقول: لا يجوز؛ لأن هذه كانت وراثةً اختص بها العباس، وليس لأحد أن يستأذن بعد ذلك، ولكن أعتقد أن في هذا تحجيراً، وقد أشرنا إلى أنه يجوز لكل من كان له عمل في خدمة الحجاج بصفة عامة، كالطبيب الذي يعمل في المستشفى في مكة، أو الفران الذي يخبز الخبز في مكة ويهيئه ويرسله إلى أهل منى، أو من نزل بمكة كأصحاب الكهرباء، وأصحاب المياه، والطوارئ، والأعمال العامة التي يحتاجها الحجاج في مكة، فلو أن صاحب هذا العمل ترخص وبات بمكة من أجل العمل الذي يخص الحجاج فنقول له: لا بأس؛ لأنها خدمة عامة، ولم ينزل لخدمته الخاصة.
ويقولون: إن ابن عمر استأذنه رجل من أجل مال له بمكة؛ لأنهم كانوا يأتون للحج وللتجارة أيضاً، وكانت المزدلفة سوقاً، وكان هناك سوق عكاظ ومجنة، وكانوا يأتون من الشحر وعمان ومن غيرهما ليتاجروا، وكل هذه كانت أسواقاً للعرب، وإلى عهد قريب كان في منى شارع اسمه (سوق العرب) وهذه الأسواق كانت في الجاهلية، وكانوا يأتون بتجارات إلى الحج، فرجل قال لـ ابن عمر: أنا عندي مال بمكة، قال له: السنة المبيت بمنى، ولم يأذن له، فهنا نقول: لم يأذن له لإنها مصلحة خاصة به في تجارته، وأما إذا كانت في خدمة الحجاج فلا بأس في ذلك، والله تعالى أعلم.


الإذن بالمبيت خارج منى ليالي منى لرعاة الإبل
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عاصم بن عدي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] .
نحن نعلم جميعاً أن الوسيلة الخاصة التي كانت للنقل هي الإبل، حتى الخيل لم تكن تصلح للأسفار؛ لأن الخيل نفسها ومداها قريب، وأما الإبل فمعها سقاؤها وخزانها في جوفها، ويمكن أن تصبر عن الماء أربعة أيام؛ لأنها تحمل ماءها في جوفها، وخالد بن الوليد لما قطع المفازة من العراق إلى الشام، أخذ بعض الإبل العجاف وعطشها ثلاثة أيام، ورواها بالماء، ثم ربط على أفواهها حتى لا تجتر، وكانوا في المفازة إذا احتاجوا الماء نحروا تلك الإبل العجاف، وأخذوا الماء الذي في جوفها وسقوا به الإبل والخيل الأخرى، يفعلون هذا لعدم وجود ماء في المفازة، ثم يأكلون لحمها، فالإبل كما يقولون: (سفينة الصحراء) فهؤلاء الحجاج كم من الإبل التي يأتون بها إلى الحج؟ كل واحد على بعير، أو كل اثنين على بعير، فضلاً عن أن تحمل بعضها الضعائن في هوادجها، فإذا حصل هذا العدد الكثير من الإبل، وكل إبل عليه هودج، فأين المساحة التي تأخذ هذا العدد كله؟ فهي تحتاج إلى حيز، ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن لا تزدحم منى بالإبل وهوادجها، قال للرعاة: خذوها واذهبوا بها بعيداً عن منازل الناس؛ وهذا لمصلحتين: الأولى: أن الإبل تجد في الخلاء مرعىً ترعاه، الثانية: أن منى يخف الزحام فيها من الإبل ومن حمولاتها، كما يعملون الآن من حجز السيارات الصغيرة لئلا تزحم الناس في منى، وحتى يخففوا كثيراً من الأزمة، إذاً: هذا تنظيم من النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقال- لحركة المرور، من أجل كثافة السكان، ولكن الذي يهمنا: أن هؤلاء الرعاة كانوا رعاة وكانوا محرمين، لأنهم يرمون، والذي يرمي معنى ذلك أنه حاج، إذاً: لا مانع من كون الحاج يزاول عملاً، سواءً كان رعاية الإبل، وسواءً كانت قيادة السيارة، وسواءً كانت قيادة الطائرة، أو أي عمل يزاوله فلا مانع من ذلك، وكذلك له أن يبيع ويشتري ويصنع، وإذا كان الحجاج يأتون بهذه الأعداد الهائلة من الإبل فهم أصناف شتى، فمنهم من يصنع طعامه، ومنهم من هو كسلان أو تعبان لا يقدر أن يعمل طعاماً فإذا وجد من يبيع الطعام في القافلة فسيشتري؛ لأنه لا مانع من أن يحرم للحج وأن يعمل في سفره وفي طريقه إلى الحج، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] .
وإنما الخلاف فيما إذا كان إنما حج ليتجر، أو اتجر ليحج، فإذا كان اتجر ليحج أي: ليربح ويستعين بربح تجارته على مصاريف الحج فلا مانع في ذلك، وأما إذا حج من أجل أن يحصل على الربح فقط فهذه ناحية ثانية، إذاً: الرعاة هم عمال يرعون الإبل، ويقودونها وقت السفر، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يرحلوا بإبلهم إلى خارج منى؛ لترعى من عشب الأرض ونباتها، ولتتسع أرض منى للحجاج.


كيفية الرمي عن الأيام الثلاثة لأهل الأعذار الذين يبيتون خارج منى
وأما الترتيب في الرمي فإنهم يرمون جمرة العقبة أول ما يصلوا إلى منى؛ لأنهم سينزلون مع الحجاج من عرفة إلى المزدلفة ومنها إلى منى، ثم يفترقون عن الحجاج بعد رمي جمرة العقبة، فإذا رموا جمرة العقبة مع الناس فحينئذٍ يذهبون، وسيكون أمامهم أول يوم من أيام التشريق الذي هو ثاني أيام العيد، وثاني أيام التشريق الذي هو ثالث أيام العيد، وثالث أيام التشريق الذي هو رابع أيام العيد، فهم يرمون جمرة العقبة في يوم العيد، ثم يذهبون، وفي أول أيام التشريق لا يأتون، ثم يأتون ثالث أيام العيد بأشخاصهم، فيرمون عن اليومين: عن ثاني أيام العيد الذي هو أول أيام التشريق، يرمون الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم يرجعون فيرمون عن اليوم الثاني من أيام التشريق الذي هو ثالث أيام العيد الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم يرجعون إلى إبلهم ويأتون بها في ثالث أيام التشريق من أجل أن يرحل الحجاج عليها، ويرمون في ثالث أيام التشريق عن اليوم نفسه، يعني: أنهم يغيبون يوم التشريق الأول، ويأتون في يوم التشريق الثاني ليرموا عن أمسهم وعن يومهم الحاضر، ثم يذهبون إلى إبلهم فيبيتون عندها، ومن الغد يأتون بالإبل من أجل رحيل الحجاج ويرمون عن هذا اليوم الأخير، وهذا لمن تأخر في النفر، وأما من كان يريد أن يتعجل فإنه ينزل بإبله في اليوم الثاني ويرمي عن اليوم الأول والثاني، ويتوكل على الله ويذهب.
وهكذا كل من ترخص وكان في الخدمة العامة فإنه يأتي للرمي ويسمح له في عدم المبيت بمنى، وليس عليه فداء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر العباس ولم يأمر الرعاة بأن يكفِّروا أو أن يفدوا أو أن يجبروا عدم مبيتهم بمنى حينما أذن لهم، والله تعالى أعلم.


خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النحر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر) الحديث.
متفق عليه] .
أبو بَكْرَة أو أبو بَكَرَةَ، هذا الصحابي من أهل الطائف، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف تدلى إليه هذا الصحابي رضي الله عنه، فقيل: جاء بحبل وبَكَرَة ونصبهما على السور ونزل بالحبل مع البَكَرَة، ولهذا يقال له: أبو بَكَرَة، وقيل: كانت بَكْرَة -وهي: أنثى الإبل- واقفةً بجوار السور، فتدلى من على السور على ظهر البكرة ثم نزل إلى الأرض، ومن هنا قيل له: أبو بَكْرَة، وأصبحت هذه كنيته.
قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا يوم النحر) ، يريد المؤلف أن يبين بإيراده هذا الحديث أن الرسول خطب في يوم النحر؛ لأن هناك من الأئمة من يختلفون في عدد خطب الحج التي خطبها صلى الله عليه وسلم، فالمتفق عليها خطبتان: الأولى: أنه خطب في يوم سابع ذي الحجة وبين للحجاج ما يلزمهم عمله في غدهم أي: في يوم التروية، فبين لهم أنهم سيخرجون من الغد (يوم التروية) قبل الزوال إلى منى، وكان يسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يأتون بالقرب فيملئونها، وقد كانوا قبل هذا اليوم يشربون من الماء الحاضر والقرب فارغة، فإذا جاء هذا اليوم فإنهم من الصباح يضعون القرب في الماء، حتى تلين ثم يملئونها بالماء ويصحبونها معهم في صعودهم إلى منى، فسمي لذلك هذا اليوم يوم التروية، فبين لهم أنهم سيذهبون إلى منى قبل الزوال، ويصلون الفروض الخمسة بمنى، ثم يخرجون من منى صبيحة يوم عرفة بعد طلوع الشمس إلى آخره، هذه أول خطبة.
الخطبة الثانية: خطبة يوم عرفة، وهاتان الخطبتان وقع عليهما الإجماع.
وبعد هذا يأتي الخلاف في خطبتين: خطبة يوم النحر، وخطبة ثاني أيام العيد الذي هو أول أيام التشريق، فهاتان حصل فيهما الخلاف، والجمهور على أن الخطبة التي ذكرها أبو بكرة هنا كانت في يوم العيد، وإلى هذا أشار المؤلف، ومنهم من يقول: إنها كانت في ثاني أيام العيد، وهناك من يقول: إنه خطب في اليومين، وهو مذهب الشافعي، وعلى هذا تكون الخطب أربع، أي: أنه خطب في يوم السابع، وفي يوم عرفة، وفي يوم العيد، وفي أول أيام التشريق، وهناك من يقول: الخطب ثلاث، ثم يختلفون في الثالثة هل كانت في يوم العيد، أو في أول أيام التشريق؟ إذاً: الخطب المتفق عليها في الحج هي: خطبة يوم سابع ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة، وخطبة أحد اليومين: يوم العيد أو ثاني أيام العيد، فهذه ثلاث متفق على أنه خطبها، وإنما اختلف في موقع الثالثة، ولذا يقول الشافعي: خطب في اليومين يوم العيد وأول أيام التشريق، وعلى هذا فالخطب عند الشافعي أربع، وعند الجمهور ثلاث.
والله تعالى أعلم.


خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الرءوس (أول أيام التشريق)
ِقال المؤلف رحمه الله: [وعن سراء بنت نبهان رضي الله عنها قالت: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق؟ .
الحديث) رواه أبو داود بإسناد جيد] .
تقدم حديث أبي بكرة: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر) ويوم النحر هو يوم العيد، وهنا تقول سراء: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس) ومعنى الرءوس: أنهم كانوا في يوم النحر ينحرون الهدي والأضحية، فيأكلون منها لحماً طرياً، وفي الغد يرجعون على الرءوس، فالرءوس كانوا يتركونها في يوم العيد؛ لأنهم ليس لهم بها حاجة، ولما ينتهي لحم الضحايا والهدي يرجعون إلى رءوس ذبائحهم فيأكلونها، فسمي اليوم الثاني من أيام العيد وهو اليوم الأول من أيام التشريق يوم الرءوس.
إذاً: أبو بكرة أثبت خطبة في يوم النحر، وهذه الصحابية أثبتت خطبة في ثاني أيام النحر وهو أول أيام التشريق، إذاً: ثبت عندنا الآن خطبتان: خطبة في يوم النحر، وخطبة في يوم الرءوس، وأما خطبة سابع ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة فهما مجمع عليهما عند الجميع، وإنما الخلاف في الخطبة الثالثة هل كانت في يوم العيد أو في أول أيام التشريق؟ وهنا ساق الأمرين، وعلى هذا تكون الخطب أربع.
قوله: (أليس هذا أوسط أيام التشريق؟!) يقولون: الأوسط بمعنى الأفضل؛ لأن هذا هو أول أيام التشريق، أو أن هذا على اعتبار أن يوم العيد من أيام التشريق وأنهم كانوا يشرقون اللحم وينشرونه على الحبال أو على الصخور حتى يجف ثم يأخذونه وهو المسمى بالقديد، إذاً: عينت لنا خطبة في يوم الرءوس، وهو أوسط أيام التشريق، وعلى هذا فهما خطبتان: خطبة في يوم النحر، وخطبة في يوم الرءوس الذي هو أوسط أيام التشريق.


ما يلزم القارن من الطواف والسعي
قال المؤلف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) رواه مسلم] .
هذه المسألة تتعلق بأعمال القارن، ففي أول مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى الحج بعد أن سعى بين الصفا والمروة أمر من لم يسق الهدي بالتحلل، فسئل عن ذلك فقال: (دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) فقالوا: دخول العمرة في الحج أي: أعمالها؛ كإحرامها وطوافها وسعيها وتحللها، فتدخل ضمن أعمال الحج، وقيل: دخلت العمرة في الحج أي: في أشهر الحج التي كانوا يمتنعون أن يعتمروا فيها.
وهنا يتفق العلماء على أن المفرد بالحج والمتمتع بالعمرة إلى الحج أن لعمرتهما أعمالاً مستقلةً لا تشترك مع الحج في شيء، وأن للحج أعمالاً مستقلةً لا تشترك مع العمرة في شيء، فالمتمتع يبدأ بالطواف بالبيت طواف العمرة؛ لأنه ركن فيها، ثم يسعى بين الصفا والمروة وهذا السعي ركن في العمرة، ثم يحلق أو يقصر وبهذا تنتهي عمرته، ويصير حلالاً، فإذا جاء يوم الثامن (يوم التروية) أحرم للحج، وصعد إلى منى، فعرفات فمزدلفة فمنى فالعقبة، ثم نزل وطاف بالبيت، وهو قد طاف بالبيت قبل ولكن للعمرة، وسعى بين الصفا والمروة ولكن للعمرة، وأما هنا فهو يطوف طواف الإفاضة للحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، ثم يحلق أو يقصر للحج.
إذاً: المتمتع والمفرد كل منهما له عمل مستقل لا يشترك مع الثاني في شيء، وأما القارن فقالوا: إن عمل القارن هو بعينه عمل المفرد، والعمرة تدخل ضمن أعمال الحج، فيأتي المفرد أول ما يأتي بالطواف بالبيت طواف القدوم، وكذلك القارن إن شاء سعى بعد طواف القدوم سعي الحج والعمرة مقدماً، ثم يبقى على إحرامه إلى أن يذهب إلى منى ثم عرفات ثم مزدلفة ثم منى ثم يرمي الجمرة، ثم ينزل إلى البيت ليطوف طواف الإفاضة للحج وللعمرة؛ لأنه ركن، ولا يعيد السعي؛ لأنه قد سعى أولاً بعد طواف القدوم، وسعي العمرة قد دخل مع سعي الحج، ثم يحلق عنهما معاً.
وهنا الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي وأهل الحديث يقولون: عمل العمرة في القران يدخل في أعمال الحج، فيطوف لهما طوافاً واحداً، ويسعى لهما سعياً واحداً سواءً بعد طواف القدوم أو بعد طواف الإفاضة، يعني: الطواف الذي هو الركن والسعي الذي هو الركن للقارن واحد لا يتكرر.
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله وبعض الطوائف الأخرى فيقولون: للحج طواف وسعي، وللعمرة طواف وسعي، فإذا كان المحرم قارناً ونزل ليطوف طواف الإفاضة قالوا: يطوف طوافين: واحداً للحج وواحداً للعمرة، ويسعى سعيين: سعياً للحج وسعياً للعمرة، هذا عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وإتمام كل منهما يكون بالإتيان بأركانه مكتملة، فإذا اكتفيت بطواف واحد، وبسعي واحد فهذا الواحد لأيهما يكون؟ إن كان للحج فستكون العمرة ناقصة، وإن كان للعمرة فسيكون الحج ناقصاً؟ نقول في الجواب على هذا: إذا كان هذا هو ظاهر نص القرآن الكريم فقد جاء بيانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً صحيحاً، والسنة تفسر القرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وهو صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجه، فلم يكرر الطواف، ولا السعي، وإنما اقتصر على طواف واحد، وعلى سعي واحد، وأجزأه ذلك عن حجه وعمرته معاً.
وعائشة لما طلبت منه أن تعتمر عمرة مستقلة، قال لها: تكفيك عمرتك في حجك، ويكفيك طوافك وسعيك عن الحج والعمرة، يعني: أن العمرة قد انتهت بانتهاء الحج، وقد دخلت معه، وقد انتهيت من الاثنين، فقالت: لا، أريد عمرة.
الحديث، والذي يهمنا أنه قال لها: (طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) وهل نقول بعد هذا: لابد من طواف خاص وسعي خاص للعمرة؟! أعتقد أن هذا نص صريح في محل النزاع رافع للإشكال.


عدم مشروعية الرمل في طواف يعقب سعياً
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه) رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه الحاكم.
] .
يذكر لنا المؤلف في هذا الحديث حكم طواف الإفاضة، وقد ذكر لنا أنه رمل في طواف القدوم، وهنا في طواف الإفاضة الذي هو ركن هل يرمل أو لا يرمل؟ ذكر لنا حديث ابن عباس وفيه: (أنه لم يرمل صلى الله عليه وسلم في طواف الإفاضة) ، ولماذا لم يرمل؟ لأن الرمل كما يقول الفقهاء: إنما يكون في طوافٍ يعقبه سعي، وهذه قاعدة عامة، والرسول قد سعى قبل عرفات، إذاً: من طاف طواف القدوم وسعى سعي الحج بعد القدوم، وبقي عليه طواف الإفاضة فقط فليس عليه أن يرمل في طواف الإفاضة، وهذه هي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك طوف الوداع لا رمل فيه، حتى قال بعض الناس: طواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو من حق البيت؛ لأن الحج قد انتهى عند رمي الجمار، وعند النزول من منى بدليل أن من حج وجلس في مكة ولم يغادرها، وسكن فيها، فإنه لا وداع عليه؛ لأنه جالس عند البيت.
إذاً: طواف الإفاضة لا رمل فيه لمن سعى قبله، وطواف الوداع لا رمل فيه؛ لأنه خارج عن أعمال الحج، وإنما هو من تتمة تكريم البيت أن يوادعه الإنسان قبل أن يخرج منه.


النزول بالأبطح والمبيت فيه ليس من أعمال الحج
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به) رواه البخاري] .
لما انتهى صلى الله عليه وسلم من طواف الإفاضة، ورجع إلى منى أين صلى الظهر؟ اختلف في ذلك، فمن قائل: صلى الظهر بمكة؛ لأنه دخل وقتها وهو فيها، ومن قائل: رجع إلى منى وصلى الظهر فيها، ومن قائل: صلى بمكة حينما دخل الوقت، ثم لما رجع إلى منى وجدهم ينتظرونه فصلى بهم، وعلى كل فقد بقي أيام التشريق كلها في منى ولم يتعجل، وانتهى من منى برمي الجمار، ولما نزل من منى لينصرف إلى المدينة نزل بالأبطح، يقولون: فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالأبطح، وكيف صلى الظهر مع أن وقت الرمي بعد الزوال؟ قالوا: أخر الظهر حتى أتى الأبطح فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ونام، والأبطح كما نعلم هو: في جهة المعلاة، وكان يقال له: خيف بني كنانة.
وهنا سؤال عند العلماء في نزوله بهذا المكان (المحصب) أو (خيف بني كنانة) : هل هذا النزول من مناسك الحج ومن أعماله، أو أن هذا كان أسهل وأيسر للسفر؟ سيأتي عن عائشة أنها لم تكن تنزل فيه، وكانت تقول: إنما نزل بالمحصب ليكون أيسر لدفعه، أي: للسفر؛ لأنه يقع خارج مكة والنزول فيه أيسر من أن ينزل في الزحام داخل مكة، وهناك من يقول: إنما قصد النزول في هذا المكان ليشهد هذا المكان ذكر الله والعبادة والنسك، كما شهد كتابة الصحيفة الظالمة، تلك الصحيفة التي كتبت في مقاطعة بني هاشم، وعلقت بالكعبة؛ فهي إنما كتبت في هذا المكان، فكما شهد هذا الموضع في أوائل البعثة مشهد ظلم وجور بكتابة صحيفة المقاطعة فيه، فليشهد عوضاً عنه مشهد ذكر لله وعبادة إلخ.
إذاً: بات صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالأبطح كما بات عند الدخول بذي طوى، فهو عند دخوله مكة بات في أولها، ولما أصبح دخل مكة في النهار، وعند الخروج بات في أول مكة في الأبطح، وذو طوى في أولها من جهة المدينة، والأبطح في أولها من جهة منى، وكان هذا المبيت من باب التيسير، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن تفعله بعد ذلك، وعلى ما قدمنا فهل هو جبلي ومصلحة للنفر، أو هو تتمة للنسك؟ القول الأولى أنه كان لمصلحة خاصة بعيدة عن النسك، ولا حرج على الإنسان إذا لم يبت فيه، فإن شاء استراح فيه وبيت، وإن شاء مضى إلى سبيله.
قال المؤلف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تكن تفعل ذلك -أي: النزول بالأبطح- وتقول: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه.
رواه مسلم] .
أي: كان مكاناً أسمح وأريح لخروجه من مكة، بدل أن يدخل ويخرج من وسط البيوت.
والله تعالى أعلم.


طواف الوداع والتخفيف فيه عن الحائض والنفساء
قال المؤلف رحمه الله: [حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض) متفق عليه] .
قول ابن عباس: (أمر) الآمر هنا والذي يملك الأمر في هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: فالأمر للوجوب، (ولكنه خفف) والتخفيف لا يكون إلا من تكليف (عن الحائض والنفساء) لأن الحائض لا تطوف بالبيت، والنفساء لا تطوف بالبيت، فلا نحبسهما على شيء ليس بأيديهما.
إذاً: طواف الوداع واجب إلا من عذر الحيض أو النفاس، ومن ترك طواف الوداع فماذا عليه؟ جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يرد من لم يوادع إذا كان قريباً من مكة، ويأمره أن يرجع فيوادع ثم يواصل سفره، وإذا كان قد ابتعد عن مكة تركه، وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فـ مالك يقول: ليس عليه شيء، والأئمة الثلاثة يقولون: إن تركه قاصداً فعليه دم؛ لقول ابن عباس: (من ترك نسكاً فليرق دماً) .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [11]
المساجد هي بيوت الله عز وجل، ولكنها ليست في المرتبة والفضيلة سواء، فهي تتفاوت من حيث مكانها، ونوعها، ومن قام ببنائها، ولهذا فضل الله عز وجل المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى؛ لأنها في أماكن مقدسة، ولأن من بناها هم أنبياء، ولهذا أجاز الشرع شد الرحال إليها، لفضيلتها ومضاعفة الأجر فيها.


فضل الصلاة في المساجد الثلاثة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة) رواه أحمد وصححه ابن حبان] .


مناسبة ذكر حديث شد الرحال إلى المساجد الثلاثة في باب صفة الحج ودخول مكة
قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم من أول خروجه من المدينة إلى أن أنهى الحج، ونزل إلى المحصب، وقد ذكرنا أقوال العلماء فيما يتعلق بذلك، وهل كان من المناسك أو كان إرفاقاً بالمسلمين عند الخروج من مكة.
والباب هنا: باب صفة الحج ودخول مكة.
هذا الحديث الذي يسوقه في نهاية هذا الباب، وقبل أن يأتي بباب أحكام الإحصار بالحج، وماذا يعمل المحصر وماذا عليه؟ والإحصار هو صورة نادرة من صور الحج والعمرة، يأتي المؤلف بهذا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) ونحن الآن في صفة الحج، وفي صفة دخول مكة، وهذا الحديث موضوعه المسجد النبوي، فما علاقة إيراد هذا الحديث في بيان فضل الصلاة في المسجد النبوي بأعمال الحج المتعلقة بمكة؟ قد يتساءل الكثير في هذا، ولابد للمؤلف من غرض وراء إتيانه بهذا الحديث الذي يتعلق بالمسجد النبوي في نهاية بيان صفة الحج ودخول مكة، فبعض الناس يقول: إن الإتيان بهذا الحديث هنا يتعلق بموضوع المقارنة بين مكة والمدينة -ولكن ليس في هذا إشارة إلى مكة- وأن فيه تفضيل مكة على المدينة؛ لأن صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وبعضهم يذكر مع هذا الحديث حديث الروضة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ويستدلون بهذا على أن المدينة أفضل من مكة؛ للحديث الآخر: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، والشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار على منتقى الأخبار) أتى بأحكام الزيارة للمدينة النبوية عقب مباحث الحج، وقال: لم يذكرها المؤلف هنا، ولكن هذا محلها؛ لأنه جرت عادة الناس أنهم إذا أتوا إلى الحج فإنهم يعرجون على المدينة للزيارة.
فذكر الشوكاني رحمه الله ما يتعلق بفضل الزيارة: من شد الرحل إلى المدينة وإلى المساجد الثلاثة، وفضل الصلاة في مسجد المدينة، وما يتعلق بالروضة وفضل الصلاة فيها إلى غير ذلك.
والأولى أن مظنة إيراد المؤلف هذا الحديث هنا هو كما أشار إليه الشوكاني، وهو أن الناس في الآونة الأخيرة يجمعون بين الحج والزيارة في رحلة واحدة، وهذا هو الذي نشاهده الآن، فقل من يأتي برحلة خاصة للمدينة، ثم يأتي برحلة خاصة للحج أو للعمرة، حتى الذين يأتون برحلة خاصة للمدينة يأتون بها مع العمرة، فيأتون للعمرة في رجب أو في ربيع الأول أو في رمضان ويعتمرون ثم يذهبون إلى المدينة، إذاً: لما كثر من الناس الجمع بين زيارة المدينة وبين الحج أو العمرة ساق المؤلف هذا الحديث هنا ليرغب في الإتيان إلى المسجد النبوي الشريف؛ لما فيه من هذا الفضل في الصلاة.
هذا ما ظهر بالنسبة لإيراد المؤلف لهذا الحديث الشريف هنا والله تعالى أعلم.


هل مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة تشمل النافلة أم أنها خاصة بالفريضة؟
أما موضوع الحديث فيقول صلى الله عليه وسلم: (صلاة) وصلاة هنا نكرة، والنكرة تعم الجنس، أي: جنس الصلاة، فريضةً كانت أو نافلةً، وهذا هو الذي أخذ به الجمهور.
ولكن نقل عن الطحاوي من الأحناف أنه قال: (صلاة) هنا في هذا الموضع تنصرف إلى النوع الأهم، وهو الفريضة، أما النافلة فهو يرى أن إيقاعها في البيت خير من إيقاعها في المسجد النبوي، ولكن لا ينفي أنه إذا أوقعها في المسجد النبوي أن تكون بألف، لكنه يقول: (صلاة) تعم فرضاً ونفلاً في المسجد النبوي بألف، ولكن تخصيص النافلة بالبيت خير منها بألف في المسجد النبوي؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ويستدل على هذا القول بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من استمرار صلاته النافلة في بيته، مع قرب البيت من المسجد، والمتوقع أنه لن يترك الأفضل ويأتي بالمفضول، فلو لم تكن النافلة في البيت أفضل منها في المسجد لصلاها في المسجد فليس هناك كلفة؛ لأن بيته صلى الله عليه وسلم ملاصق للمسجد، ولكن الجمهور حملوا اللفظ على عمومه فقالوا: (صلاة) أياً كان نوعها وأياً كانت صفتها: فريضة رباعية ثنائية ثلاثية نافلة في ليل أو في نهار، فإن صلاة في المسجد النبوي تعدل ألف صلاة أو تفضل ألف صلاة فيما سواه، أي: من عامة المساجد.


المفاضلة بين المسجد الحرام والمسجد النبوي
ثم استثنى من عموم المساجد المسجد الحرام، فكأنه يقول: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في عموم المساجد إلا المسجد الحرام وقوله: (إلا المسجد الحرام) قال بعضهم: الصلاة في المسجد النبوي تفضل ألف صلاة في عموم المساجد وتفضل أقل من الألف في المسجد الحرام، وقال غيرهم: بل تفضل ألف صلاة في عموم المساجد، وتقصر عن فضل الصلاة في المسجد الحرام، يعني: هي أفضل من المساجد كلها، وأقل من الصلاة في المسجد الحرام؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وهذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور.


هل تفضيل الصلاة في المساجد الثلاثة تفضيل وصف أم تفضيل عدد؟
وقوله: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة) هل هذه الفضيلة عددية أو وصفية؟ بمعنى هل الألف صلاة المعادلة بصلاة واحدة في المسجد النبوي ممكن أن نوزعها: واحد اثنين إلى ألف، أو هي واحدة، لكنها في النوعية والثواب وفي المعادلة وفي الفضل وفي الخير تساوي ألف صلاة، كما لو اشتريت قلماً بريال واشتريت قلماً بألف ريال، فهو واحد ولكنه يفضل القلم الأول في قيمته وفي نوعيته، فهذا أبو ألف وهذا أبو ريال، إذاً: لن يكتب به ألف كلمة في آن واحد، ولن يستعمل ألف استعمال في وقت واحد؟ الجواب: إنما هو في الفضيلة والنوعية، وعلى هذا لو أن إنساناً عليه خمس فوائت، وصلى في المسجد النبوي صلاة من نوع تلك الفائتة فهي في ذاتها تعدل ألفاً، ولكن لا تسقط عنه شيئاً مما عليه من الفوائت، ولو صلى واحدة من الخمس الفوائت عليه في المسجد النبوي فإن صلاة تلك الفائتة تعدل ألفاً، ولكن لا تجزئ إلا عن واحدة من الخمس، وتبقى الأربع في ذمته.


شمول الفضل المذكور في الحديث للتوسعة التي بنيت في المسجد النبوي
وقوله: (صلاة في مسجدي هذا) اختلف كلام العلماء في تحديد (مسجدي هذا) فيرى بعض العلماء أن كلمة (هذا) للتخصيص والتعيين؛ لأنه كما يقولون: (هذا) اسم إشارة يعين المسمى ويحدده، كما تقول: هذا الرجل فلا يتعدى إلى غيره، وكما تقول: هذا الكتاب فلا يتعدى إلى كتاب آخر، فهذا اسم يعين المسمى بالإشارة الحسية، فقالوا: الذي أشير إليه عند التحدث بهذا الحديث هو المسجد الذي كان موجوداً بالفعل عند التحدث بهذا الحديث، يعني: أن كلمة (هذا) أشارت إلى الحاضر، فما تجدد بعد ذلك فهل تشمله كلمة (هذا) التي وقعت في السابق أو لا تشمله؟ البعض كما تقدم يقول: لا تشمله، قال بذلك النووي وغيره، وأخذ بذلك المالكية، وبعض من وافقهم وقالوا: إن قوله: صلاة في مسجدي هذا) يراد به المسجد الذي كان موجوداً وأشير إليه بالإشارة الحسية (هذا) ، إذاً: ما طرأ من زيادات بعد كلمة (هذا) لا يدخل فيما أشير إليه من قبل؛ لأنه لم يكن موجوداً في ذلك الوقت، والجمهور على أن (مسجدي هذا) هو للتخصيص، ولا يمنع من دخول الزيادات؛ لأن الزيادات مهما طرأت لن تخرجها زيادتها عن كونها من مسجد رسول الله، ولكنه أراد بكلمة (هذا) تخصيص المسجد النبوي بالفضل دون بقية المساجد التي كانت موجودة في المدينة آنذاك، فكان هناك مسجد موضع المصلى، وإن كان لم يبن مسجداً، وكانت هناك مساجد في أطراف المدينة، فكان هناك مسجد بني سلمة الذي تحولت فيه القبلة، وكان هناك مسجد قباء، وكانت هناك مساجد يميناً ويساراً، فأراد بكلمة (هذا) يعني: دون بقية المساجد التي توجد في المدينة، وكلها مساجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قوله (صلاة في مسجدي هذا) هذه الفضيلة الجمهور على أنها عامة تشمل ما كان موجوداً عند الإشارة إليه، وتشمل كل ما زيد فيه وضم إليه، ويستدل الجمهور على هذا التعميم والاتساع ببعض الأحاديث وإن كان في أسانيدها مقال ومنها: (إنه لمسجدي ولو امتد إلى صنعاء) وقد جاء في الأثر الصحيح الموقوف على عمر رضي الله عنه أنه بعد ما وسع المسجد النبوي من الشمال ومن الغرب، رأى أن بعض الناس ربما تساءل أو توقف أو تردد في إيقاع الصلاة في تلك الزيادة العمرية، ويحرص على أن يدخل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان في حال حياته، فلما لاحظ هذا منهم قال: (والله! إنه لمسجد رسول الله ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني: كل ما تأتي من زيادة فهي من المسجد النبوي، وأكبر زيادة شهدها المسجد النبوي هي في هذه الآونة، ويمكن أنه بعد مائة أو مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر أو أقل تحصل زيادة على هذه الزيادة، ولكن مهما بلغت الزيادة فيه فهي لن تبلغ إلى ذي الحليفة، فقول عمر رضي الله عنه: (ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني: إبعاداً للمدى وأنه مهما قدر اتساعه نظرياً فإنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل فالمؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث هنا ليبين فضيلة الصلاة في المسجد النبوي للقادمين الذين يجمعون بين الحج أو العمرة وبين الزيارة إلى المدينة، وهناك مباحث عديدة في هذا الموضوع منها:


تفاوت أجزاء المسجد النبوي في الفضل
هل الصلاة في المسجد النبوي في جميع أجزائه سواء أو تتفاوت؟ كثير من المؤلفين يأتي بحديث الروضة بجانب هذا الحديث، وفعل هذا البخاري ففي باب التهجد والنوافل ذكر فضل المدينة وفضل الصلاة في المسجد النبوي وذكر حديث الروضة، قال ابن حجر عند هذا: (لقد ساق البخاري هذا الحديث: (بألف صلاة) في كتاب التهجد والنوافل ليبين على أن (صلاة) تشمل النافلة والفريضة، وساق أيضاً في فضل الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حديث الروضة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) وهذه هي الرواية المشهورة، وقال ابن حجر: جاء عند ابن عساكر وحده) ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وهو باطل، ثم ذكر أنه عند البزار برجال ثقات ولفظه أيضاً: (ما بين قبري ومنبري) قال: وجاء عند الطبراني أيضاً ولفظه: (ما بين قبري ومنبري) قال: وهذا على سبيل التأويل، وعلى سبيل المقاربة؛ لأن بيته قد أصبح قبره، ويقول ابن حجر عند قول المؤلف: فضل الصلاة بين القبر والمنبر، وجاء بالحديث: (ما بين بيتي ومنبري) فقال ابن حجر بوب باسم القبر وساق حديث البيت ليبين أن رواية القبر صحيحة، ولأن القبر والبيت سواء، وسبق أن جرت مناقشة في هذا الموضوع وكانت النتيجة أن هذا من باب الإشعار والإيماء والتنبيه لذوي الألباب والنهى، قال ذلك في حياته؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يقول: قبري وهو على قيد الحياة فإن هذا لا يمكن أبداً، وهنا الكلام على صحة الرواية، وإذا صحت الرواية في هذا الحديث فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين قبري) وهو على قيد الحياة وقوله: (ما بين بيتي) يدل على أن البيت والقبر سواء.
إذاً: ينتبه بهذا من ينتبه إلى أن بيته سيصبح قبره، وأنه سيدفن في بيته ويقبر فيه، ولهذا لما التبس على الصحابة: أين يدفنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل منهم: نرده إلى مكة، ومن قائل: ندفنه في مقابر المسلمين، ومن قائل: يدفن في بيته، فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نقل نبي عن المكان الذي مات فيه، وما مات نبي إلا في المكان الذي يقبر فيه) ، فأزاحوا الفراش، وحفروا في المكان الذي مات فيه في حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.
وقد جاءت أخبار عديدة حول هذا، وفي جعله في بيت عائشة حماية له لقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد) ولولا ذلك لأخرج قبره أي: خارج الحجرة، ولو أخرج لكان هناك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله له، وعصم قبره من أن يكون وثناً يعبد، وأصبح في بيت بعيد عن اللمس، بعيد عن أعمال غير مشروعة، وقد جاء أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما تمت القبور الثلاثة كان الناس يأتون إليها في بيتها زيارة، ويأتون ويسلمون على الثلاثة، ويأخذون من تربة المكان.
فبنت جداراً على القبور الثلاثة، واقتصرت على الباقي من الحجرة سكناً لها، والموضوع ذو شعب، ويبقى قول: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ... ) على العموم، ويأتي النظر في الصلاة في الروضة على ما جاء في فضلها في الرواية المشهورة: (ما بين بيتي ومنبري) أو: على الرواية الضعيفة: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وإذا كانت روضة من رياض الجنة فهل تتميز فيها الصلاة عن غيرها من المسجد أو لا تتميز؟ صنيع البخاري يدل على أنها تتميز؛ لأنه ذكرها في عرض سياق فضل المسجد النبوي والصلاة فيه، إذاً: الروضة يكون لها مزية على بقية أجزاء المسجد، يضاف إلى ذلك كثرة صلاة وجلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكثرة اجتماع وجلوس أصحابه رضي الله تعالى عنهم حوله فيها، وكثرة ما يكون من الأحاديث ومن الحكمة ومن الوحي الذي كان يتنزل فيها.
إلخ.


هل الأفضل الصلاة في الصف الأول من المسجد النبوي أم في الروضة؟
وهنا بحث آخر: حينما كان في العهد الأول كانت الروضة مع الصف الأول على خط مستقيم، ولما حصلت الزيادة من جهة القبلة انتقل المحراب إلى القبلة، وأصبح هناك أربعة أو خمسة صفوف خارجة عن الروضة إلى الجنوب، فهل نقدم الأحاديث الواردة في فضل الصف الأول كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في الصف الأول لاستهموا عليه) (لتجالدوا عليه) (لأتوه ولو حبواً) وقوله: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصف الأول فالأول) وقوله: (خير صفوف الرجال أولها) فهذه كلها آثار في فضل الصف الأول.
وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصف الأول مع الروضة في ميسرة المسجد؛ لأن الروضة في الميسرة ما بين المنبر وما بين الحجرة، فكان يمكن للإنسان أن يجمع بين الصف الأول وبين الروضة، فهل يا ترى! يحرص الإنسان الآن على إيقاع الصلاة في الروضة لفضيلتها أو يحرص على الصلاة في الصف الأول لفضيلته؟ ونجد أيضاً: أن مع الأحاديث التي جاءت في فضل الصف الأول أحاديث أخرى جاءت في فضل ميمنة الصف، ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) وقد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم امتلاء ميامن الصفوف وخلو مياسرها نظراً للحث على ميامن الصف، نقول: في العهد النبوي كان الصف الأول والروضة يجتمعان في الميسرة، والصف الثاني والثالث والرابع والخامس يجتمعان في الميسرة مع الروضة، ولكن ميامن الصفوف من الصف الأول فما وراءه ليس فيها روضة، فننظر في ذلك الوقت أي الجانبين كانوا يرجحون الروضة على الميمنة أم الميمنة على الروضة؟ قلنا: بأنه يمكن أن يجمع الإنسان بين الصف الأول والروضة، ولكن لا يمكن أن يجمع بين الميمنة والروضة، فإما أن يكون في الروضة وإما في الميمنة، فنجد عند ابن ماجة: أنهم اشتكوا وقالوا: يا رسول الله! خلت ميسرة المسجد، أي: صارت خالية؛ لأن الناس صاروا يتتبعون الميامن؛ لأن ما في الميامن من الآثار لا تعادلها آثار الروضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من أعمر ميسرة المسجد فله كفلان من الأجر) إذاً: الصحابة رضي الله تعالى عنهم قارنوا بين الروضة وبين الصف الأول، وبين الروضة والميمنة، فقدموا ورجحوا ميمنة الصف على ميسرته ولو في الروضة، فإذا كان الأمر كذلك وقد انتقل الصف الأول عن مستوى الروضة إلى الأمام، فهل نقدم الصف الأول أو نقدم الروضة؟ الصحابة قدموا الميمنة على الروضة، والصف الأول أفضل من الميمنة في الثاني أو الثالث، فإذا كانوا قد قدموا الميامن على الروضة، فمن باب أولى تقديم الصف الأول على الروضة، ولهذا يقول النووي وغيره: إذا كنت تصلي مأموماً تابعاً للإمام فصل حيث انتهى بك الصف، في الروضة في الميمنة أو في الميسرة، في المؤخرة أو في المقدمة، فحيث انتهى بك الصف فصل، وإن كنت تصلي منفرداً أو متنفلاً فتحر الروضة؛ لأن النافلة ليس فيها لا صف أول ولا ميمنة، ولا شك أن موضع الروضة أولى من غيره؛ لأنه قد جاءت فيه تلك الخصيصة.
ثم جاء بحث الإمام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا كله، وبعد الزيادات المتكررة والمتعددة من الأمويين والعباسيين وغيرهم، وقال: عثمان رضي الله عنه تقدم وصلى في المحراب الذي في الزيادة الأمامية، حينما وقعت الزيادة من جهة القبلة، وترك الروضة خلفه، وعلي رضي الله تعالى عنه كذلك، وجماعة من الصحابة في عهد الخليفتين الراشدين عثمان وعلي كانوا يتبعونهما في الصفوف الأول مما يلي القبلة، ووراءهم الروضة بعدة صفوف، فيقول ابن تيمية رحمه الله: ليس من المعقول أن الخلفاء الراشدين يتركون الأفضل ويذهبون إلى المفضول، لولا أن الصلاة في الصف الأول على ما هو عليه خارج الروضة أفضل لما داوموا على الصلاة فيه، ولرجعوا إلى الروضة محل مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: على هذا نقول كما قال النووي رحمه الله: الروضة لها فضيلة ذاتية مكانية، والصف الأول وصف ذاتي للصلاة، والنووي عقد فصلاً في أيهما أفضل الفضيلة الذاتية أو الفضيلة النسبية؟ والفضيلة الذاتية هي ما يكون في عين الفاضل، والفضيلة النسبية هي بالنسبة لشيء خارج عنه، ومثل لهذا: بالصلاة في المسجد النبوي منفرداً وقال: إذا فاتتك الجماعة وصليتها منفرداً بالمسجد النبوي فهي بألف، فإذا كنت في طريقك من مسكنك إلى المسجد النبوي، ومررت بمسجد تقام فيه الجماعة لهذه الفريضة، فإن صليت معهم أدركت الجماعة، وإن تركتهم ومضيت إلى المسجد النبوي فاتتك الجماعة فيه، فأنت إن صليت مع الجماعة في مسجد الطريق صلاة عادية فهي بسبع وعشرين درجة، وإن مضيت إلى المسجد النبوي وصليت فيه فهي بألف صلاة، فأيهما أولى: فضيلة الألف من أجل المسجد، أو فضيلة السبع والعشرين درجة من أجل الصلاة؟ ثم قال: إن فضيلة الجماعة فضيلة ذاتية؛ لأنها تتعلق بهيئة الصلاة وكيفية أدائها، وأما مضاعفة الألف فهي للبقعة، إذاً: فهي فضيلة إضافية، أي: أنك اكتسبت الفضيلة في صلاتك من أجل المكان الذي صليت فيه لا من أجل الصلاة، فصلاتك في هذا المكان الفاضل ناقصة عن صلاتك في ذاك المسجد العادي؛ لأن صلاتك هناك كاملة لكونها جماعة.
وكذلك قال في فضل الطواف بالبيت: إذا طفت قرب البيت فسيكون الشوط مثلاً مائتي خطوة، وإذا ابتعدت عن المكان إلى وراء زمزم فسيكون الشوط خمسمائة خطوة، وكل خطوة بحسناتها، فإذا كان طوافك المتسع جداً فيه زيادة حسنات لكثرة الخطوات فإن طوافك بجوار البيت سيكون أقل حسنات؛ لأنه أقل خطوات، وإذا نظرنا إلى أصل الطواف سنجد أن الطواف مختص بالبيت، إذاً: هل الأولى في الطواف أن تقترب من البيت الذي تطوف حوله أو أن تبتعد ولو كثرت الخطى؟ الجواب: كلما اقتربت فهو أولى لأنك تطوف به، وما دمت تطوف به فالصق به، وأما كونك تبعد الدائرة بعيداً وتأخذ الشوط عن سبعة فصحيح أنك تعبت وأن خطواتك أكثر ولكن الذي يطوف بجوار الكعبة أفضل منك؛ لأن الطواف بجوار الكعبة ذاتي في عين الطواف، والطواف من بعيد كثرة الحسنات فيه إضافية لكثرة الخطى.
إذاً: نرجع إلى تفضيل الصلاة بين الصف الأول وبين الروضة فنقول: الصف الأول ذاتي بالنسبة للصلاة؛ لأنه جزء من الجماعة، والروضة نسبية للصلاة؛ لأنها بقعة، فيكون الوصف الذاتي وهو صلاتك في الصفوف الأول أفضل من صلاتك في الروضة؛ لأن الفضيلة في الروضة تدركها بالنسبة للمكان وليس لعين الصلاة، وعلى هذا ينبغي على الإنسان فيما يتعلق بالجماعة أن يحاول الترتيب الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيتم الصف الأول فالأول، ويتم ميامن الصفوف كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) فيكون التحري للصف الأول أولى من التحري للروضة.
وهناك صور نشاهدها من بعض الجماعات منها: أن منهم من يأتي متأخراً قبل أن تقام الصلاة بلحظات، فيتخطى رقاب الناس من أجل أن يدرك المسجد الأول الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الذي كان في عهد رسول الله بني على مرحلتين: المسجد الأول الذي كان من جذوع النخل والجريد، وهو الذي على السواري التي فيه خطوط بالطول، وفي وسط الخطوط مثل الوردة، فهذه الأعمدة التي فيها تلك الخطوط هي حدود المسجد النبوي الأول، يتعدى عن المنبر بعمود واحد، ويرجع إلى الشمال حوالي سبعة أعمدة.
والبناء الثاني كان بعد العودة من خيبر، فعند أن ضاق المسجد الأول على الناس وسعه صلى الله عليه وسلم وبناه بالحجر والطين، وجعل السقف من جذوع النخل، ولما بنوه البناية العثمانية الموجودة حالياً كتبوا على رءوس الأعمدة التي هي نهاية المسجد النبوي في السابق: هذا حد المسجد النبوي، وكان في البناء الأول سبعين ذراعاً في سبعين، ثم أصبح في التوسعة الثانية: مائة ذراع في مائة ذراع.
فيأتي بعض الناس من الباب إلى المسجد الأول هو حد مسجد النبي، يعني: مسافة مائتين وخمسين متراً، وكم من صف يتخطى فيه رءوس الناس؟ وهذا عمل مؤذٍ كما قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء يوم الجمعة متأخراً، وأخذ يتخطى رقاب الناس ليدنو من المنبر، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم وقال له: (اجلس فقد آنيت وآذيت) آنيت: من الأين وهو الوقت أي: تأخرت، وآذيت لتخطيك رقاب الناس؛ لأن هذا لا ينبغي، فلا ينبغي للإخوان الذين لا يزالون يعتقدون أن الفضيلة مختصة بالمسجد الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم في حياته أن يتأخروا ثم يحاولون الوصول إليه على رقاب الناس، فنقول لمن يتخطى رقاب الناس: إذا كنت تريد المسجد الأول وتريد الروضة فاحضر مبكراً، والأبواب مفتحة أمامك، لا أن تتكئ في بيتك وتشتغل بما يهمك فإذا سمعت النداء جئت مسرعاً وأتيت تتخطى الرقاب فإن هذا لا يجوز لك، وهذا من الذي ينبغي مراعاته فيما يتعلق بآدب المسجد النبوي والصلاة فيه.


وجه تخصيص المساجد الثلاثة بهذه الفضائل
إذاً: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) وقد جاءت نصوص تؤكد صحة الاستثناء وتبين أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي بمائة مرة، إذاً: صلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجده بمائة، إذاً: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، وجاء في الحديث الذي جمع المساجد الثلاثة: (وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة) .
وهنا مبحث يرتبط بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) خصت المساجد الثلاثة بجواز شد الرحل إليها، وخصت المساجد الثلاثة بمضاعفة الأجر فيها، فلماذا؟ الأرض هي أرض الله، والمساجد كلها بيوت الله، كما قال تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] وقال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] وأي مسجد في أقصى الدنيا فهو بيت الله، ولكن كما أن الله سبحانه وتعالى اختص جزءاً من المسجد النبوي بأن كان روضةً، وهذا جزء من الأرض بصرف النظر عن المعاني التي قيلت فيه، واختص الله سبحانه وتعالى بقع المساجد الثلاثة دون غيرها، واختص الله مكة والمدينة وفضلهما على بقية البلدان، وحتى في الزمان فإن الله قد اختص شهر رمضان وجعل ليلة فيه خيراً من ألف شهر، واختص يوم الجمعة واختص فيه ساعة، واختص يوم عرفة وهو خير يوم طلعت عليه الشمس، إذاً: هناك اختيار من الله وتفضيل لبعض أجزاء الكل على بعضه، فاختار ساعةً من أربع وعشرين ساعة، وليلةً من ليالي السنة، ويوماً من أيام السنة، وشهراً من شهور السنة، وهكذا يختارها الله ويفضلها، كما اختار من بعض البشر رسلاً وفضلهم على كثير من العالمين.
فقالوا: إن سبب مضاعفة الصلاة في هذه المساجد الثلاثة وجواز شد الرحل إليها لأنها هي المساجد المقطوع بعينها، ولو جئت إلى أي مسجد في العالم؛ كمسجد موسى أو مسجد هارون أو مسجد نوح فكلها خاضعة للنظر من حيث سبب تسميتها ومن قام على بنائها، وأما الثلاثة فهي مقطوع بها؛ ولأن هذه الثلاثة اشتركت في عناصر أساسية: اشتركت في كون اختيار مكانها من الله، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] وقال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة) وفي الأثر أن الله قال لداود عليه السلام: (ابن لي بيتاً في بيت المقدس حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه) فالله تعالى هو الذي عين أماكن المساجد الثلاثة، ثم قام على بنائها أنبياء ثلاثة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127] ومعه إسماعيل، والمسجد النبوي بناه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وكانوا يقولون عند البناء: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل فكانوا يحملون الحجارة ويحمل معهم.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي خطط وبنى المسجد النبوي، وكذلك مسجد بيت المقدس بناه نبي الله داود، فكون اختيار المكان، وإقامة البناء والإشراف عليه من رسل الله بتوجيه من الله جعل لهذه المساجد فضيلةً على غيرها.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.