شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [1]
يعتبر السلم أو السلف عقداً من عقود الإرفاق بين المسلمين؛ وقد جعل الشارع عليه الصلاة والسلام له شروطاً حتى لا يقع الغرر أو التعدي على أي من طرفي العقد؛ وفي هذه الشروط: معرفة كيل ومقدار ونوع الشيء المسلم فيه، وعلى هذا جرى الصحابة رضوان الله عليهم في معاملاتهم.


شرح حديث: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) ، متفق عليه، وللبخاري: (من أسلف في شيء) ] .
يقال في اللغة: السلف؛ بالفاء، والسلم؛ بالميم.
والسلف لغة أهل الحجاز كما هو في الحديث، والسلم لغة أهل العراق، وكلاهما اسم لمسمى واحد.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، فوجدهم على منهج وطريق في التعامل في البيع والشراء، والبيع والشراء من عقود الحاجيات؛ لأن الأمور: إما ضروريات، وإما حاجيات، وإما تتميمات: فالضروريات: حفظ الجواهر الست: الأديان، والعقول، والدماء، والأعراض والأنساب، وحفظ الأموال.
فحفظ هذه المسميات ضرورية لكل مجتمع، مسلماً كان أو غير مسلم؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا بسلامتها وحفظها.
والحاجيات: تبادل المنافع؛ مثل: البيع، والإجارة، والوكالة، والحوالات؛ فكل هذه حاجيات؛ أي: الحاجة تدعو إليها، وقد يعيش الإنسان طيلة حياته ولا يعقد صفقة واحدة؛ لأنه يجد من يكفيه في ذلك.
والتتميمات: مثل الرهن، وهو تابع لعقد في الحاجيات؛ وهي المبيع، فهو متمم لعقد القرض بضمان سداده، فالسلم من العقود التي هي من ضمن الحاجيات؛ لأن الحاجة تدعو إليها: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32] ؛ لمصلحة الحياة، ولو كان الناس كلهم سادة لا يعملون شيئاً لفسدت الحياة، ولو كانوا كلهم عملة وليس هناك سادة لديهم المال والعقارات ما وجدوا ما يعملون فيه، فلابد من هذه الطبقية لإعمار الكون، والنتيجة الشرعية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
فقدم النبي صلى الله عليه وسلم لهم عقوداً في البيع، والسلم، والإيجارات، وقد حصل تعديل بعض تلك العقود، كالإجارة، كما في حديث جابر؛ فإنه أتى إلى أهل قباء وقال: (أتيتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كانت لكم فيه منفعة، ولكن طاعة الله ورسوله أنفع) ، فقد كانوا يؤاجرون الأرض للزراعة على أن لصاحب الأرض ما في رءوس الجداول وما على القناطر من زرع، وللمستأجر وسط الأحواض، أو أن لصاحب الأرض الجزء الشرقي أو الغربي -لجزء معلوم المساحة- والباقي للمستأجر، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه قد يصاب هذا ويثمر ذاك؛ فيكون ذلك غبناً.
فأما إن كان على جزء معلوم من الثمر فلا مانع، كأن تؤجر الأرض قمحاً على جزء منه؛ إما على الربع، أو على الثمن، أو السدس، فإن صحت فللجميع، وإن نقصت فعلى الجميع، ولا يكون هناك غبن.
كذلك المبيعات التي كانت ممنوعة، عدّل فيها، وذلك مثل السلم.


شروط السلم
لابد في العين المسلف فيها: أن تكون معلومة للطرفين، وأن يغلب على الظن وجودها عند التسليم.
أما إذا كانت نادرة ويغلب على الظن عدم وجودها؛ فيكون إحراجاً على المشتري، لذلك لابد في المسلم فيه من تحديد وبيان يمنع النزاع عند تسليم السلعة، فإذا أسلم في حبوب فيكون نوعها معروفاً، وإذا أسلم في تمور فيكون نوعها معروفاً، والمدينة كان فيها أكثر من مائتي صنف من التمر، فلابد أن يسمي الصنف الذي وقع عليه العقد، ويكون متميزاً معروفاً عند الطرفين، وإذا أسلف قمحاً فلابد أيضاً أن يحدد النوع؛ لأن القمح أنواع: البيضاء، والسمراء، والشامية، والحجازية، ولابد أن يكون المسلم فيه مسمى.
وكذلك الكيل لابد أن يكون معلوماً من جهتين: الجهة الأولى: مقدار المكيل: بالصاع، أو بالإردب، أو بالقفيز، أو بالتنكة، وتكون مشاعة عند الناس؛ فلابد أن يكون الكيل معلوماً للطرفين حجماً ومقداراً، وإذا كان بالصاع؛ فهل هو الصاع الشامي أو المدني؟ وهل هو خمسة أو عشرة؟ بحيث أنه إذا جاء الأجل يقول: هذا عقدك عشرة آصع من تمر برني، أو هذا عقدك عشرة آصع من البر الشامي حباً، حتى لا يكون هناك نزاع.
الجهة الثانية: إذا كان المسلم فيه زيت أو نحوه - كما سيأتي- لابد من تبيين نوعية الزيت؛ هل هو من الزيتون، أو السمسم، وكذلك المقدار، فإذا جاء الأجل سلمه النوع والمقدار الذي تعاقدوا عليه.
هذا المكيل والموزون، وإذا كان المسلم فيه ليس مكيلاً ولا موزوناً، فهل يصح فيه السلم أم لا يصح؟ ينص الحنابلة وغيرهم: أن غير المكيل والموزون؛ وهو المعدود، إن كان يصح أن يوصف ولو وصف استوفت الأوصاف عينه، بحيث يتميز عند التسليم، ولا تقع المشاحة؛ جاز.
والآن في الوقت الحاضر نحتاج إلى هذا، ولنفرض وقوعه في: كاسات الشاهي، أو الصحون الصيني، أو كاسات الماء، أو الفنايل، أو الشماغ، فإذا أردنا أن نشتري أو نبيع سلماً، فكيف سيكون ذلك؟ إن كان يمكنك أن تصف هذا اللباس بوصف معروف عند الناس يميزه عن غيره، بحيث أننا لو جئنا عند التسليم لا نتنازع في المعقود عليه، وذلك بذكر النوع والخامة؛ هل هو قطن أو كتان أو حرير، وهناك قاعدة في علم الغزل: كم في الـ (سم) من مدَّة خيط؛ السدى واللحمة، ويعرف عندهم بكثافة النسيج وخفته، فتأتي وتأخذ المسطرة وتنظر كم خيطاً في الـ (سم) ، وكلما كان الغزل رفيعاً كان أقوى وأكثر، وكلما كان متيناً كان أضخم وأضعف، فإذا أمكن وصفه بكل الصفات بحيث أنه لا يختلط مع غيره صح.
والآن توجد ماركات وأسماء معينة وقد تشتبك في الأسماء، ولكن المقصود: الوصف الذاتي؛ وذلك مثل الملابس الجاهزة؛ ماركة كذا، ورقم كذا، وقماش كذا، فإذا وصف الملابس وقياساتها، ونوع نسجها، ولو أمكن أن يذكر أيضاً الشركة المنتجة بحيث أنها لا تختلف مع إنتاج شركة أخرى لكان أفضل، فإذا توافرت هذه المواصفات فلا مانع.
ومثلها الصحون والملاعق، وأثاث المنازل.
يقول الحنابلة: أما الأمور التي لا تنضبط كالقماقم والأسطال؛ فلا يسلم فيها، والقمقم: عبارة عن إناء مستدير يختلف حجمه، وتختلف قاعدته، ووسطه، وعنقه، فلا نستطيع أن نحدد قدر الضيق ولا السعة، ولا أن نحدد كم بين الضيق والوسط والقاعدة.
فهذه لا تنضبط، ولكن إذا أمكن ذلك بالإنتاج المكنيكي الآن، وذلك مثل القالب الواحد الذي يصب آلاف الأسطال بمقياس واحد، وأمكن تحديد قاعدته ومحيطه، وذكر الوصف الذي يحدده ويميزه عن غيره، هل من هو من زجاج أو فضة، فإذا أمكن الوصف وأن يحدد المسلم فيه بحيث لا يختلف مع غيره فلا مانع.
إذاً: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم) ؛ أي: وصفات معلومة، والغرض من ذلك: منع النزاع عند التسليم، فكل ما يسبب نزاعاً عند التسليم بعدم التميز أو وصف مشترك لا يصح أن يكون سلماً.
وكل ما يقضي على النزاع عند التسليم وليس فيه وصف مشترك مع غيره صح فيه السلم.
وعلى رأي الجمهور: أن السلم يكون في كل ما يمكن وصفه، ولا يكون قاصراً على المكيل والموزون كما قال البعض؛ لأن هذا تحجير، وقد جاء النص: (من أسلف في شيء) ، و (شيء) أعم العمومات، حتى أنه يشمل المولى سبحانه، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] .
إذاً: هذا موضوع السلف، أو موضوع السلم.


شرط تسليم الثمن في مجلس العقد
إذا تعاقدا في المجلس فلابد من تسليم الثمن في مجلس العقد، ولو تعاقدا في مجلس وقال: سأعطيك المال فيما بعد، وعندما يأتي الأجل تأتيني بالمبيع؛ فإنه لا ينعقد سلماً، فلابد من دفع الثمن في مجلس العقد، فإن افترقا ولم يدفع الثمن لم يتم العقد، لكن إذا دفع الثمن في المجلس فلابد أن يكون معلوماً، ولا يصح أن يكون صبرة في كيس، لماذا؟ لأنه في النهاية إما أن يوفي التزامه ويأتي بالمبيع، وإما أن يعجز عن الوفاء بأن يفتقد الصنف في ذلك الوقت، فماذا يكون الحكم؟ إما أن يسترجع ما دفع.
وإما أن ينتظر حتى يوجد المسلم فيه، ولا يجوز أن يأخذ على ذلك شيئاً، فإذا دفع ألفاً وكان الأجل إلى سنة ولم يوجد الصنف وتعذر فإنه يأخذ الألف، أو ينتظر حتى يوجد الصنف ولو لسنة ثانية، ولا يجوز أن يحوله إلى صنف آخر عندما يتعذر وجود الصنف المعقود عليه، فيكون الثمن معلوماً كما أن المثمن يكون معلوماً.


مكان تسليم المسلَم فيه
أين يسلم البائع العين التي أسلم فيها؟ إن كان مجلس العقد في مكان يصلح للتسليم فعلى حسب العادة، واستصحاباً للأصل: أن يأتي به البائع إلى محل المشتري، وإن كان العقد قد وقع في مكان لا يصلح للتسليم فعلى ما اشترطاه، فإن لم يشترط نرجع إلى الأصل وهو مجلس العقد.
متى ينعقد عقد السلم في مكان لا يصلح للوفاء؟ لو كنت في سفر على متن طائرة وجاءت المناسبة، وكنت تريد تمراً سلماً أو براً أو أثواباً من القماش، فقال صاحبك: عندي ما أبيعك، وأسلمك في العين بعد ستة أشهر، فيقول: اشتريت، خذ الثمن، فدفع الثمن في مجلس الطائرة وانعقد البيع، والمبيع أجله إلى ستة أشهر، فأين يأتي البائع بالمبيع؟ هل يأتي به في الطائرة؟ يتعذر هذا، فإن اشترطا عند العقد محل التسليم؛ فيلزم البائع أن يوفي بذلك.
وإذا فاتهم أن يشترطوا ومكان العقد لا يصلح للتسليم، فإننا نرجع إلى الأصل؛ ويوفيه إلى المشتري في المكان الذي يصلح للتسليم؛ لأن مكان العقد وهو الأصل غير صالح للتسليم، وكذلك لو كانوا في سفينة في عرض البحر.
إلى آخره.
ومباحث السلم واسعة، وأهمها ما جاء في الحديث: من ضرورة تعيين المسلم فيه مقداراً ووصفاً وجنساً، حتى لا يتأتى فيه النزاع عند التسليم، وكل ما صح وصفه، وأمكن تمييزه، وانتفى النزاع عند تسليمه، جاز فيه السلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.


شرح حديث: (كنا نصيب المغانم مع رسول الله ... )
قال رحمه الله: [وعن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما قالا: (كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب -وفي راوية: والزيت- إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك) ، رواه البخاري] .
هذا شرط من شروط صحة السلم.
قال: [كنا نصيب المغانم] .
والمغانم نقود وأعيان.
إلى آخره، فكانوا يستعيضون عن تلك المغانم بدراهم، فيأتي التجار من الأنباط وأمثالهم إلى المدينة فيسلفون يعطونهم الثمن سلفاً في سلع معينة كما ذكرها هنا: البر، والشعير، والزيت، والزيتون، وهذه كلها مكيلة أو موزونة، وألحق بهذه الأصناف ما أمكن انضباطه.
قوله: [إلى أجل مسمى] .
كما قال صلى الله عليه وسلم: (في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى زمن معلوم) ، وهذا الأجل يشترط فيه التأثير على الأسعار، لأن المسلم فيه تطرأ عليه تغيرات الأسواق من زيادة أو نقص، لماذا؟ لأن كلاً من المشتري والبائع إنما باع مراعياً تغير الأسعار، فالذي دفع الثمن دفعه على أن يؤتى له بالمبيع في مواعيده.
مثلاً: الناس الآن في المدينة والنخيل فارغة، فيأتي شخص إلى صاحب بستان ويسلفه ألف ريال في إردب من التمر، فالذي دفع الألف الآن يرتجي بأن الألف سيأتيه بإردب أرخص مما يكون في السوق، والذي أخذ الألف وتعهد بالإردب يستفيد من المبلغ ويرى بأن الإردب في ذلك الوقت أقل من ذلك الألف في هذه الساعة، فكل منهما يراعي المصلحة لنفسه؛ فإذا لم يكن هناك تغير لزمن الأسعار ما كانت هناك دوافع للمسلم ولا للمسلم إليه في بر أو زيت أو زبيب إلى أجل معلوم، فالأجل لابد أن يراعى فيه تغير الأسعار.
[قيل: أكان لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم] .
يشترط في المبيع سلماً: ألا يقيده البائع ولا المشتري، كأن يشترط من نخل معين، أو نخلة معينة، أو زرع معين، أو تأتي إلى صاحب بستان لتشتري منه إردباً سلماً، فلا تشترط: أريد من بستانك الذي في قباء، أو الذي في العوالي، أو الذي في بير علي؛ لأن اشتراط كون المسلم فيه من مكان معين قد لا يثمر ذاك المكان، وقد لا يأتي بالكمية التي أسلمت فيها، فماذا تصنع؟ وبهذا تكون كأنك بعت معدوماً معيناً، وهذا لا يجوز، لكن أن تبيع شيئاً مستقراً في الذمة، سواء كان عندك في بستان ستأتي من ثمره، أو أرض ستأتي من زرعها، أو ليس عندك شيء، فالذي ليس عنده شيء ماذا يعمل؟ إبان الموعد يذهب ويشتري من السوق المعقود عليه، ويأتي به يسلمه للمشتري.
إذاً: من شرط صحة السلم: ألا يعين المصدر الذي منه المبيع سلماً؛ مخافة ألا يأتي من المعين، فإذا كنت عينت من بستان معين والبستان لم يأت بالمقدار الذي اشتريته، فسيقول لك صاحب البستان: أنت الذي عينت البستان، وهذا الموجود، لذلك اشترط أن يكون السلم ديناً في الذمة ليس معلقاً بمعين في الخارج.
قال: (أكانت لهم زروع؟ قال: ما كنا نسألهم) ، ولا لنا دخل، فنحن لنا المعقود عليه فقط، سواء كان مسروقاً أو زارعة أو هبة أو شراء، نحن دفعنا المال وانتظرنا السلعة، فإذا جاء وقت الأجل أخذت المسلم فيه، وليس لك أن تقول: من أين جئت به، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى) رواه البخاري] .
أتى المؤلف رحمه الله بالحديثين الأولين في موضوع السلم، وأرجو من الإخوة أن يرجعوا في هذا الباب إلى الموسوعات الفقهية؛ لأن هناك زيادات يستفيدها الإنسان لتوفية هذا الموضوع، وما تقدم في موضوع السلف؛ في عقده وشروطه وجنسه وزمنه ومقداره.
إلى آخره، لعل فيه الكفاية على رءوس مسائله، ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى الموضوع الثاني؛ وهو موضوع القرض؛ فقد أتى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه الوعد والوعيد لمن أخذ أموال الناس قرضاً، بدليل قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) ؛ لأنه أخذها لحاجة وبنية سليمة، وقد دفعته الحاجة إلى ذلك، وهكذا أمور الحياة، تزيد وتنقص، (ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى) ، سواء كان في حاجة نفسه أو غيرها، وأخذها تبذيراً، أو من أجل إتلافها على صاحبها ولم ينو الوفاء، وإنما احتال عليهم، وما أكثر الحيل في ذلك! والأمثلة على هذا قد ترى من الغرائب: يذكر أن رجلاً أتى إلى قرية يبيع ويشتري، فنقصت عليه ألف دينار، فطاف في تجارها فلم يجد من يدفع عنه؛ لأنه غريب، فأتى تاجراً فقال له: أدفع عنك، ولكن بشرط: أن تأتيني بكفيل، قال: الكفيل موجود، قال: أين هو؟ قال: الله، فقال التاجر: أعطيتك والله الكفيل، وكان موعد الوفاء بعد سنة، فذهب الرجل بالمال، وجاء الموعد، فانتظر المقترض سفينة يركب فيها إلى صاحب الدين من أجل أن يوفيه حقه فلم يجد، وكل أسبوع يذهب للانتظار ولكنه لا يجد سفينة، وصاحبه هناك ينتظر أن تأتي السفينة بالرجل فلا يجد شيئاً، فيئس هذا من مجيء الرجل، ويئس ذلك من مجيء سفينة، فأخذ المقترض خشبة وحفر داخلها، ووضع القرض في الخشبة وأقفل عليه، وجاء إلى البحر وقال: يا الله! اقترضت بكفالتك، وهذا ديني، فسد عني ديني وفك كفالتك، وألقى بها في البحر، ثم قدر الله أن يذهب صاحبه إلى البحر لينتظر مجيء السفينة كالعادة، فوجد خشبة في الشاطئ فأخذها، وقال: لو أني أستدفئ بها، فحملها فإذا بها ثقيلة، فقال: لعل هذا من الماء، ولما وصل إلى البيت مغضباً ألقى بها فانكسرت عن الدنانير، ومعها ورقة مكتوب فيها: هذا ديني بكفالة الله، فإن وفى إليك فالحمد لله، وإلا فهو في ذمتي، وبعد مدة وجد المقترض سفينة فذهب ليتاجر في تلك البلاد، فمر على صاحبه وفي يده الألف، وقال له: لقد طال علي الزمان، ولم أجد سفينة، ولم يذكر له أمر الخشبة، وقال له: هذا دينك، فقال له: لقد وفى الله عنك، قال: أوصلت الخشبة؟ قال: نعم، فقال: الحمد لله! (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها ليتلفها) ، وهذا أمر بيّن واضح، والجزاء من جنس العمل، وهناك نصوص أخرى جاء فيها: (كان الله في عونه حتى يؤدي) ، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وبعض الصحابة ربما يقترض من غير حاجة، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: (التماساً لقوله صلى الله عليه وسلم: كان الله في عونه حتى يؤدي، فأحب أن يكون الله في عوني دائماً) .
قوله: (أدى الله عنه) ، أي: بأن ييسر له بعد عسر، أو يوسع عليه بعد ضيق، أو يهيئ له من يدفع عنه، كان له عون من الله حتى يؤدي هذا الدين، كثيراً كان أو قليلاً.
ويقولون: إن الزبير كان مديناً بكثرة، وكانت عنده تركة واسعة، فقال لولده: يا ولدي! إذا أنا مت فقل: يا رب الزبير! أد عن الزبير، فأخذ يبيع من تركة أبيه حتى وفى جميع دينه، وكان لا يظن أنها توفي بالنصف، بل وزاد للورثة منها! وعلى هذا: فإن أموال الناس ودائع، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه) ، والأعمال بالنيات، فإذا اقترض المحتاج وهو ينوي الأداء أعانه الله في قضاء الدين، ومن كان على عكس ذلك فهو على العكس، وهذا ترغيب في حسن النية بالاقتراض: أن ينوي الأداء والله يعينه، والله سبحانه وتعالى أعلم.


شرح حديث: (إن فلاناً قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه ... )
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن فلاناً قدم له بز من الشام، فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة؟ فبعث إليه فامتنع) ، أخرجه الحاكم والبيهقي، ورجاله ثقات] .
ماذا تقولون في هذا الذي امتنع؟ أنا أقول: جزاه الله خيراً؛ لأنه بين لنا حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لمن لم يطعه، فإنه لم يلزمه صلى الله عليه وسلم بما يريد، سبحان الله العظيم! نرجع إلى موضوع الحديث، وله نظائر: [إن فلاناً قدم له بز من الشام] .
البز: نوع من القماش مثل الخز، يشترك في نسيجه القطن والكتان، والحرير، أو شيء من هذا.
[فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين] .
هل كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم ثياباً كثيرة؟ لا.
الواحد منا كم عنده من ثوب؟ لا يقل عن أربعة أو خمسة أثواب.
قد يقال: هذا فيه نوع ترفيه وتجمل، وقد سبق ل عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! اشتر هذه، تلبسها في الأعياد وعند الوفود، وهذا الذي ينبغي على المسلم وخاصة المسئول؛ فإنه لابد أن يكون في التجمعات مظهره أكمل؛ لأن في هذا إظهار فضله واعتزاز نفسه، وأكثر من هذا: في غزوة تبوك لما نزلوا منزلاً، وكانت تلك الأيام أيام حر، وكانوا إذا نزلوا منزلاً وفيه شجر، يتركون الشجر الأكثر ظلاً لرسول الله، فجاء أبو طلحة إلى رسول الله بغرارة وفيها قثاء، فقال له رسول الله: (من أين هذا؟ قال: جئت به من المدينة) ، ونعلم بأن القثاء أشد تحملاً في السفر من الخيار والخربز، والحبحب؛ لأنها صلبة، فأكل صلى الله عليه وسلم، فإذا بغلام لـ أبي طلحة مر في ثياب خلقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس عنده سوى هذا الثوب؟ قال: بلى يا رسول الله، ثوب جديد في الخريطة، فقال: مره فليلبسه، فدعاه وقال له: البس ثوبك الجديد، فلبس ثوبه الجديد، فكان بمنظر غير المنظر الأول، فقال رسول الله: ضربت عنقه! -أي: أليس هذا أحسن؟ - فقال الغلام: في سبيل الله يا رسول الله! قال: في سبيل الله) فضربت عنقه في سبيل الله، لكن المشكلة هنا: أنهم في غزوة ومقدمون على الروم، فقد كانت غزوة تبوك عن موعد مع الروم، ومن عادة الجيوش أو المتقاتلين: أن الهيئة والبزة تعود على الخصم بالتأثير، فإذا رأى الخصم خصمه مهلهل الثياب، ضعيف السلاح، مطأطئ الرأس؛ طمع فيه ولم يبال.
أما إذا رآه منتفخاً ريشه، ومرتفعاً رأسه، ويزهو بنفسه عمل له حساباً، ولهذا لما أخذ أبو دجانة السيف وأخذ يتبختر به ويمشي مشية الخيلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموطن) ؛ لأنه إذا استخف به كأنه مستخف بالعدو، كما قال: جاء شقيق عارضاً رمحه إن في بني عمك سلاح وأباح صلى الله عليه وسلم الذهب -الممنوع- أن يجعل حلية في السيف؛ لأنه يراه العدو، فيعرف بأن صاحبه صاحب نعمة، وسبق أن سمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته -وهي قبيلة تجارية حربية- كانوا في سفر للتجارة؛ فرءوا في طريقهم رجالاً يعترضونهم بالسلاح، فعرفوا أنهم قطاع طُرق، وأنهم سيتقاتلون معهم؛ فلما دنوا منهم أناخوا الإبل -وكانت عليهم ثياب للسفر عادية- ثم أخرجوا أحسن ثياب يحملونها معهم فلبسوها، وأخرجوا أفضل نعالهم فانتعلوها، ثم أثاروا الإبل، وتقدمها رجال وتأخرها رجال، واكتنفها من الجانبين رجال ومشوا بتؤدة وتأن ولا كأن أمامهم شيء، فلما رأى قطاع الطريق ذلك قالوا: هؤلاء أناس ليسوا بعاديين، فمادامت هذه حالهم فإنهم واثقون بأنفسهم، فجنبوا عن الطريق، فابتعدوا عن طريق سيرهم حتى اجتازوا فأناخوا الإبل، وأخرجوا من تجارتهم شيئاً كالهدية والطعم، ووضعوه على ظاهر الطريق، وكأنهم يقولون لهم: تعالوا خذوا بعض الشيء، ثم مضوا في سبيلهم.
وهذا كما يقال: فيه كسر لنفسية العدو، وكذلك ما حصل في تبوك، فإنهم عندما يرون الخادم بالثياب الجميلة يقولون: إذا كان هذا خادمهم وراعيهم، فما بال الآخرين؟ وعمر رضي الله تعالى عنه عندما رأى الحلة، ورأى الوفود تأتي إلى رسول الله أراد أن يكون لرسول الله ثياباً خاصة يلقى فيها الوفود، وهذا مناسب، بل يقول صلى الله عليه وسلم: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) ؛ فالفلاح والجزار والحداد له لباس لعمله يتحمل الأوساخ، فهل يذهب الجزار مثلاً إلى صلاة الجمعة بملابسه التي يعمل بها في المجزرة، ويدخل المسجد بين الناس في صلاة الجمعة بهذه الملابس؟! فلابد أن يكون له ثوباً خاصاً ليوم الجمعة بعيداً عن أوضار المهنة؛ ليكون في مظهر ومنظر حسن، وحسن السمت من حسن السيرة.
إذاً: لما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعترض على عمر أن يلبس حلة للوفود، ولكن لما نظر في قماش الحلة وجد أنها لا تصلح له، وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) ، يعني: نوعية قماشها لا تصلح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا: أنه لو كان القماش من نوعية أخرى لقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه كانت له بردة يخطب فيها يوم العيد ويقابل بها الوفود، وبقيت بعده إلى أن اشتراها معاوية رضي الله عنه.
إذاً: عائشة رضي الله تعالى عنها رأت من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في حاجة إلى ثوبين من هذا البز، فعرضت عليه أن يشتري، فقالت له: (لو أرسلت إليه، فأخذت منه ثوبين نسيئة، فبعث إليه فامتنع) ، نقول: إن الرجل لا يجهل قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه حريص على المال لأي معنى من المعاني، وهذا قضاء الله الذي وقع.
وامتناع الرجل عن البيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نسيئة أعطانا خلفية عن معاملته عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، فإنه لم يخاصمه ولم يعاتبه ولم يلزمه بشيء؛ لأن هذا ملكه وله حرية التصرف فيه.
ولو حدث هذا الموقف لأحدنا فسيقول للتاجر: أنت لا تقرض أحداً، ولا تأمن الناس، والتاجر معه الحق في ذلك؛ لأنه حر في ماله، فله أن يقرض من يشاء ويمنع من يشاء، فإذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومن أجل ثوبين ليس لديه حقهما يطلب من رجل ثوبين بقيمتها نسيئة، ومع ذلك يرفض الرجل! يقول الله عز وجل فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقريب من هذا قضية بريرة؛ فبعد أن أعتقت واختارت نفسها، وصار زوجها يتبعها في الطرقات، وبلغ خبرها رسول الله، قال لها رسول الله: (زوجك- يعني: انظري في حاله- فقالت: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟ فقال لها: أنا شافع؟ - والشافع قد تقبل شفاعته وقد لا تقبل، والآمر إذا كان له حق الأمر فأمره مطاع- فقالت: لا حاجة لي فيه) ، وهذه كما أشرنا مراراً: جواب ملفوف في ورق ملون مكتوب فيه: لا أقبل شفاعتك، فلم يعتب عليها صلى الله عليه وسلم ولم يلزمها، ولم يأخذ في خاطره منها؛ لأنها حرة في نفسها، وقد شفع فلم تقبل الشفاعة.
إذاً: نحن أيضاً مع الناس في الشفاعة، لو شفعنا في مصلحة إنسان فردت شفاعة من شفع لا يحمل في قلبه الحقد، ولا يقول: لم يقبل شفاعتي، لماذا؟ ليس بينك وبينه عداوة، ولا أخذ لك حقاً، غاية ما في الأمر أنك طلبت منه طلباً ليس ملزماً بإجابته فرفض، لماذا تحمل في نفسك عليه؟ والمؤلف جاء بالحديث في باب القرض؛ لأنه انتهى من باب السلم، وتقدم حديث عائشة قبل ذلك: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، وهذا تحذير من القرض بدون حاجة، أو بنية عدم الرد والسداد.
وهنا عملياً: إذا أنت اشتريت وبقي الثمن مؤجلاً، فكأنك اقترضت الثمن من صاحبه، فيجوز البيع بتقديم السلعة وتأخير الثمن، ذكرنا سابقاً بأن البيع ثلاثة أقسام: إذا كان الثمن والمثمن حاضر خذ وهات، وإذا كان الثمن غائباً والسلعة حاضرة فخذ السلعة ثم هات الثمن، والعكس في السلم؛ الثمن مدفوع في المجلس، والمثمن مؤجل.
إذاً: أخذ السلعة نسيئة لا بأس به، ولكن إذا كان الثمن نقداً من غير جنس المبيع، فلو أنك اشتريت إردباً من التمر بإردب من البر على أن يكون نسيئة، فلا يجوز؛ لأن البر بالتمر يجب أن يكون يداً بيد، وإن جاز التفاضل فلا يجوز النساء، كما هو في السلم؛ إذا أسلمت في تمر وكان رأس المال براً فلا يجوز؛ لأنه من بيع ربوي بربوي نسيئة، فلا يجوز ذلك.
وباب القرض واسع، فقد يكون في النقد، وقد يكون في ثمن البيع، وقد يكون في أجرة الأعيان، كأن تستأجر البيت أو البستان والأجرة مؤجلة إلى كذا كل ذلك جائز.


كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [2]
جعل الله عز وجل الناس بعضهم لبعض سخرياً، ومن ذلك التسخير ما يكون بينهم من المعاملات المالية، فكل إنسان مهما استغنى بنفسه إلا أنه يحتاج إلى غيره سواء كانت حاجة جسدية أو مالية، وهذا يدخله معهم في معاملات، ومن هذه المعاملات الاستدانة، وعندها فقد يحتاج بعض الدائنين إلى ما يوثقون به ديونهم وهو ما يعرف بالرهن.
وقد فرع الفقهاء عليه أحكاماً كثيرة ومسائل عديدة.


من أحكام القرض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته) ] .
يتعلق بالقرض أبواب تجر إلى الربا، فلو كان القرض عيناً؛ كأن تكون اقترضت ألف دينار، أو إردباً من التمر، وتقدم بأنه لا يجوز لك إذا شفعت لإنسان شفاعة فأهدى إليك هدية أن تأخذها؛ لأنك بهذا تكون قد دخلت في باب الربا، وإذا أقرضت إنساناً فأهدى إليك بسبب القرض، فكل قرض جر نفعاً فهو ربا.
ويختلف الفقهاء في جواز القرض في أشياء؛ لأن القرض يكون في معين: موصوف معلوم؛ ليكون عند السداد موضع وفاق، أما إذا كان القرض في شيء غير منضبط، فلا، قالوا: كل ما صح سلماً صح قرضاً، أما الجواهر والأحجار الكريمة فلا يصح السلم فيها؛ لأنه لا يمكن انضباطها، وكذا في الفيروز والياقوت والعقيق والزمرد لو قلت: أسلمت فيما وزنها كذا جرام، فإن شكلها وصفاءها ونعومتها تختلف، ولا يمكن انضباط ذلك، ولهذا قالوا: لا يصح السلم في الأحجار الكريمة، ولا الجواهر النفيسة؛ لأنها لا تنضبط عند التسليم، فكذلك القرض؛ لأنك عند ردها نختلف؛ هل هذا الذي اقترضت أو غيره؟ إذاً: لا يجوز القرض فيها.
والحيوان: هل يجوز القرض فيه أم لا؟ يختلفون: الجمهور على الجواز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (استسلف بكراً ورد خياراً رباعياً) ، قالوا: هذا من حسن الأداء، ونحن هنا في بيع وشراء، وفرق بين البيع والشراء عند مقاطع الحقوق وبين حسن الأداء مكارمة.
الإماء والعبيد هل يصح القرض فيهم؟ قالوا: هذا يرجع إلى حكم القرض، هل هو عقد تمليك على القطع أم مؤقت؟ اقترضت ألف دينار، هذه الألف التي اقترضتها امتلكتها ملكاً قاطعاً تاماً أو معلقاً؟ فمن قال: هو ملك تام مقطوع به؛ فيجوز عنده، ومن قال: هو مؤقت؛ لأنه معلق بالذمة لصاحبه، قال: لا يجوز، وقوم قالوا: يجوز في العبيد ولا يجوز في الإماء؛ لأننا إذا أقرضنا الأمة، وقلنا: هو تمليك، ربما استمتع بها وهي ليست ملكاً له على الحقيقة، لذا قالوا: يجوز قرض الأمة لمن لا يحل له وطؤها، كامرأة لا تطأ؛ أبوها، أخوها، ذو محرم منها؛ لأنه لا يتأتى المحظور.
إذاً: هناك مباحث في القرض للتوسع فيها يرجع إلى كتب الفقه، والله أعلم.


شرح حديث: (الظهر يركب بنفقته ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) رواه البخاري] .
هذا شروع من المؤلف في مباحث الرهن، والرهن في اللغة: الحبس، كما جاء في الحديث: (الميت مرهون في قبره بدينه) ، أي: محبوس فيه، والرهن في اصطلاح الفقهاء: توثيق دين بعين يمكن الاستيفاء منها، وقد بين سبحانه أنه عند عدم وجود الكاتب أو الكتابة يكون الرهن: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] ، سواء كان ذلك في السفر لتعذر الكتابة، أو كان في الحضر.
والرهن عقد جائز؛ وإذا وقع فهو لازم، وذلك: إذا كان إنسان مديناً بدين لآخر، لكنه لا يثق في المدين لوفاء الدين، فيقول له: أحضر لي رهناً توثيقاً للدين، فيقدم إليه الرهن، وكما يقولون: كل ما جاز بيعه سلماً جاز رهنه؛ لأن العين المرهونة عند نهاية أجل الدين يردها المرتهن للراهن، فإذا حصل فيها خلاف أو نزاع، لابد أن يرجع إلى ما صح سلماً؛ أي: بالوصف.


شرط العين المرهونة
العين المرهونة لابد أن تكون معلومة للطرفين، حتى إذا ما جاء وقت السداد، ورد العين المرهونة لصاحبها لا يكون هناك نزاع.
والرهن بمجموع أمره لا يجوز للمرتهن أن يستفيد منه على حساب الدين، والدين قد يكون قرضاً حسناً، أو ثمن مبيع، أو أجرة عين متأخرة، فتأخذ رهناً عليها، أو بعته عيناً والثمن مؤخر فتأخذ رهناً منه إلى التسليم اقترضت منه ألفاً أو عشرة آلاف وطلب رهناً، فلا مانع من ذلك، وهذه كما يقولون: من العقود المكملة والمتممة لعقد البيع؛ لأنه توثيق للثمن المؤجل، وكل عين جاز الانتفاع بها جاز رهنها على ما تقدم في أوصاف السلم.
ويشترط في الراهن: أن يكون جائز التصرف؛ لأن غير جائز التصرف لا يحق له أن يرهن؛ لأن الرهن تسليط المرتهن بالعين المرهونة.


حكم الاستفادة من العين المرهونة
إذا رهن إنسان شيئاً كان له غنمه وعليه غرمه، وبعض الناس ربما اتخذ عقد الرهن وسيلة للانتفاع مقابل القرض الذي أقرضه، طلب منه قرض عشرة آلاف وهو لا يقدر أن يقول له: على أن تردها ومعها مائة، أو ومعها إردب من التمر، أو ومعها كذا، أو تعمل لي كذا؛ لأنه ربا صريح، فيقول: ترهن لي البيت، أو السيارة، أو كذا، فيقول: أرهن لك، فحينما يقدم إليه العين المرهونة يأخذها ويستفيد منها، داراً يسكنها، سيارة يستعملها، أشياء من هذا القبيل، فما استفاده من عين الرهن لا يحق له أن يأخذه؛ لأنه بمثابة -على ما سيأتي- قرض جر نفعاً بواسطة الرهن، حتى الهدية لا يقبلها إلا إذا عاوض عنها، فإذا كان للعين المرهونة نفقة، ومنها منفعة, فلها وعليها، على ما يأتي تفصيله، وإذا كانت لا تحتاج كلفة كالدار، والأرض الزراعية، فيرهنه إياها يأخذها ويزرعها، ويستغل زراعتها، فيتعين عليه أن يحتسب كم حصل من زراعتها، كم من حصل من سكنى الدار، فيحسبها ويخصمها من الدين التي هي مرهونة فيه، فلما كان الرهن لا يجوز للمرتهن أن يستغله لحسابه زائداً عن الدين الذي له، جاء هذا التنبيه: (الرهن يركب، والضرع يحلب، وعلى الراكب وعلى الحالب - أو الشارب- النفقة) .
إذاً: حينما يكون الرهن يعطي ويأخذ، فإن ما يعطيه يحاسب به فيما يأخذه؛ أي: من النفقة، فإذا كان يعطي ولا يأخذ؛ كالدار مثلاً، تعطي سكنى ولا تأخذ شيئاً، اللهم إن كانت صيانة خفيفة أو كذا فتحسب.


موقف العلماء في الاستفادة من الرهن
هناك من يقول: تحريك الرهن المتحرك قد يكون واجباً وقد يمتنع، إذا كانت السيارة مرهونة عندك وأنت لا تستعملها، ومدة الدين ستة أشهر، هل تظل السيارة واقفة في محلها ستة أشهر أم أنه ينبغي عليك ما بين فترة وأخرى أن تشغلها وتحركها بما يمنع مفسدتها؟ لأن طول مدة وقوفها قد تؤدي إلى الإضرار بها.
إذاً: لابد من الحركة لمصلحتها لا لمصلحتك أنت، كذلك إذا رهن عنده فرساً أو بعيراً في غنى عنه، لكن طول مكثه في مكانه الزمن الطويل قد يؤذيه، ولابد أن تحركه، سواء راكباً أو قاعداً، على ما فيه مصلحته، لكن إذا كانت لك حاجة في هذا الرهن؛ بأن تقضي حاجتك عليه، وهذا يتطلب منك نفقة؛ نأتي أولاً للراهن: أنت يا صاحب البعير، هل تتعهد بالنفقة لرهنك عند المرتهن أم أنك تتركه وتذهب؟ فإن تعهد بنفقته فلا يحق للمرتهن أن يركبه لمصلحته، لكن يمشيه لمصلحة البعير، أما إن كان الراهن ترك البعير عند المرتهن، ثم سافر، أو لم يرجع؛ هنا البعير يحتاج إلى نفقة، وإذا تركناه تلف، وهو أمانة في يد المرتهن، ماذا يفعل؟ يقول العلماء هنا: إذا كان في البلدة حاكم يعرض الأمر عليه: هذا رهن في يدي، وصاحبه تركه لي، ويحتاج إلى نفقة، وليس هناك من ينفق عليه، فيستأذن الحاكم في ركوبه بنفقته، وقيل: بدون إذن الحاكم، أنفق على البعير أو على الرهن بنية الرجوع على صاحبه، وإذا جاء صاحبه رجع عليه، أما إذا أنفق بدون نية الرجوع، على أنه متبرع، ويريد أن يخرج من عهدة حبس الحيوان وتجويعه وتعطيشه، فإن أنفق متبرعاً فلا يرجع؛ لأن: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) ، وإذا أنفق بنية أن يرجع على صاحبه فله الحق في الرجوع، فإذا كان البعير صالحاً للركوب وهو في حاجة إليه، ننظر كم علف البعير في اليوم؟ إن قدرناه بعشرة ريالات، فبكم سيركب البعير في حاجته المتقطعة، بما يساوي خمسة، وعلى هذا يحسب متوسط هذا المجموع فيما يحصل له من فائدة ركوب البعير، فإذا كان ما يحصل عليه من ركوب البعير في مصلحته يتساوى مع الإنفاق عليه، فقد انتهت المسألة، أما إذا كان ما ينفقه على البعير أكثر مما يحصل عليه من مصلحة البعير، فيحتسب ويرجع بالباقي على صاحبه، وإن كان ما يحصل عليه أكثر من نفقته فلا مانع من ذلك، ويحتفظ بالزائد لصاحب البعير، ويخصمه من الدين الذي هو عليه عند الوفاء، هكذا الارتفاق والانتفاع بالرهن.
أما أن ينتفع به لمصلحته، ولا يحسب ذلك على صاحبه؛ فهذا هو النفع الذي جاء بسبب القرض وأنه هو ربا.
كذلك لو رهن عنده شاة أو بقرة فيها حليب تريد أن تأكل وتعطي حليباً، فإن تركناها دون حلبها تضررت، وإن منعنا الأكل عنها تلفت، إذاً: لابد من مراعاة المصلحة، وكما يحافظ عليها في نفقتها وسقيها يحافظ عليها أيضاً فيما تحتاجه؛ من محل مبيتها، وربطها، وتمشيتها في بعض الأحيان حتى لا تتألم أرجلها أو شيء من هذا، ثم عليه أن يعرف: كم تعطي حليباً؟ وكم تأخذ نفقة في اليوم؟ وإذا نظرنا بالمقاصة: وجدنا أنها تعطي حليباً بخمسة عشر، وتأخذ نفقة بعشرة، حينها له على صاحبها كل يوم خمسة، فإذا جاء الأجل وجاء المدين بالدين خصم من مجموع الدين مجموع الأموال التي توافرت عنده على مدار الأيام من قيمة حليبها؛ لأنه حق لصاحبها.
إذاً: الرهن لا ينتفع به أبداً لمصلحة المرتهن إلا إذا حسب ذلك من الدين الذي له، فإذا كان الرهن يعطي ويأخذ فتحصل هناك المقاصة، وإن كان يوجد حاكم استأذنه وقدر له النفقة، وإن لم يوجد عمل ذلك لمصلحة الرهن، ثم تحاصى مع صاحبه عند الوفاء، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) ، رواه الدارقطني، والحاكم ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله] .
هذه أيضاً ناحية كانت تقع ولا زالت عند كثير من الناس؛ يقترض الدين إلى أجل، ويقدم المقترض الرهن، فإذا جاء الأجل ولم يسدد امتلك المرتهن الرهن، ويجيء صاحبه بعد فترة ويقدم الدين، فيقول له: أنت لم تسدد، والرهن صار مكان الدين.
هذا لا يجوز، فمهما طال الزمن لا يغلق الرهن، ولا ينسد عليه باب تسديد الدين واسترجاع العين المرهونة، فإذا طال الزمن وجاء الموعد قال له: هذا ملكك رهن، ولي عندك الدين، فإن عندك استطاعة أن تسدد ديني وتأخذ رهنك، فنعم، وأنا ما طلبت الرهن إلا توثيقاً لحقي.
ماذا نفعل؟ يعرض المسألة على الحاكم، والحاكم يكلف من يبيعه بالمزاد العام على ملأ من الناس حتى لا يكون هناك هضم للحق، ولا تواطؤ فيه، كم دينك؟ مائة.
بكم بيع الرهن؟ مائتين، إذاً: خذ حقك ورد الباقي لصاحبه، الدين مائتان والرهن بيع بمائة، كم بقي لصاحب الدين؟ مائة، إذاً: الرهن نزلت قيمته ولم يسدد الدين، أيضاً لا نقول: إن قيمة دينك في الرهن، لا.
بل نبيع الرهن بما يساوي في يوم السداد، إن زاد عن الدين دفعنا الزيادة لصاحبه، وإن نقص عن الدين صار في ذمة صاحبه؛ إما أن يدفع أو أن يكون ديناً عليه.
هذا معنى قوله: (لا يغلق الرهن) .
أما ما ينص في بعض الكتابات والعقود: إذا لم تسدد فيكون الرهن ملكاً لي، ولا حق لك في الرجوع فيه، فكل ذلك باطل؛ لأنه يأكل مال الغير بغير حق، الرهن يساوي ألفاً، ودينك مائة، لم تأكل تسعمائة؟ ليس لك حق في هذا، لك الذي يوثق دينك، والرهن موجود لتوثيق الدين، لا ضرر ولا ضرار.
كنا نسمع في بعض الأقطار المجاورة: أنهم يتخذون طرقاً للاستفادة من الدين، وحقيقة الأمر أنه دين جر نفعاً للدائن بلا شك، وله صور مختلفة، وقوالب متنوعة، وبحجة خيار الشرط والرهن؛ يأتي إلى إنسان ويقول: أبيعك هذه الدار، ولي الخيار سنة، فيأخذ البائع ثمن الدار، ويستلم الدار المشتري، ويسكنها مدة الخيار، فإذا انقضت السنة جاء البائع وقال للمشتري: أنا اخترت أن أرد البيع.
ليس هذا خيار الشرط، أنا اخترت وفكرت واشترطت سنة، فوجدت أن البيع غير نافع لي، ففسخ البيع، خذ ما دفعت ورد علي الدار، اشتراها المشتري بألف وبعد سنة رد الألف واسترد الرجل داره، وسكنى الدار سنة استغلها المشتري بتواطئ بينهما، كأنه أقرضه ألفاً واسترجعه بعد سنة، ومع القرض سكن الدار، وكان عليه أن يقدر بكم تؤجر الدار في السنة، ويخصمها من الألف.
كذلك الرهن: أرهنك البستان، الدار، السيارة، أي شيء له دخل، ومدة وجود الدين سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل والمرتهن يستغل العين بفوائدها.
وكنا نشاهد هذا في الأراضي الزراعية، والبيوت؛ فلان رهن بيته، أو أرضه، وإذا بقيت في يد الراهن لا مانع، لكن تكون ممنوعة من البيع والشراء.
أما إذا سلمت للمرتهن وصار يستغلها فتلك الغلة هي المنفعة التي جرها القرض، لكنهم ما جعلوها في صورة قرض جر نفعاً، لا؛ بيع ورهن وسداد الرهن، واسترجاع العين، ولفة طويلة، وكلها تصب في: (قرض جر نفعاً) .
وهناك مباحث عديدة في موضوع الرهن والقرض، وتجدون ذلك في كتب الفقه الموسعة؛ وهي: التحذير من كل ما يمكن أن يقصد به المدين نفع الدائن بسبب الدين من الهدايا، أو أن يعمل له ما يجامله به، من أن يساعده في شيء ما كان يساعده فيه من قبل، ولذا كان يقول بعض السلف: لو أقرضت إنساناً ألف دينار، وأهدى إليك حمل تبن فلا تقبله.
وكان بعض السلف إذا أقرض إنساناً قرضاً يكره أن يجلس في ظل بيته، خشية أن يكون هذا من منفعة القرض، وهل ظل البيت يبذل فيه صاحب البيت شيء؟ لكن يقولون: الشحيح لا يرضى لإنسان أن يستظل في ظل بيته، والأولاد الصغار يفعلون هذا؛ إذا تخاصموا لا يدع الآخر يجلس في ظل بيتهم، فإلى هذا الحد كانوا يتورعون من أن يستفيدوا أدنى فائدة ممن أقرضوه مخافة أن تكون تلك الفائدة -على ضآلتها- قرضاً جر نفعاً، وكل هذا كان تورعاً، من روائح الربا الكريهة.
ولكنهم يقولون: إن كان بينك وبين المقترض علاقة سابقة؛ مثلاً: كان صديق لك، وجاء يقترض منك، وكنت قبل القرض تتبادل معه الزيارة، وتتناول عنده الطعام على حسب الضيافة أو الصداقة، ثم صار القرض، هل تمتنع؟ وقد كنتم من قبل تتبادلون الهدايا في المناسبات، فأهدى إليك هدية في مناسبة، هل تمتنع عنها؟ قالوا: يأخذها بحكم الصداقة حتى لا يقطع الصلة التي بينهم أو يسيء علاقته بصديقه، ولكن لابد أن يكافئ عليها، إما بهدية تعادلها، وإما بتقديرها وحسابها من الدين الذي له عليه، والبعض يقول: إذا أقرضته لا تدخل بيته ولا تأكل طعامه، لأنه يكارمك ويوسع لك ويخجل ويعمل ويتكلف بسبب الحمل الذي على ظهره، قالوا: هذا لا يجوز، لكن إذا كان قبل القرض هناك صلة والملاطفة والمزاورة موجودة، وتبادل الهدايا والمكارمة قائمة، فلا مانع في ذلك مادام سيحسبه ويعاوضه عليه، أما أن يأخذها هكذا ويسكت، لا.
فهذا قرض جر نفعاً.


شرح حديث: (خيار الناس أحسنهم قضاءً)
قال رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء) ، رواه مسلم] .
المؤلف يأتي بعد حديث: (الرهن يركب بنفقته، والضرع يشرب بنفقته) ، وسيأتينا: (كل قرض جر نفعاً؛ فهو ربا) ؛ فالزيادة في الوفاء في الدين نفع: أقرضته ألفاً وردها ألفاً وصاعاً من تمر، هذا نفع أم لا؟ نفع.
والمؤلف هنا يعطينا صورة ليست من صور النفع الذي جره القرض، ولكن من صور مكارم الأخلاق في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن عبد الله بن عمرو: (أمرني أن أجهز جيشاً؛ فكنت آخذ البعير بالبعيرين) .
وهنا: (استسلف) ، والهمز والسين والتاء للطلب، مثل: استغفر، استقدم، واستسلف: أي: طلب سلفة.
(بكراً) ، البكر: البعير الصغير، ثم جاء الرجل في الموعد يطلب بكره، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالقضاء من إبل الصدقة، فبحثوا فيها عن مماثل للقرض، وهو البكر نظير البكر، قال: لم أجد إلا خياراً رباعياً، والخيار يزيد عن البكر، وكان من حق المقاصة لو دفع إليه الرباعي أن يأخذ منه فرق الرباعي من البكر؛ بكرك الصغير لا يوجد عندي، وعندي ما يزيد عنه، كما لو وجد أقل من البكر ودفع له النقص، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما لم يجد النظير المعادل المطابق ووجد ما هو خير منه قال: (أعطه إياه، خيار الناس أحسنهم قضاء) ، إذاً: هذا من باب الإحسان، وليس من باب الربا، وليس مشروطاً في العقد من قبل؛ أنا أقرضك بكراً لكن بشرط أن ترد لي أحسن منها.
إن جاء الشرط في البداية بهذا بطل العقد، لكن إن جاء عن طيب نفس المقترض فالجمهور يقولون: لا بأس.
وهنا يأتي النزاع في كون المقرض يقبل زيادة في الدين أو لا يقبل؟ فنجد الجمهور يقولون: إن كانت الزيادة جاءت من المقترض بعد سداد الدين؛ بأن كان الموعد في يوم واحد رجب، فسدد الدين، ثم سافر المقترض وجاء بهدية ودفعها للمقرض، وقد انتهى من السداد من عشرين يوماً يردها أم يأخذها؟ البعض يقول: لا يأخذها؛ لأنها امتداد لخيط القرض.
والبعض يقول: خيوط القرض انتهت بالدفع والسداد، وهذا شيء دفعه إليه عن طيب نفس منه، قدمه لمن أسدى إليه معروفاً فأكرمه، فنجد النزاع في هذا.
ومن أراد التحقيق فيها فليرجع إلى نيل الأوطار للشوكاني، فقد ساق نصوصاً عديدة في هذا.
لكن الجمهور يقولون: لا يقبل الزيادة عند السداد، وهل بعد السداد يقبل المكارمات؟ هذا محل النزاع.
مالك رحمه الله يقول: نعم؛ لحديث: (خيار الناس أحسنهم وفاء) ، وإذا كان الحسن في الوفاء ذاتي وليس خارجياً، كالصورة التي معنا؛ الزيادة الموجودة في الرباع الخيار ذاتية، وكما يقولون: نماء متصل، ف مالك يقول: إن كان الحسن في ذات الدين فلا بأس، كما في قضية البكر والخيار، أما إذا أتى له ببكر ومعه عنز، العنز هذه زيادة خارجية، مالك يقول: لا، هذه خارجة عن الموضوع ولا يحق له أن يأخذها، ولو كانت الزيادة في الخيار الرباعي أكثر من العنز مرتين لا مانع؛ لأنه وصف للدين، وقد أحسن المقترض في سداد قرضه إلى من أقرضه.
وعلى هذا: من أقرض إنساناً شيئاً ففي مدة القرض لا يحق له أن يقبل منه شيئاً، كما قيل: ولا عوداً من أراك، إلا إذا كان العهد بينهما قبل القرض تبادل الهدايا، يقبلها ويعوضه عنها، سواء قبل أن يسدد القرض في مناسبات تأتي أو بعد أن يسدد، وإذا انتهى القرض وسدد المدين دينه، ثم جاء المدين في مناسبة وقدم لمن كان أقرضه هدية، يقبلها أم لا؟ هناك من يقول: إنها من توابع القرض فلا يقبل، وهذا هو التورع.
وهناك من يقول: لا.
القرض انتهى، والدين سدد، وانقطعت العلاقة، وهذا جاء متبرعاً محسناً، فلا ينبغي أن تردها.
وهذه النقطة نقول فيها: الله تعالى أعلم.
عند سداد الدين هل يقبل زيادة في القرض بعينه؟ الجمهور يقولون: لا، ومالك يقول: إن كانت الزيادة متصلة من عين المقرض أو القرض الذي قدمه فلا بأس، هذا بكر وهذا خيار رباعي، وإن كانت خارجة عنه من غير جنسه فلا يقبلها تطبيقاً للحديث في هذه القضية بالذات، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا)
قال رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، رواه الحارث بن أبي أسامة، وإسناده ساقط] .
هذه هي القاعدة العامة التي أخذ بها جمهور الفقهاء، وإن كان الحديث متكلم في سنده ولا ينهض للاحتجاج وحده، لكن تشهد له قرائن أخرى؛ ما هو الربا؟ الربا زيادة عن الدين، وهذا القرض إن جر نفعاً اتفق مع الربا في الصورة، ولا يحتاج هذا حتى إلى نص أو حديث في المسألة.
(نفعاً) ، نفعاً هنا: نكرة، مطلق يعني: كل ما ينتفع به الشخص، كما قال بعض العلماء: ولو عوداً من أراك، ولو أن يستظل في ظل حائطه، ولو حمل تبن، فإن له قيمة، لكن عود الأراك، أو الظل في جداره؟ كل ذلك يقول: لا يحق له أن يأخذه؛ لأنه ربا، (كل قرض) أي قرض أياً كان، وإذا كان الأمر في القرض نقداً فإنه ينجر على كل دين، مثلاً: مدين في ثمن مبيع، أو في أجرة بيت، فلا يوجد قرض، فلكون الدين موجوداً لا يجوز أن تنتفع من وجود دينك عليه لأي منفعة كانت، لك دينك فقط، أو ثمن مبيعك أو أجرة العين، أو نقد القرض الذي أقرضته أياً كان، وهذه أصبحت قاعدة عند الفقهاء معمول بها دون منازعة، أجمعوا على العمل بهذه القاعدة: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) ، سواء صح السند، أو كان فيه اضطراب، أو فيه ضعف، فإن العلماء تقبلوه بالقبول، ورتبوا عليه هذه الأحكام، وأصبحت معمولاً بها عند الأئمة رحمهم الله، وبالله تعالى التوفيق.