شرح بلوغ المرام لعطية سالم

كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [1]
حرمت الشريعة أكل أموال الناس بالباطل، وأوجبت على المدين أن يقضي ما عليه، فإن أفلس فإنه يحجر عليه وينتزع ما في يده من المال والعقار، وفي الإفلاس والحجر أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله.


شرح حديث: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) متفق عليه] .
هذه صورة من معاملة أصحاب الديون في ثمن المبيعات؛ لأن الرجل قد يكون مديناً في ثمن مبيعات، أو في أجرة أعيان، أو في قرضٍ عيني نقدي، وغيرها من الالتزامات المتعددة التي يلحقه الدين فيها، فإذا أفلس رجل، وصدر الحكم من الحاكم بأن يحجر عليه، وجب أن يعلن ذلك للعامة؛ حتى لا يتعاملوا معه، ومن تعامل معه بعد الحجر عليه لا يشارك الغرماء في قسمة الموجود من ماله؛ لأنه دخل على بينة بأنه محجور عليه، وتكون المعاملة معه في الذمة غير متعلقة بماله فلا يشارك الغرماء فيما يخصه، بخلاف من له دين قبل الحجر عليه، فإذا حجر الحاكم على المفلس، ثم أراد أن يبيع موجوداته، فوجد أحد الدائنين سلعته بعينها التي باعها عليه ديناً، فهو أحق بها من الغرماء سواء كان الدين كيس رز مثلاً، أو سيارة، أو بعيراً، فإذا وجد سلعته ستباع وتقسم على الغرماء بحصص ديونهم بالنسبة المئوية، وهو من ضمنهم، لكن سلعته موجودة بعينها بخلاف الديون الأخرى التي تصرف فيها، استدان سيارة وباعها، استدان ناقة ونحرها، استدان كذا وصرفه، أو استدان كذا وصنّعه، لكن هذه السلعة بالذات ما زالت موجودة على ما هي عليه، فصاحبها أولى بها، ولكن بشروط أوصلها بعضهم إلى خمسة شروط: 1- ألا يكون أخذ من الثمن شيئاً؛ لأنه لو كان أخذ من الثمن شيئاً سيكون هناك اشتراك.
2- ألا يكون المشتري المفلس المحجور عليه باع بعضها، كما لو اشترى منه وسقاً من التمر، ثم باع منه خمسة أو ستة صيعان.
3- ألا يكون تصرف بجزء منها.
4- ألا يكون تعلق بها حق الآخرين، كما لو أدخلها في شركة مع أناس آخرين.
5- ألا تكون السلعة تغيرت بزيادة أو بنقص، زيادة في ذاتها لا في قيمة السوق، فلو اقترضها يوم اقترضها وهي تساوي ألف ريال، والآن صارت تساوي ألفين أو تساوي نصف ألف فالدائن أحق بماله، لكن لو اشتراها وهي حائل، فحملت، فهذا الحمل زيادة من حق المفلس، ولو اشتراها وهي حامل فنتجت، فإذا أبعدنا النتاج نقصت، أو إذا اشترى العبد بنسيئة، وعند الحجر كان العبد قد تعلم صنعة، أو تعلم مهنة يكتسب منها فهذه زيادة، أو اشترى الجارية البكر وعند الحجر عليه لم تعد بكراً؛ لأنه قد استمتع بها، فهذا نقص فيها، فيقولون: صاحب السلعة أحق بها من الغرماء ما لم يحدث فيها تغير، وما لم يكن قد استلم من قيمتها شيئاً، وما لم يطرأ عليها زيادة أو نقص، وما لم يتعلق بها حق الآخرين.
فقوله: (من أدرك ماله بعينه) يعني: أدرك ماله بعينه وذاته في أموال المفلس التي يراد بيعها لتوزيع القيمة على الغرماء، فأدركها بعينها فهو أحق بها، ونقول له: خذ سلعتك لكن بتلك الشروط.


شرح حديث: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس)
قال رحمه الله: [ورواه أبو داود ومالك من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلاً بلفظ: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقض الذي باعه من ثمنه شيئاً فهو أحق به) ] .
هذا الشرط منصوص عليه، أي: (أيما رجل باع متاعاً ثم أفلس الذي ابتاعه، ولم يكن قد تقاضى شيئاً من ثمنه فهو أحق به) وهذا أحد الشروط التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله.
قال رحمه الله: [ (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) ] .
لو مات المشتري الذي أفلس، ولم يستطع السداد، والورثة عجزوا عن سداد الديون، والتركة لم تتحمل؛ لأن الورثة غير ملزمين بقضاء دين الميت من مالهم، والميت مرهون بتركته، فإن ترك وفاءً سدد منه الديون، والدين مقدم على حق الورثة، بل إن البعض يقدمه على الوصية وعلى حقوق الله، والبعض يقدم حق الله على حق العباد، وجملة ذلك أن الحقوق المتعلقة بالتركة خمسة، ومنها: مئونة تجهيز الكفن والحنوط، وإذا كان لنقله أجرة، وإذا كان لقبره ثمن، فكل ذلك يسمى مئونة تجهيزه، وهو مقدم على حق الورثة.
وهناك من يقول: لا، الدين أحق من هذا، ومئونة التجهيز تكون على بيت مال المسلمين.
وبعضهم يقول: لا، حق الله يقدم، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة التي قالت: (إن أمي ماتت أينفعها إن حججت عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء) ، وقال الذين قالوا دين العباد مقدم: دين الله مبني على المسامحة، ودين العباد مبني على المشاحة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قدم له ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلوا عليه أنتم، وإن قالوا: لا، صلى عليه، فقدم له ميت فسأل عن دينه: فقالوا: نعم عليه دين ديناران، فقال: صلوا عليه، فقال أبو قتادة صل عليه -يا رسول الله- والديناران عليّ، قال: حق الغريم، وبرئت منها ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه) .
والذي يهمنا أن من لحقه دين، فإن وجد في التركة سداد الدين فبها، وإن لم يوجد، فالورثة غير مسئولين، فنقول للدائن: خذ من تركته دينك، ثم إن بقي شيء فللورثة؛ لأن حق الورثة آخر حق في التركة.
فإذا مات المفلس وترك شيئاً لا يفي بالدين، وجاء الحاكم ليبيع الموجود ويقسمه على الغرماء، فإن أحب الورثة تطوعاً من عندهم أن يسددوا عن أبيهم فجزاهم الله خيراً، وإذا كانوا عاجزين عن سداد دينه، وجاء أحد الدائنين فوجد سلعته بعينها، فهل يأخذها كما لو كان المدين حياً؟ نجد النص هنا يقول: (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) .
أي: وإن مات المشتري المفلس فصاحب المتاع الذي وجده على حالته، والذي كان له الحق أن يأخذه لو كان المدين حياً، أسوة الغرماء، يعني: ماله يباع مع المال الموجود، ثم يقاسم الغرماء في مجموع ما يحصل من قيمة الذي وجد بالنسبة المئوية كما تقدم.
قال رحمه الله: [ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمر بن خلدة قال: (أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا قد أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به) ] .
قضاء أبي هريرة فيه أن من مات أو أفلس فهو أحق بمتاعه، ولكن الأول مقدم على هذا، ولعله الأرجح إن شاء الله.


شرح حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)
قال رحمه الله: [وعن عمرو بن الشريد عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبو داود والنسائي، وعلقه البخاري، وصححه ابن حبان] .
المفلس الذي ليس عنده وفاء لمجموع الديون، تباع موجوداته، ويسدد الغرماء بحصص متساوية، وهذا حكم المفلس الذي لم يجد ما يسدد ديونه، فإذا كان غنياً ولم يسدد فهل هو مفلس؟ لا، فالمال موجود لكن صاحبه مماطل، والمطل هو التأخير والتسويف والروغان: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها ويقصد الشاعر أنها لا تفي له بوعد، وتماطله وهو معنى أي: تعبان، فالمطل هو التسويف والتأخير، فالغني يجب عليه أن يسدد الدين في أجله، فإن لم يسدد فهو مماطل، وفي بعض الروايات: (مطل الغني ظلم) .
وقوله: (يحل عرضه وعقوبته) أي: يحل عرضه بشكواه وذكر حاله، فيقول: هذا فلان مماطل، وهذا لا يعتبر غيبة بالنسبة للدائن، لأنه متشك من حاله، وليست هذه من باب الغيبة، فأحل عرضه للدائن بأن يتكلم فيه، وما كان يحق له ذلك، وغير الدائن ليس له حق أن يتكلم عليه؛ لأنه ليس له حق عنده.
ومعنى قوله: (وعقوبته) أي: حبسه، ويقولون: المفلس يحجر عليه ويباع ما معه، والغني يحبس ويلزم بالدفع كرهاً، فإن لم يدفع فقال الأئمة الثلاثة: الحاكم يبيع من ماله لغرمائه، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: أنتم لا تملكون المال فتبيعونه، ولا يجوز للإنسان أن يبيع ما لا يملك، لكن يضيق عليه في حبسه حتى يتولى هو البيع ويفك نفسه، والذي يهمنا أن الغريم قسمان: واجد يماطل، ومفلس لا يجد، فالمفلس يباع ما تحت يده، وليس للغرماء فوق ذلك، كما لو كانت موجودات المفلس لا تفي بالديون مثلاً: كانت خمسين في المائة من الديون، فماذا يفعل الغرماء في بقية حقوقهم؟ لا شيء، وكما قال سبحانه وتعالى فيما يتعلق بتصفية الربا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] .


سجن المفلس مفسدة
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه رفع إليه معسر، فقال لغرمائه: أتعرفون له شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن احبسه! فقال: لا، وما الذي يعود عليكم بحبسه؟! فحبسه ضياع له ولكم ولعياله، ولكن أتركه يسعى في الأرض.
وهذا -والله- هو الحق، بخلاف ما يجري في إنسان يدعي الإفلاس، ويأتي بشهود بأنه لا يملك شيئاً، ومع هذا يحبس إلى أن يرفع أمره إلى الحاكم، وربما يحبس السنة والسنتين، فماذا استفاد بالسجن؟ كلف الدولة مئونته، وضيع من ورائه أهله، والغرماء لم يستفيدوا شيئاً! وأول قضية عرضت علي في المحكمة هي لشخص مطالب بثلاثين ألف ريال لبعض جيرانه، وكنت أعرفهم قبل القضاء، فقلت: أتعلم أن عنده مالاً؟ قال: لا والله! إني لأصرف على أهله وهو في سجنه، فقلت: فماذا تريد من سجنه؟ يا أخي! اتركه يخرج من السجن، ويكفيك مئونة أهله، أنت لك عليه دين وتصرف على أهله شفقة منك، فاتركه يخرج ليكفيك هذه المئونة لعله يفعل شيئاً، قال: ما أدري هل يرضى بقية الغرماء؟ فجمعتهم وكلمتهم، وذكرت لهم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقالوا: ماذا تريد؟ قلت: أريد منكم أن تعطوه مهلة ليعمل فيها، وكان يعمل في البيع والشراء، وكان ذلك في شعبان، وقد قرب رمضان والموسم، فقلت: أعطوه مهلة ليحاول أن يسددكم بالتقسيط، فقالوا: وإذا لم يفعل؟ قلت: إذا ما فعل فالسجن موجود! اتركونا نعملها تجربة، فقلنا للمفلس: ماذا يا فلان؟ قال: أنا لا أريد إعلان إفلاسي؛ لأن التجار لن يتعاملوا معي بالدين إذا خرجت، فأعطوني مهلة وأستعين بالله، وطلب مهلة سنة ونصف، فقلت: لك سنتان، نصف سنة من عندي حتى توفي دينك، وسبحان الله! كان مقابل المسجد عمارة تحتها معارض، وليس كل إنسان يستطيع أن يستأجرها، فأملاها بالبضائع، والزبائن والحجاج يمرون من عندها بكثرة، والحركة عنده شديدة، فما مضى ستة أشهر إلا وقد سدد نصف الدين! فهذه الطريقة لماذا تتركونها؟! الآن يمكث الغريم سنة وسنتين وثلاثاً في السجن حتى يوفي دينه، فمن أين سيوفي دينه؟ السجن ليس محل اكتساب، فلو عومل الناس المدينين بهذه الطريقة التي يراها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه لخفت المسئولية على السجون، وحفظت الأسر التي تضيع، وكانت سبباً لسداد الديون.
إذاً: المفلس إذا لم يجد ما يسدد دينه، فإدخاله السجن مفسدة لا مصلحة فيها، وهم يريدون بسجنه أنه لو كان عنده شيء يخفيه فسيظهره، ولو كان ذلك لأظهره من قبل، والذي يهمنا هي الناحية الشرعية في حق المعسر، قال الله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ، أما إذا كان موسراً عنده المال، ويتأخر ويماطل؛ فهذا ظلم نفسه قبل أن يظلم الغرماء، وفعله هذا ظلم يحل عرضه بالكلام عليه وشكواه، ويحل عقوبته بحبسه، وإن لزم الأمر ضربه، وبعضهم يقول: الضرب ممنوع، ولكن الحبس إلى أن يبيع الحاكم من ماله ما يسدد حق الغرماء.
ويقولون: بعض الغرماء لا يملك حبس غريمه، كالولد لا يملك حبس أبيه في الدين لحديث: (أنت ومالك لأبيك) ، فإذا تعامل معه وأراد أن يأخذ من ماله فله الحق في ذلك لكن بشروط: 1- ألا يأخذ من مال الأكبر ويعطي الأصغر أو العكس؛ لأنه يكون قد ملك أحد الإخوة من مال أخيه بدون حق.
2- ألا يكون مال الولد تعلق به حق الآخرين؛ بأن دخل مع أناس في شراكة برأس المال، فلا يذهب للشريك ويقول له: آخذ من حق ولدي؟ لا؛ لأنه مرتبط بمال الغير.
3- ألا يكون الولد في حاجة لهذا المال في نفسه ولمن تلزمه مئونته.
4- أن يكون الوالد محتاجاً له، وحاجة الوالد هذه يفرع عليها المالكية: في الضروريات والكماليات، سواء في الأكل والشرب واللبس، أو في الزواج إذا كان محتاجاً للزواج، وهل الزواج ضرورة أو حاجة أو ترفيه؟ على حسب حالة الأب، وهذه تفصيلات في حديث: (أنت ومالك لأبيك) .
إذاً: (مطل الغني ظلم) ، وللدائن الحق أن يشتكيه ويتكلم عليه، وللحاكم الحق أن يحبسه حتى يسدد ما عليه، ما دام أنه يوجد عنده يسار.


شرح حديث: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فأفلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) رواه مسلم] .
في هذا الحديث أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها، وشارح هذا المتن يربط بين هذا الحديث وبين حديث وضع الجوائح بعموم: (أصيب في ثمار ابتاعها) أي: اشتراها، والواقع أنه ليس بين الحديثين ارتباط، وليس بينهما تعارض، وموضوع ذاك الحديث أنه اشترى الثمار بعد بدو صلاحها، ولا زالت على أصولها، فأصابتها جائحة، فأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، وهذا الحديث أصيب في ثمار ابتاعها، أي: اشتراها فلحقته ديون، وليس في هذا الحديث ذكر الجوائح، لكن أصيب في ثمار، والإصابة في الثمار أعم من كونها جوائح وهي على رءوس النخل، وفي مثل هذا أحب من طلبة العلم أن يرجعوا في الحديث الذي فيه مثل هذا الإشكال إلى مرجعه، فإذا قال المؤلف ابن حجر مثلاً: رواه أبو داود، فنرجع إلى أبي داود لننظر كلام الشراح عليه، فيكون القول هناك أولى من قول شارح جديد على أبي داود.
موضوع هذا الحديث أن الرجل اشترى ثماراً، وأصيب في ثماره، وما نوع الإصابة؟ لم يحدد لنا الحديث نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ فأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن يتصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، ولكن ما جُمِع من الصدقات لا يسدد الديون التي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) يعني: في الوقت الحاضر ليس لكم عليه وليس لكم عنده إلا ما وجدتم، ماذا يفعل؟ لا يوجد إلا هذا، وهل معنى هذا إسقاط بقية حقوقهم؟ لا، بل الطلب يرتفع عنه في الوقت الحاضر، وليس لهم عليه إلا هذا الموجود، فإذا أيسر فيما بعد فعليه قضاؤهم، وذمته لا زالت مشغولة، فعليه أن يوفي أصحاب الديون بقية حقوقهم، ويتفقون على هذا في المفلس وغير المفلس.
الشارح هنا يقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للناس أن يتصدقوا عليه يتعارض مع الأمر بوضع الجوائح، وهذا لا تعارض فيه، ويقول: إن الأمر بالصدقة إنما هو جبراً لخاطره، وتخفيفاً للمصيبة عليه؛ لأنه أصيب في الثمار، لكن الإصابة المذكورة في هذا الحديث لا نعرف نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ لأن وضع الجوائح معروف مسمى، واتفقوا أن الجوائح هي الحوادث العامة مثل: ريح عاصفة، برد ينزل ويتلف الزرع، مطر شديد، آفة من آفات الزراعة، غرق، حريق، فالجائحة محددة بأحداث عامة، والخطابي في شرح السنن يقول: إن إصابته في ثماره لم يذكر فيها جائحة، فقد يكون أصيب في ثماره بعد أن اشتراها، نضجت وجذها ووضعها في الجرين ينتظر تجفيفها، وخرجت من عهدة صاحب الشجر، فأصيبت وهي في الجرين، مثلاً: جاء لص فحملها، أو باعها على إنسان ولم يدفع له الثمن، أو فاض عليها ماء فغرقت، قال: إصابة تلك الثمار لا تتعين أن تكون بجائحة على رءوس النخيل، أو على رءوس الشجر، فيحتمل أن تكون قد أصيبت بما أصابها بعد أن استوعبها، وانقطعت علاقته بصاحب أصول النخيل، وأصبحت في عهدته وفي جرينه، إذاً: لا علاقة لصاحب الأصول هنا بوضع الجوائح؛ لأن الجائحة لم تكن في زمن عهدته، بل هي بعد أن انفصل عنه بجني الثمر ونشره في الجرين، وانتظار إدخاله في مستودعاته، فلا علاقة لصاحب النخيل البائع بالجائحة.
ويكون أمره صلى الله عليه وسلم للناس بالتصدق عليه من باب الإرفاق ومن باب التخفيف عليه، ولكن كل الذي جمعوه من الصدقة لا يفي بدينه، والناس غير ملزمين بسداد دينه: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] ، وكل تطوع بما جادت به نفسه، وكان المجموع لا يفي بالدين، إذاً: هذا الحديث لا علاقه له بوضع الجوائح، فلا حاجة لأن يربط به، وأن يتطلب الجمع بينهما؛ لأن كلاً منهما مستقل عن الآخر.
ونفهم من هذا أن من أفلس أو أعسر في دين، فإن كان عنده شيء بيع وسلم للغرماء، فإن وفى بالدين الذي عليه فبها ونعمت، وإن لم يف فليس لغرمائه عليه طريق، وأشرنا إلى قضاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لما طلب الغرماء أن يحبس المدين لهم، فقال: لا، لأن حبسه ليس فيه فائدة له ولا لأهله ولا لكم أنتم، فلماذا نحبسه وليس في الحبس فائدة؟! وكذلك معاذ رضي الله تعالى عنه لما طلب غرماؤه حقوقهم، باع النبي صلى الله عليه وسلم ممتلكاته، ولم تف بالدين، فقال: (ليس لكم إلا هذا) ، وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لعله يصيب شيئاً.
فمن هنا نعلم أن المفلس الذي لا يجد ما يسدد دينه ننظر: ما كان زائد عن ضرورياته، مثل ثيابه، مسكنه، مركبه، مأكله ومشربه، آلات صنعته التي يتعيش منها، فهذا لا يباع في الإفلاس بالدين؛ لأنه أحق بذلك لحياته، وما زاد عن ذلك يباع، فإذا لم يف بالدين أطلق سراح المدين ليسعى ويعمل، وليس للغرماء متابعته ولا حبسه؛ لأن ذلك لا يفيد أحداً شيئاً، فإذا يسر الله عليه، وتيسر أمره نقول له: سدد ما بقي عليك في ذمتك.


شرح حديث: (حجر على معاذ ماله)
قال رحمه الله: [وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه) رواه الدارقطني، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلاً، ورجح إرساله] .
قضية معاذ مشهورة في عهده، وكان من خيرة شباب قومه وأكرمهم وأسخاهم يداً، فكان يستدين ليكرم الناس، وكان أكثر دائنيه من اليهود، فطالبوه بدينه فلم يستطع أن يقضيهم، ولم يواجه الناس وذهب مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم اشتكوه إليه، فقال: ما عندي ما أسدد ديونهم، فليأخذوا ما عندي، فحجر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وباع ماله، وكان من طريقته صلى الله عليه وسلم أن يوصي الغرماء بالحط من الدين، فينبغي عند المطالبة بالدين، وكثرة الدين على المدين أن يوصى الدائن بأن يسقط من الدين شيئاً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان في حجرته، فسمع لجاجاً في المسجد فخرج عليهم وقال: ما هذا؟ فقالوا: فلان يطالب فلاناً بدين عليه، فقال: يا فلان! حط من دينك، فحط من دينه الشطر، فقال للآخر: قم فاقضه) ، وهكذا ينبغي لمن حضر عند خصومة الغرماء مع غريمهم أن يتوسط بالصلح، وبإسقاط شيء من الدين، حتى في المحكمة يحق للقاضي أن يعرض على الدائن أن يسقط من الدين شيئاً.
وفي الآونة الأخيرة صارت الدولة تسدد عن بعض المعسرين، وهناك شروط يشترطونها إدارياً، والقاضي يساعد على هذا بأن يوصي الدائن أن يسقط شيئاً من دينه، والدولة تسدد الباقي، وهذا من باب التعاون فجزاهم الله خيراً.
فعلى هذا: إذا كان الدائن يرى أن المدين ليس قادراً على سداده فينبغي الإرفاق به، كما جاء أيضاً في حق المكاتب، فالمكاتب أمر الله سبحانه بأن يعطى فقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] ، قالوا: بأن يسقط عن المكاتب بعض الأقساط، ولو الأخير أو ما قبل الأخير، وكل ذلك مساعدة له في وفاء الدين الذي عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم طلب من غرماء معاذ أن يسقطوا من الدين، فقالوا: لا، وكان هذا الطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في محله بالنسبة لـ معاذ، وبالنسبة لأصحاب الدين؛ لأن الدائن موسر يريد أن يستلم ويقبض ماله، والمدين ما عنده ما يسلم، فالدائن أحق بأن يخاطب بأن يترك شيئاً من الدين، وأن يرفق بالمدين ويخفف عنه، قالوا: إنهم لم يقبلوا طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يهود، وقد جاء فيهم حديث عائشة (أنه بلغها أن رجلاً جاء بخز من الشام فقالت: يا رسول الله! لو أرسلت إليه لتشتري منه ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فامتنع) !! امتنع أن يداين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: إنه يهودي، ولم يتسامح في ذلك، وهؤلاء لم يتسامحوا مع معاذ، وقال الراوي للحديث: لو أحد من اليهود أسقط شيئاً لأحد لكان أولى الناس بذلك معاذ لطلب رسول الله، فلما لم يقبلوا لم يلزمهم؛ لأن هذا حقهم، وهذا من العدل والإنصاف والمساواة في الحكم، ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعمل سلطته ولا مكانته أمام اليهود حيث أنه طلب منهم أن يسقطوا شيئاً من دين معاذ ولم يقبلوا، فهم أحرار، ولم يغصبهم.
لكنهم قالوا: بعه لنا! وبيع المدين بسبب دينه كان إلى عهد قريب في القوانين الأوروبية، كان الرجل يباع في دينه، أو يباع أحد أولاده، وكانت المزارع إذا بيعت بيع معها العمال الذين يعملون فيها، فقالوا: بعه لنا، وهذا على ما عندهم من السابق، فقال لهم: (ليس لكم طريق إليه) ، وجاء الوعيد لمن باع حراً وأكل ثمنه، وكيف يبيع الحر؟ قد يتواطأ معه ويقول له: ادعي أني ملكك، ونتقاسم المبلغ، وإذا تواطؤا على ذلك فهم من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، كما جاء في الحديث.
يقولون في فقه اللغة: مادة الحاء والجيم والراء تدل على القوة والصلابة واليبوسة.
وهنا الحجر: حبس وتضييق وشدة على المحجور عليه، فلا يتصرف في ماله، وقالوا: الحجرة من الحجر أيضاً؛ لأن الحجرة ما أحيطت بالجدران، وحجرت حتى امتنع خروج شيء منها كامتناع الحجر أن يخرج منه فلتة، ومنه الحجر بحفظ الولد، والحجر في الخلاء حافظ نفسه، وكذلك الحِجر: وهو الجزء الذي خرج من الكعبة ولا يدخل في عموم الكعبة.
واحجر بمعنى: ضيق، واحجر عليه يعني: شدد عليه وامنعه من التصرف في ماله، وهذا الحجر إذا تم -كما أشرنا سابقاً- يمنع صاحب المال أن يتصرف فيه تصرفاً ينقل الملك، فلا يرهن، ولا يبيع، ولا يهب.


هل ينفذ إعتاق المفلس لعبده؟
إذا كان عند المفلس عبيد وأعتقهم، فما حكم العتق؟ الشارع يتشوف إلى عتق الرقاب، وقد يكون العتق إجبارياً على صاحبه، فمن أعتق شقصاًَ له في عبد، وكان عنده وفاء، عتق عليه العبد كله، وألزم بدفع حصة للشريك، ويصبح العبد حراً كله بالإجبار، بل قد يلزم العتق بأوهى الأسباب، كما في حديث الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن لي جارية ترى الغنم، وجاء الذئب فأخذ منها شاة، وأنا بشر فغضبت فلطمتها، ثم تأسفت، أفأعتقها؟ قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) واللطمة التي لطمها لا يكفرها إلا أن تعتق! انظر إلى هذا الحد! والإخوة طلبة العلم قد يقرءون في بعض الدوريات: الانتقاد على الإسلام باسترقاق الأحرار، ويذكرون كلمة عمر: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!) ، ويقولون: الإسلام هو الذي ابتدع الرق، وهذه فرية، والذي يصغي إليها جاهل، فالرق كان موجوداً قبل الإسلام، والإسلام غاير جميع النظم في مبدأ الرق، في إيجاده وفي تصفيته، أما إيجاده فلا رق في الإسلام؛ إلا من أخذ أسيراً في أرض معركة بين المسلمين والكفار، وما عدا ذلك فليس هناك رق، فإذا ثبت عليه الرق انسحب عليه وعلى ذريته.
وفي الوقت الذي شرع الرق؛ فالأبواب متعددة لإخراج الرقيق من رقه إلى سعة الحرية، فجعل في الكفارات اعتاق رقبة، مثل كفارة من جامع في نهار رمضان أو أكل أو شرب متعمداً عند مالك، وبم تكون الكفارة؟ تبدأ بعتق رقبة، ثم صوم شهرين، ثم إطعام ستين مسكيناً.
وإذا ظاهر أحد من زوجه فما الذي يفك عنه هذا الظهار؟ عتق رقبة، أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً.
ومن حلف يميناً وأراد أن يكفر عنها فكفارته العتق أو الإطعام أو الكسوة، وليس هناك ترتيب كما في غيرها.
وإذا أراد أن يتبرر ويعتق نفسه من النار أعتق رقبة كما في الحديث: (من أعتق رقبة أعتقه الله بها من النار، كل عضو بعضو منه، حتى البضع بالبضع) ، أي: والرأس بالرأس، واليد باليد، والرجل بالرجل، والبضع بالبضع، فيعتقه لوجه الله فيكون فكاكه من النار.
وإذا أساء إلى العبد أدنى إساءة بأن لطمة فليس لها كفارة إلا عتقه.
بينما نجد الذين يعيبون على الإسلام الرق يوسعون أبواب استرقاق الأحرار، ويضيقون باب إخراجهم عن ربقة الرق إلى الحرية، فتجدون في قوانينهم: إذا كان السيد مديناً بيع وصار عبداً، وإذا أفشى سر الدولة، أو أطلع على نقطة ضعف في الجيش أو إذا نظر إلى زوجة سيده بنظرة غير عادية، وغير ذلك؛ فإنها تستوجب استرقاق الحر، فوسعوا دائرة الإدخال، ومتى يتحرر الرقيق عندهم؟ لا يحق عندهم للسيد أن يحرر عبده إلا بإذن من الدولة؛ لأن تحرير العبيد يجعل ارتباك في الإنتاج والاقتصاد؛ لأن العبيد تقوم عليهم عملية الإنتاج، بينما الإسلام يعطي للإنسان الحرية في أن يعتق ما شاء.
وعلى هذا: لو أعتق المفلس عبيداً له، والشرع يتشوف إلى حرية أو تحرير العبيد، فهل يمضي عتقه أو لا يمضي؟ قالوا: لا يمضي عتقه بعد أن أعلن إفلاسه أو أعتقهم هروباً من سداد الديون التي عليه، وقد رد (النبي صلى الله عليه وسلم العتق على المدين الذي أعتق ستة أعبد عن دبر ليس له مال غيرهم، وباعهم وسدد دينه) .
إذاً: من حجر عليه لا يتصرف في ماله بما يضر الغرماء.
ومسألة البيع يتولى أمرها الحاكم، فيبيع ماله ثم يوفي الغرماء من هذا المبيع بحسب حصصهم من الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ما يملك، وقسمه على الغرماء، وقال لهم: (ليس لكم إلا ذلك) ، وباقي الدين يكون في الذمة وليس لهم أي مطالبة الآن، فيتركونه إلى ميسرة.
ثم بعث صلى الله عيه وسلم معاذاً إلى اليمن قاضياً ومعلماً ومرشداً وجابياً للزكاة، ولعله أن يصيب من عمالته شيئاً، وأباح له النبي صلى الله عليه وسلم الهدية على غير العادة، وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فعلاً مقبولة، ولكنها للعمال رشوة، وذلك لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه من ورعه، ومن معرفته، ومن زهده لن يقبل الهدية التي هي رشوة؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، إذاً: لن يأخذ هدية تؤدي إلى حرام، والله تعالى أعلم.


كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [2]
جعل الله المال قياماً لمصالح الدين والدنيا، والشريعة جاءت بأحكام تحافظ على هذه الضرورة، ومن ذلك أنها تشرع الحجر على مال الصغير والسفيه المبذر لمصلحتهما، وترغب المرأة في استشارة زوجها في مالها، وبهذه الأحكام وغيرها يصلح أمر الفرد والمجتمع.


شرح حديث: رد النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) متفق عليه، وفي رواية للبيهقي: (فلم يجزني ولم يرني بلغت) وصححه ابن خزيمة] .
يقول: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق -والخندق كان بعد أحد بسنتين؛ لأن غزوة الخندق كانت في السنة الخامسة على الصحيح- وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) .
أتى المؤلف بهذا الحديث في باب التفليس والحجر، ليبين أن الحجر كما يكون على المال يكون أيضاً على النفس، فالصغير يحجر عليه، والمفلس الذي زاد دينه على رأس ماله يحجر عليه، بل إنه حجر على: معاذ بن جبل وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام، فهو كامل العقلية ومتوفر العلم والأهلية ولكن حجر عليه من جهة الإفلاس في المال.


الحجر للسفه والصغر
الحجر نوعان: حجر بإفلاس، وحجر بسفه، فلو أن إنساناً ما عليه ديون، ولا أحد يطالبه بشيء، لكنه يبذر ماله يميناً ويساراً، ويضيع ما معه، فهذا سفه، فهل نتركه يضيع المال أو نحجر عليه؟ نحجر عليه، خلافاً لـ أبي حنيفة، والأئمة على أن الموسر الذي ماله كثير ولكن عقله قليل، فهو ينذر المال ويتلفه، نحجر عليه، وكأننا نضعه في حجرة.
كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه رجل يدعى أسيفع، وكان هذا الرجل مغرماً بالدعاية والفخر، فإذا جاء وقت الحج اختار أسرع الإبل من أجل أن يسرع بعد الحج ويأتي إلى المدينة قبل الحجاج، فيقال: سبق أسيفع الحجاج، وكل سنة يريد شيئاً أحسن من شيء، فتكاثرت عليه الديون، فأخبر عمر رضي الله عنه بخبره، فخطب في الناس وقال: أيها الناس! إن أسيفعاً قد رضي من دينه ومروءته أن يقال: سبق أسيفع، وقد لحقه الدين، فمن كان له عليه دين فليأتنا غداً، وباع عمر رضي الله تعالى عنه الموجود من أمواله وسدد الغرماء، فهذا كان يضيع المال في غير محله، فهذا هو السفه، فإذا وجد إنسان كبير عمره ثلاثون أو أربعون سنة، أو أكثر أو أقل، لكنه لا يضع المال في محله ويبذره فإنه يمنع من التصرف في ماله لحفظه، قال الله: {إن الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] .
والصبي الصغير إذا كان يمتلك مالاً ميراثاً أو هبة أو غير ذلك، لو تركناه وماله سيبذر فيه، فليس عنده كامل الأهلية في التصرف في ماله، ولا يعرف ما ينفعه وما يضره فيه، فهو قاصر الأهلية في المال، فلا نتركه يضيع المال وعندما يكبر يقول: أعطوني! لا، فمن الآن نحجر عليه، فالسفيه في التصرف بالمال والصبي الصغير يحجر عليهما.


متى يحجر على الصغير؟
حد الصغر من الكبر سن أربعة عشر وخمسة عشر، فأربعة عشر آخر حد الصغر, وخمسة عشر في حد الكبر، ومن يحدد عمر الإنسان؟ جاء رجل عندي في شهادة، فقلت له: كم عمرك؟ فضحك، قلت له: ماذا هناك؟ قال: تريد عمري في التابعية أو على حساب أمي وأبي؟ قلت له: كلاهما، حتى أنظر الفرق بينهما؟ قال: في التابعية عمري تسعون سنة، وعلى حساب أمي وأبي فوق المائة! فإن كان هناك ضبط لتحديد السن قُبِل، والناس مؤتمنون على أعمارهم.
ومن الناحية الطبية يحدد عمر الإنسان في نقطة واحدة فقط يقيناً قطعاً، وما عداها يكون ظناً وتخميناً، وهي سن السادسة عشرة، يقول الأطباء: هناك عظمان متقابلان يسعى كل منهما إلى الآخر، فإذا بلغ الإنسان ستة عشر سنة التقا العظمان معاً، فهما متباعدان، وكل ينمو ويمتد إلى الآخر إلى نهاية سن السادسة عشرة سنة، فيلتقي العظمان، وقبلها يعلم أنه ما بلغ ست عشرة سنة، وبعدها يعلم أنه تجاوز ست عشرة سنة، لكن كم بقي عليه حتى يصل إلى ست عشرة سنة؟ تخمين، وكم مضى عليه منذ وصل إلى ست عشرة سنة؟ تخمين.
والمؤلف رحمه الله يسوق هذا الحديث هنا ليبين أن الصغير الذي يحجر عليه لعدم الأهلية المالية حده خمس عشرة سنة، فإذا كان عمره خمس عشرة سنة لا يحجر عليه، وإذا مات الرجل وترك من الأولاد من هم في سن أربع عشرة فأقل فهم في وصاية، ويقام عليهم وصي يتصرف في أموالهم بالحكمة لمصلحتهم، وإذا كان منهم من تجاوز الخمس عشرة سنة فليس عليهم وصاية، وعند أبي حنيفة سبع وعشرون سنة، وليس هناك وقت ابتداء للحجر بوصف الصغر، لكن قد يأتي الحجر بعد ذلك لوصف السفه.
والصغير لا يعطى ماله إلا بعد البلوغ والرشد، يقول المولى سبحانه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] ، وقبل هذا قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ، فالسفيه لا يتحكم في المال بل نحجر عليه، وإذا آنسنا من الصغار الرشد بعد التمرين والتدريب، بأن نعلمه البيع والشراء في الأشياء الخفيفة، فعند ذلك نعطيه ماله بعد البلوغ والرشد، وكنا نشاهد في المدينة في الستينات الطفل الصغير يبيع الجاز والكبريت والملح، وأشياء خفيفة ليس فيها غبن عليه.


متى يفك الحجر عن الصبي؟
يفك الحجر عن الصبي إذا بلغ خمس عشرة سنة، وبعد البلوغ يجري القلم عليه في العبادات، ولكن في المعاملات يربط مع السن الرشد، وما هو الرشد؟ بعض العلماء يقولون: الرشد هو حسن التصرف في المال، وحسن التدبير في المال، والشافعي وغيره يقولون: أول صفات الرشد حفظ الدين، فينظر هل هو مستقيم في دينه أم لا؟ لأنه إذا كان مستقيماً في دينه يؤدي الصلوات ويصوم ويصدق في الحديث فسيحافظ على أمر دنياه، وهناك من يقول: لا، الدين للدين والدنيا للدنيا، فلو كان حصيفاً في ماله وسفيهاً في دينه ندفع إليه المال، والآخرون يقولون: إذا لم يكن رشيداً في دينه فسيضع المال في أي طريق كان، ولا يفرق بين حلال وحرام، ونص الشافعي على أن الصبي إذا بلغ الخامسة عشرة وهو يضيع ما بيده في اللعب فإنه سفيه لا يعطى له ماله، ومن السفه اللعب بالصواريخ النارية، فالعبرة في الحجر ليس مجرد العمر بل يشترط مع العمر وصف الرشد، وهذا نص كتاب الله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} ، فإذا بلغ الخامسة عشرة فقد تجاوز مرحلة اليتم، وتجاوز مرحلة الصغر، لكن ننظر هل رشد أم لا؟ فإن رشد فيكون قد اكتمل من الجانبين المادي والمعنوي، وإذا لم يكن مع البلوغ رشد فنقول: لا نعطيك مالك حتى تعقل.
إذاً: المؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث ليبين لنا الفرق بين البلوغ وعدم البلوغ، وهل البلوغ متوقف على أربع عشرة وخمس عشرة أو أن هناك علامات أخرى؟ يوجد علامات أخرى كما في قصة بني قريظة، فمن علامة البلوغ الإنبات، فنبات الشعر في العانة علامة على البلوغ، وإذا احتلم وأمنى فهو أيضاً علامة على البلوغ، وقد يحتلم في الثانية عشرة من عمره، وكذلك الجارية إذا حاضت، وتقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (إذا بلغت الجارية تسع سنوات فهي امرأة) فتكون قد بلغت، ولكن من حيث التكليف الشرعي والإلزام بالفرائض فحتى تبلغ خمس عشرة سنة.


حرص شباب الصحابة على الخير
قال ابن عمر: عُرضت فرفضت ثم عُرضت فقبلت، ما هذا العرض؟ وما الذي جاء به حتى يعرض؟ غلام عمره أربع عشرة سنة ويأتي ويزامل الرجال، ليس في نزهة أو رحلة، أو حفلة، بل في قتال تتطاير فيه الرءوس! انظروا كيف كان الشباب في ذلك الوقت! والآن صار الشباب شباب الموضة، وشباب التوليتة، لا تنسوا -يا إخوان- شباب الرعيل الأول، عمره أربع عشرة سنة ويزاحم الرجال، ويحمل السيف في القتال.
ولما استعرض النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر، كان غلام يمشي على أطراف أصابع قدميه، فقال له أخوه: لماذا تفعل هذا يا أخي؟! قال: أخشى أن يراني رسول الله فيتصاغرني فيردني، وأنا أحب الشهادة، سبحان الله! يتطاول على أصابع قدميه لئلا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيراً فيقول له: ارجع، أنت لا تصلح للجهاد، فيحتال للقتال، واستشهد فعلاً في غزوة بدر.
هذه النوعية -يا إخوان- من أين نأتي بها؟ هل من الشباب في هذا الوقت عشرة في المائة، أو خمسة في المائة مثل تلك النوعية؟ لا، لأنهم نشئوا أول ما نشئوا على الأخلاق الفاضلة، وعلى الفروسية، وهؤلاء نشئوا أول ما نشئو على الحضارة والمدنية.
نريد أن نغرس في نفوس أبنائنا أصالة الإسلام، وأن نوجد آثاره في حياتهم العملية، فهذا ابن عمر رضي الله تعالى عنه يعرض يوم أحد، وتعرفون كم كان عدد الكفار، والنسبة بين الطرفين، فيرد لصغره! وعرض رافع بن خديج وسمرة بن جندب في أحد، فرد أحدهما فذهب الآخر يبكي عند أبيه، قال: ماذا بك تبكي؟! قال: (أجاز النبي عليه الصلاة والسلام فلاناً وردني وأنا أصرعه، فذهب أبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ولدي يقول: كذا وكذا -يا رسول الله- فأجزه، فناداهما الاثنين وتصارعا أمامه، وفعلاً صرعه فأجازه) .


شرح حديث: (عرضنا يوم قريظة فكان من أنبت قتل ... )
قال رحمه الله: [وعن عطية القرظي رضي الله تعالى عنه قال: (عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي) رواه الأربعة] .
البلوغ يحصل إما ببلوغ خمس عشرة سنة، وإما بنبات الشعر في العانة، وهذه علامة بارزة ترتبط بسن البلوغ وبدء الأهلية، وعلامة الإمناء قد تكون مبكرة عن هذا الحد، فبعض الفتيات قد تحتلم، في تسع سنوات، وبعض الشباب في سن اثنتي عشر قد يحتلم ويكون بالغاً من الناحية الجنسية، وليس بالغاً من الناحية الأهلية، وبالله تعالى التوفيق.


شرح حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)
قال رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجوز للمرأة عطية إلا بإذن زوجها، وفي لفظ: لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها) ] .
هذا الحديث يشعر أن الزوجة إذا ملك الزوج عصمتها حجر عليها أن تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، وهذا هو مذهب مالك رحمه الله، فعنده أن المرأة إذا تزوجت لا تتصرف في مالها إلا بإذنه، وعند غيره أن المرأة لها حق التصرف في مالها ما لم يكن هناك سفه، أو هناك تضييع، والمقصود بمالها: المملوك لها خاصة سواء كان ميراثاً عن أبيها أو أمها، أو هدية أو تجارة، بخلاف مال زوجها فإنها لا تملك فيه إلا التصرف بالمعروف كإعطاء السائل، وإعارة المتاع واسترجاعه، والجمهور على أن هذا من باب الإرشاد، واحتياطاً لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ، وقالوا: إن المرأة قد لا تحسن التصرف في المال، وقد جاءت النصوص المشهورة في تصرف المرأة بمالها بغير إذن زوجها؛ فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عيد، ثم أتى النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بقرطها، أو بخاتمها، أو بسوارها، وتلقي من حليها الذي معها في حجر بلال رضي الله تعالى عنه، ولم تستأذن زوجها في هذا التصرف، وكان الرجال في جهة والنسوة في جهة.
وكانت خديجة رضي الله تعالى عنها تقدم المال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تنفق عليه صلوات الله وسلامه عليه، وكون المرأة إذا تزوجت وأصبحت في عصمة رجل؛ لا تتصرف في مالها، هذا مذهب المالكية، وبعضهم يحد ذلك بسنتين إلى أن يعرف حصافتها في مالها، وحسن تدبيرها فيه، وعلى كلٍ، فهذا الحديث للإرشاد.
واتفقوا على أنه لا يحق للمرأة إذا دخلت في أشهر الحمل الأخيرة أن تتصرف في شيء من مالها، قيل: إذا أنهت الشهر السادس، وقيل: إذا أخذها المخاض، فإذا أخذها المخاض فلا يحل لها بيع ولا شراء ولا وصية؛ لأنها في حالة يخشى عليها فيها من الموت، وتكون كمن وقف في الصف في المعركة، فإنه لا يحل له أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن المال معرض لأن ينتقل منه إلى الورثة، وكذلك المريض مرضاً مخوفاً فلا يحق له التبرع ولا الوصية إلا في حدود ما سمح به الشارع، وهو ثلث المال، فالمرأة إذا أخذها المخاض تمنع من التصرف في مالها مطلقاً، وإذا أنهت الشهر السادس كان ذلك على سبيل الكراهية، وإذا كانت غير حامل وكانت في عصمة رجل فإن أمرها قد انتقل من أمر أبيها إلى زوجها، وهذا مما يعظم حق الزوج على الزوجة، حتى إنه يتحكم في مالها الذي لا يخصه، وغير مالك جعل ذلك للإرشاد، ولها أن تتصرف في مالها، ولها أهلية التصرف في المال كغيره من الأمور التي لها الحق فيها، والله تعالى أعلم.


شرح حديث: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ... )
قال رحمه الله: [وعن قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة) ] .
تقدم وجوب التعفف عن المسألة وأن: (من سأل وعنده أوقية أتى يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم) ، وقد ذكرنا قصة الشاب الذي جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أراك قوياً جلداً! قال: ليس عندي شيء وعندي عجوز في البيت، قال: ماذا عندك في البيت؟ قال: حلس نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعب نأكل ونشرب فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: علي بهما، فأخذهما صلى الله عليه وسلم وقال: من يشتري هذا؟ فقال رجل: بدرهم، فقال: من يزيد؟ قال رجل: بدرهمين، فباع ذلك عليه وأعطى الشاب الدرهمين وقال: اشتر طعاماً لأهلك، واشتر بدرهم فأساً وحبلاً وأتني بهما، فجاءه بالفأس والحبل، فأخذ الفأس ووضع فيها عوداً وقال: اذهب واحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب يحتطب ويبيع ويستغني بما يعود عليه من هذا العمل، ثم جاء بعد الموعد ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب جديد ومعه دراهم، فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم فأساً وحبلاً فيحتطب فيبيع فيستغني؛ خير له من أن يتكفف الناس السؤال) وقال عليه الصلاة والسلام: (ومن يصبر يصبره الله) وقال: (ما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) فالصبر على الحاجة أولى من مد اليد.
وهنا في باب الحجر يبين المؤلف متى يجوز للإنسان أن يسأل، والواجب أن يكف الإنسان عن المسألة، والمسألة بمعنى السؤال، والسؤال والمسألة يأتيان اصطلاحاً في سؤال استفسار كما يسأل طالب العلم أو المستفتي في مسألة نازلة به ويطلب حكمها، قال الله: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] ، وهذا من باب المسألة في العلم سواءً ما يتوقع أو لا يتوقع، وتكون المسألة بمعنى سؤال الحاجة، وطلب العون، سواءً كان نقداً أو متاعاً أو مساعدة كشفاعة بجاه إنسان عند إنسان آخر، وهذه المسألة هي المرادة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل المسألة إلا لإحدى ثلاثة) ، والمراد بالثلاثة هنا: الجنس، وليس ثلاثة أشخاص فقط، ولكن ثلاثة أصناف من الناس هم الذين تحل لهم المسألة.


جواز السؤال لمن تحمل حمالة
قال عليه الصلاة والسلام: (رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) .
رجل تحمل حمالة أو امرأة، وذلك بأن تكون هناك خصومة بين الناس، أو نزاع، ويشتد الأمر بين الطرفين، ويحتاج الأمر إلى تدخل من يصلح بينهما، ويكون النزاع على مال، فيأتي إنسان خير ذو مروءة فيتحمل الشيء الذي تنازعوا عليه، وكل يدعيه لنفسه، فهذا تحمل حمالة لغير منفعته الخاصة، ولكن للإصلاح بين الناس.
وسيأتي في هذا الكتاب باب الصلح وحكم الجوار، ويبين فيه أقسام الصلح، وهذا الباب من أهم أبواب الفقه، قيل: إن جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة تتمنى أن تكون من أهل الأرض لكثرة ما ترى من ثواب عملين، وهما: الإصلاح بين الناس، وسقي الماء، فالذي يتحمل حمالة فهو ساع للإصلاح بين المتنازعين، وإن كان أصل النزاع على مال أو نفس تحمل الغرم، كما قيل: سعى ساعياً غيض بن مرة بعدما تبذل بين العشيرة بالدم تحمل ديات الفريقين، وأصلح بينهما، فالذي تحمل هذا لمصلحة الطرفين وجبت مساعدته، ولا نتركه يتحمل من ماله، فله أن يأخذ من الزكاة، وله أن يسأل ولو كان وفير المال؛ لأنه لم يتحمل لمصلحة شخصه، وإنما توسط مروءة وإصلاحاً، فلو تركنا كل إنسان يتدخل بالإصلاح بين الناس ويتحمل ما يدفعه للإصلاح من عين ماله، لأحجم الناس عن هذا التدخل، وتركوا هذا العمل الخير، وبقي النزاع بين الناس، ولكن ما دام أنه تحمل الغرم لمصلحة الآخرين، فعلى الآخرين أن يساعدوه، وأن يعطوه ما سأل حتى يبلغ ما تحمله، فإن كانت القضية تحتاج إلى تحمل ألف، أو مائة ألف، أو مائتين ألف ريال أو أكثر أو أقل، فإذا أصاب بمسألته ما يوفي عنه حمالته كف عن المسألة؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فما دامت الحمالة موجودة فله حق في السؤال، وما دامت قد زالت وارتفعت فليس له حق، ووجب عليه أن يكف عن المسألة.


جواز السؤال لمن أصابته جائحة
وقوله: (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) .
مثلاً: إنسان صاحب تجارة، وله سفن في عرض البحار، تحمل تجارته ورأس ماله، فجاءت (أمواج عاتية، ورياح صاخبة، فأغرقت تلك السفن، فهذه جائحة أصابت ماله، وبقي لا مال عنده، فهل نتركه على هذه الحالة؟ لا، بل تحل له المسألة، وهل يسأل حتى يحصل على ما فات عليه؟ لا، فقد يكون فات عليه الشيء الكثير جداً، ولكن كما قال عليه الصلاة والسلام: (حتى يصيب قواماً من عيش) ، أي: المال الذي يقيم حياته ومعيشته على نمط أمثاله في حياتهم، ولا نقول: ينبغي أن يكتفي بأقل ما يمكن أن يعيش به إنسان، فإذا كانت له عائلة، وله أولاد، وله التزامات، فإن له أن يسأل (حتى يصيب قواماً من عيش) ، حتى يكون كأمثاله في حياتهم اليومية، لا أن يستمر في المسألة حتى يستعيض كل ما افتقده من تجارته، فقد يكون افتقد الشيء الكثير.
ومثل ذلك إذا أصيب ماله بحريق أو بغرق أو بلصوص، المهم أي جائحة عامة اجتاحت ماله، كان بالليل غنياً فأصبح فقيراً كما قيل: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وما يدري الفقير متى غناه، فالغني أمر بيد الله، وما يدري الغني متى يعيل: يعيل بمعنى: يفتقر: وما تدري وإن ذمرت سقباً يكون لك أم لغيرك ذا الفصيل إذا كانت لك ناقة حامل، وذمرت سقبها، فلا تدري: أيكون لك هذا الفصيل، وتعيش حتى يكبر وتستمع به أم تتركه مع عنايتك به لغيرك؟ فهذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، ولا يقدر قدرها إلا الله، فإذا كان إنسان صاحب مال واجتاحت ماله جائحة، فتجب مساعدته من باب التعاون الإسلامي، أو كما يقولون: التضامن الاجتماعي، فأخوة الإسلام تجعل المسلم مع المسلم كالجسد الواحد، وأي فرد آخر أصيب بمثل ذلك فيساعده الجميع، فهو أخوهم قد أصيب بهذه الجائحة، فمن حقه عليهم أن يساعدوه، (وله أن يسأل حتى يصيب قواماً من عيش) .


جواز السؤال لمن أصابته فاقة
وقوله: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة) .
وهذا شخص ثالث، فالأول: تحمل حمالة لغيره، فيأخذ حتى يسترد ما تحمل، ولو كان عنده مال؛ لأنه فاعل خير لغيره، فوجب تعاون المسلمين معه، والثاني: ماله موجود، ولكن اجتاحته جائحة فأصبح معدماً، وهذا من حقه على إخوانه المسلمين أن يتعاونوا معه، وإذا سأل حلت له المسألة (حتى يصيب قواماً من عيش) ولا نتركه -بعد أن كان ذا مال وفير- يتكفف الناس السؤال؛ لأن هذا أصعب ما يكون عليه، وهذا أصعب عليه من ضياع ماله واجتياحه؛ لأنه ما تعود هذا، بخلاف الشخص الذي نشأ على المسألة، فلا يهمه أن يسأل أعطوه أو طردوه، عبسوا في وجهه أو استبشروا في وجهه؛ لأنه تعوّد على ذلك فلا يضيره، بخلاف الشخص العفيف المستغني بماله الذي لم يتعود المسألة، فإنه إذا اضطر إلى قرضة من المال، توقف وأحجم أن يطلب من أحد قرضاً، مع أنه سيقترض ويرد؛ لأن القرض يشعر بالحاجة، فمن حقه على المسلمين أن يعطوه ويساندوه (حتى يصيب قواماً من عيش) .
وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو أن رجلاً مات جوعاً في محلة قوم لألزمتهم ديته، لأنه كان يجب عليهم أن يطعموه، ومن هنا يحق للمسلم أن يعلن للعالم: أن ما تدعونه من الضمان الاجتماعي هو موجود في الإسلام بأكثر مما لديكم، ولا ننسى فريضة الزكاة، فهي ضمان إجباري: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، فيجب أن يتميز المجتمع الإسلامي بالتعاطف والتراحم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) يعني: أحس بشكوى العضو، ولو كان في أقصى العالم، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ، فهذا الأول والثاني.
والثالث: لم يتحمل حمالة لغيره، ولم يك ذا مال فاجتاحت ماله جائحة ولكنه ضعيف الحال، فقير أصابته فاقة، ودخله بقدر حاجته، ولكنه في بعض الظروف تعطلت روافد مصرفه، مثلاً: كانت له تجارة فتعطلت، أو كانت له تجارة فخسر فيها، أو كانت له زراعة فقل دخلها، فأصابته فاقة بأي سبب، ومهما كانت الأسباب فمادام أنه قد أصابته الفاقة، وهو في حالة الحاجة والاضطرار؛ فحينئذ له الحق أن يسأل، وإلى متى؟ (حتى يصيب قواماً من عيش) .


شهادة ثلاثة لمن أصابته فاقة وشروطهم
الثالث الذي أصابته الفاقة لابد أن يشهد له ثلاثة من ذوي الحجا بأنه قد أصابته فاقة، والأصل في الشهادة كما قال الله: {ذَوَى عَدْلٍ} [الطلاق:2] ، ولو شهد اثنان على إنسان في قتل نفس لقتل، فيقتل المسلم بشهادة رجلين، وهنا يشترط صلى الله عليه وسلم أن يقوم ثلاثة من ذوي الحجا، والحجا هو: العقل، فيشهدون بأن فلاناً هذا قد أصابته فاقة، والموجب لكون الشهادة هنا ثلاثة أشخاص، مع أنه يكتفى في الجنايات بشاهدين: أن الشاهدين في الجناية يشهدان في أمر ظاهر عياناً، فهما مثلاً رأياه يقتل بآله حادة أو يخنق، وشهدا على أمر ظاهر واضح، أما من أصابته الفاقة فهو في بيته، وهو في أمره وشأنه، فلا نعلم حقيقة مدخله وحقيقة معيشته؛ ولهذا يشترط في هؤلاء الشهود: أن يكونوا من محلته التي يسكن فيها، وأن يكونوا من ذوي الحجا ممن يدركون ويعرفون مداخل الرجل، ويقارنون بين دخله وبين نفقته؟


الموظف قد يكون فقيراً
لو أن موظفاً له راتب شهري، ولكن لوازم حياته ومستلزماته أكثر من هذا الراتب، فهل يكون غنياً أو فقيراً؟ الفقهاء حددوا المسكين بأنه من كان دخله أقل من نفقته، والفقير من لا دخل له، كما في الآية: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] ، كان عندهم سفينة يعملون في البحر، ويكرونها، ومع ذلك سماهم مساكين؛ لأن دخلهم من السفينة لا يكفي نفقة عوائلهم، وكذلك قد يكون حال صاحب وظيفة، صاحب معرض، صاحب سيارة، صاحب مزرعة، صاحب عمارة، صاحب أي سبب من الأسباب التي يتعاظمها الناس، وينظرون إليها نظرة إعجاب، فقد يكون الدخل مع عظم المورد لا يفي بالحاجة، وهذا أشق ما يكون في المجتمع؛ لأن من لا شيء له ظاهر: لا مزرعة، ولا معرض، ولا وظيفة، ولا شيء، فالكل يقول عنه: مسكين ليس عنده شيء، ويتعاطفون معه، لكن هذا يرون مظهره، ويرون دخله، فيرون أشياء عظيمة، ولا يعلمون بحاله! فالمورد قد لا يكفي، بل قد يكون له وقت معين، كما سئل أحمد عن رجل له مزرعة، وزرع فيها، ونبت الحب ونما وجف، ولم يبق عليه إلا الحصاد، وليس عنده ما يحصد به، وليس عنده نفقته، فهل يعطى من الزكاة؟ قال: يأخذ من الزكاة مع أنه بعد الحصاد سيكون لديه المال الوفير، لكن في هذه الساعة ليس عنده شيء.
وأجمعوا أنه إذا كان الرجل يملك منزلاً كبيراً يسعه ويسع غيره معه، وليس عنده نفقة، فله أن يأخذ من الزكاة؛ لأنه لن يأكل من هذا البيت الكبير! ولا يكلف ببيعه والسكن في بيت صغير، وهذا مستوى حياته.
فمن أصابته فاقة بأي سبب، وشهد له بالفاقة ثلاثة من ذوي الحجى، فله أن يسألها، وكان الشهود ثلاثة لأن المشهود به أمر خفي، وما كل إنسان حتى من الجيران يعلم بحقيقة أمره، ولن يقول له: كم راتبك؟ وكم مصرفك؟ وكم نفقة عيالك؟ وفي هذه الآونة الأخيرة خاصة، تنوعت وتوسعت مرافق الحياة، فالولد في المدرسة يحتاج، والمريض في المستشفى يحتاج، ونفقات المرافق العامة تحتاج، مثل فواتير كهرباء، وفواتير ماء، وفواتير هاتف، وكلها لوازم شهرية، وأنت تنظر إليه كل يوم في ثياب طيبة، ذاهب إلى الدائرة، وراجع من العمل، وتظن أنه يذهب خماصاً، ويرجع وقد ملأ جيوبه من المال! وهو راتب والله سبحانه وتعالى أعلم بحاله، ومعظم الموظفين -لا أقول: خمسون بالمائة بل الأكثر- ربما لا يأتي عليهم نهاية الشهر إلا وقد استدانوا.
إذاً: هذا الصنف من الناس يجب التنبه لهم؛ ولذا جعل الشارع ثلاثة من العقلاء الأذكياء الذين لهم بصيرة، ويعرفون حقيقة حياته وحقيقة معيشته، فيشهدون بأن فلاناً أصابته فاقة فعلاً، يعني: ليس عنده ما يكفي حاجته في هذه الحالة، ولا نقول له: يطير في السماء! ولكن نقول: له الحق أن يسأل ويأخذ حتى يسد حاجته، وفي هذا الحديث بيان وجوب التعفف، وإعطاء الفرد المسلم حقه بما يسد حاجته، وتعاون المجتمع في مثل هذه الحالات.
ومن هنا -يا إخوان- تجدون في المحاكم إذا ادعى إنسان إعساراً، وادعاء الإعسار لا يكون إلا في المدين، سواءً أعسر في نفقة شرعية، أو أعسر في نفقة سفه، أو أعسر في أمر مما يخصه هو، فيطلب منهم في المحاكم تقديم ثلاثة شهود، واثنان يزكيانهم، ويشهدان على صدقهم وأمانتهم ومعرفتهما بهم، وبالله التوفيق.