إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ط مؤسسة الرسالة

كتاب البيوع
مدخل
...
كتاب البيوع.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" 1.
وما في معناه من حديث حكيم بن حزام وهو:
2 - قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" 2.
الحديث: يتعلق بمسألة إثبات خيار المجلس في البيع وهو يدل عليه وبه قال الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث3 ونفاه مالك وأبو حنيفة ووافق ابن حبيب - من أصحاب مالك - من أثبته والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه والذي يحضرنا الآن من ذلك وجوه:
أحدها: أنه حديث خالفه راويه وكل ما كان كذلك: لم يعمل به.
أما الأول: فلأن مالكا رواه ولم يقل به.
وأما الثاني: فلأن الراوي إذا خالف فإما أن يكون مع علمه بالصحة فيكون فاسقا فلا تقبل روايته وإما أن يكون لا مع علمه بالصحة فهو أعلم بعلل ما روى فيتبع في ذلك.
وأجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: منع المقدمة الثانية وهو أن الراوي إذا خالف لم يعمل بروايته وقوله إذا كان مع علمه بالصحة كان فاسقا ممنوع لجواز أن يعلم بالصحة ويخالف لمعارض راجح عنده ولا يلزم تقليده فيه وقوله إن كان لا مع علمه بالصحة وهو أعلم بروايته فيتبع في ذلك ممنوع أيضا لأنه إذا ثبت الحديث بعدالة النقلة وجب العمل به ظاهرا فلا يترك بمجرد الوهم والاحتمال.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث مروي من طرق فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية
ـــــــ
1 البخاري "2112" ومسلم "1531" "44".
2 البخاري "2079" ومسلم "1532".
3 انظر موطأ مالك "2/424" وفيه قال مالك وليس لهذا عندنا حد معروف عندنا ولا أمر معمول به فيه.

(1/341)


مالك لم يتعذر من جهة أخرى وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ - أعني أن مخالفة الراوي لروايته تقدم في العمل بها - فإنه على هذا التقدير: يتوقف العمل برواية مالك ولا يلزم من بطلان مأخذ معين بطلان مأخذ الحكم في نفس الأمر.
الوجه الثاني من الاعتذارات: أن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول فهذا غير مقبول.
أما الأول: لأن البياعات مما تتكرر مرات لا تحصى ومثل هذا تعم البلوى بمعرفة حكمه وأما الثاني: فلأن العادة تقتضي أن ما عمت به البلوى يكون معلوما عند الكافة فانفراد الواحد به على خلاف العادة فيرد.
وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.
أما الأولى - وهو أن البيع بما تعم به البلوى - فالبيع كذلك ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البياعات فإن الظاهر من الإقدام على البيع: الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة.
وأما الثانية: فلأن المعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية وقد وجد ذلك وعدم نيل غيره لا يصلح معارضا لجواز عدم سماعه للحكم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين وعلى تقدير السماع: فجائز أن يعرض مانع من النقل أعني نقل غير هذا الراوي فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفى الشيء عن أهل التواتر وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل.
الوجه الثالث من الاعتذارات: هذا حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها وما كان كذلك لا يعمل به.
أما الأول: فنعني بمخالف الأصول القياسية: ما ثبت الحكم في أصله قطعا وثبت كون الفرع في معنى المنصوص لم يخالف إلا فيما يعلم عروة عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم وههنا كذلك فإن منع الغير من إبطال حق الغير: ثابت بعد التفرق قطعا وما قبل التفرق في معناه لم يفترقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة.
وأما الثاني: فلأن القاطع مقدم على المظنون لا محالة وخبر الواحد مظنون وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.
أما الأولى: فلا نسلم عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما لا يعتبر من المصالح وذلك لأن البيع يقع بغتة من غير ترو وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه فيناسب إثبات الخيار لكل.

(1/342)


واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته الخيار لكل واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته مطلقا فيما بعد التفرق وقبله فإنه رفع لحكمة العقد والوثوق بالتصرف فجعل مجلس العقد حريما لاعتبار هذه المصلحة وهذا معنى معتبر لا يستوي فيه ما قبل التفرق مع ما بعده.
وأما الثانية: فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد فإن الأصل يثبت بالنصوص والنصوص ثابتة في الفروع المعينة وغاية ما في الباب أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها أو تعبدا فيجب اتباعه.
الوجه الرابع من الاعتذارات: هذا حديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم وما كان كذلك يقدم عليه العمل فهذا يقدم عليه العمل.
أما الأول: فلأن مالكا قال عقيب روايته وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به فيه.
وأما الثاني: فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم في مهبط الوحي ووفاة الرسول بين أظهرهم ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل راجح ولا تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: منع المقدمة الأولى وهو كون المسألة من إجماع أهل المدينة وبيانه من ثلاثة أوجه:
منها: أنا تأملنا لفظ مالك فلم نجده مصرحا بأن المسألة إجماع أهل المدينة ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه.
ومنها: أن هذا الإجماع إما أن يراد به إجماع سابق أو لاحق والأول باطل لأن ابن عمر رأس المفتين في المدينة في وقته وقد كان يرى إثبات خيار المجلس.
والثاني: أيضا باطل فإن ابن أبي ذئب - من أقران مالك ومعاصريه - وقد أغلظ على مالك لما بلغه مخالفته للحديث.
وثانيهما: منع المقدمة الثانية وهو أن إجماع أهل المدينة وعملهم مقدم على خبر الواحد مطلقا فإن الحق الذي لا شك فيه: أن عملهم وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه وكيف يمكن أن يقال: بأن من كان بالمدينة من الصحابة رضوان الله عليهم يقبل خلافه باعتبار

(1/343)


صفات قائمة به حيث حل فتفرض المسألة فيما اختلف فيه أهل المدينة مع بعض من خرج منها من الصحابة بعد استقرار الوحي وموت الرسول صلى الله عليه وسلم فكل ما قيل من ترجيح لأقوال علماء أهل المدينة وما اجتمع لهم من الأوصاف قد كان حاصلا لهذا الصحابي ولم يزل عنه بخروجه وقد خرج من المدينة أفضل أهل زمانه في ذلك الوقت بالإجماع من أهل السنة وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال أقوالا بالعراق فكيف يمكن إهدارها إذا خالفها أهل المدينة؟ وهو كان رأسهم وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه ومحله من العلم معلوم وغيرهما قد خرجوا وقالوا أقوالا على أن بعض الناس يقول: إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة مختلف فيها بالمدينة وادعى العموم في ذلك.
الوجه الخامس: ورد في بعض الروايات للحديث: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله" 1 فاستدل بهذه الزيادة على عدم ثبوت خيار المجلس من حيث إنه لولا أن العقد لازم لما احتاج إلى الاستقالة ولا طلب الفرار من الاستقالة.
وأجيب عنه: بأن المراد بالاستقالة: فسخ البيع بحكم الخيار وغاية ما في الباب: استعمال المجاز في لفظ الاستقالة لكن جاز المصير إليه إذا دل الدليل عليه وقد دل من وجهين.
أحدهما: أنه علق ذلك على التفرق فإذا حملناه على خيار الفسخ صح تعليقه على التفرق لأن الخيار يرتفع بالتفرق وإذا حملناه على الاستقالة فالاستقالة لا تتوقف على التفرق ولا اختصاص لها بالمجلس.
الثاني: أنا إذا حملناه على خيار الفسخ فالتفرق مبطل له قهرا فيناسب المنع من التفرق المبطل للخيار على صاحبه أما إذا حملناه على الإقالة الحقيقة: فمعلوم أنه لا يحرم على الرجل أن يفارق صاحبه خوف الاستقالة ولا يبقى بعد ذلك إلى النظر فيما دل عليه الحديث من التحريم.
الوجه السادس: تأويل الحديث بحمل المتبايعين على المتساومين لمصير حالهما إلى البيع وحمل الحمار على خيار القبول.
وأجيب عنه: بأن تسمية المتساومين متبايعين مجاز.
واعترض على هذا الجواب: بأن تسميتهما متبايعين بعد الفراغ من البيع مجاز أيضا فلم فلتم: إن الحمل على هذا المجاز أولى؟ فقيل عليه: إنه إذا صدر البيع فقد وجدت الحقيقة فهذا المجاز أقرب إلى الحقيقة من مجاز لم توجد حقيقته أصلا عند إطلاقه وهو الحمل على المتساومين.
ـــــــ
1 أبو داود "3456" والترمذي "1247" والنسائي "4488" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

(1/344)


الوجه السابع: حمل التفرق على التفرق بالأقوال وقد عهد ذلك شرعا قال الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَ} [النساء: 130] أي عن النكاح.
وأجيب عنه: بأنه خلاف الظاهر فإن السابق إلى الفهم: التفرق عن المكان وأيضا فقد ورد في بعض الروايات: "ما لم يتفرقا عن مكانهما" 1 وذلك صريح في المقصود.
وربما اعترض على الأول بأن حقيقة التفرق: لا تختص بالمكان بل هي عائدة إلى ما كان الاجتماع فيه وإذا كان الاجتماع في الأقوال: كان التفرق فيها وإن كان في غيرها: كان التفرق عنه.
وأجيب عنه: بأن حمله على غير المكان بقرينة: يكون مجازا.
الوجه الثامن: قال بعضهم: تعذر المكان بظاهر الحديث فإنه أثبت الخيار لكل واحد من المتبايعين على صاحبه فالحال لا تخلوا: إما أن يتفقا في الاختيار أو يختلفا فإن اتفقا لم يثبت لواحد منهما على صاحبه خيار وإن اختلفا - بأن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمضاء - فقد استحال أن يثبت على كل واحد منهما لصاحبه الخيار إذ الجمع بين الفسخ والإمضاء مستحيل فيلزم تأويل الحديث ولا نحتاج إليه ويكفينا صدكم عن الاستدلال بالظاهر.
وأجيب عنه بأن قيل: لم يثبت صلى الله عليه وسلم مطلق الخيار بل أثبت الخيار وسكت عما فيه الخيار فنحن نحمله على خيار الفسخ فيثبت لكل واحد منهما خيار الفسخ على صاحبه وإن أبي صاحبه ذلك.
الوجه التاسع: ادعاء أنه حديث منسوخ إما لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس وذلك يدل على النسخ وإما لحديث اختلاف المتبايعين2 فإنه يقتضي الحاجة إلى اليمينين وذلك يستلزم لزوم العقد فإنه لو ثبت الخيار لكان كافيا في رفع العقد عند الاختلاف وهو ضعيف جدا.
أما النسخ لأجل عمل أهل المدينة: فقد تكلمنا عليه والنسخ لا يثبت بالاحتمال ومجرد المخالفة لا يلزم منه أن يكون للنسخ لجواز أ يكون التقديم لدليل آخر راجح في ظنهم عند تعارض الأدلة عندهم.
ـــــــ
1 أخرجه البيهقي في سننه "5/271" عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا عن مكانهما" الحديث وانظر نصب الراية للزيلعي "4/2".
2 أخرج أحمد في مسنده "4444" والترمذي "1270" عن ابن مسعود مرفوعا: "إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار" وقد أخرج نحوه أبو داود "3511" والنسائي "4652".

(1/345)


وأما حديث اختلاف المتبايعين فالاستدلال به ضعيف جدا لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق وزمن المجلس فيحمل على ما بعد التفرق ولا حاجة إلى النسخ والنسخ ولا يصار إليه إلا عند الضرورة.
الوجه العاشر: حمل الخيار على خيار الشراء أو خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو المثمن وإذا تردد لم يتعين حمله على ما ذكرتموه.
وأجيب عنه: بأن حمله على خيار الفسخ أولى لوجهين:
أحدهما: أن لفظة الخيار قد عهد استعمالها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيار الفسخ كما في حديث حبان بن منقذ: "ولك الخيار" 1 بالمراد منه خيار الفسخ وحديث المصراة: "فهو بالخيار ثلاثا" 2 والمراد خيار الفسخ فيحمل الخيار المذكور ههنا عليه لأنه لما كان معهودا من النبي صلى الله عليه وسلم كان أظهر في الإرادة.
الثاني: قيام المانع من إرادة كل واحد من الخيارين أما خيار الشراء: لأن المراد من اسم المتبايعين المتعاقدان والمتعاقدان: من صدر منهما العقد وبعد صدور العقد منهما لا يكون لهما خيار الشراء فضلا عن أن يكون لهما ذلك إلى أوان التفرق.
وأما خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو بالمثمن: فلا يمكن الحمل عليه عند من يرى ثبوته مطلقا أو عدمه مطلقا لأن ذلك الخيار: إن لم يكن لهما فلا يكون لهما إلى أوان التفرق وإن كان: فيبقى بعد التفرق عن المجلس فكيفما كان لا يكون ذلك الخيار لهما ثابتا مغيا إلى غاية التفرق والخيار المثبت بالنص ههنا: هو خيار مغيا إلى غاية التفرق ثم الدليل على أن المراد من الخيار هذا ومن المتبايعين ما ذكر: أن مالكا نسب إلى مخالفة الحديث وذلك لايصح إلا إذا حمل الخيار والمتبايعان والافتراق على ما ذكر هكذا قال بعض النظار إلا إنه ضعيف فإن نسبة مالك إلى ذلك ليست من كل الأمة ولا أكثرهم.
ـــــــ
1 لم نجده بهذا اللفظ وانظر تحقيق الإمام ابن حجر في تلخيص الحبير "3/21" حول هذه الرواية.
2 سيأتي تخريجه.

(1/346)


باب ما نهى عنه في البيوع.
1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن المنابذة - وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه - ونهى عن الملامسة والملامسة: لمس الثوب ولا ينظر إليه"1.
ـــــــ
1 البخاري "2144" ومسلم "1512" واللفظ للبخاري

(1/346)


اتفق الناس على منع هذين البيعين واختلفوا في تفسير الملامسة فقيل: هي أن يجعل اللمس بيعا بأن يقول: إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا وكذا وهذا باطل للتعليق في الصيغة وعدوله عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعا وقد قيل: هذا من صور المعاطاة وقيل: تفسيرها أن يبيعه على أنه إذا لمس الثوب فقد وجب البيع وانقطع الخيار وهو أيضا فاسد بالشرط الفاسد وفسره الشافعي رحمه الله: بأن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه الراغب ويقول صاحب الثوب: بعتك هذا بشرط أن يقوم لمسك مقام النظر وهذا فاسد إن أبطلنا بيع الغائب وكذا إن صححناه لإقامة اللمس مقام النظر وقيل يتخرج على نفي شرط الخيار.
وأما لفظ الحديث الذي ذكره المصنف فإنه يقتضي أن جهة الفساد: عدم النظر والتقليب وقد يستدل به من يمنع بيع الأعيان الغائبة عملا بالعلة ومن يشترط الوصف في بيع الأعيان الغائبة لا يكون الحديث دليلا عليه لأنه ههنا لم يذكر وصفا.
وأما المنابذة فقد ذكر في الحديث: "أنها طرح الرجل ثوبه لا ينظر إليه" والكلام في هذا التعليل كما تقدم.
واعلم أن في كلا الموضعين يحتاج إلى الفرق بين المعاطاة وبين هاتين الصورتين فإذا علل بعدم الرؤية المشروطة: فالفرق ظاهر وإذا فسر بأمر لا يعود إلى ذلك: احتيج حينئذ إلى الفرق بينه وبين مسألة المعاطاة عند من يجيزها.
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولاتصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" 1 وفي لفظ: "هو بالخيار ثلاثا" 2.
تلقي الركبان من البيوع المنهي عنها لما يتعلق به من الضرر وهو أن يتلقى طائفة يحملون متاعا فيشتريه منهم قبل أن يقدموا البلد فيعرفوا الأسعار.
والكلام فيه في ثلاثة مواضع:
أحدها: التحريم فإن كان عالما بالنهي قاصدا للتلقي: فهو حرام وإن خرج لشغل آخر فرآهم مقبلين فاشتري: ففي إثمه وجهان للشافعية أظهرهما: التأثيم.
الموضوع الثاني: صحة البيع أو فساده وهو عند الشافعي: صحيح وإن كان آثما وعند غيره من العلماء: يبطل ومستنده: أن النهي للفساد ومستند الشافعي: أن النهي لا يرجع إلى نفس
ـــــــ
1 البخاري "2150" ومسلم "1515" "11".
2 مسلم "1524" "24".

(1/347)


العقد ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان وذلك لا يقدح في نفس البيع.
الموضع: الثالث: إثبات الخيار فحيث لا غرور للركبان بحيث يكونون عالمين بالسعر فلا خيار وإن لم يكونوا كذلك فان اشترى منهم بأرخص من السعر فلهم الخيار وما في لفظ بعض المصنفين من: "أنه يخبرهم بالسعر كاذبا" ليس بشرط في إثبات الخيار وإن اشترى منهم بمثل سعر البلد أو أكثر ففي ثبوت الخيار لهم وجهان للشافعية منهم من نظر إلى لفظ حديث ورد بإثبات الخيار لهم1 فجرى على ظاهره ولم يلتفت إلى المعنى وإذا أثبتنا الخيار: فهل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي والأظهر: الأول.
وأما قوله: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" فقد فسر في مذهب الشافعي بأن يشتري شيئا فيدعوه غيره إلى الفسخ ليبيعه خيرا منه بأرخص وفي معناه: الشراء على الشراء وهو أن يدعوا البائع إلى الفسخ ليشتريه منه بأكثر وهاتان الصورتان إنما تتصوران فيما إذا كان البيع في حالة الجواز وقبل اللزوم وتصرف بعض الفقهاء في هذا النهي وخصصه بما إذا لم يكن في الصورة غبن فاحش فإن كان المشتري مغبونا فيدعوه إلى الفسخ ويشتريه منه أكثر.
ومن الفقهاء من فسر البيع على البائع بالسوم على السوم وهو أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له إنسان رده لأبيع منك خيرا منه وأرخص أو يقول لصاحبه: استرده لأشتريه منك بأكثر وللتحريم في ذلك عند أصحاب الشافعي شرطان:
أحدهما: استقرار الثمن فأما من يباع فيمن يزيد: فللطالب أن يزيد على الطالب ويدخل عليه.
والثاني: أن يحصل التراضي بين المتساومين صريحا فإن وجد ما يدل على الرضا من غير تصريح: فوجهان وليس السكوت بمجرده من دلائل الرضا عند الأكثرين منهم.
وأما قوله: "ولا تناجشوا" فهو من المنهيات لأجل الضرر وهو أن يزيد في سلعة تباع ليغر غيره وهو راغب فيها واختلف في اشتقاق اللفظة فقيل: إنها مأخوذة من معنى الإثارة كأن الناجش يثير همة من يسمعه للزيادة وكأنه مأخوذ من إثارة الوحش من مكان إلى مكان وقيل: أصل اللفظة: مدح الشيء وإطراؤه ولا شك أن هذا الفعل حرام لما فيه من
ـــــــ
1 مسلم "1519" "17" ولفظه: "لا تلقوا الجلب فمن تلقي فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار".

(1/348)


الخديعة وقال بعض الفقهاء: بأن البيع باطل ومذهب الشافعي: أن البيع صحيح وأما إثبات الخيار للمشتري الذي غر بالنجش: فإن لم يكن النجش عن مواطاة من البائع فلا خيار عند أصحاب الشافعي.
وأما: "بيع الحاضر للبادي" فمن البيوع المنهي عنها لأجل الضرر أيضا وصورته: أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه ويرجع فيأتيه البلدي فيقول: ضع عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر وذلك إضرار بأهل البلد وحرام إن علم بالنهي وتصرف بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي في ذلك فقالوا: شرطه أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فإن لم يظهر - لكثرته في البلد أو لقلة الطعام المجلوب -: ففي التحريم وجهان ينظر في أحدهما: إلى ظاهر اللفظ وفي الآخر: إلى المعنى وعدم الإضرار وتفويت الربح أو الرزق على الناس وهذا المعنى منتف وقالوا أيضا: يشترط أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه دون ما لا يحتاج إليه إلا نادرا وأن يدعوا البلدي البدوي إلى ذلك فإن التمسه البدوي منه فلا بأس ولو استشاره البدوي فهل يرشده إلى الادخار والبيع على التدريج؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي.
واعلم أن أكثر هذه الأحكام: قد تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياسين وحيث يخفى ولا يظهر ظهورا قويا فاتباع اللفظ أولى فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك: فلا يقوي لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البدوي وعدمه ظاهرا.
وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه: فمتوسط في الظهور وعدمه لاحتمال أن يراعي مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله صلى الله عليه وسلم: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" 1 وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فكذلك أيضا أي إنه متوسط في الظهور لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد.
وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيه ومنها مايؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أولا؟ ويظهر لك هذا باعتبار بعض ما ذكرناه من الشروط.
ـــــــ
1 مسلم "1522" من حديث جابر.

(1/349)


وقوله: "ولا تصروا الغنم" فيه مسائل:
الأول: الصحيح في ضبط هذه اللفظة: ضم التاء وفتح الصاد وتشديد الراء المهملة المضمومة على وزن تزكوا مأخوذ من صرى يصري ومعنى اللفظة: يرجع إلى الجمع تقول: صريت الماء في الحوض وصريته - بالتخفيف والتشديد - إذا جمعته و"الغنم" منصوبة بالميم على هذا ومنهم من رواه "لا تصروا" - بفتح التاء و ضم الصاد - من صر يصر إذا ربط. المصراة: هي التي تربط أخلافها ليجتمع اللبن والغنم على هذا: منصوبة الميم أيضا وأما ما حكاه بعضهم - من ضم التاء وفتح الصاد وضم ميم الغنم على ما لم يسم فاعله - فهذا لا يصلح مع اتصال ضمير الفاعل وإنما يصح مع إفراد الفعل ولا نعلم رواية حذف فيها هذا الضمير.
المسألة الثانية: لا خلاف أن التصرية حرام لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري والنهي يدل عليه مع علم تحريم الخديعة قطعا من الشرع.
المسألة الثالثة: النهي ورد عن فعل المكلف وهو ما يصدر باختياره وتعمده فترتب عليه حكم مذكور في الحديث فلو تحفلت1 الشاة بنفسها أو نسيها المالك بعد أن صراها لا لأجل الخديعة فهل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف بين أصحاب الشافعي فمن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس البائع ومن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس البائع ومن نظر إلى أن الحكم المذكور خارج عن القياس خصه بمورده وهو حالة العمد فإن النهي إنما يتناوله حالة العمد.
المسألة الرابعة: ذكر المصنف "لا تصروا الغنم" وفي الصحيح: "الإبل والغنم" وهذا هو محل التصرية والفقهاء تصرفوا وتكلموا فيما يثبت فيه هذا الحكم من الحيوان ولم يختلف أصحاب الشافعي أنه لا يختص بالإبل والغنم المذكورين في الحديث ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من عداه إلى النعم خاصة ومنهم من عداه إلى كل حيوان مأكول اللحم وهذا نظر إلى المعنى فإن المأكول اللحم يقصد لبنه فتفويت المقصود الذي ظنه المشتري بالخديعة موجب للخيار فلو حفل أتانا ففي ثبوت الخيار وجهان لهم من حيث إنه غير مقصود لشرب الآدمي إلا أنه مقصود لتربية الجحش وإذا اعتبر المعنى فلا ينبغي أن يصح هذا الوجه لأن إثبات الخيار يعتمد فوات أمر مقصود ولا يختص ذلك بأمر معين أعني الشرب مثلا.
وكذلك اختلفوا في الجارية من الآدميات لو حفلها وإذا أثبت الخيار في الأتان فالظاهر: أنه لا يرد لأجل لبنها شيئا ومن هذا يتبين لك: أن الأتان لا يقاس على المنصوص عليه في الحديث أعني الإبل والغنم لأن شرط القياس: اتحاد الحكم فينبغي أن يكون إثبات الخيار فيها من القياس على قاعدة أخرى وفي رد شيء لأجل لبن الآدمية خلاف أيضا.
ـــــــ
1 تحلفت الشاة أي اجتمع لبنها في ضرعها القاموس المحيط "ح ف ل".

(1/350)


المسألة الخامسة: قوله عليه السلام: "بعد أن يحلبها" مطلق في الحلبات لكن قد تقيد في رواية أخرى إثبات الخيار: "بثلاثة أيام" 1 واتفق أصحاب مالك على أنه إذا حلبها ثانية وأراد الرد: أن له ذلك واختلفوا إذا حلبها الثالثة هل يكون رضي بمنع الرد ورجحوا أن لا يمنع لوجهين.
أحدهما: الحديث.
والثاني: أن التصرية لا تتحقق إلا بثلاث حلبات فإن الحلبة الثانية إذا انقصت من الأولى: جوز المشتري أن يكون ذلك لاختلاف المرعى أو لأمر غير التصرية فإذا حلبها الثالثة تحقق التصرية وإذا كانت لفظة حلبها مطلقة فلا دلالة لها على الحلبة الثانية والثالثة وإنما يؤخذ ذلك من حديث آخر.
المسألة السادسة: قوله: "وإن سخطها ردها" يقتضي إثبات الخيار بعيب التصرية واختلف أصحاب الشافعي: هل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فقيل: يمتد للحديث وقيل: يكون على الفور طردا لقياس خيار الرد بالعيب ويتؤول الحديث والصواب: اتباع النص لوجهين:
أحدهما: تقديم النص على القياس.
والثاني: أنه خولف القياس في أصل الحكم لأجل النص فيطرد ذلك ويتبع في جميع موارده.
المسألة السابعة: يقتضي الحديث: رد شيء معها عندما يختار ردها وفي كلام بعض المالكية: ما يدل على خلافه من حيث إن الخراج بالضمان ومعناه: أن الغلة لمن استوفاها بعقد أو شبهته تكون له بضمانه فاللبن المحلوب إذا فات غلة فلتكن للمشتري ولا يرد لها بدلا والصواب: الرد للحديث على ما قررناه.
المسألة الثامنة: الحديث يقتضي رد الصاع مع الشاة بصريحه ويلزم منه عدم رد اللبن والشافعية قالوا: إن كان اللبن باقيا فأراد رده على البائع فهل يلزمه قبوله؟ وجهان:
أحدهما: نعم لأنه أقرب إلى مستحقه.
والثاني: لا لأن طراوته ذهبت فلا يلزمه قبوله واتباع لفظ الحديث أولى في أن يتعين الرد فيما نص عليه.
أما المالكية: فقد زادوا على هذا وقالوا: لو رضي به البائع فهل يجوز ذلك أم لا قولان ووجهوا المنع: بأنه بيع الطعام قبل قبضه لأنه وجب له الصاع بمقتضى الحديث.
ـــــــ
1 مسلم "1524" "24" في حديث أبي هريرة.

(1/351)


فباعه قبل قبضه باللبن ووجهوا الجواز: بأن يكون بناء على عادتهم في اتباع المعاني دون اعتبار الألفاظ.
المسألة التاسعة: الحديث يقتضي تعيين جنس المردود في التمر فمنهم من ذهب إلى ذلك وهو الصواب ومنهم من عداه إلى سائر الأقوات ومنهم من اعتبر في ذلك غالب قوت البلد وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صاعا من تمر لا سمراء" 1 وذلك رد على من عداه إلى سائر الأقوات وإن كان السمراء غالب قو البلد - أعني المدينة - فهو رد على قائله أيضا.
المسألة العاشرة: الحديث يدل على تعيين المقدار في الصاع مطلقا وفي مذهب الشافعي وجهان:
أحدهما: ذلك وأن الواجب الصاع قل اللبن أو كثر لظاهر الحديث.
والثاني: أنه يتقدر اللبن اتباعا لقياس الغرامات وهو ضعيف.
المسألة الحادية عشرة: قوله عليه السلام: "فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها" وقد يقال ههنا سؤال وهو أن الحديث يقتضي إثبات الخيار بعد الحلب أو الخيار ثابت قبل الحلب إذا علمت التصرية.
وجواله: أنه يقتضي إثبات الخيار في هذين الأمرين أعني الإمساك والرد مع الصاع وهذا إنما يكون بعد الحلب لتوقف هذين المعنيين على الحب لأن الصاع عوض عن اللبن ومن ضرورة ذلك: الحلب.
المسألة الثانية عشرة: لم يقل أبو حنيفة بهذا الحديث وروى عن مالك قول أيضا بعدم القول به والذي أوجب ذلك: أنه قيل حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة وما كان كذلك لا يلزم العمل به.
أما الأول - وهو أنه مخالف لقياس الأصول المعلومة - فمن وجوه:
أحدها: أن المعلوم من الأصول: أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المتقومات بالقيمة من النقدين وههنا إن كان اللبن مثليا كان ينبغي ضمانا بمثله لبنا وإن كان متقوما ضمن بمثله من النقدين وقد وقع ههنا مضمونا بالتمر فهو خارج عن الأصلين جميعا.
الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان مختلف لكنه قدر ههنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا فخرج من القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها وصفتها.
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه مسلم "1524 "26" من حديث أبي هريرة.

(1/352)


الثالث: أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد كما لو ذهبت بعض أعضاء المبيع ثم ظهر على عيب فإنه يمنع الرد وإن كان هذا اللبن حادثا بعد الشراء فقد حديث على ملك المشتري فلا يضمنه وإن كان مختلطا فما كان منه موجودا عند العقد منع الرد وما كان حادثا لم يجب ضمانه.
الرابع: إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط: لا تتقدر بالثلاث كخيار العيب وخيار الرؤية عند من ثبته وخيار المجلس عند من يقول به.
الخامس: يلزم من القول بظاهره: الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها.
السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإن استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع صاعا وشاة بصاع وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم فإنكم تمنعون مثل ذلك.
السابع: إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع وفي ذلك ضمان بالأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالغصوب وسائر المضمونات.
الثامن: قال بعضهم: إنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط.
وأما المقام الثاني - وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة: لم يجب العمل به - فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع وخبر الواحد مظنون والمظنون لا يعارض المعلوم.
أجاب القائلون بظاهر الحديث: بالطعن في المقامين جميعا أعني أنه مخالف للأصول وأنه إذا خالف الأصول لم يجب العمل به.
أما المقام الأول - وهو أنه مخالف للأصول - فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول وخص الرد لخبر الواحد بالمخالفة للأصول لا بمخالفة قياس الأصول وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول وفي هذا نظر.
وسلك آخرون تجريح جميع هذه الاعتراضات والجواب عنها.
أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما

(1/353)


ذكرتموه فإن الحر يضمن بالإبل وليست بمثل له ولا قيمة والجنين يضمن بالغرة1 وليست بمثل له ولا قيمة وأيضا فقد يضمن المثلى بالقيمة إذا تعذرت المماثلة وههنا تعذرت.
أما الأولى: فمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها مع اللبن ولا يجعل بإزلاء لبنها لبن آخر لتعذر المماثلة.
وأما الثاني: - وهو أنه تعذرت المماثلة ههنا - فلأن ما يرده من اللبن عوضا عن اللبن التالف لا تتحقق مماثلته له في المقدار ويجوز أن يكون أكثر من اللبن الموجود حالة العقد أو أقل.
وأما الاعتراض الثاني: فقيل في جوابه: إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه كالموضحة2 فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر والجنين مقدر أرشه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات والحر ديته مقدرة وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات والحكمة فيه: أن ما يقع فيه التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة.
وأما الاعتراض الثالث: فجوابه أن يقال: متى يمتنع الرد بالنقص: إذا كان النقص لاستعلام العيب أو إذا لم يكن؟ الأول: ممنوع والثاني: مسلم وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمنع الرد.
وأما الاعتراض الرابع: فإنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه وههنا هذه الصورة انفردت عن غيرها لأن الغالب: أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة المجتمع بأصل الخلفة المجتمع بأصل الخلقة واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب.
وأما الاعتراض الخامس: فقد قيل فيه: إن الخبر وارد على العادة والعادة: أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف وقيل: إن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العضو والمعوض.
وأما الاعتراض السادس: فقد قيل في الجواب عنه: إن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقاتلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض.
وأما الاعتراض السابع: فجوابه فيما قيل: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للبائع والآخر للمشتري وتعذر الرد لا
ـــــــ
1 الغرة: هي العبد أو الأمة تدفع كدية للجنين مختار الصحاح "غ رر".
2 الموضحة: هي الجرح العميق الذي يظهر منه العظم مختار الصحاح "و ض ح".

(1/354)


يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو عصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد.
وأما الاعتراض الثامن: فقيل فيه: إن الخيار يثبت بالتدليس كما لو باع رحا دائرة بماء قد جمعه لها ولم يعلم به.
وأما المقام الثاني - وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد - فقيل فيه: إن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول: نص صاحب الشرع عليها وهو موجود في خبر الواحد فيجب اعتباره وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا: فتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محل الخبر من ذلك الأصل.
وعندي: أن التمس بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول.
ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الاعتذار عن الحديث وهي ادعاء النسخ وأنه يجوز أن يكون ذلك من حيث كانت العقوبة بالمال جائزة وهو ضعيف فإنه إثبات نسخ بالاحتمال والتقدير وهو غير سائغ ومنهم من قال: يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلا وشرط الخيار فالشرط باطل فاسد فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا بطل وأما رد الصاع: فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت.
وأجيب عنه: بأن الحديث يقتضي تعليق الحكم بالتصرية وما ذكر يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء أحدث التصرية أم لا.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع حبل الحبلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها1.
قيل: إنه كان يبيع الشارف - وهي الكبيرة المسنة - بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته".
في تفسير حبل الحبلة وجهان:
أحدهما: أن يبيع إلى أن تحمل الناقة وتضع ثم يحمل هذا البطن الثاني وهذا باطل لأنه يبيع إلى أجل مجهول.
والثاني: أن يبيع نتاج النتاج وهو باطل أيضا لأنه بيع معدوم وهذا البيع كانت الجاهلية تتبايعه فأبطله الشارع للمفسدة المتعلقة به وهو ما بيناه من أحد الوجهين وكأن السر فيه: أنه يفضي إلى أكل المال بالباطل أو إلى التشاجر والتنازع المتنافي للمصلحة الكلية.
ـــــــ
1 البخاري "2143" ومسلم "1514".

(1/355)


4 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول صلى الله عليه وسم: "نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع"1.
أكثر الأمة على أن هذا النهي: نهي تحريم والفقهاء أخرجوا من هذا العموم: بيعها بشرط القطع واختلفوا في بيعها مطلقا من غير شرط ولا إبقاء ولمن يمنعه أن يستدل بهذا الحديث فإنه إذا خرج من عمومه بيعها بشرط القطع يدخل باقي صور البيع تحت النهي ومن جملة صور البيع: بيع الإطلاع وممن قال بالمنع فيه: مالك والشافعي.
وقوله: "نهى البائع والمشتري" تأكيد لما فيه من بيان أن البيع - وإن كان لمصلحة الإنسان - فليس له أن يرتكب النهي فيه قائلا: أسقطت حقي من اعتبار المصلحة ألا ترى أن هذا المنع لأجل مصلحة المشتري؟ فإن الثمار قبل بدو الصلاح معرضة للعاهات فإذا طرأ عليها شيء منها حصل الإجحاف بالمشتري في الثمن لأذي بذله ومع هذا: فقد منعه الشرع ونهى المشتري كما نهى البائع وكأنه قطع النزاع والتخاصم ومثل هذا في المعنى: حديث أنس الذي بعده.
5 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الثمار حتى تزهي قيل: وما تزهي؟ قال: "حتى تحمر", قال: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟" 2.
و الإزهاء: تغير لون الثمرة في حالة الطيب والعلة - والله أعلم - ما ذكرناه من تعرضها للجوائح قبل الإزهاء وقد أشار في هذه الرواية بقوله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن منع الله الثمرة بما يستحل أحدكم مال أخيه؟" والحديث يدل على أنه يكتفى بمسمى الإزهاء وابتدائه من غير اشتراط تكامله لأنه جعل مسمى الإزهاء غاية للنهي وبأوله يحصل المسمى ويحتمل أن يستدل به على العكس لأن الثمرة المبيعة قبل الإزهاء - أعني ما لم يزه من الحائط - إذا دخل تحت اسم الثمرة فيمتنع بيعه قبل الإزهاء فإن قال بهذا أحد فله أن يستدل بذلك.
وفيه دليل على أن زهو بعض الثمرة كاف في جواز البيع من حيث إنه ينطلق عليها أنها أزهت بعضها مع حصول المعنى وهو الأمن من العاهة غالبا ولولا وجود المعنى كان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها: قد لا يكتفي به لكونه مجازا وقد يستدل بقوله عليه السلام: "أرأيت إن منع الله الثمرة بما يأخذ أحدكم مال أخي؟" على وضع الجوائح كما جاء في حديث آخر3.
ـــــــ
1 البخاري "2194" ومسلم "1534" واللفظ للبخاري.
2 البخاري "2198" ومسلم "1555".
3 وهو ما أخرجه مسلم "1554" "17" من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح.

(1/356)


6 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد.
قال1: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارا"2.
وقد تقدم الكلام في النهي عن تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي وتفسيرهما والذي زاد هذا الحديث: تفسير بيع الحاضر للبادي وفسر بأن يكون له سمسارا.
7 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما: أن يبيعه بزبيب كيلا أو كان زرعا: أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله"3.
المزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع وحقيقتها: بيع معلوم بمجهول من جنسه وقد ذكر في الحديث لها أمثلة من بيع الثمر بالتمر ومن بيع الكرم بالزبيب ومن بيع الزرع بكيل الطعام وإنما سميت مزابنة من معنى الزبن لما يقع من الاختلاف بين المتبايعين فكل واحد يدفع صاحبه عما يرومه منه.
8 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة وعن المزابنة وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وأن لا تباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا"4.
المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة.
9 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"5.
اختلفوا في بيع الكلب المعلم فمن يرى نجاسة الكلب - وهو الشافعي - يمنع من بيعه مطلقا لأن على المنع قائمة في العلم وغيره ومن يرى بطهارته: اختلفوا في بيع المعلم منه لأن علة المنع غير عامة عند هؤلاء وقد ورد في بيع المعلم منه حديث في ثبوته بحث يحال على علم الحديث.
وأما مهر البغي فهو ما يعطاها على الزنا.
وسمى مهرا على سبيل المجاز أو استعمالا للوضع اللغوي ويجوز أن يكون من مجاز التشبيه إن لم يكن المهر في الوضع: ما يقابل النكاح.
ـــــــ
1 القائل هو طاوس بن كيسان راوي الحديث عن ابن عباس.
2 البخاري "2158" ومسلم "1521".
3 البخاري "2205" ومسلم "1542" "76".
4 البخاري "2381" ومسلم "1536" "81".
5 البخاري "2282" ومسلم "1567".

(1/357)


وحلوان الكاهن هو ما يعطاه على كهانته والإجماع قائم على تحريم هذين لما في ذلك من بذل الأعواض فيما لا يجوز مقابلته بالعوض أما الزنا: فظاهر وأما الكهانة: فبطلانها وأخذ العوض عنها: من باب أكل المال بالباطل وفي معناها كل ما يمنع منه الشرع من الرجم بالغيب.
10 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث" 1.
إطلاق الخبيث على ثمن الكلب يقتضي التعميم في كل كلب فإن ثبت تخصيص شيء منه وإلا وجب إجراؤه على ظاهره والخبيث من حيث هو: لا يدل على الحرمة صريحا ولذلك جاء في كسب الحجام أنه خبيث ولم يحمل على التحريم غير أن ذلك بدليل خارج وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجم وأعطى الحجام أجره2 ولو كان حراما لم يعطه" فإن ثبت أن لفظة الخبث ظاهرة في الحرام فخروجها عن ذلك في كسب الحجام بدليل: لا يلزم منه خروجها في غيره بغير دليل.
وأما الكلب فإذا قيل بثبوت الحديث الذي يدل على جواز بيع كلب الصيد: كان ذلك دليلا على طهارته وليس يدل النهي عن بيعه على نجاسته لأن علة منع البيع: متعددة لا تنحصر في النجاسة.
ـــــــ
1 مسلم "1568".
2 البخاري "2278" ومسلم "1202" من حديث ابن عباس.

(1/358)


باب العرايا و غير ذلك
...
2 - باب العرايا وغير ذلك.
1 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية: أن يبيعها بخرصها"1.
ولمسلم: "بخرصها تمرا يأكلونها رطبا"2.
اختلفوا في تفسير العرية المرخص فيها فعند الشافعي: هو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خرصا3 فيما دون خمسة أوسق وعند مالك صورته: أن يعري الرجل - أي يهب - ثمرة نخلة أو نخلات ثم يتضرر بمداخلة الموهوب له فيشتريها منه بخصرها تمرا ولا يجوز ذلك لغير رب البستان ويشهد لهذا التأويل أمران:
أحدهما: أن العرية مشهورة بين أهل المدينة متداولة فيما بينهم وقد نقلها مالك هكذا.
ـــــــ
1 البخاري "2188" ومسلم "1539" "60".
2 مسلم "1539" "61".
3 الخوص: هو حزر ما على النخل من الرطب تمرا.

(1/358)


والثاني: قوله لصاحب العربية فإنه يشعر باختصاصه بصفة يتميز بها عن غيره وهي الهبة الواقعة وأنشدوا في تفسير العرايا بالهبة قول الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
وقوله في الحديث بخرصها في هذه الرواية تقيد بغيرها وهو بيعها بخرصها تمرا.
وقد يستدل بإطلاق هذه الرواية لمن يجوز بيع الرطب على النخل بالرطب على النخل خرصا فيهما وبالرطب على وجه الأرض كيلا وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي والأصح: المنع لأن الرخصة وردت للحاجة إلى تحصيل الرطب وهذه الحاجة لا توجد في حق صاحب الرطب وفيه وجه ثالث: أنه اختلف النوعان جاز لأنه قد يزيد ذلك النوع وإلا فلا ولو باع رطبا على وجه الأرض برطب على وجه الأرض: لم يجز وجها واحدا لأن أحد المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على التدريج طريا وهذا المقصود لا يحصل فيما على وجه الأرض وقد يستدل بإطلاق الحديث من لا يرى اختصاص جواز بيع العرايا لمحاويج الناس.
وفي مذهب الشافعي وجه: أنه يختص بهم لحديث ورد عن زيد بن ثابت فيه: "أنه سمى رجلا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلونه مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر"1.
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق"2.
أما تجويز بيع العرايا: فقد تقدم وأما حديث أبي هريرة: فإنه زاد فيه بيان مقدار ما تجوز فيه الرخصة وهو ما دون الخمسة أوسق3.
ولم يختلف قول الشافعي في أنه لا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق وأنه يجوز فيما دونها وفي خمسة الأوسق قولان والقدر الجائز: إنما يعتبر بالصفقة إن كانت واحدة: اعتبرنا ما زاد على الخمسة فمنعنا وما دونها فأجزنا أما لو كانت صفقات متعددة: فلا منع ولو باع في صفقة واحدة من رجلين ما يكون لكل واحد منهما القدر الجائز: جاز ولو باع رجلان من واحد: فكذلك الحكم في اصح الوجهين لأن تعدد الصفقة بتعدد البائع أظهر من تعددها بتعدد المشتري.
وفيه وجه آخر أنه لا تجوز الزيادة على خمسة أوسق في هذه الصورة نظرا إلى مشتري.
ـــــــ
1 البيهقي في معرفة السنن والآثار "4/343".
2 البخاري "2190" ومسلم "1541".
3 أوسق جمع وسق والوسق قدره ستون صاعا.

(1/359)


الرطب لأنه محل الرخصة الخارجة عن قياس الربويات فلا ينبغي أن يدخل في ملكه فوق القدر المجوز دفعة واحدة.
واعلم أن الظاهر من الحديث: أن يحمل على صفقة واحدة من غير نظر إلى تعدد بائع ومشتر جريا على العادة والغالب.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع" 1.
ولمسلم: "ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع" 2.
يقال: أبرت النخلة ابرها وقد يقال بالتشديد والتأبير هو التلقيح وهو أن يشقق أكمه إناث النخل ويذر طلع الذكر فيها ولا يلقح جميع النخيل بل يؤبر البعض ويشقق الباقي بانبثاث ريح الفحول إليه الذي يحصل منه تشقق الطلع وإذا باع الشجرة بعد التأبير فالثمرة للبائع في صورة الإطلاق وقيل: إن بعضهم خالف في هذا وقال تبقى الثمار للبائع أبرت أو لم تؤبر وأما إذا اشترطاها للبائع أو للمشتري: فالشرط متبع.
وقوله: "من باع نخلا قد أبرت" حقيقته: اعتبار التأبير في المبيع حقيقة بنفسه وقد أجرى تأبير البعض مجرى تأبير الجميع إذا كان في بستان واحد واتحد النوع وباعها صفقة واحدة وجعل ذلك كالنخلة الواحدة وإن اختلف النوع ففيه وجهان لأصحاب الشافعي وقيل: إن الأصح أن الكل يبقى للبائع كما لو اتحد النوع دفعا لضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.
وقد يؤخذ من الحديث: أنه إذا باع ما لم يؤبر مفردا بالعقد بعد تأبيره غيره في البستان: أنه يكون للمشتري لأنه ليس في المبيع شيء مؤبر فيقتضي مفهوم الحديث: أنها ليست للبائع وهذا أصح وجهي الشافعية وكأنه إنما يعتبر عدم التأبير إذا بيع مع المؤبر فيجعل تبعا وفي هذه الصورة ليس ههنا في المبيع شيئ مؤبر فيجعل غيره تبعا له.
وأدخل من هذه الصورة في الحديث ما إذا كان التأبير وعدمه في بستانين مختلفين والأصح ههنا أن كل واحد منهما ينفرد بحكمه.
أما أولا: فلظاهر الحديث.
وأما ثانيا: فلأن لاختلاف البقاع تأثيرا في التأبير ولأن في البستان الواحد يلزم ضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.
ـــــــ
1 البخاري "2204" ومسلم "1543".
2 مسلم "1543" "80".

(1/360)


وقوله: "من ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع" يستدل به المالكية على أن العبد يملك لإضافة المال إليه باللام وهي ظاهرة في الملك.
4 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 1 وفي لفظ: "حتى يقبضه" 2 وعن ابن عباس مثله3.
هذا نص في منع بيع الطعام قبل أن يستوفى ومالك خصص الحكم به إذا كان فيه حق التوفية على ما دل عليه الحديث ولا يختص ذلك عند الشافعي بالطعام بل جمي المبيعات لا يجوز بيعها قبل قبضها عنده سواء كانت عقارا أو غيره وأبو حنيفة يجيز بيع العقار قبل القبض ويمنع غيره.
وهذا الحديث يقتضي أمرين:
أحدهما أن تكون صورة المنع فيما إذا كان الطعام مملوكا بجهة البيع.
والثاني: أن يكون الممنوع هو البيع قبل القبض.
أما الأول: فقد أخرج عنه ما إذا كان مملوكا بجهة الهبة أو الصدقة مثلا.
وأما الثاني: فقد تكلم أصحاب الشافعي في جواز التصرف بعقود غير البيع منها: العتق قبل القبض والأصح: أنه ينفذ إذ لم يكن للبائع حق الحبس بأن أدى المشتري الثمن أو كان مؤجلا فإن كان له حق الحبس فقيل: هو كعتق الراهن وقيل: لا والصحيح: أنه لا فرق.
وكذا اختلفوا في الهبة والرهن قبل القبض والأصح عند أصحاب الشافعي: المنع وكذلك في التزويج خلاف والأصح عند أصحاب الشافعي: خلافه ولا يجوز عندهم التولية والشركة وأجازهما مالك مع الإقالة ولا شك أن الشركة والتولية بيع فيدخلان تحت الحديث وإنما استثنى ذلك مالك على خلاف القياس وقد ذكر أصحابه فيها حديثا يقتضي الرخصة الله أعلم.
5 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يارسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: "لا هو حرام", ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" 4 قال جملوه أذابوه.
ـــــــ
1 البخاري "2126" ومسلم "1526".
2 مسلم "1525".
3 البخاري "2133" ومسلم "1526".
4 البخاري "2236" ومسلم "1581".

(1/361)


أخذ من تحريم بيع الخمر والميتة: نجاستهما لأن الانتفاع بهما لم يعدم فإنه قد ينتفع بالخمر في أمور وينتفع بالميتة في إطعام الجوارح.
وأما بيع الأصنام: فلعدم الانتفاع بها على صورتها وعدم الانتفاع يمنع صحة البيع وقد يكون منع بيعها مبالغة في التنفير عنها.
وأما قولهم: "أرأيت شحوم الميتة.." الخ فقد استدل به على منع الاستصباح بها وإطلاء السفن بقوله عليه السلام لما سئل عن ذلك؟ قال: "لا هو حرام" وفي هذا الاستدلال احتمال لأن لفظ الحديث ليس فيه تصريح فإنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تحريم بيع الميتة قالوا له: "أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن" الخ قصدا منهم لأن هذه المنافع تقتضي جواز البيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هو حرام" ويعود الضمير في قوله هو على البيع كأنه أعاد تحريم البيع بعدما بين له فيه منفعة إهدارا لتلك المصالح والمنافع التي ذكرت.
وقوله عليه السلام: "قاتل الله اليهود..." الخ تنبيه على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء فإن العلة تحريمها فإن وجه اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم استدل المالكية بهذا على تحريم الذرائع من حيث إن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه لكنه لما كان تسببا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم به.

(1/362)


2 - باب السلم.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار: السنة والسنتين والثلاث فقال: "من أسلف في شيء فليسلف في كليل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" 1.
فيه دليل على جواز السلم في الجملة وهو متفق عليه لا خلاف فيه بين الأمة وفيه دليل على جواز السلم فيما ينقطع في أثناء المدة إذا كان موجودا عند المحل فإنه إذا أسلم في الثمرة السنة والسنتين فلا محالة ينقطع في أثناء المدة إذا حملت الثمرة على الرطب.
وقوله عليه السلام: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم" أي إذا كان المسلم فيه مكيلان وقوله: "ووزن معلوم" أي إذا كان معلوما والواو ههنا بمعنى أو فإنا لو أخذناها على ظاهرها - من معنى الجمع - لزم أن يجمع في الشيء الواحد بين المسلم فيه كيلا ووزنا وذلك يفضي إلى عزة.
ـــــــ
1 البخاري "2240" ومسلم "1604".

(1/362)


الوجود وهو مانع من صحة السلم فتعين أن تحمل على ما ذكرناه من التفصيل وأن المعنى: السلم بالكيل في المكيل وبالوزن في الموزون.
وأما قوله عليه السلام: "إلى أجل معلوم" فقد استدل به من منع السلم الحال وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وهذا يوجه الأمر في قوله: "فليسلف" إلى الأجل والعلم معا والذين أجازوا الحال وجهوا الأمر إلى العلم فقط ويكون التقدير: إن أسلم إلى أجل فليسم إلى أجل معلوم لا إلى أجل مجهول كما أشرنا إليه في الكيل والوزن والله أعلم.

(1/363)


4 - باب الشروط في البيع.
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم وولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت ذلك على أهلي فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق" 1.
قد أكثر الناس من الكلام على هذا الحديث وأفردوا التصنيف في الكلام عليه وما يتعلق بفوائده وبلغوا بها عددا كثيرا ونذكر من ذلك عيونا إن شاء الله تعالى.
والكلام عليه من وجوه:
أحدها: كاتبت فاعلت من الكتابة وهو العقد المشهور بين السيد وعبده فإما أن يكون مأخوذا من كتابة الخط لما أنه يصحب هذا العقد الكتابة له فيما بين السيد وعبده وإما أن يكون مأخوذا من معنى الإلزام كما في قوله تعالى: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء والعبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي تكاتبا عليه.
الثاني: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع والجواز والفرق بين أن يشتري للعتق فيجوز أو للاستخدام فلا.
فأما من أجاز بيعه فاستدل بهذا الحديث فإنه ثبت أن بريرة كانت مكاتبة وأما من منع
ـــــــ
1 البخاري "2168" ومسلم "1504" "6" واللفظ للبخاري

(1/363)


فيحتاج إلى العذر عنه فمن العذر عنه ما قيل إنه يجوز بيعه عند العجز عن الأداء أو الضعف عن الكسب فقد يحمل الحديث على ذلك.
ومن الاعتذارات أن تكون عائشة اشترت الكتابة لا الرقبة وقد استدل على ذلك بقولها في بعض الروايات: "فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك" 1 فإنه يشعر بأن المشتري هو الكتابة لا الرقبة ومن فرق بين شرائه للعتق وغيره فلا إشكال عنده لأنه يقول أنا أجيز بيعه للعتق والحديث موافق لما أقول.
الثالث: بيع العبد بشرط العتق اختلفوا فيه وللشافعي قولان:
أحدهما: أنه باطل كما لو باعه بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه وهو باطل.
والثاني: وهو الصحيح: أن العقد صحيح لهذا الحديث.
ومن منع بيع العبد بشرط العتق فقد قيل إنه يمنع كون عائشة مشترية للرقبة ويحمل على قضاء الكتابة عن بريرة أو على شراء الكتابة خاصة والأول ضعيف مخالف للفظ الوارد في بعض الروايات وهو قوله عليه السلام: "ابتاعي" 2 وأما الثاني: فإنه محتاج فيه إلى أن يكون قد قيل بمنع البيع بشرط العتق مع جواز بيع الكتابة ويكون قد ذهب إلى الجمع بين هذين ذاهب واحد معين وهذا يستمد من مسألة إحداث القول الثالث.
الرابع: إذا قلنا بصحة البيع بشرط العتق فهل يصح الشرط أو يفسد؟ فيه قولان للشافعي أصحهما: أن الشرط يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إلا اشتراط الولاء والعقد تضمن أمرين اشتراط العتق واشتراط الولاء ولم يقع الإنكار إلا للثاني فيبقى الأول مقررا عليه ويؤخذ من لفظ الحديث فإن قوله: "اشترطي لهم الولاء" من ضرورة اشتراط العتق فيكون من لوازم اللفظ لا من مجرد التقرير ومعنى صحة الشرط أنه يلزم الوفاء به من جهة المشتري فإن امتنع فهل يجبر عليه أم لا؟ فيه اختلاف بين أصحاب الشافعي وإذا قلنا لا يجبر أثبتنا الخيار للبائع.
الخامس: اشتراط الولاء للبائع هل يفسد العقد؟ فيه خلاف وظاهر الحديث أنه لا يفسده لما قال فيه: "و اشترطي لهم الولاء" ولا يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عقد باطل وإذا قلنا إنه صحيح فهل يصح الشرط؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه وموافق للقياس أيضا من وجه وهو أن القياس يقتضي أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب والولاء من آثار العتق فيختص بمن صدر منه العتق وهو المعتق وهذا.
ـــــــ
1 البخاري "2717" ومسلم "1504" "6".
2 أخرج هذا اللفظ البخاري "2561" ومسلم "1504" "6".

(1/364)


التمسك والتوجيه في حصة البيع والشرط يتعلق بالكلام على معنى قوله: "و اشترطي لهم الولاء " وسيأتي.
السادس: الكلام على الإشكال العظيم في هذا الحديث وهو أن يقال: كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن حتى يقع البيع على هذا الشرط فيدخل البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟.
فاختلف الناس في الكلام على هذا الإشكال فمنهم من صعب عليه فأنكر هذه اللفظة أعني قوله: "و اشترطي لهم الولاء" وقد نقل ذلك عن يحيى بن أكثم وبلغني عن الشافعي قريب منه وأنه قال: اشتراط الولاء رواه هشام بن عروة عن أبيه وانفرد به دون غيره من رواة هذا الحديث وغيره من رواته أثبت من هشام والأكثرون على إثبات اللفظة للثقة براويها واختلفوا في التأويل والتخريج وذكر فيه وجوه.
أحدها: أن لهم بمعنى عليهم واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] بمعنى عليهم: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7] بمعنى عليها وفي هذا ضعف.
أما أولا: فلأن سياق الحديث وكثيرا من ألفاظه ينفيه وأما ثانيا: فلأن اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع بل تدل على مطلق الاختصاص فقد يكون في اللفظ ما يدل على الاختصاص النافع وقد لا يكون.
و ثانيهما: ما فهمته من كلام بعض المتأخرين وتلخيصه أن يكون هذا الاشتراط بمعنى ترك المخالفة لما شرطه البائعون وعدم إظهاره النزاع فيما دعوا إليه وقد يعبر عن التخلية والترك بصيغة تدل على الفعل ألا ترى أنه قد أطلق لفظ الإذن من الله تعالى على التمكين من الفعل والتخلية بين العبد وبينه وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي الإباحة والتجويز؟ وهذا موجود في كتاب الله تعالى على ما يذكره المفسرون كما في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] وليس المراد بالإذن ههنا إباحة الله تعالى للإضرار بالسحر ولكنه لما خلى بينهم وبين ذلك الإضرار أطلق عليه لفظة الإذن مجازا وهذا وإن كان محتملا إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة ظاهرة على المجاز من حيث اللفظ.
و ثالثهما: أن لفظة الاشتراط والشرط وما تصرف منها تدل على الإعلام والإظهار ومنه أشراط الساعة والشرط اللغوي والشرعي ومنه قول أويس بن حجر بفتح الحاء والجيم "فأشرط فيها نفسه" أي أعلمها وأظهرها وإذا كان كذلك فيحمل "اشترطي" على معنى: أظهري حكم الولاء وبينيه واعلمي أنه لمن أعتق على عكس ما أورده السائل وفهمه من الحديث.

(1/365)


ورابعها: ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أخبرهم: "أن الولاء لمن أعتق" ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ والتنكيل لمخالفتهم الحكم الشرعي وغاية ما في الباب: إخراج لفظة الأمر عن ظاهرها وقد وردت خارجة عن ظاهرها في مواضع يمتنع إجراؤها على ظاهرها كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وعلى هذا الوجه والتقدير الذي ذكر لا يبقى غرور.
و خامسها: أن يكون إبطال هذا الشرط عقوبة لمخالفتهم حكم الشرع فإن إبطال الشرط يقتضي تغريم ما قوبل به الشرط من المالية المسامح بها لأجل الشرط ويكون هذا من باب العقوبة بالمال كحرمان القاتل الميراث.
و سادسها: أن يكون ذلك خاصا بهذه القضية لا عاما في سائر الصور ويكون سبب التخصيص بإبطال هذا الشرط: المبالغة في زجرهم عن هذا الاشتراط المخالف للشرع كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الواقعة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج وهذا الوجه ذكره بعض أصحاب الشافعي وجعله بعض المتأخرين منهم الأصح في تأويل الحديث.
الوجه السابع: من الكلام على الحديث يدل على أن كلمة "إنما" للحصر لأنها لو لم تكن للحصر لما لزم من إثبات الولاء لمن أعتق نفيه عمن لم يعتق لكن هذه الكلمة ذكرت في الحديث لبيان نفيه عمن لم يعتق فدل على أن مقتضاها الحصر.
الوجه الثامن: لا خلاف في ثبوت الولاء للمعتق عن نفسه بالحديث المذكور واختلفوا فيمن أعتق على أن لا ولاء له وهو المسمى بالسائبة ومذهب الشافعي بطلان هذا الشرط وثبوت الولاء للمعتق والحديث يتمسك به في ذلك.
الوجه التاسع: قالوا: يدل على ثبوت الولاء في سائر وجوه العتق كالكتابة والتعليق بالصفة وغير ذلك.
الوجه العاشر: يقتضي حصر الولاء للمعتق ويستلزم حصر السببية في العتق فيقتضي ذلك أن لا ولاء بالحلف ولا بالموالاة ولا بإسلام الرجل على يد الرجل ولا بالتقاطه للقيط وكل هذه الصور فيها خلاف بين الفقهاء ومذهب الشافعي أن لا ولاء في شيء منها للحديث.
الحادي عشر: الحديث دليل على جواز الكتابة وجواز كتابة الأمة المزوجة.
الثاني عشر: فيه دليل على تنجيم الكتابة لقولها: "كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية" وليس فيه تعرض للكتابة الحالة فيتكلم عليه.

(1/366)


الثالث عشر: قوله عليه السلام: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟" يحتمل أن يريد بكتاب الله حكم الله أو يراد بذلك نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغير واسطة فإن الشريعة كلها في كتاب الله إما بغير واسطة كالمنصوصات في القرآن من الأحكام وإما بواسطة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] و {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59].
و قوله صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله أحق" أي بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع و "شرط الله أوثق" أي باتباع حدوده وفي هذا اللفظ دليل على جواز السجع الغير المتكلف.
2 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أنه كان يسير على جمل فأعيى فأراد أن يسيبه فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله ثم قال: "بعنيه بأوقية" قلت: لا, ثم قال: "بعنيه" فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في إثري فقال: "أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك" 1.
في الحديث علم من أعلام النبوة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأما بيعه واستثناء حملانه إلى المدينة فقد أجاز مالك مثله في المدة اليسيرة وظاهر مذهب الشافعي المنع وقيل: بالجواز تفريعا على جواز بيع الدار المستأجرة فإن المنفعة تكون مستثناه ومذهب الشافعي الأول والذي يعتذر به عن الحديث على هذا المذهب أن لا يجعل استثناؤه على حقيقة الشرط في العقد بل على سبيل تبرع الرسول صلى الله عليه وسلم بالجمل عليه أو يكون الشرط سابقا على العقد والشروط المفسدة ما تكون مقارنة للعقد وممزوجة به على ظاهر مذهب الشافعي وقد أشار بعض الناس إلى أن اختلاف الرواة في ألفاظ الحديث مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب فإن بعض الألفاظ صريح في الاشتراط وبعضها لا فيقول: إذا اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج.
فنقول: هذا صحيح لكن بشرط تكافؤ الروايات أو تقاربها أما إذا كان الترجيح واقعا لبعضها إما لأن رواته أكثر أو أحفظ فينبغي العمل بها إذ الأضعف لا يكون مانعا من العمل بالأقوى والمرجوح لا يدفع التمسك بالراجح فتمسك بهذا الأصل فإنه نافع في مواضع عديدة.
منها: أن المحدثين يعللون الحديث بالاضطراب ويجمعون الروايات العديدة فيقوم في الذهن منها صورة توجب التضعيف والواجب أن ينظر إلى تلك الطرق فما كان منها ضعيفا.
ـــــــ
1 البخاري "2718" ومسلم "715" "109".

(1/367)


اسقط عن درجة الاعتبار ولم يجعل مانعا من التمسك بالصحيح القوي ولتمام هذا موضع آخر ومذهب مالك وإن قال بظاهر الحديث فهو يخصصه باستثناء الزمن اليسير وربما قيل: إنه ورد ما يقتضي ذلك.
وقد يؤخذ من الحديث جواز بيع الدار المستأجرة بأن يجعل هذا الاستثناء المذكور في الحديث أصلا ويجعل بيع الدار المستأجرة مساويا له في المعنى فيثبت الحكم إلا أن في كون مثل هذا معدودا فيما يؤخذ من الحديث وفائدة من فوائده نظرا.
3 - عن أبي هريرة رضي لله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها"1.
أما النهي عن بيع الحاضر للبادي والنجش وبيع الرجل على بيع أخيه: فقد مر الكلام عليه.
وأما النهي عن الخطبة فقد تصرف في إطلاقه الفقهاء بوجهين.
أحدهما: أنهم خصوه بحالة التراكن والتوافق بين الخاطب والمخطوب إليه وتصدى نظرهم بعد ذلك فيما به يحصل تحريم الخطبة وذكروا أمورا لا تستنبط من الحديث وأما الخطبة قبل التراكن فلا تمتنع نظرا إلى المعنى الذي لأجله حرمت الخطبة وهو وقوع العداوة والبغضاء وإيحاش النفوس.
الوجه الثاني: وهو للمالكية أن ذلك في المتقاربين أما إذا كان الخاطب الأول فاسقا والآخر صالحا فلا تندرج تحت النهي ومذهب الشافعي رحمه الله: أنه إذا ارتكب النهي وخطب على خطبة أخيه لم يفسد العقد ولم يفسخ لأن النهي مجانب لأجل وقوع العداوة والبغضاء وذلك لا يعود على أركان العقد وشروطه بالاختلال ومثل هذا لا يقتضي فساد العقد.
وأما نهي المرأة عن سؤال طلاق أختها فقد استعمل فيه ألفاظ مجازية فجعل طلاق المرأة بعقد النكاح بمثابة تفريغ الصحفة بعد امتلائها وفيه معنى آخر وهو الإشارة إلى الرزق لما يوجبه النكاح من النفقة فإن الصحفة وملأها من باب الأرزاق وكفاؤها قلبها.
ـــــــ
1 البخاري "2140" ومسلم "1413" بألفاظ قريبة.

(1/368)


باب الربا و الصرف
...
5 - باب الربا والصرف.
1 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالورق ربا

(1/368)


إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء1 والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء" 2.
الحديث يدخل على وجوب الحلول وتحريم النساء3 في بيع الذهب بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير إلا هاء وهاء واللفظة موضوعة للتقابض وهي ممدودة مفتوحة وقد أنشد بعض أهل اللغة في ذلك:
لما رأت في قامتي انحناء ... والمشي بعد قعس أجناء
أجلت وكان حبها إجلاء ... وجعلت نصف غبوقي ماء
تمزج لي من بغضها السقاء ... ثم تقول من بعيد هاء
دحرجة إن شئت أو إلقاء ... ثم تمنى أن يكون داء
لا يجعل الله له شفاء
ثم اختلف العلماء بعد ذلك ف الشافعي يعتبر الحلول والتقابض في المجلس فإذا حصل ذلك لم يعتبر غيره ولا يضر عنده طول المجلس إذا وقع العقد حالا وشدد مالك أكثر من هذا ولم يسامح بالطول في المجلس وإن وقع القبض فيه وهو أقرب إلى حقيقة اللفظ فيه والأول أدخل في المجاز وهذا الشرط لا يختص باتحاد الجنس بل إذا جمع المبيعين علة واحدة كالنقدية في الذهب والفضة والطعم في الأشياء الأربعة أو غيره مما قيل به اقتضى ذلك تحريم النساء وقد اشتمل الحديث على الأمرين معا حيث منع ذلك بين الذهب بالورق وبين البر بالبر والشعير بالشعير فإن هذين في الجنس الواحد والأول في جنسين جمعتهما علة واحدة.
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز "4 وفي لفظ: "إلا يدا بيد" 5 وفي لفظ: "إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء" 6.
في الحديث أمران:
أحدهما: تحريم التفاضل في الأموال الربوية عند اتحاد الجنس ونصفه في الذهب بالذهب من قوله: "إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض".
ـــــــ
1 زيادة من صحيح البخاري.
2 البخاري "2134" ومسلم "1586".
3 النساء: التأخير مختار الصحاح ن س أ.
4 البخاري "2177" ومسلم "1584".
5 مسلم "1584" "76".
6 مسلم "1584" "77".

(1/369)


الثاني: تحريم النساء من قوله: "و لا تبيعوا منها غائبا بناجز" وبقية الأموال الربوية ما كان منها منصوصا عليه في غير هذا الحديث أخذ فيه بالنص وما لا قاسه القائسون.
وقوله: "إلا يدا بيد" في الرواية الأخرى: يقتضي منع النساء.
وقوله: "وزنا بوزن" يقتضي اعتبار التساوي ويوجب أن يكون التساوي في هذا بالوزن لا بالكيل والفقهاء قرروا أنه يجب التماثل بمعيار الشرع فما كان موزونا فبالوزن وما كان مكيلا فبالكيل.
3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى رسول الله بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين هذا؟" قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" 1.
هو نص في تحريم ربا الفضل في التمر وجمهور الأمة على ذلك وكان ابن عباس يخالف ربا الفضل وكلم في ذلك فقيل: إنه رجع عنه وأخذ قوم من الحديث: تجويز الذرائع من حيث قوله: "بع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" فإنه أجاز بيعه والشراء على الإطلاق ولم يفصل بين أن يبيعه ممن باعه أو من غيره ولا بين أن يقصد التوصل إلى شراء الأكثر أو لا.
والمانعون من الذرائع يجيبون بأنه مطلق لا عام فيحمل على بيعه من غير البائع أو على غير الصورة التي يمنعونها فإن المطلق يكتفي في العمل به بصورة واحدة وفي هذا الجواب نظر لأنا نفرق بين العمل بالمطلق فعلا كما إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه يصدق بالدخول مرة واحدة وبين العمل بالمطلق حملا على المقيد فإنه يخرج اللفظ من الإطلاق إلى التقييد.
وفيه دليل على أن التفاضل في الصفات لا اعتبار به في تجويز الزيادة.
قوله: "ببيع آخر" يحتمل أن يريد به بمبيع آخر ويراد به التمر ويحتمل أن يراد بيع على صفة أخرى على معنى زيادة الباء كأنه قال: بعه بيعا آخر ويقوي الأول قوله: " ثم اشتر به".
4 - عن أبي المنهال قال: "سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن
ـــــــ
1 البخاري "2312" ومسلم "1594".

(1/370)


الصرف؟ فكل واحد يقول: هذا خير مني وكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا"1.
في الحديث دليل على التواضع والاعتراف بحقوق الأكابر وهو نص في تحريم ربا النسيئة فيما ذكر فيه - وهو الذهب بالورق - لاجتماعهما في علة واحدة وهي النقدية وكذلك الأجناس الأربعة أعني البر وما ذكر معه باجتماعهما في علة واحدة أخرى فلا يباع بعضها ببعض نسيئة والواجب فيما يمنع النساء أمران:
أحدهما: التناجز في البيع أعني أن لا يكون مؤجلا.
والثاني: التقابض في المجلس وهو الذي يؤخذ من قوله: "يدا بيد".
5 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا قال: فسأله رجل فقال: يدا بيد؟ فقال: هكذا سمعت".
قوله: "نشتري الذهب بالفضة كيف شئنا" يعني بالنسبة إلى الحلول والتأجيل وقد ورد ذلك مبينا في حديث آخر حيث قيل: "فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".
ـــــــ
1 البخاري "2180" ومسلم "1589" واللفظ للبخاري

(1/371)


باب الرهن و غيره
...
6 - باب الرهن وغيره.
1 - عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعا من حديد"1.
اللفظة مأخوذة من الحبس والإقامة رهن بالمكان إذا أقام به.
والحديث دليل على جواز الرهن مع ما نطق به الكتاب العزيز ودليل على جواز معاملة الكفار وعدم اعتبار الفساد في معاملاتهم ووقع في غير هذه الرواية ما استدل به على جواز الرهن في الحصر.
وفيه دليل على جواز الشراء بالثمن المؤخر قبل قبضه لأن الرهن إنما يحتاج إليه حيث لا يتأتى الإقباض في الحال غالبا وقد يستدل به على جواز الشراء لمن لا يقدر على الثمن في وقته لما ذكرناه.
ـــــــ
1 البخاري "2068" ومسلم "1603".

(1/371)


2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" 1.
فيه دليل على تحريم المطل بالحق ولا خلاف فيه مع القدرة بعد الطلب واختلفوا في مذهب الشافعي هل يجب الأداء مع القدرة من غير طلب صاحب الحق؟ وذكر فيه وجهان ولا ينبغي أن يؤخذ الوجوب من الحديث لأن لفظة المطل تشعر بتقديم الطلب فيكون مأخذ الوجوب دليلا آخر.
وقوله: "الغني" يخرج عن العاجز الأداء.
وقوله: "فإذا أتبع" مضموم الهمزة ساكن التاء مكسور الباء.
وقوله: "فليتبع" مفتوح الياء ساكن التاء مفتوح الباء الموحدة مأخوذ من قولنا: أتبعت فلانا: جعلته تابعا للغير والمراد ههنا تبعيته في طلب الحق بالحوالة.
وقد قال الظاهرية بوجوب قبول الحوالة على المليء لظاهر الأمر وجمهور الفقهاء على أنه أمر ندب لما فيه من الإحسان إلى المحيل بتحصيل مقصوده من تحويل الحق عنه وترك تكليفه التحصيل بالطلب.
وفي الحديث إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة على المليء معلل بكون مطل الغني ظلما ولعل السبب فيه أنه إذا تعين كونه ظلما والظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه فيكون ذلك سببا للأمر بقبول الحوالة عليه لحصول المقصود منه من غير ضرر المطل ويحتمل أن يكون ذلك لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه عند الامتناع بل يأخذه الحكم قهرا ويوفيه ففي قبول الحوالة عليه: تحصيل الغرض من غير مفسدة تواء2 الحق والمعنى الأول أرجح لما فيه من بقاء معنى التعليل بكون المطل ظلما وعلى هذا المعنى الثاني تكون العلة عدم تواء الحق لا الظلم.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره" 3.
فيه مسائل:
الأولى: رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفلس أو الموت فيه ثلاثة مذاهب:
الأول: أنه لا يرجع إليه في الموت الفلس وهذا مذهب الشافعي.
والثاني: أنه لا يرجع إليه لا في الموت ولا في الفلس وهو مذهب أبي حنيفة.
ـــــــ
1 البخاري "2287" ومسلم "1564".
2 التواء والتوى الهلاك مختار الصحاح "ت و ي".
3 البخاري "2402" ومسلم "1559".

(1/372)


والثالث: يرجع إليه في الفلس دون الموت ويكون في الموت أسوة الغرماء وهو مذهب مالك.
وهذا الحديث دليل على الرجوع في الفلس ودلالته قوية جدا حتى قيل: إنه لا تأويل له وقال الاصطخري من أصحاب الشافعي لو قضى القاضي بخلافه نقض حكمه.
ورأيت في تأويله وجهين ضعفين:
أحدهما أن يحمل على الغضب والوديعة لما فيه من اعتبار حقيقة المالية وهو ضعيف جدا لأنه يبطل فائدة تعليل الحكم بالفلس.
الثاني: أن يحمل على ما قبل القبض وقد استضعف بقوله صلى الله عليه وسلم: "أدرك ماله أو وجد متاعه" فإن ذلك يقتضي إمكان العقد وذلك بعد خروج السلعة من يده.
المسألة الثانية: الذي يسبق إلى الفهم من الحديث أن الرجل المدرك ههنا هو البائع وأن الحكم يتناول البيع لكن اللفظ أعم من أن يحمل على البائع فيمكن أن يدخل تحته ما إذا أقرض رجل مالا وأفلس المستقرض والمال باق فإن المقرض يرجع فيه وقد علله الفقهاء بالقياس على المبيع بعد التفريع على أنه يملك بالقبض وقيل في القياس: مملوك ببدل تعذر تحصيله فأشبه المبيع وإدراجه تحت اللفظ ممكن إذا اعتبرناه من حيث الوضع فلا حاجة إلى القياس فيه.
المسألة الثالثة: لا بد في الحديث من إضمار أمور يحمل عليها وإن لم تذكر لفظا مثل: كون الثمن غير مقبوض ومثل: كون السلعة موجودة عند المشتري دون غيره ومثل: كون المال لا يفي بالديون احترازا عما إذا كان مساويا وقلنا: يحجر على المفلس في هذه الصورة.
المسألة الرابعة: إذا أجر دارا أو دابة فأفلس المستأجر قبل تسليم الأجرة ومضي المدة فللمؤجر الفسخ على الصحيح من مذهب الشافعي وإدراجه تحت لفظ الحديث متوقف على أن المنافع هل ينطلق عليها اسم المتاع أو المال؟ وانطلاق اسم المال عليها أقوى.
وقد علل منع الرجوع: بأن المنافع لا تتنزل منزلة الأعيان القائمة إذ ليس لها وجود مستقر فإذا ثبت انطلاق اسم المال أو المتاع عليها فقد اندرجت تحت اللفظ وإن نوزع في ذلك فالطريق أن يقال: إن اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين ومن لوازم ذلك: الرجوع في المنافع فيثبت بطريق اللازم لا بطريق الأصالة وإنما قلنا: إنه يتوقف عن كون اسم المنافع ينطلق عليها اسم المال أو المتاع لأن الحكم في اللفظ معلق بذلك في الأحاديث.
ونقول أيضا: الرجوع إنما هو في المنافع فإنها المعقود عليه والرجوع إنما يكون فيما يتناوله العقد والعين لم يتناولها عقد الإجارة.
المسألة الخامسة: إذا التزم في ذمته نقل متاع من مكان إلى مكان ثم أفلس والأجرة بيده.

(1/373)


قائمة: ثبت حق الفسخ والرجوع إلى الأجرة وإندراجه تحت الحديث ظاهر إن أخذنا باللفظ ولم تخصصه بالبائع فإن خص به فالحكم ثابت بالقياس لا بالحديث.
المسألة السادسة: قد يمكن أن يستدل بالحديث على أن الديون المؤجلة تحل بالحجر ووجه: أنه يندرج تحت كونه أدراك ماله فيكون أحق به ومن لوازم ذلك: أن يحل إذ لا مطالبة بالمؤجل قبل الحلول.
المسألة السابعة: يمكن أن يستدل به على أن الغرماء إذا قدموا البائع بالثمن لم يسقط حقه من الرجوع لاندراجه تحت اللفظ والفقهاء عللوه بالمنة.
المسألة الثامنة: قيل: إن هذا الخيار في الرجوع يستبد به البائع وقيل: لا بد من الحاكم والحديث يقتضي ثبوت الأحقية بالمال وأما كيفية الأخذ: فهو غير متعرض له وقد يكن أن يستدل به على الاستبداد إلا أن فيه ما ذكرناه.
المسألة التاسعة: الحكم في الحديث معلق بالفلس ولا يتناول غيره ومن أثبت من الفقهاء الرجوع بامتناع المشتري من التسليم مع اليسار أو هربه أو امتناع الوارث من التسليم بعد موته - فإنما يثبته بالقياس على الفلس ومن يقول بالمفهوم في مثل هذا: فله أن ينفي هذا الحكم بدلالة المفهوم من لفظ الحديث.
المسألة العاشرة: شرط رجوع البائع: بقاء العين في ملك المفلس فلو هلكت لم يرجع لقوله عليه الصلاة والسلام: "فوجد متاعه أو أدرك ماله" 1 فشرط في الأحقية: إدارك المال بعينه وبعد الهلاك: فات الشرط وهذا ظاهر في الهلاك الحسي والفقهاء نزلوا التصرفات الشرعية منزلة الهلاك الحسي كالبيع والهبة والعتق والوقف ولم ينقضوا هذه التصرفات بخلاف تصرفات المشتري في حق الشفيع بها فإذ تبين أنها كالهلكة شرعا: دخلت تحت اللفظ فإن البائع حينئذ لا يكون مدركا لماله.
واختلفوا فيما إذا وجد متاعه عند المشتري بعد أن خرج عنه ثم رجع إليه بغير عوض فقيل: يرجع فيه لأنه وجد ماله بعينه فيدخل تحت اللفظ وقيل: لا يرجع لأن هذا الملك متلقى من غيره لأنه لو تخللت حالة وصادفها الإفلاس والحجر لما رجع فيستصحب حكمها وهذا تصرف في اللفظ بالتخصيص بسبب معنى مفهوم منه وهو الرجوع إلى العين لتعذر العوض من تلك الجهة كما يفهم منه ما قدمنا ذكره أو تخصيص بالمعنى وإن سلم باقتضاء اللفظ له.
المسألة الحادية عشرة: إذا باع عبدين - مثلا - فتلف أحدهما ووجد الثاني بعينه رجع فيه
ـــــــ
1 لم نجده بهذا اللفظ وقد أخرج أحمد في مسنده "10048" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفلس الرجل فوجد متاعه بعينه فهو أحق به".

(1/374)


عند الشافعي والمذهب: أنه يرج بحصته من الثمن ويضارب بحصة ثمن التلف وقيل: يرجع في الباقي بكل الثمن فأما رجوعه في الباقي فقد يندرج تحت قوله: "فوجد متاعه أو ماله" فإن الباقي متاعه أو ماله وأما كيفية الرجوع: فلا تعلق للفظ به.
المسألة الثانية عشرة: إذا تغير المبيع في صفته بحدوث عيب فأثبت الشافعي الرجوع إن شاءه البائع بغير شيء يأخذه وإن شاء ضارب بالثمن وهذا يمكن أن يدرج تحت اللفظ فإنه وجده بعينه والتغير حادث في الصفة لا في العين.
المسألة الثالثة عشرة: إطلاق الحديث يقتضي: الرجوع في العين وإن كان قد قبض بعض الثمن وللشافعي قول قدم: أنه لا يرجع في العين إذا قبض بعض الثمن لحديث ورد فيه1.
المسألة الرابعة عشرة: الحديث يقتضي الرجوع في متاعه ومفهومه: أنه لا يرجع في غير متاعه فيتعلق بذلك الكلام في الزوائد المنفصلة فإنها تحدث ملك المشتري فليست بمتاع للبائع فلا رجوع له فيها.
المسألة الخامسة عشرة: لا يثبت الرجوع إلا إذا تقدم سبب لزوم الثمن على المفلس بصيغة الشروط فإن المشروط مع الشرط أو عقيبه ومن ضرورة ذلك: تقدم سبب اللزوم على الفلس.
4 - جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "جعل - وفي لفظ قضى - النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق: فلا شفعة"2.
استدل بالحديث على سقوط الشفعة للجار من وجهين:
أحدهما: المفهوم فإن قوله: "جعل الشفعة فيما لم يقسم" يقتضي: أن لا شفعة فيما قسم وقد ورد في بعض الروايات: "إنما الشفعة"3 وهو أقوى في الدلالة لا سيما إذا جعلنا إنما دالة على الحصر بالوضع دون المفهوم.
والوجه الثاني: قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وهذا اللفظ الثاني: يقتضي ترتيب الحكم على مجموع أمرين: وقوع الحدود وصرق الطرق وقد يقول قائل ممن يثبت الشفعة للجار: إن المرتب على أمرين لا يلزم ترتبه على أحدهما وتبقى دلالة المفهوم الأول مطلقة وهو
ـــــــ
1 وهو الحديث الذي أخرجه أبو داود "3520" من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعه فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض من ثمنه شيئا فوجد متاعه بيمينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء".
2 البخاري "2213" ومسلم "1608" "134" واللفظ للبخاري.
3 البخاري "2495".

(1/375)


قوله: "إنما الشفعة فيما لم يقسم" فمن قال بعدم ثبوت الشفعة: تمسك بها ومن خالفه: يحتاج إلى إضمار قيد آخر يقتضي اشتراط أمر زائد وهو صرف الطرق مثلا وهذا الحديث يستدل به ويجعل مفهومه مخالفة الحكم عند انتفاء الأمرين معا: وقوع الحدود وصرف الطرق.
وقد يستدل بالحديث على مسألة اختلف فيها وهو أن الشفعة هل تثبت فيما لم يقبل القسمة أم لا؟ فقد يستدل به من يقول: لا تثبت الشفعة فيه لأن هذه الصيغة في النفي تشعر بالقبول فيقال للبصير: لم يبصر كذا وإن استعمل أحد الأمرين في الآخر فذلك للاحتمال فعلى هذا يكون في قوله: "فيما لم يقسم" إشعار بأنه قابل للقسمة فإذا دخلت "إنما" المعطية للحصر: اقتضت انحصار الشفعة في القابل.
وقد ذهب شذاذ من الناس إلى ثبوت الشفعة في المنقولات واستدل بصدر الحديث من يقول بذلك إلا أن آخره وسياقه: يشعر بأن المراد به العقار وما فيه الحدودوصرف الطرق.
5 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ فقال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال: فتصدق بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث, قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها: أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه" وفي لفظ: "غير متأثل"1.
الحديث دليل على صحة الوقف والحبس على جهات القربات وهو مشهور متداول النقل بأرض الحجاز خلفا عن سلف أعني الأوقاف.
وفيه دليل على ما كان أكابر السلف والصالحين عليه من إخراج أنفس الأموال عندهم لله تعالى وانظر إلى تعليل عمر رضي الله عنه لمقصوده بكونه لم يصب مالا أنفس عنده منه.
وقوله: "تصدقت بها" يحتمل أن يكون راجعا إلى الأصل المحبس وهو ظاهر اللفظ ويتعلق بذلك ما تكلم فيه الفقهاء من ألفاظ التحبيس التي منها الصدقة ومن قال منهم: بأنه لا بد من لفظ يقترن بها يدل على معنى الوقف والتحبيس كالتحبيس المذكور في الحديث وكقولنا مؤبدة محرمة أو لا تباع ولاتوهب ويحتمل أن يكون قوله: "وتصدقت بها" راجعا إلى الثمرة على حذف المضاف ويبقى لفظ الصدقة على إطلاقه.
ـــــــ
1 البخاري "2737" ومسلم "1632".

(1/376)


وقوله: "فتصدق بها غير أنه لا يباع.." الخ محمول عند الجماعة - منهم الشافعي - على أن ذلك حكم شرعي ثابت للوقف من حيث هو وقف ويحتمل من حيث اللفظ: أن يكون ذلك إرشادا إلى شرط هذا الأمر في هذا الوقف فيكون ثبوته بالشرط لا بالشرع والمصارف التي ذكرها عمر رضي الله عنه: مصارف خيرات وهي جهة الأوقاف فلا يوقف على ما ليس بقربة من الجهات العامة.
والقربى يراد بها ههنا: قربي عمر ظاهرا والرقاب قد اختلف في تفسيرها في باب الزكاة ولا بد أن يكون معناها معلوما عن إطلاق هذا اللفظ وإلا كان المصرف مجهولا بالنسبة إليها وفي سبيل الله المسافر والقريبة تقتضي اشتراط حاجته والضيف من نزل بقوم والمراد: قراه ولا تقتضي القرينة تخصيصه بالفقر.
وفي الحديث: دليل على جواز الشروط في الوقوف واتباعها وفيه دليل على المسامحة في بعضها حيث علق الأكل على المعروف وهو غير منضبط وقوله: "غير متأثل" أي: متخذ أصل مال يقال: تأثلت المال: اتخذته أصلا.
6 - عن عمر رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه فظننت أنه يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه" 1.
7 – وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" 2.
وفي لفظ: "فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه".
هذا الحمل تمليك لمن أعطى الفرس ويكون معنى كونه في سبيل الله أن الرجل كان غازيا فآل الأمر بتمليكه: إلى أنه في سبيل الله فسمى بذلك باعتبار المقصود فإن المقصد بتمليكه: أن يستعمله فيما عادته أن يستعمله في وإنما اخترنا ذلك: لأن الذي حمل عليه أرد بيعه ولم ينكر ذلك ولو كان الحمل عليه: حمل تحبيس لم يبع إلا أن يحمل على أنه انتهى إلى حالة لا ينتفع به فيما حبس عليه لكن ذلك ليس في اللفظ ما يشعر به ولو ثبت أنه حمل تحبيس لكان في ذلك متعلق لمسألة وقف الحيوان ومما يدل على أنه حمل تمليك: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تعد في صدقتك" وقوله: "فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه".
وفي الحديث دليل: على منع شراء الصدقة للمتصدق أو كراهته وعلل ذلك بأن المتصدق
ـــــــ
1 البخاري "490" ومسلم "1620".
2 البخاري "2621" ومسلم "1662" "7".

(1/377)


عليه ربما سامح المتصدق في الثمن بسبب تقدم إحسانه إليه بالصدقة عليه فيكون راجعا في ذلك المقدار الذي سومح به.
وفي الحديث دليل على المنع من الرجوع في الصدقة والهبة لتشبيهه برجوع الكلب في قيئه وذلك يدل على غاية التنفير والحنفية اعتذروا عن هذا بأن رجوع الكلب في قيئه لا يوصف بالحرمة لأنه غير مكلف فالتشبيه وقع بأمر مكروه في طبيعته لتثبت به الكراهة في الشريعة.
وقد وقع التشديد في التشبيه من وجهين:
أحدهما: تشبيه الراجع بالكلب.
والثاني: تشبيه المرجوع فيه بالقيء.
واجاز أبو حنيفة رجوع الأجنبي في الهبة.
ومنع من رجوع الوالد في الهبة لولده عكس مذهب الشافعي والحديث: يدل على منع رجوع الواهب مطلقا وإنما يخرج الوالد في الهبة لولده بدليل خاص.
8 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهد على صدقتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟" قال: لا, قال: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم", فرجع أبي فرد الصدقة1.
وفي لفظ: "فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور" 2.
وفي لفظ: "فأشهد على هذا غيري" 3.
الحديث: يدل على طلب التسوية بين الأولاد في الهبات والحكمة فيه: أن التفضيل يؤدي إلى الإيحاش والتباغض وعدم البر من الولد لولده أعني الولد المفضل عليه واختلفوا في هذه التسوية: هل تجري مجرى الميراث في تفضيل الذكر على الأنثى أم لا؟ فظاهر الحديث: يقتضي التسوية مطلقا واختلف الفقهاء في التفضيل: هل هو محرم أو مكروه؟ فذهب بعضهم إلى أنه محرم لتسميته صلى الله عليه وسلم إياه جورا وأمره بالرجوع فيه ولا سيما إذا أخذنا بظاهر الحديث: أنه كان صدقة فإن الصدقة على الولد لا يجوز الرجوع فيها فإن الرجوع ههنا يقتضي أنها وقعت على غير الموقع الشرعي حتى نقضت بعد لزومها ومذهب الشافعي ومالك: أن هذا التفضيل مكروه لا يغر وربما استدل على ذلك بالرواية التي قيل فيها: "أشهد على هذا
ـــــــ
1 البخاري "2587" ومسلم "1623" "12".
2 مسلم "1623" "14".
3 مسلم "1623" "17".

(1/378)


غيري" فإنها تقتضي إباحة إشهاد الغير ولا يباح إشهاد الغير إلا على أمر جائز ويكون امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الشهادة على وجه التنزيه.
وليس هذا بالقوي عندي لأنه الصيغة - وإن كان ظاهرها الإذن - إلا أنها مشعرة بالتنفير الشديد على ذلك الفعل حيث امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من المباشرة لهذه الشهادة معللا بأنها جور فتخرج الصيغة عن ظاهر الإذن بهذه القرائن وقد استعملوا مثل هذا اللفظ مقصود التنفير.
ومما يستدل به على المنع أيضا: قوله: "اتقوا الله" فإنه يؤذن بأن خلاف التسوية ليس بتقوى وأن التسوية تقوى.
9 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع"1.
اختلفوا في هذه المعاملة فذهب بعضهم: إلى جوازها على ظاهر الحديث وذهب كثيرون إلى المنع من كراء الأرض بجزء مما يخرج منها وحمل بعضهم هذا الحديث على أن المعاملة كانت مساقاة على النخيل والبياض المتخلل بين النخيل كان يسيرا فتقع المزارعة تبعا للمساقاة وذهب غيره إلى أن صورة هذه: صورة المعاملة وليست لها حقيقتها وأن الأرض كانت قد ملكت بالاغتنام والقوم صاروا عبيدا فالأموال كلها للنبي صلى الله عليه وسلم والذي جعل لهم منها بعض ماله لينتفعوا به لا على أنه حقيقة المعاملة وهذا يتوقف على إثبات أن أهل خيبر استرقوا فإنه ليس بمجرد الاستيلاء يحصل الاسترقاق للبالغين.
10 - عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر الأنصار حقلا وكنا نكري الأرض على أن لنا هذا ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالورق: فلم ينهنا"2.
11 - ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال: "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا ولذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون: فلا بأس به"3.
ـــــــ
1 البخاري "2329" ومسلم "1551".
2 البخاري "2332" ومسلم "1547" "17" وليس في البخاري لفظ: فأما الذهب والورق فلم ينهنا,
3 مسلم "1547" "16".

(1/379)


الماذيانات الأنهار الكبار والجدول النهر الصغير.
فيه دليل على جواز كراء الأرض بالذهب والورق وقد جاءت أحاديث مطلقة في النهي عن كرائها وهذا مفسر لذلك الإطلاق.
وفيه دليل على أنه لا يجوز أن تكون الأجرة شيئا غير معلوم المقدار عند العقد لما فيه من الإجارة على ما ذكر في الحديث من منع الكراء بما على الماذيانات - إلى آخره - فإنه قد دل على أن الجهالة لم تغتفر.
وقد يستدل به على جواز كرائها بطعام مضمون لقوله: "فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به" وجواز هذه الإجارة - أي الإجارة على طعام معلوم مسمى في الذمة -: هو مذهب الشافعي ومذهب مالك: المنع من ذلك وقد ورد في بعض الروايات الصحيحة: ما يشعر بذلك وهو قوله: "نهى عن كراء الأرض بكذا - إلى قوله - أو بطعام مسمى"1.
12 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له"2.
وفي لفظ: "من أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها ولا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه قد أعطى عطاءا وقعت فيه المواريث" 3.
وقال جابر: "إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك فأنا إذا قال: هي لك ما عشت: فإنها ترجع إلى صاحبها"4.
وفي لفظ لمسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها: حيا وميتا ولعقبه" 5.
العمرى: لفظ مشتق من العمر وهي تمليك المنافع أو إباحتها مدة العمر وهي على وجوه:
أحدها: أن يصرح بأنها للمعمر ولورثته من بعده فهذه هبة محققة يأخذها الوارث بد موته.
وثانيها: أن يعمرها ويشترط الرجوع إليه بعد موت المعمر وفي صحة هذه العمرى خلاف لما فيها من تغيير وضع الهبة.
وثالثها: أن يعمرها مدة حياته ولا يشترط الرجوع إليه ولا التأبيد بل يطلق وفي صحتها
ـــــــ
1 مسلم "1548".
2 البخاري "2625" ومسلم "1625" "25" بألفاظ متقاربة.
3 مسلم "1625".
4 مسلم "1625" "23".
5 مسلم "1625" "26".

(1/380)


خلاف مرتب على ما إذا اشرط الرجوع إليه وأولى ههنا بأن تصح لعدم اشتراط شرط يخالف مقتضى العقد.
والذي ذكر في الحديث من قوله: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى" يحتمل أن يحمل على صورة الإطلاق وهو أقرب إذ ليس في اللفظ تقييد ويحتمل أن يحمل الصورة الثانية وهو مبين بالكلام بعد في الرواية الأخرى ويحتمل أن يحمل على جميع الصور إذا قلنا: إن مثل هذه الصيغة من الراوي تقتضي العموم وفي خلاف بين أرباب الأصول.
وقوله: "لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" يريد: أنها التي شرط فيها له ولعقبه ويحتمل أن يكون المراد: صورة الإطلاق ويؤخذ كونه وقعت فيه المواريث من دليل آخر وهذا الذي قاله جابر: تنصيص على أن المراد بالحديث صورة التقييد بكونها له ولقبه.
وقوله: "إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أمضاها وجعلها للعقب لا تعود وقد نص على أنه إذا أطلق هذه العمرى: أنها لا ترجع وهو تأويل منه ويجوز من حيث اللفظ: أن يكون رواه أعني قوله إنها العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك فإن كان مرويا فلا إشكال في العمل به وإن لم يكن مرويا فهذا يرجع إلى تأويل الصحابي الراوي فهل يكون مقدما من حيث إنه قد تقع له قرائن تورثه العلم بالمراد ولا يتفق تعبيره عنها؟.
13 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بين أكتافكم1.
إذا طلب الجار إعارة حائط جاره ليضع عليها خشبة ففي وجوب الإجابة قولان للشافعي.
أحدهما: تجب الإجابة لظاهر الحديث
والثاني: - وهو الجديد - أنها لا تجب ويحمل الحديث - إذا كان بصيغة النهي - على الكراهة وعلى الاستحباب إذا كان بصيغة الأمر.
وفي قوله ما لي أراكم عنها معرضين؟ إلى آخره ما يشعر بالوجوب لقوله والله لأرمين بها بين أكتافكم وهذا يقتضي التشديد والخوف والكراهة لهم.
14 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم قيد شبر من الأرض: طوقه من سبع أرضين" 2.
في الحديث دليل على تحريم الغصب.
ـــــــ
1 البخاري "2463" ومسلم "1609".
2 البخاري "2453" ومسلم "1612".

(1/381)


والقيد بمعنى القدر وقيد بالشبر: للمبالغة ولبيان أن ما زاد على مثله أولى منه.
وطوقه: أي جعل طوقا له واستدل به على أن العقار يصح غصبه واستدل به على الأرض متعدد بسبع أرضين للفظ المذكور فيه وأجاب بعض من خالف ذلك بأن حمل "سبع أرضين" على سبعة الأقاليم والله أعلم.

(1/382)


7 - باب اللقطة.
1 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق؟ فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر: فأدها إليه" . وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: "مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها", وسأله عن الشاة؟ فقال: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" 1.
اللقطة: هي المال المتلقط وقد استعمله الفقهاء كثيرا بفتح القاف وقياس هذا: أن يكون لمن يكثر منه الالتقاط كالهزأة والضحكة وأمثاله.
والوكاء: ما يربط به الشيء.
والعفاص: الوعاء الذي تجعل فيه النفقة ثم يربط عليه والأمر بمعرفة ذلك: ليكون وسيلة إلى معرفة المال تذكرة لما عرفه الملتقط.
وفي الحديث: دليل على وجوب التعريف سنة وإطلاقه: يدخل فيه القليل والكثير وقد اختلف في تعريف القليل ومدة تعريفه.
وقوله: "فإن لم تعرف فاستنفقها" ليس الأمر فيه على الوجوب وإنما هو للإباحة.
وقوله: "ولتكن وديعة عندك" يحتمل أن يراد بذلك: بعد الاستنفاق ويكون قوله: "ولتكن عندك وديعة" فيه مجاز في لفظ الوديعة فإنها تدل على الأعيان وإذا استنفق اللقطة لم تكن عينا فتجوز بلفظة الوديعة عن كون الشيء بحيث يؤد إذا جاء ربه ويحتمل أن يكون قوله: "ولتكن" الواو فيه بمعنى أو فيكون حكمها حكم الأمانات والودائع فإنه إذا لم يتملكها بقيت عنده على حكم الأمانة فهي كالوديعة.
وقوله: "فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" فيه دليل على وجوب الرد على المالك,
ـــــــ
1 البخاري "2372" ومسلم "1722" بألفاظ متقاربة.

(1/382)


إذا بين كونه صاحبها واختلف الفقهاء: هل يتوقف وجوب الرد على إقامة البينة أم يكتفى بوصفه بإماراتها التي عرفها المتلقط أولا؟.
وقوله: وسأله عن ضالة الإبل الخ.
فيه دليل على امتناع التقاطها وقد نبه على العلة فيه وهي استغناؤها عن الحافظ والمتفقد والحذاء والسقاء ههنا مجازان كأنه لما استغنت بوقتها وما ركب في طبعها من الجلادة عن الماء: كأنها أعطيت الحذاء والسقاء.
وقوله: وسأله عن الشاة - إلى آخر الحديث يريد الشاة الضالة والحديث يدل على التقاطها وقد نبه فيه على العلة وهي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها والتساوي بين هذا الرجل وبين غيره من الناس إذا وجدها فإن هذا التساوي تقتضي الألفاظ: بأنه لا بد منه: إما لهذا الواجد وإما لغيره من الناس والله أعلم.

(1/383)


8 - باب الوصايا.
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ماحق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبين ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده" 1.
زاد مسلم: "قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي"2.
الوصية على وجهين:
أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان وذلك واجب وتلك بعضهم في الشيء اليسير الذي جرت العادة بتداينه ورده مع القرب: هل تجب الوصية به على التضييق والفور؟ وكأنه روعي في ذلك المشقة.
والوجه الثاني: الوصية بالتطوعات في القربات وذلك مستحب وكأن الحديث إنما يحمل على النوع الأول.
والترخيص في الليلتين أو الثلاث دفع للحرج والعسر وربما استدل به قوم على العمل بالخط والكتابة لقوله: "وصية مكتوبة" ولم يذكر أمرا زائدا ولولا أن ذلك كاف لما كان لكتابته فائدة والمخالفون يقولون: المراد وصيته مكتوبة بشروطها ويأخذون الشروط من الخارج.
والحديث دليل على فضل ابن عمر لمبادرته في امتثال الأمر ومواظبته على ذلك.
ـــــــ
1 البخاري "2738" ومسلم "1627".
2 مسلم "1627" "4".

(1/383)


2 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا", قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا", قلت: فالثلث, قال: "الثلث والثلث كثيير إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك" قال: قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: "إنك لن تخلف فتعمل علما تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على اعقابهم", لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة"1.
فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه ودليل على ذكر شدة المرض لا في معرض الشكوى وفيه دليل على استحباب الصدقة لذوي الأموال.
وفيه دليل على مبادرة الصحابة وشدة رغبتهم في الخيرات لطلب سعد التصدق بالأكثر وفيه دليل على تخصيص الوصية بالثلث.
وفيه دليل على أن الثلث في حد الكثرة في باب الوصية.
وقد اختلف مذهب مالك في الثلث بالنسبة إلى مسائل متعددة ففي بعضها جعل في حد الكثرة وفي بعضها جعل في حد القلة فإذا جعل في حد الكثرة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "والثلث كثير" إلا أن هذا يحتاج إلى أمرين:
أحدهما: أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية بل يؤخذ لفظا عاما
والثاني: أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذ يحصل المقصود بأن يقال: الكثرة معتبرة في هذا الحكم والثلث كثير فالثلث معتبر ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين: لم يحصل المقصود.
مثال من ذلك: ذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مسح ثلث رأسه في الوضوء: أجزأه لأنه كثير للحديث فيقال له: لم قلت إن مسمى الكثيرة معتبر في المسح؟ فإذا أثبته قيل له: لم قلت إن مطلق الثلث كثير وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم؟ وعلى هذا فقس سائر المسائل فيطلب فيها تصحيح كل واحدة من المقدمتين.
ـــــــ
1 البخاري "1295" ومسلم "1628".

(1/384)


وفيه دليل على أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم فقراء عالة يتكففون الناس ومن هذا: أخذ بعضهم استحباب الغض من الثلث وقالوا أيضا: ينظر إلى قدر المال في القلة والكثرة فتكون الوصية بحسب ذلك اتباعا للمعنى المذكور في الحديث من ترك الورثة أغنياء.
وفيه دليل على أن الثواب في الإنفاق: مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله وهذا دقيق عسر إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله ويشق تخليص هذا المقصود مما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة.
وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات المالية إذا أديت على قصد الواجب وابتغاء وجه الله: أثيب عليها فإنه قوله: "حتى ما تجعل في امرأتك" لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة حتى ههنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المغني كما يقال: جاء الحاج حتى المشاة ومات الناس حتى الأنبياء فيمكن أن يقال: سبب هذا: ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره وأن لا يزيد على تحصيل براءة الذمة ويحتمل أن يكون ذلك دفعا لما عساه يتوهم من أن إنفاق الزوج على الزوجة وإطعامه إياها واجبا أو غير واجب: لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله كما جاء في حديث زينب الثقفية لما أرادت الإنفاق من عندنا وقال لست بتاركتهم1 وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم فرفع ذلك عنها وأزيل الوهم.
نعم في مثل هذا يحتاج إلى النظر في أنه هل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات أم تكفي نية عامة؟ وقد دل الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد حيث قال: "لو مر بنهر ولا يريد أن يسقي به فشربت: كان له أجر" 2 أو كما قال: فيمكن أن يعدي إلى سائر الأشياء فيكتفي بنية مجملة أو عامة ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك.
وقوله عليه السلام: "ولعلك أن تخلف" الخ تسلية لسعد على كراهيته للتخلف بسبب المرض الذي وقع له وفيه إشارة إلى تلمح هذا المعنى حيث تقع بالإنسان المكاره حتى تمنعه مقاصد له ويرجو المصلحة فيما يفعله الله تعالى.
وقوله عليه السلام: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم" لعله يراد به: إتمام العمل على وجه لا يدخله نقض ولا نقض لما ابتدئ به.
وفيه دليل على تعظيم أمر الهجرة وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله: "ولا تردهم على أعقابهم".
ـــــــ
1 جزء من حديث أخرجه البخاري "5369" ومسلم "1001" من حديث أم سلمة.
2 جزء من حديث طويل أخرجه البخاري "2371" ومسلم "987" من حديث أبي هريرة.

(1/385)


3 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الثلث والثلث كثير" 1.
قول ابن عباس: قد مرت الإشارة إلي سببه وقد استنبطه ابن عباس من لفظ كثير وإن كان القول الذي أقر صلى الله عليه وسلم عليه وأشار لفظه إلى الأمر به - وهو الثلث - يقتضي الوصية به ولكن ابن عباس قد أشار إلى اعتبار هذا بقوله لو أن الناس فإنها صيغة فيها ضعف ما بالنسبة إلى طلب الغض إلى مادون الثلث والله أعلم.
ـــــــ
1 البخاري "2743" ومسلم "1629".

(1/386)


9 - باب الفرائض.
1 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" 1.
وفي رواية: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت: فلأولى رجل ذكر" 2.
الفرائض: جمع فريضة وهي الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى: النصف ونصفه وهو الربع ونصف نصفه وهو الثمن والثلثان ونصفهما وهو الثلث ونصف نصفهما وهو السدس.
وفي الحديث: دليل على أن قسمة الفرائض تكون بالبداءة بأهل الفرض وبعد ذلك: ما بقي للعصبة.
وقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر" أو "عصبة ذكر" قد يورد ههنا إشكاله وهو أن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي وجوابه: أنه من طريق المفهوم وأقصى درجاته: أن يكون له عموم فيخص بالحديث الدال على ذلك الحكم أعني: أن الأخوات عصبات البنات.
2- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟", ثم قال: "لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" 3.
الحديث دليل على انقطاع التوارث بين المسلم والكافر.
ـــــــ
1 البخاري "6732" ومسلم "1615".
2 مسلم "1615" "4".
3 البخاري "1588" ومسلم "1351".

(1/386)


ومن المتقدمين من قال: يرث المسلم الكافر والكافر لا يرث المسلم وكأن ذلك تشبيه بالنكاح حيث ينكح المسلم الكافرة الكتابية بخلاف العكس والحديث المذكور يدل على ما قاله الجمهور.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من دار؟" سببه: أن أبا طالب لما مات: لم يرثه علي ولا جعفر وورثه عقيل وطالب لأن عليا وجعفرا كانا مسلمين حينئذ فلم يرثا أبا طالب: وقد تعلق بهذا الحديث في مسألة دور مكة وهل يجوز بيعها أم لا؟.
3 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته"1.
الولاء حق ثبت بوصف وهو الاعتاق فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه ولا يستحقه إلا من قام به ذلك الوصف وقد شبه الولاء بالنسب قال عليه السلام: "الولاء لحمة كلحمة النسب" 2 فكما لا يقبل النسب النقل بالبيع والهبة فكذلك الولاء.
4 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت وأهدي لها لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: "ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟" قالوا: بلى يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال: "هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية", وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: "إنما الولاء لمن أعتق" 3.
حديث بريرة: قد استنبط منه أحكام كثيرة وجمع في ذلك غير ما تصنيف وقد اشرنا إلى أشياء منها في مواضع فيما مضى وقد صرح ههنا بثبوت الخيار لها وهي أمة عتقت تحت عبد فيثبت ذلك لكل من هو في حالها.
وفيه دليل على أن الفقير إذا ملك شيئا على وجه الصدقة: لم يمتنع على غيره ممن لا تحل له الصدقة أكله إذا وجد سبب شرعي من جهة الفقير يبيحه له.
وفيه دليل على تبسط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه لطلبه من أهله مثل ذلك.
وفيه دليل على حصر الولاء للمعتق وقد تكلمنا عليه فيما مضى.
ـــــــ
1 البخاري "2535" ومسلم "1506".
2 ابن حبان "495" من حديث ابن عمر.
3 البخاري "5097" ومسلم "1504" "14".

(1/387)