إحكام
الأحكام شرح عمدة الأحكام ط مؤسسة الرسالة كتاب النكاح
مدخل
...
كتاب النكاح
1 - عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من
استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغرض للبصر
وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه
له وجاء" 1.
الباءة: النكاح مشتق من اللفظ الذي يدل على
الإقامة والنزول والباءة المنزل فلما كان
الزوج ينزل بزوجته: سمى النكاح باءة لمجاز
الملازمة واستطاعة النكاح: القدرة على مؤنة
المهر والنفقة.
وفيه دليل على أنه لا يؤمر به إلا القادر على
ذلك وقد قالوا: من لم يقدر عليه فالنكاح مكروه
في حقه وصيغة الأمر ظاهرة في الوجوب.
وقد قسم الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة
أعني الوجوب: والندب والتحريم والكراهة
والإباحة وجعل الوجوب فيما إذا خالف العنب
وقدر على النكاح إلا أنه لا يتعين واجبا بل
إما هو وإما التسري فإن تعذر التسري تعين
النكاح حينئذ للوجوب لا لأصل الشرعية.
وقد يتعلق بهذه الصيغة من يرى أن النكاح أفضل
من التخلي لنوافل العبادات وهو مذهب أبي حنيفة
وأصحابه.
وقوله عليه السلام: "فإنه أغض للبصر وأحصن
للفرج" يحتمل أمرين:
أحدهما: أن تكون أفعل فيه مما استعمل لغير
المبالغة.
والثاني: أن تكون على بابها فإن التقوى سبب
لغض البصر وتحصين الفرج وفي معارضتها: الشهوة
والداعي إلى النكاح وبعد النكاح: يضعف هذا
المعارض فيكون أغض للبصر وأحصن للفرج مما إذا
لم يكن فإن وقوع الفعل - مع ضعف الداعي إلى
وقوعه - أندر من وقوعه مع وجود الداعي
والحوالة على الصوم لما فيه كسر الشهوة فإن
شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوتها
وتضعف بضعفها.
ـــــــ
1 البخاري "1905" ومسلم "1400".
(1/389)
وقد قيل في
قوله: "فعليه بالصوم" بأنه إغراء للغائب وقد
منعه قوم من أهل العربية والوجاء الخصاء وجعل
وجاء: نظرا إلى المعنى فإن الوجاء قاطع للفعل
وعدم الشهوة قاطع له أيضا وهو من مجاز
المشابهة.
وإخراج الحديث لمخاطبة الشباب: بناء على
الغالب لأن أسباب قوة الداعي إلى النكاح فيه
موجودة بخلاف الشيوخ والمعنى معتبر إذا وجد في
الكهول والشيوخ أيضا.
2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نفرا من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟
فقال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا
آكل اللحم وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى
عليه وقال: "ما بال أقوام قالوا كذا؟ لكني
أصلي وأنام وأصوم وافطر وأتزوج النساء فمن رغب
عن سنتي فليس مني" 1.
يستدل به من يرجح النكاح على التخلي لنوافل
العبادات فإن هؤلاء القوم قصدوا هذا القصد
والنبي صلى الله عليه وسلم رده عليهم وأكد ذلك
بأن خلافه: رغبة عن السنة ويحتمل أن تكون هذه
الكراهة للتنطع والغلو في الدين وقد يختلف ذلك
باختلاف المقاصد فإن من ترك اللحم - مثلا -
يختلف في حكمه بالنسبة إلى مقصوده فإن كل من
باب الغلو والتنطع والدخول في الرهبانية: فهو
ممنوع مخالفة للشرع وإن كان لغير ذلك من
المقاصد المحمودة كمن تركه تورعا لقيام شبهة
في ذلك الوقت في اللحوم أو عجزا أو لمقصود
صحيح غير ما تقدم: لم يكن ممنوعا.
وظاهر الحديث: ما ذكرناه من تقديم النكاح كما
يقوله أبو حنيفة ولا شك أن الترجيح يتبع
المصالح ومقاديرها مختلفة وصاحب الشرع أعلم
بتلك المقادير فإذا لم يعلم المكلفة حقيقة تلك
المصالح ولم يستحضر أعدادها: فالأولى اتباع
اللفظ الوارد في الشرع.
3 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "رد
رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن
مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا".
التبتل: ترك النكاح ومنه قيل لمريم عليها
السلام البتول وحديث سعد أيضا من هذا الباب
لأن عثمان بن مظعون ممن قصد التبتل والتخلي
للعبادة مما هو داخل في باب التنطع والتشبه
بالرهبانية إلا أن ظاهر الحديث: يقتضي تعليق
الحكم بمسمى التبتل وقد قال الله تعالى في
كتابه العزيز: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] فلا بد أن يكون هذا
المأمور.
ـــــــ
1 البخاري "5063" ومسلم "1401".
(1/390)
به في الآية
غير المردود في الحديث ليحصل الجمع وكأن ذلك:
إشارة إلى ملازمة التعبد أو كثرته لدلالة
السياق عليه من الأمر بقيام الليل وترتيل
القرآن والذكر فهذه إشارة إلى كثرة العبادات
ولم يقصد معها ترك النكاح ولا أمر به بل كان
النكاح موجودا مع هذا الأمر ويكون ذلك التبتل
المردود: ما انضم إليه مع ذلك - من الغلو في
الدين وتجنب النكاح وغيره مما يدخل في باب
التشديد على النفس بالإجحاف بها ويؤخذ من هذا:
منع ما هو داخل في هذا الباب وشبهه مما قد
يفعله جماعة من المتزهدين.
4 - عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها
أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي ابنة أبي
سفيان, قال: "أو تحبين ذلك؟", فقلت: نعم, لست
لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي: فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحل
لي", قالت: إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي
سلمة قال: "بنت أم سلمة؟" قالت: قلت: نعم,
قال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت
لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا
سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا
أخواتكن".
"قال عروة وثويبة: مولاة أبي لهب أعتقها
فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو
لهب رآه بعض أهله بشر خيبة فقال له: ماذا
لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا غير أني
سقيت في هذه بعتاقي ثويبة"1.
الخيبة: الحالة بكسر الخاء.
الجمع بين الأختين وتحريم نكاح الربيبة: منصوص
عليه في كتاب الله تعالى ويحتمل أن تكون هذه
المرأة السائلة لنكاح أختها: لم يبلغها أمر
هذا الحكم وهو أقرب من نكاح الربيبة فإن لفظ
الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بتقدم نزول
الآية حيث قال: "لو لم تكن ربيبتي في حجري"2
وتحريم الجمع بين الأختين في النكاح متفق عليه
فأما بملك اليمين: فكذلك عند علماء الأمصار
وعن بعض الناس: فيه خلاف ووقع الاتفاق بعده
على خلاف ذلك من أهل السنة غير أن الجمع في
ملك اليمين: إنما هو في استباحة وطئها إذ
الجمع في ملك اليمين: غير ممتنع اتفاقا وقال
الفقهاء: إذا وطئ إحدى الأختين لم يطأ الأخرى
حتى يحرم الأولى ببيع أو عتق أو كتابة أو
تزويج لئلا يكون مستبيحا لفرجيهما معا.
وقولها: "لست لك بمخلية" مضموم الميم ساكن
الخاء المعجمة مكسور اللام معناه: لست أخلي
بغير بغير ضرة.
ـــــــ
1 البخاري "5101" ومسلم "1449" وليس عند مسلم
قوله: عروة . الحديث.
2 مسلم "1449".
(1/391)
وقولها: "وأحب
من شاركني" وفي رواية: "شركني" بفتح الشين
وكسر الراء وأرادت بالخير ههنا: ما يتعلق
بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من مصالح
الدنيا والآخرة وأختها: اسما عزة بفتح العين
وتشديد الزاي المعجمة.
وقولها: "إنا كنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت
أبي سلمة" هذه يقال لها درة بضم الدال المهملة
وتشديد الراء المهملة أيضا ومن قال فيه درة
بفتح الذال المعجمة فقد صحف.
وقد يقع من هذه المحاورة في النفس: أنها إنما
سألت نكاح أختها لاعتقادها خصوصية الرسول صلى
الله عليه وسلم بإباحة هذا النكاح لا لعدم
علمها بما دلت عليه الآية وذلك: أنه إذا كان
سبب اعتقادها التحليل: اعتقادها خصوصية الرسول
صلى الله عليه وسلم ناسب ذلك: أن تعترض بنكاح
درة بنت أبي سلمة فكأنها تقول: كما جاز نكاح
درة - مع تناول الآية لها - جاز الجمع بين
الأختين للاجتماع في الخصوصية أما إذا لم تكن
عالمة بمقتضى الآية: فلا يلزم من كون الرسول
صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريم نكاح الأخت
على الأخت أن يرد على ذلك تجويز نكاح الربيبة
لزوما ظاهرا لأنهما إنما يشتركان حينئذ في أمر
أعم أما إذا كانت عالمة بمدلول الآية: فيكون
اشتراكهما في أمر خاص وهو التحريم العام
واعتقاد التحليل الخاص.
وقوله عليه السلام: "بنت أم سلمة؟" يحتمل أن
يكون للاستثبات ونفي الاشتراك ويحتمل أن يكون
لإظهار جهة الإنكار عليها أو على من قال ذلك.
وقوله عليه السلام: "لو لم تكن ربيبتي في
حجري".
والربيبة بنت الزوجة مشتقة من الرب وهو
الإصلاح لأنه يربها ويقوم بأمورها وإصلاح
حالها ومن ظن من الفقهاء: أنه مشتق من التربية
فقد غلط لأن شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف
الأصلية والاشتراط مفقود فإن آخر رب باء موحدة
وآخر ربي ياء مثناه من تحت والحجر بالفتح أفصح
ويجوز بالكسر.
وقد يحتج بهذا الحديث من يرى اختصاص تحريم
الربيبة بكونها في الحجر وهو الظاهري وجمهور
الفقهاء على التحريم مطلقا وحملوا التخصيص على
أنه خرج مخرج الغالب وقالوا: ما خرج مخرج
الغالب لا مفهوم له وعندي نظر في أن الجواب
المذكور في الآية فيه - أنه خرج مخرج الغالب:
هل يرد في لفظ الحديث أو لا؟.
وفي الحديث دليل على أن تحريم الجمع بين
الأختين شامل للجمع على صفة الاجتماع في عقد
واحد وعلى صفة الترتيب.
(1/392)
5 - عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا يجمع بين المرأة وعمتها
ولا بين المرأة وخالتها" 1.
جمهور الأمة على تحريم هذا الجمع أيضا وهو مما
أخذ من السنة وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي
الإباحة لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] - الآية إلا
أن الأئمة من علماء الأمصار خصوا ذلك العموم
بهذا الحديث وهو دليل على جواز تخصيص عموم
الكتاب بخبر الواحد.
وظاهر الحديث يقتضي التسوية بين الجمع بينهما
على صفة المعية والجمع على صفة الترتيب وإذا
كان النهي واردا على مسمى الجمع - وهو محمول
على الفساد - فيقتضي ذلك: أنه إذا أراد نكحهما
معا فنكاحهما باطل لأن هذا عقد حصل فيه الجمع
المنهي عنه فيفسد وإن حصل الترتيب في العقدين
فالثاني: هو الباطل لأن مسمى الجمع قد حصل به
وقد وقع في بعض الروايات لهذا الحديث: "لا
تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على
الصغرى" 2 وذلك مصرح بتحريم جمع الترتيب.
والعلة في هذا النهي ما يقع بسبب المضارة من
التباغض والتنافر فيقضي ذلك إلى قطيعة الرحم
وقد ورد الإشعار بهذا التعليل.
6 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط
أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج" 3.
ذهب قوم إلى ظاهر الحديث وألزموا الوفاء
بالشروط وإن لم تكن من مقتضى العقد كأن لا
يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يخرجها من البلد
لظاهر الحديث وذهب غيرهم: إلى أنه لا يجب
الوفاء بمثل هذه الشروط التي لا يقتضيها العقد
فإن وقع شيء منها فالنكاح صحيح والشرط باطل
والواجب مهر المثل وربما حمل بعضهم الحديث على
شروط يقتضيها العقد مثل: أن يقسم لها وأن ينفق
عليها ويوفيها حقها أو يحسن عشرتها ومثل: أن
لا تخرج من بيته إلا بإذنه ونحو ذلك مما هو من
مقتضيات العقد.
وفي هذا الحمل ضعف لأن هذه الأمور لاتؤثر
الشروط في إيجابها فلا تشتد الحاجة إلى تعليق
الحكم بالاشتراط فيها.
ومقتضى الحديث: أن لفظة: "أحق الشروط" تقتضي:
أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء,
ـــــــ
1 البخاري "5109" ومسلم "1408".
2 أبو داود "2065" والترمذي "1126" قال
الترمذي حديث حسن صحيح.
3 البخاري "2721" ومسلم "1418" بألفاظ
متقاربة.
(1/393)
وبعضها أشد
اقتضاء له والشروط التي هي مقتضى العقود:
مستوية في وجوب الوفاء ويترجح على ما عدا
النكاح: الشروط المتعلقة بالنكاح من جهة حرمة
الأبضاع وتأكيد استحلالها والله أعلم.
7 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن
الشغار.
والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه
ابنته وليس بينهما صداق"1.
هذا اللفظ الذي فسر به الشغار تبين في بعض
الروايات: أنه من كلام نافع والشغار بكسر
الشين وبالغين المعجمة: اختلفوا في أصله في
اللغة فقيل: هو من شغر الكلب: إذا رفع رجله
ليبول كأن العاقد يقول: لا ترفع رجل ابنتي حتى
أرفع رجل ابنتك وقيل: هو مأخوذ من شغر البلد:
إذا خلا كأنه سمي بذلك للشغور عن الصداق.
والحديث صريح في النهي عن نكاح الشغار واتفق
العلماء على المنع منه واختلفوا - إذا وقع -
فساد العقد فقال بعضهم: العقد صحيح والواجب
مهر المثل وقال الشافعي: العقد باطل وعند مالك
فيه تقسيم ففي بعض الصور: العقد باطل عنده وفي
بعض الصور: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده وهو ما
إذا سمي الصداق في العقد بأن يقول: زوجتك
ابنتي بكذا على أن تزوجني ابنتك بكذا فاستخف
مالك هذا لذكر الصداق.
وصورة الشغار الكاملة: أن يقول: زوجتك ابنتي
على أن تزوجني ابنتك وبضع كل منهما صداق
الأخرى ومهما انعقد لي نكاح ابنتك انعقد لك
نكاح ابنتي ففي هذه الصورة وجوه من الفساد.
منها تعليق العقد.
ومنها: التشريك في البضع.
ومنها: اشتراط هدم الصداق وهو مفسد عند مالك
ولا خلاف أن الحكم لا يختص بمن ذكر في الحديث
وهو الابنة بل يتعدى إلى سائر الموليات.
وتفسير نافع وقوله: "ولا صداق بينهما" يشعر
بأن جهة الفساد: ذلك وإن كان يحتمل أن يكون
ذكر ذلك لملازمته لجهة الفساد.
وعلى الجملة: ففيه إشعار بأن عدم الصداق له
مدخل في النهي.
8 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن
النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن نكاح
المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية"2.
نكاح المتعة: هو تزوج الرجل المرأة إلى أجل
وقد كان ذلك مباحا ثم نسخ والروايات تدل على
أنه: أبيح بعد النهي ثم نسخت الإباحة فإن هذا
الحديث عن علي رضي الله عنه: يدل على النهي
عنها يوم خيبر وقد وردت إباحته عام الفتح ثم
النهي عنها وذلك بعد يوم خيبر.
ـــــــ
1 البخاري "5112" ومسلم "1415".
2 البخاري "4216" ومسلم "1407"ألفاظ قريبة.
(1/394)
وقد قيل: إن
ابن عباس رجع عن القول بإباحتها بعدما كان
يقول به وفقهاء الأمصار كلهم على المنع وما
حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز فهو خطأ
قطعا وأكثر الفقهاء على الاقتصار في التحريم
على العقد المؤقت وعداه مالك بالمعنى إلى
توقيت الحل وإن لم يكن عقد فقال: إذا علق طلاق
امرأته بوقت لا بد من مجيئه: وقع عليها الطلاق
الآن وعلله أصحابه بأن ذلك تأقيت للحل وجعلوه
في معنى نكاح المتعة.
وأما لحوم الحمر الأهلية: فإن ظاهر النهي
التحريم وهو قول الجمهور وفي طريقة للمالكية:
أنه مكروه مغلظ الكراهة ولم ينهوه إلى التحريم
والتقيد بالأهلية: يخرج الحمر الوحشية ولا
خلاف في إباحتها.
9 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيم حتى
تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا
رسول الله فكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" 1.
كأنه أطلقت الأيم ههنا بإزاء الثيب والاستئمار
طلب الأمر والاستئذان طلب الإذن.
وقوله: "فكيف إذنها؟" راجع إلى البكر.
وفي الحديث دليل على أن إذن البكر سكوتها وهو
عام بالنسبة إلى لفظ البكر ولفظ النهي في
قوله: "لا تنكح" إما أن يحمل على التحريم أو
على الكراهة فإن حمل على التحريم: تعين أحد
الأمرين: إما أن يكون المراد بالبكر ما عدا
الصغيرة فعلى هذا: لا تجبر البكر البالغ وهو
مذهب أبي حنيفة وتمسكه بالحديث قوي لأنه أقرب
إلى العموم من لفظ البكر وربما يزاد على ذلك
بأن يقال: إن الاستئذان إنما يكون في حق من له
إذن ولا إذن للصغيرة فلا تكون داخلة تحت
الإرادة ويختص الحديث بالبوالغ فيكون أقرب إلى
التناول وإما أن يكون المراد: اليتيمة وقد
اختلف قول الشافعي في اليتيمة: هل يكتفي فيها
بالسكوت أم لا؟ والحديث يقتضي الاكتفاء به وقد
ورد مصرحا به في حديث آخر2 ومال إلى ترجيح هذا
القول من يميل إلى الحديث من أصحابه وغيرهم من
أهل الفقه: يرجح الآخر.
10 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءت
امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت
طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن
ـــــــ
1 البخاري "5136" ومسلم "1419".
2 أبو داود "2100" والنسائي "3263" عن ابن
عباس ولفظه عند أبي داود: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ليس للولي مع الثيب أمر
واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها".
(1/395)
الزبير وإنما
معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟
لا, حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك", قالت:
وأبو بكر عنده وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن
يؤذن له فنادى أبا بكر: ألا تسمع إلى هذه ما
تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟1.
تطليقه إياها بالبتات من حيث اللفظ: يحتمل أن
يكون بإرسال الطلقات الثلاث ويحتمل أن يكون
بإرسال الطلقات الثلاث ويحتمل أن يكون بإيقاع
آخر طلقة ويحتمل أن يكون بإحدى الكنايات التي
تحمل على البينونة عند جماعة من الفقهاء وليس
في اللفظ عموم ولا إشعار بأحد هذه المعاني
وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أخر تبين المراد ومن
احتج على شيء من هذه الاحتمالات بالحديث: فلم
يصب لأنه إنما دل على مطلق البت والدال على
المطلق لا يدل على أحد قيديه بعينه.
وقولها: "فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير"
هو بفتح الزاي وكسر الباء ثاني الحروف وثالثه
ياء آخر الحروف.
وقولها: "إنما معه مثل هدبة الثوب" فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون شبهته بذلك لصغره.
والثاني: أن تكون شبهته به لاسترخائه وعدم
انتشاره.
وقوله عليه السلام: "لا حتى تذوقي عسيلته" يدل
على أن الإحلال للزوج الثاني يتوقف على الوطء
وقد يستدل به من يرى الانتشار في الإحلال شرطا
من حيث إنه يرجح حمل قولها: "إنما معه مثل
هدبة" على الاسترخاء وعدم انتشاره لاستبعاد أن
يكون الصغر قد بلغ إلى حد لا تغيب منه الحشفة
أو مقدارها الذي يحصل به التحليل.
وقوله عليه السلام: "أتريدين أن ترجعي إلى
رفاعة؟" كأنه بسبب: أنه فهم عنها إرادة فراق
عبد الرحمن وإرادة أن يكون فراقه سببا للرجوع
إلى رفاعة وكأنه قيل لها: إن هذا المقصود لا
يحصل إلا بالدخول ولم ينقل فيه خلاف إلا عن
سعيد بن المسيب فيما نعلمه واستعمال لفظ
العسيلة مجاز عن اللذة ثم عن مظنتها وهو
الإيلاج فهو مجاز على مذهب جمهور الفقهاء
الذين يكتفون بتغييب الحشفة.
11 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "من
السنة إذا تزوج البكر على الثيب: أقام عندها
سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب: أقام عندها
ثلاثا ثم قسم.
قال أبو قلابة ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم"2.
الذي اختاره أكثر الأصوليين: أن قول الراوي من
السنة كذا في حكم المرفوع لأن
ـــــــ
1 البخاري "2639" ومسلم "1433".
2 البخاري "5213" ومسلم "1461" بألفاظ
متقاربة.
(1/396)
الظاهر أنه
ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإن
كان يحتمل أن يكون ذلك قاله بناء على اجتهاد
رآه ولكن الأظهر خلافه.
وقول أبي قلابة لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه .
إلخ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ظن ذلك مرفوعا لفظا عن أنس
فتحرز عن ذلك تورعا.
والثاني: أن يكون رأى أن قول أنس من السنة في
حكم المرفوع فلو شاء لعبر عنه بأنه مرفوع على
حسب ما اعتقده: من أنه في حكم المرفوع والأول:
أقرب لأن قوله من السنة يقتضي أن يكون مرفوعا
بطريق اجتهادي محتمل وقوله إنه رفعه نص في
رفعه وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل
إلى ما هو نص غير محتمل.
والحديث يقتضي: أن هذا الحق للبكر أو الثيب:
إنما هو فيه إذا كانتا متجددتين على نكاح
امرأة قبلهما ولا يقتضي أنه ثابت لكل متجددة
وإن لم يكن قبلها غيرها وقد استمر عمل الناس
على هذا وإن لم يكن قبلها امرأة في النكاح
والحديث لا يقتضيه.
وتكلموا في علة هذا فقيل: إنه حق للمرأة على
الزوج لأجل إيناسها وإزالة الحشمة عنها
لتجددها أو يقال: إنه حق للزوج على المرأة.
وأفرط بعض الفقهاء من المالكية فجعل مقامه
عندها عذرا في إسقاط الجمعة إذا جاءت في أثناء
المدة وهذا ساقط مناف للقواعد فإن مثل هذا من
الآداب أو السنن لا يترك له الواجب ولما شعر
بهذا بعض المتأخرين وأنه لا يصلح أن يكون
عذرا: توهم أن قائله يرى الجمعة فرض كفاية وهو
فاسد جدا لأن قول هذا القائل متردد محتمل أن
يكون جعله عذرا أو أخطأ في ذلك وتخطئته في هذا
أولى من تخطئته فيما دلت عليه النصوص وعمل
الأمة من وجوب الجمعة على الأعيان.
13 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدهم
إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم
جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن
يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا"
1.
فيه دليل استحباب التسمية والدعاء المذكور في
ابتداء الجماع.
وقوله عليه السلام: "لم يضره الشيطان" يحتمل
أن يؤخذ عاما يدخل تحته الضرر الديني ويحتمل
أن يؤخذ خاصا بالنسبة إلى الضرر البدني بمعنى
أن الشيطان لا يتخبطه ولا يداخله بما يضر عقله
أو بدنه وهذا أقرب وإن كان التخصيص على خلاف
الأصل لأنا إذا حملناه على
ـــــــ
1 البخاري "6388" ومسلم "1434".
(1/397)
العموم اقتضى
ذلك: أن يكون الولد معصوما عن المعاصي كلها
وقد لا يتفق ذلك أو يعز وجوده ولا بد من وقوع
ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أما إذا
حملناه على أمر الضرر في العقل أو البدن: فلا
يمتنع ذلك ولا يدل دليل على وجوم خلافه والله
أعلم.
13 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول
على النساء", فقال رجل من الأنصار: يا رسول
الله أرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت" 1.
ولمسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت
الليث يقول الحمو أخو الزوج وما أشبهه من
أقارب الزوج ابن العم ونحوهم2.
لفظ الحمو يستعمل عند الناس اليوم في أبي
الزوج وهو محرم من المرأة لا يمتنع دخوله
عليهما فلذلك فسره الليث بما يزيل هذا الإشكال
وحمله على من ليس بمحرم فإنه لا يجوز له
الخلوة بالمرأة.
والحديث دليل على تحريم الخلوة بالأجانب.
وقوله: "إياكم والدخول على النساء" مخصوص بغير
المحارم وعام بالنسبة إلى غيرهن ولا بد من
اعتبار أمر آخر وهو أن يكون الدخول مقتضيا
للخلوة أما إذا لم يقتض ذلك فلا يمتنع.
وأما قوله عليه السلام: "الحمو الموت" فتأويله
يختلف بحسب اختلاف الحمو فإن حمل على محرم
المرأة - كأبي زوجها - فيحتمل أن يكون قوله:
"الحمو الموت" بمعنى أنه لا بد من إباحة دخوله
كما أنه لا بد من الموت وإن حمل على ما ليس
بمحرم فيحتمل أن يكون هذا الكلام خرج مخرج
التغليظ والدعاء لأنه فهم من قائله: طلب
الترخيص بدخول مثل هؤلاء الذين ليسوا بمحارم
فغلظ عليه لأجل هذا القصد المذموم بأن دخول
الموت عوضا من دخوله زجرا عن هذا الترخيص على
سبيل التفاؤل والدعاء كأنه يقال: من قصد ذلك
فليكن الموت في دخوله عوضا من دخول الحمو الذي
قصد دخوله ويجوز أن يكون شبه الحمو بالموت
باعتبار كراهته لدخوله وشبه ذلك بكراهة دخول
الموت.
ـــــــ
1 البخاري "5232" ومسلم "2172" "20".
2 مسلم "2172" "21".
(1/398)
باب الصداق.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول
الله أعتق صفية وجعل عتقها صداقها"1.
قوله: "و جعل عتقها صداقها" يحتمل وجهين:
ـــــــ
1 البخاري "5086" ومسلم "1365" "85".
(1/398)
أحدهما: أن
يكون تزوجها بغير صداق على سبيل الخصوصية
برسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان عتقها
مقام الصداق إذ لم يكن ثم عوض سمي صداقا.
والوجه الثاني: قول بعض الفقهاء أنه أعتقها
فتزوجها على قيمتها وكانت مجهولة وذلك من
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعض
أصحاب الشافعي معناه: أنه شرط عليها أن يعتقها
ويتزوجها فقبلت فلزمها الوفاء به.
وقد اختلف الفقهاء فيمن أعتق أمته على أن
يتزوجها ويكون عتقها صداقها فقال جماعة: لا
يلزمها أن تتزوج به وممن قاله مالك والشافعي
وأبو حنيفة وهو إبطال للشرط قال الشافعي فإن
أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها
الوفاء بتزوجه بل عليها قيمتها لأنه لم يرض
بعتقها مجانا وصار ذلك كسائر الشروط الباطلة
أو كسائر ما يلزم من الأعواض لمن لم يرض
بالمجان.
فإن تزوجته على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك
المسمى وعليها قيمتها للسيد فإن تزوجها على
قيمتها: فإن كانت القيمة معلومة لها وله صح
الصداق ولا يبقى له عليها قيمة ولا لها عليه
صداق وإن كانت مجهولة فالأصح من وجهي الشافعية
أنه لا يصح الصداق ويجب مهر المثل والنكاح
صحيح.
و منهم من صحح الصداق بالقيمة المجهولة على
ضرب من الاستحسان وأن يرى العقد فيه ضرب من
المسامحة والتخفيف.
وذهب جماعة منهم الثوري والزهري وقول عن أحمد
وإسحاق: أنه يجوز أن يعتقها على أن يتزوج بها
ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق
على ظاهر لفظ الحديث.
والأولون قد يؤولونه بما تقدم من أنه جعل
عتقها قائما مقام الصداق فسماه باسمه والظاهر
مع الفريق الثاني إلا أن القياس مع الأول
فيتردد الحال بين ظن من نشأ من قياس وظن من
نشأ من ظاهر الحديث مع احتمال الواقعة
للخصوصية.
و هي - وإن كانت على خلاف الأصل - إلا أنه
يتأنس في ذلك بكثرة خصائص الرسول صلى الله
عليه وسلم في النكاح لا سيما هذه الخصوصية
لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً
لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:
50] ولعله يؤخذ من الحديث استحباب عتق الأمة
وتزوجها كما جاء مصرحا به في حديث آخر1.
ـــــــ
1 وهو ما أخرجه البخاري "244" عن أبي موسى رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من كانت له جارية فعلمها فأحسن إليها
ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران".
(1/399)
2 - عن سهل بن
سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "جاءته امرأة فقالت: إني وهبت
نفسي لك فقامت طويلا فقال رجل: يا رسول الله
زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال: "هل عندك
من شيء تصدقها؟", فقال: ما عندي إلا إزاري
هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك فالتمس
شيئا" قال: ما أجد, قال: "التمس ولو خاتما من
حديد" فالتمس فلم يجد شيئا, فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "هل معك شيء من القرآن؟"
قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"زوجتكها بما معك من القرآن" 1.
في الحديث دليل على عرض المرأة نفسها على من
ترجى بركته.
وقولها: "وهبت نفسي لك" مع سكوت النبي صلى
الله عليه وسلم دليل لجواز هبة المرأة نكاحها
له صلى الله عليه وسلم كما جاء في الآية فإذا
تزوجها على ذلك صح النكاح من غير صداق لا في
الحال ولا في المآل ولا بالدخول ولا بالوفاة
وهذا هو موضع الخصوصية فإن غيره ليس كذلك فلا
بد من المهر في النكاح إما مسمى أو مهر المثل.
واستدل به من أجاز من الشافعية انعقاد نكاحه
بلفظ الهبة ومنهم من منعه إلا بلفظ الإنكاح أو
التزويج كغيره صل الله عليه وسلم وجعل
الخصوصية عدم لزوم المهر فقط.
وقوله: "هل عندك من شيء تصدقها؟" فيه دليل على
طلب الصداق في النكاح وتسميته فيه.
وقوله: "إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك"
دليل على الإرشاد إلى المصالح من كبير القوم
والرفق برعيته.
وقوله: "فالتمس ولو خاتما من حديد" دليل على
الاستحباب لئلا يخلى العقد من ذكر الصداق لأنه
أقطع للنزاع وأنفع للمرأة فإنه لو حصل الطلاق
قبل الدخول وجب لها نصف المسمى واستدل به من
يرى جواز الصداق بما قل أو كثر وهو مذهب
الشافعي وغيره ومذهب مالك أن أقله ربع دينار
أو ثلاثة دراهم أو قيمتها ومذهب أبي حنيفة أن
أقله عشرة دراهم ومذهب بعضهم أن أقله خمسة
دراهم واستدل به على جواز اتخاذ خاتم الحديد
وفيه خلاف لبعض السلف وقد قيل عن بعض الشافعية
كراهته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها" اختلف في
هذه اللفظة فمنهم من رواها كما ذكر ومنهم من
رواها: "ملكتها" ومنهم من رواها: "ملكتكها"
فيستدل بهذه الرواية من يرى انعقاد النكاح
بلفظ التمليك إلا أن هذه لفظة واحدة في حديث
واحد اختلف فيها والظاهر القوي: أن الواقع أحد
الألفاظ لا كلها فالصواب في مثل هذا النظر إلى
الترجيح بأحد وجوهه ونقل عن
ـــــــ
1 البخاري "5135" ومسلم "1425".
(1/400)
الدارقطني أن
الصواب رواية من روى: "زوجتكها" وأنه قال: وهم
أكثر وأحفظ وقال بعض المتأخرين: ويحتمل صحة
اللفظين ويكون أرجى لفظ التزويج أولا فملكها
ثم قال له: "اذهب فقد ملكتها" بالتزويج
السابق.
قلت: هذا أولا بعيد فإن سياق الحديث يقتضي
تعيين موضع هذه اللفظة التي اختلف فيها وأنها
التي انعقد بها النكاح وما ذكره يقتضي وقوع
أمر آخر انعقد به النكاح واختلاف موضع كل واحد
م اللفظين وهو بعيد جدا.
و أيضا فلخصمه أن يعكس الأمر ويقول: كان
انعقاد النكاح بلفظ التمليك وقوله عليه
السلام: "زوجتكها" إخبارا عما مضى بمعناه فإن
ذلك التمليك هو تمليك نكاح.
و أيضا فإن رواية من روى ملكتها التي لم يتعرض
لتأويلها يبعد فيها ما قال إلا على سبيل
الإخبار عن الماضي بمعناه ولخصمه أن يعكسه
وإنما الصواب في مثل هذا أن ينظر إلى الترجيح
والله أعلم.
و في لفظ الحديث: متمسك لمن يرى جواز النكاح
بتعليم القرآن والروايات مختلفة في هذا الموضع
أيضا أعني قوله: "بما معك من القرآن", والناس
متنازعون أيضا في تأويله فمنهم من يرى أن
الباء هي التي تقتضي المقابلة في العقود
كقولك: بعتك كذا بكذا وزوجتك بكذا ومنهم من
يراها باء السببية أي بسبب ما معك من القرآن
إما أن يخلى النكاح عن العوض على سبيل التخصيص
لهذا الحكم بهذه الواقعة وإما أن يخلى عن ذكره
فقط ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق.
3 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "رأى عبد الرحمن بن
عوف وعليه ردع زعفران فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "مهيم؟" فقال: يا رسول الله تزوجت
امرأة فقال: "ما أصدقتها؟" قال: وزن نواة من
ذهب, قال: "فبارك الله لك أولم ولو بشاة" 1.
ردع الزعفران بالعين المهملة: أثر لونه.
و قوله عليه السلام: "مهيم" أي ما أمرك؟ وما
خبرك؟ قيل: إنها لغة يمانية قال بعضهم: ويشبه
أن تكون مركبة.
و في قوله عليه السلام: "ما أصدقتها؟" تنبيه
وإشارة إلى وجود أصل الصداق في النكاح إما
بناء على ما تقتضيه العادة وإما بنا على ما
يقتضيه الشرع من استحباب تسميته في النكاح
وذلك
ـــــــ
1 البخاري "2049" ومسلم "1427"بألفاظ متقاربة.
(1/401)
أنه سأله ب ما
والسؤال ب ما بعد السؤال ب هل فاقتضى ذلك أن
يكون أصل الإصداق متقررا لا يحتاج إلى السؤال
عنه.
وفي قوله: "وزن نواة" قولان:
أحدهما: أن المراد نواة من نوى التمر وهو قول
مرجوح ولا يتحدد الوزن به لاختلاف نوى التمر
في المقدار.
والثاني: أنه عبارة عن مقدار معلوم عندهم وهو
وزن خمسة دراهم.
ثم في المعنى وجهان:
أحدهما: أن يكون المصدق ذهبا وزنه خمسة دراهم.
والثاني: أن يكون المصدق دراهم بوزن نواة من
ذهب وعلى الأول يتعلق قوله من ذهب بلفظ وزن
وعلى الثاني: يتعلق بنواة.
وقوله بارك الله لك دليل على استحباب الدعاء
للمتزوج بمثل هذا اللفظ.
والوليمة الطعام المتخذ لأجل العرس وهو من
المطلوبات شرعا ولعل من جملة فوائده أن اجتماع
الناس لذلك مما يقتضي اشتهار النكاح.
و قوله: "أولم" صيغة أمر محمولة عند الجمهور
على الاستحباب وأجراها بعضهم على ظاهرها فأوجب
ذلك.
و قوله: "و لو بشاة" يفيد معنى التقليل وليست
لو هذه هي التي تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره
وقال بعضهم: هي التي تقتضي معنى التمني.
(1/402)
|