إحكام
الأحكام شرح عمدة الأحكام ط مؤسسة الرسالة
كتاب الأطعمة
مدخل
...
كتاب الأطعمة.
1 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -
وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه -: "إن
الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا
يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ
لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام
كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا
وأن لكل ملك حمى ألا وأن حمى الله محارمه ألا
وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله
وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" 1.
هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول
الدين فأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت
أصلا في هذا الباب وهو أصل كبير في الورع
وتارك المتشابهات في الدين.
والشبهات لها مثارات:
منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحريم
أو التحليل أو تعارض الأمارات والحجج ولعل
قوله عليه السلام: "لا يعلمهن كثير من الناس"
إشارة إلى هذا المثار مع أنه يحمل أن يراد: لا
يعلم عينها وإن علم حكم أصلها في التحليل
والتحريم وهذا أيضا من مثار الشبهات.
وقوله عليه السلام: "من اتقى الشبهات استبرأ
لدينه وعرضه" أصل في الورع وقد كان في عصر
شيوخ شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة
وصنفوا فيها تصانيف وكان بعضهم سلك طريقا في
الورع فخالفه بعض أهل عصره وقال: إن كان هذا
الشيء مباحا - والمباح ما استوى طرفاه - فلا
ورع فيه لأن الورع ترجيح لجانب الترك والترجيح
لأحد الجانبين مع التساوي محال وجمع بين
المتناقضين وبنى على ذلك تصنيفا.
والجواب عن هذا عندي من وجهين:
أحدهما: أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في
فعله وإن لم يتساو طرفاه وهذا أعم من المناخ
المتساوي الطرفين فهذا الذي ردد فيه القول
وقال: إما أن يكون مباحا أو لا فإن كان مباحا
فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على
هذا المعنى فإن المباح قد صار
ـــــــ
1 البخاري "52" ومسلم "1599" واللفظ له.
(1/471)
منطلقا على ما
هو أعم من المتساوي الطرفين فلا يدل اللفظ على
التساوي إذ الدال على العام لا يدل على الخاص
بعينه.
الثاني: أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار
ذاته راجحا باعتبار أمر خارج ولا يتناقض حينئذ
الحكمان.
وعلى الجملة: فلا يخلو هذا الموضع من نظر فإنه
إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبا لضرر ما في
الآخرة وإلا فيعسر ترجيح تركه إلا أن يقال: إن
تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف
ما يفهم من أفعال الورعين فإنهم يتركون ذلك
تحرجا وتخوفا وبه يشعر لفظ الحديث.
وقوله عليه السلام: "و من وقع في الشبهات وقع
في الحرام" يحتمل وجهين.
أحدهما: أنه إذا عود نفسه عدم التحرز مما
يشتبه أثر ذلك استهانة في نفسه توقعه في
الحرام مع العلم به.
والثاني: أنه إذا تعاطى الشبهات وقع في الحرام
في نفس الأمر فمنع من تعاطي الشبهات لذلك.
وقوله عليه السلام: "كالراعي يرعى حول الحمى
يوشك أن يقع فيه" من باب التمثيل والتشبيه و
"يوشك" بكسر الشين بمعنى يقرب و "الحمى"
المحمي أطلق المصدر على اسم المفعول وتنطلق
المحارم على المنهيات قصدا وعلى ترك المأمورات
التزاما وإطلاقها على الأول أشهر.
وقد عظم الشارع أمر القلب لصدور الأفعال
الاختيارية عنه وعما يقوم به من الاعتقادات
والعلوم ورتب الأمر فيه على المضغة والمراد
المتعلق بها ولا شك أن صلاح جميع الأعمال
باعتبار العلم أو الاعتقاد بالمفاسد والمصالح.
2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أنفجنا
أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها
فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها
فقبله"1.
يقال لغبوا إذا أعيوا وأنفجت الأرنب بفتح
الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وسكون الجيم
فنفج أي: أثرته فثار كأنه يقول: أثرناه
وذعرناه فعدا و مر الظهران موضع معروف.
والحديث دليل على جواز أكل الأرنب فإنه إنما
ينتفع ببعضها إذا ذبحت بالأكل وفيه دليل على
الهدية وقبولها.
ـــــــ
1 البخاري "2572" ومسلم "1953".
(1/472)
3 - عن أسماء
بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: "نحرنا على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا
فأكلناه"1.
وفي رواية: "و نحن بالمدينة"2.
4 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر
الأهلية وأذن في لحوم الخيل"3.
ولمسلم وحده قال: "أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر
الوحش ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
الحمار الأهلي"4.
يستدل بهذين الحديثين من يرى جواز أكل الخيل
وهو مذهب الشافعي وغيره وكرهه مالك وأبو حنيفة
واختلف أصحاب أبي حنيفة هل هي كراهة تنزيه أو
كراهة تحريم؟ والصحيح عندهم أنها كراهة تحريم
واعتذر بعضهم عن هذا الحديث أعني بعض الحنفية
بأن قال: فعل الصحابي في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم إنما يكون حجة إذا علمه النبي صلى
الله عليه وسلم وفيه شك على أنه معارض بقول
بعض الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم
لحوم الخيل ثم إن سلم عن المعارض ولكن لا يصح
التعلق به في مقابلة دلالة النص.
وهذا إشارة إلى ثلاثة أجوبة:
فأما الأول: فإنما يرد على هذه الرواية
والرواية الأخرى لجابر وأما الرواية التي
فيها: "و أذن في لحوم الخيل" فلا يرد عليها
التعلق.
وأما الثاني: وهو المعارضة بحديث التحريم
فإنما نعرفه بلفظ النهي لا بلفظ التحريم من
حديث خالد بن الوليد وفي ذلك الحديث كلام ينقض
به عن مقاومة هذا الحديث عند بعضهم.
وأما الثالث: فإنما أراد بدلالة الكتاب قوله
تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}
[النحل: 8] ووجه الاستدلال أن الآية خرجت مخرج
الامتنان بذكر النعم على ما دل عليه سياق
الآيات التي في سورة النحل فذكر الله تعالى
الامتنان بنعمة الركوب والزينة في الخيل
والبغال والحمير وترك الامتنان بنعمة الأكل
كما ذكر في الأنعام5 ولو كان الأكل ثابتا لما
ترك الامتنان به لأن نعمة الأكل في حنسها فوق
نعمة الركوب والزينة فإنه يتعلق بها البقاء
بغير واسطة ولا يحسن ترك الامتنان بأعلى
النعمتين وذكر الامتنان بأدناهما فدل ترك
الامتنان بالأكل على المنع منه ولا سيما وقد
ذكرت نعمة الأكل في نظائرها من الأنعام وهذا -
وإن كان استدلالا حسنا - إلا أنه يجاب عنه من
وجهين:
ـــــــ
1 البخاري "5510" ومسلم "1942".
2 البخاري "5511".
3 البخاري "5520" ومسلم "1941".
4 ومسلم "1941" "37".
5 يريد قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا
لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا
تَأْكُلُونَ} [النحل:5]
(1/473)
أحدهما: ترجيح
دلالة الحديث على الإباحة على هذا الوجه من
الاستدلال من حيث قوته بالنسبة إلى بلك
الدلالة.
الثاني: أن يطالب بوجه الدلالة على عين
التحريم فإنما يشعر بترك الأكل وترك الأكل أعم
من كونه متروكا على سبيل الحرمة أو على سبيل
الكراهة.
وفي الحديث دليل من حيث ظاهر اللفظ في هذه
الرواية على جواز النحر للخيل.
وقوله: "و نهى النبي صلى الله عليه وسلم الخ"
يستدل به من يرى تحريم الحمر الأهلية لظاهر
النهي وفيه خلاف لبعض العلماء بالكراهة
المغلظة وفيه احتراز عن الحمار الوحشي ودلالة
على جواز أكله بطريق المفهوم.
5 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه
قال: "أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم
خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما
غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن أكفئوا القدور وربما قال: ولا
تأكلوا من لحوم الحمر شيئا"1.
هذه الرواية تشتمل على لفظ التحريم وهو أدل من
لفظ النهي وأمره عليه السلام بإكفاء القدور
محمول على أن سببه تحريم الأكل للحومها عند
جماعة وقد ورد فيه علتان أخريان أحدهما: أنها
أخذت قبل المقاسم والثانية: أنه لأجل كونها من
جوال القرية ولكن المشهور والسابق إلى الفهم
أنه لأجل التحريم فإن صحت تلك الرواية عن
النبي صلى الله عليه وسلم تعين الرجوع إليها
وكفأت القدر قلبته ففرغت ما فيه.
6 - عن أبي ثعلبة رضي الله عنه قال: "حرم رسول
الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر
الأهلية"2.
7 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت أنا
وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض
النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول
الله بما يريد أن يأكل [فقالوا: هو ضب يا رسول
الله]3 فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده
فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه
لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه", قال خالد:
فاجتررته فأكلته والنبي صلى الله عليه وسلم
ينظر4.
قال رضي الله عنه: المحنوذ المشوي بالرضيف:
وهي الحجارة المحماة.
ـــــــ
1 البخاري "3155" ومسلم "1397" "27" واللفظ
له.
2 البخاري "5527" ومسلم "1936".
3 زيادة من صحيح البخاري.
4 البخاري "5537" ومسلم "1946" بلفظ قريب.
(1/474)
فيه دليل على
جواز أكل الضب لقوله صلى الله عليه وسلم لما
سئل: أحرام هو؟ قال: "لا" ولتقرير النبي صلى
الله عليه وسلم على أكله مع العلم بذلك وهو
أحد الطرق الشرعية في الأحكام - أعني الفعل
والقول والتقرير مع العلم -.
وفيه دليل على الإعلام بما يشك في أمره ليتضح
الحل فيه فإن كان لا يمكن أن لا يعلم النبي
صلى الله عليه وسلم عين ذلك الحيوان وأنه ضب
فقصد الإعلام بذلك ليكونوا على يقين من إباحته
إن أكله أو أقر عليه.
وفيه دليل على أن ليس مطلق النفرة وعدم
الاستطابة دليلا على التحريم بل أمر مخصوص من
ذلك إن قيل: إن ذلك من أسباب التحريم أعني
الاستخباث كما يقول الشافعي.
8 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه
قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبع غزوات نأكل الجراد"1.
فيه دليل على إباحة أكل الجراد ولم يتعرض في
الحديث لكونها ذكيت بذكاة مثلها كما يقوله
المالكية من أنه لا بد من سبب يقتضي موتها
كقطع رؤوسها مثلا فلا يدل على اشتراط ذلك ولا
على عدم اشتراطه فإنه لا صيغة للعموم ولا بيان
لكيفية أكلهم.
9 - عن زهدم بن مضرب الجرمي قال: "كنا عند أبي
موسى الأشعري فدعا بمائدة وعليها لحم دجاج
فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي
فقال: هلم فتلكأ فقال: هلم فإني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه"2.
زهدم: بفتح الزاي والدال المهملة وسكون الهاء
بينهما ومضرب بضم الميم وفتح الضاد المعجمة
وكسر الراء المهملة المشددة والجرمي بفتح
الجيم وسكون الراء المهملة.
وفي الحديث: دليل على إباحة أكل الدجاج ودليل
على البناء على الأصل فإنه قد بين برواية
أخرى: أن هذا الرجل علل تأخره بأنه رآه يأكل
شيئا فقذره فإما أن يكون كما قلناه في البناء
على الأصل ويكون أكل الدجاج الذي يأكل القذر
مكروها أو يكون ذلك دليلا على أنه لا اعتبار
بأكله للنجاسة وقد جاء النهي عن لبن الجلالة
وقال الفقهاء: إذا تغير لحمها بأكل النجاسة لم
تؤكل.
و هلم: كلمة استدعاء والأكثر فيها: أنها
تستعمل للواحد والجماعة والمذكر والمؤنث بصيغة
واحدة وتلكأ أي تردد وتوقف.
ـــــــ
1 البخاري "5495" ومسلم "1952".
2 البخاري "518" ومسلم "1649" "9" واللفظ له.
(1/475)
10 - عن ابن
عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده
حتى يلعقها أو يلعقها" 1.
"يلعقها" بفتح الياء متعديا إلى مفعول واحد
"ويلعقها" الثاني: بضمها متعديا إلى مفعولين
وقد جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات:
"فإنه لا يدري في أي طعامه البركة" 2.
وقد يعلل بأن مسحها قبل ذلك: فيه زيادة تلويث
لما مسح به مع الاستغناء عنه بالريق ولكن إذا
صح الحديث بالتعليل لم نعدل عنه.
ـــــــ
1 البخاري "5456" ومسلم "2031".
2 مسلم "2033" من حديث جابر.
(1/476)
1 -
باب الصيد.
1 - عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا
رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في
آنيتهم؟ وفي أرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي
ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال:
"أما ما ذكرت - يعني من آنية أهل الكتاب - فإن
وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا
فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم
الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم
الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم
فأدركت ذكاته فكل" 1.
أبو ثعلبة الخشني بضم الخاء وفتح الشين
المعجمة منسوب إلى بني خشين بطن من قضاعة وهو
وائل بن نمر بن وبرة بن تغلب بالغين المعجمة
ابن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة وخشين
تصغير أخشن مرخما قيل: اسمه جرثوم بن ناشب -
أعني اسم أبي ثعلبة.
وفي الحديث مسائل:
الأولى: أنه يدل على أن استعمال أواني أهل
الكتاب يتوقف على الغسل واختلف الفقهاء في ذلك
بناء على قاعدة تعارض الأصل والغالب وذكروا
الخلاف فيمن يتدين باستعمال النجاسة من
المشركين وأهل الكتاب كذلك وإن كان فرق بينهم
وبين أولئك لأنهم يتدينون باستعمال الخمر أو
يكثرون ملابستها فالنصارى لا يجتنبون النجاسات
ومنهم من يتدين بملابستها كالرهبان فلا وجه
لإخراجهم ممن يتدين باستعمال النجاسات والحديث
جار على مقتضى ترجيح غلبة الظن فإن المستفاد
من الغالب راجح على الظن المستفاد من الأصل.
ـــــــ
1 البخاري "5478" ومسلم "1930".
(1/476)
الثانية: فيه
دليل على جواز الصيد بالقوس والكلب معا ولم
يتعرض في الحديث للتعليم المشترك والفقهاء
تكلموا فيه وجعلوا المعلم من ينزجر بالانزجار
وينبعث بالإشلاء ولهم نظر في غير ذلك من
الصفات والقاعدة أن ما رتب عليه الشرع حكما لم
يحد فيه حدا يرجع فيه إلى العرف.
الثالثة: فيه حجة لمن يشترط التسمية على
الإرسال لأنه وقف الإذن في الأكل علىالتسمية
والمعلق بالوصف ينتفي بانتفائه عند القائلين
بالمفهوم وفيه ههنا زيادة على كونه مفهوما
مجردا وهو أن الأصل: تحريم أكل الميتة وما
أخرج الإذن منها إلا ما هو موصوف بكونه مسمى
عليه فغير المسمى عليه: يبقى على أصل التحريم
داخلا تحت النص المحرم للميتة.
الرابعة: الحديث يدل على أن المصيد بالكلب
المعلم لا يتوقف على الذكاة لأنه فرق بينه
وبين غير المعلم في إدراك الذكاة فإذا قتل
الكلب الصيد بظفره أو نابه حل وإن قتله بثقله
ففيه خلاف في مذهب الشافعي وقد يؤخذ من إطلاق
الحديث: جواز أكله وفيه بعض الضعف أعني أخذ
الحكم من هذا اللفظ.
الخامسة: شرط عليه السلام في غير المعلم إذا
صاد: أن تدرك ذكاة الصيد وهذا الإدراك يتعلق
بأمرين:
أحدهما: الزمن الذي يمكن فيه الذبح فإن أدركه
ولم يذبح فهو ميتة ولو كان ذلك لأجل العجز عما
يذبح به: لم يعذر في ذلك.
الثاني: الحياة المستقرة كما ذكره الفقهاء فإن
أدركه وقد أخرج حشوته أو أصاب نابه مقتلا فلا
اعتبار بالذكاة حينئذ هذا على ما قاله
الفقهاء.
2 - عن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم قال:
قلت: يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة
فيمسكن علي وأذكر اسم الله؟ فقال: "إذا أرسلت
كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك
عليك", قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن ما لم
يشركها كلب ليس منها" قلت: فإني أرمي بالمعراض
الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق
فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله" 1.
3 - وحديث الشعبي عن عدي نحوه وفيه: "إلا أن
يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن
يكون إنما أمسك على نفسه وإن خالطها كلاب من
غيرها فلا تاكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم
على غيره".
وفيه: "إذا أرسلت كلبك المكلب فاذكر اسم الله
عليه فإن أمسك عليك فأدركته حيا
ـــــــ
1 البخاري "5477" ومسلم "1929".
(1/477)
فاذبحه وإن
أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ
الكلب ذكاته".
وفيه أيضا: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله
عليه".
وفيه: "و إن غاب عنك يوما أو يومين".
وفي رواية: "اليومين والثلاثة فلم تجد فيه إلا
أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء
فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك؟"
1.
فيه دليل على اشتراط التسمية كما ذكرناه في
الحديث السابق وهو أقوى في الدلالة من الأول
لأن هذا مفهوم شرط والأول مفهوم وصف ومفهوم
الشرط أقوى من مفهوم الوصف.
وفيه تصريح بأكل مصيد الكلب إذا قتل بخلاف
الحديث الماضي فإنه إنما يؤخذ هذا الحكم منه
بطريق المفهوم وهذا الحديث يدل على أكل ما
قتله الكلب بثقله بخلاف الدلالة الماضية التي
استضعفناها في الحديث المتقدم.
وفيه دليل على أنه إذا شارك الكلب كلب آخر لم
يؤكل وقد ورد معللا في حديث آخر: "فإنك إنما
سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" .
والمعراض: بكسر الميم وسكون العين المهملة
وبالراء المهملة وبعد الألف ضاد معجمة: عصا
رأسها محدد فإن أصاب بحده أكل لأنه كالسهم وإن
أصاب بعرضه لم يؤكل وقد علل في الحديث بأنه
وقيذ وذلك لأنه ليس في معنى السهم وهو في معنى
الحجر وغيره من المثقلات.
والشعبي: بفتح الشين المعجمة وسكون العين
المهملة: اسمه عامر ابن شراحيل من شعب همدان.
وإذا أكل الكلب من الصيد ففيه قولان للشافعي.
أحدهما: لا يؤكل لهذا الحديث ولما أشار إليه
من العلة فإن أكله دليل ظاهر على اختيار
الإمساك لنفسه.
والثاني: أنه يؤكل لحديث آخر ورد فيه من رواية
أبي الخشني.
وحمل هذا النهي في حديث عدي على التنزيه وربما
علل بأنه كان من المياسير فاختير له الحمل على
الأولى وأن أبا ثعلبة كان على عكس ذلك فأخذ له
بالرخصة وهو ضعيف لأنه علل عدم الأكل بخوف
الإمساك على نفسه وهذه علة لا تناسب إلا
التحريم أعني تخوف الإمساك على نفسه.
ـــــــ
1 البخاري "175" وانظر أطراف "2054, 5476,
5483,5484, 5486" وأخرجه مسلم "1929" "2, 3,
6, 7".
(1/478)
اللهم إلا أن
يقال: إنه علل بخوف الإمساك لا بحقيقة الإمساك
فيجاب عن هذا بأن أصل التحريم في الميتة فإذا
شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل وكذلك
إذا شككنا في أن الصيد مات بالرمي أو لوجود
سبب آخر يجوز أن يحال عليه الموت لم يحل
كالوقوع في الماء مثلا.
بل وقد اختفوا فيما هو أشد من ذلك وهو ما إذا
غاب عنه الصيد ثم وجده ميتا وفيه أثر سهمه ولم
يعلم وجود سبب آخر فمن حرمه اكتفى بمجرد تجويز
سبب آخر فقد ذكرنا ما دل عليه الحديث من المنع
إذا وحده غريقا لأنه سبب للهلاك ولا يعلم أنه
مات بسبب الصيد وكذلك إذا تردى من جبل لهذه
العلة نعم يسامح في خبط الأرض إذا كان طائرا
لأنه أمر لا بد منه.
4 - عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي
الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "من اقتنى كلبا - إلا كلب صيد أو
ماشية - فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" 1.
قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: "أو كلب حرث"
وكان صاحب حرث2.
فيه دليل على منع اقتناء الكلاب إلا لهذه
الأغراض المذكورة - أعني الصيد والماشية
والزرع - وذلك لما في اقتنائها من مفاسد
الترويع والعقر للمارة ولعل ذلك لمجانبة
الملائكة لمحلها ومجانبة الملائكة أمر شديد
لما في مخالطتهم من الإلهام إلى الخير والدعاء
إليه.
وفيه دليل على جواز اقتناء لهذه الأغراض
واختلف الفقهاء: هل يقاس عليها غرض حراسة
الدروب أم لا؟.
واستدل المالكية بجواز اتخاذها للصيد من غير
ضرورة على طهارتها فإن ملابستها - مع الاحتراز
عن مس شيء منها - شاق والإذن في الشيء إذن في
مكملات مقصودة كما أن المنع من لوازمه مناسب
للمنع منه.
وقوله وكان صاحب حرث محمول على أنه أراد ذكر
سبب العناية بهذا الحكم حتى عرف منه ما جهل
غيره والمحتاج إلى الشيء أكثر اهتماما بمعرفة
حكمه من غيره.
5 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "كنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة
من تهامة فأصاب الناس جوع فأصابوا إبلا وغنما
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات
ـــــــ
1 البخاري "5481" ومسلم "1574" "51".
2 مسلم "1574" "54".
(1/479)
القوم فعجلوا
وذبحوا ونصبوا القدور, فأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بالقدور فأكفئت ثم قسم فعدل عشرة من
الغنم ببعير فند منها بعير فطلبوه فأعياهم
وكان في القوم خيل يسيرة فأهوى رجل منهم بسهم
فحبسه الله فقال: "إن لهذه البهائم أوابد
كأوابد الوحش فما ند عليكم منها فاصنعوا به
هكذا", قلت: يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا
وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر
الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن
والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن: فعظم وأما
الظفر: فمدى الحبشة" 1.
خديج: والد رافع: بفتح الخاء المعجمة وكسر
الدال المهملة وبعد آخر الحروف جيم.
وفي الحديث دليل على أن ما توحش من المستأنس
يكون حكمه حكم الوحش كما أن ما تأنس من الوحش
يكون حكمه حكم المستأنس.
وهذا القسم ومقابله كل عشرة من الغنم ببعير قد
يحمل على أنه قسمة تعديل بالقيمة وليس من طريق
التعديل الشرعي كما جاء في البدنة أنها عن
سبعة ومن الناس م حمله على ذلك.
وند بمعنى شرد والأوابد جمع آبدة وقد تأبدت:
أي نفرت وتوحشت من الإنس يقال: أبدت - بفتح
الباء المخففة - تأبد - بكسرها وضمها - أبودا
وجاء فلان بآبدة أي كلمة غريبة أو خصلة للنفوس
نفرة عنها والكلمة لازمة إلا أن تجعل فاعلة
بمعنى مفعولة.
ومعنى الحديث: أن من البهائم ما فيه نفار
كنفار الوحش وفيه دليل على جواز الذبح بما
يحصل به المقصود من غير توقف على كونه حديدا
بعد أن يكون محددا.
وقوله: "وذكر اسم الله عليه" دليل على اشتراط
التسمية أيضا فإنه علق الإذن بمجموع أمرين
والمعلق على شيئين ينتفي بانتفاء أحدهما وفيه
دليل علة منع الذبح بالسن والظفر وهو محمول
على المتصلين وقد ذكرت العلة فيهما في الحديث.
واستدل به قوم على منع الذبح بالعظم مطلقا
لقوله عليه السلام: "أما السن فعظم" علل منع
الذبح بالسن بأنه عظم والحكم يعم بعموم علته.
ـــــــ
1 البخاري "2488" ومسلم "196".
(1/480)
2 -
باب الأضاحي.
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ضحى
النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين
أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على
صفاحهما"1.
ـــــــ
1 البخاري "5558" ومسلم "1966".
(1/481)
الأملح: الأغبر
وهو الذي فيه سواد وبياض.
لا خلاف أن الأضحية من شعائر الدين والمالكية
يقدمون فيها الغنم على الإبل بخلاف الهدايا
فإن الإبل فيها مقدمة والشافعي يقدم الإبل
فيهما وقد يستدل المالكية باختيار النبي صلى
الله عليه وسلم في الأضاحي للغنم وباختيار
الله تعالى في فداء الذبيح.
والأملح: الأبيض والملحة: البياض و قد اختار
الفقهاء هذا اللون للأضحية.
وفيه تعداد الأضحية وكذلك القرن من المحبوبات
فيها.
وفيه دليل على استحباب تولي الأضحية للمضحي
بنفسه إذا قدر على ذلك.
وفيه دليل على التكبير عند الذبح.
(1/482)
|