أحكام أهل الذمة ط دار الكتب العلمية

 ذكر أحكام أطفالهم

ص -3-          بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر أحكام أطفالهم
وفيه بابان: الباب الأول في ذكر أحكامهم في الدنيا
والباب الثاني في ذكر أحكامهم في الأخرة.
الباب الأول: ذكر أحكامهم في الدنيا
لما كان الطفل غير مستقل بنفسه لم يكن له بد من ولي يقوم بمصالحه ويكون تابعا له وأحق من نصب لذلك الأبوان إذ هما السبب في وجوده وهو جزء منهما ولهذا كان لهما من الحق عليه ما لم يكن لأحد سواهما فكانا أخص به وأحق بكفالته وتربيته من كل أحد وكان من ضرورة ذلك أن ينشأ على دينهما كما ينشأ على لغتهما:
"فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" فإن كانا موحدين مسلمين ربياه على التوحيد فاجتمع له الفطرة الخلقية وتربية الأبوين وإن كانا كافرين أخرجاه عن الفطرة التي فطره الله عليها بتعليمه الشرك وتربيته عليه لما سبق له في "أم الكتاب".
فإذا نشأ الطفل بين أبويه كان على دينهما شرعا وقدرا فإن تعذر تبعيته للأبوين بموت أو انقطاع نسب كولد الزنى والمنفي باللعان واللقيط والمسبي والمملوك فاختلف الفقهاء في حكم الطفل في هذه الحال ونحن نذكر ذلك مسألة مسألة.
موت أبوي الطفل أو أحدهما
فأما المسألة الأولى:
وهي موت الأبوين أو أحدهما، فاختلف فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يصير بذلك مسلما بل هو على دينه وهذا قول الجمهور وربما ادعى فيه أنه إجماع معلوم متيقن لأنا نعلم أن أهل الذمة لم يزالوا يموتون ويخلفون أولادا صغارا ولا نعرف قط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من الخلفاء الراشدين بعده ولا من بعدهم من الأئمة حكموا بإسلام أولاد الكفار بموت آبائهم ولا نعرف أن ذلك وقع في

ص -4-  الإسلام مع امتناع إهمال هذا الأمر وإضاعته عليهم وهم أحرص الناس على الزيادة في الإسلام والنقصان من الكفر وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها شيخنا رحمه الله.
الثاني: أنه يحكم بإسلام الأطفال بموت الأبوين أو أحدهما سواء ماتا في دار الحرب أو في دار الإسلام وهذا قول في مذهب أحمد اختاره بعض أصحابه وهو معلوم الفساد بيقين لما سنذكره.
والقول الثالث: أنه يحكم بإسلامهم إن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام ولا يحكم بإسلامهم إن ماتا في دار الحرب وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو اختيار عامة أصحابه واحتجوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه". متفق عليه .
قالوا: فجعل كفره بفعل أبويه فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب إبقاؤه على الفطرة التي ولد عليها.
قالوا: ولأن المسألة مفروضة فيمن مات أبواه في دار الإسلام وقضية الدار الحكم بإسلام أهلها ولذلك حكمنا بإسلام لقيطها وإنما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان تغليبا لتبعية الأبوين على حكم الدار فإذا عدما أو أحدهما وجب إبقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته للكافر.
قالوا: ومما يوضح ذلك أن الطفل يصير مسلما تبعا لإسلام أبيه فكذلك إنما صار كافرا تبعا لكفر أبيه فإذا مات الأب زال من يتبعه في كفره فكان الإسلام أولى به لثلاثة أوجه.
أحدها: أنه مقتضى الفطرة الأصلية التي فطر الله عليها عباده وإنما عارضها فعل الأبوين وقد زال العارض فعمل المقتضى عمله.
الثاني: أن الدار دار الإسلام ولو اختلط فيها ولد الكافر بولد المسلم على وجه لا يتميزان حكمنا بإسلامهما تغليبا للدار ولو وجد فيها لقيط في محلة الكفار لا يعرف له أب حكمنا بإسلامه تغليبا للدار وإنما عارض الدار قوة تبعية الأبوين وقد زالت بالموت فعمل مقتضى الدار عمله.

 

ص -5-  الثالث: أنه لو سبي الطفل منفردا عن أبويه كان مسلما عند الأئمة الأربعة وغيرهم بل ولو سبي مع أحد أبويه لكان مسلما في أصح الروايتين بل أسح القولين أنه يحكم بإسلامه ولو سبي معهما وهو مذهب الأوزاعي وأهل الشام وإحدى الروايتين عن أحمد فإذا حكم بإسلامه في بعض هذه الصور اتفاقا وفي بعضهما بالدليل الصحيح كما سنذكره مع تحقق وجود الأبوين وإمكان عوده إلى تبعيتهما فلأن نحكم بإسلامه مع تحقق عدم الأبوين واستحالة تبعيتهما أولى وأحرى.
وسر المسألة: أنه تبع لهما في الإسلام والكفر فإذا عدما زالت تبعيته وكانت الفطرة الأولى أولى به يوضحه أنه لو مات أقاربه جميعا ورباه الأجانب من الكفار فإنه لا يجوز جعله كافرا إذ فيه إخراج عن الفطرة التي فطر الله عليها خلقه بلا موجب وهذا ممتنع إذ يتضمن إدخال من فطر على التوحيد في الكفر من غير تبعية لأحد من أقاربه وهذا في غاية الفساد فإذا عدم الأبوان لم تكن الولاية على الطفل لغيرهما من أقاربه كما لا تثبت على أطفال المسلمين بل تكون الولاية عليه للمسلمين وحينئذ فيكون محكوما بإسلامه كالمسبي بدون أبويه وأولى.
فإن قيل: فهل تورثونه من الميت منهما.
قلنا: نعم نورثه. نقله الحربي فقال: "وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له يعني للطفل الميراث وكان مسلما بموت من مات منهما" وذلك. كاف لأن إسلامه إنما يثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث فلم يتقدم الإسلام المانع عن الميراث على سبب استحقاقه ولأن الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال: سيد لعبد له إذا مات أبوك فأنت حر فمات أبوه فإنه يعتق ولا يرث فيجب أن يكون الإسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث فهناك موجب الميراث فلم يوجبه وهنا مانع الميراث علق بالموت فلم يمنعه.
وأيضا فكونه "وارثا أمر ثابت له قبل الموت ولهذا يمنع المريض من التصرف في الزائد على الثلث من ماله فبالموت عمل المقتضى المتقدم لأخذ المال" عمله: وهو البعضية والبنوة.
وهذا بخلاف الإسلام فإنه لم يكن ثابتا له قبل الموت بل كان كافرا حكما وإنما تجدد له الإسلام بموت الأب وهناك لم يتجدد كونه وارثا بموت الأب وإنما تجدد بالموت انتقال التركة إليه. وهذا ظاهر جدا.

 

ص -6-  فإن قيل: فما تقولون لو مات أبوه الكافر وهو حمل هل يرثه؟
قلنا: لا يرثه لأنا نحكم بإسلامه بمجرد موته قبل الوضع نص على هذا أحمد فيسبق الإسلام المانع من الميراث لاستحقاق الميراث وهذا بناء على أنه لا يرث المسلم الكافر وأما على القول الذي اختاره شيخنا فإنه يرثه وكذلك لو كان الحمل من غيره فأسلمت أمه قبل وضعه بأن يموت الذمي ويترك امرأة أخيه حاملا من أخيه الذمي فتسلم أمه قبل وضعه فنحكم بإسلامه قبل استحقاقه الميراث.
فإن قيل: فيلزمكم أن تحكموا بإسلام أولاد الزنى من أهل الذمة لانقطاع أنسابهم من آبائهم.
قيل: قد التزمه أصحاب هذا القول وحكموا بإسلامهم طردا لهذه القاعدة وهذا ليس بجيد فإن من انقطع نسبه من جهة أبيه قامت أمه مقام أبيه في التعصيب ولهذا تكون أمه وعصباتها عصبة له يرثون منه كما يرث الأب وعصباته لانقطاع نسبه من جهة الأب ويلزمهم على هذا أن يحكموا بإسلام ولد الذمي إذا لاعن عليه لانقطاع نسبه من جهة الأب وهذا لا نعلم قائله من السلف!.
وأما إذا اختلط أولاد الذمة بأولاد المسلمين ولم يتميزوا فإنه يحكم بإسلامهم نص عليه أحمد في رواية المروذي فإنه قال: قلت لأبي عبد الله ما تقول في رجل مسلم ونصراني في دار ولهما أولاد فلم يعرف ولد النصراني من ولد المسلم؟ قال: يجبرون على الإسلام. أحمد حكم بإسلام الأولاد ههنا لأن بعضهم مسلم قطعا وقد اشتبه بالكافر فغلب جانب الإسلام.
ولا يلزم من هذا الحكم بإسلام من انقطع نسبه من جهة أبيه لكونه ولد زنى أو منفيا بلعان إذ لم يوجد هناك من يغلب لأجله الإسلام بل ولا شبهة إسلام!.

فصل: مايقتضى الحكم بإسلام الطفل ومالا يقتضيه
ونحن نذكر قاعدة فيما يقتضي الحكم بإسلام الطفل وما لا يقتضيه.
فنقول: إسلام الصبي يحصل بخمسة أشياء متفق على بعضها ومختلف في بعضها.

 

ص -7-  الأول: إسلامه بنفسه إذا عقل الإسلام فيصح عند الجمهور وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأصحابهم.
والذين قالوا بصحة إسلامه قالوا: يصح باطنا وظاهرا حتى لو رجع عنه أجبر عليه ولو أقام على رجوعه كان مرتدا.
ومنصوص عن الشافعي أنه لا يصح إسلامه ولأصحابه وجهان آخران: أحدهما أنه يوقف إسلامه فإن بلغ واستمر على حكم الإسلام تيقنا أنه كان مسلما من يومئذ وإن وصف الكفر تبينا أنه كان لغوا وقد عبر عن هذا بصحة إسلامه ظاهرا لا باطنا.
والوجه الثاني: أنه يصح إسلامه حتى يفرق بينه وبين زوجته الكافرة ويورث من قريبه المسلم وهو اختيار الاصطخري.
قالوا: وعلى هذا لو ارتد صحت ردته ولكن لا يقتل حتى يبلغ فإن رجع إلى الإسلام وإلا قتل وأما على منصوص الشافعي فقد يقال: يحال بينه وبين أبويه وأهله الكفار لئلا يفتنوه.
فإن بلغ ووصف الكفر هدد وطولب بالإسلام فإن أصر رد إليهم وهل هذه الحيلولة مستحبة أو واجبة فيه وجهان:
أصحهما أنها مستحبة فيتلطف بوالديه ليؤخذ منهما فإن أبيا فلا حيلولة. هذا في أحكام الدنيا.
فأما ما يتعلق بالآخرة فقال: الأستاذ أبو إسحاق1 إذا أضمر كما أظهر كان من الفائزين بالجنة ويعبر عن هذا بصحة إسلامه باطنا لا ظاهرا.
قال في "النهاية": وفي هذا إشكال لأن من حكم له بالفوز لإسلامه كيف لا نحكم بإسلامه وأجيب عنه بأنه قد نحكم له بالفوز في الآخرة وإن لم تجر عليه أحكام الإسلام في الدنيا كمن لم تبلغه الدعوة. والذين قالوا: لا يصح إسلامه احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ" وهو حديث حسن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو إسحاق الإسفرايينى إبراهيم بن محمد بن إبراهيم.

 

ص -8-  قالوا: ولأنه قول تثبت به الأحكام في حقه فلم يصح منه كالهبة والبيع والعتق والإقرار قالوا ولأنه غير مكلف فلم يصح إسلامه كالمجنون والنائم. قالوا: ولأنه قبل البلوغ في حكم الطفل الذي لا يعقل ما يقول ولهذا كانت أقواله هدرا. قالوا ولأنه لو صح إسلامه لصحت ردته.
قال: المصححون لإسلامه هو من أهل قول "لا إله إلا الله" وقد حرم الله على النار من قال: "لا إله إلا الله" ومن قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنة. قالوا: وهو مولود على الفطرة التي فطر الله عليها عباده فإذا تكلم بكلمة الإسلام فقد نطق بموجب الفطرة فعملت الفطرة والكلمة عملهما.قالوا وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله:
"كل مولود يولد على الفطرة" وفي لفظ "على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا" فجعل الغاية إعراب لسانه عنه أي بيان لسانه عنه فإذا أعرب لسانه عنه صار إما شاكرا وإما كفورا بالنص ولأنه إذا بلغ سن التمييز وعقل ما يقول صار له إرادة واختيار ونطق يترتب عليه به الثواب وإن تأخر ترتب عليه العقاب إلى ما بعد البلوغ فلا يلزم من انتفاء صحة أسباب العقاب انتفاء صحة أسباب الثواب.
فإن الصبي يصح حجه وطهارته وصلاته وصيامه وصدقته وذكره ويثاب على ذلك وإن لم يعاقبه على تركه فباب الثواب لا يعتمد على البلوغ ولم يقم دليل شرعي على إهدار أقوال الصبي بالكلية بل الأدلة الشرعية تقتضي اعتبار أقواله في الجملة.
وقد أمر الله تعالى بابتلاء اليتامى: وهو اختبارهم في عقودهم ومعاملاتهم ولهذا كان قول الجمهور أن ذلك يحصل بإذنه له في العقد ولا يحتاج إلى أن يأذن له في المراوضة ثم بعقد وليه.
وقد ذهب عبد الله بن الزبير وأهل المدينة وأحمد في إحدى الروايات إلى قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في جراحاتهم إذا كانوا منفردين.
وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى صحة وصية الصبي وطلاقه وظهاره وإيلائه ولم يزل الصبيان يذهبون في حوائج أوليائهم وغيرهم ويقبلون قولهم في ثبوت الأسباب التي تقتضي الحل والحرمة ويعتمدون في وطء الفرج في الأمة والزوجة على قول الصبي فلم يهدر الشارع أقوال الصبي كلها.

 

ص -9-  بل إذا تأملنا الشرع رأينا اعتباره لأقواله أكثر من إهداره لها وإنما تهدر فيما فيه عليه ضرر كالإقرار بالحدود والحقوق فأما ما هو نفع محض له في الدنيا والآخرة كالإسلام فاعتبار قوله فيه أولى من إهداره إذ أن أصول الشرع تشهد باعتبار قوله فيه.
وأيضا فإن الإسلام عبادة محضة وطاعة لله وقربة له فلم يكن البلوغ شرطا في صحتها كحجه وصومه وصلاته وقراءته وأن الله تعالى دعا عباده إلى دار السلام وجعل طريقها الإسلام وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الأليم فكيف يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله مع مسارعته ومبادرته إليها وسلوكه طريقها وإلزامه بطريق أهل الجحيم والكون معهم والحكم عليه بالنار وسد طريق النجاة عليه مع فراره إلى الله منها هذا من أمحل المحال ولأن هذا إجماع الصحابة.
فإن عليا رضي الله عنه أسلم صبيا وكان يفتخر بذلك ويقول:

سبقتكم إلى الإسلام طرا     صبيا ما بلغت أوان حلمي

فكيف يقال: إن إسلامه كان باطلا لا يصح؟ ولهذا قال: غير واحد من التابعين ومن بعدهم أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن العبيد بلال ومن الموالي زيد.
وقال عروة بن الزبير: أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين وبايع عبد الله بن الزبير وعمره سبع سنين أو ثمان فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كنت أنا وأمي من المستضعفين بمكة" ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحتلم ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد من الصبيان إسلامه قط بل كان يقبل إسلام الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى ولم يأمر هو ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أصحابه صبيا أسلم قبل البلوغ عند البلوغ أن يجدد إسلامه ولا عرف هذا في الإسلام قط.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن ثلاثة" فلم يرد به النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصح إسلامه ولا ذكره ولا قراءته ولا صلاته ولا صيامه فإنه لم يخبر أن قلم الثواب مرفوع عنه وإنما مراده بهذا الحديث رفع قلم التأثيم وأنه لا يكتب عليه ذنب والإسلام أعظم الحسنات وهو له لا عليه فكيف يفهم من رفع القلم عن الصبي بطلانه وعدم اعتباره والإسلام له لا عليه ويسعد به في الدنيا والآخرة؟

 

ص -10-   فإن قيل: فالإسلام يوجب الزكاة في ماله ونفقة قريبه المسلم ويحرمه ميراث قريبه الكافر ويفسخ نكاحه وهذه أحكام عليه لا له فتكون مرفوعة عنه بالنص ويستحيل رفعها مع قيام سببها فيلزم من رفعها رفع سببها وهو الإسلام فالجواب من وجوه. أحدها أن يقال: للناس في وجوب الزكاة عليه قولان: أحدهما لا تجب عليه فلا يصح الإلزام بتا. والثاني تجب في ماله وهي نفع محض له تعود عليه بركتها في العاجل والآجل فهي الحقيقة له لا عليه. وأما نفقة قريبه فقد قدمنا أن الصحيح وجوبها مع اختلاف الدين فلم يتجدد وجوبها بالإسلام وإن تجدد وجوبها بالإسلام فالنفع الحاصل له بالإسلام في الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف الضرر الحاصل بتلك النفقة.
وليس في شرع الله ولا في قدره إضاعة الخير العظيم لما في ضمنه من شر يسير لا نسبة له إلى ذلك الخير البتة بل مدار الشرع والقدر على تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
وأما حرمانه الميراث من قريبه الكافر فجوابه من وجوه:
أحدهما: أن هذا يلزمهم نظيره إذ قد يكون له قريب مسلم فإن لم يصحح إسلامه منع ميراثه منه وفي ذلك تفويت مصلحة دنياه وآخرته.
الثاني: أنا قد قدمنا أن مذهب كثير من الصحابة وجماعة من التابعين أن المسلم يرث الكافر دون العكس وبينا رجحان هذا القول بما فيه كفاية.
الثالث: أنه ولو حرم الميراث فما حصل له من عز الإسلام وغناه والفوز به خير له مما فاته من شيء لا يساوي جميعه وأضعاف مثقال ذرة من الإيمان.
الرابع: أن هذا أمر متوهم فإنه قد لا يكون له مال يزكيه ولا قرابة ينفق عليه ولا مال ينفق منه على قرابته فكيف يجوز منع صحة الإسلام المتحقق النفع في الدنيا والآخرة خوفا من حصول هذا الأمر المتوهم الذي قد لا يكون له حقيقة أصلا في حق كثير من الأطفال ولو كان محققا فهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين ومجبور بعز الإسلام وفوائده التي لا يحصيها إلا الله.
ومثال تعطيل هذا النفع العظيم لأجل هذا الضرر المتوهم الذي لو كان موجودا.

 

ص -11-   لكان يسيرا جدا مثال من عطل منفعة الأكل لما فيها من تعب تحريك الفم وخسارة المال وعطل منفعة اللبس لما فيها من مفسدة خسارة الثمن وتوسيخ الثياب وتقطيعها بل الأمر أعظم من ذلك فلو فرض في الإسلام أعظم مضرة تقدر في المال والبدن لكانت هباء منثورا بالنسبة إلى مصلحته ومنفعته.

فصل: قول الخرقي في تحديد السن التى بتا يصير الصبي مسلما
إذا ثبت هذا فقال الخرقي: "والصبي إذا كان له عشر سنين وعقل الإسلام فهو مسلم فشرط لصحة إسلامه شرطين:
أحدهما: أن يكون له عشر سنين.
والثاني: أن يعقل الإسلام.
فاما هذا الثاني فلا خلاف في اشتراطه فإن الطفل الذي لا يعقل لا يتحقق فيه اعتقاد الإسلام وكلامه لا عبره به فلا يدل على إرادته وقصده.
وأما الشرط الأول فقال الشيخ في "المغني1" أكثر المصححين لإسلامه لم يشترطوا ذلك ولم يحدوا له حدا من السنين وهكذا حكاه ابن المنذر عن أحمد يعني أنه يصح إسلامه من غير تقييد بحد.
وروي عن أحمد إذا كان له سبع سنين فإسلامه إسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مروهم بالصلاة السبع"
فدل على أن ذلك حد لأمرهم وصحة عباداتهم فيكون حدا لصحة إسلامهم. انتهى. والمشهور في المذهب: أن الصبي إذا عقل الإسلام صح إسلامه من غير اعتبار حد من السنين والخرقي قيده بعشر وقيده غيره بتسع حكاه أبو عبد الله بن حمدان ونص أحمد في رواية على السبع وقال ابن أبي شيبة: "إذا أسلم وله خمس سنين جعل إسلامه إسلاما". قال في المغني: "ولعله يقول إن عليا أسلم وهو ابن خمس سنين لأنه قد قيل إنه مات وهو ابن ثمان وخمسين فعلى هذا يكون إسلامه لخمس سنين لأن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد بالشيخ ابن قدامة في كتابه المغنى.س

 

ص -12-   النبي صلى الله عليه وسلم أقام من حيث بعث إلى أن توفي ثلاثا وعشرين سنة وعاش علي رضي الله عنه بعد ذلك ثلاثين سنة فذلك ثلاث وخمسون سنة فإذا مات عن ثمان وخمسين لزم قطعا أن يكون وقت المبعث له خمس سنين" انتهى.
وهذا مما اختلف فيه فروى قتادة عن الحسن وغيره قال: أول من أسلم بعد خديجة علي وهو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة.
قلت: وصاحب هذا القول يلزمه أن يكون سنه يوم مات سبعين سنة إلا سنتين وهذا لم يقله أحد كما سيأتي.
وقال الحسن بن زيد بن الحسن: أسلم علي وله تسع سنين. وذكر الليث عن أبي الأسود عن عروة قال: أسلم علي وهو ابن ثمان سنين.
وذكر مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى علي وله عشرون سنة أراد الراية يوم بدر وكانت في السنة الثانية من الهجرة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة فهذا يدل على أن إسلامه كان لخمس سنين فإنه إذا كان له يوم بدر عشرون سنة كان بينه وبين المبعث خمس عشرة ولا يصح أن تكون هذه راية فتح خيبر لأنه يلزم أن يكون له وقت المبعث سنة واحدة.ولذلك قال: مسعر عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى علي يوم بدر وهو ابن عشرين سنة .قال: الحاكم هذا على شرط البخاري ومسلم.
وأما حديث الأجلح عن عبد الله بن أبي الهذيل عن علي رضي الله عنه قال: "ما أعرف أحدا من هذه الأمة عبد الله بعد نبيها غيري عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين" فالأجلح وإن كان صدوقا فإنه شيعي. وهذا الحديث معلوم بطلانه بالضرورة فإن عليا رضي الله عنه لم يعبد الله قبل جميع الصحابة سبع سنين بحيث بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المبعث سبع سنين لم يستجب له أحد في هذه المدة هذا معلوم بطلانه قطعا عند الخاصة والعامة اللهم إلا أن يريد قبل المبعث كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد بغار حراء قبل أن يوحى إليه ومع ذلك فلا يصح هذا لأنه إذا كان قد عبد الله قبل المبعث سبع سنين فلا بد أن يكون في سن من يميز عند العبادة فأقل ما يكون له سبع سنين إذ ذاك فيكون المبعث قد قام وله أربع عشرة سنة وأقام بمكة بعد المبعث ثلاث عشرة فهذه سبع وعشرون سنة وكانت بدر في السنة الثانية فيكون سنه يوم أخذ الراية

 

ص -13-   ثلاثين إلا سنة فيكون ابن عباس رضي الله عنهما قد حطه من عمره إذ ذاك تسع سنين.
قلت: ولعل لفظه "صليت قبل الناس لسبع سنين" فقصرت اللام فأسقطها الكاتب فصارت "سبع سنين" فهذا محتمل وهو أقرب ما يحمل عليه الحديث إن صح. وبالجملة فلا ريب أنه أسلم قبل البلوغ .
أما على قول ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبي إن عليا قتل وهو ابن ثمان وخمسين سنة فظاهر فإنه قتل سنة أربعين فيكون له وقت المبعث خمس سنين ولعل هذا مأخذ أبي بكر بن أبي شيبة إذ صحح إسلام الصبي لخمس سنين. وأما على قول حسن بن زيد بن علي عن جعفر عن أبيه إنه قتل وله ثلاث وستون سنة يكون له وقت المبعث عشر سنين تابعه أبو إسحاق السبيعي وأبو بكر بن عياش.
وقال ابن جريج: أخبرني محمد بن عمر بن علي أن عليا توفي لثلاث وستين أو أربع وستين. وأرفع ما قيل في وفاته ما رواه خباب بن علي عن معروف عن أبي جعفر أنه هلك وله خمس وستون سنة وعلى هذا فيكون له عند المبعث اثنتا عشرة سنة ولكن يبطل هذا ما قدمنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى علي رضي الله عنه يوم بدر وله عشرون سنة والله أعلم.

فصل: القول في اتباع الطفل أحد أبويه المسلمين والاختلاف في الجد
الجهة الثانية: إسلام الأبوين أو أحدهما فيتبعه الولد قبل البلوغ والمجنون لا يتبع جده ولا جدته في الإسلام هذا مذهب أحمد وأبي حنيفة. وقال مالك: لا يتبع أمه في الإسلام بل تختص التبعية بالأب لأن النسب له والولاية على الطفل له وهو عصبة وقد قال تعالى:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. والذرية إنما تنسب إلى الأب.
وخالفه ابن وهب فوافق الجمهور في تبعية الأب والأم.
وقال الشافعي: يتبع الأبوين وإن علوا سواء كانا وارثين أو لم يكونا وارثين. قال

 

ص -14-   أصحابه: فإذا أسلم الجد أو الأب أو أبو الأم تبعه الصبي إن لم يكن أبو الصبي حيا قطعا وإن كان حيا فعلى وجهين: الأصح أنه يتبعه.
قالوا: فإذا بلغ الصبي فقإن أفصح بالإسلام تأكد ما حكمنا به وإن أفصح بالكفر فقولان المشهور أنه مرتد لأنه سبق الحكم بإسلامه فأشبه الإسلام اختيارا وكما إذا حصل العلوق في حال الإسلام. والثاني أنه كافر أصلي لأنه محكوم بكفره أولا وأزيل تبعا فإذا استقل زالت التبعية. والدليل على تبعيته لأمه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"فأبواه يهودانه وينصرانه" وإنما أراد من وجد من أبويه فإذا تبع أحد الأبوين في كفره فلأن يتبعه في الإسلام بطريق الأولى.
وقولهم: أن الولاية والتعصيب للأب فتكون التبعية له دون الأم فيقال: ولاية التربية والحضانة والكفالة للأم دون الأب وإنما قوة ولاية الأب على الطفل في حفظ ماله وولاية الأم في التربية والحضانة أقوى فتبعية الطفل لأمه في الإسلام إن لم تكن أقوى من تبعية الأب فهي مساوية له.
وأيضا فالولد جزء منها حقيقة ولهذا تبعها في الحرية والرق اتفاقا دون الأب فإذا أسلمت تبعها سائر أجزائها والولد جزء من أجزائها يوضحه أنها لو أسلمت وهي حامل به حكم بإسلام الطفل تبعا لإسلامها لأنه جزء من أجزائها فيمتنع بقاؤه على كفره مع الحكم بإسلام أمه.

فصل: القول في تبعية الطفل لجده وجدته
وأما تبعيته لجده وجدته فالجمهور منعوا منه والشافعي قال به طردا لأصله في إقامة الجد مقام الأب ولكن قد نقض هذا الأصل في عدة مواضع فلم يطرده في إسقاطه للإخوة ولا في توريث الأم معه ثلث الباقي إذا كان معها أحد الزوجين. وقد ألزم الشافعي إسلام الخلق كلهم تبعا لآدم فإنه لم يقتصر بذلك على الجد الأدنى ولا يغني الاعتذار بحياة الأب لوجهين.
أحدهما: أن كثيرا من الأطفال يموت آباؤهم مع إسلام أجدادهم.
والثاني: أن وجود الأب عندهم ليس بمانع من تبعية الطفل لجده في الإسلام في أصح الوجهين.
لكن لا يلزم الشافعي هذا الإلزام لأنه إنما يحكم بتبعية الطفل جده في الإسلام إذا أسلم الجد والطفل موجود فأما إذا ولد الطفل كافرا بعد موت الجد فلا يحكم أحد بإسلامه وإلا كان كل ولد من أولاد الكفار يكون مسلما وهذا باطل قطعا.

ص -15-   فصل: تبعية السابى
الجهة الثالثة تبعية السابي: فإذا سبي الطفل منفردا عن أبويه حكم بإسلامه لأنه صار تحت ولايته وانقطعت ولاية الأبوين عنه هذا مذهب الأئمة الأربعة وقال: صاحب المبهذب في الحكم بإسلامه وجهان .قال: وظاهر المذهب أنه لا يحكم بإسلامه. وقال: صاحب الروضة وشذ بهذا وليس بشيء والصواب المقطوع به في كتب المذهب الحكم بإسلامه قال: وإنما ذكرت هذا لئلا يغتر به فلو سباه ذمي لم نحكم بإسلامه.
وللشافعية وجهان هذا أحدهما، والثاني نحكم بإسلامه لأنه من أهل الدار.
قالوا: والصحيح أنه لا يحكم بإسلامه لأن كونه من أهل دار الإسلام لا يؤثر فيه ولا في أولاده قالوا: وعلى هذا لو باعه الذمي لمسلم لا يحكم بإسلامه أيضا لأن التبعية إنما تثبت في ابتداء السبي.
فإن سبي مع أبويه أو مع أحدهما فلأصحاب احمد فيه طرق:
إحداها: أنه إن سبي مع أبويه فهو على دينهما وإن سبي مع أحدهما تبع سابيه وهذه طريقة أبي الخطاب وغيره.
والثانية: أنه إن سبي منفردا تبع سابيه.
وإن سبي مع أحد أبويه ففيه روايتان:
إحداهما: يتبع سابيه.
والثانية: يتبع من سبي معه وهي طريقة القاضي وأبي البركات وغيرهما.

 

ص -16-   الطريقة الثالثة: أن الروايتين في المسألتين أعني إذا سبي مع أبويه أو مع أحدهما وهذه طريقة ابن أبي موسى.
وقالت المالكية: متى سبي مع أبيه تبعه وإن سبي منفردا أو مع أمه تبع سابيه.
وقال الحنفية: إذا سبي الطفل فما دام في دار الحرب فهو على دين أبويه فإن أدخل إلى دار الإسلام فإن كان معه أبواه أو أحدهما فهو على دينهما ولو مات الأبوان بعد ذلك فهو على ما كان وإن لم يكن معه واحد منهما حتى دخل دار الإسلام فهو مسلم تبعا للدار. ولو أسلم أحد الأبوين في دار الحرب فالصبي مسلم بإسلامه كذلك لو أسلم في دار الإسلام ثم سبي الصبي بعده وصار في دار الإسلام فهو مسلم.
والصحيح في هذه المسائل أنه يحكم بإسلامه تبعا لسابيه مطلقا وهذا مذهب الأوزاعي وهو إحدى الروايات عن أحمد لأنه مولود على الفطرة وإنما حكم بكفره؟ تبعا لأبويه لثبوت ولايتهما عليه فإذا انقطعت ولايتهما بالسباء عمل مقتضى الفطرة عمله إذ لم يبق له معارض فكيف يحكم بكفره وقد زال حكم الأبوية عنه وهو لم يصف الكفر ولم يعرفه وإنما كان كافرا تبعا لهما والمتبوع قد زال حكم استتباعه إذ لم يبق له تصرف في نفسه ولا ولاية على ولده ومن ههنا قال: الإمام أحمد ومن تبعه إنه يحكم بإسلامه بموت الأبوين إذ عدمهما أقوى في زوال التبعية من سابيه منفردا عنهما أو معهما أو مع أحدهما.

فصل: في ذكر نصوص الإمام أحمد في هذا الباب
قال علي بن سعيد: سمعت أحمد وسئل عن السرية في أرض العدو يأخذون صبيانا قال: قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان إن كان معهم غنم يسقونه وإن لم يكن معهم غنم فلا أعلم له وجها إلا أن يدفع إلى بعض الحصون من الروم.
وقال المروذي: سئل أبو عبد الله عن الرضيع يؤسر وليس معهم من يرضعه قال: لا يترك يحمل ويطعم ويسقى وإن مات مات. وقال يعقوب بن بختان: سألت أحمد

 

ص -17-   بن حنبل عن الصبي الصغير وجد في بلاد الروم فلا يكون معهم من يرضعه قال: يحملونه معهم حتى يموت.
وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت أبا عبد الله عن الصبي الصغير الرضيع يخرج من بلاد الروم وليس معهم أحد يرضعه أيخرج به أو لا يخرج به قال أبو عبد الله يخرج فإن مات مات وهو مع المسلمين وإن عاش عاش فإن الله يرزقه وهو من المسلمين.
قال الخلال: روى هذه المسألة عن أبي عبد الله أربعة أنفس بخلاف ما قال: علي بن سعيد وما روى علي بن سعيد فأظن أنه قول لأبي عبد الله أول ثم رجع إلى أن يحمل ولا يترك وهو مسلم إن مات أو بقي وهو أشبه بقول أبي عبد الله ومذهبه لأن الطفل عنده إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم فكيف يترك مسلم في أيديهم ينصرونه؟.
والذي اختار من قول أبي عبد الله ما روى عنه الجماعة أن لا يترك وبالله التوفيق.
وكذلك الصغار ومن لم يبلغ الإدراك ممن يسبى أو يكون ههنا فإن الحكم فيهم أن يكونوا مسلمين إذا لم يكن معهم آباؤهم فإذا كان معهم آباؤهم أو أحدهم كان حكم آخر أنا أبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى
وقال: المروذي قلت لأبي عبد الله فإن ماتوا يعني الصغار في أيدينا أي شيء يكون حكمهم قال: حكم الإسلام. قيل له غلام ابن سبع سنين أسر فرأى أنه لا يقتل وأن يجبر على الإسلام قال: وهكذا الجارية. قيل له يباع على أنه مسلم؟ قال: نعم.
وقال أبو الحارث: قال أبو عبد الله: إذا سبي الصغير وليس معه أبواه صلي عليه.
وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله فقال: إذا كان الصغير ليس معه أبواه يصلى عليه.قال: نعم.
وقال إسحاق بن إبراهيم: قلت لأبي عبد الله فإن سبي مولود وحده ما يكون قال: مسلما. وقال الفضل بن عبد الصمد سألت أبا عبد الله عن الصبي من صبيان العدو يسبى فيموت أيصلى عليه فقال: إن كان مع أبويه لم يصل عليه وإن كان وحده وقد أحرز صلي عليه قلت فإن لم يكن مع أبويه وكان مع جماعة السبي قال: يصلى عليه.

 

ص -18-   وقال إسحاق بن منصور: قلت لأبي عبد الله قال الثوري: إذا كان العجم صغارا عند المسلم صلي عليهم وإن لم يكن خرج بهم من بلادهم فإنه يصلى عليهم.
وقال حماد: إذا ملك الصغير فهو مسلم.
قال احمد: إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم. وظاهر هذا النص أنه يحكم بإسلامه تبعا لمالكه، وهذا محض الفقه إذ لا فرق بين ملكه بالسباء وملكه بالشراء لأن المعنى الذي حكم لأجله بإسلامه إذا ملك بالسباء هو بعينه موجود في صورة الملك بالشراء فيجب التسوية بينهما لاستوائهما في علة الحكم وقد صرح به في رواية الفضل بن زياد فقال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن المملوك الصغير يشترى فإذا كبر عند سيده أبى الإسلام قال: يجبر على الإسلام لأنه قد رباه المسلمون وليس معه أبواه قيل له فكيف يجبر؟ قال: يعذب قيل له: يضرب؟ قال: نعم فقال رجل عنده: سمعت بقية يقول: يغوص في الماء حتى يرجع إلى الإسلام فضحك من ذلك وعجب منه فقد صرح بأنه تابع لمالكه.
وقال أبو زكريا النيسابوري: سمعت أبا عبد الله يقول في غلام سبي وهو صغير فلما أدرك عرض عليه الإسلام فأبى فقال أبو عبد الله يقهر عليه قال: كيف يقهر عليه قال: يضرب. فحكى مهنأ عن الأوزاعي قال: يغوص في الماء حتى يرجع إلى الإسلام قال: فرأيت أبا عبد الله يستعيد مهنا كيف قال الأوزاعي وجعل يبتسم.
وقال أبو داود: قلت لأبي عبد الله السبي يموتون في بلاد الروم قال: معهم آباؤهم قلت لا قال: يصلى عليهم قلت لم يقسموا ونحن في السرية قال: إذا صاروا إلى المسلمين وليس معهم آباؤهم فإن ماتوا يصلى عليهم وهم مسلمون قلت فإن كان معهم آباؤهم قال: لا قلت لأبي عبد الله إن أهل الثغر يجبرونهم على الإسلام وإن كان معهم آباؤهم؟ قال: لا أدري. وسمعت أبا عبد الله مرة أخرى يسأل عن هذه المسألة أو ذكرها فقال: أهل الثغر يصنعون أشياء ما أدري ما هي!.
وقال صالح: قلت لأبي الصبي إذا أسره المسلمون قال: يجبر على الإسلام قلت وإن كان مع أبويه قال: بلغني أن أهل الثغر يجبرونه على الإسلام وما أحب أن أجيب فيها قلت إن بعض من يقول لا يجبر يقول إن عمر بن عبدالعزيز فادى بصبي صغير قال: أبي هذا فادى به وهو مسلم واستشنع قول من قال: لا يجبر.

 

ص -19-   وقال بكر بن محمد عن أبيه أنه سأل أبا عبد الله عن أهل الشرك يسبون وهم صغار ومعهم الأب والأم قال: هم مع آبائهم نصارى وإن كانوا مع أحد الأبوين فهكذا هم نصارى فإذا لم يكن مع أبويه ولا مع أحدهما فهو مسلم. قال وعمر بن عبد العزيز فادى بصبي ولا يعجبني أن يفادي بصبي ولا إن كان معه أبواه ولا يجبر أبواه لأنه إذا كان مع أبويه أو مع أحد أبويه يطمع أن يموت أبواه وهو صغير فيكون مسلما وأهل الثغر والأوزاعي يقولون إذا كانوا صغارا مع آبائهم فهم مسلمون.
وقال الحسن بن ثواب: قلت لأبي عبد الله سألت بعض أصحاب مالك عن قوم مشركين سبوا ومعهم أبناؤهم صغارا ما يصنع بهم الإمام إذا ماتوا يأمر بالصلاة عليهم أو يجبرهم على الإسلام؟ قال: لي إذا كان مع أبيه لم أجبره على الإسلام حتى يعرف الإسلام ويصفه فإن أسلم وإلا أجبر عليه قلت لا يفعل قال: أضربه ما دون نفسه.1
وإذا أخذ أطفال صغار وليس معهم آباؤهم حتى يصيروا في حيز المسلمين إلى بلدهم ثم ماتوا صلي عليهم ودفنوا، قلت وسألت بعض أصحاب مالك عن رجل سبي وامرأته ومعهما صبي صغير ما يصنع به؟ قال: أدعه حتى يعقل الإسلام فإذا عقله فإما أن يسلم وإلا السيف.
قال أبو عبد الله: إن قوما يقولون: إذا سبي وهو بين أبويه أجبر على الإسلام وإذا سبي وليس معه أبواه فمات كفن وصلي عليه وإذا كان معه أبواه لم يصل عليه وتبسم ثم ضحك.
وقال حنبل2 : قال: عمي في السبي يسبى مع العدو فيموت قال: "إذا صلى وعرف الإسلام صلي عليه ودفن مع المسلمين وإذا لم يسلم ويصل لم يصل عليه" وفي الصغير يسلم ثم يموت قال: "يصلى عليه".
قال حنبل: وحدثنا إبراهيم بن نصر ثنا الأشجعي عن سفيان عن الربيع عن الحسن البصري في السبي يسبى مع أبويه فيموت قال: يكفن ثم يصلى عليه. وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله إني كنت بواسط فسألوني عمن يموت هو وامرأته ويدعان طفلين ولهما عم ما تقول فيهما؟ فإنهم كتبوا إلى البصرة فيها وقالوا إنهم قد كتبوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أى دون مايهلك بت فهو ضرب تهديد ليس إلا.
2 ابن عم الإمام أحمد.

 

ص -20-   إليك فقال: أكره أن أقول فيها برأيي دع حتى أنظر لعل فيها شيئا عمن تقدم. فلما كان بعد شهر عاودته فقال: قد نظرت فيها فإذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه وينصرانه" وهذا ليس له أبوان قلت يجبر على الإسلام قال: نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو الحارث: قال أبو عبد الله: ولو أن صبيا له أبوان نصرانيان فماتا وهو صغير فكفله المسلمون فهو مسلم .وقال يعقوب: بن بختان قال أبو عبد الله: الذمي إذا مات أبواه وهو صغير أجبر على الإسلام وذكر الحديث:
"فأبواه يهودانه وينصرانه"
وقال إسحاق بن منصور: سألت أبا عبد الله عن نصرانيين يكون بينهما ولد فيموت الأب هل يجبر على الإسلام قال: نعم يجبر على الإسلام؟ وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن ولد يهودي أو نصراني مات أبوه وهو صغير قال: هو مسلم إذا مات أبواه قلت: يرث أبويه؟ قال: نعم يرثهما ويجبر على الإسلام قلت فله عم أو أخ أرادوا أن يأخذوه قال: لا يأخذونه وهو مسلم قلت: فمات عمه أو أخوه يرثه؟ قال: لا.
وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: اشترى رجل عبدا يهوديا أو نصرانيا وليس معه أبواه يجبر على الإسلام قال: يعجبني ذلك إذا لم يكن معه أبواه.

فصل: الصبي يخرج من دار الشرك إلى أبويه في دار الإسلام
قال الخلال في "الجامع": باب الصبي يخرج من دار الشرك إلى ابويه في دار الإسلام وهما نصرانيان في دار الإسلام: أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال: لأبي عبد الله الصبي يخرج إلى أبويه وهما نصرانيان قال: هو مسلم قلت فإن مات يصلي عليه المسلمون قال: نعم، فقد حكم بإسلامه مع وجود أبويه الكافرين من غير سباء ولا رق حادث عليه ووجه هذا والله أعلم أنه لما كان منفردا عن أبويه ولم يكن لهما عليه حكم في الدار التي حكم المسلمين فيها عليه دون أبويه كان محكوما بإسلامه بانقطاع تبعيته لهما فإذا خرج إليهما وهما في دار الإسلام خرج إليها وهو مسلم فلم يجر الحكم بكفره فالدار فرقت بينهما حكما كما فرقت بينهما حسا.

 

ص -21-   فإن قيل: فيلزمكم هذا فيما إذا كان الطفل في دار الحرب وأبواه في دار أخرى من دور الحرب غيرها.
قيل: ما دام في دار الحرب فنحن لا نحكم له بحكم الإسلام ودار الحرب دار واحدة وإن تعددت بلادها فما دام في دار الحرب فليس لنا عليه حكم فإذا صار إلى دار الإسلام ظهر حكم الدار في الحال التي لم يكن لأبويه عليه فيها حكم وكان حكمه فيها حكم من انقطعت تبعيته لأبويه فإنه لما صار إلى دار الإسلام كان الحكم عليه وولايته للمسلمين دون أبويه.
وسر المسألة أنه حكم بتبعية الدار في الحال التي لا ولاية لأبويه عليه فيها.

فصل: في تبعية الدار
الجهة الرابعة تبعية الدار وذلك في صور:
إحداها: هذه الصورة التي نص عليها أحمد.
الثانية: اختلاط أولاد المسلمين بأولاد الكفار على وجه لا يتميزون قال المروذي: قلت لأبي عبد الله ما تقول في رجل مسلم ونصراني في دار ولهما أولاد فلم يعرف ولد النصراني من ولد المسلم؟ قال: يجبرون على الإسلام.
الثالثة: الالتقاط: فكل لقيط وجد في دار الإسلام فهو مسلم وإن كان في دار الكفر ولا مسلم فيها فهو كافر وإن كان فيها مسلم فهل يحكم بإسلامه أو يكون كافرا على وجهين هذا تحصيل مذهب أحمد.
وقال أصحاب مالك: كل لقيط وجد في قرى الإسلام ومواضعهم فهو مسلم.
وإن كان في قرى الشرك وأهل الذمة ومواضعهم فهو مشرك. وقال أشهب إن التقطه مسلم فهو مسلم ولو وجد في قرية ليس فيها إلا الإبنان والثلاثة من المسلمين فهو مشرك ولا يعرض له إلا أن يلتقطه مسلم فيجعله على دينه.
وقال أشهب: حكمه في هذه أيضا الإسلام التقطه ذمي أو مسلم لاحتمال أن

 

ص -22-   كون لمن فيها من المسلمين. قال: كما أجعله حرا وإن كنت لم أعلم حر هو أم عبد لاحتمال الحرية لأن الشرع رجح جانبها هذا تحصيل مذهبهم.
وقالت الشافعية: إما أن يوجد في دار الإسلام أو دار الكفر فإن وجد في دار الإسلام فهي ثلاثة أضرب:
أحدها: دار يسكنها المسلمون فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها أهل الذمة تغليبا للإسلام.
الضرب الثاني: دار فتحها المسلمون وأقروها في يد الكفار بجزية أو ملكوها أو صالحوهم ولم يملكوها فاللقيط فيها مسلم إذا كان ثم مسلم واحد فأكثر وإلا فكافر على الصحيح. وقيل: مسلم لاحتمال أن يكون فيها من يكتم إسلامه.
الثالث: دار كان المسلمون يسكنونها ثم رحلوا عنها وغلب عليها الكفار فإن لم يكن فيها من يعرف بالإسلام فو كافر على الصحيح.
وقال أبو إسحاق: هو مسلم لاحتمال أن يكون فيها من يكتم إسلامه وإن كان فيها معروف بالإسلام وفيه احتمال للجويني.
وإن وجد في دار الكفر فإن لم يكن فيها مسلم فاللقيط محكوم بكفره وإن كان فيها تجار مسلمون ساكنين فهل نحكم بكفره تبعا للدار أو بإسلامه تغليبا للإسلام فيه وجهان وكذا الوجهان لو كان فيها أسارى مسلمون: فأما المحبوسون في المطامير1 فلا أثر لهم كما لا أثر للمجتازين المارين من المسلمين هذا تحصيل مذهبهم.
وقالت الحنفية: إن التقطه في دار الإسلام فهو مسلم تبعا للدار إلا أن يلتقطه من بيعة أو كنيسة أو قرية من قراهم فيكون ذميا لأن الظاهر أن أولاد المسلمين لا يكونون في مواضع أهل الذمة وكذلك بالعكس
قالوا: ففي ظاهر الرواية اعتبر المكان دون الواجد كاللقيط إذا وجده مسلم في دار الحرب. وروى أبو سليمان عن محمد أنه اعتبر الواجد دون المكان لأن اليد أقوى وفي رواية اعتبر الإسلام نظرا للصغير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المطمورة مكان تحت الأرض هيئ كمكان للسجن والجمع مطامير.

 

ص -23-   فصل: الذمي الذي يجعل ولده الصغير مسلما
فإن قيل: فما تقولون في الذمي يجعل ولده الصغير مسلما فهل يحكم بإسلامه بذلك أم لا؟
قيل: قد قال الخلال في الجامع باب في الذميين يجعلون أولادهم مسلمين أخبرني عبدالكريم بن الهيثم العاقولي قال: سمعت أبا عبد الله يقول في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفي قال: ذاك يدفنه المسلمون.
وقال عبدالكريم بن الهيثم: سألت أبا عبد الله عن الصبي المجوسي يجعله أبوه وأمه مسلما ثم يموت أين يدفن قال: يهودانه وينصرانه إن معناه أن يدفن في مقابر المسلمين: هذا لفظه والمعنى أنه إنما حكم بكفره لأن الأبوين يهودانه وينصرانه فإذا جعلاه مسلما صار مسلما.

فصل: إذا ولد المملوكين الكافرين وزوجته ولد
فإن قيل: فما تقولون في المملوك الكافر يكون تحته جارية كافرة وهما ملك مسلم إذا ولد بينهما ولد هل يكون تبعا لأبويه أو لسيد الأبوين؟
قيل: سئل أحمد عن هذه المسألة وترجم عليها الخلال فقال: في الجامع باب الرجل والمرأة يسبيان فيكونان عند المسلم فيولد لهما أو يزوجهما المسلم فيولد لهما في ملك سيدهما أو لا ما الحكم فيه؟
أخبرنا أبو بكر المروذي أن أبا عبد الله قال: إذا ولد لهما وهما في دار الإسلام في ملك مولاهما لا أقول في ولدهما شيئا. قلت: هذه هي المسألة المتقدمة وهي تبع الولد لمالكه وقد تقدم نص أحمد على أنه يتبع مالكه في الإسلام وإنما توقف في هذه المسألة وإن كان مالكه مسلما لأن أبوي الطفل معه وهما كافران لكن لما لم يكن لهما عليه ولاية وكانت الولاية لسيده ومالكه تبعه في الإسلام وهذا أوجه وأطرد على أصوله.

 

ص -24-   فإن قيل: فهو لو سبي مع أبويه كان مملوكا لسابيه وكان على دينهما فما الفرق بين المسألتين؟
قيل: قد بينا أن الصحيح كونه مسلما وإن كان مع أبويه. وعلى هذا فلا فرق بينهما وإن قلنا بالرواية الثانية وأن يكون على دينهما فالفرق بينها وبين ما لو ولد بين مملوكين لمسلم أنه قد ثبت له حكم تبعية الأبوين بطريق الأصالة قبل السباء وهنا لم يثبت له حكم تبعية المالك.
وقد نص على أنه يكون الولد في هذه الصورة مسلما إذا ماتت امه وكفله المسلمون، فقال أبو الحارث: سئل أبو عبد الله عن جارية نصرانية لرجل مسلم لها زوج نصراني فولدت عنده وماتت عند المسلم وبقي ولدها عنده ما يكون حكم هذا الصبي فقال: إذا كفله المسلمون فهو مسلم: فهذا يحتمل أن يكون حكم بإسلامه لموت أمه ويحتمل أن يكون حكم بإسلامه لكفالة المسلمين له ولا أثر لوجود أمه.
وقد صرح بهذا المأخذ وهو كفالة المسلمين في رواية ليعقوب بن بختان فإنه قال: سئل أبو عبد الله عن جارية نصرانية لقوم فولدت عندهم ثم ماتت ما يكون الولد قال: إذا كفله المسلمون ولم يكن له من يكفله إلا
هم فهو مسلم قيل له: فإن مات بعد الأم بقليل؟ قال: يدفنه المسلمون، وهذا تقييد مطلق أجوبته في الحكم بإسلامه بمجرد موت الأبوين وإن كفله أهل دينه.
وهذا التفصيل هو الصواب في المسألة وهو الذي نختاره وهو وسط بين القولين المتقابلين وبه يجتمع شمل الأدلة من الجانبين.
فإن القائلين ببقائه على الكفر قالوا: لا يعرف أنه عمل في الإسلام بقول من قال: يصير أطفال أهل الذمة مسلمين بموت آبائهم مع العلم القطعي بأنه لم يزل في أهل الذمة الأيتام في الأعصار والأمصار من عهد الصحابة إلى وقتنا وهم يرون أيتام أهل الذمة بين المسلمين ويشاهدونهم عينا ويتصدقون عليهم فلو كانوا مسلمين عندهم لما ساغ لهم إقرارهم على الكفر وألا يحولوا بينهم وبين الكفار.
قالوا: ويدل عليه أن هذا لو كان حكم أولادهم لكان من أهم الأمور وكان ذكره فيما شرط عليهم آكد وأولى من تغيير لباسهم وهيئة ركوبهم وخفض أصواتهم

 

ص -25-   بكنائسهم وبالناقوس ونحو ذلك من الشروط فأين هذا من بقاء أطفالهم كفارا وقد صاروا مسلمين بمجرد موت الآباء؟
قالوا: وهذا يقرب من القطع.
والذين حكموا بإسلامهم قالوا: من المتنع أن يجعل من فطره الله على الإسلام كافرا بعد موت أبويه اللذين جعله الله تابعا لهما شرعا وقدرا فإذا زال الأبوان كان من الممتنع نقل الولد عن حكم الفطرة بلا موجب وقد قال تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. فما الموجب لتبديل الفطرة وقد زال من كان يبدلها ممن هو أولى الناس به وبكفالته وتربيته وحضانته فإذا كفله المسلمون وقاموا بتربيته وحضانته ومعه الفطرة الأصلية والمغير لها قد زال فكيف يحكم بكفره؟ وهذا ايضا قريب من القطعي ونحن نجمع بين الأمرين ونقول بموجب الدليلين والله أعلم.

فصل: في معنى الفطرة
فإن قيل: فهذا كله بناء منكم على أن الفطرة الأولى هي فطرة الإسلام وأحمد قد نص على أن الفطرة هي ما فطر عليه من الشقاوة والسعادة فقال: في رواية الحسن بن ثواب كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلقه الله عليها من الشقاوة والسعادة التي سبقت في الكتاب ارجع في ذلك إلى الأصل هذا معناه.
وقال في رواية حنبل وأبي الحارث والفضل بن زياد: الفطرة التي فطر العباد عليها من الشقاوة والسعادة
وقال: في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن الحديث كل مولود يولد على الفطرة قال: على السعادة والشقاوة وإليه يرجع على ما خلق. وقال محمد بن يحيى الكحال قلت لأبي عبد الله:
"كل مولود يولد على الفطرة" ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد وإذا كان هذا نصه في الفطرة فكيف يكتم مع مذهبه في الأطفال أنهم على الإسلام بموت آبائهم؟

 

ص -26-          قيل: هذا موضع قد اضطربت فيه الأقدام وطال فيه النزاع والخصام ونحن نذكر فيه بعض ما انتهى إلينا من كلام أئمة الإسلام. قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب غريب الحديث الذي هو لما بعده من كتب الغريب إمام: "سألت محمد بن الحسن عن تفسير هذا الحديث فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد".
قال أبو عبيد: فأما عبد الله بن المبارك فإنه سئل عن تأويل هذا الحديث الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أطفال المشركين فقال:
"الله أعلم بما كانوا عاملين". قال أبو عبيد: فذهب إلى أنهم يولدون على ما يصيرون إليه من كفر أو إسلام.
قال ابن قتيبة: حكى أبو عبيد هذين القولين ولم يحل على نفسه في هذا قولا ولا اختيارا .قال محمد بن نصر المروزي في كتاب الرد على ابن قتيبة فيقال له: وما على رجل حكى اختلافا في شيء ولم يتبين له الصواب فأمسك عن التقدم على ما لم يتبين له صوابه ما على هذا من سبيل بل هو محمود على التوقف عما لم يتبين له عسى أن يتبين له.
بل العيب المذموم من اجترأ على القول فيما لا علم له ففسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا خالف فيه حكم الكتاب وخرج من قول أهل العلم وترك القياس والنظر فقال قولا لا يصلح في خبر ولا يقوم على نظر، وهو هذا العائب على أبي عبيد زعم أن الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل مولود يولد عليها هي خلقه في كل مولود معرفة بربه وزعم أنه على معنى قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}. الآية قال محمد بن نصر قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}. فزعم هذا أنهم يعرفون أعظم الأشياء وهو الله تعالى فمن أعظم جرما وأشد مخالفة للكتاب من سمع الله عز وجل يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}. فزعم أنهم يعلمون أعظم الأشياء وهذا هو المعاند لرب العالمين والجاهل بالكتاب.
قلت: إن أراد أبو محمد المعرفة المعرفة الثانية بالفعل التي هي للكبار فإنكار أبي عبد الله عليه متوجه وإن أراد أنه مهيا للمعرفة وأن المعرفة فيه بالقوة كما هو مهيأ للفعل والنطق لم يلزمه ما ذكره أبو عبد الله،كما إذا قيل يولد ناطقا عاقلا بحيث

ص -27-   إذا عقل عرف ربه بتلك القوة التي أودعها الله فيه دون الجمادات بحيث لو خلي وما فطر عليه ولم تغير فطرته لكان عارفا بربه موحدا له محبا له.
فإن قيل: أبو عبد الله لم ينكر هذا وإنما أنكر أن يكون المراد بالفطرة الميثاق الأول الذي أخذه الله سبحانه من بني آدم من ظهورهم حين أشهدهم على أنفسهم
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}. فأقروا بذلك ولا ريب أن هذه المعرفة والإقرار غير حاصلين من الطفل فصح إنكار أبي عبد الله.
قيل: ابن قتيبة إنما قال: الفطرة هي خلقه في كل مولود معرفة بربه على معنى قوله:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. الآية وهذا لا يلزم منه أن تكون المعرفة حاصلة في المولود بالفعل وتشبيهه الحديث بالآية في هذا المعنى لا يدل على أن الميثاق الذي ذكر في الآية هو المعرفة الفعلية قبل خروجهم إلى الدنيا أحياء ناطقين وإن كان هذا قد قاله غير واحد من السلف والخلف فلا يلزم ابن قتيبة أن يختار هذا القول بل هذا من حسن فهمه في القرآن والسنة إذ حمل الحديث على الآية وفسر كلا منهما بالآخر.
وقد قال هذا غير واحد من أهل العلم قبله وبعده.
وأحسن ما فسرت به الآية قوله صلى الله عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه" فالميثاق الذي أخذه سبحانه عليهم والإشهاد الذي أشهدهم على أنفسهم والإقرار الذي أقروا به هو الفطرة التي فطروا عليها لأنه سبحانه احتج عليهم بذلك وهو لا يحتج عليهم بما لا يعرفه أحد منهم ولا يذكره بل بما يشركون في معرفته والإقرار به. وأيضا فإنه قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. ولم يقل "من آدم" ثم قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل من ظهرهم ثم قال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} ولم يقل ذريته ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}. وهذا يقتضي إقرارهم بربوبيته إقرارا تقوم عليهم به الحجة وهذا إنما هو الإقرار الذي احتج به عليهم على ألسنة رسله كقوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}. وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. و {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ونظائر ذلك كثيرة.

 

ص -28-   يحتج عليهم بما فطروا عليه من الإقرار بربهم وفاطرهم ويدعوهم بهذا الإقرار إلى عبادته وحده وألا يشركوا به شيئا هذه طريقة القرآن، ومن ذلك هذه الآية التي في الأعراف وهي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}. الآية ولهذا قال في آخرها: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ  َوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}.
فاحتج عليهم بما أقروا به من ربوبيته على بطلان شركهم وعبادة غيره وألا يعتذروا إما بالغفلة عن الحق وإما بالتقليد في الباطل فإن الضلال له سببان إما غفلة عن الحق وإما تقليد أهل الضلال فيطابق الحديث مع الآية ويبين معنى كل منهما بالآخر فلم يقع ابن قتيبة في معاندة رب العالمين ولا جهل الكتاب ولا خرج عن المعقول.
ولكن لما ظن أبو عبد الله أن معنى الآية أن الله سبحانه أخرجهم أحياء ناطقين من صلب آدم في آن واحد ثم خاطبهم وكلمهم وأخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته ثم ردهم في ظهره وأن أبا محمد فسر الفطرة بهذا المعنى بعينه ألزمه ما ألزمه.
ثم قال أبو غبدالله محمد بن نصر واحتج يعني ابن قتيبة بقوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ}. خالقها وبقوله تعالى عن مؤمن آل فرعون في سوة يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي خلقني وبقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. قال: وكان أبو هريرة رضي الله عنه يسرع بهذه الآية عند روايته لهذا الحديث ليدل على أن الفطرة خلقة.
قال محمد بن نصر فيقال له: لسنا نخالفك في أن الفطرة خلقة في اللغة وأن فاطر السماوات والأرض خالقهما ولكن ما الدليل على أن هذه الخلقة هي معرفة هل عندك من دليل من كتاب الله أو سنة رسوله أن الخلقة هي المعرفة فإن أتيت بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله أن الخلقة هي المعرفة وإلا فأنت مبطل في دعواك وقائل ما لا علم لك به .
قلت: لم يرد ابن قتيبة ولا من قال بقوله: "إن الفطرة خلقة" أنها معرفة حاصلة بالفعل مع المولود حين يولد فهذا لم يقله أحد وقد قال أحمد في رواية الميموني

 

ص -29-   الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها فقال: له الميموني الفطرة الدين قال: نعم .وقد نص في غير موضع أن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه واستدل بالحديث كل مولود يولد على الفطرة ففسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ولو لم يكن ذلك معناه عنده لما صح استدلاله بعد في بعض ألفاظه "ما من مولود إلا يولد على هذه الملة".
وأما قول أحمد في مواضع أخر يولد على ما فطر عليه من شقاوة أو سعادة فلا تنافي بينه وبين قوله إنها الدين فإن الله سبحانه قدر الشقاوة والسعادة وكتبهما وإنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويدهما وتنصيرهما وتمجيسهما هو بما قدره الله تعالى والمولود يولد على الفطرة مسلما ويولد على أن هذه الفطرة السليمة قد يغيرها الأبوان كما قدر الله ذلك وكتبه كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:
"كما تنتج البهيمة جمعاء1 هل تحسون فيهما من جدعاء ".2فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس وذلك أيضا بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة مسلما ثم يفسده أبواه
وإنما قال أحمد وغيره: ولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليست بقدر الله بل بما فعله الناس لأن كل مولود يولد على الفطرة وكفره بعد ذلك من الناس ولهذا لما قيل لمالك إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث، قال: احتجوا عليهم بآخره وهو قوله:
"الله أعلم بما كانوا عاملين".
فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية فإنه لم يقل إن الأبوين خلقا تهويده وتنصيره والقدرية لا تقول ذلك بل عندهم أنه تهود وتنصر باختياره ولكن كان الأبوان سببا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين وهذا حق لا يقتضي نفي القدر السابق من العلم والكتاب والمشيئة بل ذلك مضاف إلى الله تعالى علما وكتابة ومشيئة وإلى الأبوين تسببا وتعليما وتلقينا وإلى للشيطان تزيينا ووسوسة وإلى العبد رضى واختيارا ومحبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أى سليمة الأعضاء مجتمعتها.
2 الجدعاء مقطوعة أحد الأعضاء.

 

ص -30-   ولا ينافي هذا قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا" فإن معناه أنه قضي عليه وقدر في أم الكتاب أنه يكون كافرا فهي حال مقدرة كقوله: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}. وقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً}. ونظائر ذلك وليس المراد أن كفره كان موجودا بالفعل معه حتى طبع كما يقال: ولد ملكا وولد عالما وولد جبارا.
ومن ظن أن الطبع المذكور في الحديث هو الطبع في قوله تعالى"جل ذكره":
{طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}. فقد غلط غلطا ظاهرا فإن ذلك لا يقال: فيه طبع يوم طبع فإن الطبع على القلب إنما يوجد بعد كفره .

فصل: أدلة على أن الفطرة هي الدين
ويدل على صحة ما فسر به الأئمة الفطرة أنها الدين ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى"1":
"إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" وهذا صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اقتطعتهم بعد ذلك عنها وأخرجوهم منها قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}. وهذا يتناول إخراج الشياطين لهم من نور الفطرة إلى ظلمة الكفر والشرك ومن النور الذي جاءت به الرسل من الهدى والعلم إلى ظلمات الجهل والضلال.
وفي "المسند" وغيره من حديث الأسود بن سريع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال: لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
"ما حملكم على قتل الذرية؟" قال: يا رسول الله أليسوا أولاد المشركين؟ قال: "أوليس خياركم أولاد المشركين؟" ثم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا هو الحديث القدس أو الإلهى وراجع الفرق بينه وبين الحديث النبوى وبين القران الكريم في مقدمة تحقيقى لكتاب المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن قيم الجوزية ط دار المسلم/ القاهرة.

 

ص -31-   قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: "ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه" فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين.
وقوله لهم:
"أوليس خياركم أولاد المشركين؟" نص أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافرا وإما مسلما على ما سبق به القدر لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده من نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين.
وقد ظن بعضهم أن معنى قوله:
"أوليس خياركم أولاد المشركين"؟ معناه لعله أن يكون قد سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث.
ولكن معناه: أن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وهؤلاء من أولاد المشركين فإن آباؤهم كانوا كفارا ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وهذا الحديث وهو حديث الفطرة ألفاظه يفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟" ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيرا قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
وفي الصحيح قال الزهري: يصلى على كل مولود يتوفي وإن كان لغية1 من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل خارجا ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط وأن أبا هريرة كان يحدث أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولد غية بكسر الغين وفتحها ولد زنية كما يقال في نقيضه: هو ولد رشدة بفتح الراء وكسرها أيضا.

ص -32-   جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها".
وفي الصحيح من رواية الأعمش: "ما من مولود إلا وهو على الملة" وفي رواية أبي معاوية عنه إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك.
قال ابن عبدالبر: وسئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزىء عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع قال: نعم لأنه ولد على الفطرة . قال ابن عبدالبر وقد ذكر أقوال الناس في هذا الحديث: وقال آخرون: الفطرة ههنا هي الإسلام قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف.
وأهل التأويل قد أجمعوا في تأويل قوله عز وجل:
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} على أن قالوا: فطرة الله دين الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: "اقرؤوا إن شئتم": {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. قال: وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: فطرة الله دين الإسلام {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. قالوا: لدين الله.
واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبدالرحمن بن عائذ الأزدي عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما:
"ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا ما أعطاهم الله حراما وحلالا" الحديث. قال: وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث "حنفاء مسلمين".
قال أبو عمر"1": روي هذا الحديث عن قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض بن حمار ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال: حدثني ثلاثة عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول حدثني مطرف عن عياض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن عبدالبر.

 

ص -33-   عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيه: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم" لم يقل "مسلمين".
وكذلك رواه الحسن عن مطرف عن عياض .ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن قتادة بإسناده قال فيه:
"وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم" ولم يقل مسلمين قال: فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لأنه ذكر مسلمين في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وكذلك رواه الناس عن قتادة قصر فيه عن قوله: مسلمين وزاده ثور بإسناده فالله أعلم.
قال أبو عمر: والحنيف في كلام العرب المستقيم المخلص ولا استقامة أكبر من الإسلام قال: وقد روي عن الحسن قال: الحنيفية حج البيت وهذا يدل على أنه أراد الإسلام وكذلك روي عن الضحاك والسدي حنفاء حجاجا وعن مجاهد حنفاء متبعين قال: وهذا كله يدل عل أن الحنيفية الإسلام.
قال: وقال أكثر العلماء الحنيف المخلص وقال الله عز وجل:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً}. وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}. قال الراعي:

أخليفة الرحمن إنا معشر   حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى الله في أموالنا    حق الزكاة منزلا تنزيلا

قال: فوصف الحنيفية بالإسلام وهو أمر واضح لا خفاء به قال: ومما احتج به من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة" ويروى: "عشر من الفطرة" يعني فطرة الإسلام انتهى .
قال شيخنا: فالأدلة الدالة على أنه أراد فطرة الإسلام كثيرة كألفاظ الحديث الصحيح المتقدمة كقوله:
"على الملة" و"على هذه الملة" وقوله خلقت عبادي حنفاء وفي الرواية الأخرى "حنفاء مسلمين" ومثل تفسير أبي هريرة وهو أعلم بما سمع.
ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقيب ذلك أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوه والعلم القديم والكتاب السابق لا يتغير وقوله:
"فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" بين فيه أنهم يغيرون الفطرة المخلوق عليها بذلك.

 

ص -34-   وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيها ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها. وأيضا فالحديث مطابق لقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. وهذا يعم جميع الناس.
فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة.
يبين ذلك أنه قال:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ}. عليها وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره مثل قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره دل عليه الفعل المتقدم كأنه قال: كتب الله ذلك عليكم وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك على إقامة الدين حنيفا.
وكذلك فسره السلف. قال ابن جرير في هذه الآية يقول فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته وهو الدين حنيفا يقول مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول صنعة الله التي خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} وذلك أن معنى الآية فطر الله الناس على ذلك فطرة.
قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ثم روى عن ابن زيد قال: فطرة الله التي فطر الناس عليها قال: هي الإسلام منذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون بذلك وقرأ
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فهذا قول الله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}.
ثم ذكر بإسناد صحيح عن مجاهد قال: فطرة الله التي فطر الناس عليها قال: الدين الإسلام. حدثنا ابن حميد ثنا يحيى بن واضح ثنا يونس بن أبي أسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال مر عمر بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة قال معاذ:

 

ص -35-   ثلاث وهن المنجيات الإخلاص وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها والصلاة وهي الملة والطاعة وهي العصمة فقال عمر: صدقت.
ثم قال: حدثني يعقوب الدورقي ثنا ابن علية ثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ: ما قوام هذه الأمة؟ فذكر نحوه.
قال: وقوله:
{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. يقول لا تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل. وروى عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلا يقال: له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. فقال: لدين الله. ثم ذكر عن عكرمة فطرة الله قال: الإسلام. وكذلك روي عن قتادة وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وإبراهيم النخعي وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وروي عن ابن عباس أنه سئل عن خصاء البهائم فكرهه وقال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. وكذلك قال عكرمة ومجاهد في رواية ليث عنه.
قال شيخنا: ولا منافاة بين القولين عنهما كما قال تعالى عن الشيطان:
{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}: فتغيير ما خلق الله عباده عليه من الدين تغيير لدينه والخصاء وقطع الأذن تغيير لخلقه ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بالآخر في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" فأولئك يغيرون الدين وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع والخصاء هذا يغير ما خلق الله عليه قلبه وهذا يغير ما خلق عليه بدنه!

فصل: تأويل حديث: "كل مولود يولد على الفطرة"
قال شيخنا: واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاه.
فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون: كل مولود يولد على الإسلام والله لا يضل أحدا ولكن أبواه يضلانه.

 

ص -36-   والحديث حجة عليهم من وجهين:
أحدهما: أنه عند المعتزلة وغيرهم من المتكلمين لم يولد أحد منهم على الإسلام أصلا ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا ولكن هذا أحدث لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام والله لم يفعل واحدا منهما عندهم بلا نزاع عند القدرية ولكن هو دعاهما إلى الإسلام وأزاح عللهما وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان والكفر ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان فإن ذلك عندهم غير مقدور ولو كان مقدورا لكان ظلما وهذا قول عامة المتعزلة وإن كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول إنه خص المؤمن بداعي الإيمان ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة فهذا أحد الوجهين.
الثاني: أنهم يقولون: إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية أو تكون من فعل الله تعالى وإن احتجت القدرية بقوله
"فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين فيقال: لهم أنتم تقولون إنه لا يقدر الله ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين ولا نصرانيين ولا مجوسيين بل هما فعلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما.
فحينئذ لا حجة لكم في قوله:
"فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه".
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى والضلال في قلب أحد فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك دعوة الأبوين إلى ذلك وترغيبهما فيه وتربية الولد عليه كما يفعل المعلم بالصبي وذكر الأبوين بناء على الغالب المعتاد وإلا فقد يقع ذلك من أحدهما ومن غيرهما حقيقة وحكما.
قال محمد بن نصر: واحتج ابن قتيبة بقوله:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}.
فأجابوا بكلام شاهدين مقرين على أنفسهم بأن الله ربهم ثم ولدوا على ذلك.
قال محمد بن نصر: فقوله: "ثم ولدوا على ذلك" زيادة منه ليست في الكتاب ولا جاءت في شيء من الأخبار وسنذكر الأخبار المروية في تأويل هذه الآية لنبين للناظر

 

ص -37-   فيها أنه لا حجة له فيها وأنه لا دليل في شيء منها أن الأطفال يولدون وهم عارفون بالله من وقت سقوطهم من بطون أمهاتهم.
قلت: قوله "ثم ولدوا على ذلك" إن أراد به أنهم ولدوا حال سقوطهم وخروجهم من بطون أمهاتهم عالمين بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته فقد أصاب في الرد عليه وإن أراد أنهم ولدوا على حكم ذلك الأخذ وأنهم لو تركوا لما عدلوا عنه إذا عقلوا فهو الصواب الذي لا يرد.
قال محمد: فمن أجل ما روي في تأويل هذه الآية حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدثنا يحيى قال: قرأت على مالك عن زيد بن أبي أنيسة عن عبدالحميد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم}. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: "إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال: رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من عمل أهل الجنة فيدخل به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار".
حدثنا محمد بن يحيى ثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي عن أبيه أخبرنا زيد بن أبي أنيسة عن عبدالحميد بن عبدالرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة الأزدي قال مسلم: سألت نعيما عن هذه الآية فقال: نعيم كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاء رجل فسأله عنها فقال: الحديث وهذا يبين علة الحديث الأول وأن مسلم بن يسار لم يسمعه من عمر.
قال: وحدثنا إسحاق أخبرنا حكام بن سلم عن عنبسة عن عمارة ابن عمير عن أبي محمد رجل من أهل المدينة قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}.
فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها كما سألتني فقال: "خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه ثم أجله فمسح ظهره فأخرج ذرا فقال: ذر

 

ص -38-   ذراتهم للجنة يعملون بما شئت من عمل ثم أختم لهم بأحسن أعمالهم فأدخلهم الجنة ثم مسح ظهره فأخرج ذرا فقال: ذر ذراتهم للنار يعملون بما شئت من عمل ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار!".
قلت: هذا الحديث أدخله مالك في موطئه على ما فيه من العلة ونحن نذكر علته. قال الترمذي: هذا حديث حسن مسلم بن يسار لم يسمعه من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلا. وقال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني: لم يسمع مسلم بن يسار هذا من عمر رواه عن نعيم عن عمر.
وقال ابن أبي خيثمة: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك عن زيد بن أبي أنيسة فكتب بيده على مسلم بن يسار لا يعرف. وقال أبو عمر هذا حديث منقطع بهذا الإسناد لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة وهذا أيضا مع هذا الإسناد لا تقوم به حجة ومسلم بن يسار هذا مجهول قيل إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري.
قال: وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم .ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره. انتهى.
ونحن نذكر بعض تلك الأحاديث: قال إسحاق بن راهويه أخبرنا بقية بن الوليد قا أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن عبدالرحمن بن قتادة النصري عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد قضي القضاء فقال:
"إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار"
أخبرنا عبدالصمد ثنا حماد ثنا الجريري عن أبي نضرة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال: له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي فقالوا: ما يبكيك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قبض قبضة بيمينه وأخرى بيده الأخرى فقال: هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي". فلا أدري في أي القبضتين أنا.

 

ص -39-   أخبرنا عمرو بن محمد ثنا إسماعيل بن رافع عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم من تراب ثم جعله طينا ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا ثم خلقه وصوره ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار كان إبليس يمر به فيقول خلقت لأمر عظيم ثم نفخ الله فيه من روحه قال: يا رب ما ذريتي؟ قال: اختر يا آدم قال: أختار يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين ثم بسط الله كفه فإذا كل من هو كائن من ذريته في كف الرحمن".
أخبرنا النضر أخبرنا أبو معشر عن سعيد المقبري ونافع مولى الزبير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أراد الله أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال: له يا آدم أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين فبسط يمينه فإذا فيها ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة الصحيح على هيئته والمبتلى على هيئته والأنبياء على هيئاتهم فقال: ألا أغنيتهم كلهم؟ فقال: "إني أحببت أن أشكر" وذكر
الحديث .
وقال محمد بن نصر: ثنا محمد بن يحيى ثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا الليث بن سعد حدثني ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام قال: خلق الله آدم ثم قال بيديه فقبضهما فقال: اختر يا آدم فقال: اخترت يمين ربي وكلتا يديك يمين فبسطها فإذا فيها ذريته فقال: من هؤلاء يا رب قال: "من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة".
حدثنا إسحاق ثنا جعفر بن عون الخزاعي أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة" وذكر الحديث.ثنا إسحاق وعمرو بن زرارة قال: أنا إسماعيل عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. الآية قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذا الذي وراء عرفة فأخذ ميثاقهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}. ثنا إسحاق ثنا وكيع ثنا ربيعة بن كلثوم بن جبر عن أبيه عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ

 

ص -40-   ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية قال: مسح الله ظهر آدم وهو ببطن نعمان واد إلى جنب عرفة فأخرج من ظهر آدم ذريته فأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا.
ثم ساقه إسحاق من طرق متعددة عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم قال: أخبرنا المخزومي وهو المغيرة بن سلمة ثنا أبو هلال عن أبي جمرة الضبعي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مسح الله ظهر آدم فأخرج
ذريته في آذي من الماء. أخبرنا جرير عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مسح الله ظهر آدم فخرجت منه كل ذرية بددا إلى يوم القيامة فعرضوا عليه حدثنا الملائي ثنا المسعودي عن علي بن بذيمة عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية قال: إن الله أخذ على آدم ميثاقه أنه ربه وكتب أجله ورزقه ومصيباته ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم فكتب أجلهم ورزقهم ومصيباتهم. حدثنا وكيع ثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مسح الله ظهر آدم فأخرج كل طيب في يمينه وفي يده الأخرى كل خبيث.
ثنا يحيى ثنا المسعودي أخبرني علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: خلق الله آدم فأخذ ميثاقه أنه ربه وكتب أجله ورزقه ومصيبته ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنه ربهم فكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم.
وقال عبدالرزاق حدثنا معمر عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: مسح الله على صلب آدم فأخرج من صلبه ما يكون من ذريته إلى يوم القيامة وأخذ ميثاقهم أنه ربهم فأعطوه ذلك فلا يسأل أحدا كافرا أو غيره من ربك إلا قال: الله. قال: معمر وكان الحسن يقول مثل ذلك.
قال إسحاق: وأخبرنا جرير عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية قال: أخذهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس.
قال محمد بن نصر وحدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ثنا حجاج عن ابن جريج عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

 

ص -41-   إن الله تعالى ضرب منكب آدم الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية فقال: هؤلاء أهل الجنة ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء فقال: هؤلاء أهل النار ثم أخذ عهدهم على الإيمان به والمعرفة له وبأمره والتصديق له وبأمره من بني آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا.
قال إسحاق وحدثنا روح بن عبادة ثنا محمد بن عبدالملك عن أبيه عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما بهذا الحديث وزاد قال ابن جريج وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال الخردل! قال إسحاق وحدثنا حكام بن سلم الرازي حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله عز وجل:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية قال: جمعهم يومئذ جمعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم وتكلموا وأخذ عليهم العهد الميثاق وأشهدهم على أنفسهم قال: فإني أشهد عليكم السماوات والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم هذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا فإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا ولا رب غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا يومئذ بالطاعة ورفع لهم أبوهم آدم فنظر فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال: يا رب لو سويت بين عبادك فقال: إني أحببت أن أشكر ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة. فهو الذي يقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} إلى قوله: {غَلِيظاً} وهو الذي يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فلذلك قال: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى}. وفي ذلك قال: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} وفي ذلك قال: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}. كان في علمه يوم أقروا بما أقروا به ومن يكذب به ومن يصدق.
قال: وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم فأرسل ذلك إلى مريم
{انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} قوله {فَحَمَلَتْهُ} حملت الذي خاطبها وهو روح عيسى .

 

ص -42-   وفي تفسير أسباط بن نصر عن السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} الآية قال: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ وكهيئة الذر فقال: لهم أدخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين فقالت الملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}
فلذلك ليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله ولا مشرك إلا وهو يقول إنا وجدنا آباءنا على أمة فلذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}. الآية.
وذلك حين يقول:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}.
وذلك حين يقول:
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق.
قال إسحاق: وأخبرنا روح بن عبادة ثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في هذه الآية:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}.
فأقروا له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن يخلق أجسادها.
قال إسحاق: وحدثنا الفضل بن موسى عن عبدالملك عن عطاء قال: أخرجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق ثم ردوا في صلبه.
قال إسحاق: وأخبرنا علي بن الأجلح عن الضحاك قال: إن الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة فأخرجهم مثل الذر فقال: ألست بربكم قالوا: بلى قالت: الملائكة شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم قبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء في الجنة وقبض أخرى فقال: هؤلاء في النار.
قال محمد بن نصر وحدثنا بندار ثنا أبو أحمد ثنا سفيان عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية في قوله:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}. قال: أخذه الميثاق .

 

ص -43-   قال محمد:فقد ذكرنا ما حضرنا من الأخبار المروية عن السلف في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}. الآية وليس في شيء منها أن الطفل يسقط من بطن أمه وهو عارف بالله ولا في شيء منها دليل على ذلك.
قلت: أبو محمد1 لم يرد أنهم ولدوا عارفين بالله معرفة حاصلة معهم بالفعل وإنما أراد أنهم ولدوا على حكم تلك الفطرة والميثاق الذي أخذ عليهم بحيث لو خلوا وفطرهم لما عدلوا عن موجب ذلك.
قال محمد: فيقال له: هل عندك من دليل يدل على أن الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
"أن كل مولود يولد عليها" هي المعرفة بالله؟ أو هل يحكى عن أحد من السلف أنه قال ذلك؟ أو هل يدل على ذلك بقياس؟ فإن أتى بشيء من هذه الدلائل وإلا بان باطل دعواه. فإن هو رجع إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ}. الآية فقال: استشهاد الله ذرية آدم على أنه ربهم دليل على أن معرفة ذلك متقدمة عندهم كما استشهدهم عليه فهذه غاية حجته عند نفسه.
قال: لأن كل مستشهد على شيء لم تتقدم المعرفة عنده بما استشهد عليه قبل الاستشهاد فإن المستشهد دعاه إلى أن شهد بقول الزور والله لا يأمر أحدا بذلك. فيقال: له إن إجابتك عن غير ما تسأل عنه واحتجاجك له هو الدليل على عجزك وعلى أنه لا حجة لك إنا لم نسألك عن الوقت الذي استشهدهم الله فيه وقال: لهم ألست بربكم فأجابوه بأن قالوا بلى هل كانوا عارفين في ذلك الوقت أم لا إنما سألناك عن وقت سقوطهم من بطون أمهاتهم هل عندك حجة تثبت أنهم في ذلك الوقت عارفون؟.
فإن قال: إن ثبوت المعرفة لهم في ذلك الوقت دليل على أنهم ولدوا على ذلك فهم في وقت الولادة على ما كانوا عليه قبل ذلك.
قيل له: فقد كانوا في ذلك الوقت مقرين أيضا وذلك أن الله عز وجل أخبر أنه قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى والله عز وجل لا يخاطب إلا من يفهم عند المخاطبة ولا يجيب إلا من فهم السؤال فإجابتهم إياه بقولهم دليل على أنهم قد فهموا عن الله وعقلوا عنه استشهاده إياهم ألست بربكم فأجابوه من بعد عقلهم للمخاطبة وفهمهم لها بأن قالوا: بلى فأقروا له بالربوبية، فيقال: له فهكذا تقول إن الطفل إذا سقط من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد ابن قتيبة فهذا لقبه.

 

ص -44-   بطن أمه فهو من ساعته يفهم المخاطبة إن خوطب ويجيب عنها ويقر له بالربوبية كإقرار الذين أقروا له بالربوبية في الوقت الذي أخذ عليهم الميثاق فإن قال: نعم كابر عقله وأكذبه العيان وإن قال: لا أقول ذلك فرق بين الوقتين فجعل حالهم في وقت الولادة خلاف حالهم في الوقت الأول عند أخذ الميثاق منهم فيقال: له فكذلك جائز أن يكونوا في الوقت الأول عارفين وهم في وقت الولادة غير عارفين كما كانوا في الوقت الأول فقد فهموا المخاطبة وعقلوها وأجابوا مقرين لله بالربوبية وهم في وقت الولادة على خلاف ذلك.
قلت: كل من قال بأن العهد الذي أخذ عليهم هو أنهم أخرجوا من صلب آدم وخوطبوا وأقروا له بالربوبية ثم ردوا في صلبه فإنه يفرق بين حالهم ذلك الوقت وحالهم وقت الولادة قطعا ولا يقول ابن قتيبة ولا غيره إنهم ولدوا عارفين فاهمين يفهمون السؤال ويردون الجواب.
فالأقسام أربعة :
أحدها: استواء حالتهم وقت أخذ العهد ووقت سقوطهم في العلم والمعرفة.
الثاني: استواء الوقتين في عدم ذلك.
الثالث: حصول المعرفة عند السقوط وعدمها عند أخذ العهد.
وهذه الأقسام الثلاثة باطلة لا يقول بواحد منها.
الرابع: معرفتهم وفهمهم وقت أخذ العهد دون وقت السقوط وهذا يقوله كل من يقول إنه أخرجهم من صلب أبيهم آدم وكلمهم وخاطبهم وأشهد عليهم ملائكته وأشهدهم على أنفسهم ثم ردهم في صلبه
وهذا قول جماهير من السلف والخلف واعتمدوا على ما ذكرنا من هذه الآثار مرفوعها وموقوفها.
وأحسن شيء فيها حديث مسلم بن يسار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ذكرنا كلام الأئمة فيه على أن إسحاق قد رواه عن حكام بن سلم عن عمارة بن عمير عن أبي محمد رجل من أهل المدينة قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال:
"خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه ثم أجلسه فمسح ظهره فأخرج ذرا فقال: ذر ذراتهم للجنة يعملون بما شئت من عمل ثم أختم لهم بأحسن أعمالهم فأدخلهم الجنة ثم مسح ظهره فأخرج ذرا فقال:

 

ص -45-   ذر ذراتهم للنار يعملون بما شئت من عمل ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار".
فهذا لا ذكر فيه لمخاطبتهم وسؤالهم واستنطاقهم وهو موافق لسائر الأحاديث ويشبه أن يكون هو المحفوظ عن عمر رضي الله عنه.
وأما سائر الأحاديث فالمرفوع الصحيح منها إنما فيه إثبات القبضتين وتمييز أهل السعادة من أهل الشقاوة قبل إخراجهم إلى دار التكليف.
مثل الحديث الذي رواه أحمد عن عبدالصمد ثنا حماد ثنا الجريري عن أبي نضرة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال: له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي فقالوا: له ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الله قبض قبضة بيمينه وأخرى بيده الأخرى فقال: هذه لهذه وهذه لهذه" ولا أبالي فلا أدري في أي القبضتين أنا!.
وكذلك حديث المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه الذي تقدم هو وغيره من الأحاديث التي فيها إن الله أخرج ذرية آدم من ظهره وأراه إياهم وجعل أهل السعادة في قبضته اليمنى وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى.
وأما الآثار التي فيها أنه استنطقهم وأشهدهم وخاطبهم فهي بين موقوفة ومرفوعة لا يصح إسنادها كحديث مسلم بن يسار وحديث هشام بن حكيم بن حزام فإن في إسناده بقية بن الوليد وراشد بن سعد وفيهما مقال: وقتادة النصري وهو مجهول.
وبالجملة فالآثار في إخراج الذرية من ظهر آدم وحصولهم في القبضتين كثيرة لا سبيل إلى ردها وإنكارها ويكفي وصولها إلى التابعين فكيف بالصحابة ومثلها لا يقال: بالرأي والتخمين ولكن الذي دل عليه الصحيح من هذه الآثار إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هو أمثالهم أو أعيانهم فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة ولا يدل عليه القرآن فإن القرآن يقول فيه:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. فذكر الأخذ من ظهور بني آدم لا من نفس ظهر آدم وذريتهم يتناول كل من ولدوه إن
كان كثيرا كما قال: في تمام الآية:
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

 

ص -46-   إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ  ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} وقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} فاسم الذرية يتناول الكبار.
وقوله:
{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها إقراره فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه .قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.
كما احتج الفقهاء بذلك على صحة الإقرار، وفي حديث ماعز بن مالك: "فلما شهد على نفسه أربع مرات" أي أقر أربع مرات.
وقال تعالى:
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}. فإنهم كانوا مقرين بما هو كفر فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم. ومنه قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}. فشهادتهم على أنفسهم هي إقرارهم وهي أداء الشهادة على أنفسهم.
ولفظ شهد فلان وأشهد به يراد به تحمل الشهادة ويراد به أداؤها.
فالأول كقوله:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. والثاني كقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}. وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} من هذا الثاني ليس المراد أنه جعلهم يتحملون الشهادة على أنفسهم ويؤدونها في وقت آخر فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره كما في قصة آدم لما
أشهد عليه الملائكة وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوارح على أصحابها.
ولهذا قال: بعض المفسرين المعنى أشهد بعضهم على بعض لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه بمعنى أداء الشهادة على نفسه وقولهم:
{بَلَى شَهِدْنَا} هو إقرارهم بأنه ربهم ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه فإن قولهم: {بَلَى شَهِدْنَا} معناه أنت ربنا وهذا إقرار منهم بربوبيته لهم وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به وقوله: أَشْهَدَهُمْ} يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم.
وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء،

 

ص -47-   ونزوله في أرحام الأمهات لكن لم يذكر هنا الأمهات كقوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} وهم كانوا متبعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات كما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} ولهذا قال: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ؟}.
فهو سبحانه يقول: اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة فهو يذكر أخذه لهم وإشهاده إياهم على أنفسهم فإنه سبحانه خلق فسوى وقدر فهدى فأخذهم يتضمن خلقهم والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار فإنه قال: أشهدهم أي جعلهم شاهدين فهذا الإشهاد من لوازم الإنسان.
وكل إنسان جعله الله مقرا بربوبيته شاهدا على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه وهذا أمر ضروري لبني آدم لا ينفك منه مخلوق وهو مما جبلوا عليه فهو علم ضروري لهم لا يمكن أحدا جحده.
ثم قال بعد ذلك:
{أَنْ تَقُولُوا} أي كراهية أن تقولوا أو لئلا تقولوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. أي عن هذا الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية فإنهم ما كانوا غافلين عن هذا بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم من علوم العدد والحساب وغير ذلك فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية لكن كثيرا من الناس غافل عنها.
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه بل لا بد أن يكون قد عرفه وإن قدر أنه نسيه ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيرا فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية وقد ينساها العبد كما قال تعالى:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} وفي الحديث الصحيح يقول الله للكافر "فاليوم أنساك كما نسيتني".
ثم قال: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}. فذكر سبحانه لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد: إحداهما أن يقولوا إنا كنا عن هذا غافلين فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته،

 

ص -48-   وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل.
والثاني أن يقولوا:
{إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} وهم آباؤنا المشركون أي أفتعاقبنا بذنوب غيرنا فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم.
ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم إذ كان هو الذي رباه ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا: نحن معذورون وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنا ذرية لهم بعدهم ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بتا.
وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا وهذا لا يناقض قوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فإن الرسول يدعو إلى التوحيد ولكن الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة إني كنت عن هذا غافلا ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له فلم يكن معذورا في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب.
ثم إن الله سبحانه لكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسول إليه وإن كان فاعلا لما يستحق به الذم والعقاب فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما: إحداهما ما فطره عليه وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم، والثانية إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة ويقر على نفسه بأنه كان كافرا كما قال تعالى:
{وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين وهذا غاية العدل.

 

ص -49-   فصل: الفطرة المذكورة في الحديث
قال أبو عمر: وقد اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة، فقال ابن المبارك تفسيره آخر الحديث
"الله أعلم بما كانوا عاملين" هكذا ذكر أبو عبيد عن ابن المبارك لم يزد شيئا، وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال: كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد. قال أبو عمر أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل.
قال: وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه إما لإشكاله عليه وإما لجهله به أو لما شاء الله.
وأما قوله: "إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد" فلا أدري ما هذا فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله وأخبار رسوله لأن المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه أو غلطه فيما أخبر به أو نسيانه وقد عصم الله ورسوله في الشريعة والرسالة منه وهذا لا يخالف فيه أحد له أدنى فهم فقف عليه فإنه أمر حتم في أصول الدين.
وقول محمد: "إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد" ليس كما قال لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد. وروى بإسناده عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما بال أقوام بالغوا في القتل حتى قتلوا الولدان"؟ فقال رجل: أوليس آباؤهم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوليس خياركم أولاد المشركين إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه لسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه".
قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم بكر المزني والعلاء

 

ص -50-   بن زياد والسري بن يحيى، وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع وهو حديث بصري صحيح.
وروى عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كل مولود يولد على الفطرة" فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين قال: "وأولاد المشركين" انتهى.
قال شيخنا1: أما ما ذكره عن ابن المبارك ومالك فيمكن أن يقال: إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار فلا يحتج بقوله:
"كل مولود يولد على الفطرة" عل نفي القدر كما احتجت القدرية به ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود الأئمة أن الأطفال على ما في آخر الحديث.
وأما قول محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد الكافر يتبع أبويه في الدين في أحكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه المسلمون ويجوز استرقاقه وغير ذلك فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين.
وهذا حق ولكنه ظن أن الحديث اقتضى الحكم لهم في الدنيا بأحكام أطفال المؤمنين فقال: هذا منسوخ كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال والمؤمن لا يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا وما زال الأطفال تبعا لآبائهم في الأمور الدنيوية فالحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام وإنما قصد ما ولدوا عليه من الفطرة.
وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده فالله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ولكن فطرته سبحانه موجبة مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته ففطروا على فطرة مستلزمة للإقرار بالخالق ومحبته وإخلاص الدين له.
وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه وهذا من قوله تعالى:
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}. فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا بعد شيء ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا ماذكر لفظ شيخنا بدون تحديد فإنه يقصد الشيخ ابن تيمية - رحمهما الله -.

 

ص -51-   فصل: اختلاف العلماء في لفظ الفطرة
قال أبو عمر: وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وما كان مثله فقال:ت فرقة الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد أن خلقه مخالف لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة. قالوا: لأن الفاطر هو الخالق قال: وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار.
قال شيخنا: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة. ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته حتى يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا: إنهم أولاد المشركين قال:
"أوليس خياركم أولاد المشركين ما من مولود إلا يولد على الفطرة".
ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل. وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فإذا فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها كان ذلك مستلزما للإيمان ولم يتخلف موجبه ومقتضاه .

فصل: من معاني "كل مولود يولد على الفطرة"
قال أبو عمر: وقال آخرون معنى قوله:
"كل مولود يولد على الفطرة" يعني البداءة

 

ص -52-   التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم دين آبائهم واعتقادهم .قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة والفاطر المبتديء فكأنه قال: يولد على ما ابتدأه عليه من الشقاء والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه واحتجوا بقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ  فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}.
وروى بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أدر ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال: أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها. وذكروا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دعائه: "اللهم جبار القلوب على فطراتها شقيها وسعيدها".
قال شيخنا: حقيقة هذا القول أن كل مولود يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة فجميع البهائم هي مولودة على ما سبق في علم الله لها والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله وحينئذ فيكون كل مخلوق قد خلق على الفطرة، وأيضا فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله:
"فأبواه يهودانه وينصرانه" معنى فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها. وعلى هذا القول فلا فرق في الفطرة بين التهويد والتنصير وبين تلقين الإسلام فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم.
وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة قد ولدت جمعاء ثم جدعت يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه. وأيضا فقوله على هذه الملة وقوله:
"إني خلقت عبادي حنفاء" مخالف لهذا وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص.
وقد ثبت في الصحيح أنه
"قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" فلو قيل كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة لكان أشبه بهذا القول مع أن النفخ هو بعد الكتابة.

 

ص -53-   فصل: تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية للفطرة
قال أبو عمر: قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك قال: محمد وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه.
قال أبو عمر: ما رسمه مالك في موطئه وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا.
قال شيخنا: أئمة السنة مقصودهم أن الخلق كلهم صائرون إلى ما سبق في علم الله من إيمان وكفر كما في الحديث الآخر:
"إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا" والطبع الكتاب أي كتب كافرا كما قال: "فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" وليس إذا كان الله قد كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء وقد سبق في علمه أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة ولا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.

فصل: الفطرة عند الإمام أحمد
وكلام أحمد في أجوبة متعددة يدل على أن الفطرة عنده الإسلام كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه فإنه كان يقول إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين وإذا كانوا مع الأبوين فهم على دينهما وإن سبوا مع أحدهما ففيه روايتان وكان يحتج بالحديث.
ثم ذكر نص أحمد في رواية المروذي في سبي أهل الحرب أنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد الأبوين. واحتج بقوله:
"كل مولود يولد على الفطرة" الحديث، وذكر نصه في رواية إسحاق بن منصور: "إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم". وكذلك نقل يعقوب بن بختان

 

ص -54-   قال أبو عبد الله: إذا مات أبواه وهو صغير أجبر على الإسلام وذكر الحديث: "فأبواه يهودانه وينصرانه" وقال: في رواية عبدالكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان: هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفي قال: يدفنه المسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه".
وقال في رواية المروذي في الأبوين الكافرين يموتان ويدعان طفلا يكون مسلما لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"فأبواه يهودانه وينصرانه". وهذا ليس له أبوان قلت يجبر على الإسلام قال: نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كثير في أجوبته يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافرا بأبويه فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم فلو لم تكن الفطرة الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين وهي الفطرة الأولى.
فهذا آخر قولي أبي عبد الله في الفطرة وقد كان يقول أولا إنها ما فطروا عليه من الشقاوة والسعادة.
قال محمد بن يحيى الكحال: قلت لأبي عبد الله
"كل مولود يولد على الفطرة" ما تفسيرها قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد.
وكذلك نقل الفضل بن زياد وحنبل وأبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال: الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقوة والسعادة.
وكذلك نقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله:
"كل مولود يولد على الفطرة" قال: على الشقاء والسعادة وإليه يرجع كل ما خلق. وكذلك قال: في رواية الحسن بن ثواب كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاوة والسعادة التي سبقت في أم الكتاب لدفع ذلك إلى الأصل.
قلت: أصحاب هذا القول يحتجون بقوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}. وبقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ  فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}. وبقوله صلى الله عليه وسلم في خلق الجنين: "ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" وبقوله: "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا" وبالآثار

 

ص -55-   المعروفة "الشقي من شقي في بطن أمه"1 وغير ذلك من الآثار الدالة على القدر السابق وأن الشقاوة والسعادة بقضاء سابق وقدر متقدم على وجود العبد وهو حق لا ريب فيه.
ولا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة ولكن لا ينافي كون الطفل قد خلق على الفطرة التي هي دين الله فإن القدر السابق والعلم القديم اقتضى أن تهيء له أسباب تخرج عن هذه الفطرة وقوله:
{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. أي لا يقدر أحد أن يغير الخلقة التي خلق عليها عباده وفطرهم عليها من أنهم لو خلوا ونفوسهم لكانوا على الحنيفية فخلقهم على هذا الوجه لا تغيير له وإنما التغيير بأسباب طارئة جارية على الخلقة.
وأما قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}. فغايته أن يدل على أنه خلق الكافر كافرا والمؤمن مؤمنا وهذا متفق عليه بين الصحابة وجميع أهل السنة وليس فيه ما ينفي كونهم مخلوقين على فطرة الإسلام خلق لهم أسبابا أخرجت من أخرجته منهم عنها.
وأما قوله تعالى:
{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}. فقال: سعيد بن جبير: كما كتب عليكم تكونون. وقال مجاهد كما بدأكم تعودون شقيا وسعيدا، وقال أيضا: يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا. وقال أبو العالية عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة، وهذا يتضمن إثبات علمه وقدره السابق وأن الخلق يصيرون إليه لا محالة
وكون هذا مراد الآية غير متعين فإن الآية اقتضت حكمين:
أحدهما: أنه يعيدهم كما بدأهم على عادة القرآن في الاستدلال على المعاد بالبداءة.
والثاني: أنه سبحانه هدى فريقا وأضل فريقا فالأمر كله له بدؤهم وإعادتهم وهداية من هدى منهم وإضلال من أضل منهم وليس في شركائهم من يفعل شيئا من ذلك.
وأما أمر "الملك بكتب شقاوة العبد وسعادته في بطن أمه" وقوله: "الشقي من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح مسلم بشرح النووي 16/193.

 

ص -56-   شقي في بطن أمه" فحق لا يخالف فيه أحد من أهل السنة بل قد اتفقت كلمتهم وكلمة الصحابة قبلهم على ذلك. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الغلام الذي قتله الخضر أنه طبع يوم طبع كافرا فمثل ذلك سواء .وكافرا حال مقدرة لا مقارنة أي طبع مقدرا كفره وإلا فهو في حال كونه جنينا وطفلا لا يعقل كفرا ولا إيمانا.
فإن قيل: فإذا كان هكذا فلم قتله الخضر فالجواب ما قاله لموسى:
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. فالله تعالى أمره بقتل ذلك الغلام لمصلحة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتل النساء والذرية لمصلحة فكان في كل ما أمر به مصلحة وحكمة ورحمة يشهدها أولو الألباب .

فصل: من معاني الفطرة
قال أبو عمر: وقال آخرون: معنى قوله:
"كل مولود يولد على الفطرة" أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: جميعا بلى فأما أهل السعادة فقالوا: بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاوة فقالوا: بلى كرها غير طوع
قالوا: ويصدق ذلك قوله تعالى:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}. قالوا: وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ  فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}.
قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة اقرؤوا إن شئتم:
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. قال إسحاق: يقول لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار.
واحتج بقوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. الآية .
قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى فقال: انظروا أن لا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وذكر حديث أبي بن كعب في قصة

 

ص -57-   الغلام الذي قتله الخضر قال: وكان الظاهر ما قاله موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ}. فأعلم الله سبحانه الخضر ما كان الغلام عليه من الفطرة التي فطر عليها وأنه لا تبديل لخلق الله فأمره بقتله لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا.
قال إسحاق: فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد عليه حين أخرج من ظهر آدم فبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الدنيا في الأطفال بقوله:
"أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" يقول أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين فمن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الإسلام وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله.
وإنما فضل الله الخضر في علمه بهذا على موسى لما أخبره بالفطرة التي فطره عليها ليزداد موسى يقينا وعلما بأن من علم الخضر ما لا يعلمه نبي ولا غيره إذ الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا قدر ما علمهم الله فصار الحكم على ما كان عند موسى هو حكم الشرع في الدنيا وما بطن من علم الخضر كان الخضر مخصوصا به.
فإذا رأيت الصغير بين أبوين مسلمين حكمت له بحكم الإسلام في المواريث والصلاة وكل أحكام المسلمين ولم تعتد بفعل الخضر وذلك لأنه كان مخصوصا بذلك لما علمه الله من العلم الخفي فانتهى إلى أمر الله في قتله.
ولقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الولدان أفي الجنة هم يعني ولدان المسلمين والمشركين فقال: حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر وهو تفسير ما اقتصصنا من قبل من علم الله وحكم الناس أنهما مختلفان ألا ترى أن عائشة رضي الله عنها حين قالت لما مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين طوبى له عصفور من عصافير الجنة رد عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"مه يا عائشة وما يدريك إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا". قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم1.
قال شيخنا: وما ذكرته هذه الطائفة أن المعنى أن الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار إن أرادوا به أن الله سبق في علمه وقدره أنهم سيؤمنون ويكفرون،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد يكون هذا فبل أن يعلمه الله حكمهم وحكم أطفال المسلمين إذ إن أطفال المسلمين يدخلون آباءهم الجنة فلا بد وأن يدخل الأطفال هم الاخرون والله أعلم.

 

ص -58-   ويعرفون وينكرون وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدره وخلقه فهذا حق لا يرده إلا القدرية وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق فهذا يتضمن شيئين:
أحدهما: أن المعرفة كانت موجودة فيهم كما قال: ذلك كثير من السلف وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه فهذا إن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار.
وهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من أنهم يولدون على الملة وأن الله خلقهم حنفاء بل هو مؤيد لها. وأما قوله: إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى طائع وكافر فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السدي وفي تفسيره لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال: لهم ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال: ادخلوا النار ولا أبالي وذلك قوله:
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ .... وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ  أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه وذلك قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}. وكذلك قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. يعني يوم أخذ الميثاق .
قال شيخنا: فهذا الأثر إن كان حقا ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله فإذا كانوا ولدوا على هذه الفطرة فقد ولدوا على هذه المعرفة ولكن فيه أن بعضهم أقر كارها مع المعرفة فكان بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرها.
وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر ومثل هذا لا يوثق به فإنه في تفسير السدي وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها وهذا هو السدي الكبير إسماعيل بن عبدالرحمن وهو ثقة في نفسه
وأحسن أحوال هذه الأشياء أن تكون كالمراسيل1 إن كانت أخذت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع المرسل وهو ما سقط من إسناده الصحابي. كأن يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولايذكر الصحابي الذي أخذ عنه.

 

ص -59-   عن أهل الكتاب اللذين يكذبون كثيرا وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم أنه باطل ولو لم يكن في هذا إلا معارضته لسائر الأحاديث التي تقتضي التسوية بين جميع الناس في ذلك الإقرار لكفي.
وأما قوله:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}. فإنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم لم يقل سبحانه إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا وكرها.
يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله تعالى حجة عليهم عند من يثبته ولو كان منهم مكره لقال: لم أقل ذلك طوعا بل كرها فلا تقوم عليه حجة.
قلت: وكذلك قوله إنهم أقروا على وجه التقية كلام باطل قطعا فإن التقية أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتقاء مكروه يقع به لو لم يتكلم بالتقية وهم لم يكونوا يعتقدون أن لهم ربا غير الله حتى يقولوا تقية أنت ربنا بل هم في حال كفرهم الحقيقي وعنادهم وتكذيبهم للرسل مقرون بأن الله ربهم وقد عرض لهم ما غير تلك الفطرة التي فطروا عليها فكانوا مع ذلك مقرين بأنه ربهم طوعا واختيارا لا تقية فكيف يقولون ذلك تقية في الحال التي لم يعرض لهم فيها شيء من أسباب الشرك ولا كان هناك شياطين تضلهم فهذا مما يعلم بطلان تفسير الآية به قطعا بلا توقف.
وكذلك قوله: "فقال هو والملائكة شهدنا" هذا خطاب قطعا بل هو من تمام كلامهم وأنهم قالوا: بلى شهدنا أي أقررنا كما قال: الرسل لما أخذ عليهم الميثاق في قوله:
{لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}. وكأن قائل هذا القول ظن أن قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. تعليل لقوله: {شَهِدْنَا} وذلك لا يلتئم علة له فقال: قوله شهدنا يقول الله والملائكة أي شهدنا عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
ولكن ذلك تعليل لأخذهم وإشهادهم على أنفسهم أي أشهدهم على أنفسهم فشهدوا لئلا يقولوا يوم القيامة ذلك ليس معنى شهدنا لئلا يقولوا ولكن أشهدهم لئلا يقولوا.
يوضحه أن شهادتهم على أنفسهم هي المانعة من قولهم ذلك يوم القيامة لا

 

ص -60-   شهادة الله وملائكته عليهم ولهذا يجحد العبد يوم القيامة شركه وفجوره مع شهادة الله وملائكته عليه بذلك فيقول لا أجيز على نفسي إلا شهادة مني ولا يقيم الله الحجة عليه فشهادته حين تشهد عليه نفسه وتشهد عليه جوارحه قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وهذا غاية العدل وإزالة شبه الخصوم من جميع الوجوه.
وكذلك قوله:
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. إنما معناه لو شاء لوفقكم لتصديق رسله واتباع ما جاؤوا به كما قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}. وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}. وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}. نعم لو شاء في تقديره السابق لقدر إيمانهم جميعا فجاء الأمر كما قدره.
قال شيخنا: وأما احتجاج إسحاق بقول أبي هريرة رضي الله عنه اقرؤوا إن شئتم:
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. قال إسحاق: يقول لا تبديل للخلقة التي جبل عليها فهذه الآية فيها قولان:
أحدهما: أن معناها النهي أي لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين لم يذكروا غيره كالثعلبي والزمخشري، واختيار ابن جرير.
والثاني: ما قاله إسحاق: إنها خبر على ظاهرها وإن خلق الله لا يبدله أحد وهذا أصح. وحينئذ فيقال: المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبديل له فلا يخلقون على غير الفطرة لا يقع هذا قط والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقوا على غير الفطرة ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ولا تولد قط بهيمة مخصية ولا مجدوعة وقد قال تعالى عن الشيطان:
{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}. فالله تعالى أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته.
وأما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليه إلا الله والله لا يفعله كما قال:
{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. ولم يقل: لا تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله فلا يكون خلق بدل هذا الخلق ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله.

 

ص -61-   وأما قوله: "لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم من كفر وإيمان" فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه فهذا حق ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع ولا أنه غير مقدور بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان وعلى ترك ما نهى الله عنه من الكفر وعلى أن يبدل حسناته بالسيئات وسيئاته بالتوبة كما قال: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}. وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة فإن ذلك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره وهو سبحانه لا يبدله قط بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس فإنه يبدله والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك.
ومما يبين ذلك أنه قال:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. فمنهم من فسره بأنه دين الله ومنهم من فسره بأنه تبديل الخلقة بالخصاء ونحوه ولم يقل أحد منهم إن المراد لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ولا من كفر إلى إيمان إذ تبديل ذلك موجود وما وقع فهو الذي سبق به القدر والله عالم بما سيكون لا يقع خلاف معلومه لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه وإن لم يقع كان عالما بأنه لا يقع.
وأما قوله:
"إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا" فالمراد به كتب وختم ولفظ الطبع لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث.
وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنه كان بالغا مطلقا وسمي غلاما لقرب عهده بالبلوغ وعلى هذا فلا إشكال فيه ويحتمل أن يكون مميزا عاقلا وإن لم يكن بالغا وعليه يدل الحديث وهو قوله:
"ولو أدرك لأرهق أبويه" وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون مكلفا في تلك الشريعة إذ اشتراط البلوغ في التكليف إنما علم بشريعتنا ولا يمتنع تكليف المراهق العاقل عقلا كيف وقد قال: جماعة من العلماء إن المميزين يكلفون بالإيمان قبل الاحتلام كما قال:ت طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وهو اختيار أبي الخطاب وعليه جماعة من أهل الكلام. وعلى هذا فيمكن أن يكون هذا الغلام مكلفا بالإيمان قبل البلوغ ولو لم يكن مكلفا بشرائعه فكفر الصبي المميز معتبر عند

 

ص -62-   أكثر العلماء فإذا ارتد عندهم صار مرتدا له أحكام المرتدين وإن كان لا يقتل حتى يبلغ فيثبت عليه كفره. واتفقوا على أنه يضرب ويؤدب على كفره أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة فإن كان الغلام الذي قتله الخضر بالغا فلا إشكال وإن كان مراهقا غير بالغ فقتله جائز في تلك الشريعة لأنه قتله بأمر الله كيف وهو إنما قتله دفعا لصوله على أبويه في الدين كما قال: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً}.
والصبي لو صال على المسلم في بدنه أو ماله ولم يندفع صياله للمسلم إلا بقتله جاز قتله بل الصبي إذا قاتل المسلمين قتل ولكن من أين يعلم أن هذا الصبي اليوم يصول على أبويه أو غيرهما في دينهما حتى يفتنهما عنه فإن هذا غيب لا سبيل لنا إلى العلم به ولهذا علق ابن عباس الفتيا به فقال: لنجدة لما استفتاه في قتل الغلمان
إن علمت منهم ما علم الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا رواه مسلم في صحيحه.
ولكن يقال: قاعدة الشرع والجزاء أن الله سبحانه لا يعاقب العباد بما سيعلم أنهم يفعلونه بل لا يعاقبهم إلا بعد فعلهم ما يعلمون أنه نهى عنه وتقدم إليهم بالوعيد على فعله وليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وإنما فيها علمه بأسباب تقتضي أحكامها ولم يعلم موسى تلك الأسباب مثل علمه بأن السفينة كانت لمساكين وأن وراءهم ملكا ظالما إن رآها أخذها فكان قلع لوح منها لتسلم جميعها ثم يعيده من أحسن الأحكام وهو من دفع أعظم الشرين باحتمال أيسرهما.
وعلى هذا فإذا رأى إنسان ظالما يستأصل مال مسلم غائب فدفعه عنه ببعضه كان محسنا ولم يلزمه ضمان ما دفعه إلى الظالم قطعا فإنه محسن وما على المحسنين من سبيل وكذلك لو رأى حيوانا مأكولا لغيره يموت فذكاه لكان محسنا ولم يلزمه ضمانه كذلك كون الجدار لغلامين يتيمين وأبوهما كان صالحا أمر يعلمه الناس ولكن خفي على موسى.
وكذلك كفر الصبي يمكن أن يعلمه الناس حتى أبواه ولكن لحبهما إياه لا ينكران عليه ولا يقبل منهما وإذا كان الأمر كذلك فليس في الآية حجة على أنه قتل

 

ص -63-   لما يتوقع من كفره ولو قدر أن ذلك الغلام لم يكفر أصلا ولكن سبق في علم الله أنه إذا بلغ يكفر وأطلع الله الخضر على ذلك، فقد يقول القائل قتله بالفعل كقتل نوح لأطفال الكفار بالدعوة المستجابة التي أغرقت أهل الأرض لما علم أن آباءهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا فدعا عليهم بالهلاك العام دفعا لشر أطفالهم في المستقبل وقوله: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} لا ينافي كونهم مولودين على الفطرة الصحيحة فإن قوله: {فَاجِراً كَفَّاراً}حالان مقدرتان أي من سيفجر ويكفر.

فصل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه ...إلخ"
وأما تفسيره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" إن أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا دون تغيير الفطرة فهذا خلاف ما دل عليه الحديث فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير .وأيضا فإنه ذكر هذا الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم وقال: "أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة". فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون: هم كفار كآبائهم فنقتلهم معهم وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا فإنه لا بد له من مرب يربيه وإنما يربيه أبواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا إذا سبي منفردا عنهما صار تابعا لهما عند جمهور العلماء وإن سبي معهما أو مع أحدهما أو ماتا أو أحدهما ففيه نزاع ذكرناه فيما مضى.
واحتج الفقهاء والأئمة بهذا الحديث ووجه الحجة منه أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطرة فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينه وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المسبي بمنزلة البالغ الكافر ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء.
فعلم أنه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لا لأنه صار كافرا في

 

ص -64-   نفس الأمر. يبين ذلك أنه لو سباه كفار ولم يكن معه أبواه لم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه.
وذكر الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال فإن كل طفل فلا بد له من أبوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب
عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يثبت له أحد الأمرين.
ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه.
وكذلك قوله في حديث عياض بن حمار فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى:
"إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك. فلو كان الطفل يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه لم يكن الشياطين هم الذين غيرهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعا لآبائهم.
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة فإن أولاد الكفار لما كانت تجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبين آبائهم واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين وغير ذلك صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وأراده وعمل به.
ومن هنا قال من قال: إن هذا الحديث كان قبل أن تنزل الأحكام كما قاله محمد بن الحسن"1" وقد رد عليه هذا القول غير واحد من الأئمة فمنهم محمد بن نصر قال في كتاب الرد على ابن قتيبة: وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن الحسن أنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن الحسن الشيبانى صاحب أبى حنيفة الإمام.

 

ص -65-   سأله عن تفسير "كل مولود يولد على الفطرة" فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ويؤمر بالجهاد فإن هذا رجل سئل عما لم يحسنه فلم يدر ما يجيب فيه وأنف أن يقول لا أدري فأجابه عن غير ما سأله عنه فادعى أنه منسوخ وإنما سأله أبو عبيد عن تفسير الحديث ولم يسأله أناسخ هو أو منسوخ فكان الذي يجب عليه أن يفسر الحديث أولا إن كان يحسن تفسيرا فيكون قد أجابه عما سأله ثم يخبر أنه منسوخ. والذي ادعاه في هذا أنه منسوخ غير جائز لأن من أخبر عن شيء ثم أخبر عنه بخلاف ذلك كان مكذبا لنفسه وذلك غير جائز على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن من قال: "سمعت كذا أو رأيت كذا" ثم قال بعد: لم يكن ما أخبرت أني سمعته ورأيته أو أخبر أن شيئا سيكون ثم أخبر أنه لا يكون فقد أكذب نفسه فيما أخبر ودل على أنه أخبر بما لا يعلمه أو تعمد الكذب أو قال: بالظن وكان جاهلا ثم رجع عن ظنه. ولا يعلم أحد يجوز الناسخ في أخبار الله غير صنف من الروافض يصفونه بالبداء1 تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فلم يزل الله سبحانه عالما بما يكون ومريدا لما علم أنه سيكون لم يستحدث علما لم يكن ولا إرادة لم تكن فإذا أخبر عن شيء أنه كائن فغير جائز أن يخبر أبدا عن ذلك الشيء أنه لا يكون لأنه لم يخبر أنه كائن إلا وقد علم أنه كائن وأراد أن يكون وهو الفاعل لما يريد العالم بعواقب الأمور لا تبدو له البدوات ولا تحل به الحوادث ولا تعتقبه الزيادة والنقصان.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة" خبر منه عن كل مولود أنه يولد على الفطرة فغير جائز أن يخبر أبدا بخلاف ذلك فيقول إن كل مولود يولد على غير الفطرة.
قال"2": وتفسير الحديث يدل على خلاف ما قال ابن الحسن: قال الأسود بن سريع غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقتل الناس يومئذ حتى قتلت الذرية فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة" فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة: "كل مولود يولد على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأصل البداء: ظهور الرأى بعد أن لم يكن واستصواب شىء علم بعد أن لم يعلم. ويقال بدا لى في هذا الأمر بداء أى ظهر لى فيه رأى اخر - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
2 الضمير المستتر في الفعل قال يعود على محمد بن نصر المروزى في كتابه الرد على ابن قتيبة.

 

ص -66-   الفطرة" فأبان أن هذا القول كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأمر بالجهاد وزعم محمد بن الحسن أن هذا القول كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد فخالف الخبر.
والراوي لهذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة والأسود بن سريع وسمرة وكل هؤلاء لم يدرك أول الإسلام أسلم أبو هريرة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من ثلاث سنين أو أربع وكذلك الأسود بن سريع وسمرة لم يدرك أول الإسلام فقوله: "كان هذا في أول الإسلام" باطل انتهى كلامه.
قال شيخنا: فإذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة. قال: وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه فيقتله المسلمون ولا يصلون عليه ويدفن في مقابر الكفار وتربة الكفار وهو في الآخرة من أهل الجنة كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكم دار الدنيا.
وقوله:
"كل مولود يولد على الفطرة" إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعليها الثواب في الآخرة إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض لم يرد به الإخبار بأحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم أن أولاد الكفار يكونون تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا وأن أولادهم لا ينزعون منهم إذا كان للآباء ذمة وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ولم يكونوا كأولاد المسلمين.
ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما هل نحكم بإسلامه.
قلت: وفيه عن أحمد ثلاث روايات منصوصات: إحداها أنه يصير مسلما واحتج بالحديث، والثانية لا يصير بذلك مسلما وهي قول الجمهور واختيار شيخنا، والثالثة إن كفله المسلمون كان مسلما وإلا فلا وهي الرواية التي اخترناها وذكرنا لفظ أحمد ونصه فيها.
واحتج شيخنا على "أنه لا نحكم بإسلامه" بأنه إجماع قديم من السلف والخلف.
قال: وهو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها فقد علم أن أهل الذمة كانوا على عهد رسول

 

ص -67-   الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ووادي القرى وخيبر ونجران وأرض اليمن وغير ذلك وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام يتامى أهل الذمة.
وكذلك خلفاؤه كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير ولم يحكموا بإسلام أحد منهم فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضا فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتوليان حضانة أولادهما.
وأحمد يقول: إن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل مع قوله في إحدى الروايات إنه يصير مسلما لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث ولم يحصل قبله.
قال في "المحرر": ويرث من جعلناه مسلما بموته حتى لو تصور موتهما يعني الأبوين معا لورثهما نص عليه في رواية أبي طالب ولفظ النص في يهودي أو نصراني مات وله ولد صغير فهو مسلم إذا مات أبواه ورث أبويه
وفيه رواية مخرجة انه لا يرث لأن المانع من الميراث وهو اختلاف الدين قارن سببه الحكم وهو الموت.
قال شيخنا: هذا مبني على أصل وهو أن الأهلية والمحلية هل يشترط تقدمهما على الحكم أو تكفي مقارنتهما؟ فيها قولان في المذهب أشهرهما الثاني والأول مذهب الشافعي.
وهنا اختلاف الدين مانع فهل يشترط في كونه مانعا ثبوته قبل الحكم أو تكفي المقارنة؟.
فهنا قد اشترط التقدم كما ذكر في كتاب البيوع فيما إذا باع عبده شيئا أو كاتبه في صفقة واحدة أنه يصح البيع وفي الكتابة وجهان اتباعا لأبي الخطاب والقاضي في المجرد والصحيح صحة الكتابة كما قال: في الجامع الكبير وغيره. فإن المانع أقوى فإن ثبوت الحكم في حال وجود مانعه بعيد إلا أن يقال: إن من أصل أحمد أنه لو أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة استحق الميراث فكيف يجعل الإسلام مانعا وهو لو أسلم بعد موت قريبه الكافر لم يمنع الميراث ولأن الولاية بين الأب وابنه كانت ثابتة إلى حين الموت وما يحدث بعد الموت لا عبرة به.

 

ص -68-   قال القاضي في ضمن المسألة: واحتج بعين المنازع فيه بأن الحكم بإسلامه يوجب توريث المسلم من الكافر لأن له عندكم أن يرث الميت منهما وهذا لا يجوز لأن ثبوت الميراث مع اختلاف الدين أوجبه الموت فهما يلتقيان في زمان واحد فلا يصح اجتماعهما كما لو قال: لعبده إذا مات أبوك فأنت حر فلما اجتمع الميراث والحرية في زمان واحد وهو ما بعد الموت لم يرث كذلك ههنا. قال: والجواب أن هذا يبطل بالوصية لأم ولده فإن الوصية تستحق بالموت ومع هذا فإنهما يجتمعان فتحصل الحرية وتصح بالوصية.
قال: وجواب آخر وهو أنه وإن كانا يلتقيان في زمان واحد إلا أن حقه ثابت في ماله إلى حين الوفاة واختلاف الدين ليس معينا من جهة الوارث فلا يسقط حقه في الميراث كالطلاق في المرض ويفارق العبد لأنه لا حق له في الميراث فلهذا إذا التقيا بعد الموت لم يرث.
وجواب آخر: أنه لا يمتنع أن يحصل الميراث قبل اختلاف الدين كما قال: الجميع في رجل مات وترك ابنين وألف درهم وعليه دين ألف درهم إنهما لا يرثان الألف ولو مات أحد الابنين وترك ابنا ثم أبرا الغريم أخذ ابن الميت حصته بميراثه عن أبيه وإن لم يكن مالكا له حين الموت لكن جعل في حكم من كان مالكا لتقدم سببه.
قال شيخنا: أما مسألة الحرية فإنها تصلح أن تكون حجة للقاضي لا حجة عليه لأن الحرية شرط كما أن الكفر مانع وكما أن مقارنة الشرط لا تؤثر ولا تفيد فيها فكذلك مقارنة المانع. وهكذا كان القاضي قد نقض عليهم بهذه الصورة أولا ذكرها في جوابه وهذا جيد ثم ذكرها في حجتهم مع أن هذه الصورة فيها نظر فإن مقارنة المانع حدثت قبل انتقال: الإرث إلى غيره.
قلت: وهذا من أصح شيء لأن النسب علة الإرث ولكن منع من إعمال النسب مانع الرق ثم زال المانع قبل انتقال: الإرث إلى غير الولد فلو منعناه الإرث لعطلنا إعمال النسب في مقتضاه مع أنه لا مانع له حين اقتضائه فإن النسب اقتضى حكمه بالموت وهو في هذه الحال لا مانع له وهذا ظاهر جدا.
قال القاضي: فإن قيل: فقد قال أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال وجعفر

 

ص -69-   بن محمد واللفظ له في نصراني مات وله امرأة نصرانية حبلى فأسلمت بعد موته ثم ولدت لا يرث الولد إنما مات أبوه وهو لا يعلم ما هو وإنما يرث في الولادة ويحكم له بالإسلام: فظاهر هذا أنه حكم بإسلامه ولم يحكم بالميراث.
قيل: يحتمل أن يخرج من هذا رواية أنا نحكم بإسلامه ولا نحكم له بالميراث وهو القياس لئلا يرث مسلم من كافر.
ويحتمل أن يفرق بينهما فإذا مات أحدهما وهو مولود حكم بإسلامه وورثه وإن كان حملا حكم بإسلامه ولم يرثه وهو ظاهر تعليل أحمد لأنه قال: إنما مات أبوه وهو لا يعلم ما هو لأنه إذا أسلمت الأم فالمانع قوي لأنه مجمع عليه وإذا مات الأب فهو ضعيف لأنه مختلف فيه.
قلت: هذه الرواية لا تعارض نصه على الميراث في المسألة المتقدمة لأن الميراث إنما يثبت بالوضع والإسلام قد تقدم عليه وأنه ثبت له حكم الإسلام بسببين متفق عليه ومختلف فيه وكلاهما سابق على سبب الإرث فوجد سبب الإرث بعد سبق الإسلام وفي مسألتنا وجد الإرث والإسلام معا لاتحاد سببهما.
قلت: ما ذكره شيخنا إنما يدل على أن الطفل إذا كفله أقاربه من أهل الذمة فهو على دينهم ولا يدل على أنه لا نحكم بإسلامه إذا كفله المسلمون .

فصل: في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}
قول إسحاق: إن العلماء أجمعوا على أن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}: أنها الأرواح قبل الأجساد فإسحاق رحمه الله تعالى قال: بما بلغه وانتهى إلى علمه وليس ذلك بإجماع.
فقد اختلف الناس هل خلقت الأجساد قبل الأرواح أو معها؟ على قولين حكاهما شيخنا وغيره.
وهل معنى الآية أخذ الذرية بعضهم من بعض وإشهادهم بما فطرهم عليه أو

 

ص -70-   إخراجهم من ظهر آدم واستنطاقهم على قولين مشهورين. والذين قالوا: "إن الأرواح خلقت قبل الأجساد" ليس معهم نص من كتاب الله ولا سنة رسوله وغاية ما معهم قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}. الآية وقد علم أنها لا تدل على ذلك. وأما الأحاديث التي فيها أنه "أخرجهم مثل الذر" فهذا هل هو أشباحهم أو أمثالهم فيه قولان وليس فيها صريح بأنها أرواحهم.
والذي دل عليه القرآن والسنة والاعتبار أن الأرواح إنما خلقت مع الأجساد أو بعدها فإن الله سبحانه خلق جسد آدم قبل روحه فلما سواه وأكمل خلقه نفخ فيه من روحه فكان تعلق الروح به بعد خلق جسده.
وكذلك سنته سبحانه في خلق أولاده كما دل عليه حديث عبد الله بن مسعود المتفق على صحته قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح".
وقد غلط بعض الناس حيث ظن أن نفخ الروح إرسال الروح وبعثها إليه وأنها كانت موجودة قبل ذلك ونفخها تعلقها به وليس ذلك مراد الحديث بل إذا تكامل خلق الجنين أرسل الله إليه الملك فنفخ فيه نفخة فتحدث الروح بتلك النفخة فحينئذ حدثت له الروح بواسطة النفخة.
وكذلك كان خلق المسيح أرسل الله الملك إلى أمه فنفخ في فرجها نفخة فحملت بالمسيح كما قال تعالى:
{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً  قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}. وهذا صريح في إبطال قول من قال: "إن هذه الروح التي خاطبها هي روح المسيح" فإن روح المسيح إنما حدثت من تلك النفخة التي نفخها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وكيف يقول المسيح لأمه: {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}. وكيف يكون قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا}. أي من روح ولدها فتكون روح المسيح هي النافخة لنفسها في بطن أمه ؟ وهذا قول تكثر الدلائل على بطلانه وإنما أشرنا إلى ذلك إشارة.

 

ص -71-   فصل: من قال إن كل مولود يولد على السلامة خلقة
وقالت طائفة أخرى: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الفطرة ههنا كفرا ولا إيمانا ولا معرفة ولا إنكارا وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقة وطبعا وبنية وليس معه كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ. واحتجوا بقوله في الحديث:
"كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء" يعني سالمة "هل تحسون فيها من جدعاء" يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب يقول فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفروا أكثرهم وعصم الله أقلهم.
قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر أو الإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون ويكفرون ثم يؤمنون.
قالوا: ويستحيل أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرا أو إيمانا لأن الله أخرجه في حال ما يفقه فيها شيئا قال تعالى:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار.
قال أبو عمر: هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها وذلك أن الفطرة السلامة والاستقامة بدليل قوله في حديث عياض بن حمار:
"إني خلقت عبادي حنفاء" يعني على استقامة وسلامة وكأنه والله أعلم أراد الذين خلصوا من الآفات كلها والمعاصي والطاعات فلا طاعة منهم ولا معصية إذ لم يعملوا بواحدة منهما .ومن الحجة أيضا في هذا قول الله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} و{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرثهن بشيء قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}
قال شيخ الإسلام: هذا القائل إن أراد بهذا أنهم خلقوا خالين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل

 

ص -72-   كتابة الإيمان وكتابة الكفر وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام فهذا قول فاسد لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار والتهويد والتنصير والإسلام وإنما ذلك بحسب الأسباب فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يجعلانه مسلما ويهودانه وينصرانه ويمجسانه فلما ذكر أن أبويه يكفرانه دون الإسلام علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر. وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب ولا استقامة ولا زيغ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة وليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر كما أن الورق قبل الكتابة لا يثبت له حكم مدح ولا حكم ذم والتراب قبل أن يبني مسجدا أو كنيسة لا يثبت له حكم واحد منهما. وبالجملة فكل ما كان قابلا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحا ولا ذما والله تعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها فكيف لا تكون ممدوحة؟ وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق وشبه ما يطرأعليها من الكفر بجدع الأنف والأذن ومعلوم أن كمال الخلقة ممدوح ونقصها مذموم فكيف تكون قبل النقص لا ممدوحة ولا مذمومة؟

فصل: من قال: إن الأطفال ولدوا على الفطرة السليمة
وإن كان المراد بهذا القول ما قالته طائفة من الناس إن المعنى أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت على صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر ولكن بما عرض لها من الفساد خرجت عن هذه الصحة فهذا القول قد يقال: إنه لا يرد عليه ما يرد على الذي قبله فإن صاحبه يقول في الفطرة قوة تميل بها إلى المعرفة والإيمان كما في البدن الصحيح قوة يحب بها الأغذية النافعة وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها.
لكن يقال: فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية هل هي كافية في حصول المعرفة أو تقف المعرفة على أدلة تتعلمها من خارج فإن كانت المعرفة تقف على أدلة تتعلمها من خارج.
فإن كانت المعرفة تقف على أدلة تتعلمها من خارج أمكن أن توجد تارة وتعدم

 

ص -73-   أخرى. ثم ذلك السبب الخارج امتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت المعرفة واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب وإلا فلا وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك وأسباب ضده من التهويد والتنصير والتمجيس.
وحينئذ فلا فرق فيها بين الإيمان والكفر والمعرفة والإنكار إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج.
وهذا هو القسم الأول الذي أبطلناه وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة.
فإن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة لزم حصول المعرفة فيها بدون ما تعرفه من أدلة المعرفة سواء قيل إن المعرفة ضرورية فيها أو تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس من غير أن تسمع كلام مستدل فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم أن يكون المقتضي للمعرفة حاصلا لكل مولود وهو المطلوب. والمقتضي التام يستلزم مقتضاه.
فتبين أن أحد الأمرين لازم: إما كون الفطرة مستلزمة للمعرفة وإما استواء الكفر والإيمان بالنسبة إليها، وذلك بنفي مدحها.
وتلخيص النكتة أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها أمر ممكن بلا ريب، فإما أن تكون هي موجبة مستلزمة له، وإما أن تكون ممكنة إليه ليست بواجبة لازمة له. فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان إذ كلاهما ممكن بالنسبة إليها فتبين أن المعرفة لازمة لها واجبة إلا أن يعارضها معارض.
فإن قيل: ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكنها إليها أميل مع قبولها للنكرة.
قيل: فحينئذ إذا لم تستلزم المعرفة وجدت تارة وعدمت أخرى وهي وحدها لا تحصلها فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين فيكون الإسلام في ذلك كالتهويد والتنصير والتمجيس.
ومعلوم أن هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض لكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها أضيفت إلى السبب فإن لم تكن الفطرة مقتضية

 

ص -74-   للإسلام صارت نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس فوجب أن يذكر كما ذكر ذلك وهذا كما لو كانت لم تقتض الأجل إلا بسبب منفصل والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن بالفطرة لما عرض عليه اللبن والخمر واختار اللبن فقال له جبريل :أصبت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك.
والطفل مفطور على أنه يختار شرب اللبن بنفسه فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة فارتضاعه ضروري إذ لم يوجد معارض وهو مولود على أن يرتضع فكذلك هو مولود على أن يعرف الله والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجد معارض.
وأيضا فإن حب النفس لله وخضوعها لله تعالى وإخلاص الدين له والكفر والشرك والنفور والإعراض عنه إما أن تكون نسبتهما إلى لفطرة سواء أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح ولم يكن فرق بين اقتضائها للكفر واقتضائها للإيمان ويكون تمجيسها كتحنيفها وهذا باطل قطعا.
وإن كان فيها مقتض للأول دون الثاني فإما أن يكون المقتضي مستلزما لمقتضاه عند عدم المعارض وإما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها فإن كان الأول ثبت أن ذلك من لوازمها وأنها مفطورة عليه لا يفقد إلا إذا أفسدت الفطرة.
وإن قيل: نه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا.
وإذا قيل: "هي إلى الحنيفية أميل" كان كما يقال: هي إلى النصرانية أميل. فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله والذل له وإخلاص الدين له وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض كما أن فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه.
ومما يبين هذا أن كل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد فإذا أمكن الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد فما في النفوس من قوة المحبة لله إذا شعرت به يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح ومحبة العلم وغير ذلك. وإذا

 

ص -75-   كان كذلك وقد ثبت في النفس قوة المحبة لله والذل له وإخلاص الدين له وأن فيها قوة الشعور به لزم قطعا وجود المحبة فيها والذل في الفعل لوجود المقتضي الموجب إذا سلم عن المعارض وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل وإن كان وجوده قد يذكر ويحرك كما إذا خوطب الجائع بوصف الطعام والمغتلم بوصف النساء فإن هذا مما يذكر ويحرك لكن لا يشترط ذلك لوجود الشهوة فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته وإن كان ذلك مذكرا ومحركا ومزيلا للمعارض المانع .
وأيضا فالإقرار بالصانع بدون عبادته والمحبة له وإخلاص الدين له لا يكون نافعا بل الإقرار مع البغض أعظم استحقاقا للعذاب فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم ومقتض للمحبة والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه ومحبة الأشياء المحبوبة لا تكون بسبب من خارج بل هو أمر جبلي فطري وإذا كانت المحبة فطرية فالشعور فطري ولو لم تكن المحبة فطرية لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء وهذا ممتنع فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها والحب لله والخضوع له والإخلاص هو أصل الأعمال الحنيفية وذلك مستلزم للإقرار والمعرفة ولازم اللازم لازم وملزوم الملزوم ملزوم فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال وهذه الأحوال لازمة لها وهو المطلوب .

فصل: جمع للأقوال المحكية قى هذا الموضوع
فمنها قولان من جنس واحد: وهما الأول قول من يقول ولدوا على ما سبق به القدر، والثاني قول من يقول ولدوا على وجود المقدر وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول طوعا وكرها .
وقولان من جنس: وهما الأول قول من يقول ولدوا قادرين على المعرفة، والثاني قول من يقول ولدوا قابلين لها وللتهود والتنصر إما مع التساوي أو مع رجحان القبول للإسلام.
وقولان من جنس: وهما الأول قول من يقول ولدوا على فطرة الإسلام، والثاني قول من يقول ولدوا على الإقرار بالصانع أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق.

 

ص -76-   وقولان من جنس: وهما الأول قول من يقول ولدوا على سلامة القلب وخلوه من الكفر والإيمان والثاني قول من يقول ولدوا مهيئين لذلك قابلين له.
وقولان من جنس: وهما الأول قول من يقول الحديث منسوخ، والثاني قول من يقف في معناه.
والصحيح من هذه الأقوال ما دل عليه القرآن والسنة أنهم ولدوا حنفاء على فطرة الإسلام بحيث لو تركوا وفطرهم لكانوا حنفاء مسلمين،كما ولدوا أصحاء كاملي الخلقة فلو تركوا وخلقهم لم يكن فيهم مجدوع ولا مشقوق الأذن .
ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك شرطا مقتضيا غير الفطرة وجعل خلاف مقتضاها من فعل الأبوين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل:
"إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" فأخبر أن تغيير الحنيفية التي خلقوا عليها بأمر طاريء من جهة الشيطان ولو كان الكفار منهم مفطورين على الكفر لقال: خلقت عبادي مشركين فأتتهم الرسل فاقتطعتهم عن ذلك كيف وقد قال: "خلقت عبادي حنفاء كلهم"؟ فهذا القول أصح الأقوال والله أعلم.

ذكر أحكام أطفالهم في الآخرة
واختلاف الناس في ذلك وحجة كل طائفة على ما ذهبت إليه وبيان الراجح من أقوالهم
فذهبت طائفة من أهل العلم إلى التوقف في جميع الأطفال سواء كان آباؤهم مسلمين أو كفارا وجعلوهم بجملتهم في المشيئة.
وخالفهم في ذلك آخرون فحكموا لهم بالجنة وحكوا الإجماع على ذلك.
قال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحد أنهم من الجنة. واحتج أرباب التوقف بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وغيرهما:
"إن الله وكل بالرحم ملكا فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال الملك يا رب أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك وهو في بطن أمه"، وكذلك قوله في حديث ابن مسعود ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد متفق على صحته.

 

ص -77-   ووجه الدلالة من ذلك أن جميع من يولد من بني آدم إذا كتب السعداء منهم والأشقياء قبل أن يخلقوا وجب علينا التوقف في جميعهم لأنا لا نعلم هذا الذي توفي منهم هل هو ممن كتب سعيدا في بطن أمه أو كتب شقيا.
واحتجت هذه الطائفة بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال:
"أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم"، وفي لفظ آخر: "وما يدريك يا عائشة".
قالوا: فهذا الحديث صحيح صريح في التوقف فيهم فإن الصبي كان من أولاد المسلمين ودعي النبي ليصلي عليه كما جاء ذلك منصوصا عليه.
قال الآخرون: لا حجة لكم في شيء مما ذكرتم.
أما حديث ابن مسعود وأنس فإنما يدل على أن الله سبحانه كتب سعادة الأطفال وشقاوتهم وهم في بطون أمهاتهم ولا ننفي أن تكون الشقاوة والسعادة بأشياء علمها سبحانه منهم وإنهم عاملوها لا محالة تفضي بهم إلى ما كتبه وقدره إذ من الجائز أن يكتب سبحانه شقاوة من يشقيه منهم بأنه يدرك ويعقل ويكفر باختياره فمن يقول: "أطفال المؤمنين في الجنة" يقول: "إنهم لم يكتبوا في بطون أمهاتهم أشقياء" إذ لو كتبوا أشقياء لعاشوا حتى يدركوا زمن التكليف ويفعلوا الأسباب التي قدرت وصلة إلى الشقاوة التي تفضي بصاحبها إلى النار فإن النار لا تدخل إلا جزاء على الكفر والتكذيب الذي لا يمكن إلا من العاقل المدرك.
والدليل على ذلك قوله تعالى:
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} وقوله لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}. إلى غير ذلك من النصوص التي هي صريحة في أن النار جزاء الكافرين المكذبين.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها وإن كان مسلم رواه في صحيحه فقد

 

ص -78-   ضعفه الإمام أحمد وغيره، وذكر ابن عبدالبر علته بأن طلحة بن يحيى انفرد به عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين وطلحة ضعيف. وقد قيل إن فضيل بن عمرو رواه عن عائشة بنت طلحة كما رواه طلحة بن يحيى سواء هذا كلامه.
قال الخلال: أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن أطفال المسلمين فقال: ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم أن إسحاق بن منصور حدثهم قال: قال إسحاق بن راهويه أما أولاد المسلمين فإنهم من أهل الجنة. أخبرني عبدالملك الميموني أنهم ذاكروا أبا عبد الله في أطفال المؤمنين وذكروا له حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الأنصاري وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه وإني سمعت أبا عبد الله يقول غير مرة: "وهذا حديث ضعيف" وذكر فيه رجلا ضعفه وهو طلحة وسمعته يقول غير مرة: "وأحد يشك أنهم في الجنة".ثم أملى علينا الأحاديث فيه وسمعته غير مرة يقول: "هو يرجى لأبويه كيف يشك فيه"؟.
وقال أبو عبد الله: واختلفوا في أطفال المشركين فابن عباس يقول كنت أقول: "مع آبائهم" حتى لقيت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثني عن رجل آخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنهم فقال:
"الله أعلم بما كانوا عاملين".
وقال الحسن بن محمد بن الحارث: سمعت أبا عبد الله يسأل عن السقط إذا لم تنفخ فيه الروح فقال: في الحديث "يجيء السقط محبنطئا" قال الخلال: سألت ثعلبا عن السقط محبنطئا فقال: غضبان ويقال: قد ألقى نفسه. وقد أجبت عنه بعد التزام صحته بأن هذا القول كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه الله بأن أطفال المؤمنين في الجنة وهذا جواب ابن حزم وغيره.
وأجاب طائفة أخرى عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد على عائشة رضي الله عنها لكونها حكمت على غيب لم تعلمه كما فعل بأم العلاء إذ قالت حين مات عثمان بن مظعون: شهادتي عليك أن الله أكرمك, فأنكر عليها وقال لها:
"وما يدريك أن الله أكرمه؟" ثم قال: "أما هو فقد جاءه اليقين وأنا أرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به" وأنكر عليها جزمها وشهادتها على غيب لا تعلمه وأخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم أنه يرجو له الخير.

 

ص -79-   ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب فلانا1 إن كان يرى أنه كذلك ولا أزكي على الله أحدا".
وقد يقال: إن من ذلك قوله في حديث لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين قال: له أعطيت فلانا وتركت فلانا وهو مؤمن فقال: أو مسلم فأنكر عليه الشهادة له بالإيمان لأنه غيب دون الإسلام فإنه ظاهر.
وإذا كان الأمر هكذا فيحمل قوله لعائشة رضي الله عنها:
"وما يدريك يا عائشة؟" على هذا المعنى كأنه يقول لها إذا خلق الله للجنة أهلا وخلق للنار أهلا فما يدريك أن ذلك الصبي من هؤلاء أو من هؤلاء؟
وقد يقال: إن أطفال المؤمنين إنما حكم لهم بالجنة تبعا لآبائهم لا بطريق الاستقلال فإذا لم يقطع للمتبوع بالجنة كيف يقطع لتبعه بتا؟!
يوضحه أن الطفل غير مستقل بنفسه بل تابع لأبويه فإذا لم يقطع لأبويه بالجنة لم يجز أن يقطع له بالجنة وهذا في حق المعين فإنا نقطع للمؤمنين بالجنة عموما ولا نقطع للواحد منهم بكونه في الجنة فلهذا والله أعلم أنكر النبي على أم العلاء حكمها على عثمان بن مظعون بذلك.
واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟" قالوا: يا رسول الله أرأيت من يموت وهو صغير قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" فلم يخصوا بالسؤال طفلا من طفل ولم يخص عليه السلام بالجواب بل أطلق الجواب كما أطلقوا السؤال ولو افترق الحال في الأطفال لفصل وفرق بينهم في الجواب.
وهؤلاء لو تأملوا ألفاظه وطرقه لأمسكوا عن هذا الاحتجاج فإن هذا الحديث روي من طرق متعددة
فمنها حديث أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين أو أطفال المشركين فقال:
"الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم" رواه عن أبي بشر جماعة: منهم شعبة وأبو عوانة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والله حسيبه وحسيبنا.

 

ص -80-   ومنها حديث الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم إذ خلقهم ما كانوا عاملين".
ومنها حديث الوليد بن مسلم عن عتبة بن ضمرة أنه سمع عبد الله بن قيس مولى غطيف بن عفيف قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن أولاد المشركين فقالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". وهذه كلها صحاح تبين أن السؤال إنما وقع عن أولاد المشركين.
وقد جاء مطلقا في الحديث الآخر: "أرأيت من يموت وهو صغير". على أنه لو كان السؤال عن حكم الأطفال مطلقا لكان هذا الجواب غير ذلك على استواء أطفال المسلمين والمشركين بل أجاب عنهم جملة من جملة بقوله:
"الله أعلم بما كانوا عاملين" فإذا كان سبحانه يعلم أن أطفال المسلمين لو عاشوا عملوا بطاعته وأطفال المشركين أو بعضهم لو عاشوا لكانوا كفارا كان الجواب مطابقا لهذا المعنى.

فصل: في أدلة من ذهب إلى أن أطفال المسلمين في الجنة
فمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"ما من المسلمين من يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته بحالهم يوم القيامة فيقال: لهم ادخلوا الجنة فيقولون: لا حتى يدخل آباؤنا فيقال: لهم ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي".
وفي لفظ:
"ما من مسلم مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا كانوا له حجابا من النار".
ومنها حديثه أيضا وقيل له حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث يطيب أنفسنا عن موتانا فقال: سمعته يقول: "صغارهم دعاميص1 الجنة يتلقى أحدهم أباه فيأخذ بثوبه كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا ينتهي حتى يدخله الله وأبويه الجنة"
ومنها: حديث معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا جاء بابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتحبه؟" فقال: أحبك الله يا رسول الله كما أحبه توفي ابنه ثم دخل الرجل فقال له

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدعاميص دواب توجد في المياه لا تفارقها فشبه الصغار بهم.

 

ص -81-   رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى ألا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا جاء يفتحه لك" فقالا: يا رسول الله أله وحده أم لنا كلنا؟ فقال: "بل لكم كلكم"
ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يتوفي له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم".
وهذه الأحاديث أكثرها في الصحيح وكلها صحيحة وهذا القول في أطفال المسلمين هو المعروف من قواعد الشرع حتى إن الإمام أحمد أنكر الخلاف فيه وأثبت بعضهم الخلاف وقال: إنما الإجماع على أولاد الأنبياء خاصة.
وأبو عمر اضطرب في النقل في هذا الباب فقال: عند كلامه على تأويل الفطرة قد أجمع المسلمون من أهل السنة وغيرهم إلا المجبرة على أن أولاد المؤمنين في الجنة، ثم لما ذكر الأخبار التي احتج بها من قال: إن الأطفال جميعهم في المشيئة.
قال: فهذه الآثار وما كان مثلها احتج بها من ذهب إلى الوقوف عن الشهادة لأطفال المسلمين أو المشركين بجنة أو نار وإليها ذهبت جماعة كبيرة من أهل الفقه والحديث منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم وهو يشبه ما رسمه مالك في أبواب القدر وما أورد في ذلك من الأحاديث وعلى ذلك أكثر أصحابه وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة لآثار رويت في ذلك.
هذا ما ذكره في باب أبي الزناد في "التمهيد".
وقال: في باب ابن شهاب عن سعيد بن المسيب: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد...." الحديث: "قد أجمع العلماء على أن أطفال المسلمين في الجنة ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافا إلا فرقة شذت من المجبرة فجعلتهم في المشيئة وهو قول شاذ مهجور مردود بإجماع أهل الحجة الذين لا يجوز مخالفتهم ولا يجوز على مثلهم الغلط في مثل هذا إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد والثقات"
فتأمل كيف ذكر الإجماع على أن أطفال المسلمين في الجنة وأنه لا يعلم في ذلك نزاعا وجعل القول بالمشيئة فيهم قولا شاذا مهجورا ونسبه في الباب الآخر إلى الحمادين1 وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأكثر أصحاب مالك وهذا من السهو الذي هو عرضة للإنسان ورب العالمين هو الذي لا يضل ولا ينسى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هما حماد بن زيد وحماد بن سلمة.

 

ص -82-   فصل: مذاهب عشرة في أولاد المشركين
وأما أولاد المشركين فاختلف أهل العلم فيهم على عشرة مذاهب نحن نذكر أدلتها ونبين راجحها من مرجوحها بحول الله وقدرته وتوفيقه.
المذهب الأول: الوقف في أمرهم
ولا نحكم لهم بجنة ولا نار ونكل علمهم إلى الله وهذا قد يعبر عنه بمذهب الوقف وقد يعبر عنه بمذهب المشيئة وأنهم تحت مشيئة الله يحكم فيهم بما يشاء ولا يدرى حكمه فيهم ما هو.
واحتج أرباب هذا القول بحجج منها ما خرجا في "الصحيحين"1 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟" قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
ومنها ما في الصحيحين أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وقد تقدمت هذه الأحاديث آنفا.
وفي صحيح أبي حاتم ابن حبان من حديث جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول وهو على المنبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يزال أمر هذه الأمة موائما أو مقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر"
قال أبو حاتم: "الولدان" أراد بهم أطفال المشركين.
وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الوقف بهذه النصوص نظر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجب فيهم بالوقف وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله والمعنى
"الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح الإمام البخاري الجامع المسند الصحيح وصحيح الإمام مسلم رحمهما الله.

 

ص -83-   فهو سبحانه يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش ولكن لا يدل هذا على أنه سبحانه يجزيهم بمجرد علمه فيهم بلا عمل يعملونه وإنما يدل هذا على أنه يعلم من يؤمن ومن يكفر بتقدير الحياة.وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح أبي عوانة الأسفراييني عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فسأله رجل ما تقول في اللاهين1 فسكت عنه فلما فرغ من غزوة الطائف إذا هو بصبي يبحث في الأرض فأمر مناديه فنادى أين السائل عن اللاهين فأقبل الرجل فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الأطفال وقال:
"الله أعلم بما كانوا عاملين".
فقوله:
"الله أعلم بما كانوا عاملين" عقيب نهيه عن قتلهم يكشف لك المعنى ويوضحه ويبين أن الله سبحانه يعلم لو أدركوا ما كانوا يعملون وأنتم لا تعلمون ذلك فلعل أحدهم إذا أدرك يعمل بطاعة الله ويكون مسلما فهذا أحد الوجهين في جوابه صلى الله عليه وسلم.
والوجه الثاني: أنه خرج جوابا لهم حين أخبرهم "أنهم من آبائهم" فقالوا: بلا عمل فقال:
"الله أعلم بما كانوا عاملين".
كما في "السنن" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال:
"هم من آبائهم" فقلت يا رسول الله بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" قلت: يا رسول الله فذراري المشركين؟ قال: "هم من آبائهم" قلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لوعاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به فهؤلاء مع آبائهم.
ولا يقتضي أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار فإن الكلام في هذا الجنس سؤالا وجوابا إنما يدل على التفصيل فإن قوله:
"الله أعلم بما كانوا عاملين" يدل على أنهم متباينون في التبعية بحسب تباينهم في معلوم الله تعالى فيهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي الغافلين شبه الأطفال في عدم إدراكهم باللاهين.

 

ص -84-   يبقى أن يقال: فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل ولهذا فهمت منه عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت: "بلا عمل"؟ فأقرها عليه وقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل في أحكام الدنيا وهو الذي فهمته عائشة رضي الله عنها ولكن لا ينفي هذا أن يلحقوا بهم في الآخرة بأسباب أخر كامتحانهم في عرصات القيامة كما سنذكره إن شاء الله تعالى فحينئذ يلحقون بآبائهم ويكونون معهم بلا عمل عملوه في الدنيا.
وأم المؤمنين رضي الله عنها إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء وأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يعلم منهم ما هم عاملوه ولم يقل لها إنه يعذب بمجرد علمه فيهم وهذا ظاهر بحمد الله.
وأما حديث أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس ففي رفعه نظر والناس إنما رووه موقوفا عليه وهو الأشبه وابن حبان كثيرا ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنه موقوف كما رفع قول أبي بن كعب كل حرف في القرآن في القنوت فهو الطاعة وهذا لا يشبه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وغايته أن يكون كلام أبي.
والحديث ولو صح إنما يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم أو ضرب النصوص بعضها ببعض كما يفعله أهل الجدل والمباحثة الذين لا تحقيق عندهم ولم يصلوا في العلم إلى غايته بل هم في أطراف أذياله وبلاء الأمة من هذا الضرب وهم الغالب على الناس وبالله التوفيق .

فصل: المذهب الثاني: أنهم في النار
وهذا قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير وأحد الوجهين لأصحاب أحمد وحكاه القاضي نصا عن أحمد وغلطه شيخنا كما سيأتي بيان ذلك.
واحتج هؤلاء بحجج: منها حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن

 

ص -85-   عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المسلمين أين هم؟ قال: "في الجنة" وسألته عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: "في النار" فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام؟ قال: "ربك أعلم بما كانوا عاملين والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم1 في النار"
ولكن هذا الحديث قد ضعفه جماعة من الحفاظ. قال أبو عمر2 أبو عقيل هذا لا يحتج بمثله عند أهل النقل وهذا الحديث لو صح لاحتمل من الخصوص ما احتمل غيره.
قال: ومما يدل على أنه خصوص لقوم من المشركين قوله لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهذا لا يكون إلا فيمن قد مات وصار في النار. قال: وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه من الآثار .
قلت: مراد أبي عمر أن هذا خاص ببعض أطفال المشركين الذين ماتوا ودخلوا النار ولا يلزم منه أن يكون هذا حكما عاما لجميع الأطفال. وهذا صحيح يتعين المصير إليه جمعا بينه وبين حديث سمرة الذي رواه البخاري في صحيحه وهو صريح بأنهم في الجنة كما سيأتي.
واحتجوا بحديث عمر بن ذر عن يزيد بن أمية أن البراء بن عازب رضي الله عنه أرسل إلى عائشة رضي الله عنها يسألها عن الأطفال فقالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ قال:
"من آبائهم" قلت: بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" قلت: يا رسول الله فذراري المشركين؟ قال: "هم من آبائهم" قلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" هكذا قال: مسلم بن قتيبة.
وقد رواه غيره عن عمر بن ذر عن يزيد عن رجل عن البراء. ورواه أحمد من حديث عتبة بن ضمرة بن حبيب حدثني عبد الله بن قيس مولى غطيف بن عفيف أنه سأل عائشة رضي الله عنها وعبد الله هذا ينظر في حاله وليس بالمشهور.
وبالجملة فلا حجة في الحديث على أنهم في النار لأنه إنما أخبر بأنهم من آبائهم في أحكام الدنيا كما تقدم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التضاغي: التصايح من الألم.
2 أي ابن عبد البر صاحب كتاب التمهيد والاستيعاب وغيرهما.

 

ص -86-   واحتجوا بما رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان عن محمد بن عثمان عن زاذان1 عن علي قال: سألت خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال: "هما في النار" فلما رأى الكراهية في وجهها قال: "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما" قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}.
وهذا الحديث معلول من وجهين :
أحدهما: أن محمد بن عثمان هذا مجهول.
والثانية: أن زاذان لم يدرك عليا.
وقال الخلال: أخبرنا حفص بن عمرو الربالي ثنا أبو زياد سهل بن زياد ثنا الأزرق بن قيس عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله أين أطفالي من أزواجي من المشركين قال:
"في النار" وقالت: بغير عمل؟ قال: "قد علم الله ما كانوا عاملين"
قال شيخنا: وهذا حديث موضوع لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي غر القاضي أبا يعلى حتى حكى عن أحمد "أنهم في النار" لأن أحمد نص في رواية بكر بن محمد عن أبيه أنه سأله عن أولاد المشركين فقال: أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" فتوهم القاضي أن أحمد أراد هذا الحديث.
وأحمد أعلم بالسنة من أن يحتج بمثل هذا الحديث.
وإنما أراد أحمد حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
واحتجوا أيضا بحديث داود بن أبي هند2 عن الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم فهل ينفعها من عملها ذلك شيء قال:
"لا" قلنا له: فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو عمر البزار من التابعين.
2 أبو بكر القشيرى المصرى.

 

ص -87-   "الموؤودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم" رواه جماعة كثيرة عن داود.
وقال: محمد بن نصر ثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن جابر عن عامر عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: قلنا: يا رسول الله إن أمنا كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتطعم الطعام وإنها كانت وأدت في الجاهلية فماتت قبل الإسلام فهل ينفعها عمل إن عملنا عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا ينفع الإسلام إلا من أدرك أمكم وما وأدت في النار".
وروى أبو إسحاق عن عامر عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الوائدة والموؤدة في النار".
وهذا لا يدل على أنهم كلهم في النار بل يدل على أن بعض هذا الجنس في النار وهذا حق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقد رد بعضهم على الحديث بأنه مخالف لنص القرآن قال تعالى:
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ  بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} سواء كان المعنى أنها تسأل سؤال توبيخ لمن وأدها أو تطلب ممن وأدها كما تطلب الأمانة ممن اؤتمن عليها.
وعلى التقديرين فقد أخبر سبحانه أنه لا ذنب لها تقتل به في الدنيا قتلة واحدة فكيف تقتل في النار قتلات دائمة ولا ذنب لها فالله أعدل وأرحم من ذلك لأنه إذا كان قد أنكر على من قتلها بلا ذنب فكيف يعذبها تبارك وتعالى بلا ذنب.
وهذا المعنى حق لا يعارض نص القرآن فإنه لم يخبر أن الموؤودة في النار بلا ذنب فهذا لا يفعله الله قطعا وإنما يدخلها النار بحجته التي يقيمها يوم القيامة إذا ركب في الأطفال العقل وامتحنهم وأخرجت المحنة منهم ما يستحقون به النار.
واحتجوا بما روى البخاري في صحيحه في احتجاج الجنة والنار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها" قالوا: فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل فلأن يدخلها من ولد في الدنيا بين كافرين أولى.
قال شيخنا: وهذه حجة باطلة فإن هذه اللفظة وقعت غلطا من بعض الرواة وبينها البخاري رحمه الله تعالى في الحديث الآخر الذي هو الصواب فقال في "صحيحه":

 

ص -88-   حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عبدالرزاق ثنا معمر عن همام1 عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم, قال: الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي, وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها, فأما النار فلا تمتليء حتى يضع رجله فتقول: قط قط2 فهنالك تمتليء ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله ينشيء لها خلقا".
هذا هو الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب وهو الذي ذكره في التفسير.
وقال: في باب ما جاء في قول الله عز وجل:
{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}:
ثنا عبيدالله بن سعيد ثنا يعقوب ثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختصمت الجنة والنار إلى ربهما فقالت الجنة: يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار: ما لها لا يدخلها إلا المتجبرون فقال: للجنة أنت رحمتي وقال: للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها. قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا وإنه ينشيء للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول هل من مزيد؟ ويلقون فيها وتقول هل من مزيد؟ ثلاثا حتى يضع قدمه فيها فتمتليء ويزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط قط". فهذا غير محفوظ وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا كما انقلب على بعضهم:
"إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" فجعلوه "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال" وله نظائر من الأحاديث المقلوبة من المتن3

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد ابن منبه تابعى أكثر الزواية عن أبي هريرة رضى الله عنه.
2 قط لها ثلاثة أحوال:
الأول: أن تكون ظرف زمان لاستغراق الماضى.
وهذه بفتح القاف وتشديد الطاء مضمونة وتختص بالنفى يقال مافعلت هذا قط غيما مضى وانقطع.
الثانية أن تكون بمعنى يكفى وهذه تزاد فيها نون الوقاية فيقال قظنى.
3 راجع لنا مفاتيح القارى لأبواب فتح البارى.

ص -89-   وحديث الأعرج عن أبي هريرة هذا لم يحفظ كما ينبغي وسياقه يدل على أن راويه لم يقم متنه بخلاف حديث همام عن أبي هريرة.
واحتجوا بما في الصحيح من حديث الصعب بن جثامة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هم منهم" وفي لفظ: "هم من آبائهم" فقال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والولدان.
ولا حجة لهم في هذا فإنه إنما سئل عن أحكام الدنيا وبذلك أجاب.
والمعنى: أنهم إن أصيبوا في التبييت والغارة فلا قود ولا دية على من أصابهم لكونهم أولاد من لا قود ولا دية لهم وعلى ذلك مخرج الحديث سؤالا وجوابا.
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. وهذا يدل على أن ذرية الكافرين تلحق بهم ولا يلحقون بالمؤمنين وذرياتهم فإن الله تعالى شرط في الإلحاق إيمان الآباء.
وهذا لا حجة فيه لأن الله تعالى إنما أخبر عن إلحاق ذرية المؤمنين بآبائهم ولو يخبر عن ذرية الكفار بشيء.
بل الآية حجة على نقيض ما ادعوه من وجهين:
أحدهما: إخباره أنه لم ينقص الآباء بهذا الإلحاق من أعمالهم شيئا فكيف يعذب هذه الذرية بلا ذنب.
الثاني: أنه سبحانه نبه على أن هذا الإلحاق مختص بأهل الإيمان وأما الكفار فلا يؤاخذون إلا بكسبهم فقال تعالى:
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى إخبارا عن نوح أنه قال: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}. والفاجر والكفار من أهل النار وهذا لا حجة فيه لأنه إنما أراد به كفار أهل زمانه قطعا وإلا فمن بعدهم من الكفار قد ولد بعضهم الأنبياء كما ولد آزر إبراهيم الخليل.
وأيضا فقوله:
{فَاجِراً كَفَّاراً}. حال مقدرة أي من إذا عاش كان فاجرا كفارا ولم يرد به أن أطفالهم حال سقوطهم يكونون فجرة كفرة كما تقدم بيانه .

 

ص -90-   فصل: المذهب الثالث: أنهم في الجنة
وهذا قول طائفة من المفسرين والفقهاء والمتكلمين والصوفية وهو اختيار أبي محمد بن حزم وغيره واحتج هؤلاء بما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه:
"هل رأى أحد منكم رؤيا؟" قال: فيقص عليه من شاء الله أن يقص وإنه قال: لنا ذات غداة: "إنه أتاني الليلة آتيان" وذكر الحديث.
وفيه:
"فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط". ثم قال: "وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة" فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأولاد المشركين". قالوا: فهذا الحديث الصحيح الصريح هو فصل الخطاب.
وفي مستخرج البرقاني من حديث عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة" فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: "وأولاد المشركين".
وقال أبو بكر بن حمدان القطيعي: حدثنا بشر بن موسى حدثنا هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن خنساء بنت معاوية قالت حدثني عمي قال: قلت: يا رسول الله من في الجنة؟ قال: "النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموؤودة في الجنة" وكذلك رواه بندار عن غندرعن عوف.
واحتجوا بقوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}.
واحتجوا بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه تعالى1 أنه قال:
"إني خلقت عبادي حنفاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الحديث القدسي أو الإلهى - راجع لنا دراسة مهمة في هذا الموضوع في مقدمتى لكتاب المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن قيم الجوزية.

 

ص -91-   كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا".
واحتجوا أيضا بقوله تعالى:
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لا يَصْلاهَا..}"1" الآيات وبقوله في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وبقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ}"2" الآية وبقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} الآية وبقوله لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}"3". الآية.
قالوا: والقرآن مملوء من الأخبار بأن دخول النار إنما يكون بالأعمال بقوله:
{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية وبقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وقوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}. وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}
وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}. ونظير ذلك في القرآن كثير.
وأيضا فالدار دار جزاء فلا يدخلها من لا ذنب له وما ثم4 إلا دار الثواب أو دار العقاب فإذا لم يدخلوا النار دخلوا الجنة.
قالوا: وإذا كان الله ينشيء للجنة خلقا آخرين يدخلهم إياها بلا عمل فالأطفال الذين ولدوا في الدنيا أولى بتا.
قالوا: وإذا كان كل مولود يولد على الفطرة إلى أن يغير أبواه فطرته فإذا مات قبل التغيير مات على الفطرة فكان من أهل الجنة.
قالوا: وقد أخبر تعالى أنه خلق عباده حنفاء مسلمين وأن الشياطين اجتالتهم عن دينهم فمن مات قبل اجتيال الشياطين مات على الحنيفية فيكون من أهل الجنة.
ودليل ذلك ما روى مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:
"إني خلقت عبادي حنفاء...." الحديث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
{لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
2 {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}
3 {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}
4 أي وما هناك إلادار الثواب الجنة ودار العقاب النار ولادار ثالثة.

 

ص -92-   وزاد محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبدالرحمن بن عائذ عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حراما"
قالوا: وأيضا فالنار دار عدله تعالى لا يدخلها إلا من يستحقها وأما الجنة فدار فضله فيدخلها من أراد بعمل وغير عمل وإذا كانت النار دار عدله فمن لم يعص الله طرفة عين كيف يجازى بالنار خالدا مخلدا أبد الآباد
قالوا: وأيضا فلو عذب الأطفال لكان تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان أو بدون التكليف والقسمان ممتنعان.
أما الأول فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل أصلا.
وأما الثاني فممتنع أيضا بالنصوص التي ذكرناها وأمثالها من أن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه.
قالوا: وأيضا فتعذيبهم إما أن يكون لعدم وقوع الإيمان منهم وإما لوجود الكفر منهم والقسمان باطلان أما الثاني فظاهر لأن من لا عقل له ولا تمييز لا يعرف الكفر حتى يختاره.
وأما الأول فلو عذبوا لعدم وجود الإيمان الفعلي منهم لاشتركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك لاشتراكهم في سببه.
فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم من العذاب بخلاف أطفال المشركين فإنهم يعذبون تبعا لآبائهم وإهانة لهم وغيظا قيل هذا خطأ فإن الله لا يعذب أحدا بذنب غيره كما قال تعالى:
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقال: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً}. الآية.
قالوا: وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها" فإذا لم يعاقب المكلف بما يهم به من السيئات كيف يعاقب الطفل بما لم يعمله ولم يهم به ولم يخطر بباله؟!
قالوا: ولا خلاف بين الناس أن الطفل الذي لم يميز إذا مات طفلا وقد علم الله منه أنه لو عاش لقتل النفوس وسفك الدماء وغصب الأموال فإن الله لا يعذبه على ذلك.

 

ص -93-   قالوا: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في أطفال المشركين "هم من آبائهم" فإنما أراد أنهم منهم في أحكام الدنيا، وأما قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين" فإنه لم يرد به أنه يجزيهم بعلمه فيهم وإن لم يقع معلومه في الخارج.
قالوا: وأيضا فإنما قال: هذا قبل أن يوحى إليه في أمرهم فلما أوحي إليه أنهم في الجنة أخبر به أصحابه.
قلت: وهذا الجواب لا يصح فإنه أخبر بهذا في حديث الأسود بن سريع وحديث أبي هريرة وهما ممن تأخر إسلامه إلى بعد خيبر"1".
وإنما الجواب الصحيح أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم لم يخبر بأن الله يعذبهم على علمه فيهم وإنما أخبر بأنه "أعلم بما هم عاملون مما يستحقون به العقاب".
فإذا امتحنوا في الآخرة وعملوا بمعصيته ظهر معلومه فيهم فعاقبهم بما هم عاملون لا بمجرد علمه.
قالوا: وأما حديث خديجة رضي الله عنها أنهم في النار فلا يصح وقد تقدم كلام الناس فيه.
وأما حديث "الوائدة والموؤودة في النار" فليس في الحديث أن الموؤودة لم تكن بالغة فلعلها وئدت بعد بلوغها.
فإن قلتم: فلفظ الحديث "يا رسول الله إن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الوائدة والموؤودة في النار".
فقد قال أبو محمد بن حزم: هذه اللفظة وهي قوله "لم تبلغ الحنث" ليست من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه اللذين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخبر صلى الله عليه وسلم أن:
"الموؤودة في النار" كان ذلك إنكارا وإبطالا لقولهما "لم تبلغ الحنث" وتصحيحا لأنها كانت قد بلغت الحنث بوحي من الله إليه بخلاف ظنهما لا يجوز إلا هذا القول لأن كلامه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه بل كلامه يصدق بعضه بعضا ويوافق ما أخبر به عن ربه عز وجل ومعاذ الله من غير ذلك!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما يؤخذ من الحديث الاخر فالاخر إذ قد يكون المتقدم منسوخا بالمتأخر - والله أعلم.

 

ص -94-   وقد صح إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن أطفال المشركين في الجنة.
وقال تعالى:
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}. فنص تعالى على أنه لا ذنب للموؤودة.
فإن هذا مبينا لأن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن تلك الموؤودة في النار إخبار عن أنها كانت قد بلغت الحنث بخلاف ظن إخوتها.
وقد روى هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن أبي عدي وليس هو دون المعتمر ولم يذكر فيه "لم تبلغ الحنث".
ورواه أيضا عن داود عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر ثم ساق الحديثين.
ثم روى من طريق أبي داود عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الوائدة والموؤودة في النار" ثم قال: هذا مختصر.
وهو على ما ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى بذلك التي "قد بلغت" لا يجوز غير هذا. قال: وقد يمكن أن يهم فيه الشعبي فإنه مرة أرسله ومرة أسنده ولا يخلو ضرورة هذا الخبر من أنه وهم أو أن أصله مرسل كما رواه أبو داود ثنا إبراهيم بن موسى انا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة عن عامر الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنه إن صح عنه صلى الله عليه وسلم فإنما أراد به التي بلغت لا يجوز غير ذلك.
قلت: وهذا الجواب في غاية الضعف ولا يجوز أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن موؤودة لم تبلغ الحنث فأجاب عمن بلغت الحنث بل إنما خرج جوابه صلى الله عليه وسلم لنفس ما سئل عنه.
فكيف ينسب إليه أنه ترك الجواب عما سئل عنه وأجاب عما لم يسأل عنه موهما أنه المسؤول عنه ولم ينبه السائل؟! هذا لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أصلا.
وأما قوله: "إن هذا الحديث قد روي بدون هذه اللفظة" فلا يضره ذلك لأن الذي زادها ثقة ثبت لا مطعن فيه وهو المعتمر بن سليمان كيف وقد صرح بالسماع من داود بن أبي هند واختصار ابن أبي عدي وعبيدة بن حميد لها لا يكون قادحا في رواية من زادها.

 

ص -95-   وأيضا لو لم تذكر في السؤال لكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم شاملا لها بعمومه.
كيف وإنما كانت عادتهم وأد الصغار لا الكبار ولا يضره إرسال الشعبي له.
وإنما الجواب الصحيح عن هذا الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الوائدة والموؤودة في النار" جواب عن تينك الوائدة والموؤودة اللتين سئل عنهما لا إخبار عن كل وائدة وموؤودة فبعض هذا الجنس في النار وقد يكون هذا الشخص من الجنس الذي في النار .
ويدل عليه حديث بشر بن موسى عن هوذة بن خليفة عن عوف عن خنساء بنت معاوية قال:ت حدثني عمي قال: قلت يا رسول الله من في الجنة قال:
"النبي في الجنة, والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموؤودة في الجنة" رواه جماعة عن عوف.
وأخباره صلى الله عليه وسلم لا تتعارض فيكون كلامه دالا على أن بعض هذا الجنس في الجنة وبعضه في النار وهذا هو الحق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما قوله تعالى:
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ  بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} فهذا السؤال إنما هو إقامة لحجته سبحانه على تعذيب من وأدها إذ قتل نفسا بغير حقها.
وأما حكمه سبحانه فيها هي فإنه يحكم فيها بغير حكمه في الأبوين كما سنذكره إن شاء الله تعالى .

فصل: في الاحتجاج أن الأطفال في الجنة
واحتجوا أيضا على أنهم في الجنة بما رواه يعقوب بن عبدالرحمن القارىء عن أبي حازم المدني عن يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
"سألت ربي اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم فهم خدم أهل الجنة".
وبحديث عائشة رضي الله عنها قال:ت سألت خديجة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال:
"هم مع آبائهم" ثم سألته بعد ذلك فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" ثم سألته بعد ذلك فنزلت: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فقال: "هم على الفطرة" أو قال: "هم في الجنة": ذكره أبو عمر1 في "الاستذكار" ولم يذكر له إسنادا فينظر في إسناده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن عبد البر والاستذكار أحد كتبه المعروفة.

 

ص -96-   ثم قال: وآثار هذا الباب معارضة لحديث "الوائدة والموؤودة في النار" وما كان مثله وإذا تعارضت الآثار وجب سقوط الحكم بها ورجعنا إلى الأصل وهو أنه لا يعذب الله أحدا إلا بذنب لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}. وآي القرآن كثير في هذا المعنى.
على أني أقول: إن الله ليس بظلام للعبيد ولو عذبهم لم يكن ظالما لهم ولكن جل من تسمى بالغفور الرحيم الرؤوف الحليم أن يكون من صفته إلا حقيقة "لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل".
قل: وآثار هذا الباب الصحيحة ليس فيها بحمد الله تعارض.
وحديث
"الوائدة والموؤودة في النار" قد تقدم الجواب عنه.
ومعارضة الأحاديث الباطلة للأحاديث الصحيحة لا توجب سقوط الحكم بالصحيحة.
والأحاديث الصحيحة يصدق بعضها بعضا.

فصل: المذهب الرابع: أنهم في منزله بين الجنة والنار
فإنهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنة ولا لآبائهم إيمان يتبعهم أطفالهم فيه تكميلا لثواب وزيادة في نعيم وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار ولا من الإيمان ما يدخلون به الجنة والجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة والنار لا يدخلها إلا نفس كافرة.
وهذا قول طائفة من المفسرين.
قالوا: وهم أهل الأعراف. قال عبدالعزيز بن يحيى الكناني: هم الذين ماتوا في الفترة وأطفال المشركين.
وأرباب هذا القول إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبدا فباطل فإنه لا مستقر إلا الجنة أو النار.
وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة ثم يصيرون إلى دار القرار فهذا ليس بممتنع.
والصحيح في أهل الأعراف أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم حسناتهم عن النار وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة فبقوا بين الجنة والنار.
كذا قال غير واحد من الصحابة: منهم حذيفة وأبو هريرة وغيرهما.

 

ص -97-   فصل: المذهب الخامس: أنهم مردودون إلى محض مشيئة الله تعالى بلا سبب ولا عمل
فيجوز أن يعمهم جميعهم برحمته وأن يدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار ولا سبيل لنا إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلا بخبر يجب المصير إليه وكلها جائزة بالنسبة إلى الله وإنما يترجح بعضها على بعض بمجرد المشيئة.
وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل.
وقد ظن كثير من هؤلاء أن هذا جواب النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنهم فقال:
"الله أعلم بما كانوا عاملين" وهذا الفهم غلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابه لا يدل على ذلك أصلا.
بل هو حجة عليهم فإنه لم يقل هم في مشيئة الله يفعل فيهم ما يشاء بلا سبب ولا عمل.
بل أخبر أن الله يعلم أعمالهم التي يستحقون بها الثواب أو العقاب لو عاشوا.
وقد دلت الآثار التي سنذكرها على ظهور معلومة فيهم في الدار الآخرة الذي يقع عليه الثواب والعقاب.
وهذا المذهب مبني على أصول الجبرية المنكرين للأسباب والحكم والتعليل.
وهو مذهب مخالف للعقل والفطرة والقرآن والسنة وجميع ما جاءت به الرسل.

 

ص -98-   فصل: المذهب السادس: أنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم معهم بمنزلة أرقائهم ومماليكهم في الدنيا
وهذا مذهب سلمان.
واحتج هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبدالرحمن القارىء عن أبي حازم المدني عن يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"سألت ربي اللاهين"1" من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم فهم خدم أهل الجنة" يعني الصبيان.
قال الدارقطني: ورواه عبدالعزيز الماجشون عن ابن المنكدر عن يزيد الرقاشي عن أنس. فهذان طريقان وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان عن عبدالرحمن بن إسحاق عن الزهري عن أنس.
قال ابن قتيبة: اللاهون من لهيت عن الشيء إذا غفلت عنه وليس هو من "لهوت"2.
وهذا الحديث ضعيف فإن يزيد الرقاشي واه، وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف وأما فضيل بن سليمان فينظر فيه.
وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا سعد بن مسعود ثنا الحجاج بن نصير حدثنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في أولاد المشركين قال:
"خدم أهل الجنة".
حدثنا عيسى بن مساور ثنا الوليد بن مسلم عن عبدالرحمن بن حسان الكناني أخبرنا محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم". وهذا طريق رابع لحديث أنس.
فينظر في عبدالرحمن بن حسان هذا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي الغافلين وهم الأطفال.
2 فهو فعل يائي لا واوي فهو من لهى يلهى لالها يلهو.

 

ص -99-   وقال محمد بن نصر: ثنا أبو كامل ثنا أبو عوانة عن قتادة عن أبي مراوح عن سلمان قال: "أطفال المشركين خدم أهل الجنة".
حدثنا عمرو بن زرارة ثنا إسماعيل عن سعيد عن قتادة عن أبي مراوح قال: قال سلمان:
"ذراري المشركين خدم أهل الجنة".

فصل: المذهب السابع: أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة
فلا يفردون عنهم بحكم في الدارين فكما أنهم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة.
والفرق بين هذا المذهب وبين مذهب من يقول:
"هم في النار" أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعا. لهم حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما1 بالنار.
وصاحب القول الآخر يقول: هم في النار لكونهم ليسوا بمسلمين ولم يدخلوا النار تبعا.
وهؤلاء يحتجون بحديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم ذكره
"أنهم في النار"، وبما في الصحيحين من حديث الصعب بن جثامة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم".
ومثله حديث الأسود بن سريع وقد تقدم. واحتجوا بحديث ابن مسعود
"الوائدة والموؤودة في النار" فدخلت الوائدة النار بكفرها والموؤودة تبعا لها.
قالوا: وكما أن إتباع ذرية المؤمنين بآبائهم كان إكراما لهم وزيادة في ثوابهم وأن الإتباع إنما استحق بإيمان الآباء فكذلك إذا انتفي إيمان الآباء انتفي الإتباع الذي تحصل به النجاة ولا حجة لهم في شيء من ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي لأولادهم المتوفين في حياتهم.

 

ص -100-   أما حديث عائشة فالصحيح فيه ما تقدم ذكره وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لها بقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
وأما حديثها الآخر وهو قوله: "هم في النار" فلا يصح وقد تقدم الكلام عليه.
وأما قوله:
"هم من آبائهم" فليس فيه تعرض للعذاب وإنما فيه أنهم منهم في الحكم وأنهم إذا أصيبوا في البيات1 لم يضمنوا.
وهذا مصرح به في حديث الصعب والأسود بن سريع أنه في الجهاد.
وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال:
"هم من آبائهم" ولم يقل: هم مع آبائهم وفرق بين اللفظين. وكونهم منهم لا يقتضي أن يكونوا معهم في الآخرة بخلاف كونهم منهم فإنه يقتضي أن تثبت لهم أحكام الآباء في الدنيا من التوارث والحضانة والولاية وغير ذلك من أحكام الإيلاد.
والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والمؤمن من الكافر.
والحديث إنما دل على أنهم من آبائهم وهذا لا شك فيه أنهم يولدون منهم.
ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الإخبار بمجرد ذلك وإنما أراد أنهم "منهم في الحكم" وهو لم يقل على دين آبائهم.
فإن قيل: لو لم يكونوا على دينهم وكانوا على الحنيفية كما ذكرتم لوجب أن يصلى عليهم إذا ماتوا وأن يدفنوا في مقابر المسلمين وأن يرثهم أقاربهم المسلمون وألا يمكن أبواهم من تهويدهم وتنصيرهم إذ لايجوز تمكين الكافر من تهويد المسلم وتنصيره فدل انتفاء هذا كله على أنهم منهم في الدين وأنهم تبع لهم فيه كما أن أطفال المسلمين منهم في الدين وأنهم تبع لهم فيه.
قيل: هذا وما نقول سواء إذا لم يكن الطفل مع أبويه أو مع كافله من أقاربه عملا بمقتضى الفطرة والحنيفية التي خلقوا عليها.
وأما إذا كان الطفل بين أبويه فإن الذي خلقه على الفطرة والحنيفية أقر أبويه على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي إذا بيت المسلمون المشركين بالغارة ليلا.

 

 

 

ص -101-   تربيته وتهويده وتنصيره وذلك لضرورة بقاء نوع الكفار في الأرض إذ لو منع من ذلك مانع فالآباء يموتون والأطفال يحكم لهم بحكم الإسلام لانقطع الكفر من الأرض وكان الدين كله دين الإسلام وبطل الجهاد.
والحكمة الإلهية اقتضت أن يكون في الأرض الكفار والمسلمون والأبرار والفجار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليس في ترك الصلاة عليهم ما يوجب أن يكونوا كفارا مخلدين فالشهداء هم من أفاضل المسلمين ولا يصلى عليهم"1".
وأما انقطاع التوارث بينهم وبين أقاربهم المسلمين فلا يقتضي أيضا أن يكونوا كفارا في أحكام الآخرة فالعبد المسلم لا يرث ولا يورث.
وكثير من العلماء يورث المسلم مال المرتد إذا مات على ردته وهذا القول هو الصحيح وهو اختيار شيخنا. وهذا معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومسروق بن الأجدع وخلق من الصحابة والتابعين وإسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا.
وأما حديث ابن مسعود
"الوائدة والموؤودة في النار" فقد تقدم أن هذا الحديث إنما يدل على أن بعض الأطفال في النار ولا يدل على أن كل موؤودة في النار.
وقد تقدم جواب أبي محمد بن حزم وما فيه.
وأحسن من هذين الجوابين أن يقال: هي في النار ما لم يوجد سبب يمنع دخولها النار ففرق بين كون الوأد مانعا من دخول النار وكونه غير مانع.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الموؤودة في النار أي كونها موؤودة غير مانع لها من دخول النار بسبب يقتضي الدخول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا قياس مع الفارق إذ إننا بنص الأحاديث لانصلى على الشهيد.

 

ص -102-   فصل: المذهب الثامن: أنهم يكونون يوم القيامة ترابا
حكاه أرباب المقالات عن ثمامة بن أشرس"1" وهذا قول لعله اخترعه من تلقاء نفسه فلا يعرف عن أحد من السلف.
وكأن قائله رأى أنهم لا ثواب لهم ولا عقاب فألحقهم بالبهائم.
والأحاديث الصحاح والحسان وآثار الصحابة تكذب هذا القول وترد عليه قوله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو معن النميرى من كبار المعتزلة.

فصل: المذهب التاسع: مذهب الإمساك
وهو ترك الكلام في المسألة نفيا وإثباتا بالكلية وجعلها مما استأثر الله بعلمه وطوى معرفته عن الخلق.
قال: إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى بن آدم ثنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول:
"لا يزال أمر هذه الأمة موائما أو مقاربا حتى يتكلموا أو ينظروا في الولدان والقدر" وفي لفظ "في الأطفال والقدر".
قال يحيى بن آدم: فذكرته لابن المبارك فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ فسكت.
وقال محمد بن نصر: ثنا عمرو بن زرارة أخبرنا إسماعيل بن عليه"1" عن ابن عون قال: كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال ما كان بين قتادة وبين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إسماعيل بن إبراهيم وعلية أمة ولذا أثبتنا الألف في ابن.

 

ص -103-   حفص بن عمر في أولاد المشركين؟ قال: وتكلم ربيعة الرأي في ذلك"1" فقال: القاسم إن الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده قال: فكأنما كانت نار فأطفئت!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرف بذلك لأنه كان يحكم الرأى في كثير من مسائله. وهو أستاذ لكبار العلماء ومنهم أبو حنيفة الإمام صاحب المذهب المتبوع.

فصل: المذهب العاشر: أنهم يمتحنون في الآخرة
ويرسل إليهم الله تبارك وتعالى رسولا وإلى كل من لم تبلغه الدعوة فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار.
وهذا قول جميع أهل السنة والحديث: حكاه الأشعري عنهم في كتاب "الإبانة"1 الذي اتفق أصحابه على أنه تأليفه وذكره ابن فورك وذكره ابو القاسم ابن عساكر في تصانيفه وذكر لفظه في حكايته قول أهل السنة والحديث وطعن بذلك على من بدع الأشعري وضلله.
قال فيه: "وجملة قولنا أن نقر بالله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عنده وما روى لنا الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا" إلى أن قال: "وقولنا في الأطفال أطفال المشركين أن الله عز وجل يؤجج لهم نارا في الآخرة ثم يقول: "اقتحموها" كما جاءت الرواية بذلك".
هذا قوله في الإبانة وهو من آخر كتبه. وقال في كتاب "المقالات"2 "وإن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم كما يريد"
وهذا المذهب حكاه محمد بن نصر المروزي في كتابه في "الرد على ابن قتيبة".
واحتج له فقال: "ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب امتحانهم واختبارهم في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتاب الإبانة عن أصول الديانة.
2 كتابة مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.

 

ص -104-   الآخرة" فقال: حدثنا إسحاق أخبرنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يمتحنون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في الفترة.
أما الأصم فيقول: يا رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا.
وأما الأحمق فيقول: يا رب قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر.
وأما الهرم فيقول: يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا.
وأما الذي مات في الفترة فيقول: ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما".
حدثنا إسحاق أخبرنا معاذ بن هشام أخبرني أبي عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثل هذا الحديث غير أنه قال: في آخره: "فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها".
حدثنا أبو بكر بن زنجويه ثنا عبدالرحمن عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ثلاثة يمتحنون يوم القيامة المعتوه والذي هلك في الفترة والأصم" فذكر الحديث.
حدثنا محمد بن يحيى ثنا أبو نصر التمار ثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أربعة كلهم يوم القيامة يدلي على الله بحجة وعذر رجل هلك في الفترة ورجل أدرك الإسلام هرما ورجل أصم أبكم ورجل معتوه فيبعث الله إليهم رسولا فيقول أطيعوه فيأتيهم الرسول فيؤجج لهم نارا فيقول: اقتحموها فمن اقتحمها كانت عليه بردا وسلاما ومن لا"1" حقت عليه كلمة العذاب".
حدثنا محمد بن يحيى ثنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة والمعتوه والمولود"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي ومن لايقتحمها.

 

ص -105-   قال: "يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ثم تلا: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا} {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا.
قال: ويقول المولود رب لم أدرك العقل. قال: فترفع لهم نار فيقال لهم ردوها أو ادخلوها قال: فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول إياي عصيتم فكيف رسلي؟!
قال: محمد بن نصر ورواه أبو نعيم الملائي عن فضيل عن عطية، عن أبي سعيد "موقوفا".
حدثنا أبو بكر بن زنجويه ثنا محمد بن المبارك الصوري ثنا عمرو ابن واقد عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يؤتى بالممسوخ أو الممسوخ عقلا, والهالك في الفترة, والهالك صغيرا, فيقول الممسوخ عقلا: يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني بعقله ويقول الهالك في الفترة يا رب لو آتاني منك عهد ما كان من آتيته عهدا بأسعد بعهدك مني ويقول الهالك صغيرا يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني فيقول الرب سبحانه لئن آمركم بأمر أفتطيعونني فيقولون نعم وعزتك يا رب فيقول اذهبوا فادخلوا النار قال: لو دخلوها ما ضرتهم قال: فيخرج عليهم قوابض يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعا فيقولون خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوابض ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء.
ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ويقولون مثل قولهم.
فيقول الرب سبحانه قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم، وإلى علمي تصيرون جميعكم فتأخذهم النار".
حدثنا أحمد بن عمرو أخبرنا جرير عن ليث عن عبدالوارث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة وبالمعمر الفاني قال: كلهم يتكلم بحجته.
فيقول الرب تعالى لعنق من النار: أبرز فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي

 

ص -106-   رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم فيقول لهم: ادخلوا هذه فيقول من كتب عليهم الشقاء يا رب أنى ندخلها ومنها كنا نفر قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحمهم فيها مسرعا فيقول الرب تعالى قد عاندتموني وقد عصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار".
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن الصباح ثنا ريحان بن سعيد الناجي عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم ما كنتم تعبدون فيقولون ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك لك فيقول لهم ربهم أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعونني فيقولون نعم فيؤمرون أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها فينطلقون حتى إذا رأوها فإذا لها تغيظ وزفير فيهابونها فيرجعون إلى ربهم فيقولون يا ربنا فرقنا منها فيقول ربهم تبارك وتعالى تزعمون أنكم إن أمرتكم بأمر أطعتموني فيأخذ مواثيقهم فيقول اعمدوا إليها فادخلوها فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا إلى ربهم فقالوا ربنا فرقنا منها فيقول ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني اعمدوا إليها فادخلوها فينطلقون حتى إذا رأوها فزعوا ورجعوا فقالوا: فرقنا يا رب ولا نستطيع أن ندخلها فيقول ادخلوها داخرين".
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما".
فإن قيل: هذه الأحاديث مع ضعفها مخالفة لكتاب الله ولقواعد الشريعة فإن الآخرة ليست دار تكليف وإنما هي دار جزاء ودار التكليف هي دار الدنيا فلو كانت الآخرة دار تكليف لكان ثم دار جزاء غيرها.
قال أبو عمر في الاستذكار وقد ذكر بعض هذه الأحاديث وهذه الأحاديث كلها ليست بالقوية ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب لأن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفسا إلا وسعها؟
ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون مات كافرا أو غير كافر فإن مات كافرا

 

ص -107-   جاحدا فإن الله حرم الجنة على الكافرين فكيف يمتحنون؟ وإن كان معذورا بأنه لم يأته نذير ولا رسول فكيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب؟
والطفل ومن لا يعقل أحرى بألا يمتحن بذلك.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن أحاديث هذا الباب قد تضافرت وكثرت بحيث يشد بعضها بعضا وقد صحح الحفاظ بعضها كما صحح البيهقي وعبدالحق وغيرهما حديث الأسود بن سريع.
وحديث أبي هريرة إسناده صحيح متصل ورواية معمر له عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا لا تضره فإنا إن سلكنا طريق الفقهاء والأصوليين في الأخذ بالزيادة من الثقة فظاهر وإن سلكنا طريق الترجيح وهي طريقة المحدثين فليس من رفعه بدون من وقفه في الحفظ والإتقان.
الوجه الثاني: أن غاية ما يقدر فيه أنه موقوف على الصحابي ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي.
الوجه الثالث: أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها واختلفت مخارجها فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بها وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها.
الوجه الرابع: أنها هي الموافقة للقرآن وقواعد الشرع فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يعذب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله في الدنيا فلا بد أن يقيم حجته عليهم وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد وتسمع الدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين يدي الرب وينطق كل أحد بحجته ومعذرته فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم.
الوجه الخامس: أن القول بموجبها هو قول أهل السنة والحديث كما حكاه الأشعري عنهم في "المقالات"1 وحكى اتفاقهم عليه وإن كان قد اختار هو فيها أنهم مردودون إلى المشيئة وهذا لا ينافي القول بامتحانهم فإن ذلك هو موجب المشيئة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مفالات الإسلاميين.

 

ص -108-   الوجه السادس: أنه قد صح بذلك القول بها عن جماعة من الصحابة ولم يصح عنهم إلا هذا القول
والقول بأنهم خدم أهل الجنة صح عن سلمان وفيه حديث مرفوع قد تقدم وأحاديث الامتحان أكثر وأصح وأشهر.
الوجه السابع: قوله: "وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب".
جوابه أنه وإن أنكرها بعضهم فقد قبلها الأكثرون والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها وأعلم بالسنة والحديث.
وقد حكى فيه الأشعري اتفاق أهل السنة والحديث وقد بينا أنه مقتضى قواعد الشرع.
الوجه الثامن: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الوجه التاسع: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما في الرجل الذي هو آخر اهل الجنة دخولا إليها أن الله تعالى يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأله غير الذي يعطيه وأنه يخالفه ويسأله غيره فيقول الله له ما أعذرك وهذا العذر منه لمخالفته العهد الذي عاهده ربه عليه وهذه معصية منه.
الوجه العاشر: قد ثبت أنه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المخالفين وبينه وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعا فكيف ينكر التكليف بدخول النار اختيارا.
الوجه الحادي عشر: أنه قد ثبت امتحانهم في القبور وسؤالهم وتكليفهم الجواب وهذا تكليف بعد الموت برد الجواب.
الوجه الثاني عشر: أن امرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم وكيف يعاقبهم على غير ذنب وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يطيعونه أو يعصونه فلو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم وكانت عليهم بردا وسلاما فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره.
والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر

 

ص -109-   شاق عليه في الظاهر هل يوطن نفسه عليه أم لا فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه وإن امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه.
وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال والتسليم وتقديم محبة الله على محبة الولد فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح.
وقد ثبت أن الدجال يأتي معه بمثال الجنة والنار وهي نار في رأي العين ولكنها لا تحرق فمن دخلها لم تضره فلو أن هؤلاء يوطنون أنفسهم على دخول النار التي أمروا بدخولها طاعة لله ومحبة له وإيثارا لمرضاته وتقربا إليه بتحمل ما يؤلمهم لكان هذا الإقدام والقصد منهم لمرضاته ومحبته يقلب تلك النار بردا وسلاما كما قلب قصد الخليل التقرب إلى ربه وإيثار محبته ومرضاته وبذل نفسه وإيثاره إياه على نفسه تلك النار بأمر الله بردا وسلاما.
فليس أمره سبحانه إياهم بدخول النار عقوبة ولا تكليفا بالممتنع وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يوطنون أنفسهم على طاعته أم ينطوون على معصيته ومخالفته وقد علم سبحانه ما يقع منهم ولكنه لا يجازيهم على مجرد علمه فيهم ما لم يحصل معلومه الذي يترتب عليهم به الحجة فلا أحسن من هذا يفعله بهم وهو محض العدل والحكمة.
الوجه الثالث عشر: أن هذا مطابق لتكليفه عباده في الدنيا فإنه سبحانه لم يستفد بتكليفهم منفعة تعود إليه ولا هو محتاج إليه وإنما امتحنهم وابتلاهم ليتبين من يؤثر رضاه ومحبته ويشكره ممن يكفر به ويؤثر سخطه قد علم منهم من يفعل هذا وهذا ولكنه بالابتلاء ظهر معلومه الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وتقوم عليهم به الحجة.
وكثير من الأوامر التي أمرهم بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار فإن الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم وتعريضهم لأسرهم لهم وتعذيبهم واسترقاقهم لعله أعظم من الأمر بدخول النار.
وقد كلف الله بني إسرائيل قتل أنفسهم وأولادهم وأرواحهم وإخوانهم لما عبدوا العجل لما لهم في ذلك من المصلحة وهذا قريب من التكليف بدخول النار.

 

ص -110-   وكلف على لسان رسوله المؤمنين إذا رأوا نار الدجال أن يقعوا فيها لما لهم في ذلك من المصلحة وليست في الحقيقة نارا وإن كانت في رأي العين نارا وكذلك النار التي أمروا بدخولها في الآخرة إنما هي برد وسلام على من دخلها فلو لم يأت بذلك أثر لكان هذا هو مقتضى حكمته وعدله وموجب أسمائه وصفاته.
الوجه الرابع عشر: أن القائل قائلان قائل بأنه سبحانه يفعل بمحض المشيئة والإرادة من غير تعليل ولا غاية مطلوبة بالفعل وقائل بمراعاة الحكم والغايات المحمودة والمصالح. وعلى المذهبين فلا يمتنع الامتحان في رصات القيامة.
بل على القول الأول هو ممكن جائز لا يتوقف العلم به على أمر غير إخبار الصادق.
وعلى المذهب الثاني هو الذي لا يليق بالرب سواه ولا تقتضي أسماؤه وصفاته غيره فهو متعين.
الوجه الخامس عشر: قوله: "وليس ذلك في وسع المخلوقين".
جوابه من وجهين:
أحدهما: أنه في وسعهم وإن كان يشق عليهم وهؤلاء عباد النار يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان ولم يقولوا: "ليس في وسعنا" مع تألمهم بها غاية الألم فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم؟
الثاني: أنهم لو وطنوا أنفسهم على اتباع طاعته ومرضاته لكانت عين نعيمهم ولم تضرهم شيئا.
الوجه السادس عشر: أن أمرهم باقتحام النار المفضية بهم إلى النجاة منها بمنزلة الكي الذي يحسم الداء وبمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية وليس من باب العقوبة في شيء.
فإن الله سبحانه اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله.

 

ص -111-   فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا واختيارا ورضي حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم وسبب نجاتهم فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره وقد تيقنوا وعلموا أن فيه رضاه وصلاحهم بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا لا عقوبة.
الوجه السابع عشر: أن أمرهم باقتحام النار كأمر المؤمنين بركوب الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف ولا ريب أن ركوبه من أشق الأمور وأصعبها حتى أن الرسل لتشفق منه وكل منهم يسأل الله السلامة!
فركوب هذا الجسر الذي هو في غاية المشقة كاقتحام النار وكلاهما طريق إلى النجاة.
الوجه الثامن عشر: قوله: "ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافرا أو غير كافر فإن كان كافرا فإن الله حرم الجنة على الكافرين وإن كان معذورا بأنه لم يأته رسول فكيف يؤمر باقتحام النار؟".
جوابه من وجوه:
أحدها: أن يقال: هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان فإن الكفر هو جحود ما جاء به الرسول فشرط تحققه بلوغ الرسالة والإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر وهذا أيضا مشروط ببلوغ الرسالة ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفارا ولا مؤمنين كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين.
فإن قيل: فأنتم تحكمون لهم بأحكام الكفار في الدنيا من التوارث والولاية والمناكحة.
قيل: إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا لا في الثواب والعقاب كما تقدم بيانه.
الوجه الثاني: سلمنا أنهم كفار لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه وهو قيام الحجة عليهم فإن الله تعالى لا يعذب إلا من قامت عليه حجته.

 

ص -112-   الوجه الثالث: قوله: "وإن كان معذورا كيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب؟" فالذي قال هذا يوهم أن هذا الأمر عقوبة لهم وهذا غلط وإنما هو تكليف واختبار فإن بادروا إلى الامتثال لم تضرهم النار شيئا.
الوجه التاسع عشر: قوله: "كيف يمتحن الطفل ومن لا يعقل؟" كلام فاسد فإن الله سبحانه يوم القيامة ينشئهم عقلاء بالغين ويمتحنهم في هذه الحال ولا يقع الامتحان بهم وهم على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا.
فالسنة وأقوال الصحابة وموجب قواعد الشرع وأصوله لا ترد بمثل ذلك. والله أعلم.