أحكام أهل الذمة ط دار الكتب العلمية

 ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجباتها

ص -113-   بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجباتها
قال: عبد الله بن الإمام أحمد حدثني أبو شرحبيل الحمصي عيسى بن خالد قال: حدثني عمي أبو اليمان وأبو المغيرة قالا أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا كتب أهل الجزيرة إلى عبدالرحمن بن غنم إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين.
وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا وألا نكتم غشا للمسلمين وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا ترفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون وألا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين وألا نخرج باعوثا قال: والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر ولا شعانين"1" ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق
المسلمين وألا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا.
ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين.
وألا نمنع أحدا من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام.
وأن نلزم زينا حيثما كنا وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم"2" وأن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشعانين عيد مسيحى يقع يوم الأحد السابق لعبد الفصح يحتفل بت المسيحيون زاعمين دخول السيد المسيح عليه السلام.
2 الكنية ما بدأت بأب أو أم كأبى حنيفة وأم الخير.

 

ص -114-   نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتمنا بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم الطريق ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم أولادنا القرآن.
ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد ضمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.
فكتب بذلك عبدالرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم ألا يشتروا من سبايانا"1" شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده.
فأنفذ عبدالرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط.
قال: الخلال في كتاب أحكام أهل الملل أخبرنا عبد الله بن أحمد فذكره.
وذكر سفيان الثوري عن مسروق عن عبدالرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ولا يؤوا جاسوسا ولا يكتموا غشا للمسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه.
وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس.
ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفاولا يبيعوا الخمور وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم في شيء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السبايا: المأسورون.

 

ص -115-   من طرق المسلمين ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيا ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ولا يخرجوا شعانين ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين.
فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
وقال الربيع بن ثعلب: حدثنا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن سفيان الثوري والوليد بن نوح والسري بن مصرف يذكرون عن طلحة ابن مصرف عن مسروق عن عبدالرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا كنيسة ولا صومعة راهب"1" فذكر نحوه.
وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها.
فذكر أبو القاسم الطبري من حديث أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا عبيد بن جناد حدثنا عطاء بن مسلم الحلبي عن صالح المرادي عن عبد خير قال: رأيت عليا صلى العصر فصف له أهل نجران صفين فناوله رجل منهم كتابا فلما رآه دمعت عينه ثم رفع رأسه إليهم قال: يا أهل نجران هذا والله خطي بيدي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: يا أمير المؤمنين أعطنا ما فيه قال: ودنوت منه فقلت إن كان رادا على عمر يوما فاليوم يرد عليه فقال: لست براد على عمر شيئا صنعه إن عمر كان رشيد الأمر وإن عمر أخذ منكم خيرا مما أعطاكم ولم يجر عمر ما أخذمنكم إلى نفسه إنما جره لجماعة المسلمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن عمر رضى الله عنه كان أشد عدلا من هذا المذكور فإنه قد أعطى لأهل القدس الأمان لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم...إلخ. وكثير من الفقهاء يبحثون لهم تجديد كنائسهم.

 

ص -116-   وذكر ابن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عليا رضي الله عنه قال: لأهل نجران إن عمر كان رشيد الأمر ولن أغير شيئا صنعه عمر! وقال الشعبي: قال علي حين قدم الكوفة: ما جئت لأحل عقدة شدها عمر!
وقد تضمن كتاب عمر رضي الله عنه هذا جملا من العلم تدور على ستة فصول:
الفصل الأول: في أحكام البيع والكنائس والصوامع وما يتعلق بذلك.
الفصل الثاني: في أحكام ضيافتهم للمارة بهم وما يتعلق بها.
الفصل الثالث: فيما يتعلق بضرر المسلمين والإسلام.
الفصل الرابع: فيما يتعلق بتغيير لباسهم وتمييزهم عن المسلمين في المركب واللباس وغيره.
الفصل الخامس: فيما يتعلق بإظهار المنكر من أفعالهم وأقوالهم مما نهوا عنه.
الفصل السادس: في أمر معاملتهم للمسلمين بالشركة ونحوها.

الفصل الاول: في أحكام البيع "1" والكنائس
قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}. وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}. !
قال الزجاج: "تأويل هذا لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في كل شريعة نبي المكان الذي يصلى فيه.
فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كان يصلى فيها في شريعته وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن محمد المساجد".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البيع: معابد النصارى.

 

ص -117-   وقال الأزهري: أخبر الله سبحانه أنه لولا دفعه بعض الناس عن الفساد ببعضهم لهدمت متعبدات كل فريق من أهل دينه وطاعته في كل زمان
 فبدأ بذكر الصوامع والبيع لأن صلوات من تقدم من أنبياء بني إسرائيل وأصحابهم كانت فيها قبل نزول القرآن.
وأخرت المساجد لأنها حدثت بعدهم.
وقال ابن زيد: "الصلوات صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدو".
قال الأخفش: "وعلى هذا القول الصلوات لا تهدم ولكن تحل محل فعل آخر كأنه قال: تركت صلوات".
وقال أبو عبيدة "إنما يعني مواضع الصلوات".
وقال الحسن: "يدفع عن مصليات أهل الذمة بالمؤمنين".
وعلى هذا القول لا يحتاج إلى التقدير الذي قدره أصحاب القول الأول وهذاظاهر اللفظ ولا إشكال فيه بوجه فإن الآية دلت على الواقع لم تدل على كون هذه الأمكنة غير المساجد محبوبة مرضية له.
لكنه أخبر أنه لولا دفعه الناس بعضهم ببعض لهدمت هذه الأمكنة التي كانت محبوبة له قبل الإسلام وأقر منها ما أقر بعده وإن كانت مسخوطة له كما أقر أهل الذمة وإن كان يبغضهم ويمقتهم ويدفع عنهم بالمسلمين وإن كان يبغضها وهو سبحانه يدفع عن متعبداتهم التي أقروا عليها شرعا وقدرا فهو يحب
الدفع عنها وإن كان يبغضها كما يحب الدفع عن أربابها وإن كان يبغضهم.
وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وهو مذهب ابن عباس في الآية.
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبيد الله هو ابن موسى عن إسرائيل عن السدي عمن حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما:
{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ}. قال: الصوامع التي يكون فيها الرهبان والبيع مساجد اليهود والصلوات كنائس النصارى والمساجد مساجد المسلمين.
قال ابن أبي حاتم: وأخبرنا الأشج ثنا حفص بن غياث عن داود عن أبي

 

ص -118-   العالية قال: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} قال: صوامع وإن كان يشرك به وفي لفظ إن الله يحب أن يذكر ولو من كافر!
وفي تفسير شيبان عن قتادة الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين
وقد تضمن الشرط ذكر الدير والقلاية والكنيسة والصومعة.
فأما الدير فللنصارى خاصة يبنونه للرهبان خارج البلد يجتمعون فيه للرهبانية والتفرد عن الناس.
وأما القلاية فيبنيها رهبانهم مرتفعة كالمنارة.
والفرق بينها وبين الدير أن الدير يجتمعون فيه والقلاية لا تكون إلا لواحد ينفرد بنفسه ولا يكون لها باب بل فيها طاقة يتناول منها طعامه وشرابه وما يحتاج إليه.
وأما الصومعة فهي كالقلاية تكون للراهب وحده .
قال الأزهري: الصومعة من البناء سميت صومعة لتلطف أعلاها. يقال: صمع الثريدة إذا رفع رأسها وحدده وتسمى الثريدة إذا كانت كذلك صومعة ومن هذا يقال: رجل أصمع القلب إذا كان حاد الفطنة.
ومنهم من فرق بين الصومعة والقلاية بأن القلاية تكون منقطعة في فلاة من الأرض والصومعة تكون على الطرق.
وأما البيع فجمع بيعة وأهل اللغة والتفسيرعلى أنها متعبد النصارى إلا ما حكيناه عن ابن عباس أنه قال: "البيع مساجد اليهود".
وأما الكنائس فجمع كنيسة وهي لأهل الكتابين ولليهود خاصة الفهر بضم الفاء والهاء واحدها فهر وهو بيت المدراس الذي يتدارسون فيه العلم.
وفي الحديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على اليهود بيت مدراسهم".
وفيه أيضا قول أنس: "كأنهم اليهود حين خرجوا من فهرهم". وحكم هذه الأمكنة كلها حكم الكنيسة وينبغي التنبيه عليها.

 

ص -119-   ذكر حكم الأمصار التي وجدت فيها هذه الأماكن وما يجوز إبقاؤه وما تجب إزالته ومحو رسمه
البلادالتي تفرق فيها أهل الذمة والعهد ثلاثة أقسام:
أحدها: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام.
الثاني: بلاد أنشئت قبل الإسلام فافتتحها المسلمون عنوة وملكوا أرضها وساكنيها.
الثالث: بلاد أنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صلحا.
فأما القسم الأول فهو مثل البصرة والكوفة وواسط وبغداد. أما البصرة والكوفة فأنشئتا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال يزيد بن هارون: أخبرنا زياد بن أبي زياد حدثنا عبدالرحمن بن أبي بكرة عن نافع بن الحارث قال: كان أمير المؤمنين قد هم أن يتخذ للمسلمين مصرا وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحر وفتحوا الأهواز وكابل وطبرستان فلما افتتحوها كتبوا إليه: "إنا وجدنا بطبرستان مكانا لا بأس بت". فكتب إليهم: "إن بيني وبينكم دجلة ولا حاجة لي في شيء بيني وبينكم فيه دجلة أن نتخذه مصرا".
قال: فقدم عليه رجل من بني سدوس يقال: له ثابت فقال: له يا أمير المؤمنين إني مررت بمكان دون دجلة به بادية يقال: لها الخريبة ويقال: للأرض البصرة وبينها وبين دجلة فرسخ يه خليج يجري فيه الماء وأجم"1" قصب فأعجب ذلك عمر رضي الله عنه فدعا عتبة بن غزوان فبعثه في أربعين رجلا فيهم نافع بن الحارث وزياد أخوه لأمه.
قال: سيف بن عمر مصرت البصرة سنة ست عشرة واختطت قبل الكوفة بثمانية أشهر. وقال قتادة: أول من مصر البصرة رجل من بني شيبان يسمى المثنى ابن حارثة وإنه كتب إلى عمر رضي الله عنه "إني نزلت أرضا بصرة" فكتب إليه: "إذا أتاك كتابي هذا فاثبت حتى يأتيك أمري" فبعث عتبة بن غزوان معلما وأميرا فغزا الأبلة وقال: حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصر البصرة والكوفة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأجمة: الشجر الكثير الملتلف.

 

ص -120-   وأما واسط فبناها الحجاج بن يوسف سنة ست وثمانين من الهجرة في السنة التي مات فيها عبدالملك بن مروان.
وأما بغداد فقال: سليمان بن المجالد وزير أبي جعفر خرجت مع أبي جعفر يوما قبل أن نبتني مدينة بغداد ونحن نرتاد موضعا نبني فيه مدينة يكون فيها عسكره قال: فبصرنا بقس شيخ كبير ومعه جماعة من النصارى فقال: اذهب إلى هذا القس نسأله فمضى إليه فوقف عليه أبو جعفر فسلم عليه ثم قال: يا شيخ أبلغك أنه يبني ههنا مدينة قال: نعم ولست بصاحبها قال: وما علمك قال: القس وما اسمك قال: اسمي عبد الله قال: فلست بصاحبها قال: فما اسم صاحبها قال: مقلاص قال: فتبسم أبو جعفر وصغى إلي فقال: أنا والله مقلاص كان أبي يسميني وأنا صغير مقلاصا فاختط موضع مدينة أبي جعفر.
وتحول أبو جعفر من الهاشمية إلى بغداد وأمر ببنائها ثم رجع إلى الكوفة في سنة أربع وأربعين ومئة وفرغ من بنائها ونزلها مع جنده وسماها مدينة السلام سنة خمس وأربعين ومئة وفرغ من بناء الرصافة سنة أربع وخمسين ومئة.
وقال سليمان بن مجالد: "الذي تولى الوقوف على خط بغداد الحجاج بن أرطاة وجماعة من أهل الكوفة".
وكذلك سامرا بناها المتوكل، وكذلك المهدية التي بالمغرب وغيرها من الأمصار التي مصرها المسلمون.
فهذه البلاد صافية للإمام إن أراد الإمام أن يقر أهل الذمة فيها ببذل الجزية جاز فلو أقرهم الإمام على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمرا أو خنزيرا أو ناقوسا لم يجز وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسدا وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع.
قال: الإمام أحمد حدثنا حماد بن خالد الخياط أخبرنا الليث بن سعد عن توبة بن النمر الحضرمي قاضي مصر عمن أخبره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة".
وقال أبو عبيد: "حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد" فذكره بإسناده ومتنه، وقد روي موقوفا على عمر بغير هذا الإسناد.

 

ص -121-   قال علي بن عبدالعزيز: حدثنا أبو عبيد القاسم حدثني أبو الأسود عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء".
وقال الإمام أحمد حدثنا معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن حنش"1" عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا فقال: أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا.
وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله عز وجل على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم.
قال عبد الله بن احمد: وسمعت أبي يقول ليس لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس إلا في مكان لهم صالح وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين.
وقال المروذي: قال لي أبو عبد الله سألوني عن الديارات في المسائل التي وردت من قبل الخليفة فقلت أي شيء تذهب أنت؟ فقال: "ما كان من صلح يقر وما كان أحدث بعد يهدم".
وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن بيع النصارى ما كان في السواد وهل أقرها عمر فقال: السواد فتح بالسيف فلا يكون فيه بيعة ولا يضرب فيه ناقوس ولا يتخذ فيه الخنازير ولا يشرب الخمر ولا يرفعون أصواتهم في دورهم إلا الحيرة وبانقيا ودير صلوبا فهؤلاء أهل صلح صولحوا ولم يحاربوا فما كان منها لم يخرب وما كن غير ذلك فكله محدث يهدم وقد كان أمر بهدمها هارون.
وكل مصر مصرته العرب فليس لهم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا. وما كان من صلح صولحوا عليه فهو
على صلحهم وعهدهم وكل شيء فتح عنوة فلا يحدثوا فيه شيئا من هذا. وما كان من صلح أقروا على صلحهم".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسين بن قيس أبو علي الواسطى.

 

ص -122-   واحتج فيه بحديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال أبو الحارث: سئل أبو عبد الله عن البيع والكنائس التي بناها أهل الذمة وما أحدثوا فيها مما لم يكن قال: تهدم وليس لهم أن يحدثوا شيئا من ذلك فيما مصره المسلمون يمنعون من ذلك إلا مما صولحوا عليه.
قيل لأبي عبد الله أيش"1" الحجة في أن يمنع أهل الذمة أن يبنوا بيعة أو كنيسة إذا كانت الأرض ملكهم وهم يؤدون الجزية وقد منعنا من ظلمهم وأذاهم قال: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما مصر مصرته العرب".
وقال أحمد: حدثنا عبدالرزاق أخبرني عمي قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عروة يعني ابن محمد أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين.
قال: وشهدت عروة بن محمد يهدمها بصنعاء.
قال عبدالرزاق: وأخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول: "إن من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة" ذكره أحمد عن عبدالرزاق.
وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى أصول الشرع وقواعده: فإن إحداث هذه الأمور إحداث شعار الكفر وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق.
ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق فكيف إحداث موضع الكفر والشرك؟!
فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصرها المسلمون؟
قيل: هي على نوعين:
أحدهما: أن تحدث الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر فهذه تزال اتفاقا.
الثاني: أن تكون موجودة بفلاة من الأرض ثم يمصر المسلمون حولها المصر فهذه لا تزال والله أعلم.
وورد على شيخنا"2" استفتاء في أمر الكنائس صورته: ما يقول السادة العلماء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أي شئ مثل حوقل إذا قال لاحول ولاقوة إلابالله وراجع أبواب النحت في كتب اللغة المتخصصة.
2 هو ابن تيمية رحمه الله.

 

ص -123-   وفقهم الله في إقليم توافق أهل الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوة من غير صلح ولا أمان فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك وهل يكون الملك شاملا لما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك أو يختص الملك بما عدا متعبدات أهل الشرك فإن ملك جميع ما فيه فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك من النصارى واليهود بذلك الإقليم أو غيره الذمة على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من البيع والكنائس والديورة ونحوها متعبدا لهم وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟ فإن لم يجز لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه فهل يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يتصرف فيه الإمام تصرفه في الغنائم أم لا وإن جاز للإمام أن يعقد الذمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها فهل يملك من عقدت له الذمة بهذا العقد رقاب البيع والكنائس والديورة ونحوها ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذا العقد أم لا لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع وإذا لم يملكوا ذلك وبقوا على الانتفاع بذلك وانتقض عهدهم بسبب يقتضي انتقاضه إما بموت من وقع عقد الذمة معه ولم يعقبوا أو أعقبوا.
فإن قلنا: إن أولادهم يستأنف معهم عقد الذمة كما نص عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصباغ وصححه العراقيون واختاره ابن أبي عصرون في المرشد فهل لإمام الوقت أن يقول لا أعقد لكم الذمة إلا بشرط ألا تدخلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد فتكون كالأموال التي جهل مستحقوها وأيس من معرفتها أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة.
فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس والديورة التي تحقق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين ولا يجب عليه ذلك عند التردد في أن ذلك كان موجودا عند الفتح أو حدث بعد الفتح.
أو يجب عليه مطلقا فيما تحقق أنه كان موجودا قبل الفتح أو شك فيه؟
وإذا لم يجب في حالة الشك فهل يكون ما وقع الشك في أنه كان قبل الفتح وجهل الحال فيمن أحدثه لمن هو؟ لبيت المال أم لا؟
وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عقدت معهم الذمة وإن سلفوا ومن غيرهم

 

ص -124-   لا يحتاجون أن تعقد لهم الذمة بل يجري عليهم حكم من سلف إذا تحقق أنه من أولادهم يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم أم يحتاج إلى تجديد عقد وذمة؟
وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تجديد عقد عند البلوغ فهل تحتاج كنائسهم وبيعهم إليه أم لا؟.
فأجاب"1": "الحمد لله ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فتحت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكعامة أرض الشام وبعض مدنها وكسواد العراق إلا مواضع قليلة فتحت صلحا وكأرض مصر فإن هذه الأقال: يم فتحت عنوة على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد روي في أرض مصر أنها فتحت صلحا.
وروي أنها فتحت عنوة وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء المتأهلون للروايات الصحيحة في هذا الباب فإنها فتحت أولا صلحا ثم نقض أهلها العهد فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمده فأمده بجيش كثير فيهم الزبير بن العوام ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوة"2".
ولهذا روي من وجوه كثيرة أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلال قسم الشام فشاور الصحابة في ذلك فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئا للمسلمين ينتفع بفائدتها أول المسلمين وآخرهم ثم وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفه ومات بعضهم فاستقر الأمر على ذلك.
فما فتحه المسلمون عنوة فقد ملكهم الله إياه كما ملكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار.
ويدخل في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد.
وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها عن ملك المسلمين: فإن ما يقال فيها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد ابن تيمية رحمه الله في الرد علي الفتوي.
2 انظر الموضوع في فتوح البلدان للبلاذرى يصدر قريبا - من تحقيقنا.

 

ص -125-   من الأقوال ويفعل فيها من العبادات إما أن يكون مبدلا أو محدثا لم يشرعه الله قط أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعه.
وقد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
ولهذا لما استولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم كبني قينقاع والنضير وقريظة كانت معابدهم مما استولى عليه المسلمون ودخلت في قوله سبحانه:
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}.
وفي قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}.
لكن وإن ملك المسلمون ذلك فحكم الملك متبوع كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبر وأم الولد والعبد وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين يؤسرون وفي النساء والصبيان الذين يسبون كذلك يختلف حكمه في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول .
وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تقاس بسائر الأموال المشتركة
ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أقر أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم وكانت المزارع ملكا للمسلمين عاملهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته واسترجع المسلمون ما كانوا أقروهم فيه من المساكن والمعابد .

فصل: هل يجوز للإمام عقد الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم
وأما أنه هل يجوز للإمام عقد الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم فهذا فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة منهم من يقول لا يجوز تركها لهم لأنه إخراج ملك المسلمين عنها وإقرار الكفر بلا عهد قديم .

 

ص -126-   ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فيها وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم .
فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار.
منهم من يوجب إبقاءه كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية .
ومنهم من يخير الإمام فيه بين الأمرين بحسب المصلحة وهذا قول الأكثرين وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه وعليه دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قسم نصف خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين.
ومن قال: "يجوز إقرارها بأيديهم" فقوله أوجه وأظهر فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رقاب المعابد كما يملك الرجل ماله كما أنهم لا يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي كما لم يملك أهل خيبر ما أقرهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المساكن والمعابد.
ومجرد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكا كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت المال ينتفع بغلته أو سلم إليه مسجد أو رباط ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا له بل ما أقروا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعها منهم إذا اقتضت.
المصلحة ذلك كما انتزعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها.
وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبدالملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارج دمشق فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد وأقر ذلك عمر بن عبدالعزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم.
فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه وكانت من كنائس الصلح لم يكن لهم أخذها قهرا فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها وكان ذلك الإقرار عوضا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذها عنوة"1"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا هو العدل الذي أمر بت الإسلام.

 

ص -127-   فصل: تؤخذ كنائس الصلح إذا نقضوا عهدهم
ومتى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس العنوة.
كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لقريظة والنضير لما نقضوا العهد فإن ناقض العهد أسوأ حالا من المحارب الأصلي كما أن ناقض الإيمان بالردة أسوأ حالا من الكافر الأصلي.
ولذلك لو انقرض أهل مصر من الأمصار ولم يبق من دخل في عهدهم فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئا.
فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ وكان لمن يعقد لهم الذمة أن يقرهم في المعابد.
وله ألا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء.
فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين ولم يختلفوا في جواز هدمه وإنما اختلفوا في جواز بقائه وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئا للمسلمين.
أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قسم العقار فظاهر.
وأما على قول من يوجب قسمه فلأن عين المستحق غير معروف كسائر الأموال التي لا يعرف لها مالك معين.
وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقدير لا حقيقة له فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجه له ولا أعلم به قائلا فلا يفرع عليه وإنما الخلاف في الجواز.
نعم قد يقال: في الأبناء إذا لم نقل بدخولهم في عهد آبائهم لأن لهم شبهة الأمان والعهد بخلاف الناقضين فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له فإن صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عرف أنه حقه وما وقع الشك فيه على هذا التقدير فهو لبيت المال.
وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقض عهد فهم على الذمة فإن الصبي

 

ص -128-   يتبع أباه في الذمة وأهل داره من أهل الذمة كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين لأن الصبي لما لم يكن مستقلا بنفسه جعل تابعا لغيره في الإيمان والأمان.
وعلى هذا جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقد آخر.
وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديما قبل فتح المسلمين أما ما أحدث بعد ذلك فإنه يجب إزالته ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس كما شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه "ألا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا لا قلاية امتثالا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تكون قبلتان ببلد واحد" رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، ولما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا كنيسة في الإسلام".
وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار ومذهب جمهورهم في القرى وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ويعمل به مثل عمر بن عبدالعزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى.
فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين فهدمها بصنعاء وغيرها. وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: "من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة".
وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزم أهل الكتاب بشروط عمر استفتى علماء وقته في هدم الكنائس والبيع فأجابوه فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد فأجابه بهدم كنائس سواد العراق وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين.
فمما ذكره ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أيما مصر مصرته العرب يعني المسلمين فليس للعجم يعني أهل الذمة أن يبنوا فيه كنيسة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فإن للعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم".
وملخص الجواب: أن كل كنيسة في الأمصار التي مصرها المسلمون بأرض

 

ص -129-   العنوة فإنه يجب إزالتها إما بالهدم أو غيره بحيث لا يبقى لهم معبد في مصر مصره المسلمون بأرض العنوة وسواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح أو محدثة لأن القديم منها يجوز أخذه ويجب عند المفسدة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجتمع قبلتان بأرض فلا يجوز للمسلمين أن يمكنوا أن يكون بمدائن الإسلام قبلتان إلا لضرورة كالعهد القديم لا سيما وهذه الكنائس التي بهذه الأمصار محدثة يظهر حدوثها بدلائل متعددة والمحدث يهدم باتفاق الأئمة.
وأما الكنائس التي بالصعيد وبر الشام ونحوها من أرض العنوة فما كان منها محدثا وجب هدمه وإذا اشتبه المحدث بالقديم وجب هدمهما جميعا لأن هدم المحدث واجب وهدم القديم جائز وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وما كان منها قديما فإنه يجوز هدمه ويجوز إقراره بأيديهم.
فينظر الإمام في المصلحة فإن كانوا قد قلوا والكنائس كثيرة أخذ منهم أكثرها وكذلك ما كان على المسلمين فيه مضرة فإنه يؤخذ أيضا وما احتاج المسلمون إلى أخذه أخذ أيضا وأما إذا كانوا كثيرين في قرية ولهم كنيسة قديمة لا حاجة إلى أخذها ولا مصلحة فيه فالذي ينبغي تركها كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لهم من الكنائس ما كانوا محتاجين إليه ثم أخذ منهم.
وأما ما كان لهم بصلح قبل الفتح مثل ما في داخل مدينة دمشق ونحوها فلا يجوز أخذه ما داموا موفين بالعهد إلا بمعاوضة أو طيب أنفسهم كما فعل المسلمون بجامع دمشق لما بنوه.
فإذا عرف أن الكنائس ثلاثة أقسام: منها ما لا يجوز هدمه ومنها ما يجب هدمه كالتي في القاهرة مصر والمحدثات كلها ومنها ما يفعل المسلمون فيه الأصلح.
فما كان قديما على ما بيناه فالواجب على ولي الأمر فعل ما أمره الله به وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم ومنعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام.
لا يلتفت في ذلك إلى مرجف أو مخذل يقول إن لنا عندهم مساجد وأسرى نخاف عليهم فإن الله تعالى يقول:
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
وإذا كان نوروز في مملكة التتار قد هدم عامة الكنائس على رغم أنف أعداء الله

 

ص -130-   فحزب الله المنصور وجنده الموعود بالنصر إلى قيام الساعة أولى بذلك وأحق فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة ونحن نرجو أن يحقق الله وعد رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها"1 ويكون من أجرى الله ذلك على يديه وأعان عليه من أهل القرآن والحديث داخلين في هذا الحديث النبوي فإن الله بهم يقيم دينه كما قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تعصب ابن القيم هنا كان له سبب إذ عندما غزا المغول مدينة دمشق قد قام النصارى بأفعال ما كان لها مبرر من إراقة الخمر على مساجد المسلمين وعلى ملابسهم. إذ كل فعل له رد فعل.

فصل: الضرب الثاني من البلاد الأمصار التى أنشاها المشركون ومصروها ثم فتحها المسلمون عنوة وقهرا بالسيف
فهذه لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس.
وأما ما كان فيها من ذلك قبل الفتح فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه فيه قولان في مذهب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيره :أحدهما يجب إزالته وتحرم تبقيته لأن البلاد قد صارت ملكا للمسلمين فلم يجز أن يقر فيها أمكنة شعار الكفر كالبلاد التي مصرها المسلمون ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تصلح قبلتان ببلد".
وكما لا يجوز إبقاء الأمكنة التي هي شعار الفسوق كالخمارات والمواخير ولأن أمكنة البيع والكنائس قد صارت ملكا للمسلمين فتمكين الكفار من إقامة شعار الكفر فيها كبيعهم وإجارتهم إياها لذلك ولأن الله تعالى أمر بالجهاد حتى يكون الدين كله له وتمكينهم من إظهار شعار الكفر في تلك المواطن جعل الدين له ولغيره وهذا القول هو الصحيح.

 

ص -131-           والقول الثاني: يجوز بناؤها لقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم"
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر عنوة وأقرهم على معابدهم فيها ولم يهدمها ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئا من الكنائس التي بتا.
ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم قطعا أنها ما أحدثت بل كانت موجودة قبل الفتح.
وقد كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عماله أن "لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار".
ولا يناقض هذا ما حكاه الإمام أحمد أنه أمر بهدم الكنائس فإنها التي أحدثت في بلاد الإسلام ولأن الإجماع قد حصل على ذلك فإنها موجودة في بلاد المسلمين من غير نكير.
وفصل الخطاب أن يقال: إن الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين فإن كان أخذها منهم أو إزالتها هو المصلحة لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقلة أهل الذمة فله أخذها أو إزالتها بحسب المصلحة وإن كان تركها أصلح لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها تركها.
وهذا الترك تمكين لهم من الانتفاع بها لا تمليك لهم رقابها فإنها قد صارت ملكا للمسلمين.
فكيف يجوز أن يجعلها ملكا للكفار؟ وإنما هو امتناع بحسب المصلحة فللإمام انتزاعها متى رأى المصلحة في ذلك.
ويدل عليه أن عمر بن الخطاب والصحابة معه أجلوا أهل خيبر من دورهم ومعابدهم بعد أن أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ولو كان ذلك الإقرار تمليكا لم يجز إخراجهم عن ملكهم إلا برضى أو معاوضة.
ولهذا لما أراد المسلمون أخذ كنائس العنوة التي خارج دمشق في زمن الوليد

ص -132-   ابن عبدالملك صالحهم النصارى على تركها وتعويضهم عنها بالكنيسة التي زيدت في الجامع.
ولو كانوا قد ملكوا تلك الكنائس بالإقرار لقالوا للمسلمين: كيف تأخذون أملاكنا قهرا وظلما؟ بل أذعنوا إلى المعاوضة لما علموا أن للمسلمين أخذ تلك الكنائس منهم وأنها غير ملكهم كالأرض التي هي بتا.
فبهذا التفصيل تجتمع الأدلة وهو اختيار شيخنا وعليه يدل فعل الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أئمة الهدى وعمر بن عبدالعزيز هدم منها ما رأى المصلحة في هدمه وأقر ما رأى المصلحة في إقراره. وقد أفتى الإمام أحمد المتوكل بهدم كنائس السواد وهي أرض العنوة.

فصل: الضرب الثالث: ما فتح صلحا
وهذا نوعان: أحدهما: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عليها أو يصالحهم على مال يبذلونه وهي الهدنة فلا يمنعون من إحداث ما يختارونه فيها لأن الدار لهم كما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران ولم يشترط عيهم ألا يحدثوا كنيسة ولا ديرا.
النوع الثاني: أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا.
فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من تبقية وإحداث وعمارة لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم.
والواجب عند القدرة أن يصالحوا على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه ويشترط عليهم الشروط المكتوبة في كتاب عبدالرحمن بن غنم: "ألا يحدثوا بيعة ولا صومعة راهب ولا قلاية".
فلو وقع الصلح مطلقا من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه لأنها صارت كالشرع فيحمل مطلق صلح الأئمة بعده عليها.

 

ص -133-   ذكر نصوص الإمام أحمد وغيره من الأئمة في هذا الباب
قال الخلال في كتاب أحكام أهل الملل باب الحكم فيما أحدثته النصارى مما لم يصالحوا عليه.
أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: كان المتوكل إذا حدث من أمر النصارى ما حدث كتب إلى القضاة ببغداد يسألهم أبي حسان الزيادي وغيره فكتبوا إليه واختلفوا فلما قرئ عليه قال: أكتب بما أجاب به هؤلاء إلى أحمد بن حنبل ليكتب إلي بما يرى في ذلك.
قال عبد الله: ولم يكن في أولئك الذين كتبوا أحد يحتج بالحديث إلا أبا حسان الزيادي واحتج بأحاديث عن الواقدي فلما قرئ على أبي عرفه وقال: هذا جواب أبي حسان وقال: هذه أحاديث ضعاف.
فأجابه أبي واحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال: ثنا معمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن حنش عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا فقال: "أيما مصر مصرته العرب..." فذكر الحديث.
قال: وسمعت أبي يقول: ليس لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس إلا فيما كان لهم صلحا وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين على حديث ابن عباس: "أيما مصر مصره المسلمون".
أخبرنا حمزة بن القاسم وعبد الله بن حنبل وعصمة قالوا حدثنا حنبل"1" قال أبو عبد الله وإذا كانت الكنائس صلحا تركوا على ما صولحوا عليه فأما العنوة فلا وليس لهم أن يحدثوا بيعة ولا كنيسة لم تكن ولا يضربوا ناقوسا ولا يرفعوا صليبا ولا يظهروا خنزيرا ولا يرفعوا نارا ولا شيئا مما يجوز لهم فعله في دينهم يمنعون من ذلك ولا يتركون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن عم الإمام أحمد بن حنبل.

 

ص -134-   قلت: للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك؟
قال: "نعم على الإمام منعهم من ذلك السلطان يمنعهم من من الإحداث إذا كانت بلادهم فتحت عنوة وأما الصلح فلهم ما صولحوا عليه يوفي لهم" وقال: "الإسلام يعلو ولا يعلى ولا يظهرون خمرا".
قال الخلال: كتب إلي يوسف بن عبد الله الإسكافي ثنا الحسن بن علي بن الحسن أنه سأل أبا عبد الله عن البيعة والكنيسة تحدث قال: "يرفع أمرها إلى السلطان"1.
وقال محمد بن الحسن: "لا ينبغي أن يترك في أرض العرب كنيسة ولا بيعة ولا يباع فيها خمر وخنزير ومصرا كان أو قرية".
وقال الشافعي في المختصر: ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعا لصلواتهم ولا يظهروا فيها حمل خمر ولا إدخال خنزير ولا يحدثوا بناء يطولون به على بناء المسلمين وأن يفرقوا بين هيئاتهم في المركب والملبس وبين هيئات المسلمين وأن يعقدوا الزنار على أوساطهم ولا يدخلوا مسجدا ولا يسقوا مسلما خمرا ولا يطعموه خنزيرا.
وإن كانوا في قرية يملكونها منفردين لم يعرض لهم في خمرهم وخنازيرهم ورفع بنيانهم.
وإن كان لهم بمصر المسلمين كنيسة أو بناء طويل كبناء المسلمين لم يكن للمسلمين هدم ذلك وترك على ما وجد ومنعوا من إحداث مثله.
وهذا إذا كان المصر للمسلمين أحيوه أو فتحوه عنوة وشرط هذا على أهل الذمة.
وإن كانوا فتحوا بلادهم على صلح منهم على تركهم وإياه خلوا وإياه.
ولا يجوز أن يصالحوا على أن ينزلوا بلاد الإسلام يحدثون فيها ذلك.
قال: صاحب النهاية في شرحه البلاد قسمان: بلدة ابتناها المسلمون فلا يمكن أهل الذمة من إحداث كنيسة فيها ولا بيت نار فإن فعلوا نقض عليهم.
فإن كان البلد للكفار وجرى فيه حكم للمسلمين فهذا قسمان:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذ أن له التصرف.

 

ص -135-   فإن فتحه المسلمون عنوه وملكوا رقاب الأبنية والعراص تعين نقض ما فيها من البيع والكنائس وإذا كنا ننقض ما نصادف من الكنائس والبيع فلا يخفي أنا نمنعهم من استحداث مثلها.
ولو رأى الإمام أن يبقي كنيسة ويقر في البلد طائفة من أهل الكتاب فالذي قطع به الأصحاب منع ذلك. وذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يجوز للإمام أن يقرهم ويبقي الكنيسة عليهم.
والثاني: لا يجوز ذلك وهو الأصح الذي قطع به المراوزة.
هذا إذا فتحنا البلد عنوة فإن فتحناها صلحا فهذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يقع الفتح على أن رقاب الأراضي للمسلمين ويقرون فيها بمال يؤدونه لسكناها سوى الجزية فإن استثنوا في الصلح البيع والكنائس لم ينقض عليهم وإن أطلقوا وما استثنوا بيعهم وكنائسهم ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنها تنقض عليهم لأن المسلمين ملكوا رقاب الأبنية والبيع والكنائس تغنم كما تغنم الدور.
والثاني: لا نملكها لأنا شرطنا تقريرهم وقد لا يتمكنون من المقام إلا بتبقية مجتمع لهم فيما يرونه عبادة وحقيقة الخلاف ترجع إلى أن اللفظ في مطلق الصلح هل يتناول البيع والكنائس مع القرائن التي ذكرناها؟
القسم الثاني: أن يفتحها المسلمون على أن تكون رقاب الأرض لهم فإذا وقع الصلح كذلك لم يتعرض للبيع والكنائس ولو أرادوا إحداث كنائس فالمذهب أنهم لا يمنعون فإنهم منصرفون في أملاكهم.
وأبعد بعض أصحابنا فمنعهم من استحداث ما لم يكن فإنه إحداث بيعة في بلد هي تحت حكم الإسلام.

 

ص -136-   فصل: رأي بعض أصحاب مالك في هذا الموضوع
وأما أصحاب مالك فقال في الجواهر: إن كانوا في بلدة بناها المسلمون فلا يمكنون من بناء كنيسة وكذلك لو ملكنا رقبة بلدة من بلادهم قهرا وليس للإمام أن يقر فيها كنيسة بل يجب نقض كنائسهم بتا أما إذا فتحت صلحا على أن يسكنوها بخراج ورقبة الأبنية للمسلمين وشرطوا إبقاء كنيسة جاز.
وأما إن افتتحت على أن تكون رقبة البلد لهم وعليهم خراج ولا تنقض كنائسهم فذلك لهم ثم يمنعون من رمها.
قال ابن الماجشون: ويمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رثت إلا أن يكون ذلك شرطا في عقدهم فيوفي لهم ويمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة.
ونقل الشيخ أبو عمر أنهم لا يمنعون من إصلاح ما وهى منها وإنما منعوا من إصلاح كنيسة فيما بين المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يرفع فيكم يهودية ولا نصرانية".
فلو صولحوا على أن يتخذوا الكنائس إن شاؤوا فقال ابن الماجشون: لا يجوز هذا الشرط ويمنعون منها إلا في بلدهم الذي لا يسكنه المسلمون معهم فلهم ذلك وإن لم يشترطوه.
قال: وهذا في أهل الصلح.
فأما أهل العنوة فلا يترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسة إلا هدمت ثم لا يمكنون من إحداث كنيسة بعد وإن كانوا معتزلين عن بلاد الإسلام.

فصل: صلح أهل نجران
وقد روى أبو داود في سننه عن أسباط عن السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة" الحديث وفيه: "ولا يهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم مالم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا".
فأبقى كنائسهم عليهم لما كانت البلد لهم وجعل الأمان فيها تبعا لأمانهم على أنفسهم.
فإذا زال شرط الأمان على أنفسهم بإحداث الحدث وأكل الربا زال عن رقاب كنائسهم كما زال عن رقابهم.

 

ص -137-   فصل: في ذكر بناء ما استهدم منها ورم شعثه وذكر الخلاف فيه
قال صاحب المغني فيه: كل موضع قلنا: "لايجوز إقراره" لم يجز هدمه. وهذا ليس على إطلاقه فإن كنائس العنوة يجوز للإمام إقرارها للمصلحة ويجوز للإمام هدمها للمصلحة.
وبه أفتى الإمام أحمد المتوكل في هدم كنائس العنوة كما تقدم.
وكما طلب المسلمون أخذ كنائس العنوة منهم في زمن الوليد حتى صالحوهم على الكنيسة التي زيدت في جامع دمشق وكانت مقرة بأيديهم من زمن عمر رضي الله عنه إلى زمن الوليد.
ولو وجب إبقاؤها وامتنع هدمها لما أقر المسلمون الوليد ولغيره الخليفة الراشد لما ولي عمر بن عبدالعزيز.
فلا تلازم بين جواز الإبقاء وتحريم الهدم.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد في بناء المستهدم ورم الشعث فعنه المنع فيهما ونصر هذه الرواية القاضي في خلافه وعنه الجواز فيهما وعنه يجوز رم شعثها دون بنائها.
قال الخلال في "الجامع": باب البيعة تهدم بأسرها أو يهدم بعضها: أخبرنا

 

ص -138-   عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي هل ترى لأهل الذمة أن يحدثوا الكنائس بأرض العرب وهل ترى لهم أن يزيدوا في كنائسهم التي صولحوا عليها؟
فقال: "لا يحدثوا في مصر مصرته العرب كنيسة ولا بيعة ولا يضربوا فيها بناقوس ولهم ما صولحوا عليه فإن كان في عهدهم أن يزيدوا في الكنائس فلهم وإلا فلا وما انهدم فليس لهم أن يبنوه".
أخبرني أحمد بن الهيثم أن محمد بن موسى بن مشيش حدثهم في هذه المسألة أنه سأل أبا عبد الله فقال: ليس لهم أن يحدثوا إلا ما صولحوا عليه إلا أن يبنوا ما انهدم مما كان لهم قديما.
قال الخلال: وإنما معنى قول أبي عبد الله ههنا أنهم يبنون ما انهدم يعني مرمة يرمون وأما إن انهدمت كلها بأسرها فعنده أنه لا يجوز إعادتها.
وقد بين أيضا ذلك حنبل عنه: أخبرني عصمة بن عصام قال: حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله قال: كل ما كان مما فتح المسلمون عنوة فليس لأهل الذمة أن يحدثوا فيه كنيسة ولا بيعة فإن كان في المدينة لهم شيء فأرادوا أن يرموه فلا يحدثوا فيه شيئا إلا أن يكون قائما.
فإن انهدمت الكنيسة أو البيعة بأسرها لم يبدلوا غيرها وما كان من صلح كان لهم ما صولحوا عليه وشرط لهم لا يغير لهم شرط شرط لهم قال الخلال وهكذا هو في شرطهم أنه إن انهدم شيء رموه وإن انهدمت بأسرها لم يعيدوها.
قال القاضي في تعليقته: مسألة في البيع والكنائس التي يجوز إقرارها على ما هي عليه إذا انهدم منها شيء أو تشعث فأرادوا عمارته فليس لهم ذلك في إحدى الروايات نقلها عبد الله قال.
ورأيت بخط أبي حفص البرمكي في رسالة أحمد إلى المتوكل في هدم البيع رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه وذكر فيها كلاما طويلا إلى أن قال: وما انهدم فلهم أن يبنوه.
قال: وهذا يقتضي اختلاف اللفظ عن عبد الله.
ويغلب في ظني أن ما ذكره أبو بكر أضبط يعني الخلال فإنه قال: أخبرني عبد الله

 

ص -139-   قال: قال أبي: وما انهدم فليس لهم أن يبنوه ثم ذكر النصوص التي ذكرناها في رواية حنبل وابن مشيش. واختار الخلال منع البناء وجواز رم الشعث.
واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فقال أبو سعيد الإصطخري: يمنعون من ذلك قال: حتى إن انهدم حائط البيعة منعوا من إعادته ورده وإن انثلم منعوا من سده وإن أرادوا أن يطينوا وجه الحائط الذي يلينا منعوا منه وإن طينوا الحائط الذي يلي البيعة كان لهم ذلك وكذلك إن بنوا دون هذا الحائط الذي يلي البيعة حتى يهدم ذلك لم يجز لأنهم يمنعون من الإحداث وهذه الإعادة إحداث.
وأبى ذلك سائر أصحاب الشافعي وقالوا: نحن قد أقررناهم على البيع فلو منعناهم من رقع ما استرم منه وإعادة ما انهدم كان بمنزلة القلع والإزالة إذ لا فرق بين أن يزيلها وبين أن يقرها عليهم ثم يمنعهم من عمارتها.
واختلفت المالكية على قولين أيضا فقال ابن الماجشون: يمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رثت إلا أن يكون ذلك في شرط عقدهم.
ونقل أبو عمر أنهم لا يمنعون من إصلاح ما وهى منها:
واحتج القاضي على المنع بحديث رواه عن الخطيب عن ابن رزقويه ثنا محمد بن عمرو ثنا محمد بن غالب بن حرب ثنا بكر بن محمد القرشي ثنا سعيد بن عبدالجبار عن سعيد بن سنان عن أبو الزاهرية عن كثير بن مرة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها". وهذا لو صح لكان كالنص في المسألة ولكن لا يثبت هذا الإسناد.
ولكن في شروط عمر عليهم "ولا يجدد ما خرب من كنائسنا". قالوا: ولأنه بناء لا يملك إحداثه فلا يملك تجديده كالبناء في أرض الغير بغير إذنه.
فإن قيل: الباني في ملك الغير بغير إذنه لا يملك الاستدامة فلا يملك التجديد وهؤلاء يملكون الاستدامة فملكوا التجديد.

 

ص -140-   قيل: لا يلزم هذا فإنه لو أعاره حائطا لوضع خشبة عليه جاز له استدامة ذلك فلو انهدم الحائط فبناه صاحبه لم يملك المستعير تجديد المنفعة.
وكذلك لو ملك الذمي دارا عالية البنيان جاز له أن يستديم ذلك فلو انهدمت فأراد بناءها لم يكن له أن يبنيها على ما كانت عليه بل يساوي بها بنيان جيرانه من المسلمين أو يحطها عنه، وأيضا لو فتح الإمام بلدا في بيعة خراب لم يجز له بناؤها بعد الفتح كذلك ههنا.
وأيضا فإنه إذا انهدم جميعها زال الاسم عنها ولهذا لو حلف لا دخلت دارا فانهدمت جميعها ودخل براحها لم يحنث لزوال الاسم.
فلو قلنا: يجوز بناؤها إذا انهدمت كان فيه إحداث بيعة في دار الإسلام وهذا لا يجوز كما لو لم يكن هناك بيعة أصلا.
قال المجوزون وهم أصحاب أبي حنيفة والشافعي وكثير من أصحاب مالك وبعض أصحاب أحمد لما أقررناهم عليها تضمن إقرارنا لهم جواز رمها وإصلاحها وتجديد ما خرب منها وإلا بطلت رأسا لأن البناء لا يبقى أبدا فلو لم يجز تمكينهم من ذلك لم يجز إقرارها"1".
قال المانعون: نحن نقرهم فيها مدة بقائها كما نقر المستأمن مدة أمانه.
وسر المسألة أنا أقررناهم اتباعا لا تمليكا فإنا ملكنا رقبتها بالفتح وليست ملكا لهم.
واختار صاحب المغني جواز رم الشعث ومنع بنائها إذا استهدمت.
قال: لأن في كتاب أهل الجزيرة لعياض بن غنم: "ولا نجدد ما خرب من كنائسنا".
وروى كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها"
قال: ولأن هذا بناء كنيسة في الإسلام فلم يجز كما لو ابتدئ بناؤها وفارق رم ما شعث منها فإنه إبقاء واستدامة وهذا إحداث.
قال: وقد حمل الخلال قول أحمد لهم أن يبنوا ما انهدم منها أي إذا انهدم بعضها ومنعه من بناء ما انهدم على ما إذا انهدمت كلها فجمع بين الروايتين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو القول العدل الخالى من التعصب.

 

ص -141-   فصل: القول في إظهار العمارة
وفي النهاية للجويني: قال الأصحاب: إذا استرمت لم يمنعوا من مرمتها.
ثم اختلفوا بعد ذلك فقال: قائلون ينبغي أن يعمروها بحيث لا يظهر للمسلمون ما يفعلون فإن إظهار العمارة قريب من الاستحداث.
وقال آخرون: لهم إظهار العمارة وهو الأصح.
ثم من أوجب عليهم الكتمان قال: لو تزلزل جدار الكنيسة أو انتقض منعوا من الإعادة فإن الإعادة ظاهرة وإذا لم يكن من هدمه بد فالوجه أن يبنوا جدارا ثالثا إذا ارتج الثاني وهكذا إلى أن تبنى ساحة الكنيسة.
قال: وهذا إفراط لا حاصل له فإنا فرعنا على الصحيح وجوزنا العمارة إعلانا، فلو انهدمت الكنيسة فهل يجوز إعادتها كما كانت فيه وجهان مشهوران:
أحدهما: المنع لأنه استحداث كنيسة.
والثاني: الجواز لأنها وإن هدمت فالعرصة كنيسة والتحويط عليها هو الرأي حتى يستتروا بكفرهم.
فإن منعنا الإعادة فلا كلام وإن جوزناها فهل لهم أن يزيدوا في خطها على وجهين أصحها المنع لأن الزائد كنيسة جديدة وإن كانت متصلة بالأولى وإن أبقيناهم على كنيستهم فالمذهب أن نمنعهم من ضرب النواقيس فيها فإنه بمثابة إظهار الخمور والخنازير.
وأبعد بعض الأصحاب في تجويز تمكينهم من ضرب الناقوس قال: لأنه من أحكام الكنيسة قال: وهذا غلط لا يعتد به.

فصل: القول في نقل الكنائس
هذا حكم إنشاء الكنائس وإعادتها فلو أرادوا نقلها من مكان إلى مكان وإخلاء المكان الأول منها فصرح أصحاب الشافعي بالمنع.
قالوا: لأنه إنشاء لكنيسة في بلاد الإسلام.
والذي يتوجه أن يقال: إن منعنا إعادة الكنيسة إذا انهدمت منعنا نقلها بطريق الأولى فإنها إذا لم تعد إلى مكانها الذي كانت عليه فكيف تنشأ في غيره؟
وإن جوزنا إعادتها فكان نقلها من ذلك المكان أصلح للمسلمين لكونهم ينقلونها إلى موضع خفي لا يجاوره مسلم ونحو ذلك جائز بلا ريب فإن هذا مصلحة ظاهرة للإسلام والمسلمين فلا معنى للتوقف فيه.
وقد ناقلهم المسلمون من الكنيسة التي كانت جوار جامع دمشق إلى بقاء الكنائس التي هي خارج البلد لكونه أصلح للمسلمين.
وأما إن كان النقل لمجرد منفعتهم وليس للمسلمين فيه منفعة فهذا لا يجوز لأنه إشغال رقبة أرض الإسلام بجعلها دار كفر فهو كما لو أرادوا جعلها خمارة أو بيت فسق وأولى بالمنع بخلاف ما إذا جعلنا مكان
الأولى مسجدا يذكر الله فيه وتقام فيه الصلوات ومكناهم من نقل الكنيسة إلى مكان لا يتأتى فيه ذلك فهذا ظاهر المصلحة للإسلام وأهله وبالله التوفيق.
فلو انتقل الكفار عن محلتهم وأخلوها إلى محلة أخرى فأرادوا نقل الكنيسة إلى تلك المحلة وإعطاء القديمة للمسلمين فهو على هذا الحكم.

 

ص -142-   فصل: حكم أبنيتهم ودورهم
هذا حكم بيعهم وكنائسهم فأما حكم أبنيتهم ودورهم فإن كانوا في محلة منفردة عن المسلمين لا يجاورهم فيها مسلم تركوا وما يبنونه كيف أرادوا وإن جاوروا

 

ص -143-   المسلمين لم يمكنوا من مطاولتهم في البناء سواء كان الجار ملاصقا أو غير ملاصق بحيث يطلق عليه اسم الجار قرب أو بعد.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يحدثون بناء يطولون به بناء المسلمين".
وهذا المنع لحق الإسلام لا لحق الجار حتى لو رضي الجار بذلك لم يكن لرضاه أثر في الجواز.
وليس هذا المنع معللا بإشرافه على المسلم بحيث لو لم يكن له سبيل على الإشراف جاز بل لأن الإسلام يعلو ولا يعلى.
والذي تقتضيه أصول المذهب وقواعد الشرع أنهم يمنعون من سكنى الدار العالية على المسلمين بإجارة أو عارية أو بيع أو تمليك بغير عوض.
فإن المانعين من تعلية البناء جعلوا ذلك من حقوق الإسلام واحتجوا بالحديث وهو قوله:
"الإسلام يعلو ولا يعلى".
واحتجوا بأن في ذلك إعلاء رتبة لهم على المسلمين وأهل الذمة ممنوعون من ذلك.
قالوا: ولهذا يمنعون من صدور المجالس ويلجؤون إلى أضيق الطرق فإذا منعوا من صدور المجالس والجلوس فيها عارض فكيف يمكنون من السكنى اللازمة فوق رؤوس المسلمين.
وإذا منعوا من وسط الطريق المشترك والمرور فيه عارض فأزيلوا منه إلى أضيقه وأسفله كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا لقيتموهم في طريق اضطروهم إلى أضيقه" فكيف يمكنون أن يعلوا في السكنى الدائمة رقاب المسلمين؟ هذا مما تدفعه أصول الشرع وقواعده.
وقول بعض أصحاب أحمد والشافعي "إنهم إذا ملكوا دارا عالية من مسلم لم يجب نقضها" إن أرادوا به أنه لا يمتنع ثبوت ملكهم عليها فصحيح وإن أرادوا به أنهم لا يمنعون من سكناها فوق رقاب المسلمين فمردود. وقد صرح به الشيخ في المغني وصرح به اصحاب الشافعي.

 

ص -144-   ولكن الذي نص عليه في الإملاء أنه إذا ملكها بشراء أو هبة أو غير ذلك أقر عليها ولم يصرح بجواز سكناها وهو في غاية الإشكال.
وتعليلهم واحتجاجهم بما حكيناه عنهم يدل على منع السكنى وهذا هو الصواب فإن المفسدة في العلو ليست في نفس البناء وإنما هي في السكنى.
ومعلوم أنه إذا بناها المسلم وباعهم إياها فقد أراحهم من كلفة البناء ومشقته وغرامته ومكنهم من سكناها وعلوهم على رقاب المسلمين هنيئا مريئا فيا لله العجب أي مفسدة زالت عن الإسلام وأهله بذلك؟! بحيث إنهم إذا تعبوا وقاسوا الكلفة والمشقة في التعلية منعوا من ذلك فإذا تعب فيه المسلم وصلي بحره جازت لهم السكنى وزالت مفسدة التعلية!!
ولا يخفي على العاقل المنصف فساد ذلك.
ثم كيف يستقيم القول به على أصول من يحرم الحيل فيمنعه من تعلية البناء.
فإذا باع الدار لمسلم ثم اشتراها منه جاز له سكناها وزالت بذلك مفسدة التعلية؟! ولأنهم إذا منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وزيهم ومراكبهم وشعورهم وكناهم.
فكيف يمكنون من مساواتهم بل من العلو عليهم في دورهم ومساكنهم؟
وطرد قول من جوز سكنى الدار العالية إذا ملكوها من مسلم أن يجوز لباس الثياب التي منعوا منها إذا ملكوها من مسلم وإنما يمنعون مما نسجوه واستنسجوه وهذا لا معنى له.
والعجب أنهم احتجوا لأحد الوجهين في منع المساواة بأنهم ممنوعون من مساواة المسلمين في الزي واللباس والركوب ثم يجوزون علوهم فوق رؤوس المسلمين بشراء الدور العالية منهم!!
وقد صرح المانعون بأن المنع من التعلية المذكورة من حقوق الدين لا من حقوق الجيران.
وهذا فرع تلقاه أصحاب الشافعي عن نصه في الإملاء بإقرارهم على ملك الدار العالية وتلقاه أصحاب أحمد عنهم.

 

ص -145-   ولم أجد لأحمد بعد طول التفتيش نصا بجواز تملك الدار العالية فضلا عن سكناها ونصوصه وأصول مذهبه تأبى ذلك والله أعلم.
فروع تتعلق بالمسألة
أحدها:
لو كان للذمي دار فجاء مسلم إلى جانبه فبنى دارا أنزل منها لم يلزم الذمي بحط بنائه ولا مساواته فإن حق الذمي أسبق.
وثانيها: لو جاورهم المسلمون بأبنية أقصر من أبنيتهم ثم انهدمت دورهم فأرادوا أن يعلوها على بناء المسلمين فهل لهم ذلك اعتبارا بما كانت عليه قبل الانهدام أم ليس لهم ذلك اعتبارا بالحال؟
يحتمل وجهين:
أظهرهما: المنع لأن حق الذمي في الدار ما دامت قائمة فإذا انهدمت فإعادتها إنشاء جديد يمنع فيه من التعلية على المسلمين.
وثالثها: لو ملكوا دارا عالية من مسلم وأقررناهم على ملكها فانهدمت لم يكن لهم إعادتها كما كانت هذا هو الصواب.
وحكى أبو عبد الله بن حمدان وجها أن لهم إعادتها عالية اعتبارا بما كانت عليه وهو شاذ بعيد لا يعول عليه فإن ذلك إنشاء وبناء مستأنف فلا يملك فيه التعلية كما لو اشترى دمنة من مسلم كان له فيها دارا عالية.
ورابعها: لو وجدنا دار ذمي عالية ودار مسلم أنزل منها وشككنا في السابق منهما فقال: بعض الأصحاب لم يعرض له فيها.
وعندي أنه لا يقر لأن التعلية مفسدة وقد شككنا في شرط الجواز.
وهذا تفريع على ما ذكره الأصحاب من جواز سكنى الدار العالية إذا ملكوها من مسلم وعلى ما نصرناه فالمنع ظاهر.
وخامسها: لو كان لأهل الذمة جار من ضعفة المسلمين داره في غاية الانحطاط فظاهر ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي أنهم كلهم يكلفون حط بنائهم عن داره أو مساواته.
واستشكله الجويني في النهاية ولا وجه لاستشكاله والله أعلم.

 

ص -146-   فصل: في تملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام
وقد اختلف العلماء في الذمي هل يملك بالإحياء كما يملك المسلم فنص أحمد في رواية حرب وابن هانئ ويعقوب بن بختان ومحمد بن أبي حرب على أنه يملك به كالمسلم.
قال حرب: قلت: إن أحيا رجل من أهل الذمة مواتا ماذا عليه قال: أما أنا فأقول ليس عليه شيء وأهل المدينة يقولون فيه قولا حسنا يقولون لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر.
وأهل البصرة يقولون قولا عجيبا يقولون يضاعف عليه العشر!
قال: وسألته مرة أخرى قلت إن أحيا رجل من أهل الذمة مواتا؟ قال: هو عشر وقال مرة ليس عليه شيء وبهذا قالت الحنيفة وأكثر المالكية.
وذهب بعض أصحاب أحمد إلى المنع: منهم أبو عبد الله بن حامد أخذا من امتناع شفعته على المسلم بجامع التمليك لما يخص المسلمين.
وفرق الأصحاب بينهما بأن الشفعة تتضمن انتزاع ملك المسلم منه قهرا والإحياء لا ينزع به ملك أحد. والقول بالمنع مذهب الشافعية وأهل الظاهر وأبي الحسن بن القصار من المالكية وهو مذهب عبد الله بن المبارك إلا أن يأذن له الإمام.
واحتج هؤلاء بأمور منها قوله صلى الله عليه وسلم:
"موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم" فأضاف عموم الموات إلى المسلمين فلم يبق فيه شيء للكفار.
ومنها: أن ذلك من حقوق الدار والدار للمسلمين.
ومنها: أن إضافة الأرض إلى المسلم إما إضافة ملك وإما إضافة تخصيص وعلى التقديرين فتملك الكافر بالإحياء ممتنع وبأن المسلم إذا لم يملك بالإحياء في أرض الكفار المصالح عليها فأحرى ألا يملك الذمي في أرض الإسلام.

 

ص -147-   واحتج الآخرون بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" وبأن الإحياء من أسباب الملك فملك به الذمي كسائر أسبابه.
قالوا وأما الحديث الذي ذكرتموه موتان الأرض لله ورسوله فلا يعرف في شيء من كتب الحديث وإنما لفظه "عادي الأرض لله ورسوله ثم هو لكم" مع أنه مرسل .
قالوا: ولو ثبت هذا اللفظ لم يمنع تملك الذمي بالإحياء كما يتملك بالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد ما هو للمسلمين فإن المسلمين إذا ملكوا الأرض ملكوها بما فيها من المعادن والمنافع ولا يمتنع أن يتملك الذمي بعض ذلك. وإقرار الإمام لهم على ذلك جار مجرى إذنه لهم فيه ولأن فيه مصلحة للمسلمين بعمارة الأرض وتهيئتها للانتفاع بها وكثرة فعلها ولا نقص على المسلمين في ذلك.
وأما كون المسلم لا يملكها بالإحياء في دار العهد فهذا فيه وجهان. وأما كون الحربي والمستأمن لا يملكان بالإحياء فقد قال أبو الخطاب إنهما كالذمي في ذلك ولو سلم أنهما ليسا كالذمي فالفرق بينهما ظاهر.
فإنا لا نقر الحربي المستأمن في دار الإسلام كما نقر الذمي.

فصل: قولهم: "ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل"
هذا صريح في أنهم لم يملكوا رقابها كما يملكون دورهم إذ لو ملكوا رقابها لم يكن للمسلمين أن ينزلوها إلا برضاهم كدورهم وإنما متعوها إمتاعا وإذا شاء المسلمون نزلوها منهم فإنها ملك المسلمين.
فإن المسلمين لما ملكوا الأرض لم يستبقوا الكنائس والبيع على ملك الكفار بل دخلت في ملكهم كسائر أجزاء الأرض فإذا نزلها المارة بالليل أو النهار فقد نزلوا في نفس ملكهم.
فإن قيل: فما فائدة الشرط إذا كان الأمر كذلك؟

 

ص -148-   قيل: فائدته أنهم لا يتوهمون بإقرارهم فيها أنها كسائر دورهم ومنازلهم التي لا يجوز دخولها إلا بإذنهم.
فما يدل على ذلك أنها لو كانت ملكا لهم لم يجز للمسلمين الصلاة فيها إلا بإذنهم فإن الصلاة في ملك الغير بغير إذنه ورضاه صلاة في المكان المغصوب وهي حرام وفي صحتها نزاع معروف وقد صلى الصحابة في كنائسهم وبيعهم.
واختلفت الرواية عن أحمد في كراهة الصلاة في البيع والكنائس.
فعنه ثلاث روايات: الكراهة وعدمها والتفريق بين المصورة فتكره الصلاة فيها وغير المصورة فلا تكره وهي ظاهر المذهب وهذا منقول عن عمر وأبي موسى.
ومن كره الصلاة فيها احتج بأنها من مواطن الكفر والشرك فهي أولى بالكراهة من الحمام والمقبرة والمزبلة وبأنها من أماكن الغضب وبأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أرض بابل وقال:
"إنها ملعونة" فعلل منع الصلاة فيها باللعنة.
وهذه كنائسهم هي مواضع اللعنة والسخطة والغضب ينزل عليهم فيها كما قال: بعض الصحابة اجتنبوا اليهود والنصارى في أعيادهم فإن السخطة تتنزل عليهم وبأنها من بيوت أعداء الله ولا يتعبد الله في بيوت أعدائه.
ومن لم يكرهها قال: قد صلى فيها الصحابة وهي طاهرة وهي ملك من أملاك المسلمين ولا يضر المصلي شرك المشرك فيها فذلك شرك فيها والمسلم يوحد فله غنمه وعلى المشرك غرمه.
ومن فرق بين الصورة وغيرها فذلك لأن الصور تقابل المصلي وتواجهه وهي كالأصنام إلا أنها غير مجسدة فهي شعار الكفر ومأوى الشيطان.
وقد كره الفقهاء الصلاة على البسط والحصر المصورة كما صرح به أصحاب أبي حنيفة وأحمد وهي تمتهن وتداس بالأرجل فكيف إذا كانت في الحيطان والسقوف؟

 

ص -149-   الفصل الثاني: فيما يتعلق بإظهار المنكر من أقوالهم وأفعالهم مما نهوا عنه
فصل: قولهم: "ولانؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا"

الجاسوس عين المشركين وأعداء المسلمين وقد شرط على أهل الذمة ألا يؤوه في كنائسهم ومنازلهم"1" فإن فعلوا انتقض عهدهم وحلت دماؤهم وأموالهم.
وهل يحتاج ثبوت ذلك إلى اشتراط إمام العصر له على أهل الذمة أو يكفي شرط عمر رضي الله عنه على قولين معروفين للفقهاء:
أحدهما: أنه لا بد من شرط الإمام له إذ أن شرط عمر رضي الله عنه كان على أهل الذمة في ذلك الوقت ولم يكن شرطا شاملا للإمامة إلى يوم القيامة.
وكلام الشافعي يدل على هذا: فإنه قال في رواية المزني والربيع: "يشترط عليهم يعني الإمام أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله أو دين الله بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها بنكاح أو فتن مسلما
عن دينه أو قطع عليه الطريق أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله".
والقول الثاني: لا يشترط ذلك بل يكفي شرط عمر رضي الله عنه وهو مستمر عليهم أبدا قرنا بعد قرن.
وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل من أقوال أئمة الإسلام ولو كان تجديد اشتراط الإمام شرطا في ذلك لما جاز إقرار أهل الذمة اليوم ومناكحتهم ولا أخذ الجزية منهم.
وفي اتفاق الأمة دلالة على ذلك قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر اكتفاء بشرط عمر رضي الله عنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ونقس القول ينطبق على المسلم ألايأوى جاسوسا بل المفروض تبليغ أولى الأمر عنه.

 

ص -150-   فصل: قولهم: "ولا نكتم غشا للمسلمين"
هذا أعم من إيواء الجاسوس فمتى علموا أمرا فيه غش للإسلام والمسلمين وكتموه انتقض عهدهم وبذلك أفتينا ولي الأمر بانتقاض عهد النصارى لما سعوا في إحراق الجامع والمنارة وسوق السلاح ففعل بعضهم وعلم بعضهم وكتم ذلك ولم يطلع عليه ولي الأمر"1".
وبهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقضي العهد فإن بني قينقاع وبني النضير وقريظة لما حاربوه ونقضوا عهده عم الجميع بحكم الناقضين للعهد وإن كان النقض قد وقع من بعضهم ورضي الباقون وكتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطلعوه عليه.
وكذلك فعل بأهل مكة لما نقض بعضهم عهده وكتم الباقون وسكتوا ولم يطلعوه على ذلك أجرى الجميع على حكم النقض وغزاهم في عقر دارهم. وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره وبالله التوفيق.
وقد اتفق المسلمون على أن حكم الردة والمباشر في الجهاد كذا وكذلك اتفق الجمهور على أن حكمهم سواء في قطع الطريق وإنما خالف فيه الشافعي وحده.
وكذلك حكم البغاة يستوي فيه ردؤهم مباشرتهم وهذا هو محض الفقه والقياس فإن المباشرين إنما وصلوا إلى الفعل بقوة ردئهم فهم مشتركون في السبب هذا بالفعل وهذا بالإعانة وهذا بالحفظ والحراسة ولا يجب الاتفاق والاشتراك في عين كل سبب سبب والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا التشديد في هذه الفتوى لما فعله الطرف الاخر من الإفساد في الأرض والإ فلأهل الذمة عقد لا ينبغي نقضة وكل ماحصل من التشديد إنما كان في عصور الضعف وإلاففى أوقات كثيرة كان لأهل الذمة من الحقوق ما لم يتمتع بت كثير من المسلمين

 

ص -151-   فصل : قولهم: "ولا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا"
لما كان الضرب بالناقوس هو شعار الكفر وعلمه الظاهر اشترط عليهم تركه وقد تقدم قول ابن عباس رضي الله عنهما أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ذكره أحمد وتقدم نصه في رواية ابنه عبد الله ليس لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصر مصرته المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس إلا فيما كان لهم صلحا وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين وقال: في رواية أبي طالب السواد فتح بالسيف فلا تكون فيه بيعة ولا يضرب فيه بناقوس ولا تتخذ فيه الخنازير ولا يشرب فيه الخمر ولا يرفعون أصواتهم في دورهم وقال: في رواية حنبل وليس لهم أن يحدثوا بيعة ولا كنيسة لم تكن ولا يضربوا ناقوسا ولا يرفعوا صليبا ولا يظهروا خنزيرا ولا يرفعوا نارا ولا شيئا مما يجوز لهم وعلى الإمام أن يمنعهم من ذلك السلطان يمنعهم من الإحداث إذا كانت بلادهم فتحت عنوة وأما الصلح فلهم ما صولحوا عليه يوفي لهم به وقال: الإسلام يعلو ولا يعلى ولا يظهرون خمرا.
وقال الخلال في الجامع: أخبرني محمد بن جعفر بن سفيان، حدثنا عبيد بن جناد حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو قال: كتب عمر رضي الله عنه إن أحق الأصوات أن تخفض أصوات اليهود والنصارى في كنائسهم وقال الفريابي حدثنا أبو الأسود قال: كتب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى أن لا يضرب بالناقوس خارجا من الكنيسة.
وقال أبو الشيخ في كتاب شروط عمر حدثنا طاهر بن عبد الله بن محمد ثنا أبو زرعة قال: سمعت علي بن أبي طالب الرازي يقول سمعت مالك بن أنس يقول إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن عز وجل فتنزل الملائكة فتأخذ بأقطار الأرض فلا تزال تقول قل هو أحد حتى يسكن غضب الرب عز وجل.

 

ص -152-   وقال إسحاق بن منصور: قلت لأبي عبد الله للنصارى أن يظهروا الصليب أو يضربوا بالناقوس؟ قال: "ليس لهم أن يظهروا شيئا لم يكن في صلحهم".
وقال في رواية إبراهيم بن هانئ: "ولا يتركوا أن يجتمعوا في كل أحد ولا يظهروا خمرا ولا ناقوسا".
وقال في رواية يعقوب بن بختان: "ولا يتركوا أن يجتمعوا في كل أحد ولا يظهروا خمرا ولا ناقوسا في كل مدينة بناها المسلمون" قيل له يضربون الخيام في الطريق يوم الأحد قال: لا إلا أن تكون مدينة صولحوا
عليها فلهم ما صولحوا عليه.
وقال في النهاية: وإذا أبقيناهم على كنيستهم فالمذهب أنا نمنعهم من صوت النواقيس فإن هذا بمثابة إظهار الخمور والخنازير.
وأبعد بعض الأصحاب في تجويز تمكينهم من صوت النواقيس فإنها من أحكام الكنيسة وقال: وهذا غلط لا يعتد به انتهى.
وأما قولهم في كتاب الشروط: ولا نضرب بالناقوس إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا فهذا وجوده كعدمه إذ الناقوس يعلق في أعلى الكنيسة كالمنارة ويضرب به فيسمع صوته من بعد فإذا اشترط عليهم أن يكون الضرب به خفيا في جوف الكنيسة لم يسمع له صوت فلا يعتد به فلذلك عطلوه بالكلية إذ لم يحصل به مقصودهم وكان هذا الاشتراط داعيا لهم إلى تركه.
وقد أبطل الله سبحانه بالأذان ناقوس النصارى وبوق اليهود فإنه دعوة إلى الله سبحانه وتوحيده وعبوديته ورفع الصوت به إعلاء لكلمة الإسلام وإظهارا لدعوة الحق وإخمادا لدعوة الكفر.
فعوض عباده المؤمنين بالأذان عن الناقوس والطنبور كما عوضهم دعاء الاستخارة عن الاستسقام بالأزلام. وعوضهم بالقرآن وسماعه عن قرآن الشيطان وسماعه وهو الغناء والمعازف.
وعوضهم بالمغالبة بالخيل والإبل والبهائم عن الغلابات الباطلة كالنرد والشطرنج والقمار.

 

ص -153-   وعوضهم بيوم الجمعة عن السبت والأحد.
وعوضهم الجهاد عن السياحة والرهبانية.
وعوضهم بالنكاح عن السفاح.
وعوضهم بأنواع المكاسب الحلال عن الربا.
وعوضهم بإباحة الطيبات من المطاعم والمشارب عن الخبيث منها.
وعوضهم بعيد الفطر والنحر عن أعياد المشركين.
وعوضهم بالمساجد عن الكنائس والبيع والمشاهد.
وعوضهم بالاعتكاف والصيام وقيام الليل عن رياضات أهل الباطل من الجوع والسهر والخلوة التي يعطل فيها دين الله.
وعوضهم بما سنه لهم على لسان رسوله عن كل بدعة وضلالة!

فصل: قولهم: "ولا نظهر عليها صليبا"
لما كان الصليب من شعائر الكفر الظاهرة كانوا ممنوعين من إظهاره قال: أحمد في رواية حنبل ولا يرفعوا صليبا ولا يظهروا خنزيرا ولا يرفعوا نارا ولا يظهروا خمرا وعلى الإمام منعهم من ذلك.
وقال عبدالرزاق: حدثنا معمر عن عمرو بن ميمون بن مهران قال: كتب عمر بن عبدالعزيز أن يمنع النصارى في الشام أن يضربوا ناقوسا ولا يرفعوا صليبهم فوق كنائسهم فإن قدر على من فعل من ذلك شيئا بعد التقدم إليه فإن سلبه لمن وجده.
وإظهار الصليب بمنزلة إظهار الأصنام فإنه معبود النصارى كما أن الأصنام معبود أربابها ومن أجل هذا يسمون عباد الصليب. ولا يمكنون من التصليب على أبواب كنائسهم وظواهر حيطانها ولا يتعرض لهم إذا نقشوا ذلك داخلها.

 

ص -154-   فصل: قولهم: "ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا مما يحضره المسلمون"
لما كان ذلك من شعار الكفر منعوا من إظهاره.
قال أبو الشيخ: حدثنا عبد الله بن عبدالملك الطويل حدثنا عبد الله بن عبدالوهاب حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية عن ضمرة قال: كتب عمر بن عبدالعزيز أن "امنعوا النصارى من رفع أصواتهم في كنائسهم فإنها أبغض الأصوات إلى الله عز وجل وأولاها أن تخفض".
وقال أحمد في رواية أبي طالب: "ولا يرفعوا أصواتهم في دورهم".
وقال الشافعي: "واشترط عليهم ألا يسمعوا المسلمين شركهم ولا يسمعونهم ضرب ناقوس فإن فعلوا ذلك عزروا" انتهى.
فرفع الأصوات التي منعوا منها ما كان راجعا إلى دينهم وإظهار شعاره كأصواتهم في بحوثهم ومذاكرتهم ونحو ذلك.

فصل: قولهم: "ولا نخرج صليبا ولا كتابا في أسواق المسلمين"
فيه زيادة على عدم إظهارهم ذلك على كنائسهم وفي صلواتهم فهم ممنوعون من إظهاره في أسواق المسلمين وإن لم يرفعوا أصواتهم به.
ولا يمنعون من إخراجه في كنائسهم وفي منازلهم بل الممنوع منه فيها رفع أصواتهم ووضع الصليب على أبواب الكنائس.

 

ص -155-   فصل: قولهم: "وألا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين"
فأما الباعوث فقد فسره الإمام أحمد في رواية ابنه صالح فقال: يخرجون كما نخرج في الفطر والأضحى.
ومن هنا قال أحمد في رواية ابن هانئ: ولا يتركوا أن يجتمعوا في كل أحد ولا يظهروا لهم خمرا ولا ناقوسا
فإن اجتماعهم المذكور هو غاية الباعوث ونهايته فإنهم ينبعثون إليه من كل ناحية.
وليس مراد أبي عبد الله منع اجتماعهم في الكنيسة إذا تسللوا إليها لواذا.
وإنما مراده إظهار اجتماعهم كما يظهر المسلمون ذلك يوم عيدهم.
ولهذا قال في رواية يعقوب بن بختان وقد سئل هل يضربون الخيام في الطريق يوم الأحد قال: لا إلا أن تكون مدينة صولحوا عليها فلهم ما صولحوا عليه فإن ضرب الخيام على الطريق يوم عيدهم هو من إخراج الباعوث وإظهار شعائر الكفر.
فإذا اختفوا في كنائسهم باجتماعهم لم يعرض لهم فيها ما لم يرفعوا أصواتهم بقراءتهم وصلاتهم.
وأما الشعانين"1" فهي أعياد لهم أيضا.
والفرق بينها وبين الباعوث أنه اليوم والوقت الذي ينبعثون فيه على الاجتماع والاحتشاد.
وقولهم: ولا نرفع أصواتنا مع موتانا لما فيه من إظهار شعار الكفر فهذا يعم رفع أصواتهم بقراءتهم وبالنوح وغيره وكذلك إظهار النيران معهم إما بالشمع أو السرج أو المشاعل ونحوها.
فأما إذا أوقدوا النار في منازلهم وكنائسهم ولم يظهروها لم يتعرض لهم فيها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشعانين: عيد مسيحى يقع يوم الأحد السايق لعيد الفصح يحتفل فيه المسيحيون بذكرى دخول السيد المسيح بيت القدس وعيد الصفح عيد ذكرى قيامة السيد المسيح في اعتقاد النصارى.

 

ص -156-   وقد سمى الله سبحانه أعيادهم زورا والزور لا يجوز إظهاره فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}.
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أحمد بن عبدالرحمن بن سعيد الخرار حدثنا حسين بن عقيل عن الضحاك {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} عيد المشركين.
وقال سعيد بن جبير: الشعانين، وكذلك قال ابن عباس: "الزور عيد المشركين".

فصل: لايجوز للمسلمين ممالأة المشركين في إظهار شعائرهم
وكما أنهم لا يجوز لهم إظهاره فلا يجوز للمسلمين ممالاتهم عليه ولا مساعدتهم ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله. وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم.
فقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الفقيه الشافعي: ولا يجوز للمسلمين أن يحضروا أعيادهم لأنهم على منكر وزور وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له فنخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيعم الجميع نعوذ بالله من سخطه.
ثم ساق من طريق ابن أبي حاتم حدثنا الأشج ثنا عبد الله بن أبي بكر عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة:
{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: لا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم ونحوه عن الضحاك.
ثم ذكر حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تدخلوا على هؤلاء الملعونين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم" والحديث في الصحيح.
وذكر البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهية الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال: قال عمر رضي الله عنه: "لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم".

 

ص -157-   وبالإسناد عن الثوري عن عوف عن الوليد أو أبي الوليد عن عبد الله بن عمرو فقال: "من مر ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة".
وقال البخاري في غير "الصحيح"1 قال: لي ابن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد بن سلمة سمع أباه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "اجتنبوا أعداء الله في عيدهم". ذكره البيهقي.
وذكر بإسناد صحيح عن أبي أسامة: حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو قال: "من مر ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة".
وقال أبو الحسن الآمدي: لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود نص عليه أحمد في رواية مهنا.
واحتج بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}. قال: الشعانين وأعيادهم.
وقال الخلال في الجامع: باب في كراهية خروج المسلمين في أعياد المشركين وذكر عن مهنا قال: سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل دير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الضحية والبقر والبر والدقيق وغير ذلك يكونون في الأسواق ولا يدخلون عليهم بيعهم
قال: "إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس".
وقال عبدالملك بن حبيب: سئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذين اجتمعوا عليه.
قال: وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له ورآه من تعظيم عيده وعونا له على كفره ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا أدما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعانون على شيء من عيدهم لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره لم أعلمه اختلف فيه هذا لفظه في الواضحة.
وفي كتب أصحاب أبي حنيفة: من أهدى لهم يوم عيدهم بطيخة بقصد تعظيم العيد فقد كفر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد في غير كتابة الصحيح المسند المختصر وشهرته صحيح البخارى.

 

ص -158-   فصل:  قولهم: "ولا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور"
يجوز أن يكون بالراء المهملة من المجاورة أي بيع الخمور بحضرتهم ولا تكون الخنازير مجاورة لهم.
ويجوز أن يكون بالزاي المعجمة: أي لا نتعدى بها عليهم جهرة بل إذا أتينا بها إلى بيوتنا أتينا بها خفية بحيث لا يطلعون على ذلك والمعنيان صحيحان.
وذلك يتضمن إخفاء الخمر والخنزير فيما بينهم وألا يظهروا بهما بين المسلمين كما لا يظهرون بسائر المنكرات.

فصل: وكذلك قولهم: "ولا نجاوز المسلمين بموتانا"
يجوز أن يكون بالزاي والراء من المجاوزة والمجاورة فإن كان بالمهملة فالمعنى اشتراط دفنهم في ناحية من الأرض لا تجاور قبورهم بيوت المسلمين ولا قبورهم بل تنفرد عنهم لأنها محل العذاب والغضب فلا تكون هي ومحل الرحمة في موضع واحد لما يلحق المسلمين بذلك من الضرر.
وإن كان بالمعجمة فهو من المجاوزة وعادة النصارى في أمواتهم أنهم يوقدون الشموع ويزفون بها الميت ويرفعون أصواتهم بقراءة كتبهم.
وقد منع جماعة من الصحابة أن تتبع جنائزهم بنار خوفا من التشبه بهم.
وعلى رواية الزاي المعجمة فليس لهم أن يحملوا أمواتهم في أسواق المسلمين ولا

 

ص -159-   في الطرق الواسعة التي يمر بها المسلمون وإنما يقصدون المواضع الخالية التي لا يراهم فيها أحد من المسلمين.
قال أبو القاسم الطبري: إن كانت الراية بالزاي فهو صريح في المنع من جواز جنائزهم على المسلمين
قال:
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث يشبه معنى هذا فيما أخبرنا محمد بن عبدالرحمن حدثنا أبو بكر بن أبي بكر داود ثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك حدثنا ابن أبي ذئب عن نافع بن مالك"1" عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"رب جنازة ملعونة ملعون من شهدها".
قال: فهذه جنائز أهل الذمة.
قال: وإن كان بالراء المهملة فهو أنهم يمنعون من الدفن في مقابر المسلمين
قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" قيل: لم يا رسول الله؟ قال: "لا ترآى ناراهما".
قلت: الحديث رواه أبو داوود في "السنن".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو عم الإمام مالك بن أنس الإمام صاحب المذهب المتبوع.

فصل: قولهم: "ولا ببيع الخمور"
أي لا نبيعه ظاهرا بحيث يراه المسلمون إذ بيعه ظاهرا من المنكر العظيم.
وكذلك نقله من موضع إلى موضع في دار الإسلام في البلد وخارج البلد.
قال أبو القاسم الطبري: وقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في هذا تغليظ في خرق متاعهم وكسر أوانيهم.
ثم ذكر من طريق أبي عبيد ثنا هشيم ومروان بن معاوية حدثني عن إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث ابن شبيل عن أبي عمرو الشيباني قال: بلغ عمر أن رجلا من أهل السواد قد أثرى في تجارة الخمر فكتب أن "اكسروا كل شيء قدرتم عليه وشردوا كل ماشية له".

 

ص -160-   قال أبو عبيد: وثنا مروان بن معاوية ثنا عمر المكتب ثنا حذلم عن ربيعة بن زكار قال: نظر علي إلى زرارة فقال: ما هذه القرية قالوا: قرية تدعى زرارة يلحم فيها ويباع الخمر فقال: أين الطريق إليها قالوا: باب الجسر قال: قائل يا أمير المؤمنين خذ لك سفينة تجوز فيها قال: تلك سخرة ولا حاجة لنا في السخرة وانطلقوا بنا إلى باب الجسر فقام يمشي حتى أتاها فقال: علي بالنيران أضرموا فيها فإن الخبيث يأكل بعضه بعضا فأضرمت في عرشها.قال: وقد قضى ابن عباس: "أيما مصر مصره المسلمون فلا يباع فيه خمر".
قال أبو عبيد: "وإنما معنى هذه الأحاديث أن يكون في أهل الذمة لأنهم كانوا أهل السواد حينئذ". وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عماله أن "لا يحمل الخمر من رستاق إلى رستاق".

فصل: قولهم: "ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا"
هذا من أولى الأشياء أن ينتقض العهد به فإنه حراب الله ورسوله باللسان وقد يكون أعظم من الحراب باليد.
كما أن الدعوة إلى الله ورسوله جهاد بالقلب وباللسان وقد يكون أفضل من الجهاد باليد.
ولما كانت الدعوة إلى الباطل مستلزمة ولا بد للطعن في الحق كان دعاؤهم إلى دينهم وترغيبهم فيه طعنا في دين الإسلام وقد قال تعالى:
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}. ولا ريب أن الطعن في الدين أعظم من الطعن بالرمح والسيف.
فأولى ما انتقض به العهد الطعن في الدين ولو لم يكن مشروطا عليهم فالشرط ما زاده إلا تأكيدا وقوة.

 

ص -161-   فصل: قولهم: "ولا نتخذ من الرقيق الذي جرت عليه أحكام المسلمين"
يتضمن أنهم لا يتملكون رقيقا من سبي المسلمين.
وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء.
فمذهب الإمام أحمد أنه إذا استرق الإمام السبي لم يجز بيعهم من كافر ذميا كان أو حربيا صغارا كانوا أو كبارا.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيعهم من أهل الذمة دون أهل الحرب.
وقال الشافعي: يجوز بيعهم من الفريقين.
فأما مذهب مالك فقال: في الجواهر إن اشترى الكافر بالغا على دينه لم يمنع من شرائه إذا كان يسكن به في بلد المسلمين ولا يباع لمن يخرج به عن بلاد الإسلام لما يخشى من إطلاعه أهل الحرب على عورة المسلمين.
وإن كان العبد صغيرا على دينه يعي الكتاب وغيره منع من شرائه لما يرجى من إسلامه سرعة إجابته إذا دعي إلى الإسلام لكونه لم يرسخ في نفسه الكفر بخلاف الكبير. فإن بيع منه فسخ البيع وتحرج فيه أن يباع عليه من مسلم.
وقال محمد: لا يمنع من شرائه لأنا لسنا على يقين من إسلامه إذا اشتراه مسلم.
وإن كان العبد بالغا على غير دين مشتريه ولها صورتان:
إحداهما: يهودي يباع من نصراني وعكسه.
فقال ابن وهب وسحنون بالمنع لما بينهما من العداوة والبغضاء فيكون إضرارا بالمملوك واتخاذا للسبل إلى دينه.
وقال محمد: لا يمنع إذ المنع ليس بحق الله بل بحق العبد فلو رضي بذلك تجار فيتدارك بعد بالمنع من أذيته دون فسخ البيع.
الثانية: أن يكون العبد من الصقالبة أو المجوس أو السودان فهل له شراؤه؟

 

ص -162-   حكى المازري فيه ثلاثة أقوال في المذهب.
الأول: الجواز مطلقا وهو ظاهر الكتاب وأطلق الجواز في الصغير منهم والكبير.
والثاني: المنع مطلقا في الصغير والكبير قاله ابن عبدالحكم.
والثالث: المنع في الصغير والجواز في الكبير وهو مذهب العينية .
واحتج المانعون مطلقا بأن ذلك في الشروط المشروطة عليهم.
وهو قولهم: "ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين" قالوا: وهذا فعل ظاهر منتشر عن عمر أقره جميع الصحابة ولأنه رقيق جرى عليه ملك المسلمين فلا يجوز بيعه من كافر كالحربي.
قال أبو الحسين: ولا يلزم على ذلك إذا اشترى مسلم عبدا كافرا أو ذميا فإنه لا يجوز بيعه من ذمي على ظاهر كلام إمامنا أحمد رحمه الله تعالى.
ولأنه إذا كان في أيدي المسلمين رجي إسلامه وإذا منع منهم منعوه من إسلام إن رغب فيه ولهذا منعنا الكافر من حضانة اللقيط.
فصل
فإن قيل: فكيف تجمعون بين المنع من بيعهم لكافر وبين جواز المفاداة بهم من الكفار بالمال والمسلم؟
قيل: أما المفاداة بهم بمسلم فيجوز لأن مصلحة تخليص المسلم من أسر الكفار أرجح من بقاء العبد الكافر بين المسلمين ينتظرون إسلامه بخلاف بيعه لهم فإنه لا مصلحة فيه للعبد وهو يفوت عليه ما يرجى له بإقامته بين المسلمين من أعظم المصالح .
وأما مفاداته بمال فهذا فيه روايتان عن الإمام أحمد.
فإن منعنا ذلك فلأن مفاداته بمال بيع منه لهم.
قال: وإن جوزناها فالفرق بينها وبين بيع المسلم له من الكافر أن مصلحة الفداء بالمال قد تكون عامة للمسلمين لحاجتهم إلى المال يتقون به على عدوهم فتكون مصلحة المفاداة أرجح من بقاء العبد بين أظهر المسلمين.

 

ص -163-   بخلاف بيع المسلم المالك له من كافر فإنه لا مصلحة للمسلمين في ذلك"1"
ذكر نصوص أحمد في هذا الباب
قال يعقوب بن بختان: سألت أبا عبد الله أيباع السبي من أهل الذمة؟ قال: لا يروى فيه عن الحسن.
وقال: بكر بن محمد سئل أبو عبد الله عن الرجل يبيع العبد النصراني من النصراني؟ قال: لا يبتاعون من سبينا. قيل له: فيكون عبدا لنصراني فيشترى منه فيباع للنصراني؟ قال: نعم وكره أن يباع المملوك النصراني إذا كان من سبي المسلمين للنصارى.
وقال المروذي: سئل أبو عبد الله هل يشتري أهل الذمة من سبينا؟ قال: لا إذا صاروا إليهم يئسوا من الإسلام وإذا كانوا في أيدي المسلمين فهو أقرب إلى الإسلام.
قال: وسألته: تباع الجارية النصرانية من النصراني قال: لا إذا باعها فقد أيسنا من إسلامها.
وقال عبد الله: سمعت أبي يقول ليس لأهل الذمة أن يشتروا شيئا من سبينا يمنعون من ذلك لأنهم إذا صاروا إليهم نشؤوا على كفرهم.
ويقال: إن عمر كان في عهده لأهل الشام أن يمنعوا من شراء سبايانا.
وقال عبد الله: سألت أبي عن رجل كانت عنده أمة نصرانية ولها ولد أيبيعها مع ولدها من نصراني؟ قال: لا قلت فإن باعها وحدها دون ولدها للنصراني؟ قال: لا يبيعها للنصراني ليس لهم أن يشتروا مما سبى المسلمون شيئا قلت لأبي فمن أين يشترون؟ قال: بعضهم من بعض.
ويروى عن عمر أنه كتب ينهى أن تباع النصرانية من النصراني
ويروى عن الحسن أنه كره ذلك.
وقال في رواية حنبل: ليس لنصراني ولا أحد من أهل الأديان أن يشتري من سبينا شيئا ولا يباع منهم وإن كان صغيرا لعله يسلم وهذا يدخله في دينه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غالب هذه المسائل ل تنطبق على العصور الحالية إنما كانت أشياء موجودة في عصر المؤلف - رحمه الله -.

 

ص -164-   قلت: فإن كان كبيرا وأبى الإسلام قال: لا يباع إلا من مسلم لعله يسلم.
وأما الصبي فلا يتركوه أن يدخلوه في دينهم ولا يباع شيء من سبينا منهم نحن أحق به هم أقرب إلى الإسلام وكذلك قال في رواية أبي طالب .
وقال في رواية ابنه صالح لا يباع الرقيق من يهودي ولا نصراني ولا مجوسي من كان منهم وذاك لأنه إذا باعه أقام على الشرك.
وكتب فيه عمر ينهى عنه أمراء الأمصار .
وكذلك قال: في رواية إسحاق بن إبراهيم وأبي الحارث والميموني.
قال الميموني: قلت: فإن باع رجل منهم مملوكه يرده قال: نعم يرده فقال: له رجل من أين يكون رقيقهم قال: مما في أيديهم مما صولحوا عليه فتناسلوا فأما أن يشتروا منا فلا.
وكذلك قال: في رواية ابن منصور لا يباعون من أهل الذمة ولا من أهل الحرب صغارا كانوا أو كبارا.

فصل: قولهم: "وألا نمنع أحدا من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام"
فهذا أيضا يقتضي انتقاض عهدهم به فإنه مشروط عليهم وهو أيضا محاربة لله ورسوله بالمنع من الدخول في دينه.
فالأول دعاء إلى الدخول في الكفر وترغيب فيه وهذا منع لمن أراد الانتقال منه والعدول عنه.

 

ص -165-   الفصل الثالث: مايتعلق بتمييز لباسهم ومركوبهم ونحوه عن المسلمين
فصل: وقولهم: "وأن نلزم زينا حيثما كنا وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا فرق شعر ولا في مراكبهم"
هذا أصل الغيار وهو سنة سنها من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وجرى عليها الأئمة بعده في كل عصر ومصر وقد تقدمت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو القاسم الطبري في سياق ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على وجوب استعمال الغيار لأهل الملل الذين خالفوا شريعته صغارا وذلا وشهرة وعلما عليهم ليعرفوا من المسلمين في زيهم ولباسهم ولا يتشبهوا بهم.
وكتب عمر إلى الأمصار أن تجز نواصيهم وألا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا.
وعن عمر بن عبدالعزيز مثله.
قال: وهذا مذهب التابعين وأصحاب المقال:ات من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين.
ثم ساق من طريق العرياني: حدثنا عبدالرحمن بن ثابت عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله لا يشرك به وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" رواه الإمام أحمد في مسنده.
قال أبو القاسم: "هذا أحسن حديث روي في الغيار وأشبه بمعناه وأوجه في استعماله لما ينطق لفظه بمعناه ومفهومه بما يقتضي فحواه من قوله:
"وجعل الذل والصغار على من خالف أمري".
فأهل الذمة أعظم خلافا لأمره وأعصاهم لقوله فهم أهل أن يذلوا بالتغيير عن زي المسلمين الذين أعزهم الله بطاعته وطاعة رسوله من الذين عصوا الله ورسوله فأذلهم وصغرهم وحقرهم حتى تكون سمة الهوان عليهم فيعرفوا بزيهم.

 

ص -166-   ودلالته ظاهرة في وجوب استعمال الغيار على أهل الذمة في قوله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم".
ومعناه إن شاء الله أن المسلم يتشبه بالمسلم في زيه فيعرف أنه مسلم والكافر يتشبه بزي الكافر فيعلم أنه كافر فيجب أن يجبر الكافر على التشبه بقومه ليعرفه المسلمون بت.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير".
وسأله رجل: أي الإسلام خير قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
وقد نهى أن يبدأ اليهود والنصارى بالسلام وأمر إذا سلم أحدهم علينا أن نقول له: "وعليكم".
وإذا كان هذا من سنة الإسلام فلا بد أن يكون لأهل الذمة زي يعرفون به حتى يمكن استعمال السنة في السلام في حقهم ويعرف منه المسلم من سلم عليه هل هو مسلم يستحق السلام أو ذمي لا يستحقه وكيف يرد عليهم؟
وقد كتب عمر إلى الأمصار "أن تجز نواصيهم" يعني أهل الكتاب: "وألا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا".
قلت: ما ذكره من أمر السلام فائدة من فوائد الغيار وفوائده أكثر من ذلك.
فمنها أنه لا يقوم له ولا يصدره في المجلس ولا يقبل يده ولا يقوم لدى رأسه ولا يخاطبه بأخي وسيدي ووليي ونحو ذلك.
ولا يدعى له بما يدعى به للمسلم من النصر والعز ونحو ذلك.
ولا يصرف إليه من أوقاف المسلمين ولا من زكواتهم ولا يستشهده تحملا ولا أداء ولا يبيعه عبدا مسلما ولا يمكنه من المصحف وغير ذلك من الأحكام المختصة بالمسلمين فلولا النهي لعامله ببعض ما هو مختص بالمسلم.
فهذا من حيث الإجمال.

 

ص -167-   وأما من حيث التفصيل ففي شروط عمر رضي الله عنه: "وألا نتشبه بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة".
فيمنعون من لباسها لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته يلبسونها ولم يزل لبسها عادة الأكابر من العلماء والفقهاء والقضاة والأشراف والخطباء على الناس.
واستمر الأمر على ذلك إلى أواخر الدولة الصلاحية فرغب الناس عنها.
وقد روى العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي عن ابن عمر كان للنبي صلى الله عليه وسلم قلنسوة بيضاء لاطئة"1" يلبسها وكان لعلي رضي الله عنه قلنسوة بيضاء يلبسها.
وذكر سفيان عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يمسح على العمامة ولا على القلنسوة.
وقالت أم نهار: كان أنس يمر بنا في كل جمعة على برذون عليه قلنسوة لاطئة.
فإنما نهى عمر رضي الله عنه أهل الذمة عن لبسها لأنها زي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده وغيرهم من الخلفاء بعده وللمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أسوة وقدوة فالخلفاء يلبسونها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وتشبها به وهم أولى الناس باتباعه واقتفاء أثره.
والعلماء يلبسونها إذا انتهوا في علمهم وعزهم وعظمت منزلتهم واقتدى الناس بهم فيتميزون بها للشرف على من دونهم لما رفعهم الله بعلمهم على جهلة خلقه.
والقضاة تلبسها هيبة ورفعة والخطباء تلبسها على المنابر لعلو مقامهم فيمنع أهل الذمة من لباس القلنسوة لعدم وجود هذه المعاني فيهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال لطأ بالشيء لزق ولطأ بالأرض أيضا والاطئة قلنسوة تلصق بالرأس.

فصل: قولهم: "ولا عمامة"
قال أبو القاسم: والعمامة يمنعون من لبسها والتعمم بها إن العمائم تيجان العرب وعزها على سائر الأمم من سواها ولبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده فهي لباس العرب قديما ولباس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة فهي لباس الإسلام.

 

ص -168-   قال جابر رضي الله عنه: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وعليه عمامة سوداء.
قال: وروى عيسى بن يونس عن عبيدالله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "اعتموا تزدادوا حلما".
وقال: "العمائم تيجان العرب".
وقال: المغيرة بن شعبة توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح بناصيته وعلى العمامة والخفين.
وقال أنس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأوعليه عمامة قطرية"1" فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينفض العمامة. وفي الحديث عن النبي صالى الله عليه وسلم "فرق مابيننا وبين المشركين العمائم على القلانس"2
وهذا وإن كان إخبارا بالواقع فإنه إرشاد إلى المشروع.
وقال معاوية: عن ابن إسحاق عن صفوان بن عمرو عن الفضيل بن الفضالة عن خالد بن معدان قال: إن الله ألزم هذه الأمة بالعصائب والألوية يريد بالعصائب العمائم كما في الحديث: "فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين" فالعصائب العمائم والتساخين الخفاف.
قالوا والعمائم ليست من زي بني إسرائيل وإنما هي من زي العرب. وقال أبو القاسم: ولا يمكن الذمي من التعمم بها فإنه لا عز له في دار الإسلام ولا هي من زيه.
قلت: فلو خالفت عمائمهم عمائم المسلمين في لون أو غيره فهل يمكنون من ذلك.
يحتمل أن يقال بتمكينهم منها لحصول التمييز المقصود.
ويحتمل ألا يمكنوا إذ المقصود أنهم لا يلبسون هذا الجنس كما لا يركبون الخيل ولو تميزت عن خيول المسلمين لأن ركوبها عز وليسوا من أهله كما يمنعون من إرخاء الذوائب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نسبة إلى قطر قرية بنواحى البحرين.
2 القلنسوة لباس للرأس مختلف الأنواع والأشكال والجمع قلانس وقلانيس وقلاس وقلاسى.

 

ص -169-   ولم أجد عن أحمد نصا في لبسهم العمائم.
ولكن قال المتأخرون من أتباعه: إنهم يشدون في أطراف عمائمهم وقلانسهم ما يخالف لونها بحمرة أو صفرة ونحوهما.
وحكوا في جواز تمكينهم من الطيالسة وجهين وأحد الوجهين في العمائم أولى وأحق بالمنع لما تقدم.
وقال أبو الشيخ"1" حدثنا أحمد بن الحسين حدثنا الدورقي حدثنا علي بن الحسن بن شقيق حدثنا ابن المبارك حدثنا معمر أن عمر بن عبدالعزيز كتب أن امنع من قبلك فلا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز ولا عصب"2" وتقدم في ذلك أشد التقدم حتى لا يخفي على أحد نهي عنه وقد ذكر لي أن كثيرا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا المناطق على أوساطهم واتخذوا الوفر والجمم"3".
ولعمري إن كان يصنع ذلك فيما قبلك إن ذلك بك ضعف وعجز فانظر كل شيء نهيت عنه وتقدمت فيه فلا ترخص فيه ولا تغير منه شيئا.
حدثنا أحمد بن الحسين حدثنا أحمد حدثنا سعيد بن سلمان ثنا أبو معشر عن محمد بن قيس وسعيد بن عبدالرحمن بن حبان قالا دخل ناس من بني تغلب على عمر بن عبدالعزيز عليهم العمائم كهيئة العرب.
قالوا: يا أمير المؤمنين ألحقنا بالعرب.
قال: فمن أنتم؟
قالوا: نحن بنو تغلب.
قال: أولستم من أوسط العرب؟ قالوا: نحن نصارى قال: علي بجلم فأخذ من نواصيهم وألقى العمائم وشق من رداء كل واحد منهم شبرا يحتزم به وقال: لا تركبوا السروج واركبوا الأكف ودلوا أرجلكم من شق واحد.
حدثنا خالي حدثنا محمد بن عبدالوهاب بن موسى العسقلاني، حدثنا مبشر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو الشيخ عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان له كتاب "شروط عمر "وهو الذى أخذ مؤلفنا عنه في هذا الباب.
2 الثوب الخز ماينسج من صوف وإبريسم أو من إبريسم خالص والعصب من البرود الذى يصبغ غزله.
3 الوفر إسبال الشعر إلى المناكب والجمعة مجتمع شعر الناصية وماترامى من الشعر على المنكبين

 

ص -170-   بن صفوان حدثنا الحكم بن عمرو الرعيني قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أمصار الشام: "لا يمشي نصراني إلا مفروق الناصية ولا يلبس قباء ولا يمشي إلا بزنار من جلد ولا يلبس طيلسانا ولا يلبس سراويل ذات خدمة"1" ولا يلبس نعلا ذات عذبة ولا يركب على سرج ولا يوجد في بيته سلاح إلا انتهب ولا يدخل الحمام يوم الجمعة يهودي ولا نصراني حتى تصلى الجمعة.
حدثنا أبو يعلى عن ابن مسهر حدثنا عبد الله بن إدريس عن عبدالرحمن بن إسحاق عن خليفة بن قيس عن خالد بن عرفطة قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمصار أن تجز نواصيهم يعني النصارى ولا يلبسوا ألبسة المسلمين حتى يعرفوا.
حدثنا أحمد بن الحسين الحذاء حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا علي بن الحسن بن شقيق حدثنا ابن المبارك حدثنا معمر أن عمر بن عبدالعزيز كتب أما بعد فلا يركبن يهودي ولا نصراني على سرج وليركبن على إكاف ولا يركبن نساؤهم على راحلة وليكن ركوبهن على إكاف وتقدم في ذلك تقدما بليغا.
وقال الخلال في الجامع: باب ما تؤخذ به النصارى من اتخاذ الزنانير وعلى نسائهم من زيهم.
أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر قال:ا حدثنا أبو الحارث قال: قال أحمد ينبغي أن يؤخذ أهل الذمة بالزنانير يذلون بذلك.
ثنا يحيى بن جعفر بن عبد الله بن الزبرقان ثنا يحيى بن السكن ثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمر عمر رضي الله عنه أن تجز نواصي أهل الذمة وأن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا عبدالرزاق ثنا معمر عن عمرو بن ميمون بن مهران قال: كتب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى أن ينهوا النصارى أن يفرقوا رؤوسهم وتجز نواصيهم وأن تشد مناطقهم ولا يركبوا على سرج ولا يلبسوا عصبا ولا خزا وأن يمنع نساؤهم أن يركبن الرحائل فإن قدر على أحد منهم فعل ذلك بعد التقدم إليه فإن سكنه لمن وجده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخدمة: الحلقة المحكمة وفي حديث خالد بن الوليد رضى الله عنه إلى مرازبة فارس: الحمد لله الذى فض خدمتكم.

 

ص -171-   فصل: منعهم من التحلي
ويمنعون من التلحي: صرح بذلك أصحاب الشافعي في كتبهم. وقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري في شرح كتاب عمر بن الخطاب بعد أن ذكر المنع من لبس العمامة وكذلك لا يتلحى.
لماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتلحي ونهى عن الإسباط.
إنما أمر به المسلمين ومن آمن به واقتدى بأفعاله.
فمن فعله من أمته فإنما يفعله اتباعا لأمره واستعمالا لسنته وهو زي العرب من آباد الدهر وليس هو زي بني إسرائيل فلا يمكن الذمي منه لأنه ليس زي قومه فيما مضى فيجب ألا يكون زيا له الآن.
قال أبو عبيد في هذا الحديث أصل التلحي في لبس العمائم وذلك لأن العمائم يقال: لها المقعطة فإذا لاثها المعتم على رأسه ولم يجعلها تحت حنكه قيل اقتعطها فهو المنهي عنه فإذا أدارها تحت الحنك قيل: تلحاها. وكان طاوس يقول: "تلك عمة الشيطان" يعني التي لا يتلحى بتا.
قال أبو القاسم: وعمة الشيطان أهل الذمة بها أولى! قال: وكذلك إذا تعمموا لا يرسلون أطراف العمامة خلف ظهورهم لأن هذا هو السنة في التعمم بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل عبدالرحمن بن عوف فيما روى الهيثم بن حميد عن صفوان بن عيلان عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبدالرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها فأصبح قد اعتم بعمامة سوداء.
وقال أبو أسامة حدثنا عبيدالله عن نافع كان ابن عمر يعتم ويرخيها بين كتفيه.
قال عبيدالله: وأخبرني أشياخنا أنهم رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمون ويرخونها بين أكتافهم: فإرخاء الذؤابة من زي أهل العلم والفضل والشرف.
فلا يجوز أن يمكن الكفار من التشبه بهم فيه.

 

ص -172-   فصل:قولهم: "ولا في نعلين ولا فرق شعر"
أي لا نتشبه بهم في نعالهم بل تكون نعالهم مخالفة لنعال المسلمين ليحصل كمال التمييز وعدم المشابهة في الزي الظاهر ليكون ذلك أبعد من المشابهة في الزي الباطن فإن المشابهة في أحدهما تدعو إلى المشابهة في
الآخر بحسبها وهذا أمر معلوم بالمشاهدة.
فليس المقصود من الغيار والتمييز في اللباس وغيره مجرد تمييز الكافر عن المسلم بل هو من جملة المقاصد. والمقصود الأعظم ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم ومشابهتهم باطنا.
والنبي صلى الله عليه وسلم سن لأمته ترك التشبه بهم بكل طريق وقال: "خالف هدينا هدي المشركين". وعلى هذا الأصل أكثر من مئة دليل حتى شرع لها في العبادات التي يحبها الله ورسوله تجنب مشابهتهم في مجرد الصورة كالصلاة والتطوع عند طلوع الشمس وغروبها.
فعوضنا بالتنفل في وقت لا تقع الشبهة بهم فيه.
ولما كان صوم يوم عاشوراء لا يمكن التعويض عنه بغيره لفوات غير ذلك اليوم أمرنا أن نضم إليه يوما قبله ويوما بعده لتزول صورة المشابهة.
ثم لما قهر المسلمون أهل الذمة وصاروا تحت قهرهم وحكمهم ألزمهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بترك التشبه بالمسلمين كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك التشبه بهم.
فتضمن هذان الأصلان العظيمان مجانبتهم في الهدي الظاهر والباطن حتى في النعال فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بالصلاة في نعالهم"1" مخالفة لأهل الكتاب ونهاهم عمر رضي الله عنه أن يلبسوا نعال المسلمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد سئل أحد الصحابة أكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلى في نعليه. قال: نعم - ولقد كانت الطريق في بيئته صلى الله عليه وسلم رملية لا يعلق بالنعل منها أذى ولذلك حينما علق بنعله صلى الله عليه وسلم أذى أخبره جبريل عليه السلام فخلعها.

 

ص -173-   فصل: وكذلك قولهم: "ولا بفرق شعر"
الأصل في هذا الباب ما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن عبيدالله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم أمر بالفرق فكان الفرق آخر الأمرين.
والسدل في اللغة الإرسال ومعناه في الشعر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرسل شعره وكان أولا يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه لمصلحة التأليف وغيرها فكان يحب أن يفرق شعره فأمسك عنه حتى يأتيه الأمر من الله فجاءه الأمر بالفرق فصار هو السنة .
والفرق هو أن يقسم شعر الرأس نصفين بالسوية ويجعل ذؤابتين على زي
الأشراف الذي لم تزل عليه العلويون والعباسيون"1"
وهذا آخر الأمرين من فعله صلى الله عليه وسلم وهو الذي استقرت عليه السنة فلا يمكن منه أهل الذمة بل يؤمرون بأن يرسلوا شعورهم ويسدلوها ويجمعوا شعورهم حتى تكون كاللبنة"2" من خلفهم.
وقد وسم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من على رأسه شعر من أهل الذمة بوسم ينبغي اتباعه وهو أن تجز نواصيهم والناصية مقدار ربع الرأس فإذا كان ربعه محلوقا كان علما ظاهرا وأمرا مشهورا أنه ذمي.
وهذا معنى ما في كتاب أمير المؤمنين في الشروط: "وأن نجز مقادم رؤوسنا".
قال أبو القاسم: أخبرنا علي بن عمر أخبرنا إسماعيل بن محمد حدثنا عباس الدوري ثنا خالد بن مخلد عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع الموضوع للمؤلف في كتابه زاد المعاد في هدى خبر العباد - من تحقيقنا.
2 أى كالرقعة.

 

ص -174-   عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكتب إلى عماله يأمرهم بجز نواصيهم يعني أهل الكتاب.
قال أبو القاسم: كذا قال خالد: عن نافع عن ابن عمر وإنما هو عن أسلم عن عمر كذلك رواه عبدالرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر العمري وهو الصواب.

فصل: في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلق الرأس وتركه وكيفية جعل شعره
لم يكن هديه صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في غير نسك بل لم يحفظ عنه أنه حلق رأسه إلا في حج أو عمرة.
وحلق الرأس أربعة أقسام شرعي وشركي وبدعي ورخصة. فالشرعي الحلق في الحج والعمرة، والشركي حلق الرأس للشيوخ فإنهم يحلقون رؤوس المريدين للشيخ ويقولون احلق رأسك للشيخ فلان وهذا من جنس السجود له فإن حلق الرأس عبودية مذلة.
وكثير منهم يعمل المشيخة الوثنية فترى المريد عاكفا على السجود له ويسميه وضع رأس وأدبا وعلى التوبة له والتوبة لا ينبغي أن تكون لأحد إلا لله وحده.
وعلى حلق الرأس له وحلق الرأس عبودية لا تصلح إلا لله وحده.
وكانت العرب إذا أمنوا على الأسير جزوا نواصيه وأطلقوه عبودية وإذلالا له.
ولهذا كان من تمام النسك وضع النواصي لله عبودية وخضوعا وذلا. ويربونه على الحلف باسم الشيخ لإذلاله.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من حلف بغير الله فقد أشرك" فكيف من نذر لغير الله!
وأما الحلق البدعي فهو: كحلق كثير من المطوعة والفقراء يجعلونه شرطا في الفقر وزيا يتميزون به عن أهل الشعور من الجند والفقهاء والقضاة وغيرهم.

 

ص -175-   وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج أنه قال: "سيماهم التحليق"1. وقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لصبيغ بن عسل وقد سأله عن مسائل فأمر بكشف رأسه وقال: "لو رأيتك محلوقا لأخذت الذي فيه عيناك حتى أن تكون من الخوارج".
ومن حلق البدعة الحلق عند المصائب بموت القريب ونحوه فأما المرأة فيحرم عليها ذلك وقد برئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة والشاقة.
فالحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة.
والصالقة التي ترفع صوتها بالويل والثبور ونحوه.
والشاقة التي تشق ثيابها.
وأما الرجل فحلقه لذلك بدعة قبيحة يكرهها الله ورسوله.
وأما حلق الحاجة والرخصة فهو كالحلق لوجع أو قمل أو ذى في رأسه من بثور ونحوها فهذا لا بأس به.
وأما كحلق بعضه وترك بعضه فهو مراتب.
أشدها أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما تفعل شمامسة النصارى.
ويليه أن يحلق جوانبه ويدع وسطه كما يفعل كثير من السفلة وأسقاط الناس.
ويليه أن يحلق مقدم رأسه ويترك مؤخره.
وهذه الصور الثلاث داخلة في القزع"2" الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها أقبح من بعض.
فإن دعت الحاجة إلى ذلك لضرر برأسه أو لاستخراج ضفيرة تؤذي عينيه جاز حلق بعضه هذا والأولى في هذه الحال أن يقتصر على ما تندفع به الحاجة أو حلق جميعه وهذا فيه نظر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أى الخوارج.
2 القزعة: خصل من الشعر تترك متفرقة في نواحى الرأس.

 

ص -176-   فصل: في إرخاء الشعر
وأما إرخاؤه فإن طال فالأفضل أن يجعل ذؤابتين عن اليمين والشمال ولا يرسل ولا يضفر ذؤابة واحدة ولا يجمع كله في مؤخر الرأس ولا يرد بعضه فوق بعض على الرأس فكل هذا مكروه.
وإن قصر إلى شحمة الأذن أو فوقها بحيث لا يتأتى فرقه وجعله ذؤابتين جاز سدله من غير كراهة وهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره إن طال فرقه وإلا تركه"1".
والمقصود أن أهل الذمة يؤخذون بتمييزهم عن المسلمين في شعورهم إما بجز مقادم رؤوسهم وإما بسدلها ولو حلقوا رؤوسهم لم يعرض لهم. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أى جعل على جانبيه كفافا.

فصل: أهل الذمة ولبس الأردية
وأما الأردية فهل يمكنون من لباسها لكون ترك لباسها غير داخل في الشروط أو لا يمكنون منه لأنها زي العرب وعادتهم فهي كالعمائم؟
فقال أبو القاسم الطبري الفقيه الشافعي: ولا يلبسون الأردية: فإن الأردية من لباس العرب قديما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتدي والصحابة من بعده وهو زي المسلمين وفعل صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثم ساق الأحاديث في لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرداء ثم قال: فلا يمكن ذمي من هذه الأردية.
قال: وأما الطيلسان فهو المغور الطرفين المكفوف الجانبين الملفف بعضه إلى بعض فإن العرب لم تكن تعرفه ولا تلبسه وهو لباس اليهود والعجم والعرب تسميه ساجا.
ويقال: أول من لبسه جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فيما ذكره

 

ص -177-   الزبير بن بكار حدثني سعيد بن هاشم البكري عن يحيى بن سعيد بن سالم القداح قال: أول قرشي لبس ساجا جبير بن مطعم اشتري له بألفي درهم وقال: لا أحسبه إلا قال: من حلوان أو حلولا.
وروي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أحرم في ساجة فهو لباس محدث عند العرب وهو من لباس بني إسرائيل.
ثم ذكر أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدجال فقال:
"يتبعه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة".
وقال أبو عمران الجوبي: نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة عليهم الطيالسة فقال: كأنهم الساعة يهود خيبر!
وكان ابن سيرين يكره الطيلسان وقال: هو من زي العجم .
قال: وقد عاب أنس بن مالك في الصدر الأول على من لبس الطيلسان من المسلمين وشبههم بأهل الكتاب.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"من تشبه بقوم فهو منهم" قال: ولا يترك أهل الذمة يلبسون طيالسهم فوق عمائمهم لأن هذا يفعله أشراف المسلمين وعلماؤهم للتمييز عمن دونهم في العلم والشرف وليس أهل الذمة أهلا لذلك فيمنعون منه.
قال: وفي كتاب عمر ولا يلبسون النعلين ،قال: فيمنع أهل الذمة من لبس جميع الأجناس من النعال
والنعلان هما من زي العرب من آباد الدهر إلى يومنا هذا ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسهما ويستعملهما وكذلك الصحابة من بعده.
وقد روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أمرت بالنعل والخاتم".
ثم ساق من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها: "استكثروا من النعال فإن أحدكم لا يزال راكبا ما كان منتعلا".
وقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه وكان لنعليه قبالان.
وقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"عليكم بالنعال فإنها خلاخيل الرجال".
ولم تكن النعال من زي العجم وإنما كان لباسهم رأس الخف الذي يسمونه التمسك فيجب أن يحملوا على عادة لباسهم.

 

ص -178-   قال: ولأنها من زي العلماء والأشراف والأكابر فلا يمكنون من لباسها انتهى.
فإن قيل: فقد كان اليهود يلبسونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وحولها ويرتدون ويفرقون رؤوسهم ويلبسون العمائم ولم يمنعهم من شيء من ذلك ولهذا قال:
"إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم" وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق ما اتبع ولم يلزمهم بالغيار ولا خليفته من بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قيل: إنما اعتمد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده في الغيار سنته صلى الله عليه وسلم فإنه أرشد إلى مخالفتهم والنهي عنهم حيث لم يكن إلزامهم بالغيار إذ ذاك ممكنا لأن المسلمين لم يكونوا قد استولوا على أهل الكتاب وقهروهم وأذلوهم وملكوا بلادهم بل كانت أكثر بلادهم لهم وهم فيها أهل صلح وهدنة فكان المقدور عليه إذ ذاك أمر المسلمين مخالفتهم بحسب الإمكان.
فلما فتح الله على المسلمين أمصار الكفار وملكهم ديارهم وأموالهم وصاروا تحت القهر والذل وجرت عليهم أحكام الإسلام ألزمهم الخليفة الراشد.
والإمام العدل الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته عمر بن الخطاب بالغيار ووافقه عليه جميع الصحابة واتبعه الأئمة والخلفاء بعده.
وإنما قصر في هذا من الملوك من قلت رغبته في نصر الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الكفر وأهله.
وقد اتفق علماء المسلمين على وجوب إلزامهم بالغيار وأنهم يمنعون من التشبه بالمسلمين في زيهم.

فصل: قالوا: "ولا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا"
فأهل الذمة ممنوعون من ركوبهم السروج وإنما يركبون الأكف وهي البراذع عرضا وتكون أرجلهم جميعا إلى جانب واحد كما أمرهم أمير المؤمنين عمر: فيما

 

ص -179-   رواه عبدالرحمن بن مهدي عن عبد الله عن نافع عن أسلم أن عمر أمر أهل الذمة أن يركبوا على الأكف عرضا وأن يركبوا عرضا ولا يركبوا كما يركب المسلمون.
وذكر عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يركب أهل الذمة في شق شق.
وقال زهير بن حرب: حدثنا وهب بن جرير قال: زعم أبي قال: نهى عمر بن عبدالعزيز أن يركب السروج من خالف الإسلام.
وقال عبدالرحمن بن مهدي: عن خالد بن أبي عثمان الأموي قال: أمر عمر بن عبدالعزيز في أهل الذمة أن يحملوا على الأكف وأن تجز نواصيهم، وأن السروج من آلات الخيل وأهل الذمة ممنوعون من ركوبها فإنها عز لأهلها وليسوا من أهل العز.
وعلى هذا جميع الفقهاء.
قال الجويني في النهاية: اتفق الأصحاب على أنا نأمر الكفار بالتمييز عن المسلمين بالغيار وتفصيل ذلك إلى رأي الإمام.
وقال الأصحاب: يمنعون من ركوب الجياد ويكلفون ركوب الحمير والبغال إلا النفيسة التي يتزين بركوبها فإنها في معنى الخيل.
وينبغي أن تتميز مراكبهم عن المراكب التي يتميز بها الأماثل والأعيان من أهل الإيمان.
وقيل: ينبغي أن يكون ركابهم العرور وهو ركاب الخشب ثم يضطرون إلى أضيق الطريق ولا يمكنون من ركوب وسط الجواد إذا كان يطرقها المسلمون وإن خلت من زحمة الطارقين من المسلمين فلا حرج ثم تكليفهم التميز بالغيار واجب حتى لا يختلطوا في زيهم وملابسهم بالمسلمين.
قال: وما ذكرناه من تمييزهم في الدواب والمراكب مختلف فيه.
فقال قائلون: التميز بها حتم كما ذكرناه في الغيار ومنهم من جعل ما عدا الغيار أدنى.
ثم إذا رأى الإمام ومن إليه الأمر ذلك فلا معترض عليه وليس يسوغ إلا الاتباع.

 

ص -180-           وهل يجب على المرأة منهم أن تتميز بالغيار إذا برزت على وجهين:
أحدهما: يجب كالرجل.
والثاني: لا يجب إذ بروز النساء نادر وذلك لا يقتضي تمييزا في الغيار.
وإذا دخل الكافر حماما فيه مسلمون وكان لا يتميز عمن فيه بغيار وعلامة فالذي رأته الأصحاب منع ذلك وإيجاب التمييز في هذا المقامأولى إذ ربما يفسد الماء على حكم دينه بحيث لا يشعر به.
ودخول الكافرة الحمام الذي فيه المسلمات من غير خلاف غيار يخرج على الخلاف الذي ذكرناه.
وكان شيخي رحمه الله تعالى يقول لا يمنع أهل الذمة من ركوب جنس الخيل فلو ركبوا البراذين التي لا زينة فيها والبغال على هذه الصفة فلا منع.
والحمار الذي تبلغ قيمته مبلغا إذا ركبه واحد منهم لم أر للأصحاب فيه منعا ولعلهم نظروا إلى الجنس.
ومن الكلام الشائع: ركوب الحمار ذل وركوب الخيل عز انتهى.
وقد قال الشافعي: "ولا يركبوا أصلا فرسا وإنما يركبون البغال والحمير".
قال أصحابه: فتمنع أهل الذمة من ركوب الفرس إذ في ركوبها الفضيلة العظيمة والغزاوي مراكب المجاهدين في سبيل الله الذين يحمون حوزة الإسلام ويذبون عن دين الله قال تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. فجعل رباط الخيل لأجل إرهاب الكفار فلا يجوز أن يمكنوا من ركوبها إذ فيه إرهاب المسلمين.
وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم". وأهل الجهاد هم أهل الخيل والخير لاستعمالهم الخيل في الجهاد فهم أحق بركوب ما عقد الخير بنواصيها من المراكب.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إن الخيل كانت وحشا في البرارين

ص -181-   وأول من أنسها وركبها إسماعيل بن إبراهيم فهي من مراكب بني إسماعيل وبها أقاموا دين الحنيفية وعليها قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداء الله وعليها فتح الصحابة الفتوح ونصروا الإسلام فما لأعداء الله الذين ضربت عليهم الذلة ولركوبها. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تعزوهم وقد أذلهم الله ولا تقربوهم وقد أقصاهم".

فصل: قالوا: "ولا نتقلد السيوف"
يمنع أهل الذمة من تقلد السيوف لما بين كونهم أهل ذمة وكونهم يتقلدون السيوف من التضاد فإن السيوف عز لأهلها وسلطان وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم".
فبالسيف الناصر والكتاب الهادي عز الإسلام وظهر في مشارق الأرض ومغاربها.
قال تعالى:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}. وهو قضيب الأدب.
وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة بيده قضيب الأدب فبعث الله رسوله ليقهر به أعداءه ومن خالف أمره.
فالسيف من أعظم ما يعتمد في الحرب عليه ويرهب به العدو وبه ينصر الدين ويذل الله الكافرين والذمي ليس من أهل حمله والعز بت.
وكذلك يمنع أهل الذمة من اتخاذ السلاح وحملها على اختلاف أجناسها كالقوس والنشاب والرمح وما يبقى بأسه ولو مكنوا من هذا لأفضى إلى اجتماعهم على قتال المسلمين وحرابهم.
قال أبو القاسم الطبري: ومن جرت عادته بالركوب منهم من دهاقينهم ونحوهم فإنه يجوز له الركوب إذا أذن له الإمام فيركب البغلة والحمار على إكاف من غير لجام ولا حكمه ولا سفر ولا مركب محلى ذهبا.

 

ص -182-   وفضة كما سن أمير المؤمنين رضي الله عنه لهم حيث قالوا: ولا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم".
فصل
قال عبدالعزيز: ثنا القاسم ثنا النضر بن إسماعيل عن عبدالرحمن بن إسحاق عن خليفة بن قيس قال: قال عمر أكتب بأمرنا يا يرفأ إلى أهل الأمصار في أهل الكتاب أن تجز نواصيهم وأن يربطوا الكستيجان"1" في أوساطهم ليعرف زيهم من زي أهل الإسلام.
وذكر يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن أسلم أن عمر كتب إلى أمراء الأمصار أن يأمروا أهل الذمة أن يختم على أعناقهم.
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى الشام أن يشد النصارى مناطقهم ويجزوا نواصيهم.
قال أبو القاسم: ويجب على الإمام أن يأمر أهل الذمة بالغيار في دار الإسلام ويلزمهم أن يغيروا في الملبس والمركب.
فأما في الملبس فهو أنهم لا يلبسون الفاخر من اللباس الذي يلبسه أشراف الناس وكبارهم من الشروب المرتفعة ولا الخز. إن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى النصارى من أهل الشام ألا يلبسوا عصبا ولا خزا فمن قدر على أحد منهم فعل من ذلك شيئا بعد التقدم إليه فإن سلبه لمن وجده.
قال: العصب: هو البرد الذي يصبغ غزله وهو اليماني.
وقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم برد نجراني.
وقد كان خلع على كعب بن زهير برده عند إسلامه"2" فباعه من معاوية وهو الذي لم يزل الخلفاء يتوارثونه ويتبركون به. وأما الخز فإنه لباس الأشراف ومن له عز فمن لا عز له في الإسلام يمنع من الثياب المرتفعة اقتداء بالخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شيء كالزنار يلف حول الوسط.
2 فقد مدحه زهير بقصيدته "بانت سعاد" تراجع في سيرة ابن هشام بشرحنا ط دار الجيل بيروت.

 

ص -183-   فصل: لون مايلبسون
وأما لون ما يلبسون من الغيار فإنهم يلبسون الرمادي الأدكن وهذا غيار الطوائف كلها والنصارى يختصون بالرمادي لقولهم في الكتاب ونشد الزنانير على أوساطنا وهو المنطقة المذكورة في اللفظ الآخر فإن الزنانير مناطق النصارى ولا يكفي شدها تحت ثيابهم بل لا تكون إلا ظاهرة بادية فوق الثياب.
قال الشافعي: ويكفيهم أن يغيروا ثوبا واحدا من جملة ما يلبسون.
وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي: إذا دخلوا الحمام علقوا في رقابهم الأجراس"1" ليعرف أنهم من أهل الذمة.
قال أبو القاسم: فأما الأصفر من اللون فإنهم يمنعون من لباسه إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه وكذلك الخلفاء بعده عثمان وغيره وكان زي الأنصار وبه كانوا يشهدون المجالس والمحافل وهو زيهم إلى اليوم إذا دخلوا على الخلفاء فلا يتشبهون برسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وصحابته فيمنعون من لبسه ولا يمكنون.
قلت: هذا موضع يحتاج إلى بيان وتفصيل.
وهو أن لباس أهل الذمة الذي يتميزون به عن المسلمين نوعان: الأول نوع منعوا منه لشرفه وعلوه فهذا لا يختلف باختلاف العوائد، والثاني نوع منعوا منه ليتميزوا به عن المسلمين فإذا هجره المسلمون وصار من شعار الكفار لم يمنعوا منه فمن ذلك لباس الأصفر والأزرق لما صار من شعارهم فوق الرؤوس والمسلمون لا يلبسونه لم يمنع منه أهل الذمة فإن المقصود بالغيار ما يميزهم به عن المسلمين بحيث يعرفون أنهم من أهل الذمة والذلة.
وقد تقدم حديث خالد بن عرفطة قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمصار أن تجز نواصيهم يعني النصارى ولا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ماأبعد هذا عن سماحة الإسلام ولم يفعل بأهل الذمة شيء من ذلك في أي عصور الإسلام الزاهية.

 

ص -184-   فصل: الذمية إذا خرجت
قال أبو القاسم الطبري: وأما المرأة إذا خرجت فيكون أحد خفيها أحمر حتى يعرف بأنها ذمية.
وقد روى هشام بن الغاز عن مكحول وسليمان بن موسى أن عمر كتب إلى أهل الشام امنعوا نساءهم أن يدخلن مع نسائكم الحمامات.
وقال: احمد بن حنبل: أكره أن تطلع أهل الذمة على عورات المسلمين.
قال أبو القاسم: وهذا صحيح إن نساء أهل الذمة لسن بثقات على شيء من أمور المسلمين فلا يؤمن الفساد
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباشر المرأة فتنعتها"1" لزوجها حتى كأنه ينظر إليها
يعني فيفضي ذلك إلى وصف الذمية المسلمة لزوجها الذمي حتى كأنه يشاهدها فكره أحمد لهذا المعنى.
قال: وقد رويت كراهته عن عبد الله بن بشر وهو من أعلى التابعين من أهل الشام.
ثم ساق من طريق عيسى بن يونس عن أبي إسحاق عن هشام بن الغاز أن عبد الله بن بشر كره أن تقبل النصرانية وأن ترى عورتها.
قلت: أحمد احتج بقوله تعالى:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}. إلى أن قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}. فخص نساء المسلمات بجواز إبداء الزينة لهن دون الكوافر. ثم ذكر أحمد هذا الأثر فعنده في إحدى الروايتين أن المسلمة مع الكافرة كالأختين اللتين تنظران ما تدعو إليه الحاجة والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي لا توصف عورتها وما استتر منها.

 

ص -185-           فصل: قالوا: "ولا نتكلم بكلامهم"
هذا الشرط في أهل الكتاب الذي لغتهم غير لغة العرب كنصارى الشام والجزيرة إذ ذاك وغيرهما من البلاد دون نصارى العرب الذين لم تكن لغتهم غير العربية.
فمنعهم عمر من التكلم بكلام العرب لئلا يتشبهوا بهم في كلامهم كما منعوا من التشبه بهم في زيهم ولباسهم ومراكبهم وهيئات شعورهم فألزمهم التكلم بلسانهم ليعرفوا حين التكلم أنهم كفار فيكون هذا من كمال التميز مع ما في ذلك من تعظيم كلام العرب ولغتهم حيث لم يسلط عليها الأنجاس والأخابث بذلونها ويتكلمون بها.
كيف وقد أنزل الله بها أشرف كتبه ومدحه بلسان عربي؟! وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: "لسان أهل الجنة عربي".
فصان أمير المؤمنين هذا اللسان عن أهل الجحيم وغار عليه أن يتكلموا به.
وهذا من كمال تعظيمه للإسلام والقرآن والعرب الذين نزل القرآن بلغتهم وبعث الله ورسوله من أنفسهم مع ما في تمكينهم من التكلم بها من المفاسد التي منها جدلهم فيها واستطالتهم على المسلمين كما سبق أن وقع لابن البيع لما حذق في العربية وكان مجوسيا فطفق يغمص الإسلام وأهله.
ثم لما خالف المسلمين أظهر الإسلام.
كالصابىء الكاتب الذي علا المسلمين في كتابته وترسله ثم هجا العرب في قصيدة له مشهورة ومدح عباد الكواكب من الصابئة والمجوس. ونظائرهما كثير.
فلو لم يكن في تعلم الكفار العربية إلا هذه المفسدة وحدها لكان ينبغي أن يمنعوا منها لأجلها.

ص -186-   فصل: قالوا: "ولا ننقش خواتيمنا بالعربية"
وهذا يحتمل أمورا أحدها أن يريد منعهم السبيل إلى الكتابة بالعربية بحال حتى في نقش الخواتيم فلا يستعلون على المسلمين.
وثالثها أنهم ربما توصلوا بذلك إلى مفاسد يعود ضررها على المسلمين.
ورابعها أن في ذلك تشبها بالمسلمين في نقش خواتيمهم، وقد روى أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينقش الرجل على خاتمه عربيا، وحمل هذا النهي على نقش مثل نقشه يعني وهو الذي نقش على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم وهو "محمد رسول الله" نهى أن ينقش عربيا.
وقد يقال: إن ذلك من باب سد الذريعة حتى يصان ذلك النقش عن المحاكاة فنهى عن النقش بالعربية مطلقا.
ولهذا نظائر في الشريعة لمن تأملها.

فصل: قالوا: "ولا نتكنى بكناهم"
وهذا لأن الكنية وضعت تعظيما وتكريما للمكنى بها كما قال: 

أكنيه حين أناديه لأكرمه     ولا ألقبه والسوأة اللقبا"1"

وأيضا ففي تكنيهم بكنى المسلمين اشتباه بالكنية والمقصود التمييز حتى في الهيئة والمركب واللباس.
فإن قيل: فما تقولون في جواز تسميهم بأسماء المسلمين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله وعبدالرحمن وما أشبهها؟ قيل: هذا موضع فيه تفصيل.
فنقول: الأسماء ثلاثة أقسام:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكنية ما يدئت بأب كأبى بكر أو أم كأم الخير واللقب ماأشعر بمدح أو ذم.

 

ص -187-   قسم يختص المسلمين.
قسم يختص الكفار.
قسم مشترك.
فالأول: كمحمد وأحمد وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فهذا النوع لا يمكنون من التسمي به والمنع منه أولى من المنع من التكني بكناية المسلمين فصيانة هذه الأسماء عن أخابث خلق الله أمر جسيم.
والثاني: كجرجس وبطرس ويوحنا ومتى ونحوها فلا يمنعون منه ولا يجوز للمسلمين أن يتسموا بذلك لما فيه من المشابهة فيما يختصون به.
والنوع الثالث: كيحيى وعيسى وأيوب وداود وسليمان وزيد وعمر وعبد الله وعطية وموهوب وسلام ونحوها فهذا لا يمنع منه أهل الذمة ولا المسلمون.
فإن قيل: فكيف تمنعونهم من التسمي بأسماء المسلمين وتمكنونهم من التسمية بأسماء الأنبياء كيحيى وعيسى وداود وسليمان وإبراهيم ويوسف ويعقوب؟
قيل: لأن هذه الأسماء قد كثر اشتراكها بين المسلمين والكفار بخلاف أسماء الصحابة واسم نبينا صلى الله عليه وسلم فإنها مختصة فلا يمكن أهل الذمة من التسمي بها.
وقد قال الخلال في الجامع: باب في أهل الذمة يكنون:
أخبرني حرب قال: قلت لأحمد أهل الذمة يكنون قال: نعم لا بأس.
وذكر أن عمر بن الخطاب قد كنى.
أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق بن إبراهيم حدثهم قال: رأيت أبا عبد الله كنى نصرانيا طبيبا قال: يا أبا إسحاق ثم أخرج إلي فيه بابا.
أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم حدثنا إسحاق بن منصور أنه قال: لأبي عبد الله يكره أن يكنى غير المسلم فقال: أليس النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على سعد بن عبادة قال: ما ترى ما يقول أبو الحباب"1"؟
أخبرني محمد بن أبي هارون أن أبا الحارث حدثهم قال: سألت أبا عبد الله أيكنى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد عبدالله بن أبى ابن سلول المنافق.

 

ص -188-   الذمي؟ قال: نعم قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأسقف نجران أسلم يا أبا الحارث.
أخبرني أحمد بن محمد بن مطر وزكريا بن يحيى قال:ا ثنا أبو طالب أنه سأل أبا عبد الله يكني الرجل أهل الذمة؟ قال: قد كنى النبي صلى الله عليه وسلم أسقف نجران وعمر رضي الله عنه قال: يا أبا حسان إن كنى أرجو أنه لا بأس بت.
أخبرني محمد بن علي حدثنا مهنا قال: سألت أحمد هل يصلح تكني اليهودي والنصراني فحدثني أحمد عن أبن عيينة عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لنصراني؟ أسلم يا أبا حسان أسلم تسلم.
قلت: ومدار هذا الباب وغيره مما تقدم على المصلحة الراجحة فإن كان في كنيته تمكينه من اللباس وترك الغيار والسلام عليه أيضا ونحو ذلك تأليفا له ورجاء إسلامه وإسلام غيره كان فعله أولى كما يعطيه من مال الله لتألفه على الإسلام فتألفه بذلك أولى.
وقد ذكر وكيع عن ابن عباس أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: "سلام عليك".
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تأليفهم الناس على الإسلام بكل طريق تبين له حقيقة الأمر وعلم أن كثيرا من هذه الأحكام التي ذكرناها من الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة"1"
ولهذا لم يغيرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر رضي الله عنه وغيرهم عمر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم قال: لأسقف نجران أسلم يا أبا الحارث تأليفا له واستدعاء لإسلامه لا تعظيما له وتوقيرا"2"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا هو الصحيح.
2 وراجع للمؤلف زاد المعاد في هدي خير العباد - من تحقبقنا.

فصل: لا يخاطب الذمي بسيدنا ونحوه
وأما أن يخاطب بسيدنا ومولانا ونحو ذلك فحرام قطعا.

 

ص -189-   وفي الحديث المرفوع: "لا تقولوا للمنافق سيدنا فإن يكن سيدكم فقد أغضبتم ربكم".
وأما تلقيبهم بمعز الدولة وعضد الدولة ونحو ذلك فلا يجوز كما أنه لا يجوز أن يسمى سديدا ولا رشيدا ولا مؤيدا ولا صالحا ونحو ذلك ومن تسمى بشيء من هذه الأسماء لم يجز للمسلم أن يدعوه به بل إن كان نصرانيا قال: يا مسيحي يا صليبي ويقال: لليهودي يا إسرائيلي يا يهودي.
وأما اليوم فقد وفقنا إلى زمان يصدرون في المجالس ويقام لهم وتقبل أيديهم ويتحكمون في أرزاق الجند والأموال السلطانية ويكنون بأبي العلاء وأبي الفضل وأبي الطيب ويسمون حسنا وحسينا وعثمان وعليا.
وقد كانت أسماؤهم من قبل يوحنا ومتى وحنينا وجرجس وبطرس ومار جرجس ومارقس ونحو ذلك.
وأسماء اليهود عزرا وأشعيا ويوشع وحزقيل وإسرائيل وسعيج وحيي ومشكم ومرقس وسموأل ونحو ذلك ولكل زمان دولة ورجال"1".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا كله كرد فعل من أحد المسلمين لما كان يلقاه المسلمون من أهل الذمة أيامها أما ما إذا التزم أهل الذمة جادة الحق فلهم كل حقوقهم لا عدوان ولاظلم.

فصل: ومما يتعلق بهذا الفصل كيف يكتب إليهم
قال: الخلال باب كيف عنوان الكتاب وكيف يصدر إليهم.
أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم أن إسحاق بن منصور حدثهم أنه قال: لأبي عبد الله كيف يكتب الرجل إلى أهل الكتاب فقال: لا أدري كيف أقول الساعة ثم عاودته فسكت فقلت حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين كتب إلى قيصر قال: عمن هو قلت حديث الزهري قال: نعم يكتب السلام على من اتبع الهدى.
وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله كيف أكتب إلى اليهودي والنصراني سلام عليك أو سلام على من اتبع الهدى؟ قال: سلام على من اتبع الهدى يذله.

 

ص -190-   وقال الأثرم: أن أبا عبد الله قيل له يكتب إلى النصراني أبقاك الله وحفظك ووفقك قال: لا.
وقال حرب: قلت لإسحاق الرجل يقول للمشرك إنه رجل عاقل قال: لا ينبغي أن يقال: لهم لأنهم ليست لهم عقول.
وذكر وكيع عن سفيان عن منصور قال: سألت إبراهيم ومجاهد كيف يكتب إلى أهل الذمة فقال: مجاهد سلام على من اتبع الهدى.
وقال إبراهيم:سلام عليك.
وقال: وكيع عن سفيان عن عمار الدهني عن رجل عن كريب عن ابن عباس أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب سلام عليك.
قلت:إن ثبت هذا عن ابن عباس وهو راوي حديث أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر:
"سلام على من اتبع الهدى" فلعله ظن أن ذلك مكاتبة أهل الحرب ومن ليس له ذمة.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تبدؤوهم بالسلام" وهذا لما ذهب إليهم ليحاربهم وهم يهود قريطه فأمر ألا يبدؤوا بالسلام لأنه أمان وهو قد ذهب لحربهم.
سمعت شييخنا يقول ذلك ولكن في الحديث الصحيح:
"لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا سلم عليكم أحمدهم فقولوا: وعليكم".
وقد تقدمت هذه المسألة.
وإذا كتب إلى الذمي بدأ بنفسه قبله فيقول: "من فلان إلى فلان".
وله أن يعظمه بالنسبة إلى قومه فيقول: كبير قومه ورئيسهم وله أن يدعو له بالهداية فقد كانت اليهود تتعاطس عند النبي صلى الله عليه وسلم ليقول لأحدهم: "يرحمك الله" فكان يقول:
"يهديكم الله".

 

ص -191-   فصل: قالوا: "ونوقر المسلمين في مجالسهم ونقوم لهم عن المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم ونرشدهم الطريق"
هذه أربعة أمور:
أحدها: توقير المسلمين في مجالسهم والتوقير التعظيم والاحتشام لهم ولا يمكرون عليهم بمكر ولا يدخلون عليهم بغير استئذان ولا يفعلون بين أيديهم ما يخل بالوقار والأدب ويحيونهم بتحية أمثالهم ولا يمدون أرجلهم بحضرتهم ولا يرفعون أصواتهم بين أيديهم ونحو ذلك.
الثاني قولهم: "ونقوم لهم عن المجالس" أي إذا دخلوا ونحن في مجلس قمنا لهم عنه وأجلسناهم فيه فيكون لهم صدره ولنا أدناه.
وهذا يعم المجالس المشتركة والمتخصه بهم فإذا دخلوا عليهم دورهم وكنائسهم قاموا لهم عن مجالسهم وأجلسوهم فيها.
الثالث قولهم: "ولا نطلع ليهم في منازلهم".
هذا صريح في أنهم لا يعلون عليهم في المسكن سواء كان من بنيانهم أو بنيان غيرهم فلا يمكنون من سكنى دار عالية على المسلمين لأن ذلك ذريعة إلى اطلاعهم عليهم وهذا الذي ندين الله به ولا نعتقد غيره أنهم لا يمكنون من السكنى على رؤوس المسلمين بحال.
وقد تقدمت المسألة مستوفاة وبينا أن المفسدة في نفس المسلمين لقصور فيهم لا في نفس البناء.
الرابع قولهم: "ونرشدهم الطريق" أي إذا استدل مسلم على الطريق أرشدناه إلى النحو الذي يقصده ويريده.
وهذا يتناول الإرشاد بنصب الأعلام وبالدلالة وبإرسال من يدل المسلم على الطريق بحسب الحاجة إلى الإرشاد.

 

ص -192-   فصل: صيانة القرآن أن يحفظه من ليس من أهله
قالوا: "ولا نعلم أولادنا القرآن" صيانة للقرآن أن يحفظه من ليس من أهله ولا يؤمن به بل هو كافر به فهذا ليس أهل أن يحفظه ولا يمكن منه.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم فلهذا ينبغي أن يصان عن تلقينهم إياه.
فإن طلب أحد منهم أن يسمعه منهم فإن له أن يسمعه إياه إقامة للحجة عليهم ولعله أن يسلم.

الفصل الرابع: معاملتهم للمسلمين في الشركة وأمثالها
فصل: قالوا: "ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة"
وهذا لأن الذمي لا يتوقى مما يتوقى منه المسلم من العقود المحرمة والباطلة ولا يرون بيع الخمر والخنزير.
وقد قال إسحاق بن إبراهيم: سمعت أبا عبد الله وسئل عن الرجل يشارك اليهودي والنصراني? قال: يشاركهم ولكن هو يلي البيع والشراء وذلك أنهم يأكلون الربا ويستحلون الأموال.
ثم قال أبو عبد الله:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}"1" وقال: إبراهيم بن هانىء سمعت أبا عبد الله قال: في شركة اليهودي والنصراني أكرهه لا يعجبني إلا أن يكون المسلم الذي يلي البيع والشراء.
وقال أبو طالب والأثرم واللفظ له سألت أبا عبد الله عن شركة اليهودي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما أجمل ما بأمرنا بت ديننا حتى مع المخالفين
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.

 

ص -193-   والنصراني فقال: شاركهم ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه ويكون هو يليه لإنهم يعملون بالربا.
وقال إسحاق بن منصور: قلت لأبي عبد الله قيل لسفيان ما ترى في مشاركة اليهودي والنصراني? قال: أما ما تغيب عنك فما يعجبني!
قال أحمد: حسن. وذكر عبد الله بن أحمد حدثني عبد الأعلى حدثنا حماد بن سلمة قال: قال إياس بن معاوية إذا شارك المسلم اليهودي أو النصراني فكانت الدراهم مع المسلم فهو الذي يتصرف فيها في الشراء والبيع فلا بأس ولا يدفعها إلى اليهودي والنصراني يعملان فيها لأنهما يربيان. قال: فسألت أبي عن ذلك فقال: مثل قول إياس.
وقال: في رواية العباس بن محمد بن موسى الخلال في المسلم يدفع إلى الذمي مالا يشاركه قال: أما إذا كان هو يلي ذلك فلا إلا أن يكون المسلم يليه.
وقال في رواية حنبل: ما أحب مخالطته بسبب من الأسباب في الشراء والبيع يعني المجوسي.
وقال عبد الله: بن حنبل حدثني أبي سألت عمي قلت له ترى للرجل أن يشارك اليهودي والنصراني? قال: لا بأس إلا أنه لا تكن المعاملة في البيع والشراء إليه يشرف على ذلك ولا يدعه حتى يعلم معاملته وبيعه. فأما المجوسي فلا أحب مخالطته ولا معاملته لأنه يستحل ما لا يستحل هذا.
وكذلك قال في رواية حرب: لا يشاركه إلا أن يكون المسلم هو الذي يلي البيع والشراء. وروى حرب عن عطاء مرسلا قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون البيع والشراء بيد المسلم.
وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة وإنما ذكرناها ليتم الكلام على شرح كتاب عمر رضي الله عنه لمن أراد أن يفرده من جملة الكتاب وبالله التوفيق.

 

ص -194-   الفصل الخامس: أحكام ضيافهتم للمارة بهم وما يتعلق بذلك
فصل: قالوا: "وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد"
هكذا في كتاب الشروط "ثلاثة أيام".
وقال يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن أسلم: كتب عمر إلى أمراء الجزيرة أن لا تضربوا جزية على النساء والصبيان وجزية أهل الشام وأهل الجزيرة أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق وأن يضيفوا من نزل بهم من المسلمين ثلاثا.
والأصل في ذلك من السنة ما رواه أبو عبيد في كتاب الأموال: حدثني أبو أيوب الدمشقي قال: حدثني سعدان بن يحيى عن عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح الهذلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران فكتب لهم كتابا نسخته:
"بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد رسول الله صالح أهل نجران إذ كان له حكمه عليهم أن في كل سوداء وبيضاء وصفراء وحمراء وثمرة ورقيق وأفضل عليهم وترك ذلك لهم ألفي حلة في كل صفر ألف حلة وفي كل رجب ألف حلة كل حلة أوقية ما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي فليحسب وما قضوا من ركاب أو خيل أو دروع أخذ منهم بحساب وعلى أهل نجران مقرى رسلي عشرين ليلة".
قال أبو عبيد: قوله "كل حلة أوقية" يقول: ثمنها أوقية. وقوله فما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي يعني بالخراج العلل يقول إن نقصت من الألفين أو زادت في العدد أخذت بقيمة الألفي الأوقية فكأن الخراج إنما وقع على الأواقي وجعلها حللا لأنه أسهل عليهم".
فهذا هو الأصل في وجوب الضيافة على أهل الذمة سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه.
وفي ذلك مصلحة لأغنياء المسلمين وفقرائهم.
أما الأغنياء فإنه إذا لم يكن على أهل الذمة ضيافتهم فربما إذا دخلوا بلادهم لا

 

ص -195-   يبيعونهم الطعام ويقصدون الإضرار بهم فإذا كانت عليهم ضيافتهم تسارعوا إلى منافعهم خوفا من أن ينزلوا عليهم للضيافة فيأكلون بلا عوض.
وأما مصلحة الفقراء فهو ما يحصل لهم من الارتفاق"1" فلما كان في ذلك مصلحة لعموم المسلمين جاز اشتراطه على أهل الذمة.
قال: الخلال في الجامع باب في الضيافة التي شرطت عليهم
أخبرني محمد بن علي حدثنا مهنا أنه سأل أبا عبد الله عن حديث ابن أبي ليلى جعل عمر رضي الله عنه على أهل السواد وعلى أهل الجزية يوما وليلة.
قال: قلت لأحمد ما يوم وليلة قال: يضيفونهم.
وقال حمدان بن علي: قلت لأحمد: عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل على أهل السواد وأهل الجزية يوما وليلة فكنا إذا تولينا عليهم قالوا: شبا شبا قلت لأحمد ما يوم وليلة قال: يضيفونهم قلت ما قولهم شبا شبا قال: هو بالفارسية ليلة وليلة.
وقال عبد الله بن أحمد حدثني أبي قال: حدثني وكيع ثنا هشام عن قتادة عن الحسن عن الأحنف بن قيس أن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته.
قال: وحدثنا أبي حدثنا وكيع عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أن عمر رضي الله عنه اشترط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة فإن حبسهم مطر أو مرض فيومين فإن مكثوا أكثر من ذلك أنفقوا من أموالهم ويكلفون ما يطيقون.
قال القاضي في الأحكام السلطانية وإذا صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام من يمر بهم من المسلمين قدرت عليهم وأخذوا بها ثلاثة أيام لا يزادون عليها كما صالح عمر نصارى الشام على ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون لا يكلفونهم ذبح شاة ولا دجاجة وتبن دوابهم من غير شعير وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن.
قال: وقد روي عن أحمد كلام يدل على أن الذي شرط عليهم يوم وليلة، ثم ذكر قول حمدان بن علي لأحمد وقد تقدم آنفا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الارتفاق يعنى الانتفاع.

 

ص -196-   ثم ذكر حديث الأحنف ابن قيس عن عمر وقد ذكرناه.
قال القاضي: وكذلك الضيافة في حق المسلمين الواجب يوم وليلة.
قال احمد في رواية حنبل: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو دين له قلت له كم مقدار ما يقدر له؟ قال: يمونون"1" في الثلاثة أيام التي قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. واليوم والليلة هو حق واجب
فقد بين ان المستحب ثلاثة أيام والواجب يوم وليلة.
وقال: في رواية حنبل وصالح الضيافة ثلاثة أيام وجائز يوم وليلة فكانت جائزته أوكد من الثلاثة.
قال: وقد روى الخلال ما دل على الاستحباب والإيجاب فروى بإسناده عن المقدام أبي كريمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليلة الضيف حق واجب فإذا اصبح في فنائه فهو دين عليه إن شاء اقتضاه الدين وإن شاء ترك" يعني إذا لم يضف.
وبإسناده عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة ولا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه"2 قال: يا رسول الله كيف يؤثمه؟ قال: "يقيم عنده وليس عنده ما يقريه".
فحديث أبي كريمة يدل على وجوب اليوم والليلة وحديث أبي شريح يدل على استحباب الثلاث.
فالضيافة في حق الكفار والمسلمين واجبة على كلا الحديثين لكنهما يختلفان في قدر الوجوب والاستحباب ويختلفان في حكمين آخرين:
أحدهما: أنها في حق المسلمين تجب ابتداء بالشرع وفي حق الكفار تجب بالشرط.
والثاني: أنها في حق المسلمين تعم أهل القرى والأمصار وفي حق الكفار تختص بأهل القرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي يعطونه مؤنته.
2 أي حتى يوقعه في الإثم بكراهية ضيافته.

 

ص -197-   قال أحمد في رواية أبي الحارث الضيافة تجب على كل مسلم من كان من أهل الأمصار وغيرهم من المسلمين.
وقال في موضع آخر تجب الضيافة على المسلمين كلهم من نزل به ضيف عليه أن يضيفه.
والفرق بينهما أن عمر رضي الله عنه شرط ذلك على أهل القرى والأخبار الواردة في حق المسلمين عامة لقوله:
"ليلة الضيف حق واجب" وفي لفظ آخر: "الضيافة ثلاثة أيام".
وتجب الضيافة على المسلم للمسلمين والكفار لعموم الخبر وقد نص عليه أحمد في رواية حنبل وقد سأل إن أضاف الرجل ضيف من أهل الكفر يضيفه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم" فدل على أن المسلم والمشرك يضافان.
والضيافة معناها معنى صدقة التطوع على المسلم والكافر. وهذا لفظ أحمد فقد احتج بعموم الخبر وأنه يعم المسلم والكافر.
وإذا نزل به الضيف ولم يضفه كان دينا على المضاف نص عليه في رواية حنبل.
فقال: إذا نزل القوم فلم يضافوا فإن شاء طلبه وإن شاء ترك قال: له فكم مقدار ما يقدر له قال: ما يمونه في الثلاثة الأيام واليوم والليلة حق واجب قال: له فإن لم يضيفوه ترى له أن يأخذ من أموالهم بمقدار ما يضيفه قال: لا يأخذ إلا بعلم أهله وله أن يطالبهم بحقه.
فقد نص على أن له المطالبة بذلك.
وهذا يدل على ثبوته في ذمته لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي كريمة:
"فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء يترك" ومنع من أن يأخذ من مال من يجب عليه الضيافة بغير إذنه إلا بعلم أهله إذ من كان له على رجل حق وامتنع من أدائه وقدر له على حق لم يجز له أن يأخذ بغير إذنه انتهى.
فأما قوله: "إن اليوم والليلة حق واجب والثلاثة مستحبة" فهذا صحيح في حق المسلمين.

 

ص -198-   وأما في حق أهل الذمة فلا يمكن أن يقال: ذلك فإن الثلاثة إن كانت مشروطة عليهم فهي حق لازم عليهم القيام به للمسلمين وإن لم تكن مشروطة عليهم لم يجز للمسلمين تناول ما زاد على اليوم والليلة إلا برضاهم.
وحينئذ لا فرق بين الثلاثة وما زاد عليها.
وعمر رضي الله عنه لم يشرط على طائفة معينة بل شرط على نصارى الشام والجزيرة وغيرهما ففي شرطه على نصارى الشام والجزيرة ضيافة ثلاثة أيام ليسارهم وإطاقتهم ذلك.
وأما نصارى السواد"1" فشرط عليهم يوما وليلة لأن حالهم كان دون حال نصارى الشام والجزيرة
فكان عمر رضي الله عنه يراعي في ذلك حال أهل الكتاب كما كان يراعي حالهم في الجزية وفي الخراج فبعضهم شرطها عليهم يوما وليلة وبعضهم شرطها عليهم ثلاثا.
وأما قوله: "إنهم إذا لم يقوموا بما عليهم وقدر لهم على مال لم يأخذه بناء على مسألة الظفر"2 فليس كذلك والسنة قد فرقت بين هذا وبين مسألة الظفر التي لا يجوز الأخذ بها. إن سبب الحق ههنا ظاهر فلا ينسب الآخذ إلى جناية لظهور حقه بخلاف ما إذا لم يكن ظاهرا.
ولهذا أفتى النبي صلى الله عليه وسلم هندا بأن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها وولدها بالمعروف كما جوز للضيف أن يأخذ مثل قراه إذا لم يضف فجاءت السنة بالأخذ في هذين الموضعين وجاءت بالمنع لمن سأله إن لنا جيرانا لا يدعون لنا سادة ولا قادة إلا أخذوها أفنأخذ من أموالهم الحديث فقال:
"أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". فمنع ههنا وأطلق هناك.
وكان الفرق بينهما من وجهين :
أحدهما: ما ذكرناه من ظهور سبب الحق لتعذر الأخذ وخفائه، فينسب إلى الجناية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد سواد العراق: مابين البصرة والكوفة وما حولها من القرى.
2 مسألة اختلف فيها الفقهاء وهي إذا وجدت عين مالك عند غريمك هل لك أخذه بغير إذنه.

 

ص -199-   الثاني: أن سبب الحق يتحدد في مسألة النفقة والضيافة قياسا فتمتنع الدعوى فيه كل وقت والرفع إلى الحاكم وإقامة البينة بخلاف مالا ينكر سببه.
إذا عرف هذا فعمر رضي الله عنه لم يشترط قدر الطعام والإدام والعلف فلا يشترط ذلك وإنما يرجع فيه إلى عادة كل قوم وعرفهم وما لا يشق عليهم.
فلا يجوز للضيف أن يكلفهم اللحم والدجاج وليس ذلك غالب قوتهم بل يجب عليه أن يقبل ما يبذلونه من طعامهم المعتاد.
كما أوجب الله سبحانه الإطعام في الكفارة من أوسط ما يطعم المكفر أهله من غير تقدير.
وكما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم النفقة على الزوجة والمملوك بالعرف من غير تقدير فهذه سنته وسنة خلفائه في هذا الباب وبالله التوفيق.
وهذا الضيافة قدر زائد على الجزية ولا تلزمهم إلا بالشرط ويكفي شرط عمر رضي الله عنه على ممر الأزمان سواء شرطه عليهم من بعده من الأئمة أو لم يشرطه لأن شرطه سنة مستمرة ولهذا عمل به الأئمة بعده.
واحتج الفقهاء بالشروط العمرية وأوجبوا اتباعها. هذا هو الصحيح.
كما أن شرطه عليهم في الجزية مستمر وإن لم يجدده عليهم إمام الوقت وكذلك عقد الذمة لمن بلغ من أولادهم وإن لم يعقد لهم الإمام الذمة.
قال الشافعي: وتقسم الضيافة على عدد أهل الذمة وعلى حسب الجزية التي شرطها فيقسم ذلك بينهم على السواء. وإن كان فيهم الموسر والمتوسط والمقل قسطت الضيافة على ذلك.
قال الشافعي: ويذكر ما يعلف به الدواب من التبن والشعير وغير ذلك.
قال: ويشترط عليهم أن ينزلوا في فضول منازلهم وكنائسهم ما يكنون فيه من الحر والبرد منها إذ الضيف محتاج إلى موضع يسكن فيه ويأوي إليه ما يحتاج إلى طعام يأكله.

 

ص -200-   فصل: أحول من ينزل بأهل الذمة
ومن نزل بهم لم يخل من ثلاثة أحوال: الأول إما أن ينزل بهم وهو مريض، الثاني أو ينزل بهم وهو صحيح الثالث أو ينزل بهم وهو صحيح فيمرض. فإن نزل بهم وهو مريض فبرىء فيما دون الثلاث فهذا يجري مجرى الضيف وكما يجب عليهم إطعام الضيف وخدمته يجب عليهم القيام على المريض ومصالحه فإنه أحوج إلى الخدمة والتعاهد من الصحيح. فإن زاد مرضه على ثلاثة أيام وله ما ينفق على نفسه لم يلزمهم القيام بنفقته ولكن تلزمهم معونته وخدمته وشراء ما يحتاج إليه من ماله وإن لم يكن له ما ينفق على نفسه لزمهم القيام عليه إلى أن يبرأ أو يموت. فإن أهملوه وضيعوه حتى مات ضمنوه.
هذا مذهب عمر.
وإليه ذهب الإمام أحمد فإنه روى عن عمر أن رجلا مر بقوم فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات فغرمهم عمر ديته.
قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: أتذهب إليه؟ فقال إي والله! وإن نزل بهم صحيحا ورحل كذلك فضيافته يوما حق واجب وما زاد على الثلاث لا يلزمهم القيام به.
وما بين اليوم والليلة والثلاثة فهو الذي اختلفت فيه الشروط العمرية كما تقدم.
والصحيح أنه بحسب حال القوم في اليسار وعدمه وكثرة المارة وقلتهم والله أعلم.
وحكم المحظور والمقطوع عليه الطريق حكم المريض فيما ذكرناه.

 

 

ص -201-   الفصل السادس
فصل: قولهم: "وأن من ضرب مسلما فقد خلع عهده"

وهذا لأن عقد الذمة اقتضى أن يكونوا تحت الذلة والقهر وأن يكون المسلمون هم الغالبين عليهم فإذا ضربوا المسلمين كان هذا الفعل مناقضا لعهد الذمة الذي عاهدناهم عليه.
وهذا أحد الشرطين اللذين زادهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وألحقهما بالشروط.
فإن عبدالرحمن بن غنم لما كتب إلى عمر بن الخطاب بكتاب الشروط قال: "أمض لهم ما سألوه وألحق فيه حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم ألا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده". فأقر بذلك من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط.

فصل: من زنى بمسلمة منهم
وإذا شرط عليهم أمير المؤمنين "أنه من ضرب مسلما فقد خلع عهده" فمن زنى بمسلمة فهو أولى بنقض العهد وقد نص عليه الإمام أحمد.
قال الخلال: "باب ذمي فجر بمسلمة": أخبرني حرب قال: سمعت أحمد يقول إذا زنى الذمي بمسلمة قتل الذمي ويقام عليها الحد.
قال حرب: هكذا وجدته في كتابي. أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر قال:ا حدثنا أبو الحارث أنه سأل أبا عبد الله قال: قلت: نصراني استكره مسلمة على نفسها؟ قال: ليس على هذا صولحوا يقتل! قلت: فإن طاوعته على الفجور؟ قال: يقتل ويقام عليها الحد وإذا استكرهها فليس عليها شيء.
أخبرنا عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله قال: في ذمي فجر

 

ص -202-   بامرأة مسلمة قال: يقتل ليس على هذا صولحوا قيل له: فالمرأة؟ قال: إن كانت طاوعته أقيم عليها الحد وإن كان استكرهها فلا شيء عليها. وكذلك قال: في رواية الفضل بن زياد ويعقوب بن بختان سواء.
قال الخلال: وأخبرني أحمد بن محمد بن مطر حدثنا أبو طالب أن أبا عبد الله قيل له فإن زنى اليهودي بمسلمة قال: يقتل عمر رضي الله عنه أتي بيهودي نخس بمسلمة ثم غشيها فقتله فالزنى أشد من نقض العهد.
وسألته عن عبد نصراني زنى بمسلمة قال: يقتل أيضا قلت وإن كان عبدا قال: نعم.
أخبرني محمد بن الحسن أن الفضل بن عبدالصمد حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن مجوسي فجر بمسلمة قال: يقتل، هذا قد نقض العهد قلت فإن كان من أهل الكتاب قال: يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة.
أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر قال:ا حدثنا أبو الحارث أن أبا عبد الله قال: قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد قيل له ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه.
أخبرنا محمد بن علي حدثنا مهنا قال: سألت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامرأة مسلمة ما يصنع به؟ قال: يقتل فأعدت عليه قال: يقتل قلت إن الناس يقولون غير هذا قال: كيف يقولون؟ قلت: يقولون عليه الحد قال: لا ولكن يقتل قلت له في هذا شيء؟ قال: نعم عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتله قلت: من يرويه؟ قال: خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك أن رجلا فحش بامرأة فتحللها فأمر به عمر فقتل وصلب قلت من ذكره؟ قال: إسماعيل بن علية.
حدثنا أبو بكر المروذي حدثنا سليمان بن داود حدثنا حماد بن زيد حدثنا مجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة أن رجلا من أهل الذمة فحش بامرأة من المسلمين من الشام وهي على حمار فألقى نفسه عليها فرآه عوف بن مالك فضربه فشجه فانطلق إلى عمر يشكو عوفا فأتى عوف عمر فحدثه فأرسل إلى المرأة فسألها فصدقت عوفا فقال: أخوتها قد شهدت أختنا فأمر به عمر رضي الله عنه فصلب. قال:

 

ص -203-   وكان أول مصلوب في الإسلام! ثم قال: عمر رضي الله عنه: "أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تظلموهم فمن فعل فلا ذمة له"1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا هو القول الحق لاظلم ولا انتهاك لحرمة.

فصل:  إذا زنى ثم أسلم
إذا ثبت هذا فإنه يقتل وإن أسلم: نص عليه أحمد في رواية جماعة. قال الخلال: أخبرني عصمة بن عصام حدثنا حنبل وأخبرني جعفر ابن محمد أن يعقوب بن بختان حدثهم وأخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم وأخبرني بن عبدالوهاب حدثنا إبراهيم بن هانىء كل هؤلاء سمع أحمد بن حنبل وسئل عن ذمي فجر بمسلمة قال: يقتل قيل فإن أسلم؟ قال: يقتل هذا قد وجب عليه والمعنى واحد في كلامهم كله انتهى.
وهذا هو القياس لأن قتله حد"1" وهو قد وجب عليه. ومعنى إقامته فلا يسقط بالإسلام لا سيما إذا أسلم بعد أخذه والقدرة عليه.
وسنعود إلى هذه المسألة عن قرب إن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما يقتل بالرجم المسلم المحصن إذا زنى حدا.

فصل: إذا ما خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه
قالوا: "ضمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق"
هذا اللفظ صريح في أنهم متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء.
قال شيخنا: وهذا هو القياس الجلي فإن الدم مباح بدون العهد والعهد عقد من

 

ص -204-   العقود فإذا لم يف أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فإما أن ينفسخ العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه هذا أصل مقرر في عقد البيع والنكاح والهبة وغيرهما من العقود.
والحكمة فيه ظاهرة فإنه إنما التزم ما التزمه بشرط أن يلتزم الآخر بما التزمه فإذا لم يلتزم له الآخر صار هذا غير ملتزم.
فإن الحكم المعلق بالشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء.
وإنما اختلفوا في ثبوت مثله.
إذا تبين هذا فإن كان المعقود عليه حقا للعاقد بحيث له أن يبذله بدون الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط بل له أن يفسخه كما إذا شرط رهنا أو كفيلا أو صفة في البيع وإن كان حقا له أو لغيره ممن يتصرف له بالولاية ونحوها لم يجز له إمضاء العقد بل ينفسخ العقد بفوات الشرط ويجب عليه فسخه كما إذا شرط أن تكون الزوجة حرة فظهرت أمة وهو ممن لا يحل له نكاح الإماء أو شرطت أن يكون الزوج مسلما فبان كافرا أو شرط أن تكون الزوجة مسلمة فبانت وثنية. وعقد الذمة ليس هو حقا للإمام بل هو حق لله ولعامة المسلمين فإذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم فقد قيل يجب على الإمام أن يفسخ العقد وفسخه أن يلحقه بمأمنه ويخرجه من دار الإسلام ظنا أن العقد لا ينفسخ بمجرد المخالفة بل يجب فسخه. قال: وهذا ضعيف لأن الشروط إذا كانت حقا لله لا للعاقد انفسخ العقد بفواته من غير فسخ.
وهذه الشروط على أهل الذمة حق لله لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويمكنهم من المقام بدار الإسلام إلا إذا التزموها وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن.
قلت: واختلف العلماء فيما ينتقض به العهد وما لا ينتقض.
وفي هذه الشروط هل يجري حكمها عليهم وإن لم يشترطها إمام الوقت اكتفاء بشرط عمر رضي الله عنه أو لا بد من اشتراط الإمام لها.
في حكمهم إذا انتقض عهدهم فهذه ثلاث مسائل:

 

ص -205-   مسألة: فيما ينقض العهد وما لا ينقضه
ونحن نذكر مذاهب الأئمة وما قاله: أتباعهم في ذلك:
ذكر قول الإمام أحمد وأصحابه:
قد ذكرنا نصوصه في انتقاض العهد بالزنى بالمسلمة.
ذكر قوله في انتقاض العهد بسب النبي صلى الله عليه وسلم:
قال الخلال باب فيمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم أخبرني عصمة بن عصام قال: حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو انتقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل.
أخبرني زكريا بن يحيى حدثنا أبو طالب أن أبا عبد الله سئل عن شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقتل قد نقض العهد.
ثم ذكر من طريق حنبل وعبد الله حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا حصين عمن حدثه عن ابن عمر أنه مر به راهب فقيل له هذا يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ابن عمر لو سمعته لقتلته أنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه وسلم. قال حنبل: وسمعت أبا عبد الله يقول كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد والذمة.
ثم ذكر الخلال الآثار عن الصحابة في قتله.
ثم قال: أخبرني محمد بن علي أن أبا الصقر حدثهم قال: سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه وسلم ماذا عليه قال: إذا قامت البينه عليه يقتل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا.
أخبرني حرب قال: سألت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يقتل.

 

ص -206-   باب: فيمن تكلم في شئ من ذكر الرب تبارك وتعالي
قال الخلال: "باب فيمن تكلم في شيء من ذكر الرب تبارك وتعالى يريد تكذيبا أو غيره".
أخبرني عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله قال: كل من ذكر شيئا يعرض به بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا قال: وهذا مذهب أهل المدينة.
أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال: له كذبت فقال: يقتل لأنه شتم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخنا: وأقوال أحمد كلها نص في وجوب قتله وفي أنه قد نقض العهد وليس عنه في هذا اختلاف
وكذلك ذكر عامة أصحابه متقدمهم ومتأخرهم لم يختلفوا في ذلك.
إلا أن القاضي في المجرد ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركها وفيها ضرر على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال وهي الإعانة على قتال المسلمين وقتل المسلم والمسلمة وقطع الطريق عليهم وأن يؤوي على المسلمين جاسوسا وأن يعين عليهم بدلالة مثل أن يكاتب المشركين بأخبار المسلمين وأن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح وأن يفتن مسلما عن دينه.
قال: فعليه الكف عن هذا شرط أو لم يشرط فإن خالف انتقض عهده.
وذكر نصوص أحمد في نقضها مثل نصه في الزنى بمسلمة وفي التجسس للمشركين وقتل المسلم وإن كان عبدا كما ذكر الخرقي ثم ذكر نصه في قذف المسلم على أنه لا ينتقض عهده بل يحد حد القذف.
قال: فتخرج المسألة على روايتين.
ثم قال: وفي معنى هذه الأشياء ذكره الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي قال: فهذه أربعة أشياء الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ليس ذكرها شرطا في

 

ص -207-   صحة العقد فإن أتوا واحدة منها نقضوا الأمان سواء كان مشروطا في العهد أو لم يكن.
وكذلك قال: في التعليق بعد أن ذكر أن المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال والأقوال.
قال: وفيه رواية أخرى لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية وجري أحكامنا عليهم، ثم ذكر نص أحمد على أن الذمي إذا قذف المسلم يضرب.
قال: فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه.
وتبع القاضي جماعة من أصحابه ومن بعدهم كالشريف"1" أبي جعفر وأبي الخطاب وابن عقيل والحلواني فذكروا أنه لا خلاف أنهم إذا امتنعوا من أداء الجزية والتزام أحكام الملة انتقض عهدهم.
وذكروا في جميع هذه الأفعال والأقوال التي فيها الضرر على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال أو فيها غضاضة على المسلمين في دينهم مثل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه روايتين:
إحداهما: ينتقض العهد.
والأخرى لا ينتقض عهده ويقام فيه الحد مع أنهم كلهم متفقون على أن المذهب انتقاض العهد بذلك.
ثم إن القاضي والأكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الأمور المضرة الناقضة مع أن الرواية المخرجة إنما خرجت من نصه في القذف.
وأما أبو الخطاب ومن تبعه فإنهم نقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف كما نقلوا حكم القذف إليها حتى حكوا في انتقاض العهد بالقذف روايتين.
ثم إن هؤلاء كلهم وسائر الأصحاب ذكروا مسألة سب النبي صلى الله عليه وسلم في موضع آخر وذكروا أن سابه يقتل وإن كان ذميا وأن عهده ينتقض وذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب. إلا أن الحلواني قال: ويحتمل ألأ يقتل من سب الله ورسوله إذا كان ذميا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقصد الشريف أبا جعفر.

 

ص -208-   فصل: طريق أخرى في نواقض العهد
وسلك القاضي أبو الحسين طريقا ثالثة في نواقض العهد فقال: أما الثمانية التي فيها ضرر على المسلمين وآحادهم في مال أو نفس فإنها تنقض العهد في أصح الروايتين.
وأما ما فيه إدخال غضاضة ونقص على الإسلام وهو ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي فإنه ينقض العهد نص عليه ولم يخرج في هذا رواية أخرى كما ذكر أولئك.
وهذا أقرب من تلك الطريقة وعلى الرواية التي تقول لا ينتقض العهد بذلك فإنما ذلك إذا لم يكن مشروطا عليهم في العهد.
فأما إن كان مشروطا ففيه وجهان: أحدهما ينتقض قاله: الخرقي.
قال أبو الحسن الآمدي وهو الصحيح في كل ما شرط عليهم تركه فصحح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم. والثاني لا ينتقض قاله: القاضي وغيره.
قال شيخنا: وهاتان الطريقتان ضعيفتان والذي عليه عامة المتقدمين ومن تبعهم من المتأخرين إقرار نصوص أحمد على حالها وهو قد نص في مسائل سب الله ورسوله على انتقاض العهد في غير موضع وعلى أنه يقتل. وكذلك فيمن جسس على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده وقتله في غير موضع وكذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلما أو قطع الطريق.
وقد نص أحمد على أن قذف المسلم وسحره لا يكون نقضا للعهد في غير موضع وهذا هو الواجب وهو تقرير المذهب لأن تخريج حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى وجعل الروايتين في الموضعين مسألتين لوجود الفرق بينهما نصا واستدلالا ولوجود معنى يجوز أن يكون مستندا للفرق غير جائز ولم يخرج التخريج.

 

ص -209-   قلت: لفظ القاضي في التعليق مسألة إذا امتنع الذمي من بذل الجزية ومن جريان أحكامنا عليهم صار ناقضا للعهد.
وكذلك إذا فعل ما يجب عليه تركه والكف عنه مما فيه ضرر على المسلمين وآحادهم في مال أو نفس وهي ثمانية أشياء: الاجتماع على قتال المسلمين، وألا يزني بمسلمة، ولا يصيبها باسم نكاح، ولا يفتن مسلما عن دينه، ولا يقطع عليه الطريق، ولا يؤوي للمشركين عينا، ولا يعاون على المسلمين بدلالة أعني لا يكاتب المشركين بأخبار المسلمين - ولا يقتل مسلما.
وكذلك إذا فعل ما فيه إدخال غضاضة ونقص على الإسلام.
وهي أربعة أشياء:
ذكر الله، وكتابه، ودينه، ورسوله بما لا ينبغي سواء شرط عليهم الإمام أنهم متى فعلوا ذلك كان نقضا لعهدهم أو لم يشرط في أصح الروايتين: نص عليها في مواضع.
فقال في رواية أحمد بن سعيد في الذمي يمنع الجزية إن كان واجدا أكره عليها وأخذت منه وإن لم يعطها ضربت عنقه.
وفي رواية أبي الحارث في نصراني استكره مسلمة على نفسها يقتل ليس على هذا صولحوا فإن طاوعته قتل وعليها الحد.
وفي رواية حنبل: كل من ذكر شيئا يعرض به للرب عز وجل فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وكذلك نقل عنه جعفر بن محمد في يهودي سمع المؤذن يؤذن فقال: كذبت يقتل لأنه شتم.
وفي رواية أبي طالب في يهودي شتم النبي صلى الله عليه وسلم يقتل قد نقض العهد.
وإن زنى بمسلمة يقتل: أتي عمر بيهودي فحش بمسلمة ثم غشيها فقتله.
وقال الخرقي في الذمي إذا قتل عبدا مسلما ينتقض عهده قال القاضي: وفيه رواية أخرى لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من بذل الجزية وجري أحكامنا عليهم.
وقال في رواية يوسف بن موسى الموصلي في المشرك إذا قذف مسلما يضرب، وكذلك نقل الميموني في الرجل من أهل الكتاب يقذف العبد المسلم ينكل به يضرب ما يرى الحاكم وكذلك نقل عنه عبد الله في نصراني قذف مسلما عليه الحد.

 

ص -210-   قال: وظاهر هذا أنه لم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلمين مع ما فيه من إدخال الضرر عليه بهتك عرضه انتهى.
فتأمل هذه النصوص وتأمل تخريجه لها فأحمد لم يختلف قوله في انتقاض العهد بسب الله ورسوله والزنى بمسلمة ولم يختلف نصه في عدم الانتقاض بقذف المسلم.
فإلحاق مسبة الله ورسوله بمسبة آحاد المسلمين من أفسد الإلحاق وتخريج عدم النقض به من نصه على عدم النقض بسب أحاد المسلمين من أفسد التخريج وأين الضرر والمفسدة من هذا النوع إلى المفسدة من النوع الآخر!؟
وإذا كان المسلم يقتل بسب الله ورسوله والزنى مع الإحصان ولا يقتل بالقذف فكذلك الذمي.
فالذي نص عليه الإمام أحمد في الموضعين هو محض الفقه والتخريج باطل نصا وقياسا واعتبارا. واشتراك الصور كلها في إدخال الضرر على المسلم لا يوجب تساويها في مقدار الضرب وكيفيته.
فالمسلم إذا فعل ذلك فقد أدخل الضرر أيضا مع التفاوت في الأحكام ثم يقال: يا لله العجب أين ضرر المجاهرة بسب الله ورسوله وكلامه ودينه على رؤوس الملأ وقهر المسلمات وإن كن شريفات على الزنى إلى ضرر منع دينار يجب عليه من الجزية!
وكذلك أين ضرر تحريقه لمساجد المسلمين والمنابر إلى ضرر منعه لدينار وجب عليه فكيف يقتضي الفقه أن يقال: ينتقض عهده بمنع الدينار دون هذه الأمور وأين ضرر امتناعه من قبول حكم الحاكم إلى ضرر مجاهرته بسب الله ورسوله وما معه؟ وطريقة أبي البركات في المحرر في تحصيل المذهب في ذلك أصح طرق الأصحاب على الإطلاق.
قال: وإذا لحق الذمي بدار الحرب متوطنا أو امتنع من إعطاء ما عليه أو التزام أحكام الملة أو قاتل المسلمين انتقض عهده وإن قذف مسلما أو آذاه بسحر في تصرفاته لم ينتقض عهده نص عليه في رواية جماعة.
وقيل: ينتقض. وإن فتنه عن دينه أو قتله أو قطع عليه الطريق أو زنى بمسلمة،

 

ص -211-   أو تجسس للكفار أو آوى لهم جاسوسا أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء انتقض عهده نص عليه.
وقيل: فيه روايتان بناء على نصه في القذف والأصح التفرقة. وإذا أظهر منكرا أو رفع صوته بكتابه أو ركب الخيل ونحوه عزر ولم ينتقض عهده وقيل إن شرط عليه تركه وإلا فلا.

فصل: مذهب الإمام الشافعي فى هذه المسألة
وأما مذهب الشافعي رحمه الله تعالى فقد قال: في الأم وإذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب وذكر الشروط إلى أن قال:
وعلى أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكر به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما أعطي من الأمان وحل لأمير المؤمنين ماله ودمه كما تحل أموال أهل الحرب ودماؤهم.
وعلى أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده وأحل دمه وماله.
وإن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم.
ثم قال: "فهذه الشروط لازمة له إن رضيها فيها فإن لم يرضها فلا عقد له ولا جزية".
ثم قال: وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا.
وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل أحدا أو قصاصا فيقتل بحد إو قصاص لا بنقض عهد.
وإن فعل ما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم لكنه قال: "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص والحد.

 

ص -212-   فأما ما دون هذا من الفعل والقول فكل قول يعاقب عليه ولا يقتل.
قال: فإن فعل أو قال ما وصفنا وشرط أن يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول أسلم أو أعطي الجزية قتل وأخذ ماله فيئا.
ونص في الأم أيضا أن العهد لا ينتقض بقطع الطريق ولا بقتل المسلم ولا بالزنى بالمسلمة ولا بالتجسس بل يحد فيما فيه الحد ويعاقب عقوبة منكلة فيما فيه العقوبة ولا يقتل إلا بأنه يجب عليه القتل.
قال: ولا يكون النقض للعهد إلا بمنع الجزية أو الحكم بعد الإقرار والامتناع بذلك.
ولو قال: أؤدي الجزية ولا أقر بالحكم نبذ إليه ولم يقاتل على ذلك مكانه وقيل له قد تقدم لك أمان بأدائك للجزية وإقرارك بها وقد أجلناك في أن تخرج من بلاد الإسلام.
ثم إذا خرج مبلغ مأمنه قتل إن قدر عليه هذا لفظه.
وحكى ابن المنذر والخطابي عن الشافعي أيضا أن عهده ينتقض بسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقتل.
وأما أصحابه فذكروا فيما إذا ذكر الله أو رسوله بسوء وجهين:
أحدهما: ينتقض عهده بذلك سواء شرط عليه تركه أو لم يشترط كما إذا قاتلوا المسلمين أو امتنعوا من التزام الحكم كطريقة أبي الحسين من أصحابنا وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي.
ومنهم من خص سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بأنه يوجب القتل.
والثاني: أن السب كالأفعال التي على المسلمين فيها ضرر من قتل المسلم والزنى بالمسلمة والجس وما ذكر معه.
وذكروا في تلك الأمور وجهين:
أحدهما: أنه إن لم يشرط عليهم تركها بأعيانها لم ينتقض العهد بفعلها وإن شرط عليهم تركها بأعيانها ففي انتقاض العهد بذلك وجهان.

 

ص -213-   والثاني: لا ينتقض العهد بفعلها مطلقا.
ومنهم من حكى هذه الوجوه أقوالا وهي أقوال مشار إليها فيجوز أن تسمى أقوالا ووجوها.
هذه طريقة العراقيين.
وقد صرحوا بأن المراد شرط تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها كما ذكره أصحاب أحمد.
وأما الخراسانيون فقالوا: المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها.
قالوا: إن الشرط موجب نفس العقد وذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة أوجه:
أحدها: ينتقض العهد بفعلها.
والثاني: لا ينتقض.
والثالث: إن شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض وإلا فلا.
ومنهم من قال: إن شرط نقض وجها واحدا وإن لم يشرط فوجهان.
وحسبوا أن مراد العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا: حكاية عنهم وإن لم يجر شرط لم ينتقض العهد وإن جرى فوجهان.
ويلزم من هذا أن يكون العراقيون قائلين بأنه إن لم يجر شر ط الانتقاض بهذه الأشياء لم ينتقض بها قولا واحدا وإن صرح بشرط تركها انتقض. وهذا غلط عليهم.
والذي نصروه في كتب الخلاف أن سب النبي صلى الله عليه وسلم ينقض العهد ويوجب القتل كما ذكرناه عن الشافعي نفسه.

فصل: رأي الإمام مالك في هذا الموضوع
وأما مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى فقالوا: ينتقض العهد بالقتال أو منع

 

ص -214-   الجزية أو التمرد على الأحكام أو إكراه المسلمة على الزنى أو التطلع على عورات المسلمين.
قالوا: ومن نقض عهده وجب قتله ولم يسقط بإسلامه.
قالوا: ومن سب منهم أحدا من الأنبياء وجب قتله إلا أن يسلم.
وأما قطع الطريق والسرقة ونحوهما فحكمه فيها حكم المسلمين يقام عليه فيه الحد كما يقام على المسلمين وليس ذلك من باب نقض العهد.
قالوا: وأما رفع أصواتهم بكتابهم وركوب السروج وترك الغيار وإظهار معتقدهم في عيسى ونحو ذلك مما لا ضرر فيه على المسلمين فإنما يوجب التأديب لا القتل.
قالوا: وإذا ظهر نقض العهد من بعضهم فإن أنكر عليه الباقون وظهر منهم كراهية ذلك اختص النقض به
وإن ظهر رضاهم بذلك كان نقضا من جميعهم فعلامة بقائهم على العهد إنكارهم على من نقض عهده.

فصل: رأي الإمام أبي حنيفة فيه أيضا
وأما أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى فقالوا: لا ينتقض العهد إلا بأن يكون لهم منعه فيمتنعون من الإمام ويمنعون الجزية ولا يمكنه إجراء الأحكام عليهم.
فأما إذا امتنع الواحد منهم عن أداء الجزية أو فعل شيئا من هذه الأشياء التي فيها ضرر على المسلمين أو غضاضة على الإسلام لم يصر ناقضا للعهد.
لكن من أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل والتلوط وسب الذمي لله ورسوله وكتابه ونحو ذلك إذا تكرر فعلى الإمام أن يقتل فاعله تعزيرا"1".
وله أن يزيد على الحد المقدر فيه إذا رأى المصلحة في ذلك"2" ويحملون ما جاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أى تأديبا.
2 ذلك أن التعزير عادة يكون أقل من الحد وحد السكران وهو أقل الحدود بالنسبة إلى العبد أربعون جلدة فلا بد وأن ينقص هذا في التعزير ولو جلدة واحدة على الأقل أما من يوجبون في التعزير أكثر من الحد فلهم القتل كما ذكر المؤلف.

 

ص -215-   عن النبي صلى الله عليه وسلم من القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأى المصلحة في ذلك ويسمونه القتل سياسة.
وكان حاصله أن للإمام أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تغلطت بالتكرار وشرع القتل في جنسها ولهذا أفتى أكثر أصحابهم بقتل من أكثر من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة وإن أسلم بعد أخذه. وقالوا: يقتل سياسة وهذا متوجه على أصولهم.
قال القاضي في التعليق والدلالة على أن نقض العهد يحصل بهذه الأشياء وإن لم يشترطه في عقد الذمة أن الإمام يقتضي الكف عن الإضرار وفي هذه الأشياء إضرار فيجب أن ينتقض العهد بفعلها.
كما لو شرط ذلك في عقد الأمان. قال: ولأن عقد الذمة عقد أمان فانتقض بالمخالفة من غير شرط كالهدنة.
قلت: واحتج غيره من الأصحاب بوجوه أخر سوى ما ذكره منها قوله تعالى:
{اتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. فلا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطاء الجزية.
والمراد بإعطاء الجزية من حين بذلها أو التزامها إلى حين تسليمها وإقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكف عنهم إلى أن نقبضها منهم فمتى لم يلتزموها أو التزموها وامتنعوا من تسليمها لم يكونوا معطين لها فليس المراد أن يكونوا صاغرين حال تناول الجزية منهم فقط ويفارقهم الصغار فيما عدا هذا الوقت هذا باطل قطعا.
وإذا علم هذا فمن جاهرنا بسب الله ورسوله وإكراه حريمنا على الزنى وتحريق جوامعنا ودورنا ورفع الصليب فوق رؤوسنا فليس معه من الصغار شيء فيجب قتاله بنص الآية حتى يصير صاغرا.
فإن قيل: فالمأمور به القتال إلى هذه الغاية فمن أين لكم القتل المقدور عليه؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن كل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه.

 

ص -216-   الثاني: أنا إذا كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها ولو عقد لهم كان عقدا فاسدا.
الثالث: أن الأصل إباحة دمائهم يمسك عصمتها الحبلان.
حبل من الله بالأمر بالكف عنهم.
وحبل من الناس بالعهد والعقد ولم يوجد واحد من الحبلين.
أما حبل الله سبحانه فإنه إنما اقتضى الأمر بالكف عنهم إذا كانوا صاغرين فمتى لم يوجد وصف الصغار المقتضي للكف منهم وعنهم فالقتل المقدور عليه منهم والقتال للطائفة الممتنعة واجب.
وأما حبل الناس فلم يعاهدهم الإمام والمسلمون إلا على الكف عما فيه إدخال ضرر على المسلمين وغضاضة في الإسلام فإذا لم يوجد فلا عهد لهم من الإمام ولا من الله وهذا ظاهر لا خفاء به.

فصل: في قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ....} الخ
قوله تعالى:
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} فنفى الله أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم إلا قوما ذكرهم فجعل لهم عهدا ما داموا مستقيمين لنا.
فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيما.
ومعلوم أن مجاهرتنا بتلك الأمور تقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالاستقامة فيها.
بل مجاهرتنا بسب ربنا ونبينا وكتابنا وإحراق مساجدنا ودورنا أشد علينا من مجاهرتنا بالمحاربة إن كنا مؤمنين.

 

ص -217-   فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا، ولايجهر بين أظهرنا بشيء من أذى الله ورسوله. فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا مع القدح في أهون الأمرين فكيف يستقيمون لنا مع القدح في أعظمهما؟
يوضح ذلك قوله تعالى:
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً}. أي كيف يكون لهم عهد ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم وبينهم ولا العهد.
فعلم أن من كانت حالته أنه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا وبينه من العهد لم يكن له عهد.
ومن جاهرنا بالطعن في ديننا وسب ربنا ونبينا كان ذلك من أعظم الأدلة على أنه لو ظهر علينا لم يرقب العهد الذي بيننا وبينه فإنه إذا كان هذا فعله مع وجود العهد والذلة فكيف يكون مع القدرة والدولة؟
وهذا بخلاف من لم يظهر لنا شيئا من ذلك فإنه يجوز أن يفي لنا بالعهد ولو ظهر.
فإن قيل: فالآية إنما هي في أهل الهدنة المقيمين في دارهم.
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن لفظها أعم.
والثاني: أنها إذا كان معناها في أهل الذمة المقيمين بدارهم فثبوته في أهل الذمة المقيمين بدارنا أولى وأحرى.

فصل: فى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} إلخ
قوله تعالى:
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}. فأمر سبحانه بقتال من نكث يمينه أي عهده الذي عاهدنا عليه من الكف عن أذانا والطعن في ديننا وجعل علة قتاله ذلك.

 

ص -218-   وعطف الطعن في الدين على نكث بالعهد.
وخصه بالذكر بيانا أنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال ولهذا تغلظ على صاحبه العقوبة.
وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين ويمسك عن غيره.
فإن قيل: فالآية تدل على أن من نقض عهده وطعن في الدين فإنه يقاتل فمن أين لكم أن من طعن في الدين ولم ينقض العهد لم يقاتل ومعلوم أن الحكم المعلق بوصفين لا يثبت إلا بوجود أحدهما.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا من باب تعليق الحكم بالوصفين المتلازمين الذي لا ينفك احدهما عن الآخر فمتى تحقق أحدهما تحقق الآخر وهذا كقوله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} وكقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}. وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا}. ونظائره كثيرة جدا.
فلا يتصور بقاؤه على العهد مع الطعن في ديننا بل إمكان بقائه على العهد دينا أقرب من بقائه على العهد مع المجاهرة بالطعن في الدين بل إن أمكن بقاؤه على العهد مع المجاهرة بالطعن في الدين وسنة الله ورسوله أمكن بقاؤه عليه مع المحاربة باليد ومنع إعطاء الجزية وهذا واضح لا خفاء به.
الجواب الثاني: أنه لا بد ان يكون لكل صفة من هاتين الصفتين ما يبين في الحكم وإلا فالوصف العديم التأثير لا يتعلق به الحكم فلا يصح أن يقال: من أكل وزنى حد ثم قد تكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت كما يقال: يقتل هذا لأنه زان مرتد.
وقد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع ولكل وصف تأثير في البعض كما قال تعالى:
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}.

 

ص -219-   وقد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال فيذكر ايضاحا وبيانا للموجب.
وقد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}.
وهذه الآية من أي الأقسام فرضت كانت دليلا لأن أقصى ما يقال: أن نقض العهد هو المبيح للقتال والطعن في الدين مؤكد له موجب له.
فنقول: إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه فلأن يوجب قتل من بيننا وبينه ذمة وهو ملتزم للصغار أولى فإن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه والذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل.
الجواب الثالث: أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة ولو تجرد عن الطعن في الدين وضرره أشد من ضرر الطعن في الدين علينا فإذا كان أيسر الأمرين مقتضيا للمقاتلة فكيف بأشدهما؟
الجواب الرابع: أن الذمي إذا سب الله والرسول أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا ولا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك بما يردعه وينكل به فعلم أنه لم يعاهدنا عليه إذ لو كان معاهدا عليه لم تجز عقوبته عليه كما لا يعاقب على شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك وإذا كنا عاهدناه على ألا يطعن في ديننا ثم طعن فقد نكث يمينه من بعد عهده فيجب قتله بنص الآية.
قال شيخنا: وهذه دلالة ظاهر جدا لأن المنازع سلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه.
لكنه يقول: "ليس كل ما منع منه ينقض عهده كإظهار الخمر والخنزير".
ولكن الفرق بين من وجد منه فعل ما منع منه العهد مما لا يضر بنا ضررا بينا كترك الغيار مثلا وشرب الخمر وإظهار الخنزير وبين من وجد منه فعل ما منع منه العهد مما فيه غاية الضرر بالمسلمين وبالدين فإلحاق أحدهما بالآخر باطل.
يوضح ذلك: أن النكث هو مخالفة العهد.

 

ص -220-   فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل وهو نقض قواه ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى لكن قد يبقى من قواه ما يتمسك به الحبل وقد يهن بالكلية.
وهذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا وقد تشعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما أن فقد بعض الشروط في البيع والنكاح وغيرهما قد يبطله بالكلية وقد يبيح الفسخ والإمساك.
وأما من قال: "ينتقض العهد بجميع المخالفات" فظاهر على قول قاله: القاضي في "التعليق".
واحتج القاضي بأنهم لو أظهروا منكرا في دار الإسلام مثل إحداث البيع والكنائس في في دار الإسلام ورفع الأصوات بكتبهم والضرب بالنواقيس وإطالة البناء على أبنية المسلمين وإظهار الخمر والخنزير.
وكذلك ما أخذ عليهم تركه من التشبه بالمسلمين في ملبوسهم ومركوبهم وشعورهم وكناهم.
قال: والجواب أن من أصحابنا من جعله ناقضا للعهد بهذه الأشياء وهو ظاهر كلام الخرقي فإنه قال: ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه عاد حربيا فعلى هذا لا نسلم.
وإن سلمناه فلما تبين فيها أنه لا ضرر على المسلمين فيها وإنما نهوا عن فعلها لما في إظهارها من المنكر وليس كذلك في ملتنا لأن في فعلها ضررا بالمسلمين فبان الفرق انتهى كلامه.
قال شيخنا: فعلى التقديرين فقد اقتضى العقد ألا يظهروا شيئا من عيب ديننا وأنهم متى أظهروه فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا ومعنى ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص.

 

ص -221-   فصل: دليل اخر من الاية السابقة
وفي الآية دليل من وجه آخر وهو قوله تعالى:
{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وهم الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في ديننا ولكن أقام الظاهر مقام المضمر"1" بينهما على الوصف الذي استحقوا به المقاتلة كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}. ونظائره.
فدل على أن من نكث يمينه وطعن في ديننا فهو من أئمة الكفر وإمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه.
وإنما صار إماما في الكفر لأجل الطعن وإلا فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك.
وهذا ظاهر: فإن الطاعن في الدين يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه وهذا شأن الإمام.
فإذا طعن الذمي في الدين كان إماما في الكفر فيجب قتاله.
وقوله:
{إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} علة أخرى لقتاله.
فأما على قراءة الكسر"2" فتكون الآية قد تضمنت ذكر المقتضي للقتال وهو نكث العهد والطعن في الدين وبيان عدم المانع من القتال وهو الإيمان العاصم.
وأما على قراءة فتح الألف فالأيمان جمع يمين وهي أحسن القراءتين لأنه قد تقدم في أول الآية قوله:
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}. فأخبر سبحانه عن سبب القتال وهو نكث الأيمان والطعن في الدين ثم أخبر أنه لا أيمان لهم تعصمهم من القتل لأنهم قد نكثوها.
والمراد بالأيمان هنا العهود لا القسم بالله فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية وإنما عاهدهم ونسخة الكتاب محفوظة ليس فيها قسم.
وهذا لأن كلا من المتعاهدين يمد يمينه إلى الآخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي يقل فقاتلوهم باستعمال ضمير النصب المتصل بل ذكر الظاهر قائلا أئمة الكفر.
2 أي كسر "إيمان" مصدر امن - وهى قراءة الإمام ابن عامر - أما بالفتح "أيمان" فيكون جمع يمين

 

ص -222-   ثم صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا وإن لم يحصل فيه مد اليمين. وقد قيل: سمي العهد يمينا لأن اليمين هي القوة والشدة كما قال تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} ولما كان الحلف معقودا مشدودا سمي
يمينا فاسم اليمين جامع للعهد الذي بين العبد وبين ربه وإن كان نذرا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "النذر حلفة" وللعهد الذي بين المخلوقين.
ومنه قوله تعالى
{وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
فالنهي عن نقض العهود وإن لم يكن فيها قسم وقال تعالى:
{وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وإن لم يكن هناك قسم.
ومنه قوله تعالى:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}. معناه: تتعاهدون وتتعاقدون به.
والمقصود أن كل من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدا يقتضي يقتضي ألا يفعل ذلك فهو إمام في الكفر لا يمين له فيجب قتله بنص الآية.
وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الناكث الذي ليس بإمام في الكفر وهو من خالف بفعل شيء مما صولح عليه.

فصل: في قوله تعالي: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}
قوله تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} فجعل همهم بإخراج الرسول موجبا لقتالهم لما فيه من الأذى له.
ومعلوم قطعا أن سبه أعظم أذى له من مجرد إخراجه من بلده ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عام الفتح عن الذين هموا بإخراجه ولم يعف عمن سبه.
فالذمي إذا أظهر سبه صلى الله عليه وسلم فقد نكث عهده وفعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدأ بالأذى فيجب قتاله.

 

ص -223-   فصل: في قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ...} إلخ
قوله تعالى:
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ  وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.
فأمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين ورتب على ذلك أشياء تعذيبهم بأذى المؤمنين وخزيهم والنصرة عليهم وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم وتوبته على غيرهم.
والتقدير: إن تقاتلوهم يحصل هذا، وإذا كانت هذه الأمور مرتبة على قتال الناكث والطاعن في الدين وهي أمور مطلوبة كان سببها المقتضي لها مطلوبا للشارع وهو القتال.
وإذا كانت هذه الأمور مطلوبة حاصلة بالقتال لم يجز تعطيل القتال الذي هو سببها مع قيام المقتضي له من جهة من يقاتله وهو النكث والطعن في الدين.
فشفاء الصدور الحاصل من ألم النكث والطعن وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك مقصود للشارع مطلوب الحصول.
ولا ريب أن من أظهر سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر من سفك دماء بعضهم وأخذ أموالهم فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله، وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظ أكثر منه.
بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا لله ورسوله.
والله سبحانه يحب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم.
وهذا إنما يحصل بقتل السباب لأوجه.
أحدها: أن تعزيره وتأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم احدا من المسلمين فلو أذهب التعزير والتأديب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من سب نبيهم مثل غيظهم من سب واحد منهم وهذا باطل قطعا.
الثاني: أن شتمه أعظم عندهم من أن يسفك دماء بعضهم بعضا ثم لو قتل

 

ص -224-   واحد منهم لم يشف صدورهم إلا قتله فأن لا تشفي صدورهم إلا بقتل الساب أولى وأحرى.
الثالث: أن الله جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء والأصل عدم سبب آخر يحصله فيجب أن يكون القتل هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا.
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خزاعة وهم القوم المؤمنون من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس.
فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا أو طعنوا لما فعل ذلك مع أمانه الناس.

فصل: في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ...} إلخ
قوله سبحانه:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}. ذكر سبحانه هذه الآية عقيب قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}. فجعلهم مؤذين له بقولهم "هو أذن".
ثم قال:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فجعلهم بهذا محادين.
ومعلوم قطعا أن من أظهر مسبة الله ورسوله والطعن في دينه أعظم محادة له ولرسوله.
وإذا ثبت أنه محاد فقد قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} والأذل أبلغ من الذليل.
ولا يكون أذل حتى يخاف على نفسه وماله لأن من كان دمه وماله معصوما لا يستباح فليس بأذل.

 

ص -225-   يدل عليه قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}.
فبين سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد.
فعلم أن من له عهد وحبل يأمن به على نفسه وماله لا ذلة عليه وإن كانت عليه المسكنة فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة.
وقد جعل سبحانه الحادين في الأذلين فلا يكون لهم عهد إذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الآية وهذا ظاهر فإن الأذل ليس له قوة يمتنع بها ممن أراده بسوء فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره ومنعه فليس بأذل.
فثبت أن المحاد لله ورسوله لا يكون له عهد يعصمه.

فصل: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا..} إلخ
قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. والكبت الإذلال والخزي والتصريع على الوجه.
قال النضر وابن قتيبة: هو الغيظ والحزن.
وقال اهل التفسير: كبتوا: أهلكوا وأخزوا وحزنوا وإذا كان المحاد مكبوتا فلو كان آمنا على نفسه وماله لم يكن مكبوتا بل مسرورا جذلا يشفي صدره من الله ورسوله آمنا على دمه وماله فأين الكبت إذن.
ويدل عليه قوله تعالى:
{كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. فخوفهم بكبت نظير كبت من قبلهم وهو الإهلاك من عنده أو بأيدي عباده وأوليائه.
وقوله:
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} عقيب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. دليل على أن المحادة مغالبة ومعاداة حتى يكون أحد المحادين غالبا وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم.
فعلم أن المحاد ليس بمسالم فلا يكون له أمان مع المحادة.

 

ص -226-   وقد جرت سنة الله سبحانه أن الغلبة لرسله بالحجة والقهر فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه ومن لم يؤمر بالحرب أهلك عدوه.
يوضحه أن المحادة مشاقة لأنها من الحد والفصل والبينونة وكذلك المشاقة من الشق وكذلك المعاداة من العدوة وهي الجانب يكون أحد العدوين في شق وجانب وحد وعدوه الآخر في غيرها.
والمعنى في ذلك كله معنى المقاطعة والمفاصلة وذلك لا يكون إلا مع انقطاع الحبل الذي بيننا وبين أهل العهد لا يكون مع اتصال الحبل أبدا.
يوضحه أن الحبل وصلة وسبب فلا يجامع المفاصلة والمباينة. وأيضا فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فقد قال تعالى:
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ  ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. فأمر بضرب أعناقهم وعلل ذلك بمشاقتهم ومحادتهم وكل من فعل ذلك وجب أن يضرب عنقه.
وهذا دليل تاسع في المسألة.
وترتيبه هكذا: هذا مشاق لله ورسوله والمشاق لله ورسوله مستحق ضرب العنق وقد تبينت صحة المقدمتين.
ونظير هذا الاستدلال قوله تعالى:
{وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}. والتعذيب في الدنيا هو القتال والإهلاك.
ثم علل ذلك بالمشاقة وآخر عنهم ذلك التعذيب لما سبق من كتابة الجلاء عليهم.
فمن وجدت منه المشاقة من غيرهم ممن لم يكتب عليه الجلاء استحق عذاب الدنيا الذي أخره عن أولئك وهذا دليل عاشر في المسألة.

 

ص -227-   فصل: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..} إلخ
قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. وهذه الأفعال أذى لله ورسوله قطعا بل أذى الله ورسوله يحصل بدونها. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.
فيجب أن يكون هذا الملعون في الدنيا والآخرة عادم النصير بالكلية فلو كان ماله ودمه معصومين لوجب على المسلمين نصرته وكانوا كلهم أنصاره وهذا مخالفة صريحة لقوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.
يوضحه: الدليل الثاني عشر وهو أن هذا مؤذ لله ورسوله فتزول العصمة عن نفسه وماله لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟" فندب إلى قتله بعد العهد وعلل ذلك بكونه آذى الله ورسوله وستأتي قصته إن شاء الله تعالى.

فصل: في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ...} إلخ
قوله تعالى:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}. فمد قتالهم إلى أن ينتهوا عن أسباب الفتنة وهي الشرك وأخبر أنه لا عدوان إلا على الظالمين.
والمجاهر بالسب والعدوان على الإسلام غير منته فقتاله واجب إذاكان غير مقدور عليه وقتله مع القدرة حتم وهو ظالم فعليه العدوان الذي نفاه عمن انتهى وهو القتل والقتال.
وهذا بحمد الله في غاية الوضوح.

 

ص -228-   فصل: في قوله تعالي: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ..} إلخ
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}.
فأمر سبحانه أن يوفي لهم مالم ينقصونا شيئا مما عاهدناهم عليه ومعلوم أن من فعل تلك الأفعال فقد نقصنا جل ما عاهدناه عليه ما خلا الدينار الذي هو أهون شيء عوهد عليه فهو أولى بفسخ العهد من نقص الدينار ولا كان باذله وقد جاهر بأعظم العداوة !.
يوضحه أن الدينار لم يأخذه منه المسلمون لحاجتهم إليه وقد فتح الله عليهم الدنيا وإنما أخذ منه إذلالا له وقهرا حتى يكون صاغرا فإذا امتنع من بذله لم يكن صاغرا فاستحق القتل.
فإذا أتى ما هو أعظم من منع الدينار مما ينافي الصغار فاستحقاقه للقتل أولى وأحرى وهذا يقرب من المقاطع.