سبل
السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي
كتاب الصلاة
باب المواقيت
الصلاة لغة: الدعاء سميت هذه العبادة الشرعية
باسم الدعاء لاشتمالها عليه والمواقيت جمع
ميقات والمراد به الوقت الذي عينه الله لأداء
هذه العبادة وهو القدر المحدود للفعل من
الزمان
1- (عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "وقت
الظهر إذا زالت الشمس" أي مالت إلى جهة المغرب
وهو الدلوك الذي أراده تعالى: {أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} "وكان ظل
الرجل كطوله" أي ويستمر وقتها حتى يصير ظل كل
شيء مثله فهذا تعريف لأول وقت الظهر وآخره
فقوله وكان عطف على زالت كما قررناه أي ويستمر
وقت الظهر إلى صيرورة ظل الرجل مثله "ما لم
يحضر" "وقت العصر" وحضوره بمصير ظل كل شيء
مثله كما يفيده مفهوم هذا وصريح غيره "ووقت
العصر" يستمر "ما لم تصفر الشمس" وقد عين آخره
في غيره بمصير ظل الشيء مثليه "ووقت صلاة
المغرب" من عند سقوط قرص الشمس ويستمر "ما لم
يغب الشفق الأحمر" وتفسيره بالحمرة سيأتي نصا
"ووقت صلاة العشا"ء من غيبوبة الشفق ويستمر
"إلى نصف الليل الأوسط" المراد به الأول "ووقت
صلاة الصبح" أوله "من طلوع الفجر" ويستمر "ما
لم تطلع الشمس" رواه مسلم تمامه في مسلم "فإذا
طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين
قرني الشيطان" الحديث أفاد تعيين أكثر الأوقات
الخمسة أولا وآخرا فأول الظهر زوال الشمس
وآخره مصير ظل الشيء
(1/106)
مثله وذكر
الرجل في الحديث تمثيلا وإذا صار كذلك فهو أول
العصر ولكنه يشاركه الظهر في قدر يتسع لأربع
ركعات فإنه يكون وقتا لهما كما يفيده حديث
جبريل فإنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم
الظهر في اليوم الأول بعد الزوال وصلى به
العصر عند مصير ظل الشيء مثله وفي اليوم
الثاني صلى به الظهر عند مصير ظل الشيء مثله
في الوقت الذي صلى فيه العصر اليوم الأول فدل
على أن ذلك وقت يشترك فيه الظهر والعصر وهذا
هو الوقت المشترك وفيه خلاف فمن أثبته فحجته
ما سمعته ومن نفاه تأول قوله وصلى به الظهر في
اليوم الثاني حين صار ظل الشيء مثله بأن معناه
فرغ من صلاة الظهر في ذلك الوقت وهو بعيد ثم
يستمر وقت العصر إلى اصفرار الشمس وبعد
الاصفرار ليس بوقت للأداء بل وقت قضاء كما
قاله أبو حنيفة وقيل بل أداء إلى بقية تسع
ركعة لحديث "من أدرك ركعة من العصر قبل أن
تغيب الشمس فقد أدرك العصر" وأول وقت المغرب
إذا وجبت الشمس أي غربت كما ورد عند الشيخين
وغيرهما وفي لفظ: "إذا غربت" وآخره "ما لم يغب
الشفق " وفيه دليل على اتساع وقت الغروب
وعارضه حديث جبريل فإنه صلى به صلى الله عليه
وسلم المغرب في وقت واحد في اليومين وذلك بعد
غروب الشمس والجمع بينهما أنه ليس في حديث
جبريل حصر لوقتهما في ذلك ولأن أحاديث تأخير
المغرب إلى غروب الشفق متأخرة فإنها في
المدينة وإمامة جبريل في مكة فهي زيادة تفضل
الله بها وقيل إن حديث جبريل دال على أنه لا
وقت لها إلا الذي صلى فيه وأول العشاء غيبوبة
الشفق ويستمر إلى نصف الليل وقد ثبت في الحديث
التحديد لآخره بثلث الليل لكن أحاديث النصف
صحيحة فيجب العمل بها وأول وقت صلاة الصبح
طلوع الفجر ويستمر إلى طلوع الشمس فهذا الحديث
الذي في مسلم قد أفاد أول كل وقت من الخمسة
وآخره وفيه دليل على أن لوقت كل صلاة أولا
وآخرا وهل يكون بعد الاصفرار وبعد نصف الليل
وقت لأداء العصر والعشاء أو لا هذا الحديث يدل
على أنه ليس بوقت لهما ولكن حديث من أدرك ركعة
من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر فإنه
يدل على أن بعد الاصفرار وقتا للعصر وإن كان
في لفظ أدرك ما يشعر بأنه إذا كان تراخيه عن
الوقت المعروف لعذر أو نحوه وورد في الفجر
مثله وسيأتي ولم يرد مثله في العشاء ولكنه ورد
في مسلم وليس في النوم تفريط على من لم يصل
الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فإنه دليل
على امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الأخرى
إلا أنه مخصوص بالفجر فإن آخر وقتها طلوع
الشمس وليس بوقت للتي بعدها وبصلاة العشاء فإن
آخره نصف الليل وليس وقتا للتي بعدها وقد قسم
الوقت إلى اختياري واضطراري ولم يقم دليل ناهض
على غير ما سمعت وقد استوفينا الكلام على
المواقيت في رسالة بسيطة سميناها اليواقيت في
المواقيت
2- (وله أي لمسلم من حديث بريدة بضم الموحدة
فراء فمثناة تحتية فدال مهملة فتاء تأنيث هو
أبو عبد الله أو أبو سهل أو أبو الحصيب بريدة
بن الحصيب بضم الحاء المهملة فصاد
(1/107)
مهملة مفتوحة
فمثناة تحتية ساكنة فموحدة الأسلمي أسلم قبل
بدر ولم يشهدها وبايع بيعة الرضوان سكن
المدينة ثم تحول إلى البصرة ثم خرج إلى خراسان
غازيا فمات بمرو زمن يزيد بن معاوية سنة
اثنتين أو ثلاث وستين في العصر أي في بيان
وقتها والشمس بيضاء نقية بالنون والقاف ومثناة
تحتية مشددة أي لم يدخلها شيء من الصفرة
3- ( ومن حديث أبي موسى أي ولمسلم من حديث أبي
موسى وهو عبد الله بن قيس الأشعري أسلم قديما
بمكة وهاجر إلى الحبشة وقيل رجع إلى أرضه ثم
وصل إلى المدينة مع وصول مهاجري الحبشة ولاه
عمر بن الخطاب البصرة بعد عزل المغيرة سنة
عشرين فافتتح أبو موسى الأهواز ولم يزل على
البصرة إلى صدر خلافة عثمان فعزله فانتقل إلى
الكوفة وأقام بها ثم أقره عثمان عاملا على
الكوفة إلى أن قتل عثمان ثم انتقل بعد أمر
التحكيم إلى مكة ولم يزل بها حتى مات سنة
خمسين وقيل بعدها وله نيف وستون سنة والشمس
مرتفعة أي وصلى العصر وهي مرتفعة لم تمل إلى
الغروب وفي الأحاديث ما يدل على المسارعة
بالعصر وأصرح الأحاديث في تحديد أول وقتها
حديث جبريل أنه صلاها بالنبي صلى الله عليه
وسلم وظل الرجل مثله وغيره من الأحاديث كحديث
بريدة وحديث أبي موسى محمولة عليه
4- ( وعن أبي برزة بفتح الموحدة وسكون الراء
فزاي فهاء اسمه نضلة بفتح النون فضاد ساكنة
معجمة ابن عبيد وقيل ابن عبد الله أسلم قديما
وشهد الفتح ولم يزل يغزو مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى توفي صلى الله عليه وسلم
فنزل بالبصرة ثم غزا خراسان وتوفي بمرو وقيل
بغيرها سنة ستين الأسلمي قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا
بعد صلاته إلى رحله بفتح الراء وسكون الحاء
المهملة وهو مسكنه في أقصى المدينة حال من
رحله وقيل صفة له والشمس حية أي يصل إلى رحله
حال كون الشمس حية أي بيضاء قوية الأثر حرارة
ولونا وإنارة وكان يستحب أن يؤخر من العشاء لم
يبين إلى متى وكأنه يريد مطلق التأخير وقد
بينه غيره من الأحاديث وكان يكره النوم قبلها
لئلا يستغرق النائم فيه حتى يخرج اختيار وقتها
والحديث التحادث مع الناس بعدها فينام عقب
تكفير الخطيئة بالصلاة فتكون خاتمة عمله ولئلا
يشتغل بالحديث عن قيام آخر الليل إلا أنه قد
ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمر مع أبي
بكر في أمر المسلمين وكان ينفتل بالفاء فمثناة
بعدها فوقية مكسورة أي يلتفت إلى من خلفه أو
ينصرف من صلاة الغداة الفجر حين يعرف الرجل
جليسه أي بضوء الفجر لأنه كان مسجده صلى الله
عليه وسلم ليس فيه مصابيح وهو يدل على أنه كان
يدخل فيها والرجل لا يعرف جليسه وهو دليل
التبكير بها وكان يقرأ بالستين إلى المائة
يريد أنه إذا اختصر قرأ بالستين في صلاته في
الفجر وإذا طول فإلى المائة من الآيات متفق
عليه فيه ذكر وقت صلاة العصر والعشاء والفجر
من دون تحديد للأوقات وقد سبق في الذي مضى ما
هو أصرح وأشمل
(1/108)
5- (وعندهما أي
الشيخين المدلول عليهما بقوله متفق عليه من
حديث جابر والعشاء أحيانا يقدمها أول وقتها
وأحيانا يؤخرها عنه كما فصله قوله إذا رآهم أي
الصحابة اجتمعوا في أول وقتها عجل رفقا بهم
وإذا رآهم أبطئوا عن أوله أخر مراعاة لما هو
الأرفق بهم وقد ثبت عنه أنه لولا خوف المشقة
عليهم لأخر بهم الصبح كان النبي صلى الله عليه
وسلم يصليها بغلس, الغلس محركة ظلمة آخر الليل
كما في القاموس وهو أول الفجر ويأتي ما يعارضه
في حديث رافع بن خديج
6- (ولمسلم وحده من حديث أبي موسى فأقام الفجر
حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم
بعضا وهو كما أفاده الحديث الأول
7- (وعن رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة وكسر
الدال المهملة فمثناة تحتية فجيم ورافع هو أبو
عبد الله ويقال أبو خديج الخزرجي الأنصاري
الأوسي من أهل المدينة تأخر عن بدر لصغر سنه
وشهد أحدا وما بعدها أصابه سهم يوم أحد فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أشهد لك
يوم القيامة" وعاش إلى زمان عبد الملك بن
مروان ثم انتقضت جراحته فمات سنة ثلاث أو أربع
وسبعين وله ست وثمانون سنة وقيل زمن يزيد بن
معاوية قال كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله
عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله
بفتح النون وسكون الموحدة وهي السهام العربية
لا واحد لها من لفظها وقيل واحدها نبلة كتمر
وتمرة متفق عليه والحديث فيه دليل على
المبادرة بصلاة المغرب بحيث ينصرف منها والضوء
باق وقد كثر الحث على المسارعة بها
8- ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت أعتم بفتح
الهمزة وسكون العين المهملة فمثناة فوقية
مفتوحة يقال أعتم إذا دخل في العتمة والعتمة
محركة ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق كما
في القاموس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات
ليلة بالعشاء أي أخر صلاتها حتى ذهب عامة
الليل كثير منه لا أكثره ثم خرج فصلى وقال إنه
لوقتها أي المختار والأفضل لولا أن أشق على
أمتي أي لأخرتها إليه رواه مسلم وهو دليل على
أن وقت العشاء ممتد وأن آخره أفضله وأنه صلى
الله عليه وسلم كان يراعي الأخف على الأمة
وأنه ترك الأفضل وقتا وهي بخلاف المغرب فأفضله
أوله وكذلك غيره إلا الظهر أيام الحر كما
يفيده قوله
9- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتد الحر
فأبردوا" بهمزة مفتوحة مقطوعة وكسر الراء
بالصلاة أي صلاة الظهر "فإن شدة الحر من فيح
جهنم" بفتح الفاء وسكون المثاة التحتية فحاء
مهملة أي سعة انتشارها وتنفسها متفق عليه يقال
أبرد إذا دخل في وقت البرد كأظهر إذا دخل في
الظهر كما يقال أنجد وأتهم إذا بلغ نجدا
وتهامة ذلك في الزمان وهذا في المكان والحديث
دليل على وجوب الإبراد بالظهر عند شدة الحر
لأنه الأصل في الأمر وقيل إنه للاستحباب
(1/109)
وإليه ذهب
الجمهور وظاهره عام للمنفرد والجماعة والبلد
الحار وغيره وفيه أقوال غير هذه وقيل الإبراد
سنة والتعجيل أفضل لعموم أدلة فضيلة أول الوقت
وأجيب بأنها عامة مخصوصة بأحاديث الإبراد
وعورض حديث الإبراد بحديث خباب شكونا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا
وأكفنا فلم يشكنا أي لم يزل شكوانا وهو حديث
صحيح رواه مسلم وأجيب عنه بأجوبة أحسنها أن
الذي شكوه شدة الرمضاء في الأكف والجباه وهذه
لا تذهب عن الأرض إلا آخر الوقت أو بعد آخره
ولذا قال لهم صلى الله عليه وسلم: "صلوا
الصلاة لوقتها" كما هو ثابت في رواية خباب هذه
بلفظ فلم يشكنا وقال: "صلوا الصلاة لوقتها"
رواها ابن المنذر فإنه دال على أنهم طلبوا
تأخيرا زائدا عن وقت الإبراد فلا يعارض حديث
الأمر بالإبراد وتعليل الإبراد بأن "شدة الحر
من فيح جهنم" يعني وعند شدته يذهب الخشوع الذي
هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها قيل وإذا
كان العلة ذلك فلا يشرع الإبراد في البلاد
الباردة وقال ابن العربي في القبس ليس في
الإبراد تحديد إلا ما ورد في حديث ابن مسعود
يعني الذي أخرجه أبو داود والحاكم من طريق
الأسود عنه كان قدر صلاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى
خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة
أقدام ذكره المصنف في التلخيص وقد بينا ما فيه
وأنه لا يتم به الاستدلال في المواقيت وقد
عرفت أن حديث الإبراد يخصص فضيلة صلاة الظهر
في أول وقتها بزمان شدة الحر كما قيل إنه مخصص
بالفجر
10- (وعن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أصبحوا بالصبح" وفي رواية
"أسفروا فإنه أعظم لأجوركم" رواه الخمسة وصححه
الترمذي وابن حبان وهذا لفظ أبي داود وبه
احتجت الحنفية على تأخير الفجر إلى الإسفار
وأجيب عنه بأن استمرار صلاته صلى الله عليه
وسلم بغلس وبما أخرج أبو داود من حديث أنس
"أنه صلى الله عليه وسلم أسفر بالصبح مرة ثم
كانت صلاته بعد بغلس حتى مات" يشعر بأن المراد
بـ"أصبحوا" غير ظاهره فقيل المراد به تحقق
طلوع الفجر وأن أعظم ليس للتفضيل وقيل المراد
به إطالة القراءة في صلاة الصبح حتى يخرج منها
مسفرا وقيل: المراد به الليالي المقمرة فإنه
لا يتضح أول الفجر معها لغلبة نور القمر لنوره
أو أنه صلى الله عليه وسلم فعله مرة واحدة
لعذر ثم استمر على خلافه كما يفيده حديث أنس
وأما الرد على حديث الإسفار بحديث عائشة ثم
ابن أبي شيبة وغيره بلفظ ما صلى النبي صلى
الله عليه وسلم الصلاة لوقتها الآخر حتى قبضه
الله فليس بتام لأن الإسفار ليس آخره وقت صلاة
الفجر بل آخر ما يفيده
11- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من
الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس" أي وأضاف إليها
أخرى بعد طلوعها "فقد أدرك الصبح" ضرورة أنه
ليس المراد من صلى ركعة فقط والمراد فقد أدرك
صلاته لوقوع ركعة في الوقت ومن أدرك ركعة من
العصر ففعلها قبل
(1/110)
أن تغرب الشمس
فقد أدرك العصر وإن فعل الثلاث بعد الغروب
متفق عليه وإنما حملنا الحديث على ما ذكرناه
من أن المراد الإتيان بالركعة بعد الطلوع
وبالثلاث بعد الغروب للإجماع على أنه ليس
المراد من أتى بركعة فقط من الصلاتين صار
مدركا لهما وقد ورد في الفجر صريحا في رواية
البيهقي بلفظ: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن
تطلع الشمس وركعة بعد أن تطلع الشمس فقد أدرك
الصلاة" وفي رواية "من أدرك في الصبح ركعة قبل
أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى" وفي العصر من
حديث أبي هريرة بلفظ: "من صلى من العصر ركعة
قبل أن تغرب الشمس ثم صلى ما بقي بعد غروبها
لم يفته العصر" والمراد من الركعة الإتيان
بواجباتها من الفاتحة واستكمال الركوع والسجود
وظاهر الأحاديث أن الكل أداء وأن الإتيان
ببعضها قبل خروج الوقت ينسحب حكمه على ما بعد
خروجه فضلا من الله ثم مفهوم ما ذكر أنه من
أدرك دون ركعة لا يكون مدركا للصلاة إلا أن
قوله
12- ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها نحوه وقال:
"سجدة" بدل ركعة فإنه ظاهر أن من أدرك سجدة
صار مدركا للصلاة إلا أن قوله ثم قال أي
الراوي ويحتمل أنه النبي صلى الله عليه وسلم
والسجدة إنما هي الركعة يدفع أن يراد بالسجدة
نفسها لأن هذا التفسير إن كان من كلامه صلى
الله عليه وسلم فلا إشكال وإن كان من كلام
الراوي فهو أعرف بما روى وقال الخطابي المراد
بالسجدة الركعة بسجودها وركوعها والركعة إنما
تكون تامة بسجودها فسميت على هذا المعنى سجدة
اهـ السجدة على بابها لأفادت أن من أدرك ركعة
بإحدى سجدتيها صار مدركا وليس بمراد لورود
سائر الأحاديث بلفظ الركعة فتحمل رواية السجدة
عليها فيبقى مفهوم من أدرك ركعة سالما عما
يعارضه ويحتمل أن من أدرك سجدة فقط صار مدركا
للصلاة كمن أدرك ركعة ولا ينافي ذلك ورود من
أدرك ركعة لأن مفهومه غير مراد بدليل من أدرك
سجدة ويكون الله تعالى قد تفضل فجعل من أدرك
سجدة مدركا كمن أدرك ركعة ويكون إخباره صلى
الله عليه وسلم بإدراك الركعة قبل أن يعلمه
الله جعل من أدرك السجدة مدركا للصلاة فلا يرد
أنه قد علم أن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة
بطريق الأولى وأما قوله والسجدة إنما هي
الركعة فهو محتمل أنه من كلام الراوي وليس
بحجة وقولهم تفسير الراوي مقدم كلام أغلبي
وإلا فحديث فرب مبلغ أوعى من سامع وفي لفظ
أفقه يدل على أنه يأتي بعد السلف من هو أفقه
منهم ثم ظاهر الحديث أن من أدرك الركعة من
صلاة الفجر أو العصر لا تكره الصلاة في حقه
عند طلوع الشمس وعند غروبها وإن كانا وقتي
كراهة ولكن في حق المتنفل فقط وهو الذي أفاده
قوله
13- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا
صلاة" أي نافلة بعد الصبح أي صلاته أو زمانه
"حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر" أي صلاته
أو وقته حتى تغيب الشمس متفق عليه ولفظ
(1/111)
مسلم: "لا صلاة
بعد صلاة الفجر" فعينت المراد من قوله "بعد
الفجر" فإنه يحتمل ما ذكرناه كما ورد في رواية
"لا صلاة بعد العصر" نسبها ابن الأثير إلى
الشيخين وفي رواية لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا
ركعتي الفجر ستأتي فالنفي قد توجه إلى ما بعد
فعل صلاة الفجر وفعل صلاة العصر ولكنه بعد
طلوع الفجر لا صلاة إلا نافلته فقط وأما بعد
دخول العصر فالظاهر إباحة النافلة مطلقا ما لم
يصل العصر وهذا نفي للصلاة الشرعية وهو في
معنى النهي والأصل فيه التحريم فدل على تحريم
النفل في هذين الوقتين مطلقا والقول بأن ذات
السبب تجوز كتحية المسجد مثلا وما لا سبب لها
لا تجوز قد بينا أنه لا دليل عليه في حواشي
شرح العمدة وأما صلاته صلى الله عليه وسلم
ركعتين بعد صلاة العصر في منزله كما أخرجه
البخاري من حديث عائشة "ما ترك السجدتين بعد
العصر عندي قط" وفي لفظ: "لم يكن يدعهما سرا
ولا علانية" فقد أجيب عنه بأنه صلى الله عليه
وسلم صلاهما قضاء لنافلة الظهر لما فاتته ثم
استمر عليهما لأنه كان إذا عمل عملا أثبته فدل
على جواز قضاء الفائتة في وقت الكراهة وبأنه
من خصائصه جواز النفل في ذلك الوقت كما دل له
حديث أبي داود عن عائشة "أنه كان يصلي بعد
العصر وينهي عنها وكان يواصل وينهي عن الوصال"
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لا كراهة
للنفل بعد صلاتي الفجر والعصر لصلاته صلى الله
عليه وسلم هذه بعد العصر ولتقريره صلى الله
عليه وسلم لمن رأه يصلي بعد صلاة الفجر نافلة
الفجر ولكنه يقال هذان دليلان على جواز قضاء
النافلة في وقت الكراهة لا أنهما دليلان على
أنه لا يكره النفل مطلقا إذ الأخص لا يدل على
رفع الأعم بل يخصصه وهو من تخصيص الأقوال
بالأفعال على أنه يأتي النص على أن من فاتته
نافلة الظهر فلا يقضيها بعد العصر ولأنه لو
تعارض القول والفعل كان القول مقدما عليه
فالصواب أن هذين الوقتين يحرم فيهما إذن
النوافل كما تحرم في الأوقات الثلاثة التي
أفادها
14- ( وله أي لمسلم عن عقبة بضم العين المهملة
وسكون القاف فموحدة مفتوحة ابن عامر هو أبو
حماد أو أبو عامر عقبة بن عامر الجهني كان
عاملا لمعاوية على مصر وتوفي بها سنة ثمان
وخمسين وذكر خليفتة أنه قتل يوم النهروان مع
علي عليه السلام وغلطه ابن عبد البر ثلاث
ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر بضم الباء
وكسرها فيهن موتانا حتى تطلع الشمس بازغة حتى
ترفع بين قدر ارتفاعها الذي عنده تزول الكراهة
حديث عمرو بن عبسة بلفظ وترتفع قيس رمح أو
رمحين وقيس بكسر القاف وسكون المثناة التحتية
فسين مهملة أي قدر أخرجه أبو داود والنسائي
وحين يقوم قائم الظهيرة في حديث ابن عبسة حتى
يعدل الرمح ظله حتى تزول الشمس أي تميل عن كبد
السماء وحين تتضيف بفتح المثناة الفوقية
فمثناة بعدها وفتح الضاد المعجمة وتشديد الياء
وفاء أي تميل الشمس للغروب فهذه ثلاثة أوقات
روينا إن انضافت إلى الأولين كانت خمسة إلا أن
الثلاثة تختص بكراهة أمرين دفن الموتى والصلاة
والوقتان الأولان يختصان بالنهي عن الثاني
منهما وقد ورد تعليل النهى
(1/112)
عن هذه الثلاثة
في حديث ابن عبسة عند من ذكر بأن الشمس عند
طلوعها تطلع بين قرني شيطان فيصلي لها الكفار
وبأنه عند قيام قائم الظهيرة تسجر جهنم وتفتح
أبوابها وبأنها تغرب بين قرني شيطان ويصلي لها
الكفار ومعنى قوله قائم الظهيرة قيام الشمس
وقت الزوال من قولهم قامت به دابته وقفت
والشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل
إلى أن تزول فيتخيل الناظر المتأمل أنها وقفت
وهي سائرة والنهي عن هذه الأوقات الثلاثة عام
بلفظه لفرض الصلاة ونفلها والنهي للتحريم كما
عرفت من أنه أصله وكذا يحرم قبر الموتى فيها
ولكن فرض الصلاة أخرجه حديث من نام عن صلاته
الحديث وفيه فوقتها حين يذكرها ففي أي وقت
ذكرها أو استيقظ من نومه أتى بها وكذا من أدرك
ركعة قبل غروب الشمس وقبل طلوعها لا يحرم عليه
بل يجب عليه أداؤها في ذلك الوقت فيخص النهي
بالنوافل دون الفرائض وقيل بل يعمها بدليل أنه
صلى الله عليه وسلم لما نام في الوادي عن صلاة
الفجر ثم استيقظ لم يأت بالصلاة في ذلك الوقت
بل آخرها إلى أن خرج الوقت المكروه وأجيب عنه
أولا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستيقظ هو
وأصحابه إلا حين أصابهم حر الشمس كما ثبت في
الحديث ولا يوقظهم حرها إلا وقد ارتفعت وزال
وقت الكراهة وثانيا بأنه قد بين صلى الله عليه
وسلم وجه تأخير أدائها عند الاستيقاظ بأنهم في
واد حضر فيه الشيطان فخرج صلى الله عليه وسلم
عنه وصلى في غيره وهذا التعليل يشعر بأنه ليس
التأخير لأجل وقت الكراهة لو سلم أنهم
استيقظوا ولم يكن قد خرج الوقت فتحصل من
الأحاديث أنها تحرم النوافل في الأوقات الخمسة
وأنه يجوز أن تقضى النوافل بعد صلاة الفجر
وصلاة العصر أما صلاة العصر فلما سلف من صلاته
صلى الله عليه وسلم قاضيا لنافلة الظهر بعد
العصر إن لم نقل إنه خاص به وأما صلاة الفجر
فلتقريره لمن صلى نافلة الفجر بعد صلاته وأنها
تصلى الفرائض في أي الأوقات الخمسة لنائم وناس
ومؤخر عمدا وإن كان آثما بالتأخير والصلاة
أداء في الكل ما لم يخرج وقت العامد فهي قضاء
في حقه ويدل على تخصيص وقت الزوال يوم الجمعة
من هذه الأوقات بجواز النفل فيه الحديث الآتي
وهو قوله
15- والحكم الثاني وهو النهي عن الصلاة وقت
الزوال والحكم الأول النهي عنها عند طلوع
الشمس إلا أنه تسامح المصنف في تسميته حكما
فإن الحكم في الثلاثة الأوقات واحد وهو النهي
عن الصلاة فيها وإنما هذا الثاني أحد محلات
الحكم لا أنه حكم ثان وفسر الشارح الحكم
الثاني بالنهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة
كما أفاده حديث أبي سعد وحديث عقبة لكن فيه
أنه الحكم الأول لأن الثاني هو النهي عن قبر
الأموات فإنه الثاني في حديث عقبة وفيه أنه
يلزم أن زيادة استثناء يوم الجمعة يعم الثلاثة
الأوقات في عدم الكراهة وليس كذلك اتفاقا إنما
الخلاف في ساعة الزوال يوم الجمعة عند الشافعي
من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد فيه "إلا
يوم الجمعة" والحديث المشار إليه أخرجه
البيهقي في المعرفة من حديث عطاء بن عجلان عن
أبي نضرة عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا
(1/113)
كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة نصف النهار
إلا يوم الجمعة وقال إنما كان ضعيفا لأن فيه
إبراهيم بن يحيى وإسحاق بن عبد الله بن أبي
فروة وهما ضعيفان ولكنه يشهد له قوله
16- (وكذا لأبي داود عن أبي قتادة نحوه ولفظه
وكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة نصف
النهار إلا يوم الجمعة وقال: "إن جهنم تسجر
إلا يوم الجمعة" قال أبو داود إنه مرسل وفيه
ليث بن أبي سليم وهو ضعيف إلا أنه أيده فعل
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا
يصلون نصف النهار يوم الجمعة ولأنه صلى الله
عليه وسلم حث على التبكير إليها ثم رغب في
الصلاة إلى خروج الإمام من غير تخصيص ولا
استثناء ثم أحاديث النهي عامة لكل محل يصلى
فيه إلا أنه خصها بغير مكة قوله
17- (وعن جبير بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون
المثناة التحتية فراء ابن مطعم بضم الميم
وسكون الطاء وكسر العين المهملة وهو أبو محمد
جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل القرشي النوفلي
كنيته أبو أمية أسلم قبل الفتح ونزل المدينة
ومات بها سنة أربع أو سبع أو تسع وخمسين وكان
جبير عالما بأنساب قريش قيل إنه أخذ ذلك من
أبي بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف
بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار"
رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وأخرجه
الشافعي وأحمد والدارقطني وابن خزيمة والحاكم
من حديث جبير أيضا وأخرجه الدارقطني من حديث
ابن عباس وأخرجه غيرهم وهو دال على أنه لا
يكره الطواف بالبيت ولا الصلاة فيه في أي ساعة
من ساعات الليل والنهار وقد عارض ما سلف
فالجمهور عملوا بأحاديث النهي ترجيحا لجانب
الكراهة ولأن أحاديث النهي ثابتة في الصحيحين
وغيرهما وهي أرجح من غيرها وذهب الشافعي وغيره
إلى العمل بهذا الحديث قالوا لأن أحاديث النهي
قد دخلها التخصيص بالفائتة والنوم عنها
والنافلة التي تقضى فضعفوا جانب عمومها فتخصص
أيضا بهذا الحديث ولا تكره النافلة بمكة في أي
ساعة من الساعات وليس هذا خاصاً بركعتي الطواف
بل يعم كل نافلة لرواية ابن حبان في صحيحه "يا
بني عبد المطلب إن كان لكم من الأمر شيء فلا
أعرفن أحدا منكم يمنع من يصلي عند البيت أي
ساعة شاء من ليل أو نها" ر قال في النجم
الوهاج وإذا قلنا بجواز النفل يعني في المسجد
الحرام في أوقات الكراهة فهل يختص ذلك بالمسجد
الحرام أو يجوز في جميع بيوت حرم مكة فيه
وجهان والصواب أنه يعم جميع الحرم
18- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "الشفق الحمرة" رواه
الدارقطني وصححه ابن خزيمة وغيره وقفه على ابن
عمر وتمام الحديث "فإذا غاب الشفق وجبت
الصلاة" وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث
ابن عمر مرفوعا "ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب
حمرة الشفق" وقال البيهقي روى هذا الحديث عن
علي وعمر وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن
أوس وأبي هريرة ولا يصح منها شيء قلت
(1/114)
البحث لغوي
والمرجع فيه إلى أهل اللغة وقح العرب فكلامه
حجة وإن كان موقوفا عليه وفي القاموس الشفق
محركة الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء
وإلى قريبها أو إلى قريب العتمة اهـ والشافعي
يرى أن وقت المغرب عقيب غروب الشمس بما يتسع
لخمس ركعات ومضى قدر الطهارة وستر العورة
وأذان وإقامة لا غير وحجته حديث جبريل أنه صلى
به صلى الله عليه وسلم المغرب في اليومين معا
في وقت واحد عقيب غروب الشمس قال فلو كان
للمغرب وقت ممتد لآخره إليه كما أخر الظهر إلى
مصير ظل الشيء مثله في اليوم الثاني وأجيب عنه
بأن حديث جبريل متقدم في أول فرض الصلاة بمكة
اتفاقا وأحاديث أن آخر وقت المغرب الشفق
متأخرة واقعة في المدينة أقوالا وأفعالا
فالحكم لها وبأنها أصح إسنادا من حديث توقيت
جبريل فهي مقدمة عند التعارض وأما الجواب
بأنها أقوال وخبر جبريل فعل غير ناهض فإن خبر
جبريل فعل وقول فإنه قال له صلى الله عليه
وسلم بعد أن صلى به الأوقات الخمسة ما بين
هذين الوقتين وقت لك ولأمتك نعم لا بينية بين
المغرب والعشاء على صلاة جبريل فيتم الجواب
بأنه فعل بالنظر إلى وقت المغرب والأقوال
مقدمة على الأفعال عند التعارض على الأصح وأما
هنا فما ثم تعارض إنما الأقوال أفادت زيادة في
الوقت للمغرب من الله بها قلت لا يخفى أنه كان
الأولى تقديم هذا الحديث في أول باب الأوقات
عقب أول حديث فيه وهو حديث عبد الله بن عمر
رضي الله عنه واعلم أن هذا القول هو قول
الشافعي في الجديد وقوله القديم أن لها وقتين
أحدهما هذا والثاني يمتد إلى مغيب الشفق وصححه
أئمة من أصحابه كابن خزيمة والخطابي والبيهقي
وغيرهم وقد ساق النووي في شرح المهذب الأدلة
على امتداده إلى الشفق فإذا عرفت الأحاديث
الصحيحة تعين القول به جزما لأن الشافعي نص
عليه في القديم وعلق القول به في الإملاء على
ثبوته وقد ثبت الحديث بل أحاديث
19- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفجر" أي لغة
"فجران فجر يحرم الطعام" يريد على الصائم
"وتحل فيه الصلاة" أي يدخل وقت وجوب صلاة
الفجر "وفجر تحرم فيه الصلاة" أي صلاة الصبح
فسره بها لئلا يتوهم أنها تحرم فيه مطلق
الصلاة والتفسير يحتمل أنه منه صلى الله عليه
وسلم وهو الأصل ويحتمل أنه من الراوي ويحل فيه
الطعام رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه لما كان
الفجر لغة مشتركا بين الوقتين وقد أطلق في بعض
أحاديث الأوقات أن أول صلاة الصبح الفجر بين
صلى الله عليه وسلم المراد به وأنه الذي له
علامة ظاهرة واضحة وهي التي أفاده قوله
20- ( وللحاكم من حديث جابر نحوه نحو حديث ابن
عباس ولفظه في المستدرك "الفجر فجران فأما
الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة
ويحل الطعام وأما الذي يذهب مستطيلا في الأفق
فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام" وقد عرفت معنى
قول المصنف وزاد في الذي يحرم الطعام أنه يذهب
مستطيلا أي ممتدا في الأفق وفي رواية
(1/115)
البخاري "أنه
صلى الله عليه وسلم مد يده من عن يمينه
ويساره" وفي الآخر وهو الذي لا تحل فيه الصلاة
ولا يحرم فيه الطعام أي وقال في الآخر إنه في
صفته "كذنب السرحان" بكسر السين المهملة وسكون
الراء فحاء مهملة وهو الذئب والمراد أنه لا
يذهب مستطيلا ممتدا بل يرتفع في السماء
كالعمود وبينهما ساعة فإنه يظهر الأول وبعد
ظهوره يظهر الثاني ظهورا بينا فهذا فيه بيان
وقت الفجر وهو أول وقته وآخره ما يتسع لركعة
كما عرفت ولما كان لكل وقت أول وآخر بين صلى
الله عليه وسلم الأفضل منهما في الحديث الآتي
وهو
21- (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال" قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال
الصلاة في أول وقتها" رواه الترمذي والحاكم
وصححاه وأصله في الصحيحين أخرجه البخاري عن
ابن مسعود بلفظ سألت النبي صلى الله عليه وسلم
أي العمل أحب إلى الله قال: "الصلاة لوقتها"
وليس فيه لفظ أول فالحديث دل على أفضلية
الصلاة في أول وقتها على كل عمل من الأعمال
كما هو ظاهر التعريف للأعمال باللام وقد عورض
بحديث أفضل الأعمال إيمان بالله ولا يخفى أنه
معلوم أن المراد من الأعمال في حديث ابن مسعود
ما عدا الإيمان فإنه إنما سأل عن أفضل أعمال
أهل الإيمان فمراده غير الإيمان قال ابن دقيق
العيد الأعمال هنا أي في حديث ابن مسعود
محمولة على البدنية فلا تتناول أعمال القلوب
فلا تعارض حديث أبي هريرة أفضل الأعمال
الإيمان بالله عز وجل ولكنها قد وردت أحاديث
أخر في أنواع من أعمال البر بأنها أفضل
الأعمال فهي التي تعارض حديث الباب ظاهرا وقد
أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر كل مخاطب
بما هو أليق به وهو به أقوم وإليه أرغب ونفعه
فيه أكثر فالشجاع أفضل الأعمال في حقه الجهاد
فإنه أفضل من تخليه للعبادة والغني أفضل
الأعمال في حقه الصدقة وغير ذلك أو أن كلمة من
مقدرة والمراد من أفضل الأعمال أو كلمة أفضل
لم يرد بها الزيادة بل الفضل المطلق وعورض
تفضيل الصلاة في أول وقتها على ما كان منها في
غيره بحديث العشاء فإنه قال صلى الله عليه
وسلم لولا أن أشق على أمتي لأخرتها يعني إلى
النصف أو قريب منه وبحديث الإصباح أو الإسفار
بالفجر وبأحاديث الإبراد بالظهر والجواب أن
ذلك تخصيص لعموم أول الوقت ولا معارضة بين عام
وخاص وأما القول بأن ذكر أول وقتها تفرد به
علي بن حفص من بين أصحاب شعبة وأنهم كلهم رووه
بلفظ على وقتها من دون ذكر أول فقد أجيب عنه
من حيث الرواية بأن تفرده لا يضر فإنه شيخ
صدوق من رجال مسلم ثم قد صحح هذه الرواية
الترمذي والحاكم وأخرجها ابن خزيمة في صحيحه
ومن حيث الدراية أن رواية لفظ على وقتها تفيد
معنى لفظ أول لأن كلمة على تقتضي الاستعلاء
على جميع الوقت ورواية لوقتها باللام تفيد ذلك
لأن المراد استقبال وقتها ومعلوم ضرورة شرعية
أنها لا تصح قبل دخوله فتعين أن المراد
لاستقبالكم الأكثر من وقتها وذلك بالإتيان بها
في أول وقتها ولقوله تعالى: {إِنَّهُمْ
كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} -
ولأنه صلى الله عليه وسلم كان دأبه دائما
الإتيان بالصلاة في أول وقتها ولا يفعل إلا
الأفضل إلا لما ذكرناه كالإسفار ونحوه كالعشاء
ولحديث علي عند أبي داود ثلاث لا تؤخر ثم
(1/116)
ذكر منها
الصلاة إذا حضر وقتها والمراد أن ذلك الأفضل
وإلا فإن تأخيرها بعد حضور وقتها جائز ويدل له
أيضا قوله
22- (وعن أبي محذورة بفتح الميم وسكون الحاء
المهملة وضم الذال المعجمة بعد الواو راء
واختلفوا في اسمه على أقوال أصحها أنه سمرة بن
معين بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح
المثناة التحتية وقال ابن عبد البر إنه اتفق
العالمون بطريق أنساب قريش أن اسم أبي محذورة
أوس وأبو محذورة مؤذن النبي صلى الله عليه
وسلم أسلم عام الفتح وأقام بمكة إلى أن مات
يؤذن بها للصلاة مات سنة تسع وخمسين أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "أول الوقت" أي
للصلاة المفروضة "رضوان الله" أي يحصل بأدائها
فيه رضوان الله تعالى عن فاعلها "وأوسطه رحمة
الله" أي يحصل لفاعل الصلاة فيه رحمته وهو
معلوم أن رتبة الرضوان أبلغ "وآخره عفو الله"
ولا عفو إلا عن ذنب أخرجه الدارقطني بسند ضعيف
لأنه من رواية يعقوب بن الوليد المدني قال
أحمد كان من الكذابين الكبار وكذبه ابن معين
وتركه النسائي ونسبه ابن حبان إلى الوضع كذا
في حواشي القاضي وفي الشرح أن في إسناده
إبراهيم بن زكريا البجلي وهو متهم ولذا قال
المصنف جدا مؤكدا لضعفه وقدمنا إعراب جدا ولا
يقال إنه يشهد له قوله
23- (وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه في ذكر
أول الوقت وآخره دون الأوسط وهو ضعيف أيضا لأن
فيه يعقوب بن الوليد أيضا وفيه ما سمعت وإنما
قلنا لا يصح شاهدا لأن الشاهد والمشهود له
فيهما من قال الأئمة فيه إنه كذاب فكيف يكون
شاهدا ومشهودا له وفي الباب عن جابر وابن عباس
وأنس وكلها ضعيفة وفيه عن علي عليه السلام من
رواية موسى بن محمد عن علي بن الحسين عن أبيه
عن جده عن علي قال البيهقي إسناده فيما أظن
أصح ما روي في هذا الباب مع أنه معلول فإن
المحفوظ روايته عن جعفر بن محمد عن أبيه
موقوفا قال الحاكم لا أعرف فيه حديثا يصح عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من
الصحابة وإنما الرواية فيه عن جعفر بن محمد عن
أبيه موقوفا قلت إذا صح هذا الموقوف فله حكم
الرفع لأنه لا يقال في الفضائل بالرأي وفيه
احتمال ولكن هذه الأحاديث وإن لم تصح
فالمحافظة منه صلى الله عليه وسلم على الصلاة
أول الوقت دالة على أفضليته وغير ذلك من
الشواهد التي قدمناها
24- (وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد الفجر
إلا سجدتين" أي ركعتي الفجر كما يفسره ما بعده
أخرجه الخمسة إلا النسائي وأخرجه أحمد
والدارقطني قال الترمذي غريب لا يعرف إلا من
حديث قدامة بن موسى والحديث دليل على تحريم
النافلة بعد طلوع الفجر قبل صلاته إلا سنة
الفجر
(1/117)
وذلك أنه وإن
كان لفظه نفيا فهو في معنى النهي وأصل النهي
التحريم قال الترمذي أجمع أهل العلم على كراهة
أن يصلي الرجل بعد الفجر إلا ركعتي الفجر قال
المصنف دعوى الترمذي الإجماع عجيب فإن الخلاف
فيه مشهور حكاه ابن المنذر وغيره وقال الحسن
البصري لا بأس بها وكان مالك يرى أن يفعل من
فاتته الصلاة في الليل والمراد ببعد الفجر بعد
طلوعه كما دل له قوله وفي رواية عبد الرزاق أي
عن ابن عمر "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي
الفجر" وكما يدل له قوله
25- (ومثله للدارقطني عن عمرو بن العاص فإنهما
فسرا المراد ببعد الفجر وهذا وقت سادس من
الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها وقد عرفت
الخمسة الأوقات مما مضى إلا أنه قد عارض النهي
عن الصلاة بعد العصر الذي هو أحد الستة
الأوقات
26- (وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم العصر ثم دخل بيتي
فصلى ركعتين فسألته في سؤالها ما يدل على أنه
صلى الله عليه وسلم لم يصلهما قبل ذلك عندها
أو أنها قد كانت علمت بالنهي فاستنكرت مخالفة
الفعل له " فقال شغلت عن ركعتين بعد الظهر" قد
بين الشاغل له صلى الله عليه وسلم أنه أتاه
ناس من عبد القيس وفي رواية عن ابن عباس عند
الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم أتاه مال
فشغله عن الركعتين بعد الظهر "فصليتهما الآن"
أي قضاء عن ذلك وقد فهمت أم سلمة أنهما قضاء
فلذا قالت "قلت أفنقضيهما إذا فاتتا" أي كما
قضيتهما في هذا الوقت قال: "لا" أي لا تقضوهما
في هذا الوقت بقرينة السياق وإن كان النفي غير
مقيد أخرجه أحمد إلا أنه سكت عليه المصنف هنا
وقال بعد سياقه له في فتح الباري إنها رواية
ضعيفة لا تقوم بها حجة ولم يبين هنالك وجه
ضعفها وما كان يحسن منه أن يسكت هنا عما قيل
فيه والحديث دليل على ما سلف من أن القضاء في
ذلك الوقت كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم
وقد دل على هذا حديث عائشة أنه صلى الله عليه
وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل
وينهى عن الوصال أخرجه أبو داود ولكن قال
البيهقي الذي اختص به صلى الله عليه وسلم
المداومة على الركعتين بعد العصر لا أصل
القضاء اهـ ولا يخفى أن حديث أم سلمة المذكور
يرد هذا القول ويدل على أن القضاء خاص به أيضا
وهذا الذي أخرجه أبو داود هو الذي أشار إليه
المصنف بقوله
27- (و لأبي داود عن عائشة رضي الله عنها
بمعناه) تقدم الكلام فيه
(1/118)
باب الأذان
الأذان لغة الإعلام قال الله تعالى {وَأَذَانٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه}
وشرعا الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة وكان
فرضه بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة
ووردت أحاديث تدل على أنه شرع بمكة والصحيح
الأول
1- ( عن عبد الله بن زيد هو أبو محمد عبد الله
بن زيد بن عبد ربه الأنصاري
(1/118)
الخزرجي شهد
عبد الله العقبة وبدرا والمشاهد بعدها مات
بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين قال طاف بي وأنا
نائم رجل وللحديث سبب وهو ما في الروايات أنه
لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة
بشيء يجمعهم لها فقالوا لو اتخذنا ناقوسا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للنصارى
فقالوا لو اتخذنا بوقا قال ذلك لليهود فقالوا
لو رفعنا نارا قال ذلك للمجوس فافترقوا فرأى
عبد الله بن زيد فجاء إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال طاف بي الحديث وفي سنن أبي داود
فطاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده
فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس قال وما تصنع
به قلت ندعو به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على
ما هو خير من ذلك قلت بلى فقال تقول الله أكبر
فذكر الأذان أي إلى آخره بتربيع التكبير
تكريره أربعا ويأتي ما عاضده وما عارضه بغير
ترجيع أي في الشهادتين قال في شرح مسلم هو
العود إلى الشهادتين برفع الصوت بعد قولهما
مرتين بخفض الصوت ويأتي قريبا والإقامة فرادى
لا تكرير في شيء من ألفاظها إلا قد قامت
الصلاة فإنها تكرر قال فلما أصبحت أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال إنها لرؤيا حق
الحديث أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الترمذي
وابن خزيمة الحديث دليل على مشروعية الأذان
للصلاة دعاء للغائبين ليحضروا إليها ولذا اهتم
صلى الله عليه وسلم في النظر في أمر يجمعهم
للصلاة وهو إعلام بدخول وقتها أيضا واختلف
العلماء في وجوبه ولا شك أنه من شعار أهل
الإسلام ومن محاسن ما شرعه الله وأما وجوبه
فالأدلة فيه محتملة وتأتي وكمية ألفاظه قد
اختلف فيها وهذا الحديث دل على أنه يكبر في
أوله أربع مرات وقد اختلفت الرواية فوردت
بالتثنية في حديث أبي محذورة في بعض رواياته
وفي بعضها بالتربيع أيضا فذهب الأكثر إن العمل
بالتربيع لشهرة روايته ولأنها زيادة عدل فهي
مقبولة ودل الحديث على عدم مشروعية الترجيع
وقد اختلف في ذلك فمن قال إنه غير مشروع عمل
بهذه الرواية ومن قال إنه مشروع عمل بحديث أبي
محذورة وسيأتي ودل على أن الإقامة تفرد
ألفاظها إلا لفظ الإقامة فإنه يكررها وظاهر
الحديث أنه يفرد التكبير في أولها ولكن
الجمهور على أن التكبير في أولها يكرر مرتين
قالوا ولكنه بالنظر إلى تكريره في الأذان
أربعا كأنه غير مكرر فيها وكذلك يكرر في آخرها
ويكرر لفظ الإقامة وتفرد بقية الألفاظ وقد
أخرج البخاري حديث أمر بلال أن يشفع الأذان
ويوتر الإقامة إلا الإقامة وسيأتي وقد استدل
به من قال الأذان في كل كلماته مثنى مثنى
والإقامة ألفاظها مفردة إلا قد قامت الصلاة
وقد أجاب أهل التربيع بأن هذه الرواية صحيحة
دالة على ما ذكر لكن رواية التربيع قد صحت بلا
مرية وهي زيادة من عدل مقبولة فالقائل بتربيع
التكبير أول الأذان قد عمل بالحديثين ويأتي أن
رواية يشفع الأذان لا تدل على عدم التربيع
للتكبير هذا ولا يخفى أن لفظ كلمة التوحيد في
آخر الأذان والإقامة مفردة بالاتفاق فهو خارج
عن الحكم بالأمر بشفع الأذان قال العلماء
والحكمة في تكرير الأذان وإفراد ألفاظ الإقامة
هي أن الأذان لإعلام الغائبين فاحتيج إلى
التكرير ولذا يشرع فيه رفع الصوت
(1/119)
وأن يكون على
محل مرتفع بخلاف الإقامة فإنها لإعلام
الحاضرين فلا حاجة إلى تكرير ألفاظها ولذا شرع
فيها خفض الصوت والحدر وإنما كررت جملة قد
قامت الصلاة لأنها مقصود الإقامة
2- ( وزاد أحمد في آخره ظاهره في حديث عبد
الله بن زيد قصة قول بلال في أذان الفجر
الصلاة خير من النوم روى الترمذي وابن ماجه
وأحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال
قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
تثوبن في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر"
إلا أن فيه ضعيفا وفيه انقطاع أيضا وكان على
المصنف أن يذكر ذلك على عادته ويقال التثويب
مرتين كما في سنن أبي داود وليس الصلاة خير من
النوم في حديث عبد الله بن زيد كما ربما توهمه
عبارة المصنف حيث قال في آخره وإنما يريد أن
أحمد ساق رواية عبد الله بن زيد ثم وصل بها
رواية بلال
3- (ولابن خزيمة عن أنس رضي الله عنه قال من
السنة أي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح
الفلاح هو الفوز والبقاء" أي هلموا إلى سبب
ذلك قال: "الصلاة خير من النوم" وصححه ابن
السكن وفي رواية النسائي "الصلاة خير من النوم
الصلاة خير من النوم في الأذان الأول من
الصبح" وفي هذا تقييد لما أطلقته الروايات قال
ابن رسلان وصحح هذه الرواية ابن خزيمة قال
فشرعية التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر
لأنه لإيقاظ النائم وأما الأذان الثاني فإنه
إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة ولفظ
النسائي في سننه الكبرى من جهة سفيان عن أبي
جعفر عن أبي سليمان عن أبي محذورة قال كنت
أؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقول
في أذان الفجر الأول حي على الصلاة حي على
الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من
النوم قال ابن حزم وإسناده صحيح اهـ من تخريج
الزركشي لأحاديث الرافعي ومثل ذلك في سنن
البيهقي الكبرى من حديث أبي محذورة أنه كان
يثوب في الأذان الأول من الصبح بأمره صلى الله
عليه وسلم قلت وعلى هذا ليس الصلاة خير من
النوم من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إلى
الصلاة والإخبار بدخول وقتها بل هو من الألفاظ
التي شرعت لإيقاظ النائم فهو كألفاظ التسبيح
الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار
المتأخرة عوضا عن الأذان الأول وإذا عرفت هذا
هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في
التثويب هل هو من ألفاظ الأذان أو لا وهل هو
بدعة أو لا ثم المراد من معناه اليقظة للصلاة
خير من النوم أي من الراحة التي يعتاضونها في
الآجل خير من النوم ولنا كلام في هذه الكلمة
أودعناه رسالة لطيفة
4- ( وعن أبي محذورة تقدم ضبطه وبيان حاله أن
النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان أي
ألقاه صلى الله عليه وسلم بنفسه في قصة حاصلها
أنه خرج أبو محذورة بعد الفتح إلى حنين هو
وتسعة من أهل مكة فلما سمعوا الأذان أذنوا
استهزاء بالمؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم:
"قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت"
فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا وكنت آخرهم فقال
حين أذنت تعال فأجلسني بين يديه فمسح على
ناصيتي وبرك
(1/120)
علي ثلاث مرات
ثم قال: "اذهب فأذن ثم المسجد الحرام" فقلت يا
رسول الله فعلمني الحديث فذكر فيه الترجيع أي
في الشهادتين ولفظه عند أبي داود ثم تقول أشهد
أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله
تخفض بها صوتك قيل المراد أن يسمع من بقربه
قيل والحكمة في ذلك أن يأتي بهما أولا بتدبر
وإخلاص ولا يتأتى كمال ذلك إلا مع خفض الصوت
قال ثم ترفع صوتك بالشهادة أشهد أن لا إله إلا
الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا
رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله فهذا هو
الترجيع الذي ذهب جمهور العلماء إلى أنه مشروع
لهذا الحديث الصحيح وهو زيادة على حديث عبد
الله بن زيد وزيادة العدل مقبولة وإلى عدم
القول به ذهب الهادي وأبو حنيفة وآخرون عملا
منهم بحديث عبد الله بن زيد الذي تقدم أخرجه
مسلم ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط لا
كما ذكره عبد الله بن زيد آنفا وبهذه الرواية
عملت الهادوية ومالك وغيرهم ورواه أي حديث أبي
محذورة هذا الخمسة هم أهل السنن الأربعة وأحمد
فذكروه أي التكبير في أول الأذان مربعا
كروايات حديث عبد الله بن زيد قال ابن عبد
البر في الاستذكار التكبير أربع مرات في أول
الأذان محفوظ من رواية الثقات من حديث أبي
محذورة ومن حديث عبد الله بن زيد وهي زيادة
يجب قبولها واعلم أن ابن تيمية في المنتقى نسب
التربيع في حديث أبي محذورة إلى رواية مسلم
والمصنف لم ينسبه إليه بل نسبه إلى رواية
الخمسة فراجعت صحيح مسلم وشرحه فقال النووي إن
أكثر أصوله فيها التكبير مرتين في أوله وقال
القاضي عياض إن في بعض طرق الفارسي لصحيح مسلم
ذكر التكبير أربع مرات في أوله وبه تعرف أن
المصنف اعتبر أكثر الروايات وابن تيمية اعتمد
بعض طرقه فلا يتوهم المنافاة بين كلام المصنف
وابن تيمية
5- ( وعن أنس رضي الله عنه قال "أمر" بضم
الهمزة مبني لما لم يسم بني كذلك للعلم
بالفاعل فإنه لا يأمر في الأصول الشرعية إلا
النبي صلى الله عليه وسلم ويدل له الحديث
الآتي قريبا "بلال" نائب الفاعل "أن يشفع"
بفتح أوله "الأذان" يأتي بكلماته شفعا أي مثنى
مثنى أو أربعا أربعا فالكل يصدق عليه أنه شفع
وهذا إجمال بينه حديث عبد الله بن زيد وأبي
محذورة فشفع التكبير أن يأتي به أربعا أربعا
وشفع غيره أن يأتي به مرتين مرتين وهذا بالنظر
إلى الأكثر وإلا فإن كلمة التهليل في آخره مرة
واحدة اتفاقا "ويوتر الإقامة" يفرد ألفاظها
إلا الإقامة بين المراد بها بقوله يعني قد
قامت الصلاة فإنه يشرع أن يأتي بها مرتين ولا
يوترها متفق عليه ولم يذكر مسلم الاستثناء
أعني قوله إلا الإقامة فاختلف العلماء في هذا
على ثلاثة أقوال الأول للهادوية فقالوا تشرع
تثنية ألفاظ الإقامة كلها لحديث إن بلالا كان
يثني الأذان والإقامة رواه عبد الرزاق
والدارقطني والطحاوي إلا أنه قد ادعى فيه
الحاكم الانقطاع وله طرق فيها ضعف وبالجملة لا
تعارض رواية التربيع في التكبير رواية الإفراد
في الإقامة لصحتها فلا يقال إن التثنية في
ألفاظ الإقامة زيادة عدل فيجب قبولها لأنك قد
عرفت أنها لم تصح والثاني
(1/121)
لمالك فقال
تفرد ألفاظ الإقامة حتى قد قامت الصلاة
والثالث للجمهور أنها تفرد ألفاظها إلا قد
قامت الصلاة فتكرر عملا بالأحاديث الثابتة
بذلك
6- (وللنسائي أي عن أنس "أمر" بالبناء للفاعل
وهو "النبي صلى الله عليه وسلم بلالا" وإنما
أتى به المصنف ليفيد أن الحديث الأول متفق
عليه مرفوع وإن ورد بصيغة البناء للمجهول قال
الخطابي إسناد تثنية الأذان وإفراد الإقامة
أصحها أي الروايات وعليه أكثر علماء الأمصار
وجرى العمل به في الحرمين والحجاز والشام
واليمن وديار مصر ونواحي الغرب إلى أقصى حجر
من بلاد الإسلام ثم عد من قاله من الأئمة قلت
وكأنه أراد باليمن من كان فيها شافعي المذهب
وإلا فقد عرفت مذهب الهادوية وهم سكان غالب
اليمن وما أحسن ما قاله بعض المتأخرين وقد ذكر
الخلاف في ألفاظ الأذان هل هو مثنى أو أربع أي
التكبير في أوله وهل فيه ترجيع الشهادتين أو
لا والخلاف في الإقامة ما لفظه هذه المسألة من
غرائب الواقعات يقل نظيرها في الشريعة بل وفي
العادات وذلك أن هذه الألفاظ في الأذان
والإقامة قليلة محصورة معينة يصاح بها في كل
يوم وليلة خمس مرات في أعلى مكان وقد أمر كل
سامع أن يقول كما يقول المؤذن وهم خير القرون
في غرة الإسلام شديدو المحافظة على الفضائل مع
هذا كله لم يذكر خوض الصحابة ولا التابعين
واختلافهم فيها ثم جاء الخلاف الشديد في
المتأخرين ثم كل من المتفرقين أدلى بشيء صالح
في الجملة وإن تفاوت وليس بين الروايات تناف
لعدم المانع من أن يكون كل سنة كما نقوله وقد
قيل في أمثاله كألفاظ التشهد وصورة صلاة الخوف
7- ( وعن أبي جحيفة بضم الجيم وفتح الحاء
المهملة فمثناة تحتية ساكنة ففاء هو وهب بن
عبد الله وقيل ابن مسلم السوائي بضم السين
المهملة وتخفيف الواو وهمزة بعد الألف العامري
نزل الكوفة وكان من صغار الصحابة توفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الحلم ولكنه
سمع منه جعله علي على بيت المال وشهد معه
المشاهد كلها توفي بالكوفة سنة أربع وسبعين
قال رأيت بلالا يؤذن وأتتبع فاه أي أنظر إلى
فيه متتبعا ههنا أي يمنة وههنا أي يسرة
وأصبعاه أي إبهاماه ولم يرد تعيين الأصبعين
وقال النووي هما المسبحتان في أذنيه رواه أحمد
والترمذي وصححه ولابن ماجه أي من حديث أبي
جحيفة أيضا وجعل أصبعيه في أذنيه ولأبي داود
من حديثه أيضا لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة
يمينا وشمالا هو بيان لقوله ههنا وههنا ولم
يستدر بجملة بدنه وأصله في الصحيحين الحديث دل
على آداب للمؤذن وهي الالتفات إلى جهة اليمين
وإلى جهة الشمال وقد بين محل ذلك لفظ أبي داود
حيث قال لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة وأصرح
منه حديث مسلم بلفظ فجعلت أتتبع فاه ههنا
وههنا يمينا وشمالا يقول حي على الصلاة حي على
الفلاح ففيه بيان أن الالتفات عند الحيعلتين
وبوب عليه ابن خزيمة بقوله انحراف المؤذن عند
قوله حي على الصلاة حي على الفلاح بفمه
(1/122)
لا ببدنه كله
قال وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه
ثم ساق من طريق وكيع فجعل يقول في أذانه هكذا
وحرف رأسه يمينا وشمالا وأما رواية إن بلالا
استدار في أذانه فليست بصحيحة وكذلك رواية أنه
صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل أصبعيه في
أذنيه رواية ضعيفة وعن أحمد بن حنبل لا يدور
إلا إذا كان على منارة قصدا لإسماع أهل
الجهتين وذكر العلماء أن فائدة التفاته أمران
أحدهما أنه أرفع لصوته وثانيهما أنه علامة
للمؤذن ليعرف من يراه على بعد أو من كان به
صمم أنه يؤذن وهذا في الأذان وأما الإقامة
فقال الترمذي إنه استحسنه الأوزاعي
8- (وعن أبي محذورة "أن النبي صلى الله عليه
وسلم أعجبه صوته فعلمه الأذان" رواه ابن خزيمة
وصححه وقد قدمنا القصة واستحسانه صلى الله
عليه وسلم لصوته وأمره له بالأذان بمكة وفيه
دلالة على أنه يستحب أن يكون صوت المؤذن حسنا
9- (وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال صليت
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير
مرة ولا مرتين أي بل مرات كثيرة بغير أذان ولا
إقامة أي حال كون الصلاة غير مصحوبة بأذان ولا
إقامة رواه مسلم فيه دليل على أنه لا يشرع
لصلاة العيدين أذان ولا إقامة وهو كالإجماع
وقد روى خلاف هذا عن ابن الزبير ومعاوية وعمر
بن عبد العزيز قياسا منهم للعيدين على الجمعة
وهو قياس غير صحيح بل فعل ذلك بدعة إذ لم يؤثر
عن الشارع ولا عن خلفائه الراشدين ويزيده
تأكيدا
10- (ونحوه أي نحو حديث جابر بن سمرة في
المتفق عليه أي الذي اتفق على إخراجه الشيخان
عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة
وأما القول بأنه يقال في العيد عوضا عن الأذان
الصلاة جامعة فلم ترد به سنة في صلاة العيدين
قال في الهدي النبوي وكان صلى الله عليه وسلم
إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة أي صلاة
العيد من غير أذان ولا إقامة ولا قول الصلاة
جامعة والسنة أن لا يفعل شيء من ذلك وبه يعرف
أن قوله في الشرح ويستحب في الدعاء إلى الصلاة
في العيدين وغيرهما مما لا يشرع فيه أذان
كالجنازة الصلاة جامعة غير صحيح إذ لا دليل
على الاستحباب ولو كان مستحبا لما تركه صلى
الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده نعم
ثبت ذلك في صلاة الكسوف ولا يصح فيه القياس
لأن ما وجد سببه في عصره ولم يفعله ففعله بعد
عصره بدعة فلا يصح إثباته بقياس ولا غيره.
11- ( وعن أبي قتادة في الحديث الطويل في
نومهم عن الصلاة أي عن صلاة الفجر وكان عند
قفولهم من غزوة خيبر قال ابن عبد البر هو
الصحيح "ثم أذن بلال" أي بأمره صلى الله عليه
وسلم كما في سنن أبي داود "ثم أمر بلالا أن
ينادي بالصلاة فنادى بها" فصلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم كما كان يصنع كل يوم" رواه
مسلم فيه دلالة على شرعية التأذين للصلاة
الفائتة بنوم ويلحق بها المنسية لأنه صلى الله
عليه وسلم
(1/123)
جمعهما في
الحكم حيث قال من نام عن صلاته أو نسيها
الحديث وقد روى مسلم من حديث أبي هريرة أنه
صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بالإقامة ولم
يذكر الأذان وبأنه صلى الله عليه وسلم لما
فاتته الصلاة يوم الخندق أمر لها بالإقامة ولم
يذكر الأذان كما في حديث أبي سعيد عند الشافعي
وهذه لا تعارض رواية أبي قتادة لأنه مثبت وخبر
أبي هريرة وأبي سعيد ليس فيهما ذكر الأذان
بنفي ولا إثبات فلا معارضة إذ عدم الذكر لا
يعارض
12- (وله أي لمسلم عن جابر "أن النبي صلى الله
عليه وسلم أتى المزدلفة" أي منصرفا عن عرفات
"فصلى بها المغرب والعشاء" جمع بينهما "بأذان
واحد وإقامتين" وقد روى البخاري من حديث ابن
مسعود أنه صلى أي بالمزدلفة المغرب بأذان
وإقامة والعشاء بأذان وإقامة وقال رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يفعله" ويعارضهما معا
قوله
13- (وله أي لمسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب
والعشاء بإقامة واحدة وظاهره أنه لا أذان
فيهما وهو صريح في مسلم أن ذلك بالمزدلفة فإن
فيه قال سعيد بن جبير أفضنا مع ابن عمر حتى
أتينا جمعا أي المزدلفة فإنه اسم لها وهو بفتح
الجيم وسكون الميم فصلى بها المغرب والعشاء
بإقامة واحدة ثم انصرف وقال هكذا صلى بنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان وقد دل
على أنه لا أذان بهما وأنه لا إقامة إلا واحدة
للصلاتين وقد دل قوله وزاد أبو داود أي من
حديث ابن عمر لكل صلاة أي أنه أقام لكل صلاة
لأنه زاد بعد قوله بإقامة واحدة لكل صلاة فدل
على أن لكل صلاة إقامة فرواية مسلم تقيد
برواية أبي داود هذه وفي رواية له أي لأبي
داود عن ابن عمر ولم يناد في واحدة منهما وهو
صريح في نفي الأذان وقد تعارضت هذه الروايات
فجابر أثبت أذانا واحدا وإقامتين وابن عمر نفى
الأذان وأثبت الإقامتين وحديث ابن مسعود الذي
ذكرناه أثبت الأذانين والإقامتين فإن قلنا
المثبت مقدم على النافي عملنا بخبر ابن مسعود
والشارح رحمه الله قال يقدم خبر جابر أي لأنه
مثبت للأذان على خبر ابن عمر لأنه ناف له ولكن
نقول بل نقدم خبر ابن مسعود لأنه أكثر إثباتا
14- (وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا
يؤذن بليل" قد بينت رواية البخاري أن المراد
به قبيل الفجر فإن فيها ولم يكن بينهما إلا أن
يرقى ذا وينزل ذا وعند الطحاوي بلفظ إلا أن
يصعد هذا وينزل هذا "فكلوا واشربوا حتى ينادي
ابن أم مكتوم" واسمه عمرو "وكان أي ابن أم
مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت
أصبحت" أي دخلت متفق عليه وفي آخره إدراج أي
كلام ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم يريد به
قوله وكان رجلا أعمى إلى آخره ولفظ البخاري
هكذا قال وكان رجلا أعمى بزيادة لفظ قال وبين
الشارح فاعل قال أنه ابن عمر وقيل الزهري فهو
كلام مدرج من كلام أحد الرجلين وفي الحديث
شرعية الأذان قبل الفجر لا لما شرع له الأذان
فإن الأذان شرع كما سلف
(1/124)
للإعلام بدخول
الوقت ولدعاء السامعين لحضور الصلاة وهذا
الأذان الذي قبل الفجر قد أخبر صلى الله عليه
وسلم بوجه شرعيته بقوله "ليوقظ نائمكم ويرجع
قائمكم" رواه الجماعة إلا الترمذي والقائم هو
الذي يصلي صلاة الليل ورجوعه عوده إلى نومه أو
قعوده عن صلاته إذا سمع الأذان فليس للإعلام
بدخول وقت ولا لحضور الصلاة إنما هو كالتسبيحة
الأخيرة التي تفعل في هذه الأعصار غايته أنه
كان بألفاظ الأذان وهو مثل النداء الذي أحدثه
عثمان في يوم الجمعة لصلاتها فإنه كان يأمر
بالنداء لها في محل يقال له الزوراء ليجتمع
الناس للصلاة وكان ينادي لها بألفاظ الأذان
المشروع ثم جعله الناس من بعده تسبيحا بالآية
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر
الخلاف في المسألة والاستدلال للمانع والمجيز
لا يلتفت إليه من همه العمل بما ثبت وفي قوله:
"كلوا واشربوا" أي أيها المريدون للصيام حتى
يؤذن ابن أم مكتوم ما يدل على إباحة ذلك إلى
أذانه وفي قوله: إنه كان لا يؤذن أي ابن أم
مكتوم حتى يقال له أصبحت أصبحت ما يدل على
جواز الأكل والشرب بعد دخول الفجر وقال به
جماعة ومن منع من ذلك قال معنى قوله أصبحت
أصبحت وأنهم يقولون له ذلك عند آخر جزء من
أجزاء الليل وأذانه يقع في أول جزء من طلوع
الفجر وفي الحديث دليل على جواز اتخاذ مؤذنين
في مسجد واحد ويؤذن واحد بعد واحد وأما أذان
اثنين معا فمنعه قوم وقالوا أول من أحدثه بنو
أمية وقيل لا يكره إلا أن يحصل بذلك تشويش قلت
في هذا المأخذ نظر لأن بلالا لم يكن يؤذن
للفريضة كما عرفت بل المؤذن لها واحد هو ابن
أم مكتوم واستدل بالحديث على جواز تقليد
المؤذن الأعمى والبصير وعلى جواز تقليد الواحد
وعلى جواز الأكل والشرب مع الشك في طلوع الفجر
إذ الأصل بقاء الليل وعلى جواز الاعتماد على
الصوت في الرواية إذا عرفه وإن لم يشاهد
الراوي وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة
إذا كان القصد التعريف به ونحوه وجواز نسبته
إلى أمه إذا اشتهر بذلك
15- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالا أذن
قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن
يرجع فينادي ألا إن العبد نام رواه أبو داود
وضعفه فإنه قال عقب إخراجه هذا حديث لم يروه
عن أيوب إلا حماد بن سلمة وقال المنذري قال
الترمذي هذا محفوظ حديث غير محفوظ وقال علي بن
المديني حديث حماد بن سلمة هو غير محفوظ وأخطأ
فيه حماد بن سلمة وقد استدل به من قال لا يشرع
الأذان قبل الفجر ولا يخفى أنه لا يقاوم
الحديث الذي اتفق عليه الشيخان ولو ثبت أنه
صحيح لتؤول على أنه قبل شرعية الأذان الأول
فإنه كان بلال هو المؤذن الأول الذي أمر صلى
الله عليه وسلم عبد الله بن زيد أن يلقي عليه
ألفاظ الأذان ثم اتخذ ابن أم مكتوم بعد ذلك
مؤذنا مع بلال فكان بلال يؤذن الأذان الأول
لما ذكره صلى الله عليه وسلم من فائدة أذانه
ثم إذا طلع الفجر أذن ابن أم مكتوم
16- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1/125)
"إذا سمعتم
النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" متفق عليه
فيه شرعية القول لمن سمع المؤذن أن يقول كما
يقول على أي حال كان من طهارة وغيرها ولو جنبا
أو حائضا إلا حال الجماع وحال التخلي لكراهة
الذكر فيهما وأما إذا كان السامع في حال
الصلاة ففيه أقوال الأقرب أنه يؤخر الإجابة
إلى بعد خروجه منها والأمر يدل على الوجوب على
السامع لا على من رآه فوق المنارة ولم يسمعه
أو كان أصم وقد اختلف في وجوب الإجابة فقال به
الحنفية وأهل الظاهر وآخرون وقال الجمهور لا
يجب واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم سمع
مؤذنا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال
خرجت من النار أخرجه مسلم قالوا فلو كانت
الإجابة واجبة لقال صلى الله عليه وسلم كما
قال المؤذن فلما لم يقل دل على أن الأمر في
حديث أبي سعيد للاستحباب وتعقب بأنه ليس في
كلام الراوي ما يدل على أنه صلى الله عليه
وسلم لم يقل كما قال فيجوز أنه صلى الله عليه
وسلم قال مثل قوله ولم ينقله الراوي اكتفاء
بالعادة ونقل الزائد وقوله مثل ما يقول يدل
على أنه يتبع كل كلمة يسمعها فيقول مثلها وقد
روت أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول
كما يقول المؤذن حتى يسكت أخرجه النسائي فلو
لم يجاوبه حتى فرغ من الأذان استحب له التدارك
إن لم يطل الفصل وظاهر قوله النداء أنه يجيب
كل مؤذن أذن بعد الأول وإجابة الأول أفضل قال
في الشرح إلا في الفجر والجمعة فهما سواء
لأنهما مشروعان قلت يريد الأذان قبل الفجر
والأذان قبل حضور الجمعة ولا يخفى أن الذي قبل
الفجر قد صحت مشروعيته وسماه النبي صلى الله
عليه وسلم أذانا في قوله: "إن بلالا يؤذن
بليل" فيدخل تحت حديث أبي سعيد وأما الأذان
قبل الجمعة فهو محدث بعد وفاته صلى الله عليه
وسلم ولا يسمى أذانا شرعيا وليس المراد من
المماثلة أن يرفع صوته كالمؤذن لأن رفعه لصوته
لقصد الإعلام بخلاف المجيب ولا يكفي إمراره
الإجابة على خاطره فإنه ليس بقول وظاهر حديث
أبي سعيد والحديث الآتي وهو
17- ( وللبخاري عن معاوية رضي الله عنه مثله
أي مثل حديث أبي سعيد أن السامع يقول كقول
المؤذن في جميع ألفاظه إلا في الحيعلتين فيقول
ما أفاده قوله
18- ( ولمسلم عن عمر في فضل القول كما يقول
المؤذن كلمة كلمة سوى الحيعلتين حي على الصلاة
حي على الفلاح فإنه يخصص ما قبله فيقول أي
السامع لا حول ولا قوة إلا بالله عند كل واحدة
منهما وهذا المتن هو الذي رواه معاوية كما في
البخاري وعمر كما في مسلم وإنما اختصر المصنف
فقال وللبخاري عن معاوية أي القول كما يقول
المؤذن إلى آخر ما ساقه في رواية مسلم عن عمر
إذا عرفت هذا فيقولها أربع مرات ولفظه عند
مسلم "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبرفقال
أحدكم الله أكبر الله أكبر" إلى أن قال "فإذا
قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا
بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا
قوة إلا بالله" فيحتمل أنه يريد إذا قال حي
على الصلاة حوقل وإذا قالها ثانيا حوقل ومثله
حي على الفلاح فيكن أربعا ويحتمل أنها تكفي
حوقلة واحدة عند الأولى من الحيعلتين وقد أخرج
النسائي وابن خزيمة حديث معاوية وفيه يقول ذلك
وقال المصنف
(1/126)
في فضل القول
لأن آخر الحديث أنه قال إذا قال السامع ذلك من
قلبه دخل الجنة والمصنف لم يأت بلفظ الحديث بل
بمعناه هذا والحول هو الحركة أي لا حركة ولا
استطاعة إلا بمشيئة الله وقيل لا حول في دفع
شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله وقيل لا
حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على
طاعته إلا بمعونته وحكى هذا عن ابن مسعود
مرفوعا واعلم أن هذا الحديث مقيد لإطلاق حديث
أبي سعيد الذي فيه فقولوا مثل ما يقول أي فيما
عدا الحيعلة وقيل يجمع السامع بين الحيعلة
والحوقلة عملا بالحديثين والأول أولى لأنه
تخصيص للحديث العام أو تقييد لمطلقه ولأن
المعنى مناسب لإجابة الحيعلة من السامع
بالحوقلة فإنه لما دعي إلى ما فيه الفوز
والفلاح والنجاة وإصابة الخير ناسب أن يقول
هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا
إذا وفقني الله بحوله وقوته ولأن ألفاظ الأذان
ذكر الله فناسب أن يجيب بها إذ هو ذكر له
تعالى وأما الحيعلة فإنما هي دعاء إلى الصلاة
والذي يدعو إليها هو المؤذن وأما السامع فإنما
عليه الامتثال والإقبال على ما دعي إليه
وإجابته في ذكر الله لا فيما عداه والعمل
بالحديثين كما ذكرنا هو الطريقة المعروفة في
حمل المطلق على المقيد أو تقديم الخاص على
العام فهي أولى بالاتباع وهل يجيب عند الترجيع
أو لا يجيب وعند التثويب فيه خلاف وقيل يقول
في جواب التثويب صدقت وبررت وهذا استحسان من
قائله وإلا فليس فيه سنة تعتمد فائدة أخرج أبو
داود عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أن بلالا أخذ في الإقامة فلما أن قال قد قامت
الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم أقامها
الله وأدامها وقال في سائر الإقامة بنحو حديث
عمر في الأذان يريد بحديث عمر ما ذكره المصنف
وسقناه في الشرح من متابعة المقيم في ألفاظ
الإقامة كلها
19- ( وعن عثمان بن أبي العاص هو أبو عبد الله
عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي استعمله
النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف فلم يزل
عليها مدة حياته صلى الله عليه وسلم وخلافة
أبي بكر وسنين من خلافة عمر ثم عزله وولاه
عمان والبحرين وكان من الوافدين عليه صلى الله
عليه وسلم في وفد ثقيف وكان أصغرهم سنا له سبع
وعشرون سنة ولما توفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم عزمت ثقيف على الردة فقال لهم يا ثقيف
كنتم آخر الناس إسلاماً فلا تكونوا أولهم ردة
فامتنعوا من الردة مات في بالبصرة سنة إحدى
وخمسين( أنه قال: يا رسول الله اجعلني إمام
قومي فقال: "أنت إمامهم واقتد بأضعفهم" أي
اجعل أضعفهم بمرض أو زمانة أو نحوهما قدوة لك
تصلي بصلاته تخفيفاً "واتخذ مؤذناً لا يأخذ
على أذانه أجراً" أخرجه الخمسة وحسنه الترمذي
وصححه الحاكم) الحديث يدل على جواز طلب
الإمامة في الخير وقد ورد في أدعيت عباد
الرحمن الذين وصفهم الله بتلك الأوصاف أنهم
يقولون {وََاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَاماً} وليس من طلب الرياسة المكروهة فإن
ذلك فيما يتعلق برياسة الدنيا التي لا تعان من
طلبها ولا يستحق أن يعطاها فما يأتي بيانه
وأنه يجب على إمام
(1/127)
الصلاة أن
يلاحظ حال المصليين خلفه فيجعل أضعفهم كأنه
المقتدي به فيخفف لأجله ويأتي في أبواب
الإمامة في الصلاة تخفيفه وأنه يتخذ المتبوع
مؤذنا ليجمع الناس للصلاة وإن من صفة المؤذن
المأمور باتخاذه أن لا يأخذ على أذانه أجرا أي
أجرة وهو دليل على أن من أخذ على أذانه أجرا
ليس مأمورا باتخاذه وهل يجوز له أخذ الأجرة
فذهب الشافعية إلى جواز أخذه الأجرة مع
الكراهة وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنها
تحرم عليه الأجرة لهذا الحديث قلت ولا يخفى
أنه لا يدل على التحريم وقيل يجوز أخذها على
التأذين في محل مخصوص إذ ليست على الأذان
حينئذ بل على ملازمة المكان كأجرة الرصد
20- ( وعن مالك بن الحويرث بضم الحاء المهملة
وفتح الواو وسكون المثناة التحتية وكسر الراء
وثاء مثلثة وهو ابن سليمان مالك بن الحويرث
الليثي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم
وأقام عنده عشرين ليلة وسكن البصرة ومات سنة
أربع وتسعين بها قال قال لنا النبي صلى الله
عليه وسلم: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم
أحدكم" الحديث أخرجه السبعة هو مختصر من حديث
طويل أخرجه البخاري بألفاظ أحدها قال مالك
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي
فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما رفيقا فلما
رأى شوقنا إلى أهلينا قال: "ارجعوا فكونوا
فيهم وعلموهم وصلوا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن
لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" زاد في رواية
"وصلوا كما رأيتموني أصلي" فساق المصنف قطعة
منه هي موضع ما يريده من الدلالة على الحث على
الأذان ودليل إيجابه الأمر به وفيه أنه لا
يشترط في المؤذن غير الإيمان لقوله أحدكم
21- ( وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال لبلال إذا أذنت فترسل أي
رتل ألفاظه ولا تعجل ولا تسرع في سردها " وإذا
أقمت فاحدر" بالحاء والدال المهملتين والدال
مضمومة فراء والحدر الإسراع "واجعل بين أذانك
وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله" أي تمهل
وقتا يقدر فيه أفطر الآكل من أكله الحديث
بالنصب على أنه مفعول فعل محذوف أي اقرأ
الحديث أو أتم أو نحوه ويجوز رفعه على خبرية
مبتدأ محذوف وإنما يأتون بهذه العبارة إذا لم
يستوفوا لفظ الحديث ومثله قولهم الآية والبيت
وهذا الحديث لم يستوفه المصنف وتمامه والشارب
من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة ولا
تقوموا حتى تروني رواه الترمذي وضعفه قال لا
نعرفه إلا من حديث عبد المنعم وإسناده مجهول
وأخرجه الحاكم أيضا وله شاهد من حديث أبي
هريرة ومن حديث سليمان أخرجه أبو الشيخ ومن
حديث أبي بن كعب أخرجه عبد الله ابن أحمد
وكلها واهية إلا أنه يقويها المعنى الذي شرع
له الأذان فإنه نداء لغير الحاضرين ليحضروا
للصلاة فلا بد من تقدير وقت يتسع للذاهب
للصلاة وحضورها وإلا لضاعت فائدة النداء وقد
ترجم البخاري باب كم بين الأذان والإقامة ولكن
لم يثبت التقدير قال ابن بطال لا حد لذلك غير
تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين وفيه دليل
على شرعية
(1/128)
الترسل في
الأذان لأن المراد من الإعلام للبعيد وهو مع
الترسل أكثر إبلاغا وعلى شرعة الحدر والإسراع
في الإقامة لأن المراد منها إعلام الحاضرين
فكان الإسراع بها أنسب ليفرغ منها بسرعة فيأتي
بالمقصود وهو الصلاة
22- (وله أي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يؤذن إلا متوضىء" وضعفه أيضا أي كما ضعف الأول
فإنه ضعف هذا بالانقطاع إذ هو عن الزهري عن
أبي هريرة قال الترمذي والزهري لم يسمع من أبي
هريرة والراوي عن الزهري ضعيف ورواية الترمذي
من رواية يونس عن الزهري عنه موقوفا إلا أنه
بلفظ لا ينادي وهذا أصح ورواه أبو الشيخ في
كتاب الأذان من حديث ابن عباس بلفظ إن الأذان
متصل بالصلاة فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر وهو
دليل على اشتراط الطهارة للأذان من الحدث
الأصغر ومن الحدث الأكبر بالأولى وقالت
الهادوية يشترط فيه الطهارة من الحدث الأكبر
فلا يصح أذان الجنب ويصح من غير المتوضيء عملا
بهذا الحديث كما قاله في الشرح قلت ولا يخفى
أن الحديث دال على شرطية كون المؤذن متوضئا
فلا وجه لما قالوه من التفرقة بين الحديثين
وأما استدلالهم لصحته من المحدث حدثا أصغر
بالقياس على جواز قراءة القرن فقياس في مقابلة
النص لا يعمل به عندهم في الأصول وقد ذهب أحمد
وآخرون إلا أنه لا يصح أذان المحدث حدثا أصغر
عملا بهذا الحديث وإن كان فيه ما عرفت
والترمذي صحح وقفه على أبي هريرة وأما الإقامة
فالأكثر على شرطية الوضوء لها قالوا لأنه لم
يرد أنها وقعت على خلاف ذلك في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ما فيه وقال قوم
تجوز على غير وضوء وإن كان مكروها وقال آخرون
تجوز بلا كراهة.
23- ( وله أي الترمذي عن زياد بن الحارث هو
زياد بن الحارث الصدائي بايع النبي صلى الله
عليه وسلم وأذن بين يديه يعد في البصريين
وصداء بضم الصاد المهملة وتخفيف الدال المهملة
وبعد الألف همزة اسم قبيلة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم::ومن أذن: عطف على ما قبله
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء قد
أذن فهو يقيم" وضعفه أيضا أي كما ضعف ما قبله
قال الترمذي إنما يعرف من حديث زياد ابن أنعم
الأفريقي وقد ضعفه ابن القطان وغيره وقال
البخاري هو مقارب لحديث ضعفه أبو حاتم وابن
حبان وقال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر
أهل العلم أن من أذن فهو يقيم والحديث دليل
على أن الإقامة حق لمن أذن فلا تصح من غيره
وعليه الهادوية وعضد حديث الباب حديث ابن عمر
بلفظ مهلا يا بلال فإنما يقيم من أذن أخرجه
الطبراني والعقيلي وأبو الشيخ وإن كان قد ضعفه
أبو حاتم وابن حبان وقال الحنفية وغيرهم تجزأ
إقامة غير من أذن لعدم نهوض الدليل على ذلك
ولما يدل له قوله.
24- (ولأبي داود من حديث عنبد الله بن زيد) أي
ابن عبد ربه الذي تقدم حديثه أول الباب (أنه
قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره أن
يلقيه على بلال (أنا رأيته: يعني الأذان) في
المنام (وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت. وفيه
ضعف أيضا) لم يتعرض
(1/129)
الشارح رحمه
الله لبيان وجهه ولا بينه أبو داود بل سكت
عليه لكن قال الحافظ المنذري إنه ذكر البيهقي
أن في إسناده ومتنه اختلافا وقال أبو بكر
الحازمي في إسناده مقال وحينئذ فلا يتم به
الاستدلال نعم الأصل جواز كون المقيم غير
المؤذن والحديث يقوي ذلك الأصل
25- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "المؤذن أملك
بالأذان" أي وقته موكول إليه لأنه أمين عليه
"والإمام أملك بالإقامة" فلا يقيم إلا بعد
إشارته رواه ابن عدي هو الحافظ الكبير الإمام
الشهير أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني
ويعرف أيضا بابن القصار صاحب كتاب الكامل في
الجرح والتعديل كان أحد الأعلام ولد سنة تسع
وسبعين ومائتين وسمع على خلائق وعنه أمم قال
ابن عساكر كان ثقة على لحن فيه قال حمزة
السهمي كان ابن عدي حافظا متفننا لم يكن في
زمانه أحد مثله قال الخليلي كان عديم النظير
حفظا وجلالة سألت عبد الله بن محمد الحافظ
فقال زر قميص ابن عدي أحفظ من عبد الباقي بن
قانع توفي في جمادى الآخرة سنة خمس وستين
وثلاثمائة وضعفه لأنه أخرجه في ترجمة شريك
القاضي وتفرد به شريك وقال البيهقي ليس بمحفوظ
ورواه أبو الشيخ وفيه ضعف والحديث دليل على أن
المؤذن أملك بالأذان أي أن ابتداء وقت الأذان
إليه لأنه الأمين على الوقت والموكول بارتقابه
وعلى أن الإمام أملك بالإقامة فلا يقيم إلا
بعد إشارة الإمام بذلك وقد أخرج البخاري إذا
أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني فدل على أن
المقيم يمقيم وإن لم يحضر الإمام فإقامته غير
متوقفة على إذنه كذا في الشرح ولكن قد ورد أنه
كان بلال قبل أن يقيم يأتي إلى منزله صلى الله
عليه وسلم يؤذنه بالصلاة والإيذان لها بعد
الأذان استئذان في الإقامة وقال المصنف إن
حديث البخاري معارض بحديث جابر بن سمرة إن
بلالا كان لا يقيم حتى يخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال ويجمع بينهما بأن بلالا
كان يراقب وقت خروج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإذا رآه يشرع في الإقامة قبل أن يراه
غالب الناس ثم إذا رأواه قاموا اهـ وأما تعيين
وقت قيام المؤتمين إلى الصلاة فقال مالك في
الموطأ لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة
حدا محدودا إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس
فإن منهم الثقيل والخفيف وذهب الأكثرون إلى أن
الإمام إن كان معهم في المسجد لم يقوموا حتى
تفرغ الإقامة وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال
المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره
وعن ابن المسيب إذا قال المؤذن الله أكبر وجب
القيام وإذا قال حي على الصلاة عدلت الصفوف
وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام ولكن هذا
رأي منه لم يذكر فيه سنة
26- (وللبيهقي نحوه أي نحو حديث أبي هريرة عن
علي عليه السلام من قوله
27- ( وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا يرد الدعاء بين
الأذان والإقامة" رواه النسائي وصححه ابن
خزيمة والحديث في مرفوع سنن أبي داود أيضا
ولفظه هكذا عن أنس بن مالك قال" قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا يرد الدعاء بين
(1/130)
الأذان
والإقامة" اهـ قال المنذري وأخرجه الترمذي
والنسائي في عمل اليوم والليلة اهـ والحديث
دليل على قبول الدعاء في هذه المواطن إذ عدم
الرد يراد به القبول والإجابة ثم هو عام لكل
دعاء ولا بد من تقييده بما في الأحاديث غيره
من أنه ما لم يكن دعاء بإثم أو قطيعة رحم هذا
وقد ورد تعيين أدعية تقال بعد الأذان وهو ما
بين الأذان والإقامة الأول: أن يقول رضيت
بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا قال
صلى الله عليه وسلم: "إن من قال ذلك غفر له
ذنبه" الثاني: أن يصلي على النبي صلى الله
عليه وسلم بعد فراغه من إجابة المؤذن قال ابن
القيم: في الهدى أكمل ما يصلي به ويصل إليه
كما علم أمته أن يصلوا عليه فلا صلاة عليه
أكمل منها قلت: وستأتي صفتها في كتاب الصلاة
إن شاء الله تعالى الثالث: أن يقول بعد صلاته
عليه اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة
القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه
مقاما محمودا الذي وعدته وهذا في صحيح البخاري
وزاد غيره إنك لا تخلف الميعاد الرابع: أن
يدعو لنفسه بعد ذلك ويسأل الله من فضله كما في
السنن عنه صلى الله عليه وسلم قل مثل ما يقول
أي المؤذن فإذا انتهيت فسل تعطه وروى أحمد بن
حنبل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال
حين ينادي المنادي اللهم رب هذه الدعوة
القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه
رضا لا سخط بعده استجاب الله دعوته" وأخرج
الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت
علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول
عند أذان المغرب:: اللهم هذا إقبال ليلك
وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي : وأخرج
الحاكم عن أبي أمامة يرفعه قال كان إذا سمع
المؤذن قال:: اللهم رب هذه الدعوة المستجابة
المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى توفني
عليها وأحيني عليها واجعلني من صالحي أهلها
عملا يوم القيامة: وقد عين صلى الله عليه وسلم
ما يدعي به أيضا لما قال: "الدعاء بين الأذان
والإقامة لا يرد" قالوا فما نقول يا رسول الله
قال: "سلوا الله العفو والعافية في الدنيا
والآخرة" قال ابن القيم" إنه حديث صحيح وذكر
البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند
كلمة الإقامة: "أقامها الله وأدامها" وفي
المقام أدعية أخر
(1/131)
باب شروط الصلاة
الشرط لغة العلامة ومنه قوله تعالى {فَقَدْ
جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي علامات الساعة وفي
لسان الفقهاء ما يلزم من عدمه العدم
1- ( عن علي بن طلق تقدم طلق بن علي في نواقض
الوضوء قال ابن عبد البر أظنه والد طلق بن علي
الحنفي ومال أحمد والبخاري إلى أن علي بن طلق
وطلق بن علي اسم لذات واحدة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فسا أحدكم في
الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة" رواه
الخمسة وصححه ابن حبان كأنه عبر بهذه العبارة
اختصارا وإلا فأصلها وأخرجه ابن حبان وصححه
وقد تقدمت له هذه العبارة مرارا
(1/131)
ويحتمل أن ابن
حبان صحح أحاديث أخرجها غيره ولم يخرجها هو
وهو بعيد وقد أعل الحديث ابن القطان بمسلم بن
سلام الحنفي فإنه لا يعرف وقال الترمذي قال
البخاري لا أعلم لعلي بن طلق غير هذا الحديث
الواحد والحديث دليل على أن الفساء ناقض
للوضوء وهو مجمع عليه ويقاس عليه غيره من
النواقض وأنه تبطل به الصلاة وقد تقدم حديث
عائشة فيمن أصابه قيء في صلاته أو رعاف فإنه
ينصرف ويبني على صلاته حيث لم يتكلم وهو معارض
لهذا وكل منهما فيه مقال والشارح جنح إلى
ترجيح هذا قال لأنه مثبت لاستئناف الصلاة وذلك
ناف وقد يقال هذا ناف لصحة الصلاة وذلك مثبت
لها فالأولى الترجيح بأن هذا قال بصحته ابن
حبان وذلك لم يقل أحد بصحته فهذا أرجح من حيث
الصحة
2- (وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة حائض"
المراد بها المكلفة وإن تكلفت بالاحتلام مثلا
وإنما عبر بالحيض نظرا إلى الأغلب "إلا بخمار"
بكسر الخاء المعجمة آخره راء هو هنا ما يغطى
به الرأس والعنق رواه الخمسة إلا النسائي
وصححه ابن خزيمة وأخرجه أحمد والحاكم وأعله
الدارقطني وقال إن وقفه أشبه وأعله الحاكم
بالإرسال ورواه الطبراني في الصغير والأوسط من
حديث أبي قتادة بلفظ: "لا يقبل الله من امرأة
صلاة حتى توارى زينتها ولا من جارية بلغت
المحيض حتى تختمر" ونفي القبول المراد به هنا
نفي الصحة والإجزاء وقد يطلق القبول ويراد به
كون العبادة بحيث يترتب عليها الثواب فإذا نفى
كان نفيا لما يترتب عليها من الثواب لا نفيا
للصحة كما ورد "إن الله لا يقبل صلاة الآبق
ولا من في جوفه خمر" كذا قيل وقد بينا في
رسالة الإسبال وحواشي شرح العمدة أن نفي
القبول يلازم نفي الصحة وفي قوله إلا بخمار ما
يدل على أنه يجب على المرأة ستر رأسها وعنقها
ونحوه مما يقع عليه الخمار ويأتي في حديث أبي
داود من حديث أم سلمة في صلاة المرأة في درع
وخمار ليس عليها إزار وأنه قال صلى الله عليه
وسلم: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها"
فيدل على أنه لا بد في صلاتها من تغطية رأسها
ورقبتها كما أفاده حديث الخمار ومن تغطية بقية
بدنها حتى ظهر قدميها كما أفاده حديث أم سلمة
ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته
والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي
فهذه عورتها في الصلاة وأما عورتها بالنظر إلى
نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه
وذكره هنا وجعل عورتها في الصلاة هي عورتها
بالنظر إلى نظر الأجنبي وذكر الخلاف في ذلك
ليس محله هنا إذ لها عورة في الصلاة وعورة في
نظر الأجانب والكلام الآن في الأول والثاني
يأتي في
3- ( وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "إذا كان الثوب واسعا فالتحف
به" يعني في الصلاة" ولمسلم "فخالف بين طرفيه"
وذلك بأن يجعل شيئا منه على عاتقه "وإن كان
ضيقا فاتزر به" متفق عليه الالتحاف في معنى
الارتداء وهو أن يتزر بأحد طرفي الثوب ويرتدي
بالطرف الآخر وقوله يعني في الصلاة الظاهر
(1/132)
أنه مدرج من
كلام أحد الرواة قيد به أخذا من القصة فإن
فيها أنه قال جابر جئت إليه صلى الله عليه
وسلم وهو يصلي وعلي ثوب فاشتملت به وصليت إلى
جانبه فلما انصرف قال لي صلى الله عليه وسلم:
"ما هذا الاشتمال الذي رأيت قلت كان ثوب قال
فإن كان واسعا فالتحف به وإذا كان ضيقا فاتزر
به" فالحديث قد أفاد أنه إذا كان الثوب واسعا
التحف به بعد اتزاره بطرفيه وإذا كان ضيقا
اتزر به لستر عورته فعورة الرجل من تحت السرة
إلى الركبة على أشهر الأقوال
4- (ولهما أي الشيخين من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس
على عاتقه منه شيء" أي إذا كان واسعا كما دل
له الحديث الأول والمراد ألا يتزر في وسطه
ويشد طرفي الثوب في حقويه بل يتوشح به على
عاتقه فيحصل الستر لأعالي البدن وحمل الجمهور
هذا النهي على التنزيه كما حملوا الأمر في
قوله فالتحف به على الندب وحمله أحمد على
الوجوب وأنها لا تصح صلاة من قدر على ذلك
فتركه وفي رواية عنه تصح الصلاة ويأثم فجعله
على الرواية الأولى من الشرائط وعلى الثانية
من الواجبات واستدل الخطابي للجمهور بصلاته
صلى الله عليه وآله وسلم في ثوب واحد كان أحد
طرفيه على بعض نسائه وهي نائمة قال ومعلوم أن
الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن
يتزر به ويفضل منه ما كان لعاتقه قلت وقد يجاب
عنه بأن مراد أحمد مع القدرة على الالتحاف لا
أنه لا تصح صلاته أو يأثم مطلقا كما صرح به
قوله لا تصح صلاة من قدر على ذلك ويحتمل أنه
في تلك الحالة لا يقدر على غير ذلك الثوب بل
صلاته فيه والحال أن بعضه على النائم أكبر
دليل على أنه لا يجد
5- ( وعن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله
عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار بغير
إزار قال إذا كان الدرع سابغا بسين مهملة
فموحدة بعد الألف فغين معجمة أي واسعا "يغطي
ظهور قدميها" أخرجه أبو داود وصحح الأئمة وقفه
وقد تقدم بيان معناه وله حكم الرفع وإن كان
موقوفا إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك
وقد أخرجه مالك وأبو داود موقوفا ولفظه عن
محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة
ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب قالت تصلي في
الخمار والدرع السابغ إذا غيب ظهور قدميها
6- (وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه هو أبو
عبد الله عامر بن ربيعة بن مالك العنزي بفتح
العين المهملة وسكون النون وقيل بفتحها والزاي
نسبة إلى عنز بن وائل ويقال له العدوي أسلم
قديما وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها مات
سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وثلاثين قال كنا مع
النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة
فأشكلت علينا القبلة فصلينا ظاهره من غير نظر
في الأمارات فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا
إلى غير القبلة فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أخرجه الترمذي وضعفه
(1/133)
لأن فيه أشعث
بن سعيد السمان وهو ضعيف الحديث والحديث دليل
على أن من صلى لغير القبلة لظلمة أو غيم أنها
تجزئه صلاته سواء كان مع النظر في الأمارات
والتحري أو لا وسواء انكشف له الخطأ في الوقت
أو بعده ويدل له ما رواه الطبراني من حديث
معاذ بن جبل قال صلينا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في يوم غيم في السفر إلى غير القبلة
فلما قضى صلاته تجلت الشمس فقلنا يا رسول الله
صلينا إلى غير القبلة قال: "قد رفعت صلاتكم
بحقها إلى الله" وفيه أبو عيلة وقد وثقه ابن
حبان وقد اختلف العلماء في هذا الحكم فالقول
بالإجزاء مذهب الشعبي والحنفية والكوفيين فيما
عدا من صلى بغير تحر وتيقن الخطأ فإنه حكى في
البحر الإجماع على وجوب الإعادة عليه فإن تم
الإجماع خص به عموم الحديث وذهب آخرون إلى أنه
لا تجب عليه الإعادة إذا صلى بتحر وانكشف له
الخطأ وقد خرج الوقت وأما إذا تيقن الخطأ
والوقت باق وجبت عليه الإعادة لتوجه الخطاب مع
بقاء الوقت فإن لم يتيقن فلا يأمن من الخطأ في
الآخر فإن خرج الوقت فلا إعادة للحديث
واشترطوا التحري إذ الواجب عليه عليه تيقن
الاستقبال فإن تعذر اليقين فعل ما أمكنه من
التحري فإن قصر فهو غير معذور إلا إذا تيقن
الإصابة وقال الشافعي تجب الإعادة عليه في
الوقت وبعده لأن الاستقبال واجب قطعا وحديث
السرية فيه ضعف قلت الأظهر العمل بخبر السرية
لتقويه بحديث معاذ بل هو حجة وحده والإجماع قد
عرف كثرة دعواهم له ولا يصح
7- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق
والمغرب قبلة" رواه الترمذي وقواه البخاري وفي
التلخيص حديث "ما بين المشرق والمغرب قبلة"
رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا وقال حسن
صحيح فكان عليه هنا أن يذكر تصحيح الترمذي له
على قاعدته ورأيناه في الترمذي بعد سياقه له
بسنده من طريقين حسن إحداهما وصححها ثم قال
وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة"
منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن
عباس وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك
والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت
القبلة وقال ابن المبارك: ما بين المشرق
والمغرب قبلة لأهل المشرق اهـ والحديث دليل
على أن الواجب استقبال الجهة لا العين في حق
من تعذرت عليه العين وقد ذهب إليه جماعة من
العلماء لهذا الحديث ووجه الاستدلال به على
ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير
المعاين ومن في حكمه لأن المعاين لا تنحصر
قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب بل كل
الجهات في حقه سواء متى قابل العين أو شطرها
فالحديث دليل على أن ما بين الجهتين قبلة وأن
الجهة كافية في الاستقبال وليس فيه دليل على
أن المعاين يتعين عليه العين بل لا بد من
الدليل على ذلك وقوله تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} خطاب له صلى
الله عليه وسلم وهو في المدينة واستقبال العين
فيها متعسر أو متعذر إلا ما قيل في محرابه صلى
الله عليه وسلم لكن الأمر بتوليته وجهه شطر
المسجد الحرام عام لصلاته في محرابه وغيره
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} دال على كفاية الجهة إذ
العين في كل محل تتعذر على كل مصل وقولهم يقسم
الجهات حتى يحصل له أنه توجه
(1/134)
إلى العين تعمق
لم يرد به دليل ولا فعله الصحابة وهم خير قبيل
فالحق أن الجهة كافية ولو لمن كان في مكة وما
يليها
8— (وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته
حيث توجهت به" متفق عليه هو في البخاري عن
عامر بن ربيعة بلفظ كان يسبح على الراحلة
وأخرجه عن ابن عمر بلفظ كان يسبح على ظهر
راحلته وأخرج الشافعي نحوه من حديث جابر بلفظ
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو
على راحلته النوافل وقوله: زاد البخاري يومىء
برأسه أي في سجوده وركوعه زاد ابن خزيمة ولكنه
يخفض السجدتين من الركعة ولم يكن يصنعه أي هذا
الفعل وهو الصلاة على ظهر الراحلة في المكتوبة
أي الفريضة الحديث دليل على صحة صلاة النافلة
على الراحلة وإن فاته استقبال القبلة وظاهره
سواء كان على محمل أو لا وسواء كان السفر
طويلا أو قصيرا إلا أن في رواية رزين في حديث
جابر زيادة في سفر القصر وذهب إلى شرطية هذا
جماعة من العلماء وقيل لا يشترط بل يجوز في
الحضر وهو مروي عن أنس من قوله وفعله والراحلة
هي الناقة والحديث ظاهر في جواز ذلك للراكب
وأما الماشي فمسكوت عنه وقد ذهب إلى جوازه
جماعة من العلماء قياسا على الراكب بجامع
التيسير للمتطوع إلا أنه قيل لا يعفى له عدم
الاستقبال في ركوعه وسجوده وإتمامهما وأنه لا
يمشي إلا في قيامه وتشهده ولهم في جواز مشيه
ثم الاعتدال من الركوع قولان وأما اعتداله بين
السجدتين فلا يمشي فيه إذ لا يمشي إلا مع
القيام وهو يجب عليه القعود بينهما وظاهر قوله
حيث توجهت أنه لا يعتدل لأجل الاستقبال لا في
حال صلاته ولا في أولها إلا أن في قوله
9- (ولأبي داود من حديث أنس رضي لله عنه وكان
إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة
فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه وإسناده حسن ما
يدل على أنه ثم تكبيرة الإحرام يستقبل القبلة
وهي زيادة مقبولة وحديثه حسن فيعمل بها وقوله
ناقته وفي الأول راحلته هما بمعنى واحد وليس
بشرط أن يكون ركوبه على ناقة بل قد صح في
رواية مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى على
حماره وقوله: إذا سافر تقدم أن السفر شرط ثم
بعض العلماء وكأنه يأخذه من هذا وليس بظاهر في
الشرطية وفي هذا الحديث والذي قبله أن ذلك في
النفل لا الفرض بل صرح البخاري أنه لا يصنعه
في المكتوبة إلا أنه قد ورد في رواية الترمذي
والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم أتى إلى مضيق
هو وأصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل
منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم
تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته
فصلى بهم يومىء إيماء فيجعل السجود أخفض من
الركوع قال الترمذي حديث غريب وثبت ذلك عن أنس
من فعله وصححه عبد الحق وحسنه الثوري وضعفه
البيهقي وذهب البعض إلى أن الفريضة تصح على
الراحلة إذا كان مستقبل القبلة في هودج ولو
كانت سائرة كالسفينة فإن الصلاة تصح فيها
إجماعا قلت
(1/135)
وقد يفرق بأنه
قد يتعذر في البحر وجدان الأرض فعفي عنه بخلاف
راكب الهودج وأما إذا كانت الراحلة واقفة فعند
الشافعي تصح الصلاة للفريضة كما تصح عندهم في
الأرجوحة المشدودة بالحبال وعلى السرير
المحمول على الرجال إذا كانوا واقفين والمراد
من المكتوبة التي كتبت على جميع المكلفين فلا
يرد عليه أنه صلى الله عليه واله وسلم كان
يوتر على راحلته والوتر واجب عليه
10- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها
مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه الترمذي وله
علة وهي الاختلاف في وصله وإرساله فرواه حماد
موصولا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد
ورواه الثوري مرسلا عن عمرو بن يحيى عن أبيه
عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله ورواية
الثوري أصح وأثبت وقال الدارقطني: المحفوظ
المرسل ورجحه البيهقي والحديث دليل على أن
الأرض كلها تصح فيها الصلاة ما عدا المقبرة
وهي التي تدفن فيها الموتى فلا تصح فيها
الصلاة وظاهره سواء كان على القبر أو بين
القبور وسواء كان قبر مؤمن أو كافر فالمؤمن
تكرمة له والكافر بعدا من خبثه وهذا الحديث
يخصص جعلت لي الأرض كلها مسجدا الحديث وكذلك
الحمام فإنه لا تصح فيه الصلاة فقيل للنجاسة
فيختص بما فيه النجاسة منه وقيل تكره لا غير
وقال أحمد بن حنبل: لا تصح فيه الصلاة ولو على
سطحه عملا بالحديث وذهب الجمهور إلى صحتها
ولكن مع كراهته وقد ورد النهي معللا بأنه محل
الشياطين والقول الأظهر مع أحمد ثم ليس
التخصيص لعموم حديث "جعلت لي الأرض مسجدا"
بهذين المحلين فقط بل بما يفيده الحديث الآتي
وهو قوله
11- ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبع
المزبلة" هي مجتمع إلقاء الزبل "والمجزرة" محل
جزر الأنعام "والمقبرة" وهما بزنة مفعلة بفتح
العين ولحوق التاء بهما شاذ "وقارعة الطريق"
ما تقرعه الأقدام بالمرور عليها "والحمام"
تقدم فيه الكلام "ومعاطن" بفتح الميم فعين
مهملة وكسر الطاء المهملة فنون الإبل وهو مبرك
"الإبل" حول الماء "وفوق ظهر بيت الله تعالى"
رواه الترمذي وضعفه فإنه قال بعد إخراجه ما
لفظه وحديث ابن عمر ليس بذاك القوي وقد تكلم
في زيد بن جبيرة من قبل حفظه وجبيرة بفتح
الجيم وكسر الموحدة فمثناة تحتية فراء وقال
البخاري فيه متروك وقد تكلف استخراج علل للنهي
عن هذه المحلات فقيل المقبرة والمجزرة للنجاسة
وقارعة الطريق كذلك وقيل لأن فيها حقا للغير
فلا تصح فيها الصلاة واسعة كانت أو ضيقة لعموم
النهي ومعاطن الإبل ورد التعليل فيها منصوصا
بأنها مأوى الشياطين
(1/136)
أخرجه أبو داود
وورد بلفظ مبارك الإبل وفي لفظ مزابل الإبل
وفي أخرى مناخ الإبل وهي أعم من معاطن الإبل
وعللوا النهي عن الصلاة على ظهر بيت الله
وقيدوه بأنه إذا كان على طرف بحيث يخرج عن
هوائها لم تصح صلاته وإلا صحت إلا أنه لا يخفى
أن هذا التعليل أبطل معنى الحديث فإنه إذا لم
يستقبل بطلت الصلاة لعدم الشرط لا لكونها على
ظهر الكعبة فلو صح هذا الحديث لكان بقاء النهي
على ظاهره في جميع ما ذكر هو الواجب وكان
مخصصا لعموم "جعلت لي الأرض مسجدا" لكن قد
عرفت ما فيه إلا أن الحديث في القبور من بين
هذه المذكورات قد صح كما يفيده
12- (وعن أبي مرثد بفتح الميم وسكون الراء
وفتح المثلثة الغنوي بفتح الغين المعجمة
والنون وهو مرثد بن أبي مرثد أسلم هو وأبوه
وشهد بدرا وقتل مرثد يوم غزوة الرجيع شهيداً
في حياته صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا إلى
القبور ولا تجلسوا عليها" رواه مسلم وفيه دليل
على النهي عن الصلاة إلى القبر كما نهى عن
الصلاة على القبر والأصل التحريم ولم يذكر
المقدار الذي يكون به النهي عن الصلاة إلى
القبر والظاهر أنه ما يعد مستقبلا له عرفا ودل
على تحريم الجلوس على القبر وقد وردت به
أحاديث كحديث جابر في وطء القبر وحديث أبي
هريرة "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيايه
فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر"
أخرجه مسلم وقد ذهب إلى تحريم ذلك جماعة من
العلماء وعن مالك أنه لا يكره القعود عليها
ونحوه وإنما النهي عن القعود لقضاء الحاجة وفي
الموطأ عن علي عليه السلام أنه كان يتوسد
القبر ويضطجع عليه ومثله في البخاري عن ابن
عمر وعن غيره والأصل في النهي التحريم كما مرة
وفعل الصحابي لا يعارض الحديث المرفوع إلا أن
يقال إن فعل الصحابي دليل لحمل النهي على
الكراهة ولا يخفى بعده
13- ( وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم
إلى المسجد فلينظر" أي نعليه كما دل له قوله
"فإن رأى في نعليه أذى أو قذرا" شك من الراوي
"فليمسحه وليصل فيهما" أخرجه أبو داود وصححه
ابن خزيمة اختلف في وصله وإرساله ورجح أبو
حاتم وصله ورواه الحاكم من حديث أنس وابن
مسعود ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وعبد
الله بن الشخير وإسنادهما ضعيف وفي الحديث
دلالة على شرعية الصلاة في النعال وعلى أن مسح
النعل من النجاسة مطهر له من القذر والأذى
والظاهر فيهما عند الإطلاق النجاسة رطبة أو
جافة ويدل له سبب الحديث وهو إخبار جبريل له
صلى الله عليه وسلم أن في نعله أذى فخلعه في
صلاته واستمر فيها فإنه سبب هذا وأن المصلي
إذا دخل في الصلاة وهو متلبس غير عالم ما بها
أو ناسيا لها ثم عرف بها في أثناء صلاته أنه
يجب عليه إزالتها ثم يستمر في صلاته ويبني على
ما صلى وفي الكل خلاف إلا أنه لا دليل للمخالف
يقاوم الحديث فلا نطيل بذكره ويؤيد طهورية
النعال بالمسح بالتراب الحديث الآتي وهو
(1/137)
14- ( وعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إذا وطىء أحدكم الأذى بخفيه"
أي مثلا أو نعليه أو أي ملبوس لقدميه
"فطهورهما" أي الخفين "التراب" أخرجه أبو داود
وصححه ابن حبان وأخرجه ابن السكن والحاكم
والبيهقي من حديث أبي هريرة وسنده ضعيف وأخرجه
أبو داود من حديث عائشة وفي الباب غير هذه
بأسانيد لا تخلو عن ضعف إلا أنه يشد بعضها
بعضا وقد ذهب الأوزاعي إلى العمل بهذه
الأحاديث وكذا النخعي وقالا يجزيه أن يمسح
خفيه إذا كان فيهما نجاسة فيهما ويشهد له أن
أم سلمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت
إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر
فقال: "يطهره ما بعده" أخرجه أبو داود
والترمذي وابن ماجه ونحوه أن امرأة من بني عبد
الأشهل قالت قلت يا رسول الله إن لنا طريقا
إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال:
"أليس من بعدها طريق هي أطيب" منها قلت بلى
قال: "فهذه بهذه" أخرجه أبو داود وابن ماجه
قال الخطابي وفي إسناد الحديثين مقال وتأوله
الشافعي بأنه إنما هو فيما جرى على ما كان
يابسا لا يعلق بالثوب منه شيء قلت ولا يناسبه
قولها إذا مطرنا وقال مالك معنى كون الأرض
يطهر بعضها بعضا أن يطأ الأرض القذرة ثم يصل
للأرض الطيبة اليابسة فإن بعضها يطهر بعضا أما
النجاسة تصيب الثوب أو الجسد فلا يطهرها إلا
الماء قال وهو إجماع قيل ومما يدل لحديث الباب
وأنه على ظاهره ما أخرجه البيهقي عن أبي
المعلى عن أبيه عن جده قال أقبلت مع علي بن
أبي طالب عليه السلام إلى الجمعة وهو ماش فحال
بينه وبين المسجد حوض من ماء وطين فخلع نعليه
وسراويله قال قلت هات يا أمير المؤمنين أحمله
عنك قال لا فخاض فلما جاوزه لبس نعليه
وسراويله ثم صلى بالناس ولم يغسل رجليه أي ومن
المعلوم أن الماء المجتمع في القرى لا يخلو عن
15- (وعن معاوية بن الحكم هو معاوية بن الحكم
السلمي كان ينزل المدينة وعداده في أهل الحجاز
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس
إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القران" رواه
مسلم وللحديث سبب حاصله أنه عطس في الصلاة رجل
فشمته معاوية وهو في الصلاة فأنكر عليه من
لديه من الصحابة بما أفهمه ذلك ثم قال له
النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك::إن هذه
الصلاة..." الحديث وله عدة ألفاظ والمراد من
عدم الصلاحية عدم صحتها ومن الكلام مكالمة
الناس ومخاطبتهم كما هو صريح السبب فدل على أن
المخاطبة في الصلاة تبطلها سواء كانت لإصلاح
الصلاة أو غيرها وإذا احتيج إلى تنبيه الداخل
فيأتي حكمه وبماذا يثبت ودل الحديث على أن
الكلام من الجاهل في الصلاة لا يبطلها وأنه
معذور لجهله فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر
معاوية بالإعادة وقوله إنما هو أي الكلام
المأذون فيه في الصلاة أو الذي يصلح فيها
التسبيح والتكبير وقراءة القران أي إنما يشرع
فيها ذلك وما انضم إليه من الأدعية ونحوها
لدليله الآتي وهو
(1/138)
16- ( وعن زيد
بن أرقم قال: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد ما لا
بد منه من الكلام كرد السلام ونحوه لا أنهم
كانوا يتحادثون فيها تحادث المتجالسين كما يدل
له قوله يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى} - وهي صلاة العصر على أكثر
الأقوال وقد ادعى فيه الإجماع {وَقُومُوا
لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن
الكلام. متفق عليه واللفظ لمسلم) قال النووي
في شرح مسلم: فيه دليل على تحريم جميع أنواع
كلام الآدميين أجمع العلماء على أن المتكلم
فيها عامدا عالما بتحريمه لغير مصلحتها ولغير
إنقاذ هالك وشبهه مبطل للصلاة وذكر الخلاف في
الكلام لمصلحتها ويأتي في شرح حديث ذي اليدين
في أبواب السهو وفهم الصحابة الأمر بالسكوت من
قوله قانتين لأنه أحد معاني القنوت وله أحد
عشر معنى معروفة وكأنهم أخذوا خصوص هذا المعنى
من القرائن أو من تفسيره صلى الله عليه وسلم
لهم ذلك والحديث فيه أبحاث قد سقناها في حواشي
شرح العمدة فإن اضطر المصلي إلى تنبيه غيره
فقد أباح له الشارع نوعا من الألفاظ كما يفيده
الحديث
17- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح
للرجال" وفي رواية "إذا نابكم أمر فالتسبيح
للرجال والتصفيق للنساء" متفق عليه زاد مسلم
"في الصلاة" وهو المراد من السياق وإن لم يأت
بلفظه والحديث دليل على أنه يشرع لمن نابه في
الصلاة أمر من الأمور كأن يريد تنبيه الإمام
على أمر سها عنه وتنبيه المار أو من يريد منه
أمرا وهو لا يدري أنه يصلي فينبهه على أنه في
صلاة فإن كان المصلي رجلا قال سبحان الله وقد
ورد في البخاري بهذا اللفظ وأطلق فيما عداه
وإن كانت المصلية امرأة نبهت بالتصفيق وكيفيته
كما قال عيسى بن أيوب أن تضرب بأصبعين من
يمينها على كفها اليسرى وقد ذهب إلى القول
بهذا الحديث جمهور العلماء وبعضهم فصل بلا
دليل ناهض فقال إن كان ذلك للإعلام بأنه في
صلاة فلا يبطلها وإن كان لغير ذلك فإنه يبطلها
ولو كان فتحا على الإمام قالوا لما أخرجه أبو
داود من قوله صلى الله عليه وسلم "يا علي لا
تفتح على الإمام في الصلاة " وأجيب بأن أبا
داود ضعفه بعد سياقه له فحديث الباب باق على
إطلاقه لا تخرج منه صورة إلا بدليل ثم الحديث
لا يدل على وجوب التسبيح تنبيها أو التصفيق إذ
ليس فيه أمر إلا أنه قد ورد بلفظ الأمر في
رواية إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفق
النساء وقد اختلف في ذلك العلماء قال شارح
التقريب الذي ذكره أصحابنا ومنهم الرافعي
والنووي أنه سنة وحكاه عن الأصحاب ثم قال بعد
كلام والحق انقسام التنبيه في الصلاة إلى ما
هو واجب ومندوب ومباح بحسب ما يقتضيه الحال
18- (وعن مطرف بضم الميم وفتح الطاء المهملة
وتشديد الراء المكسورة وبالفاء ابن عبد الله
بن الشخير بكسر الشين المعجمة وكسر الخاء
المشددة ومطرف تابعي جليل
(1/139)
عن أبيه عبد
الله بن الشخير وهو ممن وفد إلى النبي صلى
الله عليه وسلم في بني عامر يعد في البصريين
قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
وفي صدره أزيز بفتح الهمزة فزاي مكسورة فمثناة
تحتية ساكنة فزاي وهو صوت القدر في غليانها
كأزيز المرجل بكسر الميم وسكون الراء وفتح
الجيم هو القدر من البكاء بيان للأزيز أخرجه
الخمسة هم عنده على ما ذكره في الخطبة من عدا
الشيخين فهم أصحاب السنن وأحمد إلا أنه هنا
أراد بهم غير ذلك وهم أهل السنن الثلاثة وأحمد
كما بينه قوله إلا ابن ماجه وصححه ابن حبان
وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم ووهم من قال إن
مسلما أخرجه ومثله ما روى أن عمر صلى صلاة
الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله - إنما
أشكوا بثي وحزني إلى الله - فسمع نشيجه أخرجه
البخاري مقطوعا ووصله سعيد بن منصور وأخرجه
ابن المنذر والحديث دليل على أن مثل ذلك لا
يبطل الصلاة وقيس عليه
19- (وعن علي رضي الله عنه قال كان لي من رسول
الله صلى الله عليه وسلم مدخلان" بفتح الميم
ودال مهملة وخاء معجمة تثنية مدخل بزنة مقتل
أي وقتان أدخل عليه فيهما "فكنت أذا أتيته وهو
يصلي تنحنح لي" رواه النسائي وابن ماجه وصححه
ابن السكن وقد روى بلفظ سبح مكان تنحنح من
طريق أخرى ضعيفة والحديث دليل على أن التنحنح
غير مبطل للصلاة وقد ذهب إليه الناصر والشافعي
عملا بهذا الحديث وعند الهادوية أنه مفسد إذا
كان بحرفين فصاعدا إلحاقا له بالكلام المفسد
قالوا وهذا الحديث فيه اضطراب ولكن قد سمعت أن
رواية تنحنح صححها ابن السكن ورواية سبح ضعيفة
فلا تتم دعوى الاضطراب ولو ثبت الحديثان معا
لكان الجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم
كان تارة يسبح وتارة يتنحنح صحيحا
20- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قلت
لبلال كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد
عليهم أي على الأنصار كما دل له السياق حين
يسلمون عليه وهو يصلي قال يقول هكذا وبسط كفه
أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وأخرجه أيضا
أحمد والنسائي وابن ماجه وأصل الحديث أنه خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي
فيه فجاءت الأنصار وسلموا عليه فقلت لبلال كيف
رأيت الحديث ورواه أحمد وابن حبان والحاكم
أيضا من حديث ابن عمر أنه سأل صهيبا عن ذلك
بدل بلال وذكر الترمذي أن الحديثين صحيحان
جميعا والحديث دليل على أنه إذا سلم أحد على
المصلي رد عليه السلام بإشارة دون النطق وقد
أخرج مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعثه لحاجة قال ثم أدركته وهو يصلي فسلمت
عليه فأشار إلي فلما فرغ دعاني وقال إنك سلمت
علي فاعتذر إليه بعد الرد بالإشارة وأما حديث
ابن مسعود أنه سلم عليه وهو يصلي فلم يرد عليه
صلى الله عليه وسلم ولا ذكر الإشارة بل قال له
بعد فراغه من الصلاة "إن في الصلاة شغلا" إلا
أنه قد ذكر البيهقي في حديثه أنه صلى الله
عليه وسلم أومأ له
(1/140)
برأسه وقد
اختلف العلماء في رد السلام في الصلاة على من
سلم على المصلي فذهب جماعة إلى أنه يرد باللفظ
وقال جماعة يرد بعد السلام من الصلاة وقال قوم
يرد في نفسه وقال قوم يرد بالإشارة كما أفاده
هذا الحديث وهذا هو أقرب الأقوال للدليل وما
عداه لم يأت به دليل قيل وهذا الرد بالإشارة
استحباب بدليل أنه لم يرد صلى الله عليه وسلم
به على ابن مسعود بل قال له: "إن في الصلاة
شغلا" قلت قد عرفت من رواية البيهقي أنه صلى
الله عليه وسلم رد عليه بالإشارة برأسه ثم
اعتذر إليه عن الرد باللفظ لأنه الذي كان يرد
به عليهم في الصلاة فلما حرم الكلام رد عليه
صلى الله عليه وسلم بالإشارة ثم أخبره أن الله
أحدث من أمره أن لا يتكلموا في الصلاة فالعجب
من قول من قال يرد باللفظ مع أنه صلى الله
عليه وسلم قال هذا أي أن الله أحدث من أمره في
الاعتذار عن رده على ابن مسعود السلام باللفظ
وجعل رده السلام في الصلاة كلاما وأن الله نهى
عنه والقول بأنه من سلم على المصلي لا يستحق
جوابا يعني بالإشارة ولا باللفظ يرده رده صلى
الله عليه وسلم على الأنصار وعلى جابر
بالإشارة ولو كانوا لا يستحقون لأخبرهم بذلك
ولم يرد عليهم وأما كيفية الإشارة ففي المسند
من حديث صهيب قال مررت برسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فرد علي إشارة قال
الراوي لا أعلمه إلا قال إشارة بأصبعه وفي
حديث ابن عمر في وصفه لرده صلى الله عليه وسلم
السلام على الأنصار أنه صلى الله عليه وسلم
قال هكذا وبسط جعفر بن عون الراوي عن ابن عمر
كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق فتحصل
من هذا أنه يجيب المصلي بالإشارة إما برأسه أو
بيده أو بأصبعه والظاهر أنه واجب لأن الرد
بالقول واجب وقد تعذر في الصلاة فبقي الرد بأي
ممكن وقد أمكن بالإشارة وجعله الشارع ردا
وسماه الصحابة ردا ودخل تحت قوله تعالى - أو
ردوها- وأما حديث أبي هريرة أنه قال صلى الله
عليه وسلم: "من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه
فليعد صلاته" ذكره الدارقطني فهو حديث باطل
لأنه من رواية أبي غطفان عن أبي هريرة وهو رجل
مجهول
21- (وعن أبي قتادة قال كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة" بضم
الهمزة "بنت زينب" هي أمها وهي زينب بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبوها أبو العاص بن
الربيع "فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها" متفق
عليه ولمسلم زيادة وهو يؤم الناس في المسجد في
قوله كان يصلي ما يدل على أن هذه العبارة لا
تدل على التكرار مطلقا لأن هذا الحمل لأمامة
وقع منه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة لا غير
والحديث دليل على أن حمل المصلي في الصلاة
حيوانا ادميا أو غيره لا يضر صلاته سواء كان
ذلك لضرورة أو غيرها وسواء كان في صلاة فريضة
أو غيرها وسواء كان إماما أو منفردا وقد صرح
في رواية مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان
إماما فإذا جاز في حال الإمامة جاز في حال
الانفراد وإذا جاز في الفريضة جاز في النافلة
بالأولى وفيه دلالة على طهارة ثياب الصبيان
وأبدانهم وأنه الأصل ما لم تظهر النجاسة وأن
الأفعال التي مثل هذه لا تبطل الصلاة فإنه صلى
الله عليه وسلم كان يحملها ويضعها وقد ذهب
إليه
(1/141)
الشافعي ومنع
غيره من ذلك وتأولوا الحديث بتأويلات بعيدة
منها أنه خاص به صلى الله عليه وسلم ومنها أن
أمامة كان تعلق به من دون فعل منه ومنها أنه
للضرورة ومنهم من قال إنه منسوخ وكلها دعاوى
بغير برهان واضح وقد أطال ابن دقيق العيد في
شرح العمدة القول في هذا وزدناه إيضاحا في
حواشيها
22- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:: اقتلوا
الأسودين في الصلاة الحية والعقرب: أخرجه
الأربعة وصححه ابن حبان وله شواهد كثيرة
والأسودان اسم يطلق على الحية والعقرب على أي
لون كانا كما يفيده كلام أئمة اللغة فلا يتوهم
أنه خاص بذي اللون الأسود فيهما وهو دليل على
وجوب قتل الحية والعقرب في الصلاة إذ هو الأصل
في الأمر وقيل إنه للندب وهو دليل على أن
الفعل الذي لا يتم قتلهما إلا به لا يبطل
الصلاة سواء كان بفعل قليل أو كثير وإلى هذا
ذهب جماعة من العلماء وذهبت الهادوية إلى أن
ذلك يفسد الصلاة وتأولوا الحديث بالخروج من
الصلاة قياسا على سائر الأفعال الكثيرة التي
تدعو إليها الحاجة وتعرض وهو يصلي كإنقاذ
الغريق ونحوه فإنه يخرج لذلك من صلاته وفيه
لغيرهم تفاصيل أخر لا يقوم عليها دليل والحديث
حجة للقول الأول وأحاديث الباب اثنان وعشرون
وفي الشرح ستة وعشرون
(1/142)
باب سترة المصلي
1- ( عن أبي جهيم بضم الجيم مصغر جهم وهو عبد
الله بن جهيم وقيل هو عبد الله بن الحارث بن
الصمة بكسر المهملة وتشديد الميم الأنصاري له
حديثان هذا أحدهما والآخر في السلام على من
يبول وقال فيه أبو داود أبو الجهيم بن الحارث
بن الصمة وقد قيل إن راوي حديث البول رجل آخر
هو عبد الله بن الحارث والذي هنا عبد الله بن
جهيم وأنهما اثنان قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم::" لو يعلم المار بين يدي المصلي
ماذا عليه من الإثم" : لفظ:من الإثم ليس من
ألفاظ البخاري ولا مسلم بل قال المصنف في فتح
الباري إنها لا توجد في البخاري إلا عند بعض
رواته وقدح فيه بأنه ليس من أهل العلم قال وقد
عيب على الطبري نسبتها إلى البخاري في كتابه
الأحكام وكذا عيب على صاحب العمدة نسبتها إلى
الشيخين معا اهـ فالعجب من نسبة المصنف لها
هنا إلى الشيخين فقد وقع له من الوهم ما وقع
لصاحب العمدة "لكان أن يقف أربعين خيرا له من
أن يمر بين يديه" متفق عليه واللفظ للبخاري
وليس فيه ذكر مميز
(1/142)
الأربعين ووقع
في البزار أي من حديث أبي جهيم من وجه آخر أي
من طريق رجالها غير رجال المتفق عليه أربعين
خريفا أي عاما أطلق الخريف على العام من إطلاق
الجزء على الكل والحديث دليل على تحريم المرور
بين يدي المصلي أي ما بين موضع جبهته في سجوده
وقدميه وقيل غير هذا وهو عام في كل مصل فرضا
أو نفلا سواء كان إماما أو منفردا وقيل يختص
بالإمام والمنفرد إلا المأموم فإنه لا يضره من
مر بين يديه لأن سترة الإمام سترة له وإمامه
سترة له إلا أنه قد رد هذا القول بأن السترة
إنما ترفع الحرج عن المصلي لا عن المار ثم
ظاهر الوعيد يختص بالمار لا بمن وقف عامدا
مثلا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد ولكن إذا
كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في
معنى المار
2- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة
المصلي فقال: "مثل مؤخرة" بضم الميم وهمزة
ساكنة وكسر الخاء المعجمة وفيها لغات أخر
"الرحل" هو العود الذي في آخر الرحل أخرجه
مسلم وفي الحديث ندب للمصلي إلى اتخاذ سترة
وأنه يكفيه مثل مؤخرة الرحل وهي قدر ثلثي ذراع
وتحصل بأي شيء أقامه بين يديه قال العلماء
والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها ومنع
من يجتاز بقربه وأخذ من هذا أنه لا يكفي الخط
بين يدي المصلي وإن كان قد جاء به حديث أخرجه
أبو داود إلا أنه ضعيف مضطرب وقد أخذ به أحمد
بن حنبل فقال يكفي الخط وينبغي له أن يدنو من
السترة ولا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة
أذرع فإن لم يجد عصا أو نحوها جمع أحجارا أو
ترابا أو متاعه قال النووي استحب أهل العلم
الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر
مكان السجود وكذلك بين الصفوف وقد ورد الأمر
بالدنو منها وبيان الحكمة في اتخاذها وهو ما
رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة
مرفوعا إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا
يقطع الشيطان عليه صلاته ويأتي في الحديث
الرابع ما يفيد ذلك والقول بأن أقل السترة مثل
مؤخرة الرحل يرده الحديث الآتي
3- (وعن سبرة بفتح السين المهملة وسكون
الموحدة وهو أبو ثرية بضم المثلثة وفتح الراء
وتشديد الشاة التحتية وهو سبرة ابن معبد
الجهني سكن المدينة وعداده في البصريين قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليستتر
أحدكم في الصلاة ولو بسهم" أخرجه الحاكم فيه
الأمر بالسترة وحمله الجماهير على الندب وعرفت
أن فائدة اتخاذها أنه مع اتخاذها لا يقطع
الصلاة شيء ومع عدم اتخاذها يقطعها ما يأتي
وفي قوله لو بسهم ما يفيد أنها تجزأ السترة
غلظت أو دقت وأنه ليس أقلها مثل مؤخرة الرحل
كما قيل قالوا والمختار أن يجعل السترة عن
يمينه أو شماله ولا يصمد إليها
4- ( وعن أبي ذر بفتح الذال المعجمة وقد تقدمت
ترجمته قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يقطع صلاة المرء المسلم" أي يفسدها أو يقلل
ثوابها "إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل"
أي مثلا وإلا فقد أجزأ السهم كما عرفت
(1/143)
"المرأة" هو
فاعل يقطع أي مرور المرأة "والحمار والكلب
الأسود" الحديث أي أتم الحديث وتمامه قلت فما
بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض قال
يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عما سألتني فقال: "الكلب الأسود شيطان" وفيه
"الكلب الأسود شيطان" الجار يتعلق بمقدر أي
وقال أخرجه مسلم وأخرجه الترمذي والنسائي وابن
ماجه مختصرا ومطولا الحديث دليل على أنه يقطع
صلاة من لا سترة له مرور هذه المذكورات وظاهر
القطع الإبطال وقد اختلف العلماء في العمل
بذلك فقال قوم يقطعها المرأة والكلب الأسود
دون الحمار لحديث ورد في ذلك عن ابن عباس أنه
مر بين يدي الصف على حمار والنبي صلى الله
عليه وسلم يصلي ولم يعد الصلاة ولا أمر أصحابه
بإعادتها أخرجه الشيخان فجعلوه مخصصا لما هنا
وقال أحمد يقطعها الكلب الأسود قال وفي نفسي
من المرأة والحمار أما الحمار فلحديث ابن عباس
وأما المرأة فلحديث عائشة عند البخاري أنها
قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
من الليل وهي معترضة بين يديه فإذا سجد غمز
رجليها فكفتهما فإذا قام بسطتهما فلو كانت
الصلاة يقطعها مرور المرأة لقطعها اضطجاعها
بين يديه وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطعها شيء
وتأولوا الحديث بأن المراد بالقطع نقص الأجر
لا الإبطال قالوا لشغل القلب بهذه الأشياء
ومنهم من قال هذا الحديث منسوخ بحديث أبي سعيد
الآتي لا يقطع الصلاة شيء ويأتي الكلام عليه
وقد ورد أنه يقطع الصلاة اليهودي والنصراني
والمجوسي والخنزير وهو ضعيف أخرجه أبو داود من
حديث ابن عباس وضعفه
5- (وله أي لمسلم عن أبي هريرة نحوه أي نحو
حديث أبي ذر دون الكلب كذا في نسخ بلوغ المرام
ويريد أن لفظ الكلب لم يذكر في حديث أبي هريرة
ولكن راجعت الحديث فرأيت لفظه في مسلم عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقطع
الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي من ذلك مثل
مؤخرة الرحل"
6- ( ولأبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي
الله عنهما نحوه دون آخره وقيد المرأة بالحائض
في أبي داود عن شعبة قال حدثنا قتادة قال سمعت
جابر بن زيد يحدث عن ابن عباس رفعه شعبة قال:
" يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب" وأخرجه
النسائي وابن ماجه وقوله دون آخره يريد أنه
ليس في حديث ابن عباس آخر حديث أبي هريرة الذي
في مسلم وهو قوله ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل
فالضمير في آخره في عبارة المصنف لآخر حديث
أبي هريرة مع أنه لم يأت بلفظه كما عرفت ولا
يصح أنه يريد دون آخر حديث أبي ذر كما لا يخفى
من أن حق الضمير عوده إلى الأقرب ثم راجعت سنن
أبي داود وإذا لفظه "يقطع الصلاة المرأة
الحائض والكلب" اهـ فاحتملت عبارة المصنف أن
مراده دون آخر حديث أبي ذر وهو قوله "الكلب
الأسود شيطان" أو دون حديث أبي هريرة وهو ما
ذكرناه في الشرح والأول أقرب لأنه ذكر لفظ
حديث أبي ذر دون لفظ حديث أبي هريرة وإن صح أن
يعيد إليه الضمير وإن لم يذكره إحالة على
الناظر وتقييد المرأة
(1/144)
بالحائض يقتضي
مع صحة الحديث حمل المطلق على المقيد فلا تقطع
إلا الحائض كما أنه أطلق الكلب عن وصفه
بالأسود في بعض الأحاديث وقيد في بعضها به
فحملوا المطلق على المقيد وقالوا لا يقطع إلا
الأسود فتعين في المرأة الحائض حمل المطلق على
المقيد
7- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم
إلى شيء يستره من الناس" مما سلف تعيينه من
السترة وقدرها وقدر كم يكون بينها وبين المصلي
"فأراد أحد أن يجتاز" أي يمضي "بين يديه
فليدفعه" ظاهره وجوبا "فإن أبى" أي عن
الاندفاع "فليقاتله" ظاهره كذلك "فإنما هو
شيطان" تعليل للأمر بقتاله أو لعدم اندفاعه أو
لهما متفق عليه وفي رواية أي لمسلم من حديث
أبي هريرة "فإن معه القرين" في القاموس القرين
الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه وظاهر
كلام المصنف أن رواية فإن معه القرين متفق
عليها بين الشيخين من حديث أبي سعيد ولم أجدها
في البخاري ووجدتها في صحيح مسلم لكن من حديث
أبي هريرة والحديث دال بمفهومه على أنه إذا لم
يكن للمصلي سترة فليس له دفع الإشارة بين يديه
وإن كان له سترة دفعه قال القرطبي بالإشارة
ولطيف المنع فإن لم يمتنع عن الاندفاع قاتله
أي دفعه دفعا أشد من الأول قال وأجمعوا أنه لا
يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك قاعدة
الصلاة من الإقبال عليها والاشتغال بها
والخشوع هذا كلامه وأطلق جماعة أن له قتاله
حقيقة وهو ظاهر اللفظ والقول بأنه يدفعه بلعنه
وسبه يرده لفظ هذا الحديث ويؤيده فعل أبي سعيد
راوي الحديث مع الشاب الذي أراد أن يجتاز بين
يديه وهو يصلي أخرجه البخاري عن أبي صالح
السمان قال رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة
يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني
أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفعه أبو سعيد في
صدره فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه
فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأول
الحديث وقيل يرده بأسهل الوجوه فإذا أبى فبأشد
ولو أدى إلى قتله فإن قتله فلا شيء عليه لأن
الشارع أباح قتله والأمر في الحديث وإن كان
ظاهره الإيجاب لكن قال النووي لا أعلم أحدا من
الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع بل صرح أصحابنا
بأنه مندوب ولكن قال المصنف قد صرح بوجوبه أهل
الظاهر وفي قوله فإنما هو شيطان تعليل بأن
فعله فعل الشيطان في إرادة التشويش على المصلي
وفيه دلالة على جواز إطلاق لفظ الشيطان على
الإنسان الذي يريد إفساد صلاة المصلي وفتنته
في دينه كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإِِنْسِ
وَالْجِنِّ} وقيل المراد بأن الحامل له على
ذلك شيطان ويدل له رواية مسلم "فإن معه
القرين" وقد اختلف في الحكمة المقتضية للأمر
بالدفع الإثم عن المار وقيل: لدفع الخلل
الواقع بالمرور في الصلاة وهذا الأرجح لأن
عناية المصلي بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم
عن غيره قلت ولو قيل إنه لهما معا لما بعد
الإثم فيكون لدفع الإثم عن المار الذي أفاد
حديث "لو لم يعلم المار" ولصيانة الصلاة عن
النقصان من أجرها فقد أخرج أبو نعيم عن
(1/145)
عمر" لو يعلم
المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما
صلى إلا إلى شيء يستره من الناس" وأخرج ابن
أبي شيبة عن ابن مسعود "إن المرور بين يدي
المصلي يقطع نصف صلاته" ولهما حكم الرفع وإن
كانا موقوفين إلا أن الأول فيمن لم يتخذ سترة
والثاني: مطلق فيحمل عليه وأما من اتخذ السترة
فلا نقص في صلاته بمرور المار لأنه قد صرح
الحديث أنه مع اتخاذ السترة لا يضره مرور من
مر فأمره بدفعه للمار لعل وجهه إنكار المنكر
على المار لتعديه ما نهاه عنه الشارع ولذا
يقدم الأخف على الأغلظ
8- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم
فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا
فإن لم يكن فليخط خطا ثم من مر بين يديه..."
أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان ولم يصب
من زعم -وهو ابن الصلاح- أنه مضطرب فإنه أورده
مثالا للمضطرب فيه بل هو حسن ونازعه المصنف في
النكت وقد صححه أحمد وابن المديني وفي مختصر
السنن قال سفيان بن عيينة لم نجد شيئا نشد به
هذا الحديث ولم يجيء إلا من هذا الوجه وكان
إسماعيل بن أمية إذا حدث بهذا الحديث يقول هل
عندكم شيء تشدونه به وقد أشار الشافعي إلى
ضعفه وقال البيهقي لا بأس به في مثل هذا الحكم
إن شاء الله تعالى والحديث دليل على أن السترة
تجزئ بأي شيء كانت وفي مختصر السنن قال سفيان
بن عيينة رأيت شريكا صلى بنا في جنازة العصر
فوضع قلنسوته بين يديه وفي الصحيحين من رواية
ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض
راحلته فيصلي إليها" وقد تقدم أنه أي المصلي
إذا لم يجد جمع ترابا أو أحجارا واختار أحمد
بن حنبل أن يكون الخط كالهلال وفي قوله: "ثم
لا يضره شيء ما" يدل أنه يضره إذا لم يفعل إما
بنقصان من صلاته أو بإبطالها على ما ذكر أنه
يقطع الصلاة إذ في المراد بالقطع الخلاف كما
تقدم وهذا فيما إذا كان المصلي إماما أو
منفردا لا إذا كان مؤتما فإن الإمام سترته
سترة له وقد سبق قريبا وقد بوب له البخاري
وأبو داود وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث
أنس مرفوعا سترة الإمام لمن خلفه وإن كان فيه
ضعف واعلم أن الحديث عام في الأمر باتخاذ
السترة في الفضاء وغيره فقد ثبت أنه صلى الله
عليه وسلم كان إذا صلى إلى جدار جعل بينه
وبينه قدر ممر الشاة ولم يكن يتباعد منه بل
أمر بالقرب من السترة وكان إذا صلى إلى عود أو
عمود أو شجرة جعله على جانبه الأيمن أو الأيسر
ولم يصمد له صمدا وكان يركز الحربة في السفر
أو العنزة فيصلي إليها فتكون سترته وكان يعرض
راحلته فيصلي إليها وقاس الشافعية على ذلك بسط
المصلي لنحو سجادة بجامع إشعار الكفار أنه في
الصلاة وهو صحيح.
9- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع
الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم" أخرجه أبو
داود وفي سنده ضعف
(1/146)
في مختصر
المنذري في إسناده مجالد وهو أبو سعيد بن عمير
الهمداني الكوفي وقد تكلم واحد وأخرج له مسلم
حديثا مقرونا بغيره من أصحاب الشعبي وأخرج
نحوه أيضا الدارقطني من حديث أنس وأبي أمامة
والطبراني من حديث جابر وفي إسنادهما ضعف وهذا
الحديث معارض لحديث أبي ذر وفيه أنه يقطع صلاة
من ليس له سترة المرأة والحمار والكلب الأسود
ولما تعارض الحديثان اختلف نظر العلماء فيهما
فقيل المراد بالقطع في حديث أبي ذر نقص الصلاة
بشغل القلب بمرور المذكورات وبعدم القطع في
حديث أبي سعيد عدم البطلان أي أنه لا يبطلها
شيء وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر في حديث أبي
ذر وقيل حديث أبي سعيد هذا ناسخ لحديث أبي ذر
وهذا ضعيف لأنه لا نسخ مع إمكان الجمع لما
عرفت ولأنه لا يتم النسخ إلا بمعرفة التاريخ
ولا يعلم هنا المتقدم من المتأخر على أنه لو
تعذر الجمع بينهما لرجع إلى الترجيح وحديث أبي
ذر أرجح لأنه أخرجه مسلم في صحيحه وحديث أبي
سعيد في سنده ضعف كما عرفت
(1/147)
باب الحث على الخشوع في الصلاة
في القاموس الخشوع الخضوع أو قريب من الخضوع
أو هو في البدن والخشوع في الصوت والبصر
والسكون والتذلل وفي الشرع الخضوع تارة يكون
في القلب وتارة يكون من قبل البدن كالسكوت
وقيل لا بد من اعتبارهما حكاه الفخر الرازي في
تفسيره ويدل على أنه من عمل القلب حديث علي
عليه السلام الخشوع في القلب أخرجه الحاكم قلت
ويدل له حديث "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"
وحديث الدعاء في الاستعاذة "وأعوذ بك من قلب
لا يخشع" وقد اختلف في وجوب الخشوع في الصلاة
فالجمهور على عدم وجوبه وقد أطال الغزالي في
الإحياء الكلام في ذلك وذكر أدلة وجوبه وادعى
النووي الإجماع على عدم وجوبه
1- (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا إخبار من
أبي هريرة عن نهيه صلى الله عليه وسلم ولم يأت
بلفظه الذي أفاد النهي لكن هذا له حكم الرفع
"أن يصلي الرجل" ومثله المرأة "مختصرا" بضم
الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة
الفوقية فصاد مهملة مكسورة فراء وهو منتصب على
الحال وعامله يصلي وصاحبه الرجل متفق عليه
واللفظ لمسلم وفسره المصنف أيضا بقوله ومعناه
أن يجعل يده اليمنى أو اليسرى على خاصرته كذلك
أي الخاصرة اليمنى أو اليسرى أو هما معا
عليهما إلا أن تفسيره بما ذكر يعارضه ما في
القاموس من قوله وفي الحديث المختصرون يوم
القيامة على وجوههم النور أي المصلون بالليل
فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم اهـ إلا
أني لم أجد الحديث مخرجا فإن صح فالجمع بينه
وبين حديث الكتاب أن يتوجه النهي إلى من
(1/147)
فعل ذلك بغير
تعب كما يفيده قوله في تفسيره فإذا تعبوا إلا
أنه يخالفه تفسير النهاية فإنه قال أراد أنهم
يأتون ومعهم أعمال صالح يتكئون عليها وفي
القاموس الخاصرة الشاكلة وما بين الحرقفة
والقصيري وفسر الحرقفة بعظم الحجبة أي رأس
الورك وهذا التفسير الذي ذكره المصنف عليه
الأكثر وقيل الاختصار في الصلاة هو أن يأخذ
بيده عصا يتوكأ عليها وقيل أن يختصر السورة
ويقرأ من آخرها اية أو ايتين وقيل أن يحذف من
الصلاة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها
وحدودها والحكمة في النهي عنه بينها قوله
2- ( وفي البخاري عن عائشة أن ذلك أي الاختصار
في الصلاة فعل اليهود في صلاتهم وقد نهينا عن
التشبه بهم في جميع أحوالهم فهذا وجه حكمة
النهي لا ما قيل إنه فعل الشيطان أو أن إبليس
أهبط من الجنة كذلك أو إنه فعل المتكبرين لأن
هذه علل تخمينية وما ورد منصوصا أي عن الصحابي
هو العمدة لأنه أعرف بسبب الحديث ويحتمل أنه
مرفوع وما ورد في الصحيح مقدم على غيره لورود
هذه الأشياء أثرا وفي ذكر المصنف للحديث في
باب الخشوع ما يشعر بأن العلة في النهي عن
الاختصار أنه ينافي الخشوع
3- (وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:: إذا قدم العشاء : ممدود
كسماء طعام العشي كما في القاموس "فابدأوا به"
أي بأكله "قبل أن تصلوا المغرب" متفق عليه وقد
ورد بإطلاق لفظ الصلاة قال ابن دقيق العيد
فيحمل المطلق على المقيد وورد بلفظ إذا وضع
العشاء وأحدكم صائم فلا يقيد به لما عرف في
الأصول من أن ذكر حكم الخاص الموافق لا يقتضي
تقييدا ولا تخصيصا والحديث دال على إيجاب
تقديم أكل العشاء إذا حضر على صلاة المغرب
والجمهور حملوه على الندب وقالت الظاهرية بل
يجب تقديم أكل العشاء فلو قدم الصلاة لبطلت
عملا بظاهر الأمر ثم الحديث ظاهر في أنه يقدم
العشاء مطلقا سواء كان محتاجا إلى الطعام أو
لا وسواء خشي فساد الطعام أو لا وسواء كان
خفيفا أو لا وفي معنى الحديث تفاصيل أخر بغير
دليل بل تتبعوا علة الأمر بتقديم الطعام
فقالوا هو تشويش الخاطر بحضور الطعام وهو يفضي
إلى ترك الخشوع في الصلاة وهي علة ليس عليها
دليل إلا ما يفهم من كلام بعض الصحابة فإنه
أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وابن عباس
أنهما كانا يأكلان طعاما وفي التنور شواء
فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة فقال له ابن عباس
لا تعجل لا نقوم وفي أنفسنا منه شيء وفي رواية
لئلا يعرض لنا في صلاتنا وله عن الحسن بن علي
عليهما السلام أنه قال العشاء قبل الصلاة يذهب
النفس اللوامة ففي هذه الآثار إشارة إلى
التعليل بما ذكر ثم هذا إذا كان الوقت موسعا
واختلف إذا تضيق بحيث لو قدم أكل العشاء خرج
الوقت فقيل يقدم الأكل وإن خرج الوقت محافظة
على تحصيل الخشوع في الصلاة قيل وهذا على قول
من يقول بوجوب الخشوع في الصلاة وقيل بل يبدأ
بالصلاة محافظة على حرمة الوقت وهو قول
الجمهور من العلماء وفيه أن حضور الطعام عذر
في ترك الجماعة عند من أوجبها وعند غيره قيل
وفي قوله "فابدأوا" ما يشعر بأنه إذا كان حضور
الصلاة وهو
(1/148)
يأكل فلا
يتمادى فيه وقد ثبت عن ابن عمر أنه كان إذا
حضر عشاؤه وسمع قراءة الإمام في الصلاة لم يقم
حتى يفرغ من طعامه وقد قيس على الطعام غيره
مما يحصل بتأخيره تشويش الخاطر فالأولى
البداءة به
4- (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم في
الصلاة " أي دخل فيها "فلا يمسح الحصى" أي من
جبهته أو من محل سجوده "فإن الرحمة تواجهه"
رواه الخمسة بإسناد صحيح وزاد أحمد في روايته
واحدة أو دع في هذا النقل قلق لأنهم يفهم أنه
زاد أحمد على هذا اللفظ الذي ساقه المصنف
ومعناه على هذا فلا يمسح واحدة أو دع وهو غير
مراد ولفظه عند أحمد عن أبي ذر سألت النبي صلى
الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مسح
الحصاة فقال واحدة أو دع أي امسح واحدة أو
اترك المسح فاختصار المصنف أخل بالمعنى كأنه
اتكل في بيان معناه على لفظه لمن عرفه ولو قال
وفي رواية لأحمد الإذن بمسحة واحدة لكان واضحا
والحديث دليل على النهي عن مسح الحصاة بعد
الدخول في الصلاة لا قبله فالأولى له أن يفعل
ذلك لئلا يشغل باله وهو في الصلاة والتقييد
بالحصى أو التراب كما في رواية للغالب ولا يدل
على نفيه عما عداه قيل والعلة في النهي
المحافظة على الخشوع كما يفيده سياق المصنف
للحديث في هذا الباب أو لئلا يكثر العمل في
الصلاة وقد نص الشارع على العلة بقوله فإن
الرحمة تواجهه أي تكون تلقاء وجهه فلا يغير ما
تعلق بوجهه من التراب والحصى ولا ما يسجد عليه
إلا أن يؤلمه فله ذلك ثم النهي ظاهر في
التحريم
5- (وفي الصحيح أي المتفق عليه عن معيقيب بضم
الميم وفتح العين المهملة والمثناة التحتية
وكسر القاف بعدها تحتية ساكنة بعدها موحدة هو
معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي شهد بدرا وكان
أسلم قديما بمكة وهاجر إلى الحبشة الهجرة
الثانية وأقام بها حتى قدم النبي صلى الله
عليه وسلم المدينة وكان على خاتم النبي صلى
الله عليه وسلم واستعمله أبو بكر وعمر رضي
الله عنهما على بيت المال مات سنة ست وأربعين
وقيل في آخر خلافة عثمان نحوه أي نحو حديث أبي
ذر ولفظه "لا تمسح الحصى وأنت تصلي فإن كنت لا
بد فاعلا فواحدة لتسوية الحصى" بغير تعليل أي
ليس فيه أن الرحمة تواجهه
6-( وعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في
الصلاة فقال: "هو اختلاس" بالخاء المعجمة
فمثناة فوقية آخره سين مهملة هو الأخذ للشيء
على غفلة "يختلسه الشيطان من صلاة العبد" رواه
البخاري قال الطيبي سماه اختلاسا لأن المصلي
يقبل على ربه تعالى ويترصد الشيطان فوات ذلك
عليه فإذا التفت استلبه ذلك وهو دليل على
كراهة الالتفات في الصلاة وحمله الجمهور على
ذلك إذا كان التفاتا لا يبلغ إلى استدبار
القبلة بصدره أو عنقه كله وإلا كان مبطلا
للصلاة وسبب الكراهة نقصان الخشوع كما أفاده
إيراد المنصف للحديث في هذا الباب أو ترك
(1/149)
استقبال القبلة
ببعض البدن أو لما فيه من الإعراض عن التوجه
إلى الله تعالى كما أفاده ما أخرجه أحمد وابن
ماجه من حديث أبي ذر لا يزال الله مقبلا على
العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه
انصرف أخرجه أبو داود والنسائي وللترمذي أي عن
عائشة وصححه إياك بكسر الكاف لأنه خطاب المؤنث
والالتفات بالنصب لأنه محذر منه في الصلاة
فإنه هلكة لإخلاله بأفضل العبادات وأي هلكة
أعظم من هلكة الدين فإن كان لا بد من الالتفات
ففي التطوع قيل والنهي عن الالتفات إذا كان
لغير حاجة وإلا فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله
عنه التفت لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم في
صلاة الظهر والتفت الناس لخروجه صلى الله عليه
وسلم في مرض موته حيث أشار إليهم ولو لم
يلتفتوا ما علموا بخروجه ولا إشارته وأقرهم
على
7- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم في الصلاة
فإنه يناجي ربه" وفي رواية في البخاري "فإن
ربه بينه وبين القبلة" والمراد من المناجاة
إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان "فلا
يبصقن بين يديه ولا عن يمينه" قد علل في حديث
أبي هريرة بأن عن يمينه ملكا "ولكن عن شماله
تحت قدمه" متفق عليه وفي رواية "أو تحت قدمه"
الحديث نهى عن البصاق إلى جهة القبلة أو جهة
اليمين إذا كان العبد في الصلاة وقد ورد النهي
مطلقا عن أبي هريرة وأبي سعيد "أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد
فتناول حصاة فحتها" وقال: "إذا تنخم أحدكم فلا
يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصقن عن
يساره أو تحت قدمه اليسرى" متفق عليه وقد جزم
النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها
سواء كان في المسجد أو غيره وقد أفاده حديث
أنس في حق المصلي إلا أن غيره من الأحاديث قد
أفادت تحريم البصاق إلى القبلة مطلقا في
المسجد وفي غيره وعلى المصلي وغيره ففي صحيح
ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة مرفوعا "من
تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين
عينيه" ولابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعا
"يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي
في وجهه" وأخرج أبو داود وابن حبان من حديث
السائب بن خلاد أن رجلا أم قوما فبصق في
القبلة فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا يصلي لكم" ومثل البصاق إلى القبلة
البصاق عن اليمين فإنه منهي عنه مطلقا أيضا
وأخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود أنه كره أن
يبصق عن يمينه وليس في الصلاة وعن معاذ بن جبل
ما بصقت عن يميني منذ أسلمت وعن عمر بن عبد
العزيز أنه نهى عنه أيضا وقد أرشد صلى الله
عليه وسلم إلى أي جهة يبصق فقال عن شماله تحت
قدمه فبين الجهة أنها جهة الشمال والمحل أنه
تحت القدم وورد في حديث أنس عند أحمد ومسلم
بعد قوله: "ولكن عن يساره أو تحت قدم" ه زيادة
ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ورد بعضه على بعض
فقال أو يفعل هكذا وقوله أو تحت قدمه خاص بمن
ليس في المسجد وأما إذا كان فيه ففي ثوبه
لحديث "البصاق في المسجد
(1/150)
خطيئة" إلا أنه
قد يقال المراد البصاق إلى جهة القبلة أو جهة
اليمين خطيئة لا تحت القدم أو عن شماله لأنه
قد أذن فيه الشارع ولا يأذن في خطيئة هذا وقد
سمعت أنه علل صلى الله عليه وسلم النهي عن
البصاق على اليمين بأن عن يمينه ملكا فأورد
سؤال وهو أن على الشمال أيضا ملكا وهو كاتب
السيئات وأجيب بأنه اختص بذلك ملك اليمين
تخصيصا له وتشريفا وإكراما وأجاب بعض
المتأخرين بأن الصلاة أم الحسنات البدنية فلا
دخل لكاتب السيئات فيها واستشهد لذلك بما
أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة موقوفا في
هذا الحديث ولا عن يمينه فإن عن يمينه كاتب
الحسنات وفي الطبراني من حديث أمامة في هذا
الحديث فإنه يقوم بين يدي الله وملك عن يمينه
وقرينه عن يساره وإذا ثبت هذا فالتفل يقع على
القرين وهو الشيطان ولعل ملك اليسار حينئذ
بحيث لا يصيبه شيء من ذلك أو أنه يتحول في
الصلاة إلى جهة اليمين
8- (وعنه أي أنس رضي الله عنه قال كان قرام
بكسر القاف وتخفيف الراء الستر الرقيق وقيل
الصفيق من صوف ذي ألوان لعائشة سترت به جانب
بيتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم
"أميطي عنا" أي أزيلي "قرامك هذا فإنه لا تزال
تصاويره تعرض" بفتح المثناة الفوقية وكسر
الراء "لي في صلاتي" رواه البخاري في الحديث
دلالة على إزالة ما يشوش على المصلي صلاته مما
في منزله أو في محل صلاته ولا دليل فيه على
بطلان الصلاة لأنه لم يرو أنه صلى الله عليه
وسلم أعادها ومثله
9- (واتفقا -أي الشيخان- على حديثها -أي عائشة
-في قصة أنبجانية بفتح الهمزة وسكون النون
وكسر الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء
النسبة كساء غليظ لا علم فيه أبي جهم بفتح
الجيم وسكون الهاء هو عامر بن حذيفة وفيه
فإنها أي الخميصة وكانت ذات أعلام أهداها له
صلى الله عليه وسلم أبو جهم فالضمير لها وإن
لم يتقدم في كلام المصنف ذكرها ولفظ الحديث عن
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في
خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما
انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم
وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا
عن صلاتي" هذا لفظ البخاري وعبارة المصنف تفهم
أن ضمير فإنها للأنبجانية وكذا ضمير ألهتني عن
صلاتي وذلك أن أبا جهم أهدى للنبي صلى الله
عليه وسلم خميصة لها أعلام كما روى مالك في
الموطأ عن عائشة قالت أهدى أبو جهم بن حذيفة
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها
علم فشهد فيها الصلاة فلما انصرف قال: "ردي
هذه الخميصة إلى أبي جهم" وفي رواية عنها "كنت
أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن
يفتنني" قال ابن بطال إنما طلب منه ثوبا غيرها
ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به وفي
الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من
النقوش ونحوها مما يشغل القلب وفيه مبادرته
صلى الله عليه وسلم إلى صيانه الصلاة عما يلهي
وإزاله ما يشغل عن الإقبال عليها قال الطيبي
فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرا
في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلا عما
دونها وفيه
(1/151)
كراهة الصلاة
على المفارش والسجاجيد المنقوشة وكراهة نقش
المساجد ونحوه
10- (وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينتهين" بفتح
اللام وفتح المثناة التحتية وسكون النون وفتح
المثناة الفوقية وكسر الهاء "أقوام يرفعون
أبصارهم إلى السماء" في الصلاة أي إلى ما
فوقهم مطلقا "أو لا ترجع إليهم" رواه مسلم قال
النووي في شرح مسلم فيه النهي الأكيد والوعيد
الشديد في ذلك وقد نقل الإجماع على ذلك والنهي
يفيد تحريمه وقال ابن حزم تبطل به الصلاة قال
القاضي عياض واختلفوا في غير الصلاة في الدعاء
فكرهه قوم وجوزه الأكثرون
11- (وله أي لمسلم عن عائشة قالت سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة
طعام" تقدم الكلام في ذلك إلا أن هذا يفيد
أنها لا تقام الصلاة في موضع حضر فيه الطعام
وهو عام للنفل والفرض وللجائع وغيره والذي
تقدم أخص من هذا "ولا" أي لا صلاة "وهو" أي
المصلي "يدافعه الأخبثان" البول والغائط ويلحق
بهما مدافعة الريح فهذا مع المدافعة وأما إذا
كان يجد في نفسه ثقل ذلك وليس هناك مدافعة فلا
نهي عن الصلاة معه ومع المدافعة فهي مكروهة
قيل تنزيها لنقصان الخشوع فلو خشي خروج الوقت
إن قدم التبرز وإخراج الأخبثين قدم الصلاة وهي
صحيحة مكروهة كذا قال النووي ويستحب إعادتها
وعن الظاهرية أنها باطلة
12- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "التثاؤب من الشيطان"
لأنه يصدر عن الامتلاء والكسل وهما مما يحبه
الشيطان فكأن التثاؤب منه "فإذا تثاءب أحدكم
فليكظم أي يمنعه ويمسكه ما استطاع" رواه مسلم
والترمذي وزاد أي الترمذي "في الصلاة" فقيد
الأمر بالكظم بكونه في الصلاة ولا ينافي النهي
عن تلك الحالة مطلقا لموافقة المقيد والمطلق
في الحكم وهذه الزيادة هي في البخاري أيضا
وفيه بعدها ولا يقل ها فإنما ذلك من الشيطان
يضحك منه وكل هذا مما ينافي الخشوع وينبغي أن
يضع يده على فيه لحديث إذا تثاءب أحدكم فليضع
يده على فيه فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب
وأخرجه أحمد والشيخان وغيرهم
(1/152)
باب المساجد
المساجد جمع مسجد بفتح الجيم وكسرها فإن أريد
به المكان المخصوص فهو بكسر الجيم لا غير وإن
أريد به موضع السجود وهو موضع وقوع الجبهة في
الأرض فإنه بالفتح لا غير وفي فضائل المساجد
أحاديث واسعة وأنها أحب البقاع إلى الله وأن
"من بنى لله مسجدا من مال حلال بنى الله له
بيتا في الجنة" وأحاديثها في مجمع الزوائد
وغيره
1- (عن عائشة رضي الله عنها قالت" أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في
الدور" يحتمل أن المراد بها البيوت ويحتمل أن
المراد المحال التي تبنى فيها
(1/152)
الدور "وأن
تنظف" عن الأقذار "وتطيب" رواه أحمد وأبو داود
والترمذي وصحح إرساله والتطييب بالبخور ونحوه
والأمر بالبناء للندب لقوله أينما أدركتك
الصلاة فصل أخرجه مسلم ونحوه عند غيره قيل
وعلى إرادة المعنى الأول في الدور ففي الحديث
دليل على أن المساجد شرطها قصد التسبيل إذ لو
كان يتم مسجدا بالتسمية لخرجت تلك الأماكن
التي اتخذت في المساكن عن ملك أهلها وفي شرح
السنة أن المراد المحال التي فيها الدور ومنه
– سأريكم دار الفاسقين- لأنهم كانوا يسمون
المحال التي اجتمعت فيها القبيلة دارا قال
سفيان بناء المساجد في الدور يعني القبائل
2- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود"
أي لعن كما جاء في رواية وقيل معناه قتلهم
وأهلكهم "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" متفق
عليه وفي مسلم عن عائشة قالت إن أم حبيبة وأم
سلمة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فقال: "إن
أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا
على قبره مسجدا وصوروا تلك التصاوير أولئك
شرار الخلق عند الله يوم القيامة" واتخاذ
القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة
إليها أو بمعنى الصلاة عليها وفي مسلم لا
تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ولا عليها
قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى
يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيما لشأنهم
ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها
اتخذوها أوثانا لهم ومنع المسلمين من ذلك قال
وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك
بالقرب منه لا لتعظيم له ولا لتوجه نحوه فلا
يدخل في ذلك الوعيد قلت قوله لا لتعظيم له
يقال اتخاذ المساجد بقربه وقصد التبرك به
تعظيم له ثم أحاديث النهي مطلقة ولا دليل على
التعليل بما ذكر والظاهر أن العلة سد الذريعة
والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون
الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر ولما
في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير
الخالي عن النفع بالكلية ولأنه سبب لإيقاد
السرج عليها الملعون فاعله ومفاسد ما يبنى على
القبور من المشاهد والقباب لا تحصر وقد أخرج
أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن
عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد
والسرج" وزاد مسلم والنصارى زاد في حديث أبي
هريرة هذا بعد قوله اليهود وقد استشكل ذلك لأن
النصارى ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام إذ
لا نبي بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم وهو
حي في السماء وأجيب بأنه كان فيهم أنبياء غير
المرسلين كالحواريين ومريم في قول وأن المراد
من قوله أنبيائهم المجموع من اليهود والنصارى
أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم واكتفى بذكر
الأنبياء ويؤيد ذلك قوله في رواية مسلم "كانوا
يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" ولهذا
لما أفرد النصارى كما في الحديث الآتي
3- (ولهما أي البخاري ومسلم من حديث عائشة
"كانوا إذا مات فيهم" أي النصارى "قال الرجل
الصالح" ولما أفرد اليهود كما في حديث أبي
هريرة قال أنبيائهم وأحسن من هذا أن يقال
أنبياء اليهود أنبياء النصارى لأن النصارى
مأمورون بالإيمان
(1/153)
بكل رسول فرسل
بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين بنوا
على قبره مسجدا وفيه "أولئك شرار الخلق" اسم
الإشارة عائد إلى الفريقين وكفى به ذما
والمراد من الاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعا أو
اتباعا فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت
4- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث
النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فجاءت برجل
فربطوه بسارية من سواري المسجد الحديث متفق
عليه الرجل هو ثمامة بن أثال صرح بذلك في
الصحيحين وغيرهما وليس فيه أن الربط عن أمره
صلى الله عليه وسلم ولكنه صلى الله عليه وسلم
قرر ذلك لأن في القصة أنه كان يمر به ثلاثة
أيام ويقول ما عندك يا ثمامة الحديث وفيه دليل
على جواز ربط الأسير بالمسجد وإن كان كافرا
وأن هذا تخصيص لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن
المسجد لذكر الله والطاعة" وقد أنزل صلى الله
عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد قال الخطابي:
فيه جواز دخول المشرك المسجد إذا كان له فيه
حاجة مثل أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج
إليه ومثل أن يحاكم إلى قاض هو في المسجد وقد
كان الكفار يدخلون مسجده صلى الله عليه وسلم
ويطيلون فيه الجلوس وقد أخرج أبو داود من حديث
أبي هريرة أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه
وسلم وهو في المسجد وأما قوله تعالى: {فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} فالمراد
به لا يمكنون من حج ولا عمرة كما ورد في القصة
التي بعث لأجلها صلى الله عليه وسلم بآيات
براءة إلى مكة وقوله فلا يحجن بعد هذا العام
مشرك وكذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ
أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} لا يتم
بها دليل على تحريم المساجد على المشركين
لأنها نزلت في حق من استولى عليها وكانت له
الحكمة والمنعة كما وقع في سبب نزول الآية
الكريمة فإنها نزلت في شأن النصارى واستيلائهم
على بيت المقدس وإلقاء الأذى فيه والأزبال أو
أنها نزلت في شأن قريش ومنعهم له صلى الله
عليه وسلم عام الحديبية عن العمرة وأما دخوله
من غير استيلاء ومنع وتخريب فلم تفده الآية
الكريمة وكأن المصنف ساقه لبيان جواز دخول
المشرك المسجد وهو مذهب إمامه فيما عدا المسجد
الحرام
5- (وعنه أي أبي هريرة أن عمر رضي الله عنه مر
بحسان بالحاء المهملة مفتوحة فسين مهملة مشددة
هو ابن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه
وسلم يكنى أبا عبد الرحمن أطال ابن عبد البر
في ترجمته في الاستيعاب قال وتوفي حسان قبل
الأربعين في خلافة علي عليه السلام وقيل بل
مات سنة خمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة ينشد
بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر الشين
المعجمة في المسجد فلحظ إليه أي نظر إليه وكأن
حسان فهم منه نظر الإنكار فقال قد كنت أنشد
فيه وفيه أي المسجد من هو خير منك يعني رسول
الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وقد أشار
البخاري في باب بدء الخلق في هذه القصة أن
حسان أنشد في المسجد ما أجاب به المشركين عنه
صلى الله عليه وسلم ففي الحديث دلالة على جواز
إنشاد الشعر في المسجد
(1/154)
وقد عارضه
أحاديث أخرج ابن خزيمة وصححه الترمذي من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في
المسجد وله شواهد وجمع بينها وبين حديث الباب
بأن النهي محمول على تناشد أشعار الجاهلية
وأهل البطالة وما لم يكن فيه غرض صحيح
والمأذون فيه ما سلم من ذلك وقيل المأذون فيه
مشروط بأن لا يكون ذلك مما يشغل من في المسجد
وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد
فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن
لهذا" رواه مسلم
6- (وعنه أي أبي هريرة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من سمع رجلا ينشد" بفتح
المثناة التحتية وسكون النون وضم الشين
المعجمة من نشد الدابة إذا طلبها "ضالة في
المسجد فليقل لا ردها الله عليك" عقوبة له
لارتكابه في المسجد ما لا يجوز وظاهره أنه
يقول جهرا وأنه واجب "فإن المساجد لم تبن
لهذا" رواه مسلم أي بل بنيت لذكر الله والصلاة
والعلم والمذاكرة في الخير ونحوه والحديث دليل
على تحريم السؤال عن ضالة الحيوان في المسجد
وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو
ذهب في المسجد قيل يلحق للعلة وهي قوله: "فإن
المساجد لم تبن لهذا" وأن من ذهب له متاع فيه
أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين
والداخلين إليه واختلف أيضا في تعليم الصبيان
القرآن في المسجد وكأن المانع يمنعه لما فيه
من رفع الأصوات المنهي عنه في حديث واثلة
جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم
أخرجه عبد الرزاق والطبراني في الكبير وابن
ماجه
7- (وعنه) أي أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع"
يشتري "في المسجد فقولوا له لا أربح الله
تجارتك" رواه الترمذي والنسائي وحسنه) فيه
دلالة على تحريم البيع والشراء في المساجد
وأنه يجب على من رأى ذلك فيه أن يقول لكل من
البائع والمشتري لا أربح الله تجارتك جهرا
زجزا للفاعل لذلك يقول والعلة هي قوله فيما
سلف فإن المساجد لم تبن لذلك وهل ينعقد البيع
قال الماوردي: إنه ينعقد اتفاقا
8- ( وعن حكيم بن حزام بالحاء المهملة مكسورة
والزاي وحكيم صحابي كان من أشراف قريش في
الجاهلية والإسلام أسلم عام الفتح عاش مائة
وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام
وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين وله أربعة
أولاد صحابيون كلهم عبد الله وخالد ويحيى
وهشام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها"
أي يقام القود فيها رواه أحمد وأبو داود بسند
ضعيف ورواه الحاكم وابن السكن وأحمد بن حنبل
والدارقطني والبيهقي وقال المصنف في التلخيص
لا بأس بإسناده والحديث دليل على تحريم إقامة
الحدود في المساجد وعلى تحريم الاستقادة فيها
9- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت أصيب سعد هو
ابن معاذ بضم الميم
(1/155)
فعين مهملة بعد
الألف ذال معجمة هو أبو عمرو سعد بن معاذ
الأوسي أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى
والثانية وأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل وسماه
رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنصار
وكان مقداما مطاعا شريفا في قومه من كبار
الصحابة شهد بدرا وأحدا وأصيب يوم الخندق في
أكحله فلم يرقأ دمه حتى مات بعد شهر توفي في
شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة يوم الخندق
فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي
نصب عليه خيمة في المسجد ليعوده من قريب أي
ليكون مكانه قريبا منه صلى الله عليه وسلم
فيعوده متفق عليه فيه دلالة على جواز النوم في
المسجد وبقاء المريض فيه وإن كان جريحا وضرب
الخيمة وإن منعت من الصلاة
10- (وعنها أي عن عائشة قالت رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى
الحبشة يلعبون في المسجد الحديث متفق عليه قد
بين في رواية للبخاري أن لعبهم كان بالدرق
والحراب وفي رواية لمسلم يلعبون في المسجد
بالحراب وفي رواية للبخاري وكان يوم عيد فهذا
يدل على جواز مثل ذلك في المسجد في يوم مسرة
وقيل إنه منسوخ بالقران والسنة أما القران
فقوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وأما
السنة فبحديث "جنبوا مساجدكم صبيانكم" الحديث
وتعقب بأنه حديث ضعيف وليس فيه ولا في الآية
تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ فيتم النسخ
وقد حكي أن لعبهم كان خارج المسجد وعائشة كانت
في المسجد وهذا مرود بما ثبت في بعض طرق هذا
الحديث أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهم" وفي
ألفاظه أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر:
"لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة وأني بعثت
بحنيفية سمحة" وكأن عمر بنى على الأصل في
تنزيه المساجد فبين له صلى الله عليه وسلم أن
التعمق والتشدد ينافي قاعدة شريعته صلى الله
عليه وسلم من التسهيل والتيسير وهذا يدفع قول
الطبري إنه يغتفر للحبش ما لا يغتفر لغيرهم
فيقر حيث ورد ويدفع قول من قال إن اللعب
بالحراب ليس لعبا مجردا بل فيه تدريب الشجعان
على مواضع الحروب والاستعداد للعدو ففي ذلك من
المصلحة التي تجمع عامة المسلمين ويحتاج إليها
في إقامة الدين فأجيز فعلها في المسجد هذا
وأما نظر عائشة إليهم وهم يلعبون وهي أجنبية
ففيه دلالة على جواز نظر المرأة إلى جملة
الناس من دون تفصيل لأفرادهم كما تنظرهم إذا
خرجت للصلاة في المسجد وعند الملاقاة في
الطرقات ويأتي تحقيق هذه المسألة في محلها
11- (وعنها أي عائشة (أن الوليدة) الوليد
الأمة سوداء كان لها خباء بكسر الخاء المعجمة
وموحدة فهمزة ممدودة الخيمة من وبر أو غيره
وقيل لا تكون إلا من شعر في المسجد فكانت
تأتيني فتحدث عندي الحديث متفق عليه والحديث
برمته في البخاري عن عائشة أن وليدة سوداء كان
لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم فخرجت صبية
لهم عليها وشاح أحمر من سيور قال فوضعته أو
وقع منها فمرت حدياة وهو
(1/156)
ملقي فحسبته
لحما فخطفته قالت فالتمسوه فلم يجدوه فاتهموني
به فجعلوا يفتشوني حتى فتشوا قبلها قالت والله
إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته قالت
فوقع بينهم فقلت هذا الذي اتهموني به زعمتم
وأنا بريئة منه وهاهو ذا قالت فجاءت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت قال عائشة
فكان لها خباء في المسجد أو حفش فكانت تأتيني
فتحدث عندي قالت فلا تجلس إلا قالت ويوم
الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من دارة الكفر
نجاني قالت عائشة قلت لها ما شأنك لا تقعدين
إلا قلت هذا فحدثتني بهذا الحديث فهذا الذي
أشار إليه المصنف بقوله الحديث وفي الحديث
دلالة على إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن
ليس له مسكن من المسلمين رجلا كان أو امرأة
عند أمن الفتنة وجواز ضرب الخيمة له ونحوها
12- (وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "البصاق" في القاموس البصاق
كغراب والبساق والبزاق ماء الفم إذ خرج منه
وما دام فيه فهو ريق وفي لفظ للبخاري البزاق
ولمسلم "االتفل في المسجد خطيئة وكفارتها
دفنها" متفق عليه الحديث دليل على أن البصاق
في المسجد خطيئة والدفن يكفرها وقد عارضه ما
تقدم من حديث فليبصق عن يساره أو تحت قدمه فإن
ظاهره سواء كان في المسجد أو غيره قال النووي
هما عمومان لكن الثاني مخصوص بما إذا لم يكن
في المسجد ويبقى عموم الخطيئة إذا كان في
المسجد من دون تخصيص وقال القاضي عياض إنما
يكون البصاق في المسجد خطيئة إذا لم يدفنه
وأما إذا أراد دفنه فلا وذهب إلى هذا أئمة من
أهل الحديث ويدل له حديث أحمد والطبراني
بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعا من تنخع
في المسجد فلم يدفنه فسيئة فإن دفنه فحسنه فلم
يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن ونحوه حديث أبي
ذر ثم مسلم مرفوعا وجدت في مساوىء أمتي
النخاعة تكون في المسجد لا تدفن وهكذا فهم
السلف ففي سنن سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن
الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسى أن
يدفنها حتى رجع إلى منزله فأخذ شعلة من نار ثم
جاء فطلبها حتى دفنها وقال الحمد لله حيث لم
تكتب على خطيئة الليلة فدل على أنه فهم أن
الخطيئة مختصة بمن تركها وقدمنا وجها من الجمع
وهو أن الخطيئة حيث كان التفل عن اليمين أو
إلى جهة القبلة لا إذا كان عن الشمال وتحت
القدم فالحديث هذا مخصص بذلك ومقيد به قال
الجمهور والمراد أي من دفنها دفنها في تراب
المسجد ورمله وحصاه وقول من قال المراد من
دفنها إخراجها من المسجد بعيد
13- (وعنه أي أنس قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى" يتفاخر
"الناس في المساجد " بأن يقول واحد في مسجدي
أحسن من مسجدك علوا وزينة وغير ذلك أخرجه
الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة الحديث من
أعلام
(1/157)
النبوة وقوله:
"لا تقوم الساعة" قد يؤخذ منه أنه من أشراطها
والتباهي إما بالقول كما عرفت أو بالفعل كأن
يبالغ كل واحد في تزيين مسجده ورفع بنائه وغير
ذلك وفيه دلالة مفهمة بكراهة ذلك وأنه من
أشراط الساعة وأن الله لا يحب تشييد المساجد
ولا عمارتها إلا بالطاعة
14- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشيد
المساجد" أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان وتمام
الحديث قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفتها
اليهود والنصارى وهذا مدرج من كلام ابن عباس
كأنه فهمه من الأخبار النبوية من أن هذه الأمة
تحذو حذو بني إسرائيل والتشييد رفع البناء
وتزيينه بالشيد وهو الجص كذا في الشرح والذي
في القاموس شاد الحائط يشيده طلاه بالشيد وهو
ما يطلى به الحائط من جص ونحوه انتهى فلم يجعل
رفع البناء من مسماه والحديث ظاهر في الكراهة
أو التحريم لقول ابن عباس كما زخرفت اليهود
والنصارى فإن التشبه بهم محرم وذلك أنه ليس
المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس من
الحر والبرد وتزيينها يشغل القلوب عن الخشوع
الذي هو روح جسم العبادة والقول بأنه يجوز
تزيين المحراب باطل قال المهدي في البحر: إن
تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا
سكوت رضا أي من العلماء وإنما فعله أهل الدول
الجبابرة من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل
وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا وهو كلام
حسن وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت"
إشعار بأنه لا يحسن ذلك فإنه لو كان حسنا
لأمره الله به صلى الله عليه وسلم وأخرج
البخاري من حديث ابن عمر أن مسجده صلى الله
عليه وسلم كان على عهده صلى الله عليه وسلم
مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل
فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه
على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره
عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جدرانه
بالأحجار المنقوشة والجص وجعل عمدة من حجارة
منقوشة وسقفه بالساج قال ابن بطال: وهذا يدل
على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك
الغلو في تحسينها فقد كان عمر مع كثرة
الفتوحات في أيامه وكثرة المال عنده لم يغير
المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديده
لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم قال:
عند عمارته أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر
أو تصفر فتفتن الناس ثم كان عثمان والمال في
زمنه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك
أنكر بعض الصحابة عليه وأول من زخرف المساجد
الوليد بن عبد الملك وذلك في أواخر عصر
الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك
خوفا من الفتنة
15- (وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "عرضت على أجور أمتي حتى
القذاة يخرجها الرجل من المسجد" رواه أبو داود
والترمذي واستغربه وصححه ابن خزيمة القذاة
بزنة حصاة هي مستعملة في كل شيء يقع في البيت
وغيره إذا كان يسيرا وهذا إخبار بأن ما يخرجه
الرجل من المسجد وإن قل وحقر مأجور
(1/158)
فيه لأن فيه
تنظيف بيت الله وإزالة ما يؤذي المؤمنين ويفيد
بمفهومه أن من الأوزار إدخال القذاة إلى
المسجد
16- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم
المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" متفق عليه
الحديث نهى عن جلوس الداخل إلى المسجد إلا بعد
صلاته ركعتين وهما تحية المسجد وظاهره وجوب
ذلك وذهب الجمهور إلى أنه ندب واستدلوا بقوله
صلى الله عليه وسلم للذي رآه يتخطى "اجلس فقد
آذيت" ولم يأمره بصلاتهما وبأنه قال صلى الله
عليه وسلم لمن علمه الأركان الخمسة فقال: لا
أزيد عليها "أفلح إن صدق" الأول: مردود بأنه
لا دليل على أنه لم يصلهما فإنه يجوز أنه
صلاهما في طرف المسجد ثم جاء يتخطى الرقاب
والثاني: بأنه قد وجب غير ما ذكر كصلاة
الجنائز ونحوها ولا مانع من أنه وجب بعد قوله
لا أزيد واجبات وأعلمه صلى الله عليه وسلم بها
ثم ظاهر الحديث أنه يصليهما في أي وقت شاء
ووقت الكراهة وفيه خلاف وقررناه في حواشي شرح
العمدة أنه لا يصليهما من دخل المسجد في أوقات
الكراهة وقررنا أيضا أن وجوبهما هو الظاهر
لكثرة الأوامر الواردة به وظاهره أنه إذا جلس
ولم يصلهما لا يشرع له أن يقوم فيصليهما وقال
جماعة يشرع له التدارك لما رواه ابن حبان في
صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: "ركعت ركعتين" قال
لا قال: "قم فاركعهما" وترجم عليه ابن حبان
تحية المسجد لا تفوت بالجلوس وكذلك ما يأتي من
قصة سليك الغطفاني وقوله ركعتين لا مفهوم له
في جانب الزيادة بل في جانب القلة فلا تتأدى
سنة التحية بركعة واحدة قال في الشرح: وقد
أخرج من عموم المسجد المسجد الحرام فتحيته
الطواف وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ
فيه بالطواف قلت هكذا ذكره ابن القيم في الهدى
وقد يقال إنه لم يجلس فلا تحية للمسجد الحرام
إذ التحية إنما تشرع لمن جلس والداخل المسجد
الحرام يبدأ بالطواف ثم يصلي صلاة المقام فلا
يجلس إلا وقد صلى نعم لو دخل المسجد الحرام
وأراد القعود قبل الطواف فإنه يشرع له صلاة
التحية كغيره من المساجد وكذلك قد استثنوا
صلاة العيد لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل
قبلها ولا بعدها ويجاب عنه بأنه صلى الله عليه
وسلم ما جلس حتى يتحقق في حقه أنه ترك التحية
بل وصل إلى الجنانة أو إلى المسجد فإنه صلى
العيد في مسجده مرة واحدة ولم يقعد بل وصل إلى
المسجد ودخل في صلاة العيد وأما الجنابة فلا
تحية لها إذ ليست بمسجد إذا وأما إذا اشتغل
الداخل بالصلاة كأن يدخل وقد أقيمت الفريضة
فيدخل فيها فإنها تجزئه عن ركعتي التحية بل هو
منهي عنها بحديث إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة
إلا المكتوبة
(1/159)
باب صفة الصلاة
1- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال مخاطبا للمسيء في صلاته
وهو خلاد بن رافع "إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ
الوضوء" تقدم أن إسباغ
(1/159)
الوضوء إتمامه
"ثم استقبل القبلة فكبر تكبيرة الإحرام ثم
اقرأ ما تيسر معك من القرآن" فيه أنه لا يجب
دعاء الاستفتاح إذ لو وجب لأمره به وظاهره أنه
يجزئه من القرآن غير الفاتحة ويأتي تحقيقه "ثم
اركع حتى تطمئن راكعا" فيه إيجاب الركوع
والاطمئنان فيه "ثم ارفع من الركوع حتى تعتدل
قائما" من الركوع "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا"
فيه أيضا وجوب السجود ووجوب الاطمئنان فيه "ثم
ارفع من السجود حتى تطمئن جالسا" بعد السجدة
الأولى "ثم اسجد الثانية حتى تطمئن ساجدا"
كالأولى فهذه صفة ركعة من ركعات الصلاة قياما
وتلاوة وركوعا واعتدالا منه وسجودا وطمأنينة
وجلوسا بين السجدتين ثم سجدة باطمئنان كالأولى
فهذه صفة ركعة كاملة "ثم افعل ذلك" أي جميع ما
ذكر من الأقوال والأفعال إلا تكبيرة الإحرام
فإنها مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعا من
عدم تكرارها "في صلاتك" في ركعات صلاتك "كلها"
أخرجه السبعة بألفاظ متقاربة و هذا اللفظ الذي
ساقه هنا للبخاري وحده ولابن ماجه أي من حديث
أبي هريرة بإسناد مسلم أي بإسناد رجاله رجال
مسلم "حتى تطمئن قائما" عوضا عن قوله في لفظ
البخاري "حتى تعتدل" فدل على إيجاب الاطمئنان
عند الاعتدال من الركوع ومثله أي مثل ما أخرجه
ابن ماجه ما في قوله
2- (في حديث رفاعة بكسر الراء هو ابن رافع
صحابي أنصاري شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد مع علي
عليه السلام الجمل وصفين وتوفي أول إمارة
معاوية عند أحمد وابن حبان فإنه عندهما بلفظ
حتى تطمئن قائماً وفي لفظ لأحمد فأقم صلبك حتى
ترجع العظام أي التي انخفضت حال الركوع ترجع
إلى ما كانت عليه حال القيام للقراءة وذلك
بكمال الاعتدال وللنسائي وأبي داود من حديث
رفاعة بن رافع أي مرفوعا " إنها لا تتم صلاة
أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى"
في آية المائدة "ثم يكبر الله" تكبيرة الإحرام
"ويحمده" بقراءة الفاتحة إلا أن قوله: "فإن
كان معك قرآن" يشعر بأن المراد بقوله "يحمده"
غير القراءة وهو دعاء الافتتاح فيؤخذ منه وجوب
مطلق الحمد والثناء بعد تكبيرة الإحرام ويأتي
الكلام في ذلك ويثني عليه بها وفيها أي في
رواية النسائي وأبي داود عن رفاعة " فإن كان
معك قرآن فاقرأ وإلا أي وإن لم يكن معك قرآن "
فاحمد الله" أي ألفاظ الحمد الله والأظهر أن
يقول الحمد لله وكبره بلفظ الله أكبر وهلله
بقول لا إله إلا الله فدل على أن هذه عوض
القراءة لمن ليس له قرآن يحفظه ولأبي داود أي
من رواية رفاعة ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء
الله ولابن حبان ثم بما شئت هذ حديث جليل يعرف
بحديث المسيء صلاته وقد اشتمل على تعليم ما
يجب في الصلاة وما لا تتم إلا به فدل على وجوب
الوضوء لكل قائم إلى الصلاة وهو كما دلت عليه
الآية {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}
(1/160)
والمراد لمن
كان محدثا كما عرف من غيره وقد فصل ما أجملته
رواية البخاري رواية النسائي بلفظ: "حتى يسبغ
الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى
المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين"
وهذا التفصيل دل على عدم وجوب المضمضة
والاستنشاق ويكون هذا قرينة على حمل الأمر
بهما حيث ورد على الندب ودل على إيجاب استقبال
القبلة قبل تكبيرة الإحرام وقد تقدم وجوبه
وبيان عفو الاستقبال للمتنفل الراكب ودل على
وجوب تكبيرة الإحرام وعلى تعيين ألفاظها رواية
الطبراني لحديث رفاعة بلفظ ثم يقول الله أكبر
ورواية ابن ماجه التي صححها ابن خزيمة وابن
حبان من حديث أبي حميد من فعله صلى الله عليه
وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع
يديه ثم قال الله أكبر ومثله أخرجه البزار من
حديث علي عليه السلام بإسناد صحيح على شرط
مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى
الصلاة قال الله أكبر فهذا يبين أن المراد من
تكبيرة الإحرام هذا اللفظ ودل على وجوب قراءة
القرآن في الصلاة سواء كان الفاتحة أو غيرها
لقوله "ما تيسر معك من القرن" وقوله "فإن كان
معك قران" ولكن رواية أبي داود بلفظ: "فاقرأ
بأم الكتاب" وعند أحمد وابن حبان "ثم اقرأ بأم
القران ثم اقرأ بما شئت" وترجم له ابن حبان
باب فرض المصلي فاتحة الكتاب في كل ركعة فمع
تصريح الرواية بأم القران يحمل قوله ما تيسر
معك على الفاتحة لأنها كانت المتيسرة لحفظ
المسلمين لها أو يحمل أنه صلى الله عليه وسلم
عرف من حال المخاطب أنه لا يحفظ الفاتحة ومن
كان كذلك وهو يحفظ غيرها فله أن يقرأه أو أنه
منسوخ بحديث تعيين الفاتحة أو أن المراد ما
تيسر فيما زاد على الفاتحة ويؤيده رواية أحمد
وابن حبان فإنها عينت الفاتحة وجعلت ما تيسر
لما عداها فيحتمل أن الراوي حيث قال ما تيسر
ولم يذكر الفاتحة ذهل عنها ودل على إيجاب غير
الفاتحة معها لقوله بأم الكتاب وبما شاء الله
أو شئت ودل على أن من لم يحفظ القران يجزئه
الحمد والتكبير والتهليل وأنه لا يتعين عليه
منه قدر مخصوص ولا لفظ مخصوص وقد ورد تعيين
الألفاظ بأن يقول سبحان الله والحمد الله ولا
إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم ودل على وجوب الركوع ووجوب
الاطمئنان فيه وفي لفظ لأحمد كيفيته فقال فإذا
ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن
ركوعك وفي رواية ثم تكبر وتركع حتى تطمئن
مفاصلك وتسترخي ودل على وجوب الرفع من الركوع
وعلى وجوب الانتصاب قائما وعلى وجوب الاطمئنان
لقوله حتى تطمئن قائما وقد قال المصنف إنها
بإسناد مسلم وقد أخرجها السراج أيضا بإسناد
على شرط البخاري فهي على شرط الشيخين ودل على
وجوب السجود والطمأنينة فيه وقد فصلتها رواية
النسائي عن إسحاق بن أبي طلحة بلفظ ثم يكبر
ويسجد حتى يمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله
وتسترخي ودل على وجوب القعود بين السجدتين وفي
رواية النسائي ثم يكبر فيرفع رأسه حتى يستوي
قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه وفي رواية فإذا
رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى فدل على أن
هيئة القعود بين السجدتين بافتراش اليسرى ودل
على أنه يجب أن يفعل كل ما ذكر في بقية ركعات
صلاته إلا تكبيرة الإحرام فإنه
(1/161)
معلوم أن
وجوبها خاص بالدخول في الصلاة أول ركعة ودل
على إيجاب القراءة في كل ركعة وعلى ما عرفت من
تفسير ما تيسر بالفاتحة وتجب الفاتحة في كل
ركعة وتجب قراءة ما شاء معها في كل ركعة ويأتي
الكلام على إيجاب ما عدا الفاتحة في الآخرتين
والثالثة من المغرب واعلم أن هذا حديث جليل
تكرر من العلماء الاستدلال به على وجوب كل ما
ذكر فيه وعدم وجوب كل ما لم يذكر فيه أما
الاستدلال على أن كل ما ذكر فيه واجب فلأنه
ساقه صلى الله عليه وسلم بلفظ الأمر بعد قوله
لن تتم الصلاة إلا بما ذكر فيه وأما الاستدلال
بأن كل ما لم يذكر فيه لا يجب فلأن المقام
مقام تعليم الواجبات في الصلاة فلو ترك ذكر
بعض ما يجب لكان فيه تأخير البيان عن وقت
الحاجة وهو لا يجوز بالإجماع فإذا حصرت ألفاظ
هذا الحديث الصحيح أخذ منها بالزائد ثم إن
عارض الوجوب الدال عليه ألفاظ هذا الحديث أو
عدم الوجوب دليل أقوى منه عمل به وإن جاءت
صيغة أمر بشيء لم يذكر في هذا الحديث احتمل أن
يكون هذا الحديث قرينة على حمل الصيغة على
الندب واحتمل البقاء على الظاهر فيحتاج إلى
مرجح للعمل به ومن الواجبات المتفق عليها ولم
تذكر في هذا الحديث النية قلت كذا في الشرح
ولقائل أن يقول قوله إذا قمت إلى الصلاة دال
على إيجابها إذ ليس النية إلا القصد إلى فعل
الشيء وقوله فتوضأ أي قاصدا له ثم قال والقعود
الأخير أي من الواجب المتفق عليه ولم يذكره في
الحديث ثم قال ومن المختلف فيه التشهد الأخير
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه
والسلام في آخر الصلاة
3- (وعن أبي حميد بصيغة التصغير الساعدي هو
أبو حميد بن عبد الرحمن بن سعد الأنصاري
الخزرجي الساعدي منسوب إلى ساعدة وهو أبو
الخزرج المدني غلب عليه كنيته مات أخر ولاية
معاوية قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا كبر" أي للإحرام "جعل يديه" أي كفيه
"حذو" بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة
"منكبيه" وهذا هو رفع اليدين عند تكبيرة
الإحرام "وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه" تقدم
بيانه في رواية أحمد لحديث المسيء صلاته "فإذا
ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن
ركوعك" "ثم هصر" بفتح الهاء فصاد مهملة مفتوحة
فراء "ظهره" قال الخطابي أي ثناه في استواء من
غير تقويس وفي رواية للبخاري "ثم حنى" بالحاء
المهملة والنون وهو بمعناه وفي رواية "غير
مقنع رأسه ولا مصوبه" وفي رواية "وفرج بين
أصابعه" "فإذا رفع رأسه" أي من الركوع "استوى"
زاد أبو داود "فقال سمع الله لمن حمده اللهم
ربنا لك الحمد ورفع يديه" وفي رواية لعبد
الحميد زيادة "حتى يحاذي بهما منكبيه" معتدلا
"حتى يعود كل فقار" بفتح الفاء والقاف آخره
راء جمع فقارة وهي عظام الظهر وفيها رواية
بتقديم القاف على الفاء "مكانه" وهي التي عبر
عنها في حديث رفاعة بقوله حتى ترجع العظام
"فإذا سجد وضع يديه غير مفترش"
(1/162)
أي لهما وعند
ابن حبان "غير مفترش ذراعيه" "ولا قابضهما"
بأن يضمهما إليه "واستقبل بأطراف أصابع رجليه
القبلة" ويأتي بيانه في شرح حديث " أمرت أن
أسجد على سبعة أعظم" "وإذا جلس في الركعتين"
جلوس التشهد الأوسط "جلس على رجله اليسرى ونصب
اليمنى وإذا جلس في الركعة الأخيرة " للتشهد
الأخير "قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على
مقعدته" أخرجه البخاري حديث أبي حميد هذا روى
عنه قولا وروى عنه فعلا واصفا فيهما صلاته صلى
الله عليه وسلم وفيه بيان صلاته صلى الله عليه
وسلم وأنه كان عند تكبيرة الإحرام يرفع يديه
حذو منكبيه ففيه دليل على أن ذلك من أفعال
الصلاة وأن رفع اليدين مقارن للتكبير وهو الذي
دل عليه حديث وائل بن حجر عند أبي داود وقد
ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه فورد بلفظ
رفع يديه ثم كبر وبلفظ كبر ثم رفع يديه
وللعلماء قولان الأول: مقارنة الرفع للتكبير
والثاني: تقديم الرفع على التكبير ولم يقل أحد
بتقديم التكبير على الرفع فهذه صفته وفي
المنهاج وشرحه النجم الوهاج الأول: رفعه وهو
الأصح مع ابتدائه لما رواه الشيخان عن ابن عمر
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه
حذو منكبيه حين يكبر فيكون ابتداؤه مع ابتدائه
ولا استصحاب في انتهائه فإن فرغ من التكبير
قبل تمام الرفع أو بالعكس أتم الآخر فإن فرغ
منهما حط يديه ولم يستدم الرفع والثاني: يرفع
غير مكبر ثم يكبر ويداه قارتان فإذا فرغ
أرسلهما لأن أبا داود رواه كذلك بإسناد حسن
وصحح هذا البغوي واختاره الشيخ ودليله في مسلم
من رواية ابن عمر والثالث يرفع مع ابتداء
التكبير ويكون انتهاؤه مع انتهائه ويحطهما بعد
فراغ التكبير لا قبل فراغه لأن الرفع للتكبير
فكان معه وصححه المصنف ونسبه إلى الجمهور
انتهى بلفظه وفيه تحقيق الأقوال وأدلتها ودلت
الأدلة أنه من العمل المخير فيه فلا يتعين شيء
بحكمه وأما حكمه فقال داود والأوزاعي والحميدي
شيخ البخاري وجماعة إنه واجب لثبوته من فعله
صلى الله عليه وسلم فإنه قال المصنف إنه روى
رفع اليدين في أول الصلاة خمسون صحابيا منهم
العشرة المشهود لهم الجنة وروى البيهقي عن
الحاكم قال لا تعلم سنة اتفق على روايتها عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة
ثم العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من
الصحابة مع تفرقهم في البلاد الشاسعة غير هذه
السنة قال البيهقي هو كما قال أستاذنا أبو عبد
الله قال الموجبون قد ثبت الرفع عند تكبيرة
الإحرام هذا الثبوت وقد قال صلى الله عليه
وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فلذا قلنا
بالوجوب وقال غيرهم إنه سنة من سنن الصلاة
وعليه الجمهور وزيد بن علي والقاسم والناصر
والإمام يحيى وبه قالت الأئمة الأربعة من أهل
المذاهب ولم يخالف فيه ويقول إنه ليس سنة إلا
الهادي وبهذا تعرف أن من روى عن الزيدية أنهم
لا يقولون به فقد عمم النقل بلا علم هذا وأما
إلى أي محل يكون الرفع فرواية أبي حميد هذه
تفيد أنه إلى مقابل المنكبين والمنكب مجمع رأس
عظم الكتف والعضد وبه أخذت الشافعية وقيل إنه
يرفع حتى يحاذي بهما فروع أذنه
(1/163)
لحديث وائل بن
حجر بلفظ حتى حاذى أذنيه وجمع بين الحديثين
بأن المراد أنه يحاذي بظهر كفيه المنكبين
وبأطراف أنامله الأذنين كما تدل له رواية
لوائل عند أبي داود بلفظ حتى كانت حيال منكبيه
ويحاذي بإبهاميه أذنيه وقوله أمكن يديه من
ركبتيه قد فسر هذا الإمكان رواية أبي داود
كأنه قابض عليهما وقوله هصر ظهره تقدم قول
الخطابي فيه وتقدم في رواية ثم حنى بالحاء
المهملة والنون وهو بمعناه وفي رواية غير مقنع
رأسه ولا مصوبه في رواية وفرج بين أصابعه وقد
سبق وقوله حتى يعود كل فقار المراد منه كمال
الاعتدال وتفسره رواية ثم يمكث قائما حتى يقع
كل عضو موضعه وفي ذكره كيفية الجلوسين الجلوس
الأوسط والأخير دليل على تغايرهما وأنه في
الجلسة الأخيرة يتورك أي يفضي بوركه إلى الأرض
وينصب رجله اليمنى وفيه خلاف بين العلماء
سيأتي وبهذا الحديث عمل الشافعي ومن تابعه
4- (وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى
الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات" أي
قصدت بعبادتي إلى قوله "من المسلمين" وفيه
روايتان أن يقول "وأنا أول المسلمين" بلفظ
الآية ورواية وأنا من المسلمين وإليها أشار
المصنف "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت
ربي وأنا عبدك إلى آخره" رواه مسلم تمامه
"ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي
جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني
لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف
عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك
وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا
بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك"
وقوله "فطر السموات والأرض" أي ابتدأ خلقهما
مثال سبق وقوله "حنيفا" أي مائلا إلى الدين
الحق وهو الإسلام وزيادة وما أنا من المشركين
بيان للحنيف وأيضا لمعناه النسك العبادة وكل
ما يتقرب به إلى الله وعطفه على الصلاة من عطف
العام على الخاص وقوله: "ومحياي ومماتي" أي
حياتي وموتي لله أي هو المالك لهما والمختص
بهما وقوله: "رب العالمين" الرب الملك
والعالمين جمع عالم مشتق من العلم وهو اسم
لجميع المخلوقات كذا قيل وفي القاموس العالم
الخلق كله أو ما حواه بطن الفلك ولا يجمع فاعل
بالواو والنون غيره وغير ياسى وقوله: "لا شريك
له" - تأكيد لقوله "رب العالمين" المفهوم منه
الاختصاص وقوله "اللهم أنت الملك" أي المالك
لجميع المخلوقات وقوله: "ظلمت نفسي" اعتراف
بظلم نفسه قدمه على سؤال المغفرة ومعنى "لبيك"
أقيم على طاعتك وامتثال أمرك إقامة متكررة
وسعديك أي أسعد أمرك وأتبعه إسعادا متكررا
ومعنى الخير كله في يديك الإقرار بأن كل خير
واصل إلى العباد ومرجو وصوله فهو في يديه
تعالى ومعنى "والشر ليس إليك" أي ليس مما
يتقرب إليه به أي يضاف إليك فلا يقال يا رب
الشر أو لا يصعد إليك فإنه إنما يصعد إليه
الكلم الطيب ومعنى "أنا بك وإليك" أي التجائي
وانتهائي إليك وتوفيقي بك ومعنى "تباركت"
(1/164)
استحققت الثناء
أو ثبت الخير عندك فهذا ما يقال في الاستفتاح
مطلقا وفي رواية له أي لمسلم أن ذلك كان يقوله
صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل ونقل المصنف
في التلخيص عن الشافعي وابن خزيمة أنه يقال في
المكتوبة وأن حديث علي عليه السلام ورد فيها
فعلى كلامه هنا يحتمل أنه مختص بها هذا الذكر
ويحتمل أنه عام وأنه يخير العبد بين قوله عقيب
التكبير أو قول ما أفاده
5- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة"
أي تكبيرة الإحرام "سكت هنيهة" بضم الهاء فنون
فمثناة تحتية فهاء مفتوحة فنون أي ساعة لطيفة
قبل أن يقرأ فينبغي أي عن سكوته ما يقول فيه
فقال أقول: "اللهم باعد ببين وبين خطاياي"
المباعدة المراد بها محو ما حصل منها أو
العصمة عما يأتي منها "كما باعدت بين المشرق
والمغرب" لا يجتمع المشرق والمغرب لا يجتمع هو
وخطاياه "اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب
الأبيض من الدنس" بفتح الدال المهملة والنون
فسين مهملة في القاموس أنه الوسخ والمراد أزل
عني الخطايا بهذه الإنالة "اللهم اغسلني من
خطاياي بالماء والثلج والبرد" بالتحريك جمع
بردة قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد أو
لأنهما ماءان لم تستعملها الأيدي وقال ابن
دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو فإن الثوب
للذي تكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في
غاية النقاء وفيه أقوال أخر متفق عليه وفي
الحديث دليل على أنه يقول هذا الذكر بين
التكبيرة والقراءة سرا وأنه يخير العبد بين
هذا الدعاء والدعاء الذي في حديث علي عليه
السلام أو يجمع بينهما
6- (وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول أي بعد
تكبيرة الإحرام "سبحانك اللهم وبحمدك" أي أسجد
حال كوني متلبسا بحمدك "تبارك اسمك وتعالى جدك
ولا إله غيرك" رواه مسلم بسند منقطع قال
الحاكم قد صح عن عمر وقال في الهدي النبوي:
إنه قد صح عن عمر أنه كان يستفتح به في مقام
النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به ويعلمه
الناس وهو بهذا الوجه في حكم المرفوع ولذا قال
الإمام أحمد أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر
ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي لكان حسنا وقد
ورد في التوجه بألفاظ كثيرة والقول بأنه يخير
العبد بينها قول حسن وأما الجمع بين هذا وبين
وجهت وجهي الذي تقدم فقد ورد في حديث ابن عمر
رواه الطبراني في الكبير وفي رواته ضعف
والدارقطني عطف على مسلم أي ورواه الدارقطني
موصولا وموقوفا على عمر وأخرجه أبو داود
والحاكم من حديث عائشة مرفوعا كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قال
سبحانك الحديث ورجال إسناده ثقات وفيه انقطاع
وأعله أبو داود وقال الدارقطني ليس بالقوي
7- (ونحوه أي نحو حديث عمر عن أبي سعيد مرفوعا
ثم الخمسة وفيه وكان
(1/165)
يقول بعد
التكبير "أعوذ بالله السميع" لأقوالهم
"العليم" بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم "من
الشيطان الرجيم" المرجوم "من همزه" المراد به
الجنون "ونفخه" بالنون فالفاء فالخاء المعجمة
والمراد به الكبر "ونفثه" بالنون والفاء
المثلثة المراد به الشعر وكأنه أراد به الهجاء
والحديث دليل على الاستعاذة وأنها بعد
التكبيرة والظاهر أنها أيضا بعد التوجه
بالأدعية لأنها تعوذ القراءة وهو قبلها
8- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يستفتح" أي يفتتح
"الصلاة بالتكبير" أي يقول الله أكبر كما ورد
بهذا اللفظ في الحلية لأبي نعيم والمراد
تكبيرة الإحرام ويقال لها تكبيرة الافتتاح
والقراءة منصوب عطف على الصلاة أي ويستفتح
القراءة "بالحمد" بضم الدال على الحكاية "لله
رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص" بضم الشاة
التحتية فشين فخاء معجمتان فصاد مهملة "رأسه"
أي لم يرفعه "ولم يصوبه" بضمها أيضا وفتح
الصاد المهملة وكسر الواو المشددة أي لم يخفضه
خفضا بليغا بل بين الخفض والرفع وهو التسوية
كما دل له قوله ولكن بين ذلك أي بين المذكور
من الخفض والرفع "وكان إذا رفع" أي "رأسه من
الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما" تقدم في حديث
أبي هريرة في أول الباب "ثم ارفع حتى تعتدل
قائما" " وكان إذا رفع رأسه من السجود" أي
الأول "لم يسجد" الثانية "حتى يستوي" بينهما
"جالسا" وتقدم ثم ارفع حتى تطمئن جالسا "وكان
يقول في كل ركعتين" أي بعدهما "التحية" أي
يتشهد بالتحيات لله كما يأتي ففي الثلاثية
والرباعية المراد به الأوسط وفي الثنائية
الأخير "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى"
ظاهره أن هذا جلوسه في جميع الجلسات بين
السجودين وحال التشهدين وتقدم في حديث أبي
حميد وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله
اليسرى ونصب اليمنى "وكان ينهى عن عقبة
الشيطان" بضم العين المهملة وسكون القاف
فموحدة ويأتي تفسيرها "وينهى أن يفترش الرجل
ذراعيه افتراش السبع" بأن يبسطهما في سجوده
وفسر السبع بالكلب وورد في رواية بلفظه وكان
يختم الصلاة بالتسليم أخرجه مسلم وله علة وهي
أنه أخرجه مسلم من رواية أبي الجوزاء بالجيم
والزاي عن عائشة قال ابن عبد البر هو مرسل أبو
الجوزاء لم يسمع من عائشة وأعل أيضا بأنه
أخرجه مسلم من طريق الأوزاعي مكاتبة والحديث
فيه دلالة على تعيين التكبير ثم الدخول في
الصلاة وتقدم الكلام فيه في حديث أبي هريرة
أول الباب واستدل بقولها والقراءة بالحمد على
أن البسملة ليست من الفاتحة وهو قول أنس وأبي
من الصحابة وقال به مالك وأبو حنيفة وآخرون
وحجتهم هذا الحديث وقد أجيب عنه بأن مرادها
بالحمد لله رب العالمين السورة نفسها لا هذا
اللفظ فإن الفاتحة تسمى بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ} كما ثبت ذلك في صحيح
البخاري فلا حجة فيه على أن البسملة ليست من
الفاتحة ويأتي الكلام عليه مستوفى في حديث أنس
قريبا وتقدم
(1/166)
الكلام على أنه
في ركوعه لا يرفع رأسه ولا يخفضه كما تقدم على
قوله "وكان إذا رفع رأسه" إلى قوله "وكان يقول
التحية" والمراد بها الثناء المعروف بالتحيات
لله الآتي لفظه في حديث ابن مسعود إن شاء الله
تعالى ففيه شرعية التشهد الأوسط والأخير ولا
يدل على الوجوب لأنه فعل إلا أن يقال إنه بيان
لإجمال الصلاة في القران المأمور بها وجوبا
والأفعال لبيان الواجب واجبة أو يقال بإيجاب
أفعال الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم "صلوا
كما رأيتموني أصلي" وقد اختلف في التشهدين
فقيل واجبان وقيل سنتان وقيل الأول سنة
والأخير واجب ويأتي الكلام في حديث ابن مسعود
إن شاء الله تعالى على التشهد الأخير وأما
الأوسط فإنه استدل من قال بالوجوب بهذا الحديث
كما قررناه وبقوله صلى الله عليه وسلم "إذا
صلى أحدكم فليقل التحيات لله" الحديث ومن قال
بأنها سنة استدل بأنه صلى الله عليه وسلم لما
سها عنه لم يعد لأدائه وجبره بسجود السهو ولو
وجب لم يجبره سجود السهو كالركوع وغيره من
الأركان وقد رد هذا الاستدلال بأنه يجوز أن
يكون الوجوب مع الذكر فإن نسي حتى دخل في فرض
آخر جبره سجود السهو وفي قولها "وكان يفرش
رجله اليسرى وينصب اليمنى" ما يدل أنه كان
جلوسه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين وحال
التشهد وقد ذهب إليها الهادوية والحنفية ولكن
حديث أبي حميد الذي تقدم فرق بين الجلوسين
فجعل هذا صفة الجلوس بعد الركعتين وجعل صفة
الجلوس الأخير تقديم رجله اليسرى ونصب الأخرى
والقعود على مقعدته وللعلماء خلاف في ذلك
والظاهر أنه من الأفعال المخير فيها وفي قولها
"ينهى عن عقبة الشيطان" أي في القعود وفسرت
بتفسيرين أحدهما أنه يفترش قدميه ويجلس
بأليتيه على عقبيه ولكن هذه القعدة اختارها
العبادلة في القعود في غير الأخير وهذه تسمى
إقعاء وجعلوا المنهي عنه هو الهيئة الثانية
وتسمى أيضا إقعاء وهي أن يلصق الرجل أليتيه في
الأرض وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض
كما يقعى الكلب وافتراش الذراعين تقدم أنه
بسطهما على الأرض حال السجود وقد نهى صلى الله
عليه وسلم عن التشبه بالحيوانات نهى عن بروك
كبروك البعير والتفات كالتفات الثعلب وافتراش
كافتراش السبع وإقعاء كإقعاء الكلب ونقر كنقر
الغراب ورفع الأيدي وقت السلام كأذناب خيل شمس
وفي قولها "وكان يختم الصلاة بالتسليم" دلالة
على شرعية التسليم وأما إيجابه فيستدل له بما
قدمناه سابقا
9- (وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
"كان يرفع يديه حذو" بفتح الحاء المهملة وسكون
الذال المعجمة أي مقابل "منكبيه إذا افتتح
الصلاة" تقدم في حديث أبي حميد الساعدي "وإذا
كبر للركوع" رفعهما "وإذا رفع رأسه" أي أراد
أن يرفعه من الركوع متفق عليه فيه شرعية رفع
اليدين في هذه الثلاثة المواضع أما عند تكبيرة
الإحرام فتقدم فيه الكلام وأما عند الركوع
والرفع منه فهذا الحديث دل على مشروعية ذلك
قال محمد بن نصر المروزي أجمع علماء الأمصار
على ذلك إلا أهل الكوفة
(1/167)
قلت والخلاف
فيه للهادوية مطلقا في المواضع الثلاثة واستدل
للهادي في البحر بقوله صلى الله عليه وسلم
مالي أراكم الحديث قلت وهو إشارة إلى حديث
جابر بن سمرة أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي
ولفظه عنه قال "كنا إذا صلينا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم قلنا بأيدينا السلام الله
وأشار بيديه إلى الجانبين فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "علام تومئون بأيديكم مالي
أرى أيديكم كأذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة
وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم
على أخيه عن يمينه وشماله" انتهى بلفظه وهو
حديث صريح في أنه كان ذلك في إيمائهم بأيديهم
ثم السلام والخروج من الصلاة وسببه صريح في
ذلك وأما قوله اسكنوا في الصلاة فهو عائد إلى
ما أنكره عليهم من الإيماء إلى كل حركة في
الصلاة فإنه معلوم أن الصلاة مركبة من حركات
وسكون وذكر الله قال المقبلي في المنار على
كلام الإمام المهدي إن كان هذا غفلة من الإمام
إلى هذا الحد فقد أبعد وإن كان مع معرفته
حقيقة الأمر فهو أورع وأرفع من ذلك والإكثار
في هذا لجاج مجرد وأمر الرفع أوضح من أن تورد
له الأحاديث المفردات وقد كثرت كثرة لا توازى
وصحت صحة لا تمنع ولذا لم يقع الخلاف المحقق
فيه إلا للهادي فقط فهي من النوادر التي تقع
لأفراد العلماء مثل مالك والشافعي وغيرهما ما
أحد منهم إلا له نادرة ينبغي أن تغمر في جنب
فضله وتجتنب انتهى وخالفت الحنفية فيما عدا
الرفع عند تكبيرة الإحرام واحتجوا برواية
مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك
وبما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود بأنه
رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند
الافتتاح ثم لا يعود وأجيب بأن الأول فيه أبو
بكر بن عياش وقد ساء حفظه ولأنه معارض برواية
نافع وسالم ابني ابن عمر لذلك وهما مثبتان
ومجاهد ناف والمثبت مقدم وبأن تركه لذلك إذا
ثبت كما رواه مجاهد يكون مبينا لجوازه وأنه لا
يراه واجبا وبأن الثاني وهو حديث ابن مسعود لم
يثبت كما قال الشافعي ولو ثبت لكانت رواية ابن
عمر مقدمة عليها لأنها إثبات وذلك نفي
والإثبات مقدم وقد نقل البخاري عن الحسن وحميد
بن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك قال
البخاري ولم يستثن الحسن أحدا ونقل عن شيخه
علي بن المديني أنه قال حق على المسلمين أن
يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه لحديث
ابن عمر هذا وزاد البخاري في موضع آخر بعد
كلام ابن المديني وكان علي أعلم أهل زمانه قال
ومن زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة ويدل له
قوله
10- (وفي حديث أبي حميد عند أبي داود "يرفع
يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر" تقدم
حديث أبي حميد من رواية البخاري لكن ليس فيه
ذكر الرفع إلا عند تكبيرة الإحرام بخلاف حديثه
عند أبي داود ففيه إثبات الرفع في الثلاثة
المواضع كما أفاده حديث ابن عمر ولفظه عند أبي
داود "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه حتى
يحاذي بهما منكبيه فإذا أراد أن يركع رفع يديه
حتى يحاذي بهما منكبيه" الحديث تمامه "ثم قال
الله أكبر وركع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه
(1/168)
ولم يقنع ووضع
يديه على ركبتيه ثم قال سمع الله لمن حمد ورفع
يديه واعتدل حتى رجع كل عظم إلى موضعه معتدلا"
الحديث وأفاد رفعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وآله وسلم يديه في الثلاثة المواضع وكان
على المصنف أن يقول بعد قوله ثم يكبر الحديث
ليفيد أن الاستدلال به جميعه فإنه قد يتوهم أن
حديث أبي حميد ليس فيه إلا الرفع عند تكبيرة
الإحرام كما أن قوله
11- (ولمسلم عن مالك بن الحويرث نحو حديث ابن
عمر أي الرفع في الثلاثة المواضع لكن قال حتى
يحاذي بهما أي اليدين فروع أذنيه أطرافهما
فخالف رواية ابن عمر وأبي حميد في هذا اللفظ
فذهب البعض إلى ترجيح رواية ابن عمر لكونها
متفقا عليها وجمع آخرون بينهما فقالوا يحاذي
بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين
وأيدوا ذلك برواية أبي داود عن وائل بلفظ حتى
كانت حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه وهذا
جمع حسن
12- (وعن وائل بفتح الواو وألف فهمزة هو أبو
هنيد بضم الهاء وفتح النون بن حجر بن ربيعة
الحضرمي كان أبوه من ملوك حضرموت وفد وائل على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراوي ويقال
"إنه صلى الله عليه واله وسلم بشر أصحابه قبل
قدومه فقال يقدم عليكم وائل بن حجر من أرض
بعيدة طائعا راغبا في الله عز وجل وفي رسوله
وهو بقية أبناء الملوك فلما دخل عليه صلى الله
عليه واله وسلم رحب به وأدناه من نفسه وبسط له
رداءه فأجلسه عليه وقال اللهم بارك على وائل
وولده واستعمله على الأقيال من حضرموت" روى له
الجماعة إلا البخاري وعاش إلى زمن معاوية
وبايع له قال "صليت مع رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم فوضع يده اليمنى على يده
اليسرى على صدره" أخرجه ابن خزيمة وأخرج أبو
داود والنسائي بلفظ ثم وضع يده اليمنى على ظهر
كفه اليسرى والرسغ والساعد الرسغ بضم الراء
وسكون السين المهملة بعدها معجمة هو المفصل
بين الساعد والكف والحديث دليل على مشروعية
الوضع المذكور في الصلاة ومحله على الصدر كما
أفاد هذا الحديث وقال النووي في المنهاج:
ويجعل يديه تحت صدره قال في شرح النجم الوهاج:
عبارة الأصحاب تحت صدره يريد والحديث بلفظ على
صدره قال وكأنهم جعلوا التفاوت بينهما يسيرا
وقد ذهب إلى مشروعيته زيد بن علي وأحمد بن
عيسى وروى أحمد بن عيسى حديث وائل هذا في
كتابه الأمالي وإليه ذهبت الشافعية والحنفية
وذهبت الهادوية إلى عدم مشروعيته وأنه يبطل
الصلاة لكونه فعلا كثيرا قال ابن عبد البر لم
يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف وهو
قول جمهور الصحابة والتابعين قال: وهو الذي
ذكره مالك في الموطأ ولم يحك ابن المنذر وغيره
عن مالك غيره وروى عن مالك الإرسال وصار إليه
أكثر
13- (وعن عبادة بضم العين المهملة وتخفيف
الموحدة وبعد الألف دال مهملة وهو أبو الوليد
عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري
السالمي كان من نقباء الأنصار وشهد العقبة
الأولى والثانية والثالثة وشهد بدرا والمشاهد
كلها وجهه عمر إلى
(1/169)
الشام قاضيا
ومعلما فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات
بها في الرملة وقيل في بيت المقدس سنة أربع
وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن
لم يقرأ بأم القران" متفق عليه هو دليل على
نفي الصلاة الشرعية إذا لم يقرأ فيها المصلي
بالفاتحة لأن الصلاة مركبة من أقوال وأفعال
والمركب ينتفي بانتفاء جميع أجزائه وبانتفاء
البعض ولا حاجة إلى تقدير نفي الكمال لأن
التقدير إنما يكون عند تعذر صدق نفي الذات إلا
أن الحديث الذي أفاده قوله وفي رواية لابن
حبان والدارقطني "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها
بفاتحة الكتاب" فيه دلالة على أن النفي متوجه
إلى الإجزاء وهو كالنفي للذات في المآل لأن ما
لا يجزىء فليس بصلاة شرعية والحديث دليل على
وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ولا يدل على
إيجابها في كل ركعة بل في الصلاة جملة وفيه
احتمال أنه في كل ركعة لأن الركعة تسمى صلاة
وحديث المسيء صلاته قد دل على أن كل ركعة تسمى
صلاة لقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن علمه ما
يفعله في ركعة "وافعل ذلك في صلاتك كلها" فدل
على إيجابها في كل ركعة لأنه أمر أن يقرأ فيها
بفاتحة الكتاب وإلى وجوبها في كل ركعة ذهبت
الشافعية وغيرهم وعند الهادوية وآخرين أنها لا
تجب قراءتها في كل ركعة بل في جملة الصلاة
والدليل ظاهر مع أهل القول الأول وبيانه من
وجهين الأول أن في بعض ألفاظه بعد تعليمه صلى
الله عليه وسلم وآله له ما ذكره من القراءة
والركوع والسجود والاطمئنان إلى آخره أنه قال
الراوي فوصف أي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وآله الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال
"لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك" ومعلوم أن
المراد من قوله يفعل ذلك أي كل ما ذكره من
القراءة بأم الكتاب وغيرها في كل ركعة لقوله
فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات والثاني أن ما
ذكره صلى الله عليه وسلم وآله مع القراءة من
صفات الركوع والسجود والاعتدال ونحوه مأمور به
في كل ركعة كما يفيده هذا الحديث والمخالف في
قراءة الفاتحة في كل ركعة لا يقول إنه يكفي
الركوع والسجود والاطمئنان في ركعة واحدة من
صلاته أو يفرقها في ركعاتها فكيف يقول إن
القراءة بالفاتحة تنفرد من بين هذه المأمورات
بأنها لا تجب إلا في ركعة واحدة أو يفرق بين
الركعات وهذا تفريق بين أجزاء الدليل بلا دليل
فتعين حينئذ أن المراد من قوله " ثم افعل ذلك
في صلاتك كلها" في ركعاتها ثم رأيت بعد كتبه
أنه أخرج والبيهقي وابن حبان بسند صحيح أنه
صلى الله عليه وسلم وآله قال لخلاد بن رافع
وهو المسيء صلاته "ثم اصنع ذلك" في كل ركعة
ولأنه صلى الله عليه وسلم وآله كان يقرأ بها
في كل ركعة كما رواه مسلم وقال: "صلوا كما
رأيتموني أصلي" ثم ظاهر الحديث وجوب قراءتها
في سرية وجهرية للمنفرد والمؤتم أما المنفرد
فظاهر وأما المؤتم فدخوله في ذلك واضح وزاده
إيضاحا في قوله وفي أخرى من رواية عبادة لأحمد
وأبي داود والترمذي وابن حبان "لعلكم تقرءون
خلف إمامكم" قلنا نعم قال: "لا تفعلوا إلا
بفاتحة الكتاب فإنه
(1/170)
لا صلاة لمن لم
يقرأ بها" فإنه دليل على إيجاب قراءة الفاتحة
خلف الإمام تخصيصا كما دل اللفظ الذي عند
الشيخين بعمومه وهو أيضا ظاهر في عموم الصلاة
الجهرية والسرية وفي كل ركعة أيضا وإلى هذا
ذهب الشافعية وذهبت الهادوية إلى أنه لا
يقرؤها المؤتم خلف إمامه في الجهرية إذا كان
يسمع قراءته ويقرؤها في السرية وحيث لا يسمع
في الجهرية وقالت الحنفية لا يقرؤها المأموم
في سرية ولا جهرية وحديث عبادة حجة على الجميع
واستدلالهم بحديث "من صلى خلف الإمام فقراءة
الإمام قراءة له" مع كونه ضعيفا قال المصنف في
التلخيص بأنه مشهور من حديث جابر وله طرق عن
جماعة من الصحابة كلها معلومة انتهى وفي
المنتهى رواه الدارقطني من طرق كلها ضعاف
والصحيح أنه مرسل لا يتم به الاستدلال لأنه
عام لأن لفظ قراءة الإمام اسم جنس مضاف يعم كل
ما يقرؤه الإمام وكذلك قوله تعالى {وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا} وحديث "إذا قرأ فأنصتوا" فإن
هذه عمومات في الفاتحة وغيرها وحديث عبادة خاص
بالفاتحة فيختص به العامة ثم اختلف القائلون
بوجوب قراءتها خلف الإمام فقيل في محل سكتاته
بين الآيات وقيل في سكوته بعد تمام قراءة
الفاتحة ولا دليل على هذين القولين في الحديث
بل حديث عبادة دال أنها تقرأ عند قراءة الإمام
الفاتحة ويزيده إيضاحا ما أخرجه أبو داود من
حديث عبادة أنه صلى خلف أبي نعيم وأبو نعيم
يجهر بالقراءة فجعل عبادة يقرأ بأم القران
فلما انصرفوا من الصلاة قال لعبادة بعض من
سمعه يقرأ سمعتك تقرأ بأم القران وأبو نعيم
يجهر قال أجل صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة قال
فالتبست عليه القراءة فلما فرغ أقبل علينا
بوجهه فقال هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة فقال
بعضنا نعم إنا نصنع ذلك قال فلا وأنا أقول
"مال ينازعني القران فلا تقرءوا بشيء إذا جهرت
إلا بأم القران" فهذا عبادة راوي الحديث قرأ
بها جهرا خلف الإمام لأنه فهم من كلامه صلى
الله عليه وسلم أنه يقرأ بها خلف الإمام جهرا
وإن نازعه وأما أبو هريرة فإنه أخرج عنه أبو
داود أنه لما حدث بقوله صلى الله عليه وسلم
"من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القران فهي
خداج فهي خداج فهي خداج" غير تمام قال له
الراوي عنه وهو أبو السائب مولى هشام بن زهرة
يا أبا هريرة إني أكون أحيانا وراء الإمام
فغمز ذراعه وقال اقرأ بها يا فارسي في نفسك
الحديث وأخرج عن مكحول أنه كان يقول اقرأ في
المغرب والعشاء والصبح بفاتحة الكتاب وفي كل
ركعة سرا ثم قال مكحول اقرأ بها فيما جهر به
الإمام إذا قرأ بفاتحة الكتاب وسكت سرا فإن لم
يسكت قرأتها قبله ومعه وبعده لا تتركها على
حال وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أنه
أمره صلى الله عليه وسلم أن ينادي في المدينة
أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد
وفي لفظ إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد
إلا أنه يحمل على المنفرد جمعا بينه وبين حديث
عبادة الدال على أنه لا يقرأ خلف الإمام إلا
بفاتحة الكتاب
14- (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأبا بكر وعمر
(1/171)
كانوا يفتتحون
الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} أي القراءة في الصلاة بهذا
اللفظ متفق عليه ولا يتم هنا أن يقال ما قلناه
في حديث عائشة إن المراد بالحمد لله رب
العالمين السورة فلا يدل على حذف البسملة بل
يكون دليلا عليها إذ هي من مسمى السورة لقوله
زاد مسلم لا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم}
في أول قراءة ولا في آخرها زيادة في المبالغة
في النفس وإلا فإنه ليس في آخرها بسملة ويحتمل
أن يريد بآخرها السورة الثانية التي تقرأ بعد
الفاتحة والحديث دليل على أن الثلاثة كانوا لا
يسمعون من خلفهم لفظ البسملة عند قراءة
الفاتحة جهرا مع احتمال أنهم يقرءون البسملة
سرا ولا يقرءونها أصلا إلا أن قوله وفي رواية
أي عن أنس لأحمد والنسائي وابن خزيمة لا
يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم يدل بمفهومه
أنهم يقرءونها سرا ودل قوله وفي أخرى أي رواية
أخرى عن أنس لابن خزيمة كانوا يسرون فمنطوقه
أنهم كانوا يقرءون بها سرا ولذا قال المصنف
وعلى هذا أي على قراءة النبي صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر وعمر البسملة سرا يحمل النفي في
رواية مسلم حيث قال لا يذكرون أي لا يذكرونها
جهرا خلافا لمن أعلها أي أبدى علة لما زاده
مسلم والعلة هي أن الأوزاعي روى هذه الزيادة
عن قتادة مكاتبة وقد ردت هذه العلة بأن
الأوزاعي لم ينفرد بها بل قد رواها غيره رواية
صحيحة والحديث قد استدل به من يقول إن البسملة
لا يجهر بها في الفاتحة ولا في غيرها بناء على
أن قوله ولا في آخرها مراد به أول السورة
الثانية ومن أثبتها قال المراد أنه لم يجهر
بها الثلاثة حال جهرهم بالفاتحة بل يقرءونها
سرا كما قرره المصنف وقد أطال العلماء في هذه
المسئلة الكلام وألف فيها بعض الأعلام وبين أن
حديث أنس مضطرب قال ابن عبد البر في الاستذكار
بعد سرده روايات حديث أنس هذه ما لفظه هذا
الاضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء
الذين يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم والذين
لا يقرؤونها وقد سئل عن ذلك أنس فقال كبرت سني
ونسيت انتهى فلا حجة فيه والأصل أن البسملة من
القران وأطال الجدال بين العلماء من الطوائف
لاختلاف المذاهب والأقرب أنه صلى الله عليه
وسلم كان يقرأ بها تارة جهراً وتارة يخفيها,
وقد استوفينا البحث في حواشي شرح العمدة بما
لا زيادة عليه واختار جماعة من المحققين أنها
مثل سائر آيات القران يجهر بها فيما يجهر فيه
ويسر بها فيما يسر فيه وأما الاستدلال بكونه
صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بها في الفاتحة
ولا في غيرها في صلاته على أنها ليست بآية
والقراءة بها تدل على أنها آية فلا ينهض لأن
ترك القراءة بها في الصلاة لو ثبت لا يدل على
نفي قرانيتها فإنه ليس الدليل على القرانية
الجهر بالقراءة بالآية في الصلاة بل الدليل
أعم من ذلك وإذا انتفى الدليل الخاص لم ينتف
الدليل العام
15- (وعن نعيم بضم النون وفتح العين المهملة
مصغر المجمر بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم
وبالراء ويقال وتشديد الميم الثانية ذكره
الحلبي في شرح العمدة هو أبو عبد الله مولى
عمر بن الخطاب سمع من أبي هريرة وغيره وسمى
مجمرا لأنه أمر أن يجمر مسجد المدينة كل جمعة
حين ينتصف النهار قال صليت وراء أبي هريرة
فقرأ بسم الله
(1/172)
الرحمن الرحيم
ثم قرأ بأم القران حتى إذا بلغ {وَلا
الضَّالِّينَ} قال آمين ويقول كلما سجد وإذا
قام من الجلوس أي التشهد الأوسط وكذلك إذا قام
من السجدة الأولى والثانية الله أكبر وهو
تكبير النقل ثم يقول أي أبو هريرة إذا سلم
والذي نفسي بيده أي روحي في تصرفه إني لأشبهكم
صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه
النسائي وابن خزيمة وذكره البخاري تعليقا
وأخرجه السراج وابن حبان وغيرهم وبوب عليه
النسائي الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهو
أصح حديث ورد في ذلك فهو مؤيد للأصل وهو كون
البسملة حكمها حكم الفاتحة في القراءة جهرا
وإسراراً إذ هو ظاهر في أنه كان صلى الله عليه
وسلم يقرأ بالبسملة لقول أبي هريرة إني
لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم
وإن كان محتملا أنه يريد في أكثر أفعال الصلاة
وأقوالها إلا أنه خلاف الظاهر ويبعد من
الصحابي أن يبتدع في صلاته شيئا لم يفعله رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيها ثم يقول والذي
نفسي بيده إني لأشبهكم وفيه دليل على شرعية
التأمين للإمام وقد أخرج الدارقطني في السنن
من حديث وائل بن حجر سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين يمد
بها صوته وقال إنه حديث صحيح ودليل على تكبير
النقل ويأتي ما فيه مستوفى في حديث أبي
16- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأتم الفاتحة
فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى
آياتها" رواه الدارقطني وصوب وقفه لا يدل
الحديث هذا على الجهر بها ولا الإسرار بل يدل
على الأمر بمطلق قراءتها وقد ساق الدارقطني في
السنن له أحاديث في الجهر ببسم الله الرحمن
الرحيم في الصلاة واسعة مرفوعة عن علي عليه
السلام وعن عمار وعن ابن عباس وعن ابن عمرو
وعن أبي هريرة وعن أم سلمة وعن جابر وعن أنس
بن مالك ثم قال بعد سرد أحاديث هؤلاء وغيرهم
ما لفظه وروي الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه ومن
أزواجه غير من سمينا كتبنا أحاديثهم بذلك في
كتاب الجهر بها مفردا واقتصرنا على ما ذكرنا
هنا طلبا للاختصار والتخفيف انتهى لفظه
والحديث دليل على قراءة البسملة وأنها إحدى
آيات الفاتحة وتقدم الكلام في ذلك
17 -(عنه أي أبي هريرة قال "كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرن رفع
صوته وقال آمين" رواه الدارقطني وحسنه والحاكم
وصححه قال الحاكم إسناده صحيح على شرطهما وقال
البيهقي حسن صحيح والحديث دليل على أنه يشرع
للإمام التأمين بعد قراءة الفاتحة جهرا وظاهره
في الجهرية وفي السرية وبشرعيته قالت الشافعية
وذهبت الهادوية إلى عدم شرعيته لما يأتي وقالت
الحنفية يسر بها في الجهرية ولمالك قولان
الأول كالحنفية والثاني أنه لا يقولها والحديث
حجة بينة للشافعية وليس في الحديث تعرض لتأمين
المأموم والمنفرد وقد أخرج البخاري في شرعية
التأمين للمأموم من حديث أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن
(1/173)
الإمام فأمنوا
فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما
تقدم من ذنبه" وأخرج أيضا من حديثه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال
الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين"
الحديث وأخرج أيضا من حديث مرفوعا "إذا قال
أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين
فوافق أحدهما الآخر غفر الله له ما تقدم من
ذنبه" فدلت الأحاديث على شرعيته للمأموم
والأخير يعم المنفرد وقد حمله الجمهور من
القائلين به على الندب وعن بعض أهل الظاهر أنه
للوجوب عملا بظاهر الأمر فأوجبوه على كل مصل
واستدلت الهادوية على أنه بدعة مفسدة للصلاة
بحديث "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من
كلام الناس" الحديث ولا يتم به الاستدلال لأن
هذا قام الدليل على أنه من أذكار الصلاة
كالتسبيح ونحوه وكلام الناس المراد به
مكالمتهم ومخاطبتهم كما عرفت
18- (ولأبي داود والترمذي من حديث وائل بن حجر
نحوه أي نحو حديث أبي هريرة ولفظه في السنن
"إذا قرأ الإمام ولا الضالين قال آمين ورفع
بها صوته" وفي لفظ له عنه "أنه صلى خلف رسول
الله صلى الله عليه وسلم فجهر بآمين" وآمين
بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع
القراء وحكى فيها لغات ومعناها اللهم استجب
وقيل غير ذلك
19- (وعن عبد الله بن أبي أوفى هو أبو إبراهيم
أو محمد أو معاوية واسم أبي أوفى علقمة بن قيس
بن الحرث الأسلمي شهد الحديبية وخيبر وما
بعدهما ولم يزل في المدينة حتى قبض صلى الله
عليه وسلم فتحول إلى الكوفة ومات بها وهو آخر
من مات بالكوفة من الصحابة قال جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لا أستطيع
أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني عنه
فقال قل: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا
الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم" الحديث بالنصب أي أتم الحديث
وتمامه في سنن أبي داود قال أي الرجل يا رسول
الله هذا لله فما لي قال قل: "اللهم ارحمني
وارزقني وعافني واهدني" فلما قام قال هكذا
بيديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أما هذا فقد ملأ يديه من الخي" ر انتهى إلا
أنه ليس في سنن أبي داود العلي العظيم رواه
أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان
والدارقطني والحاكم الحديث دليل على أن هذه
الأذكار قائمة مقام القراءة للفاتحة وغيرها
لمن لا يحسن ذلك وظاهره أنه لا يجب عليه تعلم
القران ليقرأ به في الصلاة فإن معنى لا أستطيع
لا أحفظ الآن منه شيئا فلم يأمره بحفظه وأمره
بهذه الألفاظ مع أنه يمكنه حفظ الفاتحة كما
يحفظ هذه وقد تقدم في حديث المسيء صلاته
20- (وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يصلي بنا
فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين"
بياءين تثنية أولى "بفاتحة الكتاب" أي في كل
ركعة منهما "وسورتين" أي يقرؤهما في كل ركعة
سورة "ويسمعنا الآية أحيانا" وكأنه من هنا
علموا مقدار قراءته "ويطول الركعة الأولى"
يجعل السورة فيها أطول من التي في الثانية
"ويقرأ في الأخريين" تثنية أخرى "بفاتحة
الكتاب" من غير زيادة عليها متفق عليه فيه
دليل على شرعية قراءة الفاتحة في الأربع
الركعات
(1/174)
في كل واحدة
وقراءة سورة معها في كل ركعة من الأوليين وأن
هذا كان عادته عليه السلام كما يدل له كان
يصلي إذ هي عبارة تفيد الاستمرار غالبا
وإسماعهم الآية أحيانا دليل على أنه لا يجب
الإسرار في السرية وأن ذلك لا يقتضي سجود
السهو وفي قوله أحيانا ما يدل على أنه تكرر
ذلك منه صلى الله عليه وسلم وقد أخرج النسائي
من حديث البراء قال "كنا نصلي خلف النبي صلى
الله عليه وسلم الظهر ونسمع منه الآية بعد
الآية من سورة لقمان والذاريات وأخرج ابن
خزيمة من حديث أنس نحوه ولكن قال سبح اسم ربك
الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية" وفي الحديث
دليل على تطويل الركعة الأولى ووجهه ما أخرجه
عبد الرزاق في آخر حديث أبي قتادة هذا وظننا
أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى
وأخرج أبو داود من حديث عبد الرزاق عن عطاء
إني لأحب أن يطول الإمام الركعة الأولى وقد
ادعى ابن حبان أن التطويل إنما هو بترتيل
القراءة فيها مع استواء المقروء وقد روى مسلم
من حديث حفصة كان يرتل السورة حتى تكون أطول
من أطول منها وقيل إنما طالت الأولى بدعاء
الافتتاح والتعوذ وأما القراءة فيها فهما سواء
وفي حديث أبي سعيد الآتي ما يرشد إلى ذلك وقال
البيهقي يطول في الأولى إن كان ينتظر أحدا
وإلا فيسوى بين الأوليين وفيه دليل على أنه لا
يزاد في الأخريين على الفاتحة وكذلك الثالثة
في المغرب وإن كان مالك قد أخرج في الموطأ من
طريق الصنابحي أنه سمع أبا بكر يقرأ فيها -
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا - الآية
وللشافعي قولان في استحباب قراءة السورة في
الأخريين وفيه دليل على جواز أن يخبر الإنسان
بالظن وإلا فمعرفة القراءة بالسورة لا طريق
فيه إلى اليقين وإسماع الآية أحيانا لا يدل
على قراءة كل السورة وحديث أبي سعيد الآتي يدل
على الإخبار عن ذلك بالظن وكذا حديث خباب حين
سئل بم كنتم تعرفون قراءة النبي صلى الله عليه
وسلم في الظهر والعصر قال باضطراب لحيته ولو
كانوا يعلمون قراءته فيهما بخبر عنه صلى الله
عليه وسلم لذكروه
21- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال
"كنا نحزر" بفتح النون وسكون الحاء المهملة
وضم الزاي نخرص ونقدر وفي قوله كنا نحزر ما
يدل على أن المقدرين لذلك جماعة وقد أخرج ابن
ماجه رواية أن الحازرين ثلاثون رجلا من
الصحابة "قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين
الأوليين في الظهر قدر ألم تنزيل السجدة" أي
في كل ركعة بعد قراءة الفاتحة "وفي الأخريين
قدر النصف من ذلك" فيه دلالة على قراءة غير
الفاتحة معها في الأخريين ويزيده دلالة على
ذلك قوله "وفي الأوليين من العصر على قدر
الأخريين من الظهر" ومعلوم أنه كان يقرأ في
الأوليين من العصر سورة غير الفاتحة
"والأخريين" أي من العصر "على النصف من ذلك"
أي من الأوليين منه رواه مسلم الأحاديث في هذا
قد اختلفت فقد ورد "أنها كانت صلاة الظهر تقام
فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي
إلى أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه
وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها" أخرجه مسلم
(1/175)
والنسائي عن
أبي سعيد وأخرج أحمد ومسلم من حديث أبي سعيد
أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ
في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل
ركعة قدر ثلاثين آية وفي الأخريين قدر خمس
عشرة آية أو قال نصف ذلك وفي العصر في
الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة
آية وفي الأخريين قدر نصف ذلك" هذا لفظ مسلم
وفيه دليل على أنه لا يقرأ في الأخريين من
العصر إلا الفاتحة وأنه يقرأ في الأخريين من
الظهر غيرها معها وتقدم حديث أبي قتادة "أنه
صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأخريين من
الظهر بأم الكتاب ويسمعنا الآية أحيانا"
وظاهره أنه لا يزيد على أم الكتاب فيهما ولعله
أرجح من حديث أبي سعيد من حيث الرواية لأنه
اتفق عليه الشيخان من حيث الرواية ومن حيث
الدراية لأنه إخبار مجزوم به وخبر أبي سعيد
انفرد به مسلم ولأنه خبر عن حزر وتقدير وتظنن
ويحتمل أن يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه
وسلم كان يصنع هذا تارة فيقرأ في الأخريين غير
الفاتحة معها ويقتصر فيهما أحيانا فتكون
الزيادة عليها فيهما سنة تفعل أحيانا وتترك
أحيانا
22- (وعن سليمان بن يسار هو أبو أيوب سليمان
بن يسار بفتح المثناة التحتية وتخفيف السين
المهملة وهو مولى ميمونة أم المؤمنين وأخو
عطاء بن يسار من أهل المدينة وكبار التابعين
كان فقيها فاضلا ثقة عابدا ورعا حجة وهو أحد
الفقهاء السبعة قال كان فلان في شرح السنة
للبغوي أن فلانا يريد به أميرا كان على
المدينة قيل اسمه عمرو بن سلمة وليس هو عمر بن
عبد العزيز كما قيل لأن ولادة عمر بن عبد
العزيز كانت بعد وفاة أبي هريرة والحديث مصرح
بأن أبا هريرة صلى خلف فلان هذا يطيل الأوليين
في الظهر ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار
المفصل اختلف في أول المفصل فقيل إنها من
الصافات أو الجاثية أو القتال أو الفتح أو
الحجرات أو الصف أو تبارك أو سبح أو الضحى
واتفق أن منتهاه آخر القران وفي العشاء بوسطه
وفي الصبح بطواله فقال أبو هريرة ما صليت وراء
أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم
من هذا أخرجه النسائي بإسناد صحيح قال العلماء
السنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل
ويكون الصبح أطول وفي العشاء والعصر بأوسطه
وفي المغرب بقصاره قالوا والحكمة في تطويل
الصبح والظهر أنهما وقتا غفلة بالنوم في آخر
الليل ليدركهما المتآخرون لغفلة أو نوم
ونحوهما وفي العصر ليست كذلك بل هي في وقت
الأعمال فخفت لذلك وفي المغرب لضيق الوقت
فاحتيج إلى زيادة تخفيفها ولحاجة الناس إلى
عشاء صائمهم وضيفهم وفي العشاء لغلبة النوم
ولكن وقتها واسع فأشبهت العصر هكذا قالوه
وستعرف اختلاف أحوال صلاته صلى الله عليه وسلم
مما يأتي بما لا يتم به هذا التفصيل
23- (وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه تقدم
ضبطهما وبيان حال جبير قال " سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور"
متفق عليه قد بين في فتح الباري أن سماعه لذلك
كان قبل إسلامه وهو دليل على أن المغرب لا
يختص بقصار المفصل
(1/176)
وقد ورد أنه
صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب ب المص وأنه
قرأ فيها بالصافات وأنه قرأ فيها بحم الدخان
وأنه قرأ فيها {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى} وأنه قرأ فيها بالتين والزيتون
وأنه قرأ فيها بالمعوذتين وأنه قرأ فيها
بالمرسلات وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل
وكلها أحاديث صحيحة وأما المداومة في المغرب
على قصار المفصل فإنما هو فعل مروان بن الحكم
وقد أنكر عليه زيد بن ثابت وقال له مالك تقرأ
بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين
تثنية طولى والمراد بهما الأعراف والأنعام
والأعراف أطول من الأنعام إلى هنا أخرجه
البخاري وهي الأعراف وقد أخرج النسائي أنه صلى
الله عليه وسلم فرق الأعراف في ركعتي المغرب
وقد قرأ في العشاء بالتين والزيتون ووقت لمعاذ
فيها بـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا }{ وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى} {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى} ونحوه والجمع بين هذه الروايات
أنه وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم باختلاف
الحالات والأوقات والأشغال عدما ووجودا
24- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة
الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة" أي في
الركعة الأولى و {هَلْ أَتَى عَلَى
الْأِنْسَانِ} أي في الثانية متفق عليه فيه
دليل على أن ذلك كان دأبه صلى الله عليه وسلم
في تلك الصلاة وزاد استمراره على ذلك بيانا
قوله
25- (وللطبراني من حديث ابن مسعود يديم ذلك أي
يجعله عادة دائمة له قال شيخ الإسلام ابن
تيمية السر في قراءتهما في صلاة فجر يوم
الجمعة أنهما تضمنتا ما كان وما يكون في
يومهما فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر
المعاد وحشر العباد وذلك يكون في يوم الجمعة
ففي قراءتهما تذكير للعباد بما كان فيه ويكون
قلت ليعتبروا بذكر ما كان ويستعدوا لما يكون
26- (وعن حذيفة رضي الله عنه قال "صليت مع
النبي صلى الله عليه وسلم فما مرت به آية رحمة
إلا وقف عندها يسأل" أي يطلب من الله رحمته
"ولا آية عذاب إلا تعوذ منها" مما ذكر فيها
أخرجه الخمسة وحسنه الترمذي في الحديث دليل
على أنه ينبغي للقارئ في الصلاة تدبر ما يقرؤه
وسؤال رحمته والاستعاذة من عذابه ولعل هذا كان
في صلاة الليل وإنما قلنا ذلك لأن حديث حذيفة
مطلق وورد تقييده بحديث عبد الرحمن بن أبي
ليلى عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقرأ في صلاة ليست بفريضة فمر بذكر
الجنة والنار فقال: "أعوذ بالله من النار ويل
لأهل النار" رواه أحمد وابن ماجه بمعناه وأخرج
أحمد عن عائشة "قمت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليلة التمام فكان يقرأ بالبقرة
والنساء وآل عمران ولا يمر بآية فيها تخويف
إلا دعا الله عز وجل واستعاذ ولا يمر بآية
فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه"
وأخرج النسائي وأبو داود من حديث عوف بن مالك
قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ
فاستاك وتوضأ ثم قام فصلى فاستفتح البقرة لا
يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ولا يمر بآية عذاب
إلا
(1/177)
وقف وتعوذ
الحديث وليس لأبي داود ذكر السواك والوضوء
فهذا كله في النافلة كما هو صريح الأول وفي
قيام الليل كما يفيده الحديثان الآخران فإنه
لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم في رواية قط
أنه أم الناس بالبقرة وآل عمران في فريضة أصلا
ولفظ قمت يشعر أنه في الليل فتم ما ترجينا
بقولنا ولعل هذا في صلاة الليل باعتبار ما ورد
فلو فعله أحد في الفريضة فلعله لا بأس فيه ولا
يخل بصلاته سيما إذا كان منفردا لئلا يشق على
غيره إذا كان إماما وقولها ليلة التمام في
القاموس ليلة التمام ككتاب وليل تمام أطول
ليالي الشتاء أو هي ثلاث لا يستبان نقصانها أو
هي إذا بلغت اثنتي عشرة ساعة فصاعدا انتهى
27- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني نهيت
أن أقرأ القران راكعا أو ساجدا" فكأنه قيل
فماذا تقول فيهما فقال: "فأما الركوع فعظموا
فيه الرب" قد بين كيفية هذا التعظيم حديث مسلم
عن حذيفة فجعل يقول أي رسول الله صلى الله
عليه وسلم سبحان ربي العظيم "وأما السجود
فاجتهدوا في الدعاء فقمن" بفتح القاف وكسر
الميم ومعناه حقيق "أن يستجاب لكم" رواه مسلم
الحديث دليل على تحريم قراءة القران حال
الركوع والسجود لأن الأصل في النهي التحريم
وظاهره وجوب تسبيح الركوع ووجوب الدعاء في
السجود للأمر بهما وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن
حنبل وطائفة من المحدثين وقال الجمهور أنه
مستحب لحديث المسيء صلاته فإنه لم يعلمه صلى
الله عليه وسلم ذلك ولو كان واجبا لأمره به ثم
ظاهر قوله فعظموا فيه الرب أنها المساجد المرة
الواحدة ويكون بها ممتثلا ما أمر به وقد أخرج
أبو داود من حديث ابن مسعود " إذا ركع أحدكم
فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم" وذلك أدناه
ورواه الترمذي وابن ماجه إلا أنه قال أبو داود
فيه إرسال وكذا قال البخاري والترمذي وفي قوله
ذلك أدناه ما يدل على أنها لا المساجد المرة
الواحدة والحديث دليل على مشروعية الدعاء حال
السجود بأي دعاء كان من طلب خيري الدنيا
والآخرة والاستعاذة من شرهما وأنه محل الإجابة
وقد بين بعض الأدعية ما أفاده قوله
28- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك" الواو للعطف
والمعطوف عليه ما يفيده ما قبله والمعطوف
متعلق بحمدك والمعنى أنزهك وأتلبس بحمدك
ويحتمل أن تكون للحال والمراد أسبحك وأنا
متلبس بحمدك أي حال كوني متلبسا به "اللهم
اغفر لي" متفق عليه الحديث ورد بألفاظ منها
أنها قالت عائشة "ما صلى النبي صلى الله عليه
وسلم بعد أن أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ
اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول سبحانك ربنا
وبحمدك اللهم اغفر لي" والحديث دليل على أن
هذا من أذكار الركوع والسجود ولا ينافيه حديث
أما الركوع فعظموا في الرب لأن هذا الذكر
زيادة على ذلك التعظيم الذي كان يقوله صلى
الله عليه وسلم فيجمع بينه وبين هذا وقوله
"اللهم اغفر لي" امتثال لقوله تعالى
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}
وفيه مسارعته صلى الله عليه وسلم إلى امتثال
ما أمره الله به قياما بحق
(1/178)
العبودية
وتعظيما لشأن الربوية زاده الله شرفا وفضلا
وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
29- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى
الصلاة" أي إذا قام فيها "يكبر" أي تكبيرة
الإحرام "حين يقوم" فيه دليل على أنه لا يتوجه
ولا يصنع قبل التكبيرة شيئا "ثم يكبر حين
يركع" تكبيرة النقل "ثم يقول سمع الله لمن
حمده" أي أجاب الله من حمده فإن من حمد الله
تعالى متعرضا لثوابه استجاب الله له وأعطاه ما
تعرض له فناسب بعده أن يقول ربنا ولك الحمد
"حين يرفع صلبه من الركوع" فهذا في حال أخذه
في رفع صلبه من هويه للقيام ثم يقول "وهو قائم
ربنا ولك الحمد" بإثبات الواو للعطف على مقدر
أي ربنا أطعناك وحمدناك أو للحال أو زائدة
وورد في رواية بحذفها وهي نسخة في بلوغ المرام
"ثم يكبر حين يهوى ساجدا" تكبير النقل "ثم
يكبر حين يرفع رأسه" أي من السجود الأول "ثم
يكبر حين يسجد" أي السجدة الثانية "ثم يكبر
حين يرفع" أي من السجدة الثانية هذا كله تكبير
النقل "ثم يفعل ذلك" أي ما ذكر ما عدا
التكبيرة الأولى التي للإحرام "في الصلاة" أي
ركعاتها كلها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد
الجلوس "للتشهد" الأوسط متفق عليه الحديث دليل
على شرعية ما ذكر فيه من الأذكار فأما أول
التكبير فهي تكبيرة الإحرام وقد تقدم الدليل
على وجوبها هذا الحديث وأما ما عداها من
التكبير الذي وصفه فقد كان وقع من بعض أمراء
بني أمية تركه تساهلا ولكنه استقر العمل من
الأمة على فعله في كل خفض ورفع في كل ركعة خمس
تكبيرات كما عرفته من لفظ هذا الحديث ويزيد في
الرباعية والثلاثية تكبير النهوض من التشهد
الأوسط فيتحصل في المكتوبات الخمس بتكبيرة
الإحرام أربع وتسعون تكبيرة ومن دونها تسع
وثمانون تكبيرة واختلف العلماء في حكم تكبير
النقل فقيل إنه واجب وروي قولا لأحمد بن حنبل
وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه وقد
قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وذهب الجمهور
إلى ندبه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلمه
المسيء صلاته وإنما علمه تكبيرة الإحرام وهو
موضع البيان للواجب ولا يجوز تأخيره عن وقت
الحاجة وأجيب عنه بأنه قد أخرج تكبيرة النقل
في حديث المسيء أبو داود من حديث رفاعة بن
رافع فإنه ساقه وفيه ثم يقول الله أكبر ثم
يرفع وذكر فيه قوله سمع الله لمن حمده وبقية
تكبيرات النقل وأخرجها الترمذي والنسائي ولذا
ذهب أحمد وداود إلى وجوب تكبير النقل وظاهر
قوله يكبر حين كذا وحين كذا أن التكبير يقارن
هذه الحركات فيشرع في التكبير عند ابتدائه
للركن وأما القول بأنه يمد التكبير حتى يمد
الحركة كما في الشرح وغيره فلا وجه له بل يأتي
باللفظ من غير زيادة على أدائه ولا نقصان منه
وظاهر قوله ثم يقول: "سمع الله لمن حمده ربنا
لك الحمد" أنه يشرع ذلك لكل مصل من إمام
ومأموم إذ هو حكاية لمطلق صلاته صلى الله عليه
وسلم وإن كان يحتمل أنه حكاية لصلاته صلى الله
عليه وسلم إماما إذ المتبادر
(1/179)
من الصلاة عند
إطلاقها الواجبة وكانت صلاته صلى الله عليه
وسلم الواجبة جماعة وهو الإمام فيها إلا أنه
لو فرض هذا فإن قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا
كما رأيتموني أصلي" أمر لكل مصل أن يصلي
كصلاته صلى الله عليه وسلم من إمام ومنفرد
وذهبت الشافعية والهادوية وغيرهم إلى أن
التسميع مطلقا لمتنفل أو مفترض وللإمام
والمنفرد والحمد للمؤتم لحديث "إذا قال الإمام
سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد"
أخرجه أبو داود وأجيب بأن قوله "إذا قال
الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك
الحمد" لا ينفي قول المؤتم سمع الله لمن حمده
وإنما يدل على أنه يقول المؤتم ربنا لك الحمد
عقب قول الإمام سمع الله لمن حمده والواقع هو
ذلك لأن الإمام يقول سمع الله لمن حمده في حال
انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله
واستفيد الجمع بينهما من الحديث الأول قلت لكن
أخرج أبو داود عن الشعبي لا يقول المؤتم خلف
الإمام سمع الله لمن حمده ولكن يقول ربنا لك
الحمد ولكنه موقوف على الشعبي فلا تقوم به حجة
وقد ادعى الطحاوي وابن عبد البر الإجماع على
كون المنفرد يجمع بينهما وذهب آخرون إلى أنه
يجمع بينهما الإمام والمنفرد ويحمد المؤتم
قالوا والحجة جمع الإمام بينهما لاتحاد حكم
الإمام والمنفرد
30- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رفع
رأسه من الركوع قال: "اللهم " لم أجد لفظ
اللهم في مسلم في رواية أبي سعيد ووجدتها في
رواية ابن عباس "ربنا لك الحمد ملء" بنصب
الهمزة على المصدرية ويجوز رفعه خبر مبتدأ
محذوف "السموات والأرض" وفي سنن أبي داود
وغيره "وملء الأرض" وهي في رواية ابن عباس عند
مسلم فهذه الرواية كلها ليست لفظ أبي سعيد
لعدم وجود اللهم في أوله ولا لفظ ابن عباس
لوجود ملء الأرض فيها ( وملء ما شئت من شيء
بعد) بضم الدال على البناء للقطع عن الإضافة
ونية المضاف إليه "أهل" بنصبه على النداء أو
رفعه أي أنت أهل "الثناء والمجد أحق" بالرفع
خبر مبتدإ محذوف وما مصدرية تقديره هذا أي
قوله اللهم لك الحمد أحق قول العبد وإنما لم
يجعل لا مانع لما أعطيت خبرا وأحق مبتدأ لأنه
محذوف في بعض الروايات فجعلناه جملة استئنافية
إذا حذف تم الكلام من دون ذكره وفي الشرح جعل
أحق مبتدأ وخبره لا مانع لما أعطيت وفي شرح
المهذب نقلا عن ابن الصلاح معناه أحق ما قال
العبد قوله "لا مانع لما أعطيت" إلى آخره
وقوله وكلنا لك عبد اعتراض بين المبتدأ والخبر
قال أو يكون قوله أحق ما قال العبد خبرا لما
قبله أي قوله ربنا لك الحمد إلى آخره أحق ما
قال العبد قال والأول أولى قال النووي لما فيه
من كمال التفويض إلى الله تعالى والاعتراف
بكمال قدرته وعظمته وقهره وسلطانه وانفراده
بالوحدانية وتدبير مخلوقاته انتهى ما قال
العبد وكلنا لك عبد ثم استأنف فقال "اللهم لا
مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا
الجد منك الجد" رواه مسلم الحديث دليل على
مشروعية هذا الذكر في هذا الركن لكل مصل وقد
جعل الحمد كالأجسام وجعله سادا لما ذكره
(1/180)
من الظروف
مبالغة في كثرة الحمد وزاد مبالغة بذكر ما
يشاؤه تعالى مما لا يعلمه العبد والثناء الوصف
بالجميل والمدح والمجد والعظمة ونهاية الشرف
والجد بفتح الجيم معناه الحظ أي لا ينفع ذا
الحظ من عقوبتك حظه بل ينفعه العمل الصالح
وروي بالكسر للجيم أي لا ينفعه جده واجتهاده
وقد ضعفت رواية
31- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد
على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه
واليدين والركبتين وأطراف القدمين" متفق عليه
وفي رواية أمرنا أي أيها الأمة وفي رواية أمر
النبي صلى الله عليه وسلم والثلاث الروايات
للبخاري وقوله "وأشار بيده إلى أنفه" فسرتها
رواية النسائي قال ابن طاوس وضع يده على جبهته
وأمرها على أنفه وقال هذا واحدا قال القرطبي
هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود والأنف
تبع لها قال ابن دقيق العيد معناه أنه جعلهما
كأنهما عضو واحد وإلا لكانت الأعضاء ثمانية
والمراد من اليدين الكفان وقد وقع بلفظهما في
رواية والمراد من قوله وأطراف القدمين أن يجعل
قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه
مرتفعتان فيستقبل بظهور قدميه القبلة وقد ورد
هذا في حديث أبي حميد في صفة السجود وقيل يندب
ضم أصابع اليدين لأنها لو انفرجت انحرفت رءوس
بعضها عن القبلة وأما أصابع الرجلين فقد تقدم
في حديث أبي حميد الساعدي في باب صفة الصلاة
بلفظ واستقبل بأصابع رجليه القبلة هذا والحديث
دليل على وجوب السجود على ما ذكر لأنه ذكر صلى
الله عليه وسلم بلفظ الإخبار عن أمر الله له
ولأمته والأمر لا يرد إلا بنحو صيغة أفعل وهي
تفيد الوجوب وقد اختلف في ذلك فالهادوية وأحد
قولي الشافعي أنه للوجوب لهذا الحديث وذهب أبو
حنيفة إلى أنه يجزىء السجود على الأنف فقط
مستدلا بقوله "وأشار بيده إلى أنفه" قال
المصنف في فتح الباري وقد احتج لأبي حنيفة
بهذا في السجود على الأنف قال ابن دقيق العيد
والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بالجبهة
وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد فذلك في
التسمية والعبارة لا في الحكم الذي دل عليه
انتهى واعلم أنه وقع هنا في الشرح أنه ذهب أبو
حنيفة وأحد قولي الشافعي وأكثر الفقهاء إلى أن
الواجب الجبهة فقط لقوله صلى الله عليه وسلم
في حديث المسيء صلاته ومكن جبهتك فكان قرينة
على حمل الأمر هنا على غير الوجوب وأجيب عنه
بأن هذا لا يتم إلا بعد معرفة تقدم هذا على
حديث المسيء صلاته ليكون قرينة على حمل الأمر
على الندب وأما لو فرض تأخره لكان في هذا
زيادة شرع ويمكن أن تتأخر شرعيته ومع جهل
التاريخ يرجح العمل بالموجب لزيادة الاحتياط
كذا قاله الشارح وجعل السجود على الجبهة
والأنف مذهبا للعترة فحولنا عبارته إلى
الهادوية مع أنه ليس مذهبهم إلا السجود على
الجبهة فقط كما في البحر وغيره ولفظ الشرح هنا
والحديث فيه دلالة على وجوب السجود على ما ذكر
فيه وقد ذهب إلى هذا العترة وأحد قولي الشافعي
انتهى وعرفت أنه وهم في قوله إن
(1/181)
أبا حنيفة
يوجبه على الجبهة فإنه يجيزه عليها أو على
الأنف وأنه مخير في ذلك ثم ظاهره وجوب السجود
على العضو جميعه ولا يكفي بعض ذلك والجبهة يضع
منها على الأرض ما أمكنه بدليل وتمكن جبهتك
وظاهره أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء لأن
مسمى السجود عليها يصدق بوضعها من دون كشفها
ولا خلاف أن كشف الركبتين غير واجب لما يخاف
من كشف العورة واختلف في الجبهة فقيل يجب
كشفها لما أخرجه أبو داود في المراسيل أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يسجد
على جنبه وقد اعتم على جبهته فحسر عن جبهته
إلا أنه قد علق البخاري عن الحسن كان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجدون
وأيديهم في ثيابهم ويسجد الرجل منهم على
عمامته ووصله البيهقي وقال هذا أصح ما في
السجود موقوفا على الصحابة وقد وردت أحاديث
أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد على كور
عمامته من حديث ابن عباس أخرجه أبو نعيم في
الحلية وفي إسناده ضعف ومن حديث ابن أبي أوفى
أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه ضعف ومن حديث
جابر عند ابن عدي وفيه متروكان ومن حديث أنس
عند ابن أبي حاتم في العلل وفيه ضعف وذكر هذه
الأحاديث وغيرها البيهقي ثم قال أحاديث كان
يسجد على كور عمامته لا يثبت فيها شيء يعني
مرفوعا والأحاديث من الجانين غير ناهضة على
الإيجاب وقوله سجد على جبهته يصدق على الأمرين
وإن كان مع عدم الحائل أظهر فالأصل جواز
الأمرين وأما حديث خباب شكونا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا
وأكفنا فلم يشكنا الحديث فلا دلالة فيه على
كشف هذه الأعضاء ولا عدمه وفي حديث أنس عند
مسلم أنه كان أحدهم يبسط ثوبه من شدة الحر ثم
يسجد عليه ولعل هذا مما لا خلاف فيه والخلاف
في السجود على محموله فهو محل النزاع وحديث
أنس
32- (وعن ابن بحينة هو عبد الله بن مالك بن
بحينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة
وسكون المثناة التحتية وبعدها نون وهو اسم لأم
عبد الله واسم أبيه مالك بن القشب بكسر القاف
وسكون الشين المعجمة فموحدة الأزدي مات عبد
الله في ولاية معاوية بين سنة أربع وخمسين
وثمان وخمسين " أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا صلى وسجد فرج" بفتح الفاء وتشديد
الراء آخره جيم "بين يديه" أي باعد بينهما أي
نحى كل يد عن الجنب الذي يليها "حتى يبدو بياض
إبطيه" متفق عليه الحديث دليل على فعل هذه
الهيئة في الصلاة قيل والحكمة في ذلك أن يظهر
كل عضو بنفسه ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد
في سجوده كأنه عدد ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو
بنفسه ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض وقد ورد
هذا المعنى مصرحا به فيما أخرجه الطبراني
وغيره من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف أنه قال:
"لا تفترش افتراش السبع واعتمد على راحتيك
وأبد ضبعيك فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك"
وعند مسلم من حديث ميمونة كان النبي صلى الله
(1/182)
عليه وسلم
يجافي بيديه فلو أن بهيمة أرادت أن تمر مرت"
وظاهر الحديث الأول وهذا مع قوله صلى الله
عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" يقتضي
الوجوب ولكنه قد أخرج أبو داود من حديث أبي
هريرة ما يدل على أن ذلك غير واجب بلفظ شكا
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له مشقة
السجود عليهم إذا تفرجوا فقال استعينوا بالركب
وترجم له الرخصة في ترك التفريج قال ابن عجلان
أحد رواته وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا
أطال السجود وقوله "حتى يرى بياض إبطيه" ليس
فيه كما قيل دلالة على أنه لم يكن صلى الله
عليه وسلم لابسا القميص لأنه وإن كان لابسا
فإنه قد يبدو منه أطراف إبطيه لأنها كانت
أكمام قمصان أهل ذلك العصر غير طويلة فيمكن أن
يرى الإبط من كمها ولا دلالة فيه على أنه لم
يكن على إبطيه شعر كما قيل لأنه يمكن أن
المراد يرى أطراف إبطيه لا باطنهما حيث الشعر
فإنه لا يرى إلا بتكلف وإن صح ما قيل إن من
خواصه أنه ليس على إبطيه شعر فلا إشكال
33- (وعن البراء بفتح الموحدة فراء وقيل
بالقصر ثم همزة ممدودة هو أبو عمارة في الأشهر
وهو ابن عازب بعين مهملة فزاي بعد الألف
مكسورة فموحدة ابن الحرث الأوسي الأنصاري
الحارثي، أول مشهد شهده الخندق نزل الكوفة
وافتتح الري سنة أربع وعشرين في قول وشهد مع
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
الجمل وصفين والنهروان مات بالكوفة أيام مصعب
بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك" رواه
مسلم الحديث دليل على وجوب هذه الهيئة للأمر
بها وحمله العلماء على الاستحباب قالوا
والحكمة فيه أنه أشبه بالتواضع وأتم في تمكين
الجبهة والأنف من الأرض وأبعد من هيئة الكسالى
فإن المنبسط يشبه الكلب ويشعر حاله بالتهاون
بالصلاة وقلة الاعتناء بها والإقبال عليها
وهذا في حق الرجل لا المرأة فإنها تخالفه في
ذلك لما أخرجه أبو داود في مراسيله عن زيد بن
أبي حبيب أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على
امرأتين يصليان فقال إذا سجدتما فضما بعض
اللحم إلى الأرض فإن المرأة في ذلك ليست
كالرجل قال البيهقي وهذا المرسل أحسن من
موصولين فيه يعني من حديثين موصولين ذكرهما
البيهقي في سننه وضعفهما ومن السنة تفريج
الأصابع في الركوع لما رواه أبو داود من حديث
أبي حميد الساعدي "أنه كان صلى الله عليه وسلم
يمسك يديه على ركبتيه كالقابض عليهما ويفرج
بين أصابعه" ومن السنة في الركوع أن يوتر يديه
فيجافي عن جنبيه كما في حديث أبي حميد عند أبي
داود بهذا اللفظ ورواه ابن خزيمة بلفظ "ونحى
يديه عن جنبيه" وتقدم قريبا وذكر المصنف حديث
ابن بحينة هذا الذي ذكره في بلوغ المرام في
التلخيص مرتين أولا في وصف ركوعه وثانيا في
وصف سجوده دليلا على التفريج في الركوع وهو
صحيح فإنه قال إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو
بياض إبطيه فإنه يصدق على حالة الركوع والسجود
34-(وعن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه
وسلم "كان إذا ركع فرج بين
(1/183)
أصابعه" أي
أصابع يديه "وإذا سجد ضم أصابعه" رواه الحاكم
قال العلماء الحكمة في ضمه أصابعه عند سجوده
لتكون متوجهة إلى سمت القبلة
35- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت "رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا" رواه
النسائي وصححه ابن خزيمة وروى البيهقي من حديث
عبد الله بن الزبير عن أبيه رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا ووضع يديه على
ركبتيه وهو متربع جالس ورواه البيهقي عن حميد
رأيت أنسا يصلي متربعا على فراشه وعلقه
البخاري قال العلماء وصفة التربع أن يجعل باطن
قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى وباطن اليسرى
تحت اليمنى مطمئنا وكفيه على ركبتيه مفرقا
أنامله كالراكع والحديث دليل على كيفية قعود
العليل إذا صلى من قعود إذ الحديث وارد في ذلك
وهو في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم لما سقط
عن فرسه فانفكت قدمه فصلى متربعا وهذه القعدة
اختارها الهادوية في قعود المريض لصلاته
ولغيرهم اختيار آخر والدليل مع الهادوية وهو
هذا الحديث
36- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين
"اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني
وارزقني" رواه الأربعة إلا النسائي واللفظ
لأبي داود وصححه الحاكم ولفظ الترمذي
"واجبرني" بدل "وارحمني" ولم يقل وعافني وجمع
ابن ماجه في لفظ روايته بين ارحمني واجبرني
ولم يقل اهدني ولا عافني وجمع الحاكم بينهما
إلا أنه لم يقل وعافني والحديث دليل على شرعية
الدعاء في القعود بين السجدتين وظاهره أنه كان
صلى الله عليه وسلم يقوله جهرا
37- (وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه "أنه
رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان
في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا"
رواه البخاري وفي لفظ له "فإذا رفع رأسه من
السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام"
وأخرج أبو داود من حديث أبي حميد في صفة صلاته
صلى الله عليه وسلم وفيه "ثم أهوى ساجدا ثم
ثنى رجليه وقعد حتى رجع كل عضو في موضعه ثم
نهض" وقد ذكرت هذه القعدة في بعض ألفاظ رواية
حديث المسيء صلاته وفي الحديث دليل على شرعية
هذه القعدة بعد السجدة الثانية من الركعة
الأولى والركعة الثالثة ثم ينهض لأداء الركعة
الثانية أو الرابعة وتسمى جلسة الاستراحة وقد
ذهب إلى القول بشرعيتها الشافعي في أحد قوليه
وهو غير المشهور عنه المشهور عنه وهو رأي
الهادوية والحنفية ومالك وأحمد وإسحاق أنه لا
يشرع القعود مستدلين بحديث وائل بن حجر في صفة
صلاته صلى الله عليه وسلم بلفظ "فكان إذا رفع
رأسه من السجدتين استوى قائما" أخرجه البزار
في مسنده إلا أنه ضعفه النووي وبما رواه ابن
المنذر من حديث النعمان بن أبي عياش واحد من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا
رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة
قام كما هو ولم يجلس ويجاب عن الكل بأنه لا
منافاة إذ من فعلها فلأنها سنة ومن تركها
فكذلك وإن كان ذكرها في حديث المسيء يشعر
بوجوبها لكن لم يقل به أحد فيما أعلم
(1/184)
38- ( وعن أنس
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من
العرب" وورد تعيينهم أنهم رعل وعصية وبنو
لحيان ثم تركه متفق عليه لفظه في البخاري
مطولا عن عاصم الأحول قال سألت أنس بن مالك عن
القنوت فقال قد كان القنوت قلت قبل الركوع أو
بعده قال قبله قلت فإن فلانا أخبرني عنك أنك
قلت بعد الركوع قال كذب إنما قنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً أراه كان
بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى
قوم من المشركين فغدروا وقتلوا القراء دون
أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم شهرا يدعو عليهم ولأحمد والدارقطني نحوه
أي من حديث أنس من وجه آخر وزاد فأما في الصبح
فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا فقوله في الحديث
الأول ثم تركه أي فيما عدا الفجر ويدل على أنه
أراده قوله فلم يزل يقنت في كل صلاته هذا
والأحاديث عن أنس في القنوت قد اضطربت وتعارضت
في صلاة الغداة وقد جمع بينها في الهدى النبوي
فقال أحاديث أنس كلها صحاح يصدق بعضها بعضا
ولا تناقض فيها والقنوت الذي ذكره قبل الركوع
غير الذي ذكره بعده والذي وقته غير الذي أطلقه
فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام
للقراءة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه
وسلم أفضل الصلاة طول القيام والذي ذكره بعد
هو إطالة القيام للدعاء ففعله شهرا يدعو إلى
قوم ويدعو لقوم ثم استمر تطويل هذا الركن
للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا كما دل له
الحديث أن أنسا كان إذا رفع رأسه من الركوع
انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسى وأخبرهم
أن هذه صفة صلاته صلى الله عليه وسلم أخرجه
عنه في الصحيحين فهذا هو القنوت قال فيه أنس
إنه ما زال صلى الله عليه وسلم حتى فارق
الدنيا والذي تركه هو الدعاء على أقوام من
العرب وكان بعد الركوع فمراد أنس بالقنوت قبل
الركوع وبعده الذي أخبر أنه ما زال عليه هو
إطالة القيام في هذين المحلين بقراءة القران
وبالدعاء هذا مضمون كلامه ولا يخفى أنه لا
يوافق قوله فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى
فارق الدنيا وأنه دل على أن ذلك خاص بالفجر
وإطالة القيام بعد الركوع عام للصلوات جميعها
وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه الحاكم وصححه
بأنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا
رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح الركعة
الثانية يرفع يديه فيدعو بهذا الدعاء اللهم
اهدني فيمن هديت" إلى آخره ففيه عبد الله بن
سعيد المقبري ولا تقوم به حجة وقد ذهب إلى أن
الدعاء عقيب آخر ركوع من الفجر سنة جماعة من
السلف ومن الخلف الهادي والقاسم وزيد بن علي
والشافعي وإن اختلفوا في ألفاظه فعند الهادي
بدعاء من القران وعند الشافعي بحديث اللهم
اهدني فيمن هديت إلى اخره
39- ( وعنه أي أنس أن النبي صلى الله عليه
وسلم "كان لا يقنت إلا إذا دعا
(1/185)
لقوم أو دعا
على قوم صححه ابن خزيمة أما دعاؤه فكما ثبت
أنه كان يدعو للمستضعفين من أهل مكة وأما
دعاؤه على قوم فكما عرفته قريبا ومن هنا قال
بعض العلماء يسن القنوت في النوازل فيدعو بما
يناسب الحادثة وإذا عرفت هذا فالقول بأنه يسن
في النوازل قول حسن تأسيا بما فعله صلى الله
عليه وسلم في دعائه على أولئك الأحياء من
العرب إلا أنه قد يقال قد نزل به صلى الله
عليه وسلم حوادث كحصار الخندق وغيره ولم يرو
أنه قنت فيه ولعله يقال الترك لبيان الجواز
وقد ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه منهي عن
القنوت في الفجر وكأنهم استدلوا بقوله
40- ( وعن سعيد كذا في نسخ البلوغ سعيد وهو
سعد بغير مثناة تحتية بن طارق الأشجعي قال قلت
لأبي وهو طارق بن أشيم بفتح الهمزة فشين معجمة
فمثناة تحتية مفتوحة بزنة أحمر قال ابن عبد
البر يعد في الكوفيين روى عنه ابنه أبو مالك
سعد بن طارق يا أبت إنك صليت خلف رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي
أفكانوا يقنتون في الفجر فقال أي بني محدث
رواه الخمسة إلا أبا داود وقد روى خلافه عمن
ذكر والجمع بينهما أنه وقع القنوت لهم تارة
وتركوه أخرى وأما أبو حنيفة ومن ذكر معه فإنهم
جعلوه منهيا عنه لهذا الحديث لأنه إذا كان
محدثا فهو بدعة والبدعة منهي عنها
41- ( وعن الحسن بن علي عليهما السلام هو أبو
محمد الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولد في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث
من الهجرة قال ابن عبد البر إنه أصح ما قيل في
ذلك وقال أيضا كان الحسن حليما ورعا فاضلا
ودعاه ورعه وفضله إلى أنه ترك الدنيا والملك
رغبة فيما عند الله بايعوه بعد أبيه عليه
السلام فبقي نحوا من سبعة أشهر خليفة بالعراق
وما وراءها من خراسان وفضائله لا تحصى وقد
ذكرنا منها شطرا صالحا في الروضة الندية وفاته
سنة إحدى وخمسين بالمدينة النبوية ودفن في
البقيع وقد أطال ابن عبد البر في الاستيعاب في
عده لفضائله قال "علمني رسول الله صلى الله
عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر" أي في
دعائه وليس فيه بيان لمحله "اللهم اهدني فيمن
هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت
وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك
تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت
تباركت ربنا وتعاليت" رواه الخمسة وزاد
الطبراني والبيهقي بعد قوله "ولا يذل من واليت
ولا يعز من عاديت" زاد النسائي في وجه آخر في
آخره وصلى الله على النبي إلخ إلا أنه قال
المصنف في تخريج أحاديث الأذكار إن هذه
الزيادة غريبة لا تثبت لأن فيها عبد الله بن
علي لا يعرف وعلى القول بأنه عبد الله بن علي
بن الحسن بن علي فالسند منقطع فإنه لم يسمع من
عمه الحسين ثم قال فتبين أن هذا الحديث ليس من
شرط الحسن لانقطاعه أو جهالة رواته انتهى فكان
عليه أن يقول ولا تثبت
(1/186)
هذه الزيادة
والحديث دليل على مشروعية القنوت في صلاة
الوتر وهو مجمع عليه في النصف الأخير من رمضان
وذهب الهادوية وغيرهم إلى أنه يشرع أيضا في
غيره إلا أن الهادوية لا يجيزونه بالدعاء من
غير القرآن والشافعية يقولون إنه يقنت بهذا
الدعاء في صلاة الفجر ومستندهم في ذلك قوله
42- ( وللبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا
دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح قلت
أجمله هنا وذكره في تخريج الأذكار من رواية
البيهقي وقال: "اللهم اهدني" الحديث إلى آخره
رواه البيهقي من طرق أحدها عن بريد بالموحدة
والراء تصغير برد وهو ثقبة بن أبي مريم سمعت
ابن الحنفية وابن عباس يقولان كان النبي صلى
الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح ووتر الليل
بهؤلاء الكلمات وفي إسناده مجهول وروى من طريق
أخرى وهي التي ساق المصنف لفظها عن ابن جريج
بلفظ يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت وصلاة
الصبح وفيه عبد الرحمن بن هرمز ضعيف ولذا قال
المصنف وفي سنده ضعف.
43- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم
فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل
ركبتيه" أخرجه الثلاثة هذا الحديث أخرجه أهل
السنن وعلله البخاري والترمذي والدارقطني قال
البخاري محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع
عليه وقال لا أدري سمع من أبي الزناد أم لا
وقال الترمذي غريب لا نعرفه من حديث أبي
الزناد وقد أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة
أيضا عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ولم
يذكر فيه وليضع يديه قبل ركبتيه وقد أخرج ابن
أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم " كان إذا سجد بدأ بيديه قبل
ركبتيه" ومثله أخرج الدراوردي من حديث ابن عمر
وهو الشاهد الذي سيشير المصنف إليه وقد أخرج
ابن خزيمة في صحيحه من حديث مصعب بن سعد بن
أبي وقاص عن أبيه قال "كنا نضع اليدين قبل
الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين"
والحديث دليل على أنه يقدم المصلي يديه قبل
ركبتيه عند الانحطاط إلى السجود وظاهر الحديث
الوجوب لقوله "لا يبركن" وهو نهي وللأمر بقوله
"وليضع" قيل ولم يقل أحد بوجوبه فتعين أنه
مندوب وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب الهادوية
ورواية عن مالك والأوزاعي إلى العمل بهذا
الحديث حتى قال الأوزاعي أدركنا الناس يضعون
أيديهم قبل ركبهم وقال ابن أبي داود وهو قول
أصحاب الحديث وذهبت الشافعية والحنفية ورواية
عن مالك إلى العمل بحديث وائل وهو قوله وهو أي
حديث أبي هريرة هذا أقوى في سنده من حديث وائل
بن حجر وهو أنه قال
44- ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد
وضع ركبتيه قبل يديه" أخرجه الأربعة فإن الأول
أي حديث أبي هريرة شاهدا من حديث ابن عمر صححه
ابن خزيمة تقدم ذكر الشاهد هذا قريبا وذكره أي
الشاهد البخاري معلقا موقوفا قال قال نافع كان
ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه وحديث وائل أخرجه
أصحاب السنن
(1/187)
الأربعة وابن
خزيمة وابن السكن في صحيحيهما من طريق شريك عن
عاصم بن كليب عن أبيه قال البخاري و الترمذي و
أبو داود و البيهقي تفرد به شريك ولكن له شاهد
عن عاصم الأحول عن أنس قال " رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير حتى سبقت
ركبتاه يديه" أخرجه الدارقطني والحاكم
والبيهقي وقال الحاكم هو على شرطهما وقال
البيهقي تفرد به العلاء بن العطار والعلاء
مجهول هذا وحديث وائل هو دليل الحنفية
والشافعية وهو مروي عن عمر أخرجه عبد الرزاق
وعن ابن مسعود أخرجه الطحاوي وقال به أحمد
وإسحاق وجماعة من العلماء وظاهر كلام المصنف
ترجيح حديث أبي هريرة وهو خلاف مذهب إمامه
الشافعي وقال النووي: لا يظهر ترجيح أحد
المذهبين على الآخر ولكن أهل هذا المذهب رجحوا
حديث وائل وقالوا في أبي هريرة إنه مضطرب إذ
قد روى عنه الأمران وحقق ابن القيم المسألة
وأطال فيها وقال إن في حديث أبي هريرة قلبا من
الراوي حيث قال وليضع يديه قبل ركبتيه وإن
أصله وليضع ركبتيه قبل يديه قال ويدل عليه أول
الحديث وهو قوله "فلا يبرك كما يبرك البعير"
فإن المعروف من بروك البعير هو تقديم اليدين
على الرجلين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم الأمر بمخالفة سائر الحيوانات في هيئات
الصلاة فنهى عن التفات كالتفات الثعلب وعن
افتراش كافتراش السبع وإقعاء كإقعاء الكلب
ونقر كنقر الغراب ورفع الأيدي كأذناب خيل شمس
أي حال السلام وقد تقدم ويجمعها قولنا
إذا نحن قمنا في الصلاة فإننا ... نهينا عن
الإتيان فيها بستة
بروك بعير والتفات كثعلب ... ونقر غراب في
سجود الفريضة
وإقعاء كلب أو كبسط ذراعه ... وأذناب خيل عند
فعل التحية
وزدنا على ما ذكره في الشرح قولنا
وزدنا كتدبيح الحمار بمده ... لعنق وتصويب
لرأس بركعة
هذا السابع وهو بالدال بعدها موحدة ومثناة
تحتية وحاء مهملة وروي بالذال المعجمة قيل وهو
تصحيف قال في النهاية هو أن يطأطىء المصلي
رأسه حتى يكون أخفض من ظهره انتهى إلا أنه قال
النووي حديث التدبيح ضعيف وقيل كان وضع اليدين
قبل الركبتين ثم أمروا بوضع الركبتين قبل
اليدين وحديث ابن خزيمة الذي أخرجه عن سعد بن
أبي وقاص وقدمناه قريبا يشعر بذلك وقول المصنف
إن لحديث أبي هريرة شاهدا يقوى به معارض بأن
لحديث وائل أيضا شاهدا قد قدمناه وقال الحاكم
إنه على شرطهما وغايته وإن لم يتم كلام الحاكم
فهو مثل شاهد أبي هريرة الذي تفرد به شريك فقد
اتفق حديث وائل وحديث أبي هريرة في القوة وعلى
تحقيق ابن القيم فحديث أبي هريرة عائد إلى
حديث وائل وإنما وقع فيه قلب ولا ينكر ذلك فقد
وقع القلب في ألفاظ الحديث
45- ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد للتشهد
وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على
اليمنى وعقد
(1/188)
ثلاثا وخمسين
وأشار بأصبعه السبابة" قال العلماء خصت
السبابة بالإشارة لاتصالها بنياط القلب
فتحريكها سبب لحضوره رواه مسلم وفي رواية له
"وقبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام"
ووضع اليدين على الركبتين مجمع على استحبابه
وقوله "وعقد ثلاثا وخمسين" قال المصنف في
التلخيص صورتها أنه يجعل الإبهام مفتوحة تحت
المسبحة وقوله فأتى أصابعه كلها أي أصابع يده
اليمنى قبضها على الراحة وأشار بالسبابة وفي
رواية وائل بن حجر حلق بين الإبهام والوسطى
أخرجه ابن ماجه فهذه ثلاث هيئات جعل الإبهام
تحت المسبحة مفتوحة وسكت في هذه عن بقية
الأصابع هل تضم إلى الراحة أو تبقى منشورة على
الركبة الثانية ضم الأصابع كلها على الراحة
والإشارة بالمسبحة الثالثة التحليق بين
الإبهام والوسطى ثم الإشارة بالسبابة وورد
بلفظ الإشارة كما هنا وكما في حديث ابن الزبير
"أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بالسبابة
ولا يحركها" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي
وابن حبان في صحيحه وعند ابن خزيمة والبيهقي
من حديث وائل أنه صلى الله عليه وسلم رفع
إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها قال البيهقي
يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الإشارة لا
تكرير تحريكها حتى لا يعارض حديث ابن الزبير
وموضع الإشارة عند قوله لا إله إلا الله لما
رواه البيهقي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم
وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص فيه فيكون
جامعا في التوحيد بين الفعل والقول والاعتقاد
ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
الإشارة بالأصبعين وقال أحد أحد لمن راه يشير
بأصبعيه ثم الظاهر أنه مخير بين هذه الهيئات
ووجه الحكمة شغل كل عضو بعبادة وورد في اليد
اليسرى عند الدارقطني من حديث ابن عمر أنه صلى
الله عليه وسلم ألقم كفه اليسرى ركبته وفسر
الإلقام بعطف الأصابع على الركبة وذهب إلى هذا
بعضهم عملا بهذه الرواية قال وكأن الحكمة فيه
منع اليد عن العبث واعلم أن قوله في حديث ابن
عمر وعقد ثلاثا وخمسين إشارة إلى طريقة معروفة
تواطأت عليها العرب في عقود الحساب وهي أنواع
من الاحاد والعشرات والمئين والألوف أما
الاحاد فللواحد عقد الخنصر إلى أقرب ما يليه
من باطن الكف وللاثنين عقد البنصر معها كذلك
وللثلاثة عقد الوسطى معها كذلك وللأربعة حل
الخنصر وللخمسة حل البنصر معها دون الوسطى
وللستة عقد البنصر وحل جميع الأنامل وللسبعة
بسط البنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف
وللثمانية بسط البنصر فوقها كذلك وللتسعة بسط
الوسطى فوقها كذلك وأما العشرات فلها الإبهام
والسبابة فللعشرة الأولى عقد رأس الإبهام على
طرف السبابة وللعشرين إدخال الإبهام بين
السبابة والوسطى وللثلاثين عقد رأس السبابة
على رأس الإبهام عكس العشرة وللأربعين تركيب
الإبهام على العقد الأوسط من السبابة وعطف
الإبهام على أصلها وللخمسين عطف الإبهام إلى
أصلها وللستين تركيب السبابة على ظهر الإبهام
عكس الأربعين وللسبعين إلقاء رأس الإبهام على
العقد الأوسط من السبابة ورد طرف السبابة إلى
الإبهام وللثمانين رد طرف السبابة إلى أصلها
وبسط الإبهام على جنب
(1/189)
السبابة من
ناحية الإبهام وللتسعين عطف السبابة إلى أصل
الإبهام وضمها بالإبهام وأما المئين فكالآحاد
إلى تسعمائة في اليد اليسرى والألوف كالعشرات
في اليسرى
46- ( وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال: "التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال إذا صلى أحدكم فليقل التحيات" جمع
تحية ومعناها البقاء والدوام أو العظمة أو
السلامة من الآفات أو كل أنواع التعظيم "لله
والصلوات" قيل الخمس أو ما هو أعم من الفرض
والنفل أو العبادات كلها أو الدعوات أو الرحمة
وقيل التحيات العبادات القولية والصلوات
العبادات الفعلية "والطيبات" أي ما طاب من
الكلام وحسن أن يثني به على الله أو ذكر الله
أو الأقوال الصالحة أو الأعمال الصالحة أو ما
هو أعم من ذلك وطيبها كونها كاملة خالصة عن
الشوائب والتحيات مبتدأ خبرها "لله والصلوات
والطيبات" عطف عليه وخبرهما محذوف وفيه تقادير
أخر "السلام" أي السلام الذي يعرف كل أحد
"عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" خصوه
صلى الله عليه وسلم أولا بالسلام عليه لعظم
حقه عليهم وقدموه على التسليم على أنفسهم لذلك
ثم أتبعوه بالسلام عليهم في قولهم "السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين" وقد ورد أنه
يحمل كل عبد صالح في السماء والأرض وفسر
الصالح بحقوق الله وحقوق عباده ودرجاتهم
متفاوتة "أشهد أن لا إله إلا الله" لا مستحق
للعبادة بحق غيره فهو قصر إفراد لأن المشركين
كانوا يعبدونه ويشركون معه غيره "وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله" هكذا هو بلفظ عبده ورسوله
في جميع روايات الأمهات الست ووهم ابن الأثير
في جامع الأصول فساق حديث ابن مسعود بلفظ وأن
محمدا رسول الله ونسبه إلى الشيخين وغيرهما
وتبعه على وهمه صاحب تيسير الوصول وتبعهما على
الوهم الجلال في ضوء النهار وزاد أنه لفظ
البخاري ولفظ البخاري كما قاله المصنف فتنبه
"ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" متفق
عليه واللفظ للبخاري قال البزار أصح حديث عندي
في التشهد حديث ابن مسعود يروى عنه من نيف
وعشرين طريقا ولا نعلم روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم في التشهد أثبت منه ولا أصح إسنادا
ولا أثبت رجالا ولا أشد تظافرا بكثرة الأسانيد
والطرق وقال مسلم إنما أجمع الناس على تشهد
ابن مسعود لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضا
وغيره قد اختلف عنه أصحابه وقال محمد بن يحيى
الذهلي هو أصح ما روى في التشهد وقد روى حديث
التشهد أربعة وعشرون صحابيا بألفاظ مختلفة
اختار الجماهير منها حديث ابن مسعود والحديث
فيه دلالة على وجوب التشهد لقوله فليقل وقد
ذهب إلى وجوبه أئمة من الآل وغيرهم من العلماء
وقالت طائفة إنه غير واجب لعدم تعليمه المسيء
صلاته ثم اختلفوا في الألفاظ التي تجب عند من
أوجبه أو عند من قال إنه سنة وقد سمعت أرجحية
حديث ابن مسعود وقد اختاره الأكثر فهو الأرجح
وقد رجح جماعة غيره من ألفاظ التشهد الواردة
عن الصحابة وزاد ابن أبي شيبة قول وحده لا
شريك له في حديث ابن مسعود
(1/190)
من رواية أبي
عبيدة عن أبيه وسنده ضعيف لكن ثبتت هذه
الزيادة من حديث أبي موسى عند مسلم وفي حديث
عائشة الموقوف في الموطأ وفي حديث ابن عمر عند
الدارقطني إلا أنه بسند ضعيف وفي سنن أبي داود
قال ابن عمر زدت فيه وحده لا شريك له وظاهره
أنه موقوف على ابن عمر وقوله ثم ليتخير من
الدعاء أعجبه زاد أبو داود فيدعو به ونحوه
للنسائي من وجه آخر بلفظ فليدع وظاهره الوجوب
أيضا للأمر به وأنه يدعو بما شاء من خير
الدنيا والآخرة وقد ذهب إلى وجوب الاستعاذة
الآتية طاوس فإنه أمر ابنه بالإعادة للصلاة
لما لم يتعوذ من الأربع الآتي ذكرها وبه قال
بعض الظاهرية وقال ابن حزم ويجب أيضا في
التشهد الأول والظاهر مع القائل بالوجوب وذهب
الحنفية والنخعي وطاوس إلى أنه لا يدعو في
الصلاة إلا بما يوجد في القران وقال بعضهم لا
يدعو إلا بما كان مأثورا ويرد القولين قوله
صلى الله عليه وسلم "ثم ليتخير من الدعاء
أعجبه" وفي لفظ "ما أحب" وفي لفظ للبخاري "من
الثناء ما شاء" فهو إطلاق للداعي أن يدعو بما
أراد وقال ابن سيرين: لا يدعو في الصلاة إلا
بأمر الآخرة وقد أخرج سعيد بن منصور من حديث
ابن مسعود فعلمنا التشهد في الصلاة أي النبي
صلى الله عليه وسلم ثم يقول إذا فرغ أحدكم من
التشهد فليقل: "اللهم إني أسألك من الخير ما
علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ما
علمت منه وما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير
ما سألك منه عبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما
استعاذك منه عبادك الصالحون {رَبَّنَا آتِنَا
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} " الآية ومن أدلة
وجوب التشهد ما أفاده قوله وللنسائي أي من
حديث ابن مسعود كنا نقول قبل أن يفرض علينا
التشهد حذف المصنف تمامه وهو السلام على الله
السلام على جبريل وميكائيل فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا تقولوا هذا ولكن قولوا
التحيات إلى آخره ففي قوله يفرض عليه دليل
الإيجاب إلا أنه أخرج النسائي هذا الحديث من
طريق ابن عيينة قال ابن عبد البر في الاستذكار
تفرد ابن عيينة بذلك وأخرج مثله الدارقطني
والبيهقي وصححاه ولأحمد أي من حديث ابن مسعود
وهو من أدلة الوجوب أيضا "أن النبي صلى الله
عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس"
أخرجه أحمد عن ابن عبيدة عن عبد الله قال
"علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد
وأمره أن يعلمه الناس التحيات" وذكره إلخ
47- (ولمسلم عن ابن عباس قال "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد التحيات
المباركات الصوات الطيبات لله" إلى آخره تمامه
"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن
لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله"
هذا لفظ مسلم وأبي داود ورواه الترمذي وصححه
كذلك لكنه ذكر السلام منكرا بنو ورواه ابن
ماجه كمسلم لكنه قال "وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله" ورواه الشافعي وأحمد بتنكير السلام
أيضاً وقالا فيه وأن محمدا ولم يذكرا أشهد
وفيه زيادة المباركات وحذف الواو من الصلوات
ومن الطيبات وقد اختار الشافعي تشهد
(1/191)
ابن عباس هذا
قال المصنف إنه قال الشافعي لما قيل له كيف
صرت إلى حديث ابن عباس في التشهد قال لما
رأيته واسعا وسمعته عن ابن عباس صحيحا كان
عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره فأخذت به غير
معنف لمن يأخذ بغيره مما صح
48- (وعن فضالة بفتح الفاء بزنة سحابة هو أبو
محمد فضالة بن عبيد بصيغة التصغير لعبد أنصاري
أوسي أول مشاهده أحد ثم شهد ما بعدها وبايع
تحت الشجرة ثم انتقل إلى الشام وسكن دمشق
وتولى القضاء بها ومات بها وقيل غير ذلك قال
"سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو
في صلاته ولم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى
الله عليه وسلم فقال عجل هذا" أي بدعائه قبل
تقديم الأمرين "ثم دعاه فقال إذا صلى أحدكم
فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه" هو عطف
تفسيري ويحتمل أن يراد بالتحميد نفسه وبالثناء
ما هو أعم أي عبارة فيكون من عطف العام على
الخاص "ثم يصلي" هو خبر محذوف أي ثم هو يصلي
عطف جملة على جملة فلذا لم تجزم "على النبي
صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء" من خير
الدنيا والآخرة رواه أحمد والثلاثة وصححه
الترمذي وابن حبان والحاكم الحديث دليل على
وجوب ما ذكر من التحميد والثناء والصلاة عليه
صلى الله عليه وسلم والدعاء بما شاء وهو موافق
في المعنى لحديث ابن مسعود وغيره فإن أحاديث
التشهد تتضمن ما ذكر من الحمد والثناء وهي
مبينة لما أجمله هذا ويأتي الكلام في الصلاة
عليه صلى الله عليه وسلم وهذا إذا ثبت أن هذا
الدعاء الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من
ذلك الرجل كان في قعدة التشهد وإلا فليس في
هذا الحديث دليل على أنه كان ذلك حال قعدة
التشهد إلا أن ذكر المصنف له هنا يدل على أنه
كان في قعود التشهد وكأنه عرف ذلك من سياقه
وفيه دليل على تقديم الوسائل بين يدي المسائل
وهي نظير- إياك نعبد وإياك نستعين - حيث قدم
الوسيلة وهي العبادة على طلب الاستعانة
49- (وعن أبي مسعود الأنصاري أبو مسعود اسمه
عقبة بن عامر بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي
البدري شهد العقبة الثانية وهو صغير ولم يشهد
بدرا وإنما نزل به فنسب إليه سكن الكوفة ومات
بها في خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام
قال قال بشير بن سعد هو أبو النعمان بشير بن
سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي والد النعمان
بن بشير شهد العقبة وما بعدها "يا رسول الله
أمرنا الله أن نصلى عليك" يريد في قوله تعالى
- {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
- "فكيف نصلي عليك فسكت " أي رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعند أحمد ومسلم زيادة "حتى
تمنينا أنه لم يسأله" "ثم قال قولوا اللهم صل
على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على
إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد الحميد"
صيغة مبالغة فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه
المذكر والمؤنث أي أنك محمود بمحامدك اللائقة
بعظمة شأنك وهو تعليل لطلب الصلاة أي لأنك
محمود ومن محامدك إفاضتك أنواع العنايات
وزيادة
(1/192)
البركات على
نبيك الذي تقرب إليك بامتثال ما أهلته له من
أداء الرسالة ويحتمل أن حميدا بمعنى حامد أي
أنك حامد من يستحق أن يحمد ومحمد من أحق عبادك
بحمدك وقبول دعاء من يدعو له ولآله وهذا أنسب
بالمقام مجيد مبالغة ماجد والمجد الشرف
والسلام كما علمتم بالبناء للمجهول وتشديد
اللام وفيه رواية بالبناء للمعلوم وتخفيف
اللام رواه مسلم وزاد ابن خزيمة "فكيف نصلي
عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" وهذه
الزيادة رواها أيضا ابن حبان والدارقطني
والحاكم وأخرجها أبو حاتم وابن خزيمة في
صحيحيهما وحديث الصلاة أخرجه الشيخان عن كعب
بن عجرة عن أبي حميد الساعدي وأخرجه البخاري
عن أبي سعيد والنسائي عن طلحة والطبراني عن
سهل بن سعد وأحمد والنسائي عن زيد بن خارجة
والحديث دليل على وجوب الصلاة عليه صلى الله
عليه وسلم في الصلاة لظاهر الأمر أعني قولوا
وإلى هذا ذهب جماعة من السلف والأئمة والشافعي
وإسحق ودليلهم الحديث مع زيادته الثابتة
ويقتضي أيضا وجوب الصلاة على الآل وهو قول
الهادي والقاسم وأحمد بن حنبل ولا عذر لمن قال
بوجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم مستدلا
بهذا الحديث من القول بوجوبها على الآل إذ
المأمور به واحد ودعوى النووي وغيره الإجماع
على أن الصلاة على الآل مندوبة غير مسلمة بل
نقول الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا تتم
ويكون العبد ممتثلا بها حتى يأتي بهذا اللفظ
النبوي الذي فيه ذكر الآل لأنه قال السائل كيف
نصلي عليك فأجابه بالكيفية أنها الصلاة عليه
وعلى آله فمن لم يأت بالآل فما صلى عليه
بالكيفية التي أمر بها فلا يكون ممتثلا للأمر
فلا يكون مصليا عليه صلى الله عليه وسلم وكذلك
بقية الحديث من قوله كما صليت إلى آخره يجب إذ
هو من الكيفية المأمور بها ومن فرق بين ألفاظ
هذه الكيفية بإيجاب بعضها وندب بعضها فلا دليل
له على ذلك وأما استدلال المهدي في البحر على
أن الصلاة على الآل سنة بالقياس على الأذان
فإنهم لم يذكروا معه صلى الله عليه وسلم فيه
فكلام باطل فإنه كما قيل لا قياس مع النص لأنه
لا يذكر الآل في تشهد الأذان لا ندباً ولا
وجوبا ولأنه ليس في الأذان دعاء له صلى الله
عليه وسلم بل شهادة بأنه رسول الله والآل لم
يأت تعبد بالشهادة بأنهم آله ومن هنا تعلم أن
حذف لفظ الآل من الصلاة كما يقع في كتب الحديث
ليس على ما ينبغي وكنت سئلت عنه قديما فأجبت
أنه قد صح عند أهل الحديث بلا ريب كيفية
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهم
رواتها وكأنهم حذفوها خطأ تقية لما كان في
الدولة الأموية من يكره ذكرهم ثم استمر عليه
عمل الناس متابعة من الآخر للأول فلا وجه له
وبسطت هذا الجواب في حواشي شرح العمدة بسطا
شافيا وأما من هم الآل ففي ذلك أقوال الأصح
أنهم من حرمت عليهم الزكاة فإنه بذلك فسرهم
زيد بن أرقم والصحابي أعرف بمراده صلى الله
عليه وسلم فتفسيره قرينة على تعيين المراد من
اللفظ المشترك وقد فسرهم بآل علي وآل جعفر وآل
عقيل وآل العباس فإن قيل يحتمل أن يراد بقوله
"إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" أي إذا نحن
دعونا لك في دعائنا فلا يدل
(1/193)
على إيجاب
الصلاة عليه في الصلاة قلت الجواب من وجهين
الأول المتبادر في لسان الصحابة من الصلاة في
قوله صلاتنا الشرعية لا اللغوية والحقيقة
العرفية مقدمة إذا ترددت بين المعنيين الثاني
أنه قد ثبت وجوب الدعاء في آخر التشهد كما
عرفت من الأمر به والصلاة عليه صلى الله عليه
وسلم قبل الدعاء واجبة لما عرفت من حديث فضالة
وبهذا يتم إيجاب الصلاة عليه صلى الله عليه
وسلم بعد التشهد قبل الدعاء الدال على وجوبه
50- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد
أحدكم" مطلق في التشهد الأوسط والأخير
"فليستعذ بالله من أربع" بينها بقوله يقول
"اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب
القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة
المسيح الدجال" متفق عليه وفي رواية لمسلم
"إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير" هذه الرواية
قيدت إطلاق الأولى وأبانت أن الاستعاذة
المأمور بها بعد التشهد الأخير ويدل التعقيب
بالفاء أنها تكون قبل الدعاء المخير فيه بما
شاء والحديث دليل على وجوب الاستعاذة مما ذكر
وهو مذهب الظاهرية وقال ابن حزم منهم ويجب
أيضا في التشهد الأول عملا منه بإطلاق اللفظ
المتفق عليه وأمر طاوس ابنه بإعادة الصلاة لما
لم يستعذ فيها فإنه يقول بالوجوب وبطلان صلاة
من تركها والجمهور حملوه على الندب وفيه دلالة
على ثبوت عذاب القبر والمراد من فتنة المحيا
ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان
بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ
بالله أمر الخاتمة عند الموت وقيل هي الابتلاء
مع عدم الصبر وفتنة الممات قيل المراد بها
الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه ويجوز
أن يراد بها فتنة القبر وقيل أراد بها السؤال
مع الحيرة وقد أخرج البخاري إنكم تفتنون في
قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال ولا يكون
هذا تكريرا لعذاب القبر لأن عذاب القبر متفرع
على ذلك وقوله فتنة المسيح الدجال قال العلماء
أهل اللغة الفتنة الامتحان والاختبار وقد يطلق
على القتل والإحراق والتهمة وغير ذلك والمسيح
بفتح الميم وتخفيف السين المهملة وآخره حاء
مهملة وفيه ضبط آخر وهذا الأصح ويطلق على
الدجال وعلى عيسى ولكن إذا أريد به الدجال قيد
باسمه سمي المسيح لمسحه الأرض وقيل لأنه ممسوح
العين وأما عيسى فقيل له المسيح لأنه خرج من
بطن أمه ممسوحا بالدهن وقيل لأن زكريا مسحه
وقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ وذكر
صاحب القاموس أنه جمع في وجه تسميته بذلك
خمسين قولا
51- (وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء
أدعو به في صلاتي قال: "قل اللهم إني ظلمت
نفسي ظلما كثيرا" يروى بالمثلثة وبالموحدة
فيخير الداعي بين اللفظين ولا يجمع بينهما
لأنه لم يرد إلا أحدهما "ولا يغفر الذنوب إلا
أنت" إقرار بالوحدانية "فاغفر لي" استجلاب
للمغفرة "مغفرة" نكرها للتعظيم أي مغفرة عظيمة
وزادها تعظيما بوصفها بقوله "من عندك"
(1/194)
لأن ما يكون من
عنده تعالى لا تحيط بوصفه عبارة "وارحمني إنك
أنت الغفور الرحيم" توسل إلى نيل مغفرة الله
ورحمته بصفتي غفرانه ورحمته متفق عليه الحديث
دليل على شرعية الدعاء في الصلاة على الإطلاق
من غير تعيين محل له ومن محلاته بعد التشهد
والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والاستعاذة
لقوله فليتخير من الدعاء ما شاء والإقرار بظلم
نفسه اعتراف بأنه لا يخلو أحد من البشر عن ظلم
نفسه بارتكابه ما نهى عنه أو تقصيره عن أداء
ما أمر به وفيه التوسل إلى الله تعالى بأسمائه
عند طلب الحاجات واستدفاع المكروهات وأنه يأتي
من صفاته في كل مقام ما يناسبه كلفظ الغفور
الرحيم عند طلب المغفرة ونحو وارزقنا وأنت خير
الرازقين- عند طلب الرزق والقران والأدعية
النبوية مملوءة بذلك وفي الحديث دليل على طلب
التعليم من العالم سيما في الدعوات المطلوب
فيها جوامع الكلم واعلم أنه قد ورد في الدعاء
بعد التشهد ألفاظ غير ما ذكر أخرج النسائي عن
جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في
صلاته بعد التشهد أحسن الكلام كلام الله وأحسن
الهدي هدى محمد وأخرج أبو داود عن ابن مسعود
أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الدعاء
بعد التشهد "اللهم ألف على الخير بين قلوبنا
وأصلح ذات بيننا واهدنا ونجنا من الظلمات إلى
النور وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما
بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا
وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب
الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها
قابليها وأتمها علينا" أخرجه أبو داود وأخرج
أبو داود أيضا عن بعض الصحابة أنه صلى الله
عليه وسلم قال لرجل كيف تقول في الصلاة قال
أتشهد ثم أقول اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك
من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة
معاذ فقال صلى الله عليه وسلم: "حول ذلك ندندن
أنا ومعاذ" ففيه أنه يدعو الإنسان بأي لفظ شاء
من مأثور وغيره
52- ( وعن وائل بن حجر قال "صليت مع النبي صلى
الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته وعن شماله السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته" رواه أبو داود
بإسناد صحيح هذا الحديث أخرجه أبو داود من
حديث علقمة بن وائل عن أبيه ونسبه المصنف في
التلخيص إلى عبد الجبار بن وائل وقال لم يسمع
من أبيه فأعله بالانقطاع وهنا قال صحيح
وراجعنا سنن أبي داود فرأيناه رواه عن علقمة
بن وائل عن أبيه وقد صح سماع علقمة عن أبيه
فالحديث سالم عن الانقطاع فتصحيحه هنا هو
الأولى وإن خالف ما في التلخيص وحديث
التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث
مختلفة ففيها صحيح وحسن وضعيف ومتروك وكلها
بدون زيادة وبركاته إلا في رواية وائل هذه
ورواية عن ابن مسعود وعند ابن ماجه وعند ابن
حبان ومع صحة إسناد حديث وائل كما قال المصنف
هنا يتعين قبول زيادته إذ هي زيادة عدل وعدم
ذكرها في رواية غيره ليست رواية لعدمها قال
الشارح إنه لم ير من قال وجوب زيادة وبركاته
إلا أنه قال قال الإمام يحيى إذا زاد وبركاته
ورضوانه وكرامته
(1/195)
أجزأ إذ هو
زيادة فضيلة وقد عرفت أن الوارد زيادة وبركاته
وقد صحت ولا عذر عن القول بها وقال به السرخسي
والإمام والروياني في الحلية وقول ابن الصلاح
إنها لم تثبت قد تعجب منه المصنف وقال هي
ثابتة عند ابن حبان في صحيحه وعند أبي داود
وعند ابن ماجه قال المصنف إلا أنه قال ابن
رسلان في شرح السنن لم نجدها في ابن ماجه قلت
راجعنا سنن ابن ماجه من نسخة صحيحة مقروءة
فوجدنا فيه ما لفظه باب التسليم حدثنا محمد بن
عبد الله بن نمير حدثنا عمر بن عبيد عن ابن
إسحاق عن الأحوص عن عبد الله "أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن
شماله حتى يرى بياض خده السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته" انتهى بلفظه وفي تلقيح الأفكار
تخريج الأذكار للحافظ ابن حجر لما ذكر النووي
أن زيادة وبركاته زيادة فردة ساق الحافظ طرقا
عدة لزيادة وبركاته ثم قال فهذه عدة طرق ثبتت
بها وبركاته بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ أنها
رواية فردة انتهى كلامه وحيث ثبت أن
التسليمتين من فعله صلى الله عليه وسلم في
الصلاة وقد ثبت قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي"
وثبت حديث تحريمها التكبير وتحليلها السلام
أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح فيجب التسليم
لذلك وقد ذهب إلى القول بوجوبه الهادوية
والشافعية وقال النووي: إنه قول جمهور العلماء
من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وذهب الحنفية
وآخرون إلى أنه سنة مستدلين على ذلك بقوله صلى
الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "إذا رفع
الإمام رأسه من السجدة وقعد ثم أحدث قبل
التسليم فقد تمت صلاته" فدل على أن التسليم
ليس بركن واجب وإلا لوجبت الإعادة ولحديث
المسيء صلاته فإنه صلى الله عليه وسلم لم
يأمره بالسلام وأجيب عنه بأن حديث ابن عمر
ضعيف باتفاق الحفاظ فإنه أخرجه الترمذي وقال
هذا حديث إسناده ليس بذاك القوي وقد اضطربوا
في إسناده وحديث المسيء صلاته لا ينافي الوجوب
فإن هذه زيادة وهي مقبولة والاستدلال بقوله
تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} على عدم وجوب
السلام استدلال غير تام لأن الآية مجملة بين
المطلوب منها فعله صلى الله عليه وسلم ولو عمل
بها وحدها لما وجبت القراءة ولا غيرها ودل
الحديث على وجوب التسليم على اليمين واليسار
وإليه ذهبت الهادوية وجماعة وذهب الشافعي إلى
أن الواجب تسليمة واحدة والثانية مسنونة قال
النووي أجمع العلماء الذين يعتد بهم أنه لا
يجب إلا تسليمة واحدة فإن اقتصر عليها استحب
له أن يسلم تلقاء وجهه فإن سلم تسليمتين جعل
الأولى عن يمينه والثانية عن يساره ولعل حجة
الشافعي حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم
كان إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في
الثامنة فيحمد الله ويذكره ويدعو ثم ينهض ولا
يسلم ثم يصلي التاسعة فيجلس ويذكر الله ويدعو
ثم يسلم تسليمة أخرجه ابن حبان وإسناده على
شرط مسلم وأجيب عنه بأنه لا يعارض حديث
الزيادة كما عرفت من قبول الزيادة إذا كانت من
عدل وعند مالك أن المسنون تسليمة واحدة وقد
بين ابن عبد البر ضعف أدلة هذا القول من
الأحاديث واستدل المالكية على كفاية
(1/196)
التسليمة
الواحدة بعمل أهل المدينة وهو عمل توارثوه
كابرا عن كابر وأجيب عنه بأنه قد تقرر في
الأصول أن عملهم ليس بحجة وقوله عن يمينه وعن
شماله أي منحرفا إلى الجهتين بحيث يرى بياض
خده كما ورد في رواية سعد "رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم سلم عن يمينه وعن شماله حتى
كأني أنظر إلى صفحة خده" وفي لفظ حتى أرى بياض
خده أخرجه مسلم والنسائي
53- ( وعن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله
عليه وسلم "كان يقول في دبر" قال في القاموس
الدبر بضم الدال وبضمتين نقيض القبل من كل شيء
عقبه ومؤخره وقال في الدبر محركة الدال والباء
بالفتح الصلاة في آخر وقتها وتسكن الباء ولا
يقال بضمتين فإنه من لحن المحدثين "كل صلاة
مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا
مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت" ووقع عند
عبد بن حميد بعده "ولا راد لما قضيت ولا ينفع
ذا الجد منك الجد" متفق عليه زاد الطبراني من
طريق أخرى عن المغيرة بعد قوله له الملك وله
الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير
ورواته موثوقون وثبت مثله عند البزار من حديث
عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح لكنه في القول
إذا أصبح وإذا أمسى ومعنى "لا مانع لما أعطيت"
أن من قضيت له بقضاء من رزق أو غيره لا يمنعه
أحد عنه ومعنى "لا معطي لما منعت" أنه من قضيت
له بحرمان لا معطى له والجد بفتح الجيم كما
سلف قال البخاري معناه: الغنى والمراد لا
ينفعه ولا ينجيه حظه في الدنيا بالمال والولد
والعظمة والسلطان وإنما ينجيه فضلك ورحمتك
والحديث دليل على استحباب هذا الدعاء عقب
الصلوات لما اشتمل على توحيد الله ونسبة الأمر
كله إليه والمنع والإعطاء وتمام القدرة
54- (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يتعوذ بهن
دبر كل صلاة اللهم إني أعوذ بك" أي ألتجئ إليك
"من البخل" بضم الموحدة وسكون الخاء المعجمة
وفيه لغات "وأعوذ بك من الجبن" بزنة البخل
"وأعوذ بك من أن أراد إلى أرذل العمر وأعوذ بك
من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر" رواه
البخاري قوله دبر الصلاة هنا وفي الأول يحتمل
أنه قبل الخروج لأن دبر الحيوان منه وعليه بعض
أئمة الحديث ويحتمل أنه بعدها وهو أقرب
والمراد بالصلاة عند الإطلاق المفروضة والتعوذ
من البخل قد كثر في الأحاديث قيل والمقصود منه
منع ما يجب بذله من المال شرعا أو عادة والجبن
هو المهابة للأشياء والتأخر عن فعلها يقال منه
جبان كسحاب لمن قام به والمتعوذ منه هو التأخر
عن الإقدام بالنفس إلى الجهاد الواجب والتأخر
عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك
والمراد من الرد إلى أرذل العمر هو بلوغ الهرم
والخرف حتى يعود كهيئته الأولى في أوان
الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم
وأما فتنة الدنيا فهي الافتتان بشهواتها
وزخارفها حتى تلهيه
(1/197)
عن القيام
بالواجبات التي خلق لها العبد وهي عبادة بارئه
وخالقه وهو المراد من قوله تعالى - {نَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} -
وتقدم الكلام على عذاب القبر
55- ( وعن ثوبان رضي الله عنه قال كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم "إذا انصرف من صلاته"
أي سلم منها "استغفر الله ثلاثا" بلفظ أستغفر
الله وفي الأذكار للنووي قيل للأوزاعي وهو أحد
رواة هذا الحديث كيف الاستغفار قال تقول
أستغفر الله أستغفر الله وقال "اللهم أنت
السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال
والإكرام " رواه مسلم والاستغفار إشارة إلى أن
العبد لا يقوم بحق عبادة مولاه لما يعرض له من
الوساوس والخواطر فشرع له الاستغفار تداركا
لذلك وشرع له أن يصف ربه بالسلام كما وصف به
نفسه والمراد ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر
وصف به للمبالغة ومنك السلام أي منك نطلب
السلامة من شرور الدنيا والآخرة والمراد بقوله
يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الغنى المطلق
والفضل التام وقيل الذي عنده الجلال والإكرام
لعباده المخلصين وهو من عظائم صفاته تعالى
ولذا قال صلى الله عليه وسلم ألظوا بيا ذا
الجلال والإكرام ومر برجل يصلي وهو يقول يا ذا
الجلال والإكرام فقال قد استجيب لك
56- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "من سبح الله دبر كل
صلاة ثلاثا وثلاثين" يقول سبحان الله "وحمد
الله ثلاثا وثلاثين" يقول الحمد لله "وكبر
الله ثلاثا وثلاثين" يقول الله أكبر "فتلك تسع
وتسعون" عدد أسماء الله الحسنى "وقال تمام
المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت
خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر" هو ما يعلو
عليه عند اضطرابه رواه مسلم وفي رواية أخرى
لمسلم عن أبي هريرة "أن التكبير أربع وثلاثون"
وبه تتم المائة فينبغي العمل بهذا تارة
وبالتهليل أخرى ليكون قد عمل بالروايتين وأما
الجمع بينهما كما قال الشارح وسبقه غيره فليس
بوجه لأنه لم يرد الجمع بينهما ولأنه يخرج
العدد عن المائة هذا وللحديث سبب وهو "أن
فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقالوا يا رسول الله قد ذهب أهل الدثور
بالدرجات العلى والنعيم المقيم فقال: "وما
ذلك" قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم
ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أعلمكم
شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم
ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما
صنعتم" قالوا بلى قال " سبحوا الله.. " الحديث
وكيفية التسبيح وأخويه كما ذكرناه وقيل يقول
سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا
وثلاثين وقد ورد في البخاري من حديث أبي هريرة
أيضا "يسبحون عشرا ويحمدون عشرا ويكبرون عشرا"
وفي صفة أخرى "يسبحون خمسا وعشرين تسبيحة
ومثلها تحميدا ومثلها تكبيرا ومثلها لا إله
إلا الله وحده
(1/198)
لا شريك له له
الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" فتتم
المائة وأخرج أبو داود من حديث زيد بن أرقم
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر
كل صلاة اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد إنك
أنت الرب وحدك لا شريك لك اللهم ربنا ورب كل
شيء إنا نشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم
عبدك ورسولك اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد
أن العباد كلهم إخوة اللهم ربنا ورب كل شيء
اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا
والآخرة يا ذا الجلال والإكرام استمع واستجب
الله أكبر الله أكبر الأكبر الله نور السموات
والأرض الله أكبر الأكبر حسبي الله ونعم
الوكيل الله أكبر الأكبر" وأخرج أبو داود من
حديث علي عليه السلام وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا سلم من الصلاة قال: "اللهم اغفر
لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما
أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت
المؤخر لا إله إلا أنت" وأخرج أبو داود
والنسائي من حديث عقبة بن عامر "أمرني رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات
دبر كل صلاة" وأخرج مسلم من حديث البراء أنه
صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد الصلاة: "رب
قني عذابك يوم تبعث عبادك" وورد بعد صلاة
المغرب وبعد صلاة الفجر بخصوصهما قول "لا إله
إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير عشر مرات" أخرجه أحمد وهو
زيادة على ما ذكر في غيرهما وأخرج الترمذي عن
أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل
أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء
قدير عشر مرات كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه
عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك في
حرز من كل مكروه وحرز من الشيطان ولم ينبغ
لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله
عز وجل" قال الترمذي غريب حسن صحيح وأخرجه
النسائي من حديث معاذ وزاد فيه بيده الخير
وزاد فيه أيضا وكان له بكل واحدة قالها عتق
رقبة وأخرج الترمذي والنسائي من حديث عمارة بن
شبيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء
قدير عشر مرات على إثر المغرب بعث الله له
ملائكة يحفظونه من الشيطان الرجيم حتى يصبح
وكتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات
موبقات وكانت له بعدل عشر رقبات مؤمنات" قال
الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد
ولا نعرف لعمارة سماعا من النبي صلى الله عليه
وسلم وأما قراءة الفاتحة بنية كذا وبنية كذا
كما يفعل الآن فلم يرد بها دليل بل هي بدعة
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد
تمام التسبيح وأخويه من الثناء فالدعاء بعد
الذكر سنة والصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم أمام الدعاء كذلك سنة إنما الاعتياد لذلك
وجعله في حكم السنن الراتبة ودعاء الإمام
مستقبل القبلة مستدبرا للمأمومين فلم يأت به
سنة بل الذي ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان
يستقبل المأمومين إذا سلم قال البخاري باب
يستقبل الإمام الناس إذا سلم وورد حديث سمرة
بن جندب وحديث زيد بن خالد كان إذا صلى أقبل
علينا بوجهه وظاهره المداومة على ذلك
(1/199)
57- ( وعن معاذ
بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال له: "أوصيك يا معاذ لا تدعن" هو
نهي من ودعه إلا أنه هجر ماضيه في الأكثر
استغناء عنه بترك وقد ورد قليلا وقرىء {مَا
وَدَعَكَ رَبُّكَ} - دبر كل صلاة أن تقول
"اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" رواه
أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي النهي أصله
التحريم فيدل على إيجاب هذه الكلمات دبر
الصلاة وقيل إنه نهى إرشاد ولا بد من قرينة
على ذلك وقيل يحتمل أنها في حق معاذ نهي تحريم
وفيه بعد وهذه الكلمات عامة لخير الدنيا
والآخرة
58- (وعن أبي أمامة هو إياس على الأصح كما
قاله ابن عبد البر ابن ثعلبة الحارثي الأنصاري
الخزرجي لم يشهد بدرا إلا أنه عذره صلى الله
عليه وسلم عن الخروج لعلته بمرض والدته وأبو
أمامة الباهلي تقدم في أول الكتاب فإذا أطلق
فالمراد به هذا وإذا أريد الباهلي قيد به قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ
آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة" أي مفروضة "لم
يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" رواه النسائي
وصححه ابن حبان وزاد فيه الطبراني وقل هو الله
أحد وقد ورد نحوه من حديث علي عليه السلام
بزيادة من قرأها حين يأخذ مضجعه أمنه الله على
داره ودار جاره وأهل دويرات حوله رواه البيهقي
في شعب الإيمان وضعف إسناده وقوله "لم يمنعه
من دخول الجنة إلا الموت" هو على حذف مضاف أي
لا يمنعه إلا عدم موته حذف لدلالة المعنى عليه
واختصت آية الكرسي بذلك لما اشتملت عليه من
أصول الأسماء والصفات الإلهية والوحدانية
والحياة والقيومية والعلم والملك والقدرة
والإرادة وقل هو الله أحد متمحضة لذكر صفات
الله تعالى
59- (وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما
رأيتموني أصلي" رواه البخاري هذا الحديث أصل
عظيم في دلالته على أن أفعاله صلى الله عليه
وسلم في الصلاة وأقواله بيان لما أجمل من
الأمر بالصلاة في القران وفي الأحاديث وفيه
دلالة على وجوب التأسي به صلى الله عليه وسلم
فيما فعله في الصلاة فكل ما حافظ عليه من
أفعالها وأقوالها وجب على الأمة إلا لدليل
يخصص شيئا من ذلك وقد أطال العلماء الكلام في
الحديث واستوفاه ابن دقيق العيد في شرح العمدة
وزدناه تحقيقا في حواشيها
60- (وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صل قائما فإن
لم تستطع" أي الصلاة قائما "فقاعدا فإن لم
تستطع" أي وإن لم تستطع الصلاة قاعدا "فعلى
جنب وإلا" أي وإن لم تستطع الصلاة على جنب
"فأوم" لم نجده في نسخ بلوغ المرام منسوبا وقد
أخرجه البخاري دون قوله وإلا فأوم والنسائي
وزاد "فإن لم تستطع فمستلق" {لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها} وقد رواه الدارقطني
(1/200)
من حديث علي
عليه السلام بلفظ "فإن لم تستطع أن تسجد أوم
واجعل سجودك أخفض من ركوعك فإن لم يستطع أن
يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة
فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى
مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة" وفي إسناده ضعف
وفيه متروك وقال المصنف لم يقع في الحديث ذكر
الإيماء وإنما أورده الرافعي قال ولكنه ورد في
حديث جابر إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل
سجودك أخفض من ركوعك أخرجه البزار البيهقي في
المعرفة قال البزار وقد سئل عنه أبو حاتم فقال
الصواب عن جابر موقوفا ورفعه خطأ وقد روي أيضا
من حديث ابن عمر وابن عباس وفي إسناد يهما ضعف
والحديث دليل على أنه لا يصلي الفريضة قاعدا
إلا لعذر وهو عدم الاستطاعة ويلحق به ما إذا
خشي ضررا لقوله تعالى: {وََمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وكذا
قوله فإن لم تستطع فعلى جنب وفي قوله في حديث
الطبراني فإن نالته مشقة فجالسا فإن نالته
مشقة فنائما أي مضجعا وفيه حجة على من قال إن
العاجز عن القعود تسقط عنه الصلاة وهو يدل على
أن من نالته مشقة ولو بالتألم يباح له الصلاة
من قعود وفيه خلاف والحديث مع من قال إن
التألم يبيح ذلك ومن المشقة صلاة من يخاف
دوران رأسه إن صلى قائما في السفينة أو يخاف
الغرق أبيح له القعود هذا ولم يبين الحديث
هيئة القعود على أي صفة ومقتضى إطلاقه صحته
على أي هيئة شاءها المصلي وإليه ذهب جماعة من
العلماء وقال الهادي وغيره إنه يتربع واضعا
يده على ركبتيه ومثله عند الحنفية وذهب زيد بن
علي وجماعة إلى أنه مثل قعود التشهد قيل
والخلاف في الأفضل قال المصنف في فتح الباري
اختلف في الأفضل فعند الأئمة الثلاثة التربع
وقيل مفترشا وقيل متوركا وفي كل منها أحاديث
وقوله في الحديث على جنب الكلام في الاستطاعة
هنا كما مر وهو هنا مطلق وقيده في حديث علي
عليه السلام عند الدار قطني على جنبه الأيمن
مستقبل القبلة بوجهه وهو حجة الجمهور وأنه
يكون على هذه الصفة كتوجه الميت في القبر
ويؤخذ من الحديث أنه لا يجب شيء بعد تعذر
الإيماء على الجنب وعن الشافعي والمؤيد يجب
الإيماء بالعينين والحاجبين وعن زفر الإيماء
بالقلب وقيل يجب إمرار القران والذكر على
اللسان ثم على القلب إلا أن هذه الكلمة لم تأت
في الأحاديث وفي الآية {فَاذْكُرُوا اللَّهَ
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} وإن
كان عدم الذكر لا ينفي الوجوب بدليل آخر وقد
وجبت الصلاة على الإطلاق وثبت "إذا أمرتم بأمر
فأتوا منه ما استطعتم" فإذا استطاع شيئا مما
يفعل في الصلاة وجب عليه لأنه مستطيع له
61- ( وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لمريض صلى على وسادة فرمى
بها وقال "صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم
إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك" رواه
البيهقي بسند قوي ولكن صحح أبو حاتم وقفه
الحديث أخرجه البيهقي في المعرفة من طريق
سفيان الثوري وفي الحديث فرمى بها وأخذ عودا
ليصلي عليه فأخذه ورمى به وذكر الحديث وقال
البزار لا يعرف أحد رواه عن الثوري غير أبي
بكر الحنفي وقد سئل عنه أبو حاتم فقال الصواب
عن جابر موقوفا ورفعه خطأ وقد
(1/201)
روى الطبراني
من حديث طارق بن شهاب عن ابن عمر قال "عاد
رسول الله صلى الله عليه وسلم مريضا" فذكره
وفي إسناده ضعف والحديث دليل على أنه لا يتخذ
المريض ما يسجد عليه حيث تعذر سجوده على الأرض
وقد أرشده إلى أنه يفصل بين ركوعه وسجوده
ويجعل سجوده أخفض من ركوعه فإن تعذر عليه
القيام والركوع فإنه يومىء من قعود لهما جاعلا
الإيماء بالسجود أخفض من الركوع أو لم يتعزر
عليه القيام فإنه يومىء للركوع من قيام ثم
يباع ويومىء للسجود من قعود وقيل في هذه
الصورة يومىء لهما من قيام ويقعد للتشهد وقيل
يومىء لهما كليهما من القعود ويقوم للقراءة
وقيل يسقط عنه القيام ويصلي قاعدا فإن صلى
قائما جاز وإن تعذر عليه القعود أومأ لهما من
قيام
(1/202)
باب سجود السهو وغيره
من سجود التلاوة والشكر
1- ( وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه تقدم
ضبطه وترجمته وتكرر على الشارح ترجمته فأعادها
هنا "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم
الظهر فقام في الركعتين الأوليين" بالمثناتين
التحتيتين "ولم يجلس" هو تأكيد لقام من باب
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا "فقام الناس معه
حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر
وهو جالس وسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم"
أخرجه السبعة وهذا لفظ البخاري الحديث دليل
على أن ترك التشهد الأول سهوا يجبره سجود
السهو وقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما
رأيتموني أصلي" يدل على وجوب التشهد الأول
وجبرانه هنا عند تركه دل على أنه وإن كان
واجبا فإنه يجبر بسجود السهو والاستدلال على
عدم وجوبه بأنه لو كان واجبا لما جبره السجود
إذ حق الواجب أن يفعل بنفسه لا يتم إذ يمكن
أنه كما قال أحمد بن حنبل واجب ولكنه إن ترك
سهوا جبره سجود السهو وحاصله أنه لا يتم
الاستدلال على عدم وجوبه حتى يقوم الدليل على
أن كل واجب لا يجزىء عنه سجود السهو إن ترك
سهوا وقوله كبر دليل على شرعية تكبيرة الإحرام
لسجود السهو وأنها غير مختصة بالدخول في
الصلاة وأنه يكبرها وإن كان لم يخرج من صلاته
بالسلام منها وأما تكبيرة النقل فلم تذكر هنا
ولكنها ذكرت في قوله وفي رواية لمسلم أي عن
عبد الله بن بحينة "يكبر في كل سجدة وهو جالس
ويسجد ويسجد معه الناس" فيه دليل على شرعية
تكبير النقل كما سلف في الصلاة وقوله "مكان ما
نسي من الجلوس" كأنه عرف الصحابي ذلك من قرينة
الحال فهذا لفظ مدرج من كلام الراوي ليس حكاية
لفعله صلى الله عليه وسلم الذي شاهده ولا
لقوله صلى الله عليه وسلم ثم فيه دليل على أن
محل مثل هذا السجود قبل السلام ويأتي ما
يخالفه والكلام عليه وفي رواية مسلم دلالة على
وجوب متابعة الإمام وفي الحديث دلالة أيضا على
وجوب متابعته وإن ترك ما هذا حاله فإنه صلى
الله عليه وسلم أقرهم على
(1/202)
متابعته مع
تركهم للتشهد عمدا وفيه تأمل لاحتمال أنه ما
ذكر أنه ترك وتركوا إلا بعد تلبسه وتلبسهم
بواجب آخر
2- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال "صلى
النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي"
هو بفتح العين المهملة وكسر الشين المعجمة
وتشديد المثناة التحتية قال الأزهري هو ما بين
زوال الشمس وغروبها وقد عينها أبو هريرة في
رواية لمسلم أنها الظهر وفي أخرى أنها العصر
ويأتي وقد جمع بينهما بأنها تعددت القصة
"ركعتين ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع
يده عليها وفي القوم" المصلين "أبو بكر وعمر
فهابا أن يكلماه" أي بأنه سلم على ركعتين
"وخرج" من المسجد "سرعان الناس" بفتح السين
المهملة وفتح الراء هو المشهور ويروى بإسكان
الراء هم المسرعون إلى الخروج قيل وبضمها
وسكون الراء على أنه جمع سريع كقفيز وقفزان
"فقالوا أقصرت" بضم القاف وكسر الصاد "
الصلاة" وروى بفتح الصاد وكلاهما صحيح والأول
أشهر "ورجل يدعوه" أي يسميه "النبي صلى الله
عليه وسلم ذا اليدين" وفي رواية " رجل يقال له
الخرباق بن عمرو" بكسر الخاء المعجمة وسكون
الراء فباء موحدة آخره قاف لقب ذي اليدين لطول
كان في يديه وفي الصحابة رجل آخر يقال له ذو
الشمالين ذي اليدين ووهم الزهري فجعل ذا
اليدين وذا الشمالين واحدا وقد بين العلماء
وهمه "فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت
الصلاة" أي شرع الله قصر الرباعية إلى اثنتين
فقال "لم أنس ولم تقصر" أي في ظني "فقال بلى
قد نسيت فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر ثم سجد مثل
سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم وضع رأسه
فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه
وكبر" متفق عليه واللفظ العالمين هذا الحديث
قد أطال العلماء الكلام عليه وتعرضوا لمباحث
أصولية وغيرها وأكثرهم استيفاء لذلك القاضي
عياض ثم المحقق ابن دقيق العيد في شرح العمدة
وقد وفينا المقام حقه في حواشيها والمهم هنا
الحكم الفرعي المأخوذ منه وهو أن الحديث دليل
على أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت
بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها ولو سلم
التسليمتين وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة
وكذا كلام من ظن التمام و بهذا قال جمهور
العلماء من السلف والخلف وهو قول ابن عباس
وابن الزبير وأخيه عروة وعطاء والحسن وغيرهم
وقال به الشافعي وأحمد وجميع أئمة الحديث وقال
به الناصر من أئمة الآل وقالت الهادوية
والحنفية التكلم في الصلاة ناسيا أو جاهلا
يبطلها مستدلين بحديث ابن مسعود وحديث زيد بن
أرقم في النهي عن التكلم في الصلاة وقالوا هما
ناسخان لهذا الحديث وأجيب بأن حديث ابن مسعود
كان بمكة متقدما على حديث الباب بأعوام
والمتقدم لا ينسخ المتأخر وبأن حديث زيد بن
أرقم وحديث ابن مسعود أيضا عمومان وهذا الحديث
خاص بمن تكلم ظانا لتمام صلاته فيخص به
الحديثان المذكوران فتجتمع الأدلة من غير
إبطال لشيء منها ويدل الحديث أيضا على أن
الكلام عمدا لإصلاح الصلاة لا يبطلها كما في
كلام ذي اليدين وقوله فقالوا يريد الصحابة نعم
كما في رواية تأتي فإنه كلام عمد لإصلاح
الصلاة وقد روي عن مالك أن
(1/203)
الإمام إذا
تكلم بما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من
الاستفسار والسؤال عند الشك وإجابة المأموم أن
الصلاة لا تفسد وقد أجيب بأنه صلى الله عليه
وسلم تكلم معتقدا للتمام وتكلم الصحابة
معتقدين للنسخ وظنوا حينئذ التمام قلت ولا
يخفى أن الجزم باعتقادهم التمام محل نظر بل
فيهم متردد بين القصر والنسيان وهو ذو اليدين
نعم سرعان الناس اعتقدوا القصر ولا يلزم
اعتقاد الجميع ولا يخفى أنه لا عذر عن العمل
بالحديث لمن يتفق له مثل ذلك وما أحسن كلام
صاحب المنار فإنه ذكر كلام الهدى ودعواه نسخه
كما ذكرناه ثم رده بما رددناه ثم قال وأنا
أقول أرجو الله للعبد إذا لقي الله عاملا لذلك
أن يثبته في الجواب بقوله صح لي ذلك عن رسولك
ولم أجد ما يمنعه وأن ينجو بذلك ويثاب عن
العمل به وأخاف على المتكلفين وعلى المجبرين
على الخروج من الصلاة للاستئناف فإنه ليس
بأحوط كما ترى لأن الخروج بغير دليل ممنوع
وإبطال للعمل وفي الحديث دليل على أن الأفعال
الكثيرة التي ليست من جنس الصلاة إذا وقعت
سهوا أو مع ظن التمام لا تفسد بها الصلاة فإن
في رواية "أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى
منزله" وفي أخرى "يجر رداءه مغضبا" وكذلك خروج
سرعان الناس فإنها أفعال كثيرة قطعا وقد ذهب
إلى هذا الشافعي وفيه دليل على صحة البناء على
الصلاة بعد السلام وإن طال زمن الفصل بينهما
وقد روي هذا عن ربيعة ونسب إلى مالك وليس
بمشهور عنه ومن العلماء من قال يختص جواز
البناء إذا كان الفصل بزمن قريب وقيل بمقدار
ركعة وقيل بمقدار الصلاة ويدل أيضا أنه يجبر
ذلك سجود السهو وجوبا لحديث صلوا كما رأيتموني
أصلي ويدل أيضا على أن سجود السهو لا يتعدد
بتعدد أسباب السهو ويدل على أن سجود السهو بعد
السلام خلاف الحديث الأول ويأتي فيه الكلام
وأما تعيين الصلاة التي اتفقت فيها القصة فيدل
له قوله وفي رواية لمسلم أي من حديث أبي هريرة
صلاة العصر عوضا عن قوله في الرواية الأولى
إحدى صلاتي العشي ولأبي داود أي من حديثه أيضا
فقال أي النبي صلى الله عليه وسلم "أصدق ذو
اليدين" فأومئوا أي نعم وهي في الصحيحين لكن
بلفظ فقالوا قلت وهي في رواية لأبي داود بلفظ
فقال الناس نعم وقال أبو داود إنه لم يذكر
فأومئوا إلا حماد بن زيد وفي رواية له أي لأبي
داود من حديث أبي هريرة "ولم يسجد حتى يقنه
الله ذلك" ولفظ أبي داود "ولم يسجد سجدتي
السهو حتى يقنه الله ذلك" أي صير تسليمه على
ثنتين يقينا عنده إما بوحي أو تذكر حصل له
اليقين به والله أعلم ما مستند أبي هريرة في
هذا
3- (وعن عمران بن حصين رضي الله عنه "أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين
ثم تشهد ثم سلم" رواه أبو داود والترمذي وحسنه
الحاكم وصححه في سياق حديث السنن أن هذا السهو
سهوه صلى الله عليه وسلم الذي في خبر ذي
اليدين فإن فيه بعد أن ساق حديث أبي هريرة مثل
ما سلف من سياق الصحيحين إلى قوله ثم رفع وكبر
ما لفظه فقيل لمحمد أي ابن سيرين الراوي سلم
في السهو فقال لم أحفظه من أبي هريرة ولكن
نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم وفي السنن
أيضا من حديث
(1/204)
عمران بن حصين
قال سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث
ركعات من العصر ثم دخل فقام إليه رجل يقال له
الخرباق كان طويل اليدين إلى قوله فقال أصدق
فقالوا نعم فصلى تلك الركعة ثم سجد سجدتيها ثم
سلم انتهى ويحتمل أنها تعددت القصة وفي الحديث
دليل أنه يستحب عقيب الصلاة كما تدل له الفاء
وفيه تصريح بالتشهد قيل ولم يقل أحد بوجوبه
ولفظ تشهد يدل أنه أتى بالشهادتين وبه قال بعض
العلماء وقيل يكفي التشهد الأوسط واللفظ في
الأول أظهر وفيه دليل على شرعية التسليم كما
تدل له رواية عمران بن حصين التي ذكرناها لا
الرواية التي أتى بها المصنف فإنها ليست
بصريحة أن التسليم كان لسجدتي السهو فإنها
تحتمل أنه لم يكن سلم للصلاة وأنه سجد لها قبل
السلام ثم سلم تسليم الصلاة
4- (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم
في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا
فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد
سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا" في
رباعية "شفعن" أي السجدتان " له صلاته" صيرنها
شفعا لأن السجدتين قامتا مقام ركعة وكأن
المطلوب من الرباعية الشفع وإن زادت على
الأربع "وإن كان صلى تماما كانتا ترغيما
للشيطان" أي إلصاقا لأنفه بالرغام والرغام
بزنة غراب التراب وإلصاق الأنف به في قولهم
رغم أنفه كناية عن إذلاله وإهانته والمراد
إهانة الشيطان حيث لبس عليه صلاته رواه مسلم
الحديث فيه دلالة على أن الشاك في صلاته يجب
عليه البناء على اليقين عنده ويجب عليه أن
يسجد سجدتين وإلى هذا ذهب جماهير العلماء
ومالك والشافعي وأحمد وذهب الهادوية وجماعة من
التابعين إلى وجوب الإعادة عليه حتى يستيقن
وقال بعضهم يعيد ثلاث مرات فإذا شك في الرابعة
فلا إعادة عليه والحديث مع الأولين والحديث
ظاهر في أن هذا حكم الشاك مطلقا مبتدأ كان أو
مبتلي وفرق الهادوية بينهم فقالوا في الأول
يجب عليه الإعادة وفي الثاني يتحرى بالنظر في
الأمارات فإن حصل له ظن التمام أو النقص عمل
به وإن كان النظر في الأمارات لا يحصل له بحسب
العادة شيئا فإنه يبني على الأقل كما في هذا
الحديث وإن كان عادته أن يفيده النظر ولكنه لم
يفده في هذه الحالة وجب عليه أيضا الإعادة
وهذا التفصيل يرد عليه هذا الحديث الصحيح ويرد
عليه أيضا حديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو
اثنتين فليجعلها واحدة وإذا لم يدر ثنتين صلى
أو ثلاثا فليجعلها ثنتين وإذا لم يدر ثلاثة
صلى أو أربعا فليجعلها ثلاثا ثم يسجد إذا فرغ
من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين"
5- ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال "صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي إحدى
الرباعيات خمسا وفي رواية أنه قال إبراهيم
النخعي "زاد أو نقص" "فلما سلم قيل له
(1/205)
يا رسول الله
أحدث في الصلاة شيء قال وما ذاك قالوا صليت
كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد
سجدتين ثم سلم ثم أقبل على الناس بوجهه فقال
إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن
إنما أنا بشر مثلكم" في البشرية وبين وجه
المثلية بقوله "أنسى كما تنسون فإذا نسيت
فذكروني وإذا شك أحد في صلاته" هل زاد أو نقص
"فليتحر الصواب" بأن يعمل بظنه من غير تفرقة
بين الشك في ركعة أو ركن وقد فسره حديث عبد
الرحمن بن عوف الذي قدمناه "فليتم عليه ثم
ليسجد سجدتين" متفق عليه ظاهر هذا الحديث أنهم
تابعوه صلى الله عليه وسلم على الزيادة ففيه
دليل على أن متابعة المؤتم للإمام فيما ظنه
واجبا لا يفسد صلاته فإنه صلى الله عليه وسلم
لم يأمرهم بالإعادة وهذا في حق أصحابه في مثل
هذه الصورة لتجويزهم التغيير في عصر النبوة
فأما لو اتفق الآن قيام الإمام إلى الخامسة
سبح له من خلفه فإن لم يقعد انتظروه قعودا حتى
يتشهدوا بتشهده ويسلموا بتسليمه فإنها لم تفسد
عليه حتى يقال يعزلون بل فعل ما هو واجب في
حقه وفي هذا دليل على أن محل سجود السهو بعد
السلام إلا أنه قد يقال إنه صلى الله عليه
وسلم ما عرف سهوه في الصلاة إلا بعد أن سلم
منها فلا يكون دليلا واعلم أنه قد اختلفت
الأحاديث في محل سجود السهو واختلفت بسبب ذلك
أقوال الأئمة قال بعض أئمة الحديث أحاديث باب
سجود السهو قد تعددت منها حديث أبي هريرة فيمن
شك فلم يدر كم صلى وفيه الأمر أن يسجد سجدتين
ولم يذكر موضعهما وهو حديث أخرجه الجماعة ولم
يذكروا فيه محل السجدتين هل هو قبل السلام أو
بعده نعم عند أبي داود وابن ماجه فيه زيادة
قبل أن يسلم ومنها حديث أبي سعيد من شك وفيه
أنه يسجد سجدتين قبل التسليم ومنها حديث أبي
هريرة وفيه القيام إلى الخشبة وأنه سجد بعد
السلام ومنها حديث ابن بحينة وفيه السجود قبل
السلام ولما وردت هكذا اختلفت آراء العلماء في
الأخذ بها فقال داود تستعمل في مواضعها على ما
جاءت به ولا يقاس عليها ومثله قال أحمد في هذه
الصلاة خاصة عدا وخالف فيما سواها فقال يسجد
قبل السلام لكل سهو وقال آخرون هو مخير في كل
سهو إن شاء سجد بعد السلام وإن شاء قبل السلام
في الزيادة والنقص وقال مالك إن كان السجود
لزيادة سجد بعد السلام وإن كان لنقصان سجد
قبله وقالت الهادوية والحنفية الأصل في سجود
السهو بعد السلام وتأولوا الأحاديث الواردة في
السجود قبله وستأتي أدلتهم وقال الشافعي الأصل
السجود قبل السلام ورد ما خالفه من الأحاديث
بادعائه نسخ السجود بعد السلام وروى عن الزهري
قال سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتي
السهو قبل السلام وبعده وآخر الأمرين قبل
السلام وأيده برواية معاوية "أنه صلى الله
عليه وسلم سجدهما قبل السلام" وصحبته متأخرة
وذهب إلى مثل قولي الشافعي أبو هريرة ومكحول
والزهري وغيرهم قال في الشرح وطريق الإنصاف أن
الأحاديث الواردة في ذلك قولا وفعلا فيها نوع
تعارض وتقدم بعضها وتأخر البعض غير ثابت
برواية صحيحة موصولة حتى يستقيم القول بالنسخ
فالأولى الحمل على التوسع في جواز الأمرين ومن
أدلة الهادوية
(1/206)
والحنفية رواية
البخاري التي أفادها قوله وفي رواية للبخاري
أي من حديث ابن مسعود "فليتم ثم يسلم ثم يسجد"
ما يدل على أنه بعد السلام وكذلك رواية مسلم
التي أفادها قوله ولمسلم أي من حديث ابن مسعود
"أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو
بعد السلام" من الصلاة والكلام أي الذي خوطب
به وأجاب عنه بما أفاده اللفظ الأول ويدل له
أيضا
6- ( ولأحمد وأبي داود والنسائي من حديث عبد
الله بن جعفر مرفوعا "من شك في صلاته فليسجد
سجدتين بعد ما يسلم" وصححه ابن خزيمة فهذه
أدلة من يقول إنه يسجد بعد السلام مطلقا ولكنه
قد عارضها ما عرفت فالقول بالتخيير أقرب الطرق
إلى الجمع بين الأحاديث كما عرفت قال الحافظ
أبو بكر البيهقي روينا عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه سجد للسهو قبل السلام وأنه أمر بذلك
وروينا أنه سجد بعد السلام وأنه أمر به
وكلاهما صحيح ولهما شواهد يطول بذكرها الكلام
ثم قال الأشبه بالصواب جواز الأمرين جميعا قال
وهذا مذهب كثير من أصحابنا
7- (وعن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم فقام في
الركعتين فاستتم قائما فليمض ولا يعود للتشهد
الأول "وليسجد سجدتين" لم يذكر محلهما " فإن
لم يستتم قائما فليجلس" ليأتي بالتشهد الأول
"ولا سهو عليه" رواه أبو داود وابن ماجه
والدارقطني واللفظ له بسند ضعيف وذلك أن مداره
في جميع طرقه على جابر الجعفي وهو ضعيف وقد
قال أبو داود ليس في كتابي عن جابر غير هذا
الحديث وفي الحديث دلالة على أنه لا يسجد
للسهو إلا لفوات التشهد الأول لا لفعل القيام
لقوله ولا سهو عليه وقد ذهب إلى هذا جماعة
وذهبت الهادوية وابن حنبل إلى أنه يسجد للسهو
لما أخرجه البيهقي من حديث أنس أنه تحرك
للقيام من الركعتين الأخريين من العصر على جهة
السهو فسبحوا فقعد ثم سجد للسهو وأخرجه
الدارقطني والكل من فعل أنس موقوف عليه إلا أن
في بعض طرقه أنه قال هذه السنة وقد رجح حديث
المغيرة عليه لكونه مرفوعا ولأنه يؤيده حديث
ابن عمر مرفوعا "لا سهو إلا في قيام عن جلوس
أو جلوس عن قيام" أخرجه الدارقطني والحاكم
والبيهقي وفيه ضعف ولكن يؤيد ذلك أنها قد وردت
أحاديث كثيرة في الفعل القليل وأفعال صدرت منه
صلى الله عليه وسلم ومن غيره مع علمه بذلك ولم
يأمر فيها بسجود السهو ولا سجد لما صدر عنه
منها قلت وأخرج النسائي من حديث ابن بحينة أنه
صلى الله عليه وسلم صلى فقام في الركعتين
فسبحوا به فمضى فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين
ثم سلم وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث
زياد بن علاقة قال صلى بنا المغيرة بن شعبة
فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح له من خلفه
فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ من صلاته سلم
ثم سجد سجدتين وسلم ثم قال هكذا صنع بنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا أن هذه فيمن مضى
بعد أن يسبحوا له فيحتمل أنه سجد لترك التشهد
وهو الظاهر
8- (وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "ليس على من خلف الإمام سهو
فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه" رواه
الترمذي والبيهقي
(1/207)
بسند ضعيف
وأخرجه الدارقطني في السنن بلفظ آخر وفيه
زيادة وإن سها من خلف الإمام فليس عليه سهو
والإمام كافيه والكل من الروايات فيها خارجة
بن مصعب ضعيف وفي الباب عن ابن عباس إلا أن
فيه متروكا والحديث دليل على أنه لا يجب على
المؤتم سجود السهو إذا سها في صلاته وإنما يجب
عليه إذا سها الإمام فقط وإلى هذا ذهب زيد بن
علي والناصر والحنفية والشافعية وذهب الهادي
إلى أنه يسجد للسهو لعموم أدلة سجود السهو
للإمام والمنفرد والمؤتم والجواب أنه لو ثبت
هذا الحديث لكان مخصصا لعمومات أدلة سجود
السهو ومع عدم ثبوته فالقول قول الهادي
9- (وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "لكل سهو سجدتان بعدما يسلم" رواه
أبو داود وابن ماجه بسند ضعيف قالوا لأن في
إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال وخلاف قال
البخاري إذا حدث عن أهل بلده يعني الشاميين
فصحيح وهذا الحديث من روايته عن الشاميين
فتضعيف الحديث به فيه نظر والحديث دليل
لمسألتين الأولى أنه إذا تعدد المقتضى لسجود
السهو تعدد لكل سهو سجدتان وقد حكي عن ابن أبي
ليلى وذهب الجمهور إلى أنه لا يتعدد السجود
وإن تعدد موجبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث ذي اليدين سلم وتكلم ومشى ناسيا ولم
يسجد إلا سجدتين ولئن قيل إن القول أولى
بالعمل به من الفعل فالجواب أنه لا دلالة فيه
على تعدد السجود لتعدد مقتضيه بل هو للعموم
لكل ساه فيفيد الحديث أن كل من سها في صلاته
بأي سهو كان يشرع له سجدتان ولا يختصان
بالمواضع التي سها فيها النبي صلى الله عليه
وسلم ولا بالأنواع التي سها بها والحمل على
هذا المعنى أولى من حمله على المعنى الأول وإن
كان هو الظاهر فيه جمعا بينه وبين حديث ذي
اليدين على أن لك أن تقول إن حديث ذي اليدين
لم يقع فيه السهو المذكور حال الصلاة فإنه محل
النزاع فلا يعارض حديث الكتاب والمسألة
الثانية يحتج به من يرى سجود السهو بعد السلام
وتقدم فيه تحقيق الكلام
10- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سجدنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في – {إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} - رواه مسلم هذا من
أحاديث سجود التلاوة وهو داخل في ترجمة المصنف
الماضية كما عرفت حيث قال باب سجود السهو
وغيره والحديث دليل على مشروعية سجود التلاوة
وقد أجمع على ذلك العلماء وإنما اختلفوا في
الوجوب وفي مواضع السجود فالجمهور أنه سنة
وقال أبو حنيفة واجب غير فرض ثم هو سنة في حق
التالي والمستمع إن سجد التالي وقيل وإن لم
يسجد فأما مواضع السجود فقال الشافعي يسجد
فيما عدا المفصل فيكون أحد عشر موضعا وقالت
الهادوية والحنفية في أربعة عشر محلا إلا أن
الحنفية لا يعدون في الحج إلا سجدة واعتبروا
بسجدة سور ص والهادوية عكسوا ذلك كما ذكر ذلك
المهدي في البحر وقال أحمد وجماعة يسجد في
خمسة عشر موضعا عدا سجدتي الحج وسجدة ص
واختلفوا أيضا هل يشترط فيها ما يشترط في
الصلاة من الطهارة وغيرها فاشترط ذلك جماعة
وقال قوم لا يشترط وقال البخاري كان ابن عمر
يسجد وضوء وفي مسند ابن أبي شيبة كان ابن عمر
ينزل عن راحلته
(1/208)
فيهريق الماء
ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ ووافقه
الشعبي على ذلك وروي عن ابن عمر أنه لا يسجد
الرجل إلا وهو طاهر وجمع بين قوله وفعله على
الطهارة من الحدث الأكبر قلت والأصل إنه لا
يشترط الطهارة إلا بدليل وأدلة وجوب الطهارة
وردت للصلاة والسجدة لا تسمى صلاة فالدليل على
من شرط ذلك وكذلك أوقات الكراهة ورد النهي عن
الصلاة فيها فلا تشمل السجدة الفردة وهذا
الحديث دل على السجود للتلاوة في المفصل ويأتي
الخلاف في ذلك ثم رأيت لابن حزم كلاما في شرح
المحلي لفظه السجود في قراءة القرآن ليس ركعة
أو ركعتين فليس صلاة وإذا كان ليس صلاة فهو
جائز بلا وضوء وللجنب والحائض القبلة كسائر
الذكر ولا فرق إذ لا يلزم الوضوء إلا للصلاة
ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا
إجماع ولا قياس فإن قيل السجود من الصلاة وبعض
الصلاة صلاة قلنا والتكبير بعض الصلاة والجلوس
والقيام والسلام بعض الصلاة فهل يلتزمون أن لا
يفعل أحد شيئا من هذه الأفعال والأقوال إلا
وهو على وضوء هذا لا يقولونه ولا يقوله أحد
11- (وعن ابن عباس رضي الله عنه قال ص ليست من
عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يسجد فيها" رواه البخاري أي ليست
مما ورد في السجود فيها أمر ولا تحريض ولا
تخصيص ولا حث وإنما ورد بصيغة الإخبار عن داود
عليه السلام بأنه فعلها وسجد نبينا صلى الله
عليه وسلم فيها اقتداء به لقوله تعالى:
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وفيه دلالة على أن
المسنونات قد يكون بعضها آكد من بعض وقد روي
أنه قال صلى الله عليه وسلم سجدها داود توبة
وسجدناها شكرا وروى ابن المنذر وغيره بإسناد
حسن عن علي بن أبي طالب عليه السلام إن
العزائم حم والنجم واقرأ وألم تنزيل وكذا ثبت
عن ابن عباس في الثلاثة الأخر وقيل في الأعراف
وسبحان وحم وألم أخرجه ابن أبي شيبة
12- (وعنه أي ابن عباس " أن النبي صلى الله
عليه وسلم سجد بالنجم" رواه البخاري هو دليل
على السجود في المفصل كما أن الحديث الأول
دليل على ذلك وقد خالف فيه مالك وقال لا سجود
لتلاوة في المفصل وقد قدمنا لك الخلاف في أول
الفصل محتجا بما روي عن ابن عباس أنه صلى الله
عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول
إلى المدينة أخرجه أبو داود وهو ضعيف الإسناد
وفيه أبو قدامة واسمه الحارث بن عبد الله
إيادي بصري لا يحتج بحديثه كما قال الحافظ
المنذري في مختصر السنن ومحتجا أيضا بقوله
13- ( وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال "قرأت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم
يسجد فيها" متفق عليه وزيد بن ثابت من أهل
المدينة وقراءته بها كانت في المدينة قال مالك
فأيد حديث ابن عباس وأجيب عنه بأن ترك السجود
تارة وفعله تارة دليل السنية أو لمانع عارض
ذلك ومع ثبوت حديث زيد فهو ناف وحديث غيره وهو
ابن عباس مثبت والمثبت
14- (وعن خالد بن معدان رضي الله عنه بفتح
الميم وسكون العين المهملة وتخفيف الدال وخالد
هو أبو عبد الله بن معدان الشامي الكلاعي بفتح
الكاف تابعي من أهل حمص
(1/209)
قال لقيت سبعين
رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان
من ثقات الشاميين مات سنة أربع ومائة وقيل سنة
ثلاث قال فضلت سورة الحج بسجدتين رواه أبو
داود في المراسيل كذا نسبه المصنف إلى مراسيل
أبي داود وهو موجود في سننه مرفوعا من حديث
عقبة بن عامر بلفظ " قلت يا رسول الله في سورة
الحج سجدتان قال "نعم ومن لم يسجدهما فلا
يقرأهما" فالعجب كيف نسبه المصنف إلى المراسيل
مع وجوده في سننه مرفوعا ولكنه قد وصل في
15- (رواه أحمد والترمذي موصولا من حديث عقبة
بن عامر وزاد أي الترمذي في روايته "فمن لم
يسجدهما فلا يقرأها" بضمير مفرد أي السورة أو
آية السجدة ويراد الجنس وسنده ضعيف لأن فيه
ابن لهيعة قيل إنه تفرد به وأيده الحاكم بأن
الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود
وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار
وساقها موقوفة عليهم وأكده البيهقي بما رواه
في المعرفة من طريق خالد بن معدان وفي الحديث
رد على أبي حنيفة وغيره ممن قال إنه ليس بواجب
كما قال إنه ليس في سورة الحج إلا سجدة واحدة
في الأخيرة منها وفي قوله "فمن لم يسجدها فلا
يقرأها" تأكيد لشرعية السجود فيها ومن قال
بإيجابه فهو من أدلته ومن قال ليس بواجب قال
لما ترك السنة وهو سجود التلاوة بفعل المندوب
وهو القرآن كان الأليق الاعتناء بالمسنون وأن
لا يتركه فإذا تركه فالأحسن له أن لا يقرأ
السورة
16- (وعن عمر رضي الله عنه قال يا أيها الناس
إنا نمر بالسجود أي بآيته فمن سجد فقد أصاب أي
السنة ومن لم يسجد فلا إثم عليه رواه البخاري
وفيه أي البخاري عن عمر إن الله لم يفرض
السجود أي لم يجعله فرضا إلا أن نشاء وهو في
الموطأ فيه دلالة على أن عمر كان لا يرى وجوب
سجود التلاوة واستدل بقوله إلا أن نشاء أن من
شرع في السجود وجب عليه إتمامه لأنه مخرج من
بعض حالات عدم فرضية السجود وأجيب بأنه
استثناء منقطع والمراد ولكن ذلك موكول إلى
17- (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال "كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القران
فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه" رواه
أبو داود بسند فيه لين لأنه من رواية عبد الله
المكبر العمري وهو ضعيف وأخرجه الحاكم من
رواية عبيد الله المصغر وهو ثقة وفي الحديث
دلالة على التكبير وأنه مشروع وكان الثوري
يعجبه هذا الحديث قال أبو داود يعجبه لأنه كبر
وهل هو تكبير الافتتاح أو النقل الأول أقرب
ولكنه يجتزىء بها عن تكبيرة النقل لعدم ذكر
تكبيرة أخرى وقيل يكبر له وعدم الذكر ليس
دليلا قال بعضهم ويتشهد ويسلم قياسا للتحليل
على التحريم وأجيب بأنه لا يجزىء هذا القياس
فلا دليل على ذلك وفي الحديث دليل على مشروعية
سجود التلاوة للسامع لقوله وسجدنا وظاهره سواء
كانا مصليين معا أو أحدهما في الصلاة وقالت
الهادوية إذا كانت الصلاة فرضا أخرها حتى يسلم
قالوا لأنها زيادة عن الصلاة فتفسدها ولما
رواه نافع عن ابن عمر أنه قال "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة في غير
الصلاة فيسجد ونسجد" معه أخرجه أبو داود
(1/210)
قالوا ويشرع له
أن يسجد إذا كانت الصلاة نافلة لأن النافلة
مخفف فيها وأجيب عن الحديث بأنه استدلال
بالمفهوم وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم
أنه قرأ سورة الانشقاق في الصلاة وسجد وسجد من
خلفه وكذلك سورة تنزيل السجدة قرأ بها وسجد
فيها وقد أخرج أبو داود والحاكم والطحاوي من
حديث ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم سجد في
الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ آية سجدة فسجدوها"
واعلم أنه قد ورد الذكر في سجود التلاوة بأن
يقول: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه
وبصره بحوله وقوته" أخرجه أحمد وأصحاب السنن
والحاكم والبيهقي وصححه ابن السكن وزاد في
آخره ثلاثا وزاد الحاكم في آخره - فتبارك الله
أحسن الخالقين - وفي حديث ابن عباس "أنه صلى
الله عليه وسلم كان يقول في سجود التلاوة
"اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك
ذخرا وضع عني بها وزرا وتقبلها مني كما
تقبلتها من عبدك داود"
18- ( وعن أبي بكرة رضي الله عنه "أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه خبر يسره خر
ساجدا لله" رواه الخمسة إلا النسائي هذا مما
شملته الترجمة بقوله وغيره وهو دليل على شرعية
سجود الشكر وذهب إلى شرعيته الهادوية والشافعي
وأحمد خلافا لمالك ورواية أبي حنيفة بأنه لا
كراهة فيه ولا ندب والحديث دليل للأولين وقد
سجد صلى الله عليه وسلم في آية ص وقال هي لنا
شكر واعلم أنه قد اختلف هل يشترط لها الطهارة
أم لا فقيل يشترط قياسا على الصلاة وقيل لا
يشترط لأنها ليست بصلاة وهو الأقرب كما قدمناه
وقال المهدي إنه يكبر لسجود الشكر وقال أبو
طالب ويستقبل القبلة وقال الإمام يحيى ولا
يسجد للشكر في الصلاة قولا واحدا إذ ليس من
توابعها قيل ومقتضى شرعيته حدوث نعمة أو
اندفاع مكروه فيفعل ذلك في الصلاة ويكون كسجود
التلاوة
19- (وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال
"سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال
السجود ثم رفع رأسه فقال إن جبريل أتاني
فبشرني" وجاء تفسير البشرى بأنه تعالى قال "من
صلى عليه صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله
عليه بها عشرا" رواه أحمد في المسند من طرق
"فسجدت لله شكرا" رواه أحمد وصححه الحاكم
أخرجه البزار وابن أبي عاصم في فضل الصلاة
عليه صلى الله عليه وسلم قال البيهقي وفي
الباب عن جابر وابن عمر وأنس وجرير وأبي جحيفة
20- (وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى اليمن
فذكر الحديث قال فكتب علي بإسلامهم "فلما قرأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا
شكرا لله تعالى على ذلك " رواه البيهقي وأصله
في البخاري وفي معناه سجد كعب بن مالك لما
أنزل الله توبته فإنه يدل على أن شرعية ذلك
كانت متقررة عندهم
تم ا لجزء الأول من " سبل السلام شرح بلوغ
المرام "
ويليه الجزء الثاني وأوله باب صلاة التطوع
(1/211)
|