سبل
السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي المجلد الثاني
(تابع) كتاب
الصلاة
باب صلاة التطوع
...
باب صلاة التطوع
أي صلاة العبد التطوع فهو من إضافة المصدر إلى
مفعوله وحذف فاعله. في القاموس صلاة التطوع:
النافلة.
1 - عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه" من
أهل الصفة كان خادماً لرسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم صحبه قديماً ولازمه حضراً
وسفراً، مات سنة ثلاث وستين من الهجرة، وكنيته
أبو فراس بكسر الفاء فراء آخره سين مهملة،
"قال: قال لي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: سل، فقلت: اسألك مرافقتك في الجنة،
فقال أو غير ذلك" ، قلت: هو ذاك، قال: "فأعني
على نفسك" أي على نيل مراد نفسك، "بكثرة
السجود". رواه مسلم. حمل المصنف السجود على
الصلاة نفلاً فجعل الحديث دليلاً على التطوع،
وكأنه صرفه عن الحقيقة كون السجود بغير صلاة
غير مرغب فيه على انفراده والسجود وإن كان
يصدق على الفرض، لكن الإتيان بالفرائض لا بد
منه لكل مسلم، وإنما أرشده صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم إلى شيء يختص به ينال به ما
طلبه.
وفيه دلالة على كمال إيمان المذكور وسمو همته
إلى أشرف المطالب وأغلى المراتب وعزف نفسه عن
الدنيا وشهواتها. ودلالة على أن الصلاة أفضل
الأعمال في حق من كان مثله فإنه لم يرشده
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى نيل ما طلبه
إلا بكثرة الصلاة مع أن مطلوبة أشرف المطالب.
2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حفظت من
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عشر ركعات"
هذا إجمال فصله بقوله: "ركعتين قبل الظهر
وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته"
تقييدها يدل على أن ما عداها كان يفعله في
المسجد، "وكذلك" قوله: "ركعتين بعد العشاء في
بيته وركعتين قبل الصبح" لم يقيدهما مع أنه
كان يصليهما صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في
بيته وكأنه ترك التقييد لشهرة ذلك من فعله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. متفق عليه. وفي
رواية لهما "وركعتين بعد الجمعة في بيته"
فيكون قوله عشر ركعات نظراً إلى التكرار كل
يوم، ولمسلم: أي من حديث ابن عمر "كان إذا طلع
الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين" هما
المعدوتان في العشر، وإنما أفاد لفظ مسلم
خفتهما، وإنه لا يصلي بعد طلوعه
(2/3)
سواهما
وتخفيفهما مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقد
جاء في حديث عائشة . "حتى أقول أقرأ بأم
الكتاب" يأتي قريباً.
والحديث دليل على أن هذه النوافل للصلاة، وقد
قيل في حكمة شرعيتها إن ذلك ليكون ما بعد
الفريضة جبراً لما فرط فيها من أدابها وما
قبلها لذلك وليدخل في الفريضة ، وقد انشرح
صدره للإتيان بها وأقبل قلبه علي فعلها.
قلت: قد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه،
والحاكم من حديث تميم الداري قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أول ما
يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان
أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها، قال
الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع
فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك ثم تؤخذ
الأعمال على حسب ذلك". انتهى وهو دليل لما قيل
من حكمة شرعيتها، وقوله في حديث مسلم: "إنه لا
يصلي بعد طلوع الفجر إلا ركعتيه". قد استدل به
من يرى كراهة النفل بعد طلوع الفجر وقد قدمنا
ذلك.
3 - وعن عائشة رضي الله عنه أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان لا يدع أربعاً قبل
الظهر وركعتين قبل الغداة. رواه البخاري" لا
ينافي حديث ابن عمر في قوله ركعتين قبل الظهر
لأن هذه زيادة علمتها عائشة ولم يعلمها ابن
عمر، ثم يحتمل أن الركعتين اللتين ذكرهما من
الأربع وأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان
يصليهما مثنى، وأن ابن عمر شاهد اثنتين فقط
ويحتمل أنهما من غيرها، وأنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصليهما أربعاً متصلة.
ويؤيد هذا حديث أبي أيوب عند أبي داود،
والترمذي في الشمائل، وابن ماجه، وابن خزيمة
بلفظ: "أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح
لهن أبواب السماء". وحديث أنس: "أربع قبل
الظهر كعدلهن بعد العشاء وأربع بعد العشاء
كعدلهن من ليلة القدر". أخرجه الطبراني في
الأوسط، وعلى هذا فيكون قبل الظهر ست ركعات،
ويحتمل أنه كان يصلي الأربع تارة ويقتصر عليها
وعنها أخبرت عائشة، وتارة يصلي ركعتين وعنهما
أخبر ابن عمر.
4 - وعنها" أي عن عائشة "قالت: لم النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم على شيء من النوافل أشد
تعاهداً منه على ركعتي الفجر . متفق عليه"
تعاهداً، أي محافظة، وقد ثبت أنه كان لا
يتركهما حضراً ولا سفراً، وقد حكى وجوبهما عن
الحسن البصري "ومسلم" أي عن عائشة مرفوعاً،
"ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" ، أي
أجرهما خير من الدنيا، وكأنه أريد بالدنيا
الأرض وما فيها أثاثها ومتاعها. وفيه دليل على
الترغيب في فعلهما وأنها ليستا بواجبتين إذ لم
يذكر العقاب في تركهما بل الثواب في فعلهما.
5 - وعن أم حبيبة أم المؤمنين" تقدم ذكر اسمها
وترجمتها، "قالت: سمعت رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: " من صلى اثنتي عشرة
ركعة في يومه وليلته" كأن المراد في كل يوم
وليلة لا في يوم من الأيام وليلة من الليالي،
"بني له بهن بيت في الجنة" ، ويأتي تفصيلها في
رواية الترمذي، "رواه مسلم وفي رواية" أي مسلم
عن أم حبيبة "تطوعاً" تمييز للاثنتي عشرة
زيادة في البيان وإلا فإنه معلوم، "وللترمذي"
أي عن
(2/4)
أم حبيبة
"نحوه" أي نحو حديث مسلم، "وزاد" تفصيل ما
أجملته رواية مسلم "أربعاً قبل الظهر" هي التي
ذكرتها عائشة في حديثها السابق، "وركعتين
بعدها" هي التي في حديث ابن عمر، "وركعتين بعد
المغرب" هي التي قيدها حديث ابن عمر بفي بيته،
"وركعتين بعد العشاء" هي التي قيدها أيضاً بفي
بيته، "وركعتين قبل الصلاة الفجر" هما اللتان
اتفق عليهما ابن عمر وعائشة في حديثيهما
السابقين، "وللخمسة عنها" أي عن أم حبيبة، "من
حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها" يحتمل
أنها غير الركعتين المذكورتين سابقاً، ويحتمل
أن المراد أربع فيها الركعتان اللتان مر
ذكرهما، "حرمه الله على النار" أي منعه عن
دخولها كما يمنع الشيء المحرم ممن حرم عليه.
6 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "رحم الله
أمراً صلى أربعاً قبل العصر"" هذه الأربع لم
تذكر فيما سلف من النوافل، فإذا ضمت إلى حديث
أم حبيبة الذي عند الترمذي كانت النوافل قبل
الفرائض وبعدها ست عشرة ركعة، "رواه أحمد وأبو
داود والترمذي وحسنه وابن خزيمة وصححه". وأما
صلاة ركعتين قبل العصر فقط فيشملها حديث: "بين
كل أذانين صلاة" .
7 - وعن عبد الله بن مغفل المزني" بضم الميم
وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء مفتوحة هو
أبو سعيد في الأشهر عبد الله بن مغفل بن غنم
كان من أصحاب الشجرة سكن المدينة المنورة ثم
تحول إلى البصرة وابتني بها داراً، وكان أحد
العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة يفقهون
الناس، ومات عبد الله بها سنة ستين وقيل قبلها
بسنة، "قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم
قال في الثالثة "لمن شاء كراهية" أي لكراهية
"أن يتخذها الناس"" أي طريقة مألوفة لا
يتخلفون عنها فقد يؤدي إلى فوات أول الوقت،
"رواه البخاري" وهو دليل على أنها تندب الصلاة
قبل صلاة المغرب، إذ هو المراد من قوله: "قبل
المغرب" لا أن المراد قبل الوقت لما علم من
أنه منهي عن الصلاة فيه، "وفي رواية لابن
حبان" أي من حديث عبد الله المذكور "أن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى قبل المغرب
ركعتين" فثبت شرعيتهما بالقول والفعل.
8 - ولمسلم عن أنس قال: كنا نصل ركعتين بعد
غروب الشمس، وكان رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا"
فتكون ثابتة بالتقرير أيضاً، فثبتت هاتان
الركعتان بأقسام السنة الثلاثة، ولعل أنساً لم
يبلغه حديث عبد الله الذي فيه الأمر بهما،
وبهذه تكون النوافل عشرين ركعة تضاف إلى
الفرائض وهي سبع عشرة ركعة فيتم لمن حافظ على
هذه النوافل في اليوم والليلة سبع وثلاثون
ركعة وثلاث ركعات الوتر تكون أربعين ركعة في
اليوم والليلة، وقال ابن القيم: ثبت أنه كان
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يحافظ في اليوم
والليلة على أربعين ركعة سبع عشرة الفرائض
واثنتي عشرة التي روت أم حبيبة وإحدى عشرة
صلاة الليل فكانت أربعين ركعة انتهى. ولا يخفى
أنه بلغ عدد ما ذكر هنا من النوافل غير
(2/5)
الوتر اثنتين
وعشرين إن جعلنا الأربع قبل الظهر وبعده داخلة
تحتها الاثنتان اللتان في حديث ابن عمر ويزاد
ما في حديث أم حبيبة التي بعد العشاء فالجميع
أربع وعشرون ركعة من دون الوتر والفرائض.
9 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخفف الركعتين
اللتين قبل الصبح" أي نافلة الفجر "حتى إني
أقول أقرأ بأم الكتاب" يعني أم لا لتخفيفه
قيامها متفق عليه:" ، وإلى تخفيفهما ذهب
الجمهور ويأتي تعيين قدر ما يقرأ فيهما وذهبت
الحنفية إلى تطويلهما ونقل عن النخعي، وأورد
فيه البيهقي حديثاً مرسلاً عن سعيد بن جبير
وفيه لم يسم، وما ثبت في الصحيح لا يعارضه مثل
ذلك.
10 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ في ركعتي
الفجر {قل يا أيها الكافرون} " أي في الأولى
بعد الفاتحة، و {قل هو الله أحد} أي في
الثانية بعد الفاتحة، "رواه مسلم" ، وفي رواية
لمسلم أي عن أبي هريرة: "قرأ الآيتين أي في
ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل
إلينا} ـ إلى آخر الآية في البقرة ـ عوضاً عن:
{قل يا أيها الكافرون} ، و {قل يا أهل الكتاب
تعالوا} ـ الآية في آل عمران ـ عوضاً عن {قل
هو الله أحد} ، وفيه دليل على جواز الاقتصار
على آية من وسط السورة.
11 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صلى ركعتي
الفجر اضطجع على شقه الأيمن. رواه البخاري"
العلماء في هذه الضجعة بين مفرط ومفرط ومتوسط
فأفرط جماعة من أهل الظاهر منهم ابن حزم ومن
تابعه فقالوا بوجوبها، وأبطلوا صلاة الفجر
بتركها، وذلك لفعله المذكور في هذا الحديث،
ولحديث الأمر بها في حديث أبي هريرة عن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم " إذا صلى أحدكم
الركعتين قبل الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن".
قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وقال ابن
تيمية: ليس بصحيح لأنه تفرد به عبد الواحد ابن
زياد وفي حفظ مقال.
قال المصنف: والحق أنه تقوم به الحُجَّة إلا
أنه صرف الأمر عن الوجوب ما ورد من عدم
مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على
فعلها.
وفرط جماعة فقالوا بكراهتها واحتجوا بأن ابن
عمر كان لا يفعل ذلك ويقول: "كفى بالتسليم"
أخرجه عبد الرزاق وبأنه كان يحصب من يفعلها،
وقال ابن مسعود: "ما بال الرجل إذا صلى
الركعتين تمعك كما يتمعك الحمار"، وتوسط فيها
طائفة منهم مالك وغيره فلم يروا بها بأساً لم
فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استناناً.
ومنهم من قال باستحبابها على الإطلاق سواء
فعلها استراحة أم لا.
قيل: وقد شرعت لمن يتجهد من الليل لما أخرجه
عبد الرزاق عن عائشة كانت تقول: "إن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يضطجع لسنة
لكنه كان يدأب ليلة فيضطجع ليستريح منه". وفيه
راوٍ لم يسم، وقال النووي: المختار أنها سنة
لظاهر حديث أبي هريرة. قلت: وهو الأقرب وحديث
عائشة لو صح فغايته أنه إخبار عن فهمها، وعدم
استمراره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عليها
دليل سنيتها ثم إنه يسن على الشق الأيمن، قال
ابن حزم: فإن تعذر على الأيمن فإنه يوميء ولا
يضطجع على الأيسر.
(2/6)
12 - وعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا صلى أحدكم
الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه
الأيمن . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه"
تقدم الكلام، وأنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يفعلها، وهذه رواية في الأمر بها
وتقدم أنه صرفه عن الإيجاب ما عرفت وعرفت كلام
الناس فيه.
13 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلاة
الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى
ركعة واحدة توتر له ما قد صلى متفق عليه.
الحديث دليل على مشروعية نافلة الليل مثنى
مثنى، فيسلم على كل ركعتين. وإليه ذهب جماهير
العلماء، وقال مالك: لا تجوز الزيادة على
اثنتين لأن مفهوم الحديث الحصر، لأنه في قوة
ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى لأن تعريف
المبتدأ قد يفيد ذلك على الأغلب، وأجاب
الجمهور بأن الحديث وقع جواباً لمن سأل عن
صلاة الليل فلا دلالة فيه على الحصر، وبأنه لو
سلم فقد عارضه فعله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم وهو ثبوت إيتاره بخمس، كما في حديث
عائشة عند الشيخين والفعل قرينة على عدم إرادة
الحصر.
وقوله: "فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بركعة"
دليل على أنه لا يوتر بركعة واحدة إلا لخشية
طلوع الفجر وإلا أوتر بخمس أو سبع أو نحوها لا
بثلاث للنهي عن الثلاث، فإنه أخرج الدارقطني،
والحاكم، وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعاً
"أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو إحدى عشرة" ،
زاد الحاكم: "ولا توتروا بثلاث لا تشبهوا
بصلاة المغرب" . قال المصنف: ورجاله كلهم ثقات
ولا يضره وقف من وقفه، إلا أنه قد عارضه حديث
أبي أيوب: "من أحب أن يوتر بثلاث فليفعل" ،
أخرجه أبو داود والنسائي، وابن ماجه وغيرهم.
وقد جمع بينهما بأن النهي عن الثلاثة إذا كان
يقعد للتشهد الأوسط لأنه يشبه المغرب، وأما
إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب،
وهو جمع حسن قد أيده حديث عائشة عند أحمد،
والنسائي، والبيهقي، والحاكم: "كان صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يوتر بثلاث لا يجلس إلا في
آخرتهن". ولفظ أحمد: "كان يوتر بثلاث لا يفصل
بينهن". ولفظ الحاكم: "لا يقعد".
هذا وأما مفهوم أنه لا يوتر بواحدة إلا لخشية
طلوع الفجر، فإنه يعارضه حديث أبي أيوب هذا
فإن فيه: "ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل".
وهو أقوى من مفهوم حديث الكتاب، وفي حديث أبي
أيوب دليل على صحة الإحرام بركعة واحدة،
وسيأتي قريباً.
"وللخمسة" أي من حديث أبي هريرة، "وصححه ابن
حبان بلفظ: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" ،
وقال النسائي: هذا خطأ" أخرجه المذكورين من
حديث عليّ بن عبد الله البارقي عن ابن عمر
بهذا، وأصله في الصحيحين بدون ذكر النهار.
وقال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن ابن عمر
غير عليّ وأنكروه عليه، وكان ابن معين يضعف
حديثه هذا ولا يحتج به، ويقول: إن نافعاً وعبد
الله بن دينار وجماعة رووه عن ابن عمر بدون
ذكر النهار، وروي بسنده عن يحيى بن معين أنه
قال: صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن فقيل له:
فإن أحمد بن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار
مثنى مثنى، قال: بأي حديث؟ قيل بحديث
(2/7)
الأزدي، قال:
ومن الأزدي؟ حتى أقبل منه؟ قال النسائي: هذا
الحديث عندي خطأ، وكذا قال الحاكم في علوم
الحديث، وقال الدارقطني في العلل: ذكر النهار
فهي وهم، وقال الخطابي: روي هذا الحديث طاوس
ونانع وغيرهما عن ابن عمر فلم يذكر أحد فيه
النهار إلا أن سبيل الزيادة من الثقة أن تقبل،
وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقال: والبارقي
احتج به مسلم والزيادة من الثقة مقبولة، انتهى
كلام المصنف في التلخيص.
فانظر إلى كلام الأئمة في هذه الزيادة فقد
اختلفوا فيها اختلافاً شديداً. ولعل الأمرين
جائزان، وقال أبو حنيفة: يخير في النهار بين
أن يصلي ركعتين ركعتين أو أربعاً أربعاً ولا
يزيد على ذلك. وقد أخرج البخاري ثمانية أحاديث
في "صلاة النهار ركعتين".
14 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أفضل
الصلاة بعد الفريضة" فإنها أفضل الصلاة، "صلاة
الليل" أخرجه مسلم" يحتمل أنه يريد بالليل
جوفه، لحديث أبي هريرة عند الجماعة إلا
البخاري قال: "سئل رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أي الصلاة أفضل بعد
المكتوبة؟ قال: "الصلاة في جوف الليل". وفي
حديث عمرو بن عبسة عند الترمذي وصححه: "أقرب
ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر،
فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك
الساعة فكن". وفي حديثه أيضاً عند أبي داود:
"قلت: يا رسول الله أي الليل أسمع"؟ قال: "جوف
الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة فيه مكتوبة
مشهودة". والمراد من جوفه الآخر هو الثلث
الآخر كما وردت به الأحاديث.
15 - وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال:
"الوتر حق على كل مسلم" هو دليل لمن قال بوجوب
الوتر، "من أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب
أن يوتر بثلاث فليفعل" ، قد قدمنا الجمع بينه
وبين ما عارضه، "ومن أحب أن يوتر بواحدة" من
دون أن يضيف إليها غيرها كما هو الظاهر،
"فليفعل" رواه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن
حبان ورجح النسائي وقفه" ، وكذا صحح أبو حاتم،
والذهلي، والدارقطني في العلل، والبيهقي وغير
واحد وقفه.
قال المصنف: وهو الصواب، قلت: وله حكم الرفع
إذ لا مسرح للاجتهاد فيه أي في المقادير.
والحديث دليل على إيجاب الوتر، ويدل له أيضاً
حديث أبي هريرة عند أحمد: "من لم يوتر فليس
منا". وإلى وجوبه ذهبت الحنفية، وذهب الجمهور
إلى أنه ليس بواجب مستدلين بحديث عليّ رضي
الله عنه: "الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة
ولكنه سنة سنها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم" ويأتي، ولفظه عند ابن ماجه: "إن
الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة ولكن
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أوتر
وقال: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب
الوتر".
وذكر المجد ابن تيمية أن ابن المنذر روى حديث
أبي أيوب، بلفظ: "الوتر حق وليس بواجب"،
وبحديث: "ثلاث هن عليّ فرائض ولكم تطوع".
وعد منها الوتر وإن كان ضعيفاً فله متابعات
يتأيد بها، على أن حديث أبي أيوب الذي استدل
به على الإيجاب قد عرفت أن
(2/8)
الأصح وقفه
عليه، وإن سبق أن له حكم المرفوع فهو لا يقاوم
الأدلة الدالة على عدم الإيجاب، والإيجاب قد
يطلق على المسنون تأكيداً كما سلف في غسل
الجمعة، وقوله: "بخمس وبثلاث" أي: ولا يقعد
إلا في آخرها، ويأتي حديث عائشة في الخمس.
وقوله: "بواحدة" ظاهره مقتصراً عليها، وقد روى
فعل ذلك عن جماعة من الصحابة، فأخرج محمد بن
نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد: "أن
عمر قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها".
وروى البخاري: "أن معاوية أوتر بركعة وأن ابن
عباس استصوبه".
16 - وعن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال:
ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" رواه
الترمذي والنسائي وحسنه والحاكم وصححه" تقدم
أنه من أدلة الجمهور على عدم الوجوب.
وفي حديث عليّ هذا عاصم بن ضمرة تكلم في غير
واحد وذكره القاضي الخيمي في حواشيه على بلوغ
المرام ولم أجده في التلخيص، بل ذكر هنا أنه
صححه الحاكم ولم يتعقبه فما أدري من أين نقل
القاضي ثم رأيت في التقريب ما لفظه: عاصم بن
ضمرة السلولي الكوفي صدوق من السادسة، مات سنة
أربع وسبعين.
17 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قام في
شهر رمضان ثم انتظروه من القابلة فلم يخرج،
وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر . وراه
ابن حبان" أبعد المصنف النجعة.
والحديث في البخاري إلا أنه بلفظ: "أن تفرض
عليكم صلاة الليل"، وأخرجه أبو داود من حديث
عائشة، ولفظه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم
صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا في
الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فلما أصبح قال:
"قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج
إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" هذا،
والحديث في البخاري بقريب من هذا.
وأعلم أنه قد أشكل التعليل لعدم الخروج بخشية
الفرضية عليهم مع ثبوت حديث: "هي خمس وهن
خمسون لا يبدل القول لدي" ، فإذا أمن التبديل
كيف يقع الخوف من الزيادة، وقد نقل المصنف عنه
أجوبة كثيرة وزيفها، وأجاب بثلاثة أجوبة، قال:
إنه فتح الباري عليه بها وذكرها واستجود منها
أن خوفه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان من
افتراض قيام الليل يعني جعل التهجد في المسجد
جماعة شرطاً في صحة التنقل بالليل قال: ويوميء
إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: "حتى خشيت أن
يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا
أيها الناس في بيوتكم" فمنعهم من التجمع في
المسجد إشفاقاً عليهم من اشتراطه انتهى.
قلت: ولا يخفى أنه لا يطابق قوله: "أن تفرض
عليكم صلاة الليل" كما في البخاري، فإنه ظاهر
أنه خشية فرضها مطلقاً، وكان ذلك في رمضان،
فدل على أنه صلى بهم ليلتين. وحديث الكتاب أنه
صلى بهم ليلة واحدة وفي رواية أحمد: "إنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم ثلاث
ليال
(2/9)
وغص المسجد
بأهله في الليلة الرابعة" ، وفي قوله: "خشيت
أن يكتب عليكم الوتر" دلالة على أن الوتر غير
واجب.
واعلم أن أثبت صلاة التراويح وجعلها سنة في
قيام رمضان استدل بهذا الحديث على ذلك، وليس
فيه دليل على كيفية ما يفعلونه ولا كميته،
فإنهم يصلونها جماعة عشرين يتروحون بين كل
ركعتين، فأما الجماعة فإن عمر أول من جمعهم
على إمام معين وقال: "إنها بدعة" كما أخرجه
مسلم في صحيحه، وأخرجه غيره من حديث أبي
هريرة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان
يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه
بعزيمة فيقول من قام رمضان إيماناً واحتساباً
غفر له ما تقدم من ذنبه، قال: وتوفي رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والأمر على ذلك،
وفي خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر"، زاد في
رواية عند البيهقي: "قال عروة فأخبرني عبد
الرحمن القاري أن عمر بن الخطاب خرج ليلة فطاف
في رمضان في المسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون
يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته
الرهط"، فقال عمر: والله لأظن لو جمعناهم على
قارىء واحد فأمر أبي بن كعب أن يقوم بهم في
رمضان فخرج عمر والناس يصلون بصلاته فقال عمر:
"نعم البدعة هذه"، وساق البيهقي في السنن عدة
روايات في هذا المعنى.
واعلم أنه يتعين حمل قوله بدعة على جمعه لهم
على معين وإلزامهم بذلك لا أنه أراد أن
الجماعة بدعة فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قد جمع بهم كما عرفت. إذا عرفت هذا
عرفت أن عمر هو الذي جعلها جماعة على معين
وسماها بدعة.
وأما قوله: "نعم البدعة"، فليس في البدعة ما
يمدح بل كل بدعة ضلالة، وأما الكمية وهي جعلها
عشرين ركعة، فليس فيه حديث مرفوع إلا ما رواه
عبد بن حميد والطبراني من طريق أبي شيبة
إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن
عباس: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة
والوتر"، قال في سبل الرشاد: أبو شيبة ضعفه
أحمد، وابن معين، والبخاري، ومسلم، وداود،
والترمذي والنسائي، وغيرهم وكذبه شعبة، وقال
ابن معين: ليس بثقة، وعد هذا الحديث من
منكراته، وقال الأذرعي في المتوسط: وأما ما
نقل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى في
الليلتين اللتين خرج فيهما عشرين ركعة فهو
منكر، وقال الزركشي في الخادم: دعوى أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم في تلك الليلة
عشرين ركعة لم تصح، بل الثابت في الصحيح
الصلاة من غير ذكر بالعداد ولما في رواية
جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى
بهم ثمان ركعات والوتر، ثم انتظروه في القابلة
فلم يخرج إليهم". رواه ابن حبان في صحيحهما
انتهى.
وأخرج البيهقي رواية ابن عباس من طريق أبي
شيبة، ثم قال: إنه ضعيف وساق روايات: "أن عمر
أمر أبياً وتميماً الداري يقومان بالناس
بعشرين ركعة". وفي رواية: "أنهم كانوا يقومون
في زمن عمر بعشرين ركعة"، وفي رواية بثلاث
وعشرين ركعة. وفي رواية: "أن علياً رضي الله
عنه كان يؤمهم بعشرين ركعة ويوتر بثلاث"، قال:
وفيه قوة.
إذا عرفت هذا علمت أنه ليس في العشرين رواية
مرفوعة، بل يأتي حديث عائشة المتفق عليه
قريباً: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما
كان
(2/10)
يزيد في رمضان
ولا غيره على إحدى عشرة ركعة" ، فعرفت من هذا
كله أن صلاة التراويح على هذا الأسلوب الذي
اتفق عليه الأكثر بدعة نعم قيام رمضان سنة بلا
خلاف، والجماعة في نافلته لا تنكر، وقد ائتم
ابن عباس رضي الله عنه وغيره به صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم في صلاة الليل، لكن جعل هذه
الكيفية والكمية سنة، والمحافظة عليها هو الذي
نقول: إنه بدعة، وهذا عمر رضي الله عنه خرج
أولاً، والناس أوزاع متفرقون منهم من يصلي
منفرداً ومنهم من يصلي جماعة على ما كانوا في
عصره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وخير الأمور
ما كان على عهده.
وأما تسميتها بالتراويح فكأن وجهه ما أخرجه
البيهقي من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي أربع ركعات
في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته ". الحديث،
قال البيهقي: تفرد به المغيرة بن دياب وليس
بالقوي، فإن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في
صلاة التراويح. انتهى.
وأما حديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها
بالنواجذ". أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه،
والترمذي، وصححه الحاكم، وقال: على شرط
الشيخين. ومثله حديث: "اقتدوا باللذين من بعدي
أبي بكر وعمر" أخرجه الترمذي، وقال: حسن،
وأخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وله طرق
فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً. فإنه ليس
المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم
الموافقة لطريقته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها،
فإن الحديث عام لكل خليفة راشد لا يخص
الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أن ليس
لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم عمر رضي
الله عنه نفسه الخليفة الراشد سمي ما رآه من
تجميع صلاته ليالي رمضان بدعة ولم يقل: إنها
سنة فتأمل على أن الصحابة رضي الله عنهم
خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل أنه لم
يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حُجَّة،
وقد حقق البرماوي الكلام في شرح ألفيته في
أصول الفقه مع أنه قال: إنما الحديث الأول يدل
أنه إذا اتفق الخلفاء الأربعة على قول كان
حُجَّة لا إذا انفرد واحد منهم والتحقيق أن
الاقتداء ليس هو التقليد بل هو غيره كما
حققناه في شرح نظم الكافل في بحث الإجماع.
18 - وعن خارجة" بالخاء المعجمة فراء بعد
الألف فجيم هو "ابن حذافة" بضم المهلمة فذال
بعدها معجمة ففاء بعد الألف وهو قَرشي عدوي
كان يعدل بألف فارس، روي أن عمرو بن العاص
استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس فأمده بثلاثة
وهم خارجة بن حذافة والزبير بن العوام
والمقداد بن الأسود. ولي خارجة القضاء بمصر
لعمرو بن العاص، وقيل: كان على شرطته وعداده
في أهل مصر، قتله الخارجي ظناً منه أنه عمرو
بن العاص حين تعاقدت الخوارج على قتل ثلاثة
علي عليه السلام ومعاوية وعمرو بن العاص رضي
الله عنهما فتم أمر الله في أمير المؤمنين
عليّ عليه السلام دون الآخرين وإلى الغلط
بخارجة أشار من قال شعراً:
فليتها إذ فدت عمراً بخارجة ... فدت علياً بمن
شاءت من البَشر
وكان قتل خارجة سنة أربعين "قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن الله
أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم" قلنا:
وما هي يا رسول الله؟ قال :
(2/11)
"الوتر ما بين
الصلاة العشاء إلى طلوع الفجر". رواه الخمسة
إلا النسائي وصححه الحاكم".
قلت: قال الترمذي عقيب إخراجه له: حديث خارجة
بن حذافة، حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث
يزيد بن أبي حبيب، وقد وهم بعض المحدثين في
هذا الحديث ثم ساق الوهم فيه؟ فكان يحسن من
المصنف التنبيه على ما قاله الترمذي هذا.
وفي الحديث ما يفيد عدم وجوب الوتر لقوله:
"أمدكم"، فإن الإمداد هو الزيادة بما يقوي
المزيد عليه، يقال: مد الجيش وأمده إذا زاده
وألحق به ما يقويه ويكثره ومد الدواة وأمدها
زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض إذا
أصلحتهما بالزيت والسماد.
"فائدة في حكمة شرعية النوافل"
أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم من
حديث تميم الداري مرفوعاً: "أول ما يحاسب به
العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت
له تامة، وإن لم يكن أتمها، قال الله تعالى
لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع
فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك ، ثم تؤخذ
الأعمال على حسب ذلك" ، وأخرجه الحاكم في
الكنى من حديث ابن عمر مرفوعاً: "أول ما افترض
الله على أمتي الصلوات الخمس، وأول ما يرفع من
أعمالهم الصلوات الخمس، وأول ما يسألون عنه
الصلوات الخمس، فمن كان ضيع شيئاً منها يقول
نقص من الفريضة؟ وانظروا صيام عبدي شهر رمضان
فإن كان ضيع شيئاً منه فانظروا هل تجدون لعبدي
نافلة من صيام تتمون بها ما نقص من الصيام؟
وانظروا في زكاة عبدي، فإن كان ضيع شيئاً
فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صدقة تتمون
بها ما نقص من الزكاة؟ فيؤخذ ذلك على فرائض
الله وذلك برحمة الله وعدله، فإن وجد له فضل
وضع في ميزانه، وقيل له: ادخل الجنة مسروراً
وإن لم يوجد له شيء من ذلك أمرت الزبانية،
فأخذت بيديه ورجليه ثم قذف في النار" ، وهو
كالشرح والتفصيل لحديث تميم الداري "وروي أحمد
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه" أي نحو
حديث خارجة فشرحه شرحه.
19 - وعن عبد الله بن بريدة" بضم الموحدة
بعدها راء مهملة مفتوحة ثم مثناة تحتية ساكنة
فدال مهملة مفتوحة هو ابن الحصيب بضم الحاء
المهملة وفتح الصاد المهملة والمثناة التحتية
والباء الموحدة الأسلمي وعبد الله من ثقات
التابعين سمع أباه وسمرة بن جندب وآخرين وتولي
قضاء مرو وماب بها "عن أبيه" بريدة بن الحصيب
تقدم ذكره "قال: قال رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "الوتر حق" أي لازم فهو من
أدلة الإيجاب، "فمن لم يوتر فليس منا" أخرجه
أبو داود بسند لين" لأن فيه عبد الله بن عبد
الله العتكي، ضعفه البخاري والنسائي، وقال أبو
حاتم: صالح الحديث، "وصححه الحاكم" ، وقال ابن
معين: إنه موقوف "وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة
عند أحمد" ، رواه بلفظ: "من لم يوتر فليس منا"
، وفيه الخليل بن مرة منكر الحديث، وإسناده
منقطع كما قاله أحمد، ومعنى "ليس منا" ليس على
سنتنا وطريقتنا، والحديث محمول على تأكد
السنية للوتر جمعاً بينه وبين الأحاديث الدالة
على عدم الوجوب.
(2/12)
20 - وعن عائشة
رضي الله عنه قالت: ما كان رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم يزيد في رمضان ولا في
غيره على إحدى عشرة ركعة" ، ثم فصلتها بقولها
"يصلي أربعاً" يحتمل أنها متصلاً وهو الظاهر،
ويحتمل أنها مفصلات وهو بعيد إلا أنه يوافق
حديث "صلاة الليل مثنى مثنى" ، "فلا تسأل عن
حسنهن وطولهن" نهت عن سؤال ذلك إما أنه لا
يقدر المخاطب على مثله فأي حاجة له في السؤال،
أو لأنه قد علم حسنهن وطولهن لشهرته فلا يسئل
عنه أو لأنها لا تقدر تصف ذلك، "ثم يصلي
أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي
ثلاثاً قالت: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن
يوتر" كأنه كان ينام بعد الأربع ثم يقوم فيصلي
الثلاث وكأنه كان قد تقرر عند عائشة أن النوم
ناقض للوضوء فسألته فأجابها بقوله: "قال: يا
عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" دل على
أن الناقض نوم القلب وهو حاصل مع كل من نام
مستغرقاً فيكون من الخصائص أن النوم لا ينقض
وضوءه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقد صرح
المصنف بذلك في التلخيص، واستدل بهذا الحديث
وبحديث ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم نام حتى نفخ ثم قام فصلى ولم يتوضأ".
وفي البخاري: "إن الأنبياء تنام أعينهم ولا
تنام قلوبهم" متفق عليه:".
اعلم أنه قد اختلفت الروايات عن عائشة في
كيفية صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في
الليل وعددها، فقد روي عنها سبع وتسع وإحدى
عشرة سوى ركعتي الفجر ومنها هذه الرواية التي
أفادها قوله: "وفي رواية لهما" أي الشيخين
"عنها" أي عن عائشة "كان يصلي من الليل عشر
ركعات" وظاهره أنها موصولة لا قعود فيها،
"ويوتر بسجدة" أي ركعة، "ويركع ركعتي الفجر"
أي بعد طلوعه، "فتلك" أي الصلاة في الليل مع
تغليب ركعتي الفجر أو فتلك الصلاة جميعاً،
"ثلاث عشرة ركعة" ، وفي رواية: "أنه كان يصلي
من الليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع
النداء ركعتين خفيفتين فكانت خمس عشرة ركعة".
ولما اختلفت ألفاظ حديث عائشة زعم البعض أنه
حديث مضطرب، وليس كذلك، بل الروايات محمولة
على أوقات متعددة وأوقات مختلفة بحسب النشاط
وبيان الجواز وأن الكل جائز، وهذا لا يناسبه
قولها ولا في غيره، والأحسن أن يقال: إنها
أخبرت عن الأغلب من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم فلا ينافيه ما خالفه لأنه إخبار عن
النادر.
21 - وعنها" أي عائشة، "قالت: كان رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي من الليل
ثلاث عشرة ركعة" لم تفصلها وتبين على كم كان
يسلم كما ثبت ذلك في الحديث السابق إنما بينت
هذا في الوتر بقولها: "ويوتر من ذلك" أي العدد
المذكور "بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها"
كأن هذا أحد أنواع إيتاره صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كما إن الإيتار بثلاث أحدها كما أفاده
حديثها السابق.
22 - وعنها" أي عائشة "قالت: من كل الليل قد
أوتر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم"
أي من أوله وأوسطه وآخره، "وانتهى وتره إلى
السحر . متفق عليهما" أي على الحديثين وهذا
الحديث بيان لوقت الوتر وأنه الليل كله من بعد
صلاة العشاء، وقد أفاد ذلك حديث
(2/13)
خارجة حيث قال:
"الوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" ،
وقد ذكرنا أنواع الوتر التي وردت في حاشية ضوء
النهار.
23 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: يا
عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل
فترك قيام الليل. متفق عليه".
قوله: "مثل فلان" قال المصنف في فتح الباري:
لم أقف على تسميته في شيء من الطرق وكأن إبهام
هذا القصد للستر عليه، قال ابن العربي: هذا
الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ
لو كان واجباً لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل
كان يذمه أبلغ ذم. وفيه استحباب الدوام على ما
اعتداه المرء من الخير من غير تفريط ويستنبط
منه كراهة قطع العبادة.
24 - وعن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أوتروا يا أهل
القرآن فإن الله وتر" " في النهاية أي واحد في
ذاته لا يقبل الانقسام ولا التجزئة واحد في
صفاته لا شبيه له ولا مثل. واحد في أفعاله لا
شريك له ولا معين، "يحب الوتر" يثيب عليه
ويقبله من عامله، "رواه الخمسة وصححه ابن
خزيمة".
المراد بأهل القرآن المؤمنون لأنهم الذي صدقوا
القرآن وخاصة من يتولى حفظه ويقوم بتلاوته
ومراعاة حدوده وأحكامه. والتعليل بأنه تعالى
وتر فيه ـ كما قال القاضي عياض: ـ أن كل ما
ناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه وقد عرفت
أن الأمر للندب للأدلة التي سلفت الدالة على
عدم وجوب الوتر.
25 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "اجعلوا آخر
صلاتكم بالليل وتراً" متفق عليه" في فتح
الباري أنه اختلف السَلَف في موضعين: أحدهما
في مشروعية ركعتين بعد الوتر من جلوس.
والثاني: من أوتر ثم أراد أن ينتفل من الليل
هل يكتفي بوتره الأول وينتفل ما شاء أو يشفع
وتره بركعة ثم ينتفل، ثم إذا فعل هذا هل يحتاج
إلى وتر آخر أو لا.
أما الأول فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن
عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان
يصلي من الليل ركعتين بعد الوتر وهو جالس".
وقد ذهب إليه بعض أهل العلم وجعل الأمر في
قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً"
مختصاً بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل
بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا
الفجر، وحمله النووي على أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم فعل ذلك لبيان جواز النفل
بعد الوتر وجواز التنفل جالساً.
وأما الثاني: فذهب الأكثر إلى أنه يصلي شفعاً
ما أراد ولا ينقض وتره الأول عملاً
بالحديث.وهو
26 - وعن طلق بن عليّ رضي الله عنه سمعت رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "لا
وتران في ليلة" رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن
حبان" ، فدل على أنه لا يوتر بل يصلي شفعاً ما
شاء، وهذا نظر إلى ظاهر فعله وإلا فإنه لما
شفع وتره الأول لم يبق إلا وتر واحد هو ما
يفعله آخراً. وقد روي، عن ابن عمر أنه قال:
لما سئل عن ذلك: "إذا كنت لا تخاف الصبح ولا
النوم فاشفع ثم صل ما بدا لك ثم أوتر".
27 -وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوتر"
أي يقرأ في صلاة الوتر " بسبح اسم ربك الأعلى
" أي في الأولى بعد قراءة الفاتحة،
(2/14)
"وقل يا أيها
الكافرون" أي في الثانية بعدها، " وقل هو الله
أحد " أي في الثالثة بعدها. "رواه أحمد وأبو
داود والنسائي وزاد" أي النسائي "ولا يسلم إلا
في آخرهن" الحديث دليل على الإيتار بثلاث، وقد
عارضه حديث: "لا توتروا بثلات" وهو عن أبي
هريرة، صححه الحاكم، وقد صحح الحاكم عن ابن
عباس، وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وقد قدمنا
وجه الجمع ثم الوتر بثلاث أحد أنواعه كما عرفت
فلا يتعين فيه.
فذهبت الحنفية والهادوية إلى تعيين الإيتار
بالثلاث تصلي موصولة، قالوا: لأن الصحابة
أجمعوا على أن الإيتار بثلاث موصولة جائز،
اختلفوا فيما عداه، فالأخذ به أخذ بالإجماع
ورد عليهم بعدم صحة الإجماع كما عرفت.
28 - ولأبي داود والترمذي نحوه" أي حديث أبي
"عن عائشة وفيه كل سورة" من سبح والكافرون "في
ركعة" من الأولى والثانية كما بيناه، "وفي
الأخيرة {قل هو الله أحد} والمعوذتين" في حديث
عائشة لين لأن فيه خصيفاً الجزري، ورواه ابن
حبان والدارقطني من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة
عن عائشة. قال العقيلي: إسناده صالح. وقال ابن
الجوزي: أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة
المعوذتين، وروى ابن السكن له شاهداً من حديث
عبد الله بن سرجس بإسناد غريب.
30 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال:
أوتروا قبل أن تصبحوا . رواه مسلم" هو دليل
على أن الوتر قبل الصبح "ولابن حبان" أي من
حديث أبي سعيد، "من أدرك الصبح ولم يوتر فلا
وتر له" وهو دليل على أنه لا يشرع الوتر بعد
خروج الوقت.
وإما أنه لا يصح قضاؤه فلا، إذ المراد من تركه
متعمداً فإنه فاتته السنة العظمى حتى أنه لا
يمكنه تداركه، وقد حكى ابن المنذر عن جماعة من
السَلَف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري،
وأما وقته الاضطراري فيبقى إلى قيام صلاة
الصبح، وأما من نام عن وتره ونسيه فقد بين
حكمه الحديث:.وهو قوله":
31 - وعنه" أي عن أبي سعيد "قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من نام عن
الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر"" لف
ونشر مرتب، حيث كان نائماً أو ذكر إذا كان
ناسياً "رواه الخمسة إلا النسائي" ، فدل على
أن من نام عن وتره أو نسيه فحكمه حكم من نام
عن الفريضة أو نسيها أنه يأتي بها عند
الاستيقاظ أو الذكر أو القياس أنه أداء كما
عرفت فيمن نام عن الفريضة أو نسيها.
32 - وعن جابر رضي الله عنه" هو ابن عبد الله،
"قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "من خاف أن لا يقوم من الليل فليوتر
أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل،
فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل" رواه
مسلم" فيه دلالة على أن تأخير الوتر أفضل،
ولكن إن خاف أن لا يقوم قدمه لئلا يفوته
فعلاً، وقد ذهب جماعة من السَلَف إلى هذا وإلى
هذا وفعل كل بالحالين، ومعنى كون صلاة آخر
الليل مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة
النهار.
(2/15)
32 - وعن ابن
عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا طلع الفجر فقد ذهب
وقت كل صلاة الليل" أي النوافل المشروعة فيه،
"والوتر" عطف خاص على عام فإنه من صلاة الليل
عطفه عليه لبيان شرفه، "فأوتروا قبل طلوع
الفجر" .
فتخصيص الأمر بالإيتار لزيادة العناية بشأنه
وبيان أنه أهم صلاة الليل، فإنه يذهب وقته
بذهاب الليل وتقدم في حديث أبي سعيد أن النائم
والناسي يأتيان بالوتر عند اليقظة إذا أصبح
والناسي عند التذكر فهو مخصص لهذا، فبين أن
المراد بذهاب وقت الوتر بذهاب الليل على من
ترك الوتر لغير العذرين. وفي ترك ذلك للنوم ما
رواه الترمذي عن عائشة: "كان رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا لم يصل من الليل
منعه من ذلك النوم أو غلبته عيناه صلى من
النهار اثنتي عشرة ركعة" . وقال: حسن صحيح،
وكأنه تداركه لما فات، "رواه الترمذي" ، قلت:
وقال عقيبه: سليمان بن موسى قد تفرد به على
هذا اللفظ.
33 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ك ان رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي الضحى
أربعاً ويزيد ما شاء الله . رواه مسلم" هذا
يدل على شرعية صلاة الضحى، وأن أقلها أربع،
وقيل: ركعتان، وهذا في الصحيحين من رواية أبي
هريرة "وركعتي الضحى" .
وقال ابن دقيق العيد: لعله ذكر الأقل الذي
يوجد التأكيد بفعله. قال: وفي هذا دليل على
استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وعدم
مواظبة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على
فعلها لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة
القول وليس من شرط الحكم أن تتظافر عليه أدلة
القول والفعل، لكن ما واظب النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم على فعل مرجح على ما لم
يواظب عليه انتهى.
وأما حكمها فقد جمع ابن القيم الأقوال فبلغت
ستة أقوال. الأول: أنها سنة مستحبة. الثاني:
لا تشرع إلا لسبب. الثالث: لا تستحب أصلاً.
الرابع: يستحب فعلها تارة وتركها تارة فلا
يواظب عليها. الخامس: يستحب الموظبة عليها في
البيوت. السادس: أنها بدعة. وقد ذكر هنالك
مستند كل قول. هذا وأرجح الأقوال أنها سنة
مستحبة كما قرره ابن دقيق العيد، نعم وقد عارض
حديث عائشة هذا حديثها الذي أفاده قوله:
34- وله" أي لمسلم "عنها" أي عن عائشة "أنها
سئلت هل كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يصلي الضحى؟ قالت: لا. إلا أن يجيء من
مغيبه" فإن الأول دل على أنه كان يصليها
دائماً لما تدل عليه كلمة كان فإنها تدل على
التكرار، والثانية دلت على أنه كان لا يصليها
إلا في حال مجيئه من مغيبه وقد جمع بينهما.
فإن كلمة كان يفعل كذا لا تدل على الدوام
دائماً بل غالباً، وإذا قامت قرينة على خلاف
صرفتها عنه كما هنا، فإن اللفظ الثاني صرفها
عن الدوام وأنها أرادت بقولها: "لا إلا أن
يجيء من مغيبه" نفي رؤيتها صلاة الضحى، وأنها
لم تره يفعلها إلا في ذلك الوقت، واللفظ الأول
إخبار عما بلغها في أنه ما كان يترك صلاة
الضحى إلا أنه يضعف هذا قوله.
35 - وله" أي لمسلم وهو أيضاً في البخاري
بلفظه، فلو قال: ولهما كان أولى "عنها" أي
عائشة "ما رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلي قط سبحة الضحى" بضم السين وسكون
الباء أي نافلته، "وإني لأسبحها" فنفت رؤيتها
لفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها،
(2/16)
وأخبرت أنها
كانت تفعلها كأنه استناد إلى ما بلغها من الحث
عليها ومن فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
لها فألفاظها لا تتعارض حينئذ.
وقال البيهقي: المراد بقولها ما رأيته سبحها
أي داوم عليها، وقال ابن عبد البر: يرجح ما
اتفق عليه الشيخان وهو رواية إثباتها دون ما
انفرد به مسلم وهي رواية نفيها، قال: وعدم
رؤية عائشة لذلك لا يستلزم عدم الوقوع الذي
أثبته غيرها هذا معنى كلامه. قلت: ومما اتفقا
عليه في إثباتها حديث أبي هريرة في الصحيحين:
"أنه أوصاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأن
لا يترك ركعتي الضحى"، وفي الترغيب في فعلها
أحاديث كثيرة وفي عددها كذلك: مبسوطة في كتب
الحديث.
36 - وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: صلاة
الأوابين" الأواب: الرجاع إلى الله تعالى بترك
الذنوب وفعل الخيرات "حين ترمض الفصال" بفتح
الميم من رمضت بكسرها أي تحترق من الرمضاء وهو
شدة حرارة الأرض من قوع الشمس على الرمل
وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها
الحر والفصال جمع فصيل وهو ولد الناقة سمي
بذلك لفصله عن أمه، "رواه الترمذي" ولم يذكر
لها عدداً.
وقد أخرج البزار من حديث ثوبان: "أن رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يستحب أن
يصلي بعد نصف النهار، فقال عائشة: يا رسول
الله إنك تستحب الصلاة هذه الساعة؟ قال: "تفتح
فيها أبواب السماء وينظر تبارك وتعالى فيها
بالرحمة إلى خلقه وهي صلاة كان يحافظ عليها
آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى " وفيه راو
متروك، ووردت أحاديث كثيرة أنها أربع ركعات .
37 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من صلى الضحى
اثنتي عشرة ركعة بنى له قصراً في الجنة رواه
الترمذي واستغربه" قال المصنف: وإسناده ضعيف.
وأخرج البزار عن ابن عمر، قال: "قلت لأبي ذر:
يا عماه أوصني، قال: سألتني عما سألت عنه رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: إن
صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين، وإن
صليت أربعاً كتبت من العابدين، وإن صليت ستاً
لم يلحقك ذنب، وإن صليت ثمانياً كتبت من
القانتين، وإن صليت ثنتي عشرة بني لك بيت في
الجنة". وفيه حسين بن عطاء ضعفه أبو حاتم
وغيره. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطيء
ويدلس، وفي الباب أحاديث لا تخلو عن مقال.
38 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بيتي فصلى
الضحى ثماني ركعات. رواه ابن حبان في صحيحه" ،
وقد تقدم رواية مسلم عنها "أنا ما رأته صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي سبح الضحى".
وهذا الحديث أثبتت فيه صلاته في بيتها وجمع
بينهما بأنها نفت الرؤية وصلاته في بيتها يجوز
أنها لم تره، ولكنه ثبت لها برواية، واختار
القاضي عياض هذا الوجه ولا يعد في ذلك، وإن
كان في بيتها لجواز غفلتها في الوقت فلا
منافاة والجمع مهما أمكن هو الوجب.
"فائدة"
من فوائد صلاة الضحى أنها تجزىء عن الصدقة
التي تصبح على مفاصل الإنسان
(2/17)
في كل يوم وهي
ثلاثمائة وستون مفصلاً، لما أخرجه مسلم من
حديث أبي ذر قال فيه: وتجزىء من ذلك ركعتا
الضحى".
(2/18)
باب صلاة الجماعة والإمامة
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال:
"صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ" بالفاء
والذال المعجمة: الفرد "بسبع وعشرين درجة متفق
عليه.
2 - ولهما" أي الشيخين "عن أبي هريرة رضي الله
عنه: بخمس وعشرين جزءاً " عوضاً عن قوله: "سبع
وعشرين درجة" "وكذا" أي وبلفظ "بخمس وعشرين"
"للبخاري عن أبي سعيد وقال: "درجة" " عوضاً عن
جزء.
ورواه جماعة من الصحابة غير الثلاثة المذكورين
منهم أنس وعائشة وصهيب ومعاذ وعبد الله بن زيد
وزيد بن ثابت.
قال الترمذي: عامة من رواه قالوا: خمساً
وعشرين إلا ابن عمر فقال: "سبعة وعشرين" وله
رواية فيها "خمساً وعشرين" ولا منافاة فإن
مفهوم العدد غير مراد فرواية الخمس والعشرين
داخلة تحت رواية السبع والعشرين، أو أنه أخبر
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالأقل عدداً
أولاً ثم أخبر بالأكثر، وأنه زيادة تفضل الله
بها.
وقد زعم قوم أن السبع محمولة على من صلى في
المسجد، والخمس لمن صلى في غيره.
وقيل: السبع لبعيد المسجد والخمس لقريبه،
ومنهم من أبدى مناسبات وتعليلات استوفاها
المصنف في فتح الباري، وهي أقوال تخمينية ليس
عليها نص.
والجزء والدرجة بمعنى واحد هنا لأنه عبر بكل
واحد منهما عن الآخر وقد ورد تفسيرهما بالصلاة
وأن الصلاة الجماعة بسبع وعشرين صلاة فرادى.
والحديث حث على الجماعة. وفيه دليل على عدم
وجوبها، وقد قال بوجوبها جماعة من العلماء
مستدلين بقوله:
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "والذي نفسي
بيده" أي في ملكه وتحت تصرفه "لقد هممت" جواب
القسم، والإقسام منه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم لبيان عظم شأن ما يذكره زجراً عن ترك
الجماعة "أن آمر بحطب فيُحطب ثم آمرُ
بالصَّلاة فيؤذَّن لها ثمَّ آمرُ رجلاً
فيؤُمَّ الناس ثم أُخالِف" في الصحاح خالف إلى
فلان أي أتاه إذا غاب عنه "إلى رجال "لا
يشهدون الصَّلاة" أي لا يحضرون الجماعة
"فأُحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو
يعلم أحدُهم أنه يجد عرقاً،" بفتح المهملة
وسكون الراء ثم قاف هو العظم إذا كان عليه لحم
"سميناً أوْ مرمامتين" تثنية مرماة بكسر الميم
فراء ساكنة وقد تفتح الميم وهي ما بين ظلفي
الشاة من اللحم "حسنتين" بمهملتين من الحسن
"لشهد العِشاء" " أي صلاته جماعة ". متفق
عليه: أي بين الشيخين "واللفظ للبخاري".
والحديث دليل على وجوب الجماعة عيناً لا كفاية
إذ قد قام بها غيرهم فلا يستحقون العقوبة، ولا
عقوبة إلا على ترك
(2/18)
واجب أو فعل
محرم. وإلى أنها فرض عين: ذهب عطاء والأوزاعي
وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن
حبان ومن أهل البيت أبو العباس وقالت به
الظاهرية.
وقال داود: إنها شرط في صحة الصلاة بناءً على
ما يختاره من أن كل واجد في الصلاة فهو شرط
فيها، ولم يسله له هذا، لأن الشرطية لا بد لها
من دليل، ولذا قال أحمد وغيره: إنها واجبة غير
شرط.
وذهب أبو العباس تحصيلاً لمذهب الهادي أنها
فرض كفاية، وإليه ذهب الجمهور من متقدمي
الشافعية، وكثير من الحنفية والمالكية.
وذهب زيد بن علي والمؤيد بالله وأبو حنيفة
وصاحباه والناصر إلى أنها سنة مؤكدة.
استدل القائل بالوجوب بحديث الباب، لأن
العقوبة البالغة لا تكون إلا على ترك الفرائض،
وبغيره من الأحاديث كحديث ابن مكتوم أنه قال:
يا رسول الله قد علمت ما بي وليس لي قائد ـ
زاد أحمد ـ وإن بيني وبين المسجد شجراً ونخلاً
ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "أتسمع الإقامة؟" قال: نعم،
قال: "فاحضرها" أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم
وابن حبان بلفظ "أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال:
فاتها ولو حَبْواً" والأحاديث في معناه كثيرة
ويأتي حديث ابن أم مكتوم، وحديث ابن عباس، وقد
أطلق البخاري الوجوب عليها وبوّبة بقوله: "باب
وجوب صلاة الجماعة". وقالوا: هي فرض عين إذ لو
كانت فرض كفاية لكان قد أسقط وجوبها فعل النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ومن معه لها.
وأما التحريق في العقوبات بالنار فإنه وإن كان
قد ثبت النهي عنه عاماً، فهذا خاص.
وأدلة القائل بأنها فرض كفاية أدلة من قال
إنها فرض عين بناءً على قيام الصارف للأدلة
على فرض العين إلى فرض الكفاية.
وقد أطال القائلون بالسنية الكلام في الجوابات
عن هذا الحديث بما لا يشفي وأقربها أنه خرج
مخرج الزجر لا الحقيقة بدليل أنه لم يفعله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
واستدل القائل بالسنية بقوله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث أبي هريرة "صلاة
الجماعة أفضل من صلاة الفذّ" فقد اشتركا في
الفضيلة، ولو كانت الفرادى غير مجزئة لما كانت
لها فضيلة أصلاً وحديث "إذا صليتما في
رحالكما" فأثبت لهما الصلاة في رحالهما ولم
يبين أنها إذا كانت جماعة وسيأتي.
4 - وعنه" أي أبي هريرة "قال:قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم : "أثقل الصلاة على
المنافقين" فيه أن الصلاة كلها عليهم ثقيلة
فإنهم الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا
كسالى، ولكن الأثقل عليهم "صلاة العشاء" لأنها
في وقت الراحة والسكون "وصلاة الفجر" لأنها في
وقت النوم وليس لهم داع ديني ولا تصديق
بأجرهما حتى يبثهم على إتيانهما، ويخف عليهم
الإتيان بهما، ولأنهما في ظلمة الليل، وداعي
الرياء الذي لأجله يصلون منتفٍ، لعدم مشاهدة
من يراءونه من الناس إلا القليل، فانتفى
الباعث الديني منهما كما انتفى في غيرهما، ثم
انتفى الباعث الدنيوي الذي في غيرهما. ولذا
قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ناظراً إلى
انتفاء الباعث الديني عندهم: "ولو يعلمون ما
فيهما" في فعلهما من الأجر "لأتوهما" إلى
المسجد "ولوْ حَبْواً" " أي ولو مشوا حبواً أي
كحبو الصبيّ على يديه وركبتيه، وقيل هو الزحف
على الركب، وقيل على الإست، وفي حديث أبي
أمامة عند الطبراني "ولو
(2/19)
حبواً على يديه
ورجليه". وفي رواية جابر عنده أيضا بلفظ: "ولو
حبواً أو زحفاً".
فيه حث بليغ على الإتيان إليهما. وأن المؤمن
إذا علم ما فيهما أتى إليهما على أي حال، فإنه
ما حال بين المنافق وبين هذا الإتيان إلا عدم
تصديقه بما فيهما متفق عليه:".
5- وعنه" أي عن أبي هريرة رضي الله عنه "قال:
أتى النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رجلٌ
أعمى" قد وردت بتفسيره الرواية الأخرى وأنه
ابن أم مكتوم "قال: يا رسول الله ليس لي قائد
يقودني إلى المسجد فرخص له" أي في عدم إتيان
المسجد "فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع
النداءَ" وفي رواية "الإقامة" "بالصلاة؟" قال:
نعم قال: "فأجب" رواه مسلم".
كان الترخيص أولاً مطلقاً عن التقييد بسماعه
النداء فرخص له ثم سأله هل تسمع النداء قال:
نعم فأمره بالإجابة.
ومفهومه أنه إذا لم يسمع النداء كان ذلك عذراً
له، وإذا سمعه لم يكن له عذر عن الحضور.
والحديث من أدلة الإيجاب للجماعة عيناً، لكن
ينبغي أن يقيد الوجوب عيناً على سامع النداء
لتقييد حديث الأعمى وحديث ابن عباس له، وما
أطلق من الأحاديث يحمل على المقيد.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الدعوى وجوب الجماعة
عيناً أو كفاية، والدليل هو الحديث الهمِّ
بالتحريق وحديث الأعمى، وهما إنما دلاّ على
وجوب حضور جماعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
في مسجده لسامع النداء وهو أخص من وجوب
الجماعة، ولو كانت الجماعة واجبة مطلقاً لبين
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك للأعمى ولقال
له انظر من يصلي معك، ولقال في المتخلفين إنهم
لا يحضرون جماعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
ولا يجمعون في منازلهم. والبيان لا يجوز
تأخيره عن وقت الحاجة.
فالأحاديث إنما دلت على وجوب حضور جماعته
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عيناً على سامع
النداء لا على وجوب مطلق الجماعة كفاية ولا
عيناً.
وفيه أنه لا يرخص لسامع النداء عن الحضور وإن
كان له عذر فإن هذا ذكر العذر وأنه لا يجد
قائداً فلم يعذره إذن.
ويحتمل أن الترخيص له ثابت للعذر، ولكنه أمره
بالإجابة ندباً لا وجوباً ليحرز الأجر في ذلك.
والمشقة تغتفر بما يجده في قلبه من الروح في
الحضور ويدل لكون الأمر للندب أي مع العذر
قوله:
6 ـ وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا عَنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قالَ: "مَنْ سَمِعَ النِّداءَ فلم يأت
فَلا صَلاةَ لَهُ إلا مِنْ عُذْرٍ" رَوَاهُ
ابْنُ مَاجَه وَالدَّارَقُطْنيُّ وابْنُ
حِبّانَ وَالحْاكِمُ وَإسْنَادُهُ عَلى شَرْطِ
مُسْلمٍ لكنْ رَجّجَ بَعْضُهُمْ وَقْفَهُ.
الحديث أخرج من طريق شعبة موقوفاً ومرفوعاً،
والموقوف في زيادة "إلا من عذر" فإن الحاكم
وقفه عند أكثر أصحاب شعبة.
وأخرج الطبراني في الكبير من حديث أبي موسى
عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من سمع
النداء فلم يجب من غير ضرر ولا عذر فلا صلاة
له"، قال الهيثمي: فيه قيس بن الربيع وثقه
شعبة وسفيان الثوري وضعفه جماعة.
وقد أخرج حديث ابن عباس المذكور أبو داود
بزيادة "قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض لم
يقبل الله منه الصلاة التي صلى" بإسناد ضعيف.
والحديث دليل على تأكد الجماعة وهو حجة لمن
يقول إنها فرض عين.
ومن يقول إنها سنة
(2/20)
يؤول قوله:
"فلا صلاة له" أي كاملة، وأنه نزَّل نفي
الكمال منزلة نفي الذات مبالغة.
والأعذار في ترك الجماعة منها ما في حديث أبي
داود. ومنها المطر والريح الباردة. ومن أكل
كراثاً أو نحوه من ذوات الريح الكريهة فليس له
أن يقرب المسجد؛ قيل: ويحتمل أن يكون النهي
عنها لما يلزم من أكلها من تفويت الفريضة
فيكون آكلها آثماً لما تسبب له من ترك
الفريضة، ولكن لعل من يقول إنها فرض عين يقول
تسقط بهذه الأعذار صلاتها في المسجد لا في
البيت فيصليها جماعة.
7- وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه" هو أبو
جابر يزيد بن الأسود السُّوائي بضم المهملة
وتخفيف الواو والمد ويقال الخزاعي ويقال
العامري روى عنه ابنه جابر وعداده في أهل
الطائف وحديثه في الكوفيين "أنه صلى مع رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الصبح،
فلما صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم" أي فرغ من صلاته "إذا هو برجلين لم
يصليا" أي معه "فدعا بهما فجيء بهما ترعد" بضم
المهملة "فرائضهما" جمع فريصة وهي اللحمة التي
بين جنب الدابة وكتفيها أي ترجف من الخوف قاله
في النهاية "فقال لهما: "ما منعكما أن تصليا
معنا؟" قالا: قد صلينا في رحالنا" جمع رحل
بفتح الراء وسكون المهملة هو المنزل ويطلق على
غيره ولكن المراد هنا به المنزل "قال: "فلا
تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما
الإمام ولم يصل فصليا معه فإنها" أي الصلاة مع
الإمام بعد صلاتهما الفريضة "لكما نافلة""
والفريضة هي الأولى سواء صليت جماعة أو فرادى
لإطلاق الخبر "رواه أحمد واللفظ له والثلاثة
وصححه الترمذي وابن حبان" زاد المصنف في
التلخيص: "والحاكم والدارقطني وصححه ابن السكن
كلهم من طريق يعلي بن عطاء عن جابر بن يزيد بن
الأسود عن أبيه".
قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول، قال
البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راوٍ غير
ابنه ولا لابنه جابر راوٍ غير يعلى. قلت: يعلى
من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره.
انتهى".
وهذا الحديث وقع في مسجد الخيف، في حُجَّة
الوداع.
فدل على مشروعية الصلاة مع الإمام إذا وجده
يصلي أو سيصلي بعد أن كان قد صلى جماعة أو
فرادى، والأولى هي الفريضة والأخرى نافلة كما
صرح به الحديث.
وظاهره أنه لا يحتاج إلى رفض الأولى. وذهب إلى
هذا زيد بن علي والمؤيد وجماعة من الآل وهو
قول الشافعي.
وذهب الهادي ومالك وهو قول الشافعي إلى أن
الثانية هي الفريضة، لما أخرجه أبو داود من
حديث يزيد بن عامر: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قال: "إذا جئت الصلاة فوجدت الناس
يصلون فصل معهم إن كنت قد صليت تكن لك نافلة
وهذه مكتوبة".
وأجيب بأنه حديث ضعيف ضعفه النووي وغيره، وقال
البيهقي هو مخالف لحديث يزيد بن الأسود وهو
أصح ورواه الدارقطني بلفظ: "وليجعل التي صلى
في بيته نافلة" قال الدارقطني هذه رواية ضعيفة
شاذة وعلى هذا القول لا بدّ من الرفض للأولى
بعد دخوله في الثانية، وقيل بشرط فراغه من
الثانية صحيحة.
وللشافعي قول ثالث أن الله تعالى يحتسب بأيهما
شاء، لقول ابن عمر لمن سأله عن ذلك: "أو ذلك
إليك؟ إنما ذلك إلى الله تعالى يحتسب بأيهما
شاء" أخرجه مالك في الموطأ.
وقد عورض حديث الباب بما أخرجه أبو داود
والنسائي
(2/21)
وغيرهما عن ابن
عمر يرفعه " لا تصلوا صلاة في يوم مرتين".
ويجاب عنه بأن المنهي عنه أن يصلي كذلك على
أنهما فريضة لا على أن إحداهما نافلة، أو
المراد لا يصليهما مرتين منفرداً.
ثم ظاهر حديث الباب عموم ذلك في الصلوات كلها
وإليه ذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يعاد إلا الظهر والعشاء
أما الصبح والعصر فلا. للنهي عن الصلاة بعدهما
وأما المغرب فلأنها وتر النهار فلو أعادها
صارت شفعاً.
وقال مالك: إذا كان صلاها في جماعة لم يعدها
وإن كان صلاها منفرداً أعادها.
والحديث ظاهر في خلاف ما قاله أبو حنيفة ومالك
بل في حديث يزيد بن الأسود أن ذلك كان في صلاة
الصبح فيكون أظهر في ردّ ما قاله أبو حنيفة
ويخص به عموم النهي عن الصلاة في الوقتين.
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنما
جُعِل الإمام ليؤتمَّ به فإذا كبّر" أي
للإحرام أو مطلقاً فيشمل تكبير النقل "فكبروا
ولا تكبروا حتى يكبِّر" زاده تأكيداً لما
أفاده مفهوم الشرط كما في سائر الجمل الآتية:
"وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع" أي
حتى يأخذ من الركوع لا حتى يفرغ منه كما
يتبادر من اللفظ "وإذا قال: سمع الله لمنْ
حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد؛ وإذا سجد"
أخذ في السجود "فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجدَ
وإذا صلى قائماً فصلُّوا قياماً، وإذا صلى
قاعداً" لعذر "فصلوا قُعُوداً أَجمعين" هكذا
بالنصب على الحال وهي رواية في البخاري وأكثر
الروايات على "أجمعون" بالرفع تأكيداً لضمير
الجمع "رواه أبو داود وهذا لفظه وأصله في
الصحيحين".
إنما يفيد جعل الإمام مقصوراً على الاتصاف
بكونه مؤتماً به لا يتجاوزه المؤتم إلى
مخالفته.
والائتمام: الاقتداء والاتباع.
والحديث دل على أن شرعية الإمامة ليقتدى
بالإمام، ومن شأن التابع والمأموم أن لا يتقدم
متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه،
بل يراقب أحواله ويأتي على أثرها بنحو فعله،
ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال،
وقد فصل الحديث ذلك بقوله فإذا كبر إلى آخره.
ويقاس ما لم يذكر من أحواله كالتسليم على ما
ذكر فمن خالفه في شيء مما ذكر فقد أثم ولا
تفسد صلاته بذلك، إلا أنه إن خالف في تكبيرة
الإحرام بتقديمها على تكبيرة الإمام فإنها لا
تنعقد معه صلاته لأنه لم يجعله إماماً إذ
الدخول بها بعده وهي عنوان الاقتداء به
واتخاذه إماماً.
واستدل على عدم فساد الصلاة بمخالفته لإمامه
لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توعد من
سابق الإمام في ركوعه أو سجوده بأن الله يجعل
رأسه رأس حمار ولم يأمره بإعادة صلاته ولا قال
فإنه لا صلاة له.
ثم الحديث لم يشترط المساواة في النية فدل
أنها إذا اختلفت نية الإمام والمأموم كأن ينوي
أحدهما فرضاً والآخر نفلاً أو ينوي هذا عصراً
والآخر ظهراً أنها تصح الصلاة جماعة وإليه
ذهبت الشافعية. ـ ويأتي الكلام على ذلك في
حديث جابر في صلاة معاذ ـ.
وقوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده" يدل أنه
الذي يقوله الإمام ويقول المأموم: اللهم ربنا
لك الحمد، وقد ورد بزيادة الواو وورد بحذف
اللهم والكل جائز، والأرجح العمل بزيادة اللهم
وزيادة
(2/22)
الواو لأنهما
يفيدان معنى زائداً.
وقد احتج بالحديث من يقول إنه لا يجمع الإمام
والمؤتم بين التسميع والتحميد وهم الهادية
والحنفية، قالوا: ويشرع للإمام والمنفرد
التسميع وقد قدمنا هذا.
وقال أبو يوسف ومحمد: يجمع بينهما الإمام
والمنفرد ويقول المؤتم: سمع الله لمن حمده
لحديث أبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كان يفعل ذلك، وظاهره منفرداً وإماماً
فإن صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مؤتماً
نادرة.
ويقال عليه فأين الدليل على أنه يشمل المؤتم
فإن الذي في حديث أبي هريرة هذا أنه يحمد.
وذهب الإمام يحيى والثوري والأوزاعي إلى أنه
يجمع بينهما الإمام والمنفرد ويحمد المؤتم
لمفهوم حديث الباب إذ يفهم من قوله: "فقولوا
اللهم.." إلخ أنه لا يقول المؤتم إلا ذلك.
وذهب الشافعي إلى أنه يجمع بينهما المصلي
مطلقاً مستدلاً بما أخرجه مسلم من حديث ابن
أبي أوفى "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن
حمده اللهم ربنا لك الحمد". الحديث قال:
والظاهر عموم أحوال صلاته جماعة ومنفرداً وقد
قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما
رأيتموني أصلي" ولا حجة في سائر الروايات على
الاقتصار إذ عدم الذكر في اللفظ لا يدل على
عدم الشرعية، فقوله إذا قال الإمام سمع الله
لمن حمده لا يدل على نفي قول المؤتم سمع الله
لمن حمده، وحديث ابن أبي أوفى في حكايته لفعله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم زيادة وهي
مقبولة، لأن القول غير معارض لها.
وقد روى ابن المنذر هذا القول عن عطاء وابن
سيرين وغيرهما فلم ينفرد به الشافعي ويكون قول
سمع الله لمن حمده عند رفع رأسه وقوله ربنا لك
الحمد عند انتصابه.
وقوله: "فصلوا قعوداً أجمعين" دليل أنه يجب
متابعة الإمام في القعود لعذر وأنه يقعد
المأموم مع قدرته على القيام. وقد ورد تعليله
بأنه فعل فارس والروم أي القيام مع قعود
الإمام فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال:
"إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم
يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا" وقد
ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وإسحق وغيرهما.
وذهبت الهادوية ومالك وغيرهم إلى أنها لا تصح
متابعة القاعد لا قائماً ولا قاعداً لقوله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تختلفوا على
إمامكم ولا تتابعوه في القعود" كذا في شرح
القاضي ولم يسنده إلى كتاب ولا وجدت قوله:
"ولا تتابعوه في القعود" في حديث فينظر.
وذهب الشافعي إلى أنها تصح صلاة القائم خلف
القاعد ولا يتابعوه في القعود قالوا: لصلاة
أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
في مرض موته قياماً حين خرج وأبو بكر قد افتتح
الصلاة فقعد عن يساره فكان ذلك ناسخاً لأمره
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لهم بالجلوس في
حديث أبي هريرة فإن ذلك كان في صلاته حين جحش
وانفكت قدمه فكان هذا آخر الأمرين فتعين العمل
به كذا قرره الشافعي.
وأجيب: بأن الأحاديث التي أمرهم فيها بالجلوس
لم يختلف في صحتها ولا في سياقها. وأما صلاته
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مرض موته، فقد
اختلف فيها هل كان إماماً أو مأموماً؟،
والاستدلال بصلاته في مرض موته لا يتم إلا على
أنه كان إماماً.
ومنها: أنه يحتمل أن الأمر بالجلوس للندب،
وتقرير القيام قرينة على ذلك فيكون هذا جمعاً
بين الروايتين خارجاً عن
(2/23)
المذهبين
جميعاً، لأنه يقتضي التخيير للمؤتم بين القيام
والقعود.
ومنها أنه قد ثبت فعل ذلك عن جماعة من الصحابة
بعد وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنهم
أمّوا قعوداً أيضاً منهم أسيد بن حضير وجابر
وأفتى به أبو هريرة قال ابن المنذر: ولا يحفظ
عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.
وأما حديث "لا يؤمن أحدكم بعدي قاعداً قوماً
قياماً" فإنه حديث ضعيف أخرجه البيهقي
والدارقطني من حديث جابر الجعفي عن الشعبي عن
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
[تض]وجابر[/تض] ضعيف جداً وهو مع ذلك مرسل،
قال الشافعي: قد علم من احتج به أنه لا حجة
فيه لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم
عن الرواية عنه ـ يعني جابراً الجعفي ـ.
وذهب أحمد بن حنبل في الجمع بين الحديثين إلى
أنه ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعداً لمرض
يرجى برؤه، فإنهم يصلون خلفه قعوداً، وإذا
ابتدأ الإمام الصلاة قائماً لزم المأمومين أن
يصلوا خلفه قياماً، سواء طرأ ما يقتضي صلاة
إمامهم قاعداً أم لا، كما في الأحاديث التي في
مرض موته، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
لم يأمرهم بالقعود لأنه ابتدأ إمامهم صلاته
قائماً، ثم أمّهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
في بقية الصلاة قاعداً، بخلاف صلاته صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم بهم في مرضه الأول فإنه
ابتدأ صلاته قاعداً فأمرهم بالقعود وهو جمع
حسن.
9- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى في
أصحابه تأخراً فقال لهم: "تقدموا فائتموا بي
وليأتم بكم من بعدكم" رواه مسلم" كأنهم تأخروا
عن القرب والدنو منه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم وقوله: "ائتموا بي" أي اقتدوا بأفعالي
وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على
أفعالي.
والحديث دليل على أنه يجوز اتباع من خلف
الإمام ممن لا يراه ولا يسمعه كأهل الصف
الثاني يقتدون بالأول، وأهل الصف الثالث
بالثاني ونحوه أو بمن يبلغ عنه.
وفي الحديث حث على الصف الأول وكراهة البعد
عنه. وتمام الحديث "لا يزال قوم يتأخرون حتى
يؤخرهم الله عز وجل".
10- وعن زيد بن ثابت قال: احتجر" هو بالراء
المنع أي اتخذ شيئاً كالحجارة من الخصف وهو
الحصير ويروى بالزاي أي اتخذ حاجزاً بينه وبين
غيره أي مانعاً "رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم حجرة مخصفة فصلى فيها فتتبع
إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته" الحديث وفيه
"أَفضلُ صلاة المرءِ في بيته إلا المكتوبة"
متفق عليه" وقد تقدم في شرح حديث جابر في باب
صلاة التطوع.
وفيه دلالة على جواز فعل مثل ذلك في المسجد
إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين لأنه كان
يفعله بالليل ويبسط بالنهار، وفي رواية مسلم
"ولم يتخذه دائماً".
وقوله "فتتبع" من التتبع الطلب والمعنى طلبوا
موضعه واجتمعوا إليه، وفي رواية البخاري "فثار
إليه" وفي رواية له "فصلى فيها ليالي فصلى
بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد
فخرج إليهم فقال: قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم
فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة
صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" هذا لفظه،
وفي مسلم قريب منه.
والمصنف ساق الحديث في أبواب الإمامة لإفادة
شرعية الجماعة في النافلة وقد تقدم معناه في
التطوّع.
(2/24)
11 ـ وَعَنْ
جَابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضيَ اللَّهُ
عَنْهُما قال: صَلّى مُعَاذٌ بأَصْحَابه
العشاءَ فطَوّلَ عَلَيْهَمْ فَقَال النّبيُّ
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أتُريدُ يا
مُعاذُ أَنْ تَكُونَ فَتّاناً؟ إذا أَممْتَ
النّاسَ فَاقْرَأ بالشمس وَضُحَاهَا، وَسَبّحِ
اسْم رَبِّكَ الأعْلى، وَاقْرَأ باسْم
رَبِّكَ، وَالليّل إذا يغشى" مُتّفقٌ عَلَيْهِ
واللّفظ لِمُسْلِمٍ.
والحديث في البخاري لفظ "أقبل رجلين بناضحين
وقد جنح الليل فوافق معاذاً يصلي فترك ناضحيه
وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو النساء
فانطلق الرجل" بعد أن قطع الاقتداء بمعاذ وأتم
صلاته منفرداً، وعليه بوب البخاري بقوله: "إذا
طول الإمام وكان للرجل أي المأموم حاجة فخرج"
"وبلغه أن معاذاً نال منه" وقد جاء ما قاله
معاذ مفسراً بلفظ "فبلغ ذلك معاذاً فقال إنه
منافق" "فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فشكا إليه معاذاً فقال النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: يا معاذ أفتان أنت؟ أو
أفاتن ـ ثلاث مرات ـ فلولا صليت بسبح اسم ربك
الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه
يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة" وله في
البخاري ألفاظ غير هذه.
والمراد بفتان أي أتعذب أصحابك بالتطويل، وحمل
ذلك على كراهة المأمومين للإطالة وإلا فإنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ الأعراف في
المغرب وغيرها. وكان مقدار قيامه في الظهر
بالستين آية وقرأ بأقصر من ذلك. والحاصل أنه
يختلف ذلك باختلاف الأوقات في الإمام
والمأمومين.
والحديث دليل على صحة صلاة المفترض خلف
المتنفل فإن معاذاً كان يصلي فريضة العشاء معه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم يذهب إلى
أصحابه فيصليها بهم نفلاً. وقد أخرج عبد
الرزاق والشافعي والطحاوي من حديث جابر بسند
صحيح وفيه "هي له تطوع" وقد طول المصنف الكلام
على الاستدلال بالحديث على ذلك في فتح الباري،
وقد كتبنا فيه رسالة مستقلة جواب سؤال وأبَنّا
فيها عدم نهوض الحديث على صحة صلاة المفترض
خلف المتنفل.
والحديث أفاد أنه يخفف الإمام في قراءته
وصلاته وقد عين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
مقدار القراءة ويأتي حديث "إذا أمّ أحدكم
الناس فليخفف".
12- وعن عائشة رضي الله عنها في قصة صلاة رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالناس وهو
مريض قالت: فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر"
هكذا في رواية البخاري في "باب الرجل يأتم
بالإمام" تعيين مكان جلوسه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم وأنه عن يسار أبي بكر، وهذا
هو مقام الإمام. ووقع في البخاري في "باب حد
المريض أن يشهد الجماعة" بلفظ "جلس إلى جنبه"
ولم يعين فيه محل جلوسه، لكن قال المصنف: إنه
عين المحل في رواية بإسناد حسين "أنه عن
يساره" قلت: حيث قد ثبت في الصحيح في بعض
رواياته فهي تبين ما أجمل في أخرى، وبه يتضح
أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إماماً
"فكان" النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
"يصلي بالناس جالساً وأبو بكر" يصلي "قائماً،
يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر.
متفق عليه.
فيه دلالة على أنه يجوز وقوف الواحد عن يمين
الإمام، وإن حضر معه غيره ويحتمل أنه صنع ذلك
ليبلغ عنه أبو بكر،
(2/25)
أو لكونه كان
وإماماً أول الصلاة أو لكون الصف قد ضاق، أو
لغير ذلك من المحتملات، ومع عدم الدليل على
أنه فعل لواحد منها فالظاهر الجواز على
الإطلاق.
وقولها: "يقتدي أبو بكر" يحتمل أن يكون ذلك
الاقتداء على جهة الائتمام فيكون أبو بكر
إماماً ومأموماً ويحتمل أن يكون أبو بكر إنما
كان مبلغاً وليس بإمام.
واعلم أنه قد وقع الاختلاف في حديث عائشة وفي
غيره هل كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم إماماً أو مأموماً ووردت الروايات بما
يفيد هذا وما يفيد هذا، لكنا قدمنا ظهور أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان الإمام، فمن
العلماء من ذهب إلى الترجيح بين الروايات فرجح
أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان الإمام
لوجوه من الترجيح مستوفاة في فتح الباري. وفي
الشرح بعض من ذلك. وتقدم في شرح الحديث التاسع
بعض وجوه ترجيح خلافه.
ومن العلماء من قال بتعدد القصة وأنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى تارة إماماً وتارة
مأموماً في مرض موته.
هذا: وقد استدل بحديث عائشة هذا وقولها:
"يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر"
أن أبا بكر كان مأموماً إماماً: وقد بوب
البخاري على هذا فقال: "باب الرجل يأتم
بالإمام ويأتم الناس بالمأموم".
قال ابن بطال: هذا يوافق قول مسروق والشعبي:
أن الصفوف يؤم بعضها بعضاً خلافاً للجمهور.
قال المصنف: قال الشعبي فيمن أحرم قبل أن يرفع
الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة أنه أدركها
ولو كان الإمام رفع قبل ذلك لأن بعضهم لبعض
أئمة.
فهذا يدل أنه يرى أنهم متحملون عن بعضهم بعضاً
ما يتحمله الإمام. ويؤيد ما ذهب إليه قوله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تقدموا فأتموا
بي وليأتم بكم من بعدكم" وقد تقدم.
وفي رواية مسلم "أن أبا بكر كان يسمعهم
التكبير" دليل على أنه يجوز رفع الصوت
بالتكبير لاسماع المأمومين فيتبعونه، وأنه
يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر، وهذا مذهب
الجمهور وفيه خلاف للمالكية.
قال القاضي عياض عن مذهبهم: إن منهم من يبطل
صلاة المقتدي ومنهم من لا يبطلها ومنهم من قال
إن أذن له بالإسماع صح الاقتداء به وإلا فلا،
ولهم تفاصيل غير هذه ليس عليها دليل، وكأنهم
يقولون في هذا الحديث إن أبا بكر كان هو
الإمام ولا كلام أنه يرفع صوته لإعلام من
خلفه.
13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا أمَّ
أَحدكم النّاس فليخفف فإن فيهم الصَّغير
والكبير والضَّعيف وذا الحاجة" وهؤلاء يريدون
التخفيف فيلاحظهم الإمام "فإذا صلى وحده فليصل
كيف شاء" متفق عليه" مخففاً ومطولاً.
وفيه دليل على جواز تطويل المنفرد للصلاة في
جميع أركانها ولو خشي خروج الوقت، وصححه بعض
الشافعية، ولكنه معارض بحديث أبي قتادة "إنما
التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى"
أخرجه مسلم فإذا تعارضت مصلحة المبالغة في
الكمال بالتطويل، ومفسدة إيقاع الصلاة في غير
وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى".
ويحتمل أنه إنما يريد بالمؤخر حتى يخرج الوقت
من لم يدخل في الصلاة أصلاً حتى خرج، وأما من
خرج وهو في الصلاة فلا يصدق عليه ذلك.
(2/26)
14- وعن عمرو
بن سلمة" بكسر اللام هو أبو يزيد من الزيادة
كما قاله البخاري وغيره، وقال مسلم وآخرون:
بُريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون
المثناة التحتية فدال مهملة هو: عمرو بن سلمة
الجرمي بالجيم والراء مخفف قال ابن عبد البر:
عمرو بن سلمة أدرك زمن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم وكان يؤم قومه على عهد رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لأنه كان
أقرأهم للقرآن، وقيل إنه، قدم على النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع أبيه، ولم يختلف في
قدوم أبيه نزل عمرو البصرة وروى عنه أبو قلابة
وعامر الأحول وأبو الزبير المكي "قال: قال
أبي" أي سلمة بن نُفَيْع بضم النون أو ابن
لأيْ بفتح اللام وسكون الهمزة على الخلاف في
اسمه "جئتكم من عند النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم حقاً" نصب على صفة المصدر المحذوف أي
نبوة حقاً أو أنه مصدر مؤكد للجملة المتضمنة
إذ هو في قوة هو رسول الله حقاً فهو مصدر مؤكد
لغيره "قال: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أَحدكم
وليؤمكمْ أَكثركم قرآناً" قال: أي عمرو بن
سلمة "فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً"
وقد ورد بيان سبب أكثرية قرآنيته أنه كان
يتلقى الركبان الذين كانوا يفدون إليه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويمرون بعمرو وأهله
فكان يتلقى منهم ما يقرأونه وذلك قبل إسلام
أبيه وقومه "فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست
أو سبع سنين. رواه البخاري وأبو داود
والنسائي".
وفيه دلالة على أن الأحق بالإمامة الأكثر
قرآناً ويأتي الحديث بذلك قريباً.
وفيه أن الإمامة أفضل من الأذان لأنه لم يشترط
في المؤذن شرطاً.
وتقديمه وهو ابن سبع سنين دليل لما قاله الحسن
البصري والشافعي وإسحاق من أنه لا كراهة في
إمامة المميز.
وكرهها مالك والثوري.
وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان والمشهور عنهما
الإجزاء في النوافل دون الفرائض.
وقال بعدم صحتها الهادي والناصر وغيرهما
قياساً على المجنون قالوا: ولا حجة في قصة
عمرو هذه لأنه لم يرو أن ذلك كان من أمره
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا تقريره.
وأجيب بأن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي
ولا يقرر فيه على فعل ما لا يجوز، سيما في
الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وقد نبه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالوحي على القذى
الذي كان في نعله، فلو كان إمامة الصبي لا تصح
لنزل الوحي بذلك، وقد استدل أبو سعيد وجابر
بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل.
والوفد الذين قدّموا عمراً كانوا جماعة من
الصحابة قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفاً في
ذلك، واحتمال أنه أمهم في نافلة يبعده سياق
القصة فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علمهم
الأوقات للفرائض ثم قال لهم: "إنه يؤمكم
أكثركم قرآناً" وقد أخرج أبو داود في سننه قال
عمرو: "فما شهدت مشهداً في جرم ـ اسم قبيلة ـ
إلا كنت إمامهم" وهذا يعم الفرائض والنوافل.
قلت: يحتاج من ادّعى التفرقة بين الفرض والنفل
وأنه تصح إمامة الصبي في هذا دون ذلك إلى
دليل.
ثم الحديث فيه دليل على القول بصحة صلاة
المفترض خلف المتنفل كذا في الشرح وفيه تأمل.
15- وعن أبن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يؤمُّ
القوم أَقرؤهم لكتاب الله تعالى" الظاهر أن
المراد أكثرهم له حفظاً وقيل أعلمهم بأحكامه
(2/27)
والحديث الأول
يناسب القول الأول "فإن كانوا في القراءَة
سواءً فأَعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في
السُّنة سواءً فأَقدمهم هجرة، فإن كانوا في
الهجرة سواءً فأَقدمهم سِلْماً" أي إسلاماً،
وفي رواية "سناً" عوضاً عن سلماً "ولا يؤمن
الرجلُ الرجل في سلطانهِ، ولا يقعد في بيته
على تكرمته" بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء:
الفراش ونَحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويختص به
"إلا بإذنه" رواه مسلم".
الحديث دليل على تقديم الأقرأ على الأفقه
وهومذهب أبي حنيفة وأحمد.
وذهب الهادوية إلى أنه يقدم الأفقه على الأقرأ
لأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي
يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض له
في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاتها إلا كامل
الفقه، قالوا: ولهذا قدم صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أبا بكر على غيره مع قوله: "أقرؤكم
أبيّ" ، قالوا: والحديث خرج على ما كان عليه
حال الصحابة من أن الأقرأ هو الأفقه وقد
قال[اث] ابن مسعود[/اث]: ما كنا نتجاوز عشر
آيات حتى نعرف حكمها وأمرها ونهيها.
ولا يخفى أنه يبعد هذا قوله: "فإن كانوا في
القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" فإنه دليل على
تقديم الأقرأ مطلقاً، والأقرأ على ما فسروه به
هو الأعلم بالسنة فلو أريد به ذلك لكان
القسمان قسماً واحداً.
وقوله: "فأقدمهم هجرة" هو شامل لمن تقدم هجرة
سواء ما كان في زمنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أو بعده كمن يهاجر في دار الكفار إلى
دار الإسلام. وأما حديث "لا هجرة بعد الفتح"
فالمراد من مكة إلى المدينة لأنهما جميعاً
صارا دار إسلام ولعله يقال: وأولاد المهاجرين
لهم حكم آبائهم في التقديم.
وقوله "سلماً" أي من تقدم إسلامه يقدم على من
تأخر.
وكذا رواية "سناً" أي الأكبر في السن وقد ثبت
في حديث مالك بن الحويرث "ليؤمكم أكبركم".
ومن الذين يستحقون التقديم قريش لحديث "قدموا
قريشاً": قال الحافظ المصنف: إنه قد جمع طرقه
في جزء كبير.
ومنهم الأحسن وجهاً لحديث ورد به وفيه راو
ضعيف.
وأما قوله: "ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه"
فهو نهي عن تقديم غير السلطان عليه والمراد ذو
الولاية سواء كان السلطان الأعظم أو نائبه
وظاهره وإن كان غيره أكثر قرآناً وفقهاً فيكون
هذا خاصاً، وأول الحديث عام، ويلحق بالسلطان
صاحب البيت لأنه ورد في صاحب البيت بخصوصه
بأنه الأحق. أخرج الطبراني من حديث ابن مسعود:
"لقد علمت أن من السنة أن يتقدم صاحب البيت".
قال المصنف: رجاله ثقات.
وأما إمام المسجد فإن كان عن ولاية من السلطان
أو عامله فهو داخل في حكم السلطان وإن كان
باتفاق من أهل المسجد فيحتمل أنه يصير بذلك
أحق وأنها ولاية خاصة، وكذلك النهي عن القعود
مما يختص به السلطان في منزله أو الرجل من
فراش وسرير ونحوه ولا يقعد فيه أحد إلا بإذنه،
ونحوه قوله:
16- ولابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه
"ولا تؤمنَّ امرأة رجلا، ولا أعرابيٌّ
مهاجراً، ولا فاجرٌ مؤمناً" وإسناده واه".
فيه عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد بن
جدعان، والعدوي، اتهمه وكيع بوضع الحديث،
وشيخه ضعيف، وله طرق أخرى فيها عبد الملك ابن
حبيب، وهو متهم بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد.
وهو يدل على
(2/28)
أن المرأة لا
تؤم الرجل وهو مذهب الهادوية والحنفية
والشافعية وغيرهم.
وأجاز المزني وأبو ثور إمامة المرأة.
وأجاز الطبري إمامتها في التراويح إذا لم يحضر
من يحفظ القرآن، وحجتهم حديث أمِّ ورقة وسيأتي
ويحملون هذا النهي على التنزيه أو يقولون
الحديث ضعيف.
ويدل أيضاً على أنه لا يؤم الأعرابي مهاجراً
ولعله محمول على الكراهة إذ كان في صدر
الإسلام.
ويدل أيضاً على أنه لا يؤم الفاجر وهو المنبعث
في المعاصي مؤمناً، وإلى هذا ذهبت الهادوية
فاشترطوا عدالة من يصلي خلفه، وقالوا: لا تصح
إمامة الفاسق.
وذهبت الشافعية والحنفية إلى صحة إمامته
مستدلين بما يأتي من حديث ابن عمر وغيره، وهي
أحاديث كثيرة دالة على صحة الصلاة خلف كل برّ
وفاجر إلا أنها كلها ضعيفة وقد عارضها حديث:
"لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه". ونحوه، وهي
أيضاً ضعيفة، قالوا: فلما ضعفت الأحاديث من
الجانبين رجعنا إلى، الأصل وهي أن من صحت
صلاته صحت إمامته.
وأيّد ذلك فعل الصحابة فإنه أخرج البخاري في
التاريخ عن عبد الكريم أنه قال: "أدركت عشرة
من أصحاب محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
يصلون خلف أئمة الجور".
ويؤيده أيضاً حديث مسلم: "وكيف أنت إذا كان
عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون
الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال:
صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها
لك نافلة". فقد أذن بالصلاة خلفهم وجعلها
نافلة لأنهم أخرجوها عن وقتها،وظاهره أنهم لو
صلوها في وقتها لكان مأموراً بصلاتها خلفهم
فريضة.
17- وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "رصُّوا" أي في صلاة
الجماعة بضم الراء والصاد المهملة من رص
البناء "صُفوفكمُ" بانضمام بعضكم إلى بعض
"وقاربوا بينها" أي بين الصفوف "وحاذوا" أي
يساوي بعضكم بعضاً في الصف "بالأعناق" رواه
أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان" تمام
الحديث من سنن أبي داود "فوالذي نفسي بيده إني
لأرى الشياطين تدخل في خلل الصف كأنها الحذف"
بفتح الحاء المهملة والذال المعجمة هي صغار
الغنم.
وأخرج الشيخان وأبو داود من حديث النعمان بن
بشير قال: أقبل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم على الناس بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم
ثلاثاً والله لتقيمنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله
بين قلوبكم" قال فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب
صاحبه وكعبه بكعبه" وأخرج[اث] أبو داود[/اث]
عنه أيضاً قال: "كان النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يسوّينا في الصفوف كما يقوّم
القداح حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه
وفقهنا: أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبذ
بصدره فقال: "لتسونّ صفوفكم أو ليخالفن الله
بين وجوهكم" وأخرج أيضاً من حديث [اث]البراء
بن عازب[/اث] رضي الله عنه قال: "كان رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتخلل الصف
من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا
ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم".
وهذه الأحاديث والوعيد الذي فيها دالة على
وجوب ذلك وهو مما تساهل فيه الناس، كما
تساهلوا فيما يفيده حديث أنس عنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم "أتموا الصف المقدم ثم الذي
يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر"
أخرجه أبو داود؛ فإنك ترى الناس في المسجد
يقومون للجماعة وهم لا يملؤن الصف الأول لو
قاموا فيه فإذا أقيمت الصلاة يتفرقون صفوفاً
على اثنين وعلى
(2/29)
ثلاثة ونحوه.
وأخرج أبو داود من حديث جابر بن سمرة قال: قال
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا
تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف
تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف
المقدمة ويتراصون في الصف" .
وورد في سدّ الفُرج في الصفوف أحاديث. كحديث
ابن عمر "ما من خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها
الرجل في فرجة في الصف فسدّها" أخرجه الطبراني
في الأوسط، وأخرج أيضاً فيه من حديث عائشة قال
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من سدّ فرجة في
صف رفعه الله بها درجة وبنى له بيتاً في
الجنة" قال الهيثمي: فيه مسلم بن خالد الزنجي
وهو ضعيف وثقه ابن حبان وأخرج البزار من حديث
أبي جحيفة عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
"من سد فرجة في الصف غفر له" قال الهيثمي:
إسناده حسن ويغني عنه "رصوا صفوفكم" الحديث،
إذ الفرج إنما تكون من عدم رصهم الصفوف.
18- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: خير صفوف
الرجال أَوَّلها" أي أكثرها أجراً وهو الصف
الذي يصلي الملائكة على من صلى فيه كما يأتي
"وشرُّها آخرها" أقلها أجراً "وخير صفوف
النساء آخرها وشرُّها أوَّلها" رواه مسلم"
ورواه أيضاً البزار والطبراني في الكبير
والأوسط.
والأحاديث في فضائل الصف الأول واسعة. أخرج
أحمد ـ قال الهيثمي: رجاله موثقون ـ والطبراني
في الكبير من حديث أبي أمامة قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن الله
وملائكته يصلون على الصف الأول" قالوا: يا
رسول الله وعلى الثاني؟ قال: "وعلى الثاني".
وأخرج أحمد والبزار ـ قال[اث] الهيثمي[/اث]:
برجال ثقات ـ من حديث[اث] النعمان بن
بشير[/اث] قال: سمعت رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم استغفر للصف الأول ثلاثاً،
وللثاني مرتين، وللثالث مرة". قال الهيثمي:
فيه[تض] أيوب بن عتبة[/تض] ضعف من قبل حفظه.
ثم قد ورد في ميمنة الصف الأول ومسامتة الإمام
وأفضليته على الأيسر أحاديث، فأخرج الطبراني
في الأوسط من حديث أبي بردة قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن استطعت
أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه" قال
الهيثمي: فيه من لم أجد له ذكراً. وأخرج أيضاً
في الأوسط والكبير من حديث[اث] ابن عباس[/اث]:
"عليكم بالصف الأول وعليكم بالميمنة وإياكم
والصف بين السواري" قال الهيثمي: فيه[تض]
إسماعيل بن مسلم[/تض] المكي ضعيف.
واعلم أن الأحق بالصف الأول أولو الأحلام
والنّهى، فقد أخرج البزار من حديث عامر بن
ربيعة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "ليليني منكم أهل الأحلام والنهى ثم
الذين يلونهم" قال الهيثمي: فيه عاصم [تض]ابن
عبيد الله العمري[/تض] والأكثر على تضعيفه
واختلف في الاحتجاج به: وأخرجه مسلم والأربعة
من حديث ابن مسعود بزيادة "ولا تختلفوا فتختلف
قلوبكم وإياكم وهيشات الأسواق".
وفي الباب أحاديث غيره.
وفي حديث الباب دلالة على جواز اصطفاف النساء
صفوفاً، وظاهره سواء كانت صلاتهن مع الرجال أو
مع النساء، وقد علل خيرية آخر صفوفهن بأنهن
عند ذلك يبعدن عن الرجال وعن رؤيتهم وسماع
كلامهم إلا أنها علة لا تتم
(2/30)
إلا إذا كانت
صلاتهن مع الرجال، وإما إذا صلين وإمامتهن
امرأة فصفوفهن كصفوف الرجال أفضلها أولها.
19- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صليت مع
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذات
ليلة" هي ليلة مبيته عنده المعروفة "فقمت عن
يساره فأخذ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه .
متفق عليه".
دل على صحة صلاة المتنفل بالمتنفل، وعلى أن
موقف الواحد مع الإمام عن يمينه، بدليل
الإدارة، إذ لو كان اليسار موقفاً له لما
أداره في الصلاة.
وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال:
إذا كان الإمام وواحد، قام الواحد خلف الإمام،
فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه،
أخرجه سعيد بن منصور، ووجه بأن الإمامة مظنة
الاجتماع فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر
خلاف ذلك.
قيل: ويدل على صحة صلاة من قام عن يسار الإمام
لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمر ابن
عباس بالإعادة، وفيه أنه يجوز أنه لم يأمره
لأنه معذور بجهله، أو بأنه ما كان قد أحرم
بالصلاة.
ثم قوله: "فجعلني عن يمينه" ظاهر في أنه قام
مساوياً له، وفي بعض ألفاظه "فقمت إلى جنبه".
وعن بعض أصحاب الشافعي أنه يستحب أن يقف
المأموم دونه قليلاً. إلا أنه قد أخرج ابن
جريج قال: قلنا لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل
أين يكون منه؟ قال: إلى شقه، قلت: أيحاذيه حتى
يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم: قلت:
بحيث أن لا يبعد حتى يكون بينهما فرجه، قال:
نعم. ومثله في الموطأ عن عمر من حديث ابن
مسعود أنه صف معه فقربه حتى جعله حذاءه عن
يمينه.
20- وعن أنس رضي الله عنه قال: صلى رسول صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقمت ويتيم خلفه" فيه
العطف على المرفوع المتصل من دون تأكيد ولا
فصل وهو صحيح على مذهب الكوفيين، واسم اليتيم
ضميره وهو جدّ حسين ابن عبد الله بن ضميرة
"وأمّ سليم" هي أمّ أنس واسمها مليكة مصغراً
"خلفنا" متفق عليه واللفظ للبخاري".
دل الحديث على صحة الجماعة في النفل.
وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه
القصة.
وعلى أن مقام الاثنين خلف الإمام.
وعلى أن الصغير يعتد بوقوفه ويسد الجناح وهو
الظاهر من لفظ اليتيم إذ لا يتم بعد الاحتلام.
وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال وأنها تنفرد
في الصف، وإن عدم امرأة تنضم إليها عذر في
ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها
لأنه ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر
وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها
لو صلت في غيره.
وعند الهادوية أنها تفسد عليها وعلى من خلفها
وعلى من في صفها إن علموا.
وذهب أبو حنيفة إلى فساد صلاة الرجل دون
المرأة ولا دليل على الفساد في الصورتين.
21- وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو راكع
فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "زادك الله
حرْصاً" أي على طلب الخير "ولا تعد"" بفتح
المثناة الفوقية من العود "رواه البخاري وزاد
أبو داود في
(2/31)
"فركع دون الصف
ثم مشى إلى الصف"".
الحديث يدل على أن من وجد الإمام راكعاً فلا
يدخل في الصلاة حتى يصل الصف لقوله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم "ولا تعد".
وقيل: بل يدل على أنه يصح منه ذلك لأنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمره بالإعادة
لصلاته، فدل على صحتها، قلت: لعله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمره لأنه كان جاهلاً
للحكم والجهل عذر.
وروى الطبراني في الأوسط من رواية عطاء عن ابن
الزبير ـ قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ـ
أنه قال: "إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع
فليركع حين يدخل ثم يدب راكعاً حتى يدخل في
الصف فإن ذلك السنة". قال عطاء: قد رأيته يصنع
ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك.
قلت: وكأنه مبني على أن لفظ "ولا تُعِدْ" بضم
المثناة الفوقية من الإعادة أي زادك الله
حرصاً على طلب الخير ولا تعد صلاتك فإنها
صحيحة.
وروى بسكون العين المهملة من العدو وتؤيده
رواية ابن السكن من حديث أبي بكرة بلفظ: أقيمت
الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف فلما
قضى الصلاة قال: من الساعي آنفاً؟ قال أبو
بكرة: فقلت: أنا، قال صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "زادك الله حرصاً ولا تَعْد".
والأقرب رواية أن "لا تَعُد" من العود أي لا
تعد ساعياً إلى الدخول قبل وصولك الصف فإنه
ليس في الكلام ما يشعر بفساد صلاته حتى يفتيه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه لا يعيدها
بل قوله زادك الله حرصاً يشعر بإجزائها. أو
"لا تعْدُ" من العدو.
22- وعن وابِصَة" بفتح الواو وكسر الموحدة
فصاد مهملة وهو أبو قرصافة بكسر القاف وسكون
الراء فصاد مهملة وبعد الألف فاء "ابن مِعْبد
رضي الله عنه" بكسر الميم وسكون العين المهملة
فدال مهملة وهو ابن مالك من بني أسد بن خزيمة
الأنصاري الأسدي نزل وابصة الكوفة ثم تحول إلى
الحيرة ومات بالرقة "أن رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم رأى رجلاً يصلي خلف الصف
وحده فأمره أن يعيد الصلاة. رواه أحمد وأبو
داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان".
فيه دلالة على بطلان صلاة من صلى خلف الصف
وحده، وقد قال ببطلانها النخعي وأحمد.
وكان الشافعي يضعف هذا الحديث ويقول: لو ثبت
هذا الحديث لقلت به، قال البيهقي: الاختيار أن
يتوقى ذلك لثبوت الخبر المذكور.
ومن قال بعدم بطلانها استدل بحديث أبي بكرة
وأنه لم يأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
بالإعادة، مع أنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف
منفرداً، قالوا: فيحمل الأمر بالإعادة ههنا
على الندب.
قيل: والأولى أن يحمل حديث أبي بكرة على العذر
وهو خشية الفوات مع انضمامه بقدر الإمكان،
وهذا لغير عذر في جميع الصلاة.
"قلت": وأحسن منه أن يقال هذا لا يعارض حديث
أبي بكرة بل يوافقه وإنما لم يأمر صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أبا بكرة بالإعادة لأنه كان
معذوراً بجهله ويحمل أمره بالإعادة لمن صلى
خلف الصف بأنه كان عالماً بالحكم ويدل على
البطلان أيضاً ما تضمنه قوله:
23- وله" أي لابن حبان "عن طلق بن علي رضي
الله عنه" الذي سلف ذكره " "لا صلاة لمنفرد
خلف الصَّفِّ" " فإن النفي ظاهر في نفي الصحة
"وزاد الطبراني في حديث وابصة "ألا دخلت" أيها
المصلي منفرداً عن الصف "معَهُمْ" أي في الصف
"أو اجْتررت
(2/32)
رجُلا" أي من
الصف فينضم إليك وتمام حديث الطبراني "إن ضاق
بك المكان أعد صلاتك فإنه لا صلاة لك" وهو في
مجمع الزوائد من رواية ابن عباس "إذا انتهى
أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلاً
يقيمه إلى جنبه" وقال: رواه الطبراني في
الأوسط وقال: لا يروى عن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم إلا بهذا الإسناد، وفيه[تض]
"السري بن إبراهيم"[/تض] وهو ضعيف جداً؛ ويظهر
من كلام مجمع الزوائد أن في حديث وابصة؛ السري
بن إسماعيل وهو ضعيف، والشارح ذكر أن السري في
رواية الطبراني التي فيها الزيادة إلا أنه قد
أخرج أبو داود في المراسيل من رواية مقاتل بن
حيان مرفوعاً "إذا جاء أحدكم فلم يجد موضعاً
فليختلج إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما
أعظم أجر المختلج" وأخرج الطبراني في الأوسط
من حديث ابن عباس "أن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أمر الآتي وقد تمت الصفوف
بأن يجتذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه" ،
وإسناده واه.
24- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا
سمعتم الإقامة" أي للصلاة "فامشوا إلى
الصَّلاة وعليكم السكينة" قال النووي: السكينة
التأني في الحركات واجتناب العبث "والوقار" في
الهيئة كغض الطرف وخفض الصوت وعدم الالتفات،
وقيل معناهما واحد وذكر الثاني تأكيداً وقد
نبه في رواية مسلم على الحكمة في شرعية هذا
الأدب بقوله في آخر حديث أبي هريرة هذا "فإن
أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فإنه في صلاة"
أي فإنه في حكم المصلي، فينبغي اعتماد ما
ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له
اجتنابه "ولا تسرعوا فما أدركْتُم" من الصلاة
مع الإمام "فصلوا وما فاتكم فأتموا" متفق عليه
واللفظ للبخاري".
فيه الأمر بالوقار وعدم الإسراع في الإتيان
إلى الصلاة، وذلك لتكثير الخطأ فينال فضيلة
ذلك فقد ثبت عند مسلم من حديث جابر "إن بكل
خطوة يخطوها إلى الصلاة درجة" وعند أبي داود
مرفوعاً "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج
إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله
له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه
سيئة فليقرب أحدكم أو ليبعد فإن أتى المسجد
فصلى في جماعة غفر له، فإن جاء وقد صلوا بعضاً
وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك
وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة، كان
كذلك".
وقوله "فما أدركتم فصلوا" جواب شرط محذوف أي:
إذا فعلتم ما أمرتم به من ترك الإسراع ونحوه
فما أدركتم فصلوا.
وفيه دلالة على أن فضيلة الجماعة يدركها ولو
دخل مع الإمام في أي جزء من أجزاء الصلاة ولو
دون ركعة وهو قول الجمهور.
وذهب آخرون إلى أنه لا يصير مدركاً لها إلا
بإدراك ركعة لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها"
وسيأتي في الجمعة اشتراط إدراك ركعة ويقاس
عليها غيرها.
وأجيب بأن ذلك في الأوقات لا في الجماعة وبأن
الجمعة مخصوصة فلا يقاس عليها.
واستدل بحديث الباب على صحة الدخول مع الإمام
في أي حالة أدركه عليها، وقد أخرج ابن أبي
شيبة مرفوعاً "من وجدني راكعاً أو قائماً أو
ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها".
قلت: وليس فيه دلالة على اعتداده بما أدركه مع
الإمام، ولا على
(2/33)
إحرامه في أي
حالة أدركه عليها، بل فيه الأمر بالكون معه،
وقد أخرج الطبراني في الكبير برجال موثقين ـ
كما قال الهيثمي ـ عن علي وابن مسعود قالا:
"من لم يدرك الركعة فلا يعتد بالسجدة" وأخرج
أيضاً في الكبير ـ قال الهيثمي أيضاً برجال
موثقين ـ من حديث زيد بن وهب قال: دخلت أنا
وابن مسعود المسجد والإمام راكع فركعنا، ثم
مشينا حتى استوينا بالصف فلما فرغ الإمام قمت
أقضي فقال: قد أدركته.
وهذه آثار موقوفة، وفي الآخر دليل ـ أي مأنوس
ـ بما ذهب، وهو أحد احتمالات حديث أبي بكرة
وإلا فإنها آثار موقوفة ليست بأدلة على ما ذهب
إليه ابن الزبير وقد تقدم.
وورد في بعض الروايات حديث الباب بلفظ
"فاقضوا" عوض "أتموا" والقضاء يطلق على أداء
الشيء فهو في معنى "أتموا" فلا مغايرة.
ثم قد اختلف العلماء فيما يدركه اللاحق مع
إمامه هل هي أول صلاته أو آخرها؟ والحق أنها
أولها وقد حققناه في حواشي ضوء النهار.
واختلف فيما إذا أدرك الإمام راكعاً فركع معه
هل تسقط قراءة تلك الركعة عند من أوجب الفاتحة
فيعتد بها أو لا تسقط فلا يعتد بها؟ قيل: يعتد
بها لأنه قد أدرك الإمام قبل أن يقيم صلبه،
وقيل: لا يعتد بها لأنه فاتته الفاتحة وقد
بسطنا القول في ذلك في مسألة مستقلة وترجح
عندنا الإجزاء.. ومن أدلته حديث أبي بكرة حيث
ركع وهم ركوع، ثم أقره صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم على ذلك وإنما نهاه عن العودة إلى
الدخول قبل الانتهاء إلى الصف كما عرفت.
25- وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلاة
الرَّجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده" أي أكثر
أجراً من صلاته منفرداً "وصلاتهُ مع الرجلين
أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو
أحبُّ إلى الله عزَّ وجلَّ" رواه أبو داود
والنسائي وصححه ابن حبان" وأخرجه ابن ماجه،
وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم، وذكر
الاختلاف فيه، وأخرجه البزار والطبراني بلفظ
"صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله
من صلاة مائة تترى".
وفيه دلالة على أن أقل صلاة الجماعة إمام
ومأموم، ويوافقه ما أخرجه ابن ماجه من حديث
أبي موسى "اثنان فما فوقهما جماعة" ورواه
البيهقي أيضاً من حديث أنس وفيهما ضعف.
وبوَّب البخاري "باب اثنان فما فوقهما جماعة"
واستدل بحديث مالك ابن الحويرث "إذا حضرت
الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما".
وقد روى أحمد من حديث أبي سعيد: أنه دخل
المسجد رجل وقد صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم بأصحابه الظهر فقال له النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما حبسك يا فلان عن
الصلاة"؟ فذكر شيئاً اعتل به؛ قال: فقام يصلي،
فقال رسول اللهصَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟" فقام رجل
معه. قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
26- وعن أم ورقة رضي الله عنها" بفتح الواو
والراء والقاف هي أم ورقة بنت نوفل الأنصارية،
(2/34)
وقيل بنت عبد
الله بن الحرث بن عويمر كان رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم يزورها ويسميها
الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن، وكانت تؤم أهل
دارها، ولما غزا رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم بدراً قالت: يا رسول الله
ائذن لي في الغزو معك ـ الحديث ـ وأمرها أن
تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذناً يؤذن، وكان لها
غلام وجارية فدبرتهما، وفي الحديث أن الغلام
والجارية قاما إليها في الليل بقطيفة لها حتى
ماتت، وذهبا فأصبح عمر فقام في الناس فقال: من
عنده من علم هذين أو من رآهما فليجيء بهما
فوجدا فأمر بهما فصلبهما وكانا أول مصلوب
بالمدينة "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أمرها أن تؤم أهل دارها . رواه أبو
داود وصححه ابن خزيمة".
والحديث دليل على صحة إمامة المرأة أهل دارها،
وإن كان فيهم الرجل، فإنه كان لها مؤذن وكان
شيخاً كما في الرواية، والظاهر أنها كانت تؤمه
وغلامها وجاريتها، وذهب إلى صحة ذلك أبو ثور
والمزني والطبري.
وخالف في ذلك الجماهير.
وأما إمامة الرجل النساء فقط فقد روى عبد الله
بن أحمد من حديث أبي بن كعب: أنه جاء إلى
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: يا
رسول الله عملت الليلة عملاً قال: "ما هو؟"
قال: نسوة معي في الدار، قلن إنك تقرأ ولا
نقرأ فصلّ بنا، فصليت ثمانياً والوتر، فسكت
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال:
فرأينا أن سكوته رضا". قال الهيثمي: في إسناده
من لم يُسَمَّ قال: ورواه أبو يعلى والطبراني
في الأوسط وإسناده حسن.
27- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم استخلف ابن أمّ مكتوم" وتقدم
اسمه في الأذان "يؤمّ الناس وهو أعمى . رواه
أحمد وأبو داود" في رواية لأبي داود أنه
استخلفه مرتين وهو في الأوسط للطبراني من حديث
عائشة: استخلف النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم ابن أمّ مكتوم على المدينة مرتين يؤمّ
الناس.
والمراد استخلافه في الصلاة وغيرها، وقد أخرجه
الطبراني بلفظ في الصلاة وغيرها وإسناده حسن
وقد عدّت مرات الاستخلاف له فبلغت ثلاث عشرة
مرة، ذكره في الخلاصة.
والحديث دليل على صحة إمامة الأعمى من غير
كراهة في ذلك.
28 ـ "ونحوه" أي حديث أنس "لابن حبان عن عائشة
رضي الله عنها" تقدم أنه أخرجه الطبراني في
الأوسط.
29- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: " صلوا على
من قال لا إله إلا الله" أي صلاة الجنازة
"وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله" رواه
[تض]الدارقطني[/تض] بإسناد ضعيف" قال في البدر
المنير: هذا الحديث من جميع طرقه لا يثبت.
وهو دليل على أنه يصلي عن من قال كلمة الشهادة
وإن لم يأت بالواجبات وذهب إلى هذا زيد بن علي
وأحمد بن عيسى وذهب إليه أبو حنيفة إلا أنه
استثنى قاطع الطريق والباغي.
وللشافعي أقوال في قاطع الطريق إذا صلب.
والأصل أن من قال كلمة الشهادة فله ما
للمسلمين ومنه صلاة الجنازة عليه. ويدل له
حديث: الذي قتل نفسه بمشاقص فقال صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "أما أنا فلا أصلي عليه"
ولم ينههم عن الصلاة عليه، ولأن عموم شرعية
(2/35)
صلاة الجنازة
لا يخص منه أحد من أهل كلمة الشهادة إلا
بدليل.
فأما الصلاة خلف من قال لا إله إلا الله فقد
قدّمنا الكلام في ذلك وأنه لا دليل على اشتراط
العدالة وأن من صحت صلاته صحت إمامته.
30ـ وَعَنْ عليَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
قالَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"إذا أَتى أَحَدُكمُ الصَّلاةَ والإمَامُ عَلى
حَالٍ فَلْيَصْنعْ كما يَصْنَعُ الإمامُ"
رَوَاهُ التِّرمذيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ.
أخرجه الترمذي من حديث علي ومعاذ وفيه ضعف
وانقطاع وقال: لا نعلم أحداً أسنده إلا من هذا
الوجه وقد أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن
بن أبي ليلى قال: حدّثنا أصحابنا. الحديث.
وفيه أنّ معاذاً قال: لا أراه على حال إلا كنت
عليها. وبهذا يندفع الانقطاع؛ إذا الظاهر أن
الراوي لعبد الرحمن غير معاذ بل جماعة من
الصحابة والانقطاع إنما ادعي بين عبد الرحمن
ومعاذ، قالوا: لأن عبد الرحمن لم يسمع من معاذ
وقد سمع من غيره من الصحابة وقال هنا
"أصحابنا" والمراد به الصحابة رضي الله عنهم.
وفي الحديث دلالة على أنه يجب على من لحق
بالإمام أن ينضم إليه في أي جزء كان من أجزاء
الصلاة: فإذا كان الإمام قائماً أو راكعاً،
فإنه يعتد بما أدركه معه كما سلف، فإذا كان
قاعداً أو ساجداً قعد بقعود وسجد بسجوده ولا
يعتد بذلك، وتقدم ما يؤيده من حديث ابن أبي
شيبة. "ومن وجدني قائماً أو راكعاً أو ساجداً
فليكن معي على حالتي التي أنا عليها".
وأخرج ابن خزيمة مرفوعاً عن أبي هريرة "إذا
جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدّوها شيئاً ومن
أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" وأخرج أيضاً فيه
مرفوعاً عن أبي هريرة: "ومن أدرك ركعة من
الصلاة قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدركها"
وترجم له "باب ذكر الوقت الذي يكون فيه
المأموم مدركاً للركعة إذا ركع إمامه".
وقوله "فليصنع كما يصنع الإمام" ليس صريحاً
أنه يدخل معه بتكبيرة الإحرام بل ينضم إليه
إما بها إذا كان قائماً أو راكعاً فيكبر
اللاحق من القيام ثم يركع أو بالكون معه فقط
ومتى قام كبر للإحرام، وغايته أنه يحتمل ذلك
إلا أن شرعية تكبيرة الإحرام حال القيام
للمنفرد والإمام، يقضي أن لا تجزيء إلا كذلك،
وذلك أصرح من دخولها بالاحتمال والله أعلم.
"فائدة في الأعذار في ترك الجماعة": أخرج
الشيخان عن ابن عمر عن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنه كان يأمر المنادي
فينادي صلوا في رحالكم في الليلة الباردة وفي
الليلة المطيرة في السفر". وعن جابر: "خرجنا
مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في
سفر فمطرنا فقال ليصل من شاء منكم في رحله" .
رواه مسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وأخرجه
الشيخان عن ابن عباس: أنه قال لمؤذنه في يوم
مطير إذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله فلا
تقل: حي على الصلاة. قل: صلوا في بيوتكم. قال:
فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: أتعجبون من ذا؟
فقد فعل ذا من هو خير مني يعني ـ النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم ـ وعند مسلم: أن ابن
عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير
بنحوه.
وأخرج البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا كان أحدكم
على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه
(2/36)
وإن أقيمت
الصلاة".
وأخرج أحمد ومسلم من حديث عائشة قالت: سمعت
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "لا
صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافع الأخبثين" .
وأخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: "من فقه
الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته
وقلبه فارغ".
(2/37)
باب صلاة المسافر والمريض
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما فرضت
الصلاة" ما عدا المغرب "ركعتين" أي حضراً
وسفراً "فأقرت" أي أقر الله "صلاة السفر"
بإبقائها ركعتين "وأتمت صلاة الحضر" ما عدا
المغرب، يزيد في الثلاث الصلوات ركعتين،
والمراد بأتمت: زيد فيها حتى كانت تامة بالنظر
إلى صلاة السفر متفق عليه:، وللبخاري" وحده عن
عائشة "ثم هاجر" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم "ففرضت أربعاً" أي صارت أربعاً بزيادة
اثنتين. "وأقرت صلاة السفر على الأول" أي على
الفرض الأول "زاد أحمد: إلا المغرب" أي زاده
من رواية عن عائشة بعد قولها: أول ما فرضت
الصلاة أي إلا المغرب فإنها فرضت ثلاثاً
"فإنها" أي المغرب "وتر النهار" ففرضت وتراً
ثلاثاً من أول الأمر "وإلا الصبح فإنها تطوَّل
فيها القراءة".
في هذا الحديث دليل على وجوب القصر في السفر
لأن "فرضت" بمعنى وجبت، ووجوبه مذهب الهادوية
والحنفية وغيرهم.
وقال الشافعي وجماعة: إنه رخصة والتمام أفضل
وقالوا: فرضت بمعنى قدرت أو فرضت لمن أراد
القصر. واستدلوا بقوله تعالى: { فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ } . وبأنه سافر أصحاب رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم معه فمنهم من
يقصر ومنهم من يتم ولا يعيب بعضهم على بعض،
وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة أخرج ذلك
مسلم.
وردَّ بأن هذه أفعال صحابة لا حجة فيها، وبأنه
أخرج الطبراني في الصغير من حديث ابن عمر
موقوفاً "صلاة السفر ركعتان نزلتا من السماء
فإن شئتم فردوهما" قال الهيثمي: رجاله
موثوقون، وهو توقيف إذ لا مسرح فيه للاجتهاد،
وأخرج أيضاً عنه في الكبير برجال الصحيح "صلاة
السفر ركعتان من خالف السنة كفر".
وفي قوله "السنة" دليل على رفعه كما هو معروف،
قال ابن القيم في الهدى النبوي: كان يقصر
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الرباعية فيصليها
ركعتين من حين يخرج مسافراً إلى أن يرجع إلى
المدينة ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في
السفر البتة.
وفي قولها "إلا المغرب" دلالة على أن شرعيتها
في الأصل ثلاثاً لم تتغير.
وقولها "إنها وتر النهار" أي صلاة النهار كانت
شفعاً والمغرب آخرها لوقوعها في آخر جزء من
النهار فهي وتر صلاة النهار، كما أنه شرع
الوتر لصلاة الليل، والوتر محبوب إلى الله
تعالى كما تقدم في الحديث "إن الله وتر يحب
الوتر".
وقولها: "إلا الصبح فإنها تطوَّل فيها
القراءة". تريد أن لا يقصر في صلاتها، فإنها
ركعتان حضراً وسفراً، لأنه شرع فيها تطويل
القراءة ولذلك عبر عنها في الآية بقرآن الفجر
لما كانت معظم أركانها لطولها فيها فعبر عنها
بها من إطلاق الجزء الأعظم على الكل.
2- وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقْصُر في السفر
ويتم؛
(2/37)
ويصوم ويُفْطر"
الأربعة الأفعال بالمثناة التحتية أي أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يفعل هذا
وهذا "رواه الدارقطني ورواته" من طريق عطاء عن
عائشة "ثقات إلا أنه معلول والمحفوظ عن عائشة
من فعلها، وقالت: إنه لا يشق عليّ. أخرجه
البيهقي".
واستنكره أحمد فإن عروة روى عنها أنها كانت
تتم وأنها تأولت كما تأول عثمان كما في
الصحيح، فلو كان عندها عن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم رواية، لم يقل عروة إنها
تأولت، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك. وأخرج
أيضاً الدارقطني عن عطاء، والبيهقي عن عائشة:
أنها اعتمرت معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا
رسول الله بأبي أنت وأمي أتممت وقصرت. وأفطرت
وصمت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليَّ.
قال ابن القيم: وقد روى "كان يقصر وتتم" الأول
بالياء آخر الحروف والثاني بالمثناة من فوق
وكذلك يفطر وتصوم أي تأخذ هي بالعزيمة في
الموضعين قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل، ما
كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم وجميع أصحابه فتصلي خلاف
صلاتهم، وفي الصحيح عنها "إن الله فرض الصلاة
ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم إلى المدينة زيد في صلاة
الحضر وأقرت صلاة السفر" فكيف يظن بها مع ذلك
أنها تصلي خلاف صلاته وصلاة المسلمين معه؟
قلت: وقد أتمت عائشة بعد موته صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم قال ابن عباس وغيره: إنها
تأولت كما تأول عثمان اهـ.
هذا وحديث الباب قد اختلف في اتصاله فإنه من
رواية عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة قال
الدارقطني: إنه أدرك عائشة وهو مراهق قال
المصنف رحمه الله: هو كما قال ففي تاريخ
البخاري وغيره ما يشهد لذلك، وقال أبو حاتم:
أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها وادعى ابن
أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها واختلف قول
الدارقطني في الحديث فقال في السنن: إسناده
حسن؛ وقال في العلل: المرسل أشبه. هذا كلام
المصنف: ونقله الشارح.
وراجعت سنن الدارقطني فرأيته ساقه وقال: إنه
صحيح ثم فيه العلاء ابن زهير وقال الذهبي في
الميزان: وثقه ابن معين وقال ابن حبان: كان
ممن يروي عن الثقات مما لا يشبه حديث الأثبات
اهـ. فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات
وبطل بهذا ادعاء ابن حزم جهالته فقد عرف عيناً
وحال وقال ابن القيم بعد روايته لحديث عائشة
هذا ما لفظه: وسمعت شيخ الإسلام يقول: هذا كذب
على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
أهـ. يريد رواية يَقْصر ويُتم بالمثناة
التحتية وجعل ذلك من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم فإنه ثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم بأنه لم يُتم رباعية في سفر ولا صام
فيه فرضاً.
3 ـ وَعن ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما
قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: " إنَّ الله يُحِبُّ أنْ تُؤْتَى
رُخَصُهُ كما يكرَهُ أن تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ"
رواهُ أَحمدُ وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزيْمَةَ
وابْنُ حِبّان، وفي روايةٍ "كما يُحِبُّ أَنْ
تُؤْتَى عَزَائِمُهُ".
فسرت محبة الله برضاه وكراهتُه بخلافها.
وعند أهل الأصول أن الرخصة ما شرع من الأحكام
لعذر والعزيمة مقابلها، والمراد بها هنا ما
سهله لعباده ووسعه عند الشدة من ترك بعض
الواجبات وإباحة بعض المحرمات...
(2/38)
والحديث دليل
على أن فعل الرخصة أفضل من فعل العزيمة، كذا
قيل وليس فيه على ذلك دليل، بل يدل على
مساواتها للعزيمة، والحديث يوافق قوله تعالى:
{يريدُ اللهُ بكمْ اليسرَ ولا يريدُ بكمْ
العُسرَ}.
4 ـ وَعَنْ أَنَسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
" كانَ رَسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم إذا خرجَ مَسيرةَ ثَلاثَةِ أَمْيالٍ
أَوْ فَرَاسِخَ ـ صَلّى رَكْعَتَيْنِ" رواهُ
مُسلمٌ.
المراد من قوله "إذا خرج" إذا كان قصده مسافة
هذا القدر لا أن المراد أنه كان إذا أراد
سفراً طويلاً فلا يقصر إلا بعد هذه المسافة.
وقوله أميال أو فراسخ شك في الراوي وليس
التخيير في أصل الحديث قال الخطابي شك فيه
شعبة.
قيل في حد الميل هو أن ينظر إلى الشخص في أرض
مستوية فلا يدرك أهو رجل أم امرأة أو غير ذلك.
وقال النووي: هو ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة
وعشرون أصبعاً معترضة متعادلة، والأصبع ست
شعيرات معترضة متعادلة.
وقيل: هو اثنا عشر ألف قدم بقدم الإنسان.
وقيل: هو أربعة ألاف ذراع، وقيل ألف خطوة
للجمل، وقيل ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي وهو
اثنان وثلاثون أصبعاً، وهو ذراع الهادي عليه
الصلاة والسلام وهو الذراع العمري المعمول
عليه في صنعاء وبلادها.
وأما الفرسخ فهو ثلاثة أميال وهو فارسي معرب.
واعلم أنه قد اختلف العلماء في المسافة التي
تقصر فيها الصلاة على نحو عشرين قولاً ـ حكاها
ابن المنذر ـ.
فذهب الظاهرية إلى العمل بهذا الحديث وقالوا:
مسافة القصر ثلاثة أميال، وأجيب عليهم بأنه
مشكوك فيه فلا يحتج به على التحديد بالثلاثة
الأميال نعم يحتج به على التحديد بالثلاثة
الفراسخ إذ الأميال داخلة فيها فيؤخذ بالأكثر
وهو الاحتياط لكن قيل إنه لم يذهب إلى التحديد
بالثلاثة الفراسخ أحد. نعم يصح الاحتجاج
للظاهرية بما أخرجه سعيد بن منصور من حديث أبي
سعيد. "أنه كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم إذا سافر فرسخاً يقصر الصلاة" وقد
عرفت أن الفرسخ ثلاثة أميال:
وأقل ما قيل في مسافة القصر ما أخرجه ابن أبي
شيبة من حديث ابن عمر موقوفاً: أنه كان يقول
إذا خرجت ميلاً قصرت الصلاة. وإسناده صحيح وقد
روى هذا في البحر عن داود ويلحق بهذين القولين
قول الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والهادي
وغيرهم أنه يقصر في مسافة بريد فصاعداً،
مستدلين بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في
حديث أبي هريرة مرفوعاً "لا يحل لامرأة تسافر
بريداً إلا ومعها محرم" أخرجه أبو داود.
قالوا: فسمى مسافة البريد سفراً ولا يخفى أنه
لا دليل فيه، على أنه لا يسمى الأقل من هذه
المسافة سفراً، وإنما هذا تحديد للسفر الذي
يجب فيه المحرم ولا تلازم بين مسافة القصر
ومسافة وجوب المحرم لجواز التوسعة في إيجاب
المحرم تخفيفاً على العباد.
وقال زيد بن علي والمؤيد وغيرهما والحنفية: بل
مسافته أربعة وعشرون فرسخاً لما أخرجه البخاري
من حديث ابن عمر مرفوعاً "لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام
إلا مع محرم" قالوا: وسير الإبل في كل يوم
ثمانية فراسخ.
وقال الشافعي، بل أربعة برد لحديث ابن عباس
مرفوعاً "لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة
برد" وسيأتي
(2/39)
وأخرجه البيهقي
بسند صحيح من فعل ابن عباس وابن عمر وبأنه روى
البخاري حديث ابن عباس تعليقاً بصيغة الجزم:
أنه سئل أتقصر الصلاة من مكة إلى عرفة؟ قال:
"لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف"
وهذه الأمكنة بين كل واحد منها وبين مكة أربعة
بُرُد فما فوقها.
والأقوال متعارضة كما سمعت والأدلة متقاومة
قال في زاد المعاد: ولم يحدّ صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم لأمته مسافة محددة للقصر
والفطر بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب
في الأرض كما أطلق لهم التيمم في كل سفر؛ وأما
ما يروى عنه من التحديد باليوم واليومين
والثلاثة فلم يصح منها شيء البتة والله أعلم،
وجواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره مذهب
كثير من السلف.
5- وعنه" أي عن أنس "رضي الله عنه قال: خرجنا
مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من
المدينة إلى مكة فكان يصلي" أي الرباعية
"ركعتين ركعتين" أي كل رباعية ركعتين "حتى
رجعنا إلى المدينة : متفق عليه واللفظ
للبخاري".
يحتمل أن هذا كان في سفره عام الفتح ويحتمل
أنه في حجة الوداع إلا أن فيه عند أبي داود
زيادة "أنهم قالوا لأنس: هل أقمتم بها شيئاً؟
قال: أقمنا عشراً" ويأتي أنهم أقاموا في الفتح
زيادة على خمسة عشر يوماً أو خمسة عشر وقد صرح
في حديث أبي داود أن هذا أي خمسة عشر ونحوها
كان عام الفتح.
وفيه دلالة على أنه لم يتم مع إقامته في مكة،
وهو كذلك كما يدل عليه الحديث الآتي:
وفيه دليل على أن نفس الخروج من البلد بنية
السفر يقتضي القصر ولو لم يجاوز من البلد
ميلاً ولا أقل، وأنه لا يزال يقصر حتى يدخل
البلد ولو صلى وبيوتهما بمرأى منه.
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تسعة عشر
يوماً يقصر وفي لفظ" تعيين محل الإقامة وأنه
"بمكة تسعة عشر يوماً. رواه البخاري وفي رواية
لأبي داود" أي عن ابن عباس "سبع عشرة"
بالتذكير في الرواية الأولى لأنه ذكر مميزه
يوماً وهو مذكر، وبالتأنيث في رواية أبي داود
لأنه حذف مميزه، وتقديره ليلة، وفي رواية لأبي
داود عنه تسعة عشر كالرواية الأولى "وفي أخرى"
أي لأبي داود عن ابن عباس "خمس عشرة".
7- وله" أي لأبي داود:"عن عمران بن حصين رضي
الله عنهما ثماني عشرة" ولفظه عند أبي داود
"شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة
لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد صلوا
أربعاً فإنا قوم سفر".
8- وله" أي لأبي داود."عن جابر رضي الله عنه
"أقام" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
"بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة" ، ورواته
ثقات إلا أنه اختلف في وصله" فوصله معمر عن
يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن
ثوبان عن جابر قال أبو داود: غير معمر لا
يسنده فأعله الدارقطني في العلل بالإرسال
والانقطاع.
قال المصنف رحمه الله: وقد أخرجه البيهقي بلفظ
"بضع عشرة".
واعلم أن أبا داود ترجم لباب هذه الأحاديث
"باب متى يتم المسافر" ثم ساقها وفيها
(2/40)
كلام ابن عباس
"من أقام سبعة عشر قصر ومن أقام أكثر أتم".
وقد اختلف العلماء في قدر مدّة الإقامة التي
إذا عزم المسافر على إقامتها أتم فيها الصلاة
على أقوال.
فقال ابن عباس وإليه ذهب الهادوية: إن أقل مدة
الإقامة عشرة أيام لقول علي عليه السلام: "إذا
أقمت عشراً فأتم الصلاة" أخرجه المؤيد في شرح
التجريد من طرق فيها ضرار بن صرد قال المصنف
في التقريب: إنه غير ثقة. قالوا: وهو توقيف.
وقالت الحنفية: خمسة عشر يوماً مستدلين بإحدى
روايات ابن عباس وبقوله وقول ابن عمر: إذا
قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس
عشرة ليلة فأكمل الصلاة.
وذهبت المالكية والشافعية إلى أن أقلها أربعة
أيام وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم
الدخول والخروج، واستدلوا بمنعه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم المهاجرين بعد مضي النسك أن
يزيدوا عن ثلاثة أيام في مكة فدل على أنه
بالأربعة الأيام يصير مقيماً؛ وثم أقوال أخر
لا دليل عليها.
وهذا كله فيمن دخل البلد عازماً على الإقامة
فيها.
وأما من تردد في الإقامة ولم يعزم ففيه خلاف
أيضاً.
فقالت الهادوية: يقصر إلى شهر لقول علي عليه
السلام: "إنه من يقول: اليوم أخرج؛ غداً أخرج.
يقصر الصلاة شهراً".
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو قول للشافعي وقال
به الإمام يحيى إلى أنه يقصر أبداً إذ الأصل
السفر، ولفعل ابن عمر فإنه أقام بأذربيجان ستة
أشهر يقصر الصلاة، وروي عن أنس بن مالك أنه
أقام بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة، وعن
جماعة من الصحابة أنهم أقاموا برامهرمز تسعة
أشهر يقصرون الصلاة.
ومنهم من قدّر ذلك بخمسة عشر وسبعة عشر
وثمانية عشر على حسب ما وردت الروايات في مدة
إقامته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مكة
وتبوك وأنه بعد ما يجاوز مدة ما روي عنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتم صلاته.
ولا يخفى أنه لا دليل في المدة التي قصر فيها
على نفي القصر فيما زاد عليها، وإذا لم يقم
دليل على تقدير المدة فالأقرب أنه لا يزال
يقصر كما فعله الصحابة، لأنه لا يسمى بالبقاء
مع التردد كل يوم في الإقامة والرحيل مقيماً
وإن طالت المدة، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في
السنن عن ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أقام بتبوك أربعين يوماً يقصر
الصلاة". ثم قال: تفرد به الحسين بن عمارة وهو
غير محتج به.
9- وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا ارتحل" في
سفره "قبل أن تزيغ الشمس" أي قبل الزوال "أخر
الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن
زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر" أي وحده
ولا يضم إليه العصر "ثم ركب. متفق عليه".
الحديث فيه دليل على جواز الجمع بين الصلاتين
للمسافر تأخيراً، ودلالة على أنه لا يجمع
بينهما تقديماً، لقوله "صلى الظهر" إذ لو جاز
مع التقديم لضم إليه العصر، وهذا الفعل منه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخصص أحاديث
التوقيت التي مضت.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الهادوية وهو
قول ابن عباس وابن عمر وجماعة من الصحابة،
وروي عن مالك وأحمد والشافعي إلى جواز الجمع
للمسافر تقديماً وتأخيراً عملاً بهذا الحديث
في التأخير وبما يأتي في التقديم.
وعن الأوزاعي أنه يجوز للمسافر جمع التأخير
فقط
(2/41)
عملاً بهذا
الحديث، وهو مروي عن مالك وأحمد بن حنبل
واختاره أبو محمد بن حزم.
وذهب النخعي والحسن وأبو حنيفة إلى أنه لا
يجوز الجمع لا تقديماً ولا تأخيراً للمسافر
وتأولوا ما ورد من جمعه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم بأنه جمع صوري وهو أنه أخر الظهر إلى
آخر وقتها وقدم العصر في أول وقتها ومثله
العشاء.
ورد عليهم بأنه وإن تمشى لهم هذا في جمع
التأخير لم يتم لهم في جمع التقديم الذي أفاد
قوله "وفي رواية الحاكم في الأربعين بإسناد
الصحيح "صلى الظهر والعصر" أي إذا زاغت قبل أن
يرتحل صلى الفريضتين معاً "ثم ركب" فإنها
أفادت ثبوت جمع التقديم من فعله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ولا يتصوّر فيه الجمع الصوري
"و" مثله الرواية التي "لأبي نعيم في مستخرج
مسلم" أي في مستخرجه على صحيح مسلم "كان" أي
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إذا كان
في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً
ثم ارتحل" فقد أفادت رواية الحاكم وأبي نعيم
ثبوت جمع التقديم أيضاً وهما روايتان صحيحتان
كما قال المصنف إلا أنه قال ابن القيم إنه
اختلف في رواية الحاكم، فمنهم من صححها ومنهم
من حسنها ومنهم من قدح فيها وجعلها موضوعة وهو
الحاكم فإنه حكم بوضعها، ثم ذكر كلام الحاكم
في بيان وضع الحديث ثم رده ابن القيم واختار
أنه ليس بموضوع، وسكوت المصنف هنا عليه وجزمه
بأنه بإسناد صحيح يدل على رده لكلام الحاكم
ويؤيد صحته قوله:
10 ـ وَعَنْ مُعاذٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
"خَرَجْنَا معَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم في غَزْوَة تَبوكَ فكان يُصَلي
الظُّهْرَ والعصرَ جميعاً والمغْربَ
وَالعِشَاءَ جميعاً" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
إلا أن اللفظ محتمل لجمع التأخير لا غير أوله
ولجمع التقديم، ولكن قد رواه الترمذي بلفظ
"كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس آخر الظهر
إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً وإذا
ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى
الظهر والعصر جميعاً" فهو كالتفصيل لمجمل
رواية مسلم إلا أنه قال الترمذي بعد إخراجه:
إنه حديث حسن غريب تفرد به قتيبة لا نعرف
أحداً رواه عن الليث غيره قال: والمعروف عند
أهل العلم حديث معاذ من حديث ابن الزبير عن
أبي الطفيل عن معاذ: أن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم جمع في غزوة تبوك بين الظهر
والعصر وبين المغرب والعشاء. اهـ.
إذا عرفت هذا فجمع التقديم في ثبوت روايته
مقال إلا رواية المستخرج على صحيح مسلم فإنه
لا مقال فيها.
وقد ذهب ابن حزم إلى أنه يجوز جمع التأخير
لثبوت الرواية به لا جمع التقديم، وهو قول
النخعي ورواية عن مالك وأحمد.
ثم إنه قد اختلف في الأفضل للمسافر هل الجمع
أو التوقيت فقالت الشافعية: ترك الجمع أفضل.
وقال مالك: إنه مكروه، وقيل: يختص بمن له عذر.
واعلم أنه كما قال ابن القيم في الهدي النبوي:
لم يكن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يجمع
راتباً في سفره كما يفعله كثير من الناس، ولا
يجمع حال نزوله أيضاً، وإنما كان يجمع إذا جدّ
به السير، وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث
تبوك، وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل
ذلك عنه إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف،
كما قال الشافعي وشيخنا وجعله أبو حنيفة من
تمام النسك وأنه سببه، وقال أحمد ومالك
والشافعي: إن سبب الجمع بعرفة ومزدلفة السفر.
(2/42)
وهذا كله في
الجمع في السفر.
وأما الجمع في الحضر فقال الشارح بعد ذكر أدلة
القائلين بجوازه فيه: إنه ذهب أكثر الأئمة إلى
أنه لا يجوز الجمع في الحضر لما تقدم من
الأحاديث المبينة لأوقات الصلوات، ولما تواتر
من محافظة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
على أوقاتها حتى قال ابن مسعود: ما رأيت النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى صلاة لغير
ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء
بجمع وصلى الفجر يومئذٍ قبل ميقاتها".
وأما حديث ابن عباس عند مسلم: أنه جمع بين
الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير
خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟
قال: أراد أن لا يحرج أمته" فلا يصح الاحتجاج
به لأنه غير معين لجمع التقديم والتأخير كما
هو ظاهر رواية مسلم وتعيين واحد منها تحكم
فوجب العدول عنه إلى ما هو واجب من البقاء على
العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره وتخصيص
المسافر لثبوت المخصص وهذا هو الجواب الحاسم.
وأما ما يروى من الآثار عن الصحابة والتابعين
فغير حجة إذ للاجتهاد في ذلك مسرح، وقد أول
بعضهم حديث ابن عباس بالجمع الصوري واستحسنه
القرطبي ورجحه وجزم به ابن الماجشون والطحاوي
وقواه ابن سيد الناس لما أخرجه الشيخان عن
عمرو بن دينار ـ رواي الحديث ـ عن أبي الشعثاء
قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل
العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال: وأنا
أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى
بالمراد منه من غيره، وإن لم يجزم أبو الشعثاء
بذلك.
وأقول إنما هو ظن من الراوي والذي يقال فيه:
أدرى بما روى إنما يجري في تفسيره للفظ مثلاً.
على أن في الدعوى نظراً، فإن قوله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "فرب حامل فقه إلى من هو
أفقه منه" يرد عمومها، نعم يتعين هذا التأويل
فإنه صرح به النسائي في أصل حديث ابن عباس
ولفظه: "صليت مع رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم بالمدينة ثمانياً جمعاً
وسبعاً جمعاً أخر الظهر وعجل العصر وآخر
المغرب وعجل العشاء". والعجب من النووي كيف
ضعف هذا التأويل وغفل عن متن الحديث المروي،
والمطلق في رواية يحمل على المقيد إذا كانا في
قصة واحدة. كما في هذا:
والقول بأن قوله: "أراد أن لا يحرج أمته" يضعف
هذا الجمع الصوري لوجود الحرج فيه مدفوع بأن
ذلك أيسر من التوقيت إذ يكفي للصلاتين تأهب
واحد وقصد واحد إلى المسجد ووضوء واحد بحسب
الأغلب بخلاف الوقتين فالحرج في هذا الجمع لا
شك أخف.
وأما قياس الحاضر على المسافر كما قيل فوهم،
لأن العلة في الأصل هي السفر، وهو غير موجود
في الفرع وإلا لزم مثله في القصر والفطر اهـ.
قلت: وهو كلام رصين وقد كنا ذكرنا ما يلاقيه
في رسالتنا "اليواقيت في المواقيت" قبل الوقوف
على كلام الشارح ـ رحمه الله وجزاه خيراً ـ ثم
قال: واعلم أن جمع التقديم فيه خطر عظيم وهو
كمن صلى صلاة قبل دخول وقتها فيكون حال الفاعل
كما قال تعالى: {هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}
الآية من ابتدائها وهذه الصلاة المقدمة لا
دلالة عليها بمنطوق ولا مفهوم ولا عموم ولا
خصوص.
(2/43)
11 ـ وَعَن
ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما قال: قال
رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا
تَقْصرُوا الصَّلاةَ في أقَلَّ مِنْ
أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكّةَ إلى عُسْفَانَ"
رواهُ الدارقُطْنيُّ بإسناد ضَعيف، والصّحيحُ
أَنهُ مَوْقُوفٌ، كَذَا أَخْرَجَهُ ابنُ
خُزَيمة.
فإنه من رواية عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك،
نسبه الثوري إلى الكاذب، وقال الأزدي: لا تحل
الرواية عنه، وهو منقطع أيضاً لأنه لم يسمع من
أبيه "والصحيح أنه موقوف كذا أخرجه ابن خزيمة"
أي موقوفاً على ابن عباس وإسناده صحيح ولكن
للاجتهاد فيه مسرح فيحتمل أنه من رأيه وتقدم
أنه لم يثت في التحديد حديث مرفوع.
12 ـ وعنْ جابرٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال: قالَ
رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"خيرُ أُمّتي الذين إذا أسَاءوا اسْتغفروا
وإذا أَحسنوا اسْتبشروا وإذا سافَرُوا قَصَروا
وأَفْطروا". أَخْرَجَهُ الطّبرانيُّ في
الأوْسَطِ بإسْنادٍ ضعيفٍ وَهُوَ في مُرْسَلِ
سعيد بنِ المُسَيَّب عَنْدَ الَبيْهَقِي
مختصراً.
الحديث دليل على أن القصر والفطر أفضل للمسافر
من خلافهما.
وقالت الشافعية: ترك الجمع أفضل فقياس هذا أن
يقولوا التمام أفضل وقد صرحوا به أيضاً،
وكأنهم لم يقولوا بهذا الحديث لضعفه. واعلم أن
المصنف رحمه الله أعاد هنا حديث عمران بن حصين
وحديث جابر وهما قوله:
13- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال:
كانت بي بواسير فسألت النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم عن الصلاة" هذا لم يذكره
المصنف فيما سلف في هذه الرواية "فقال: "صلِّ
قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع
فعلى جنْب" رواه البخاري" هو كما قال ولم
ينسبه فيما تقدم إلى أحد وقد بينا من غير
البخاري وما فيه من الزيادة.
14 ـ وَعَنْ جَابرٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ
قالَ: عَادَ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم مَريضاً فَرَآهُ يُصَلي على وسادَةٍ
فَرَمَى بها وقالَ: "صَلِّ عَلى الأرضِ إن
اسْتَطَعْتَ، وإلا فَأَوْم إيماءً واجعلْ
سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ" رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ وصحّحَ أَبو حاتم وَقْفَهُ.
زاد فيما مضى أنه رواه البيهقي بإسناد قوي وقد
تقدم في آخر باب صفة الصلاة قبيل باب سجود
السهو بلفظهما وشرحناهما هناك فتركنا شرحهما
هنا لذلك، ثم ذكر هنا حديث عائشة وقد مر أيضاً
في الحديث الرابع والثلاثين في باب صفة الصلاة
بلفظه وشرحه الشارح. وقال هناك: صححه ابن
خزيمة، وهنا قال: صححه الحاكم وهو:
15 ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا
قالَت: "رَأَيتُ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يُصَلي مُتَرَبِّعاً" رَواه النسائي
وَصَحّحَهُ الحاكِمُ.
وهو من أحاديث صلاة المريض لا من أحاديث صلاة
المسافر وقد أتى به فيما سلف.
والحديث دليل على صفة قعود المصلي إذا كان له
عذر عن القيام، وفيه الخلاف الذي تقدم.
(2/44)
باب صلاة الجمعة
الجمعة بضم الميم وفيها الإسكان والفتح مثل
همزة ولمزة، وكانت تسمى في الجاهلية العروبة،
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حسن
صحيح أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
(2/44)
قال: "خير يوم
طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم وفيه
دخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا
في يوم الجمعة".
1- عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله
عنهم أنهما سمعا رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يقول على أعواد منبره" أي
منبره الذي من عود، لا على الذي كان من الطين،
ولا على الجذع الذي كان يستند إليه، وهذا
المنبر عمل له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
سنة سبع وقيل سنة ثمان، عمله له غلام امرأة من
الأنصار كان نجاراً واسمه على أصح الأقوال
ميمون، كان على ثلاث درج ولم يزل عليه حتى
زاده مروان في زمن معاوية ست درج من أسفله،
وله قصة في زيادته، وهي أن معاوية كتب إليه أن
يحمله إلى دمشق فأمر به فقلع فأظلمت المدينة
فخرج مروان فخطب فقال: إنما أمرني أمير
المؤمنين أن أرفعه، وقال: إنما زدت عليه لما
كثر الناس ولم يزل كذلك حتى احترق المسجد
النبوي سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق
""لينتهين أقوام عن ودعهم" بفتح الواو وسكون
الدال المهملة وكسر العين المهملة أي تركهم
"الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم" الختم
الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له
وتغطية لئلا يتوصل إليه، ولا يطلع عليه، شبهت
القلوب بسبب إعراضهم عن الحق واستكبارهم عن
قبوله وعدم نفوذ الحق إليها بالأشياء التي
استوثق عليها بالختم فلا ينفذ إلى باطنها شيء،
وهذه عقوبة على عدم الامتثال لأمر الله، وعدم
إتيان الجمعة من باب تيسير العسرى "ثم ليكونن
من الغافلين" رواه مسلم" بعد ختمه تعالى عن
قلوبهم فيغفلون عن اكتساب ما ينفعهم من
الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها.
وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة
والتساهل فيها.
وفيه إخبار بأن تركها من أعظم أسباب الخذلان
بالكلية.
والإجماع قائم على وجوبها على الإطلاق والأكثر
أنها فرض عين وقال في معالم السنن: إنها فرض
كفاية عند الفقهاء.
2- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا
نصلي مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل
يستظل به . متفق عليه واللفظ للبخاري في لفظ
لمسلم" أي من رواية سلمة "كنا نجمّع معه" أي
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إذا زالت
الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء".
الحديث دليل على المبادرة بصلاة الجمعة عند
أول زوال الشمس، والنفي في قوله "وليس للحيطان
ظل" متوجه إلى القيد وهو قوله "يستظل به" لا
نفي لأصل الظل حتى يكون دليلاً على أنه صلاها
قبل زوال الشمس، وهذا التأويل معتبر عند
الجمهور القائلين بأن وقت الجمعة هو وقت
الظهر.
وذهب أحمد وإسحاق إلى صحة صلاة الجمعة قبل
الزوال.
واختلف أصحاب أحمد فقال بعضهم: وقتها وقت صلاة
العيد، وقيل الساعة السادسة.
وأجاز مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة
وحجتهم ظاهر الحديث وما بعده وأصرح منه ما
أخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر: "أن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي الجمعة
ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس"
يعني النواضح.
وأخرج الدارقطني عن عبد الله بن سيدان قال:
شهدت مع أبي بكر الجمعة فكانت خطبته وصلاته
قبل نصف النهار
(2/45)
ثم شهدتها مع
عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف
النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته
إلى أن أقول زال النهار فما رأيت أحداً عاب
ذلك ولا أنكره. ورواه أحمد بن حنبل في رواية
ابنه عبد الله قال: وكذلك روي عن ابن مسعود
وجابر وسعيد ومعاوية: أنهم صلوا قبل الزوال.
ودلالة هذا على مذهب أحمد واضحة، والتأويل
الذي سبق من الجمهور يدفعه أن صلاة النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع قراءته سورة
الجمعة والمنافقون وخطبته لو كانت بعد الزوال
لما ذهبوا من صلاة الجمعة إلا وللحيطان ظل
يستظل به كذا في الشرح.
وحققنا في حواشي ضوء النهار أن وقتها الزوال،
ويدل له أيضاً قوله:
3-" وعن سهل بن سعد رضي الله عنه" هو أبو
العباس سهل بن سعد بن مالك الخزرجي الساعدي
الأنصاري قيل كان اسمه "حزنا" فسماه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم "سهلاً" مات النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وله خمس عشرة سنة
ومات بالمدينة سنة إحدى وسبعين وهو آخر من مات
بالمدينة من الصحابة "قال: "ما كنا نقيل" من
القيلولة "ولا نتغدى إلا بعد الجمعة" متفق
عليه واللفظ لمسلم. وفي رواية "في عهد رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" ".
في النهاية المقيل والقيلولة الاستراحة نصف
النهار وإن لم يكن معها نوم.
فالحديث دليل على ما دل عليه الحديث الأول وهو
من أدلة أحمد وإنما أتى المصنف رحمه الله بلفظ
رواية "على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم" لئلا يقول قائل إنه لم يصرح الراوي
في الرواية الأولى أن ذلك كان من فعله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم وتقريره فدفعه بالرواية
التي أثبتت أن ذلك كان على عهده، ومعلوم أنه
لا يصلي الجمعة في عهده في المدينة سواه، فهو
إخبار عن صلاته وليس فيه دليل على الصلاة قبل
الزوال، لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا
يتغدون إلا بعد صلاة الظهر كما قال تعالى:
{وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} نعم كان صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسارع بصلاة الجمعة في
أول وقت الزوال بخلاف الظهر فقد كان يؤخره
بعده حتى يجتمع الناس.
4-" وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخطب قائماً فجاءت
عير" بكسر العين المهملة وسكون المثناة
التحتية فراء قال في النهاية: العير الإبل
بأحمالها "من الشام فانفتل" بالنون الساكنة
وفتح الفاء فمثناة فوقية أي انصرف "الناس
إليها حتى لم يبق" أي في المسجد ـ "إلا اثنا
عشر رجلاً. رواه مسلم".
الحديث دليل على أنه يشرع في الخطبة أن يخطب
قائماً.
وأنه لا يشترط لها عدد معين كما قيل إنه يشترط
لها أربعون رجلاً ولا ما قيل إن أقل ما ينعقد
به اثنا عشر رجلاً كما روي عن مالك لأنه لا
دليل أنها لا تنعقد بأقل.
وهذه القصة هي التي نزلت فيها الآية: {وإذا
رأوا تجارة} الآية:
وقال القاضي عياض: إنه روى أبو داود في
مراسيله: أن خطبته صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم التي انفضوا عنها إنما كانت بعد صلاة
الجمعة وظنوا أنه لا شيء عليهم في الانفضاض عن
الخطبة وأنه قبل هذه القصة كان يصلي قبل
الخطبة.
قال القاضي: وهذا أشبه بحال أصحابه والمظنون
بهم ما كانوا يدعون الصلاة مع النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولكنهم ظنوا جواز
الانصراف بعد انقضاء الصلاة.
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من
(2/46)
أدرك ركعة من
صلاة الجمعة وغيرها" أي من سائر الصلوات
"فليضف إليها أُخرى" في الجمعة أو غيرها يضيف
إليها ما بقي من ركعة وأكثر "وقد تمت صلاته"
رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني واللفظ له
وإسناده صحيح لكن قوى أبو حاتم إرساله" الحديث
أخرجوه من حديث بقية حدثني يونس بن يزيد عن
سالم عن أبيه ـ الحديث ـ قال أبو داود
والدارقطني: تفرّد به بقية عن يونس، وقال ابن
أبي حاتم في العلل عن أبيه: هذا خطأ في المتن
والإسناد وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن
أبي هريرة مرفوعاً "من أدرك من الصلاة ركعة
فقد أدركها" وأمّا قوله: "من صلاة الجمعة"
فوهم وقد أخرج الحديث من ثلاثة عشر طريقاً عن
أبي هريرة ومن ثلاثة طرق عن ابن عمر وفي
جميعها مقال.
وفي الحديث دلالة على أن الجمعة تصح للاحق وإن
لم يدرك من الخطبة شيئاً وإلى هذا ذهب زيد بن
علي والمؤيد والشافعي وأبو حنيفة.
وذهبت الهادوية إلى أن إدراك شيء من الخطبة
شرط لا تصح الجمعة بدونه.
وهذا الحديث حجة عليهم وإن كان فيه مقال لكن
كثرة طرقه يقوّي بعضها بعضاً مع أنه أخرجه
الحاكم من ثلاث طرق أحدها من حديث أبي هريرة
وقال فيها: على شرط الشيخين، ثم الأصل عدم
الشرط حتى يقوم عليه دليل.
6 ـ وَعَنْ جَابرِ بن سَمُرةَ رضي الله
عنهُما: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كانَ يخطُبُ قائماً، ثم يجلسُ، ثمَّ
يقومُ فَيَخْطبُ قائماً، فَمَنْ أَنْبَأَكَ
أَنهُ كانَ يخطُبُ جالساً فَقَدْ كَذَبَ"
أَخرجهُ مُسلمٌ.
الحديث دليل أنه يشرع القيام حال الخطبتين
والفصل بينهما بالجلوس.
وقد اختلف العلماء هل هو واجب أو سنة فقال أبو
حنيفة: إن القيام والقعود سنة.
وذهب مالك إلى أن القيام واجب فإن تركه أساء
وصحت الخطبة.
وذهب الشافعي وغيره إلى أن الخطبة لا تكون إلا
من قيام لمن أطاقه واحتجوا بمواظبته صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك حتى قال جابر:
فمن أنبأك إلى آخره. وبما روي أن كعب بن عجرة
لما دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب
قاعداً فأنكر عليه وتلا عليه {وتركوك قائماً}
وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط
إماماً يؤم المسلمين يخطب وهو جالس يقول ذلك
مرتين.
وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس: خطب رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قائماً وأبو بكر
وعمر وعثمان وأوّل من جلس على المنبر معاوية،
وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أن معاوية إنما
خطب قاعداً لما كثر شحم بطنه ولحمه. وهذا
إبانة للعذر فإنه مع العذر في حكم المتفق على
جواز القعود في الخطبة.
وأما حديث أبي سعيد الذي أخرجه البخاري: أن
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جلس ذات
يوم على المنبر وجلسنا حوله.
فقد أجاب عنه الشافعي أنه كان في غير جمعة.
وهذه الأدلة تقضي بشرعية القيام والقعود
المذكورين في الخطبة.
وأما الوجوب وكونه شرطاً في صحتها فلا دلالة
عليه في اللفظ إلا أنه قد ينضم إليه دليل وجوب
التأسي به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد
قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وفعله في الجمعة في الخطبتين وتقديمها على
الصلاة مبين لآية الجمعة فما واظب عليه فهو
واجب وما لم يواظب عليه كان في الترك دليل على
عدم الوجوب فإن
(2/47)
صح أن قعوده في
حديث أبي سعيد كان في خطبة الجمعة كان الأقوى
القول الأوّل وإن لم يثبت ذلك فالقول الثاني.
فائدة: تسليم الخطيب على المنبر على الناس فيه
حديث أخرجه الأثرم بسنده عن الشعبي: "كان رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صعد
المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال السلام
عليكم". الحديث، وهو مرسل. وأخرج ابن عدي:
"أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا دنا
من منبره سلم على من عند المنبر ثم صعد فإذا
استقبل الناس بوجهه سلم ثم قعد". إلا أنه ضعفه
ابن عدي[تض] بعيسى بن عبد الله الأنصاري[/تض]
وضعفه به ابن حبان.
7- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتدّ غضبه
حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم" ويقول:
"أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير
الهُدى هدَى محمد" قال النووي: ضبطناه في مسلم
بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون
الدال فيهما وفسره الهروي على رواية الفتح
بالطريق أي أحسن الطريق طريق محمد. وعلى رواية
الضم معناه الدلالة والإرسال وهو الذي يضاف
إلى الرسل وإلى القرآن قال تعالى: {وإنك
لتهدي} "الشورى: 52" {إن هذا القران يهدي}
"الإسراء: 9" وقد يضاف إليه تعالى وهو بمعنى
اللطف والتوفيق والعصمة {إنك لا تهدي من
أحببت} "القصص: 56" الآية "وشر الأمور
محدثاتها" المراد بالمحدثات ما لم يكن ثابتاً
بشرع من الله ولا من رسوله "وكل بدعة ضلالةٌ"
" البدعة لغة: ما عمل على غير مثال سابق،
والمراد بها هنا: ما عمل من دون أن يسبق له
شرعية من كتاب ولا سنة "رواه مسلم".
وقد قسم العلماء البدعة على خمسة أقسام: واجبة
ـ كحفظ العلوم بالتدوين والرد على الملاحدة
بإقامة الأدلة، ومندوبة ـ كبناء المدارس،
ومباحة ـ كالتوسعة في ألوان الطعام وفاخر
الثياب، ومحرّمة ومكروهة وهما ظاهران؛ فقوله:
"كل بدعة ضلالة" عام مخصوص.
وفي الحديث دليل على أنه يستحب للخطيب أن يرفع
بالخطبة صوته ويجزل كلامه ويأتي بجوامع الكلم
من الترغيب والترهيب ويأتي بقوله: أما بعد وقد
جمع البخاري باباً في استحبابها وذكر فيه جملة
من الأحاديث وقد جمع الروايات التي فيها ذكر
"أما بعد" لبعض المحدثين وأخرجها على اثنين
وثلاثين صحابياً وظاهره أنه كان صلى الله عليه
وآله وسلم يلازمها في جميع خطبه وذلك بعد حمد
الله والثناء والتشهد كما تفيده الرواية
المشار إليها بقوله: "وفي رواية له" أي لمسلم
عن جابر بن عبد الله "كانت خطبة النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم
(2/48)
يوم الجمعة:
يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد
علا صوته" حذف المقول اتكالا على ما تقدم وهو
قوله: "أما بعد فإن خير الحديث" إلى آخر ما
تقدم.
ولم يذكر الشهادة اختصاراً لثبوتها في غير هذه
الرواية فقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي
كاليد الجذماء" وفي دلائل النبوة للبيهقي من
حديث أبي هريرة مرفوعاً حكاية عن الله عز وجل
"وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك
عبدي ورسولي" وكان يذكر في تشهد نفسه باسمه
العلم "وفي رواية له" أي لمسلم عن جابر ""من
يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي
له"" أي أنه يأتي بهذه الألفاظ بعد "أما بعد"
"وللنسائي" أي عن جابر ""وكل ضلالة في النار""
أي بعد قوله "كل بدعة ضلالة" كما هو في
النسائي واختصره المصنف والمراد صاحبها.
وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام
وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له
أمر أو نهي، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي
ركعتين، ويذكر معالم الشرائع في الخطبة،
والجنة والنار والمعاد ويأمر بتقوى الله ويحذر
من غضبه ويرغب في موجبات رضاه.
وقد ورد قراءة آية في حديث مسلم: كان لرسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خطبتان يجلس
بينهما يقرأ القران ويذكر الناس ويحذر" وظاهره
محافظته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ما
ذكر في الخطبة، ووجوب ذلك لأن فعله بيان لما
أجمل في آية الجمعة، وقد قال صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"
وذهب إلى هذا الشافعي.
وقالت الهادوية: لا يجب في الخطبة إلا الحمد
والصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم في الخطبتين جميعاً.
وقال أبو حنيفة: يكفي سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر.
وقال مالك: لا يجزيء إلا ما سمي خطبة.
8- وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول:
"إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة" بفتح
الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة أي علامة
"مِنْ فِقْهِهِ"" أي مما يعرف به فقه الرجل،
وكل شيء دل على شيء فهو مَئِنة له "رواه
مسلم".
وإنما كان قصر الخطبة علامة على فقه الرجل لأن
الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني وجوامع
الألفاظ فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة
المفيدة ولذلك كان من تمام هذا الحديث
"فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان
لسحراً".
فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول
بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق
الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة ووقوعه في
مجازه من الترغيب والترهيب ونحو ذلك، ولا يقدر
عليه إلا من فقه في المعاني وتناسق دلالتها
فإنه يتمكن من الإتيان بجوامع الكلم، وكان ذلك
من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فإنه
أوتي جوامع الكلم.
والمراد من طول الصلاة طول الذي لا يدخل فاعله
تحت النهي.
وقد كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي
الجمعة بالجمعة والمنافقون وذلك طول بالنسبة
إلى خطبته وليس بالتطويل المنهي عنه.
9- وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله
عنهما" هي الأنصارية روى
(2/49)
عنها حبيب بن
عبد الرحمن بن يساف، قال أحمد بن زهير: سمعت
أبي يقول: أم هشام بنت حارثة بايعت بيعة
الرضوان ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب ولم
يذكر اسمها، وذكرها المصنف في التقريب ولم
يسمعها أيضاً وإنما قال: صحابية مشهورة "قالت:
ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤها كل جمعة
على المنبر إذا خطب الناس : رواه مسلم".
فيه دليل على مشروعية قراءة سورة "ق" في
الخطبة كل جمعة.
قال العلماء: وسبب اختياره صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم هذه السورة لما اشتملت عليه
من ذكر البعث والموت والمواعظ الشديدة
والزواجر الأكيدة.
وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة
كما سبق وقد قام الإجماع على عدم وجوب قراءة
السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، وكانت
محافظته على هذه السورة اختياراً منه لما هو
الأحسن في الوعظ والتذكير.
وفيه دلالة على ترديد الوعظ في الخطبة.
10- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من
تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار
يحمل أسفاراً والذي يقول له: أَنصت ليست له
جمعة" رواه أحمد بإسناد لا بأس به" وله شاهد
قوي في جامع حماد مرسل "وهو" أي حديث ابن عباس
"يفسر" الحديث.
11 ـ عن أَبي هُريرَة رضي اللَّهُ عنْهُ في
الصّحيحيّنِ مَرْفوعاً "إذا قُلْتَ لِصاحِبِكَ
أَنْصِتْ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإمامُ يَخْطُبُ
فَقَدْ لَغَوْتَ".
في قوله "يوم الجمعة" دلالة على أن خطبة غير
الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام حالها.
وقوله "والإمام يخطب" دليل على أنه يختص النهي
بحال الخطبة، وفيه رد على من قال إنه ينهى من
حال خروج الإمام.
وأما الكلام عند جلوسه بين الخطبتين فهو غير
خاطب فلا ينهى عن الكلام حاله. وقيل هو وقت
يسير يشبه بالسكوت للتنفس فهو في حكم الخاطب.
وإنما شبه بالحمار يحمل أسفاراً لأنه فاته
الانتفاع بأبلغ نافع وقد تكلف المشقة وأتعب
نفسه في حضور الجمعة، والمشبه به كذلك فاته
الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في
استصحابه.
وفي قوله "ليست له جمعة" دليل على أنه لا صلاة
له فإن المراد بالجمعة الصلاة إلا أنها تجزئة
إجماعاً فلا بد من تأويل هذا بأنه نفي للفضيلة
التي يحوزها من أنصت وهو كما في حديث ابن عمر
الذي أخرجه أبو داود وابن خزيمة بلفظ "من لغا
وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً" قال ابن وهب
أحد رواته: معناه أجزأته الصلاة وحرم فضيلة
الجماعة.
وقد احتج بالحديث من قال بحرمة الكلام حال
الخطبة وهم الهادوية وأبو حنيفة ومالك ورواية
عن الشافعي فإن تشبيهه بالمشبه به المستنكر
وملاحظة وجه الشبه يدل على قبح ذلك، وكذلك
نسبته إلى فوات الفضيلة الحاصلة بالجمعة، وما
ذاك إلا ما لحق المتكلم من الوزر الذي يقال
الفضيلة فيصير محبطاً لها.
وذهب القاسم وابنا الهادي وأحد قولي أحمد
والشافعي إلى التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن
لا يسمعها.
ونقل ابن عبد البر الإجماع على وجوب الإنصات
على من يسمع خطبة الجمعة
(2/50)
إلا عن قليل من
التابعين.
وقوله: "إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت" تأكيد
في النهي عن الكلام لأنه إذا عد من اللغو وهو
أمر بمعروف فأولى غيره، فعلى هذا يجب عليه أن
يأمره بالإشارة إن أمكن ذلك.
والمراد بالإنصات قيل: من مكالمة الناس فيجوز
على هذا الذكر وقراءة القرآن، والأظهر أن
النهي شامل للجميع، ومن فرق فعليه الدليل،
فمثل جواب التحية والصلاة على النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند ذكره عند من يقول
بوجوبها قد تعارض فيه عموم النهي هنا وعموم
الوجوب فيهما، وتخصيص أحدهما لعموم الآخر تحكم
من دون مرجح.
واختلفوا في معنى قوله "لغوت" والأقرب ما قاله
ابن المنير: أن اللغو ما لا يحسن، وقيل بطلت
فضيلة جمعتك وصارت ظهراً.
12ـ وَعَنْ جابرٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
"دَخَلَ رَجُلٌ يَوْم الجُمُعةِ والنّبيُّ
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخطُبُ فَقَالَ:
"صَلّيْتَ؟" قالَ: لا، قالَ: "قُمْ فَصَلِّ
ركْعَتَيْن" مُتّفقٌ عليه.
الرجل هو سليك الغطفاني سماه في رواية مسلم،
وقيل غيره وحذفت همزة الاستفهام من قوله
"صليت" وأصله أصليت وفي مسلم قال له: "أصليت"
وقد ثبت في بعض طرق البخاري. وسليك بضم السين
المهملة بعد اللام مثناة تحتية مصغر. الغطفاني
بفتح الغين المعجمة فطاء مهملة بعدها فاء.
وقوله: "صل ركعتين" وعند البخاري وصفهما
بخفيفتين، وعند مسلم "وتجوز فيهما" وبوَّب
البخاري لذلك بقوله "باب من جاء والإمام يخطب
يصلي ركعتين خفيفتين".
وفي الحديث دليل أن تحية المسجد تصلى حال
الخطبة، وقد ذهب إلى هذه طائفة من الآل
والفقهاء والمحدثين، ويخفف ليفرغ لسماع
الخطبة.
وذهب جماعة من السلف والخلف إلى عدم شرعيتهما
حال الخطبة، والحديث هذا حجة عليهم، وقد
تأولوه بأحد عشر تأويلا كلها مردودة سردها
المصنف في فتح الباري بردودها ونقل ذلك الشارح
رحمه الله في الشرح، واستدلوا بقوله تعالى: {
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } ولا دليل
في ذلك، لأن هذا خاص وذلك عام، ولأن الخطبة
ليست قرآناً وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم
نهى الرجل أن يقول لصاحبه والخطيب يخطب أنصت
وهو أمر بمعروف وجوابه: أن هذا أمر الشارع
وهذا أمر الشارع، فلا تعارض بين أمريه، بل
القاعد ينصت والداخل يركع التحية وبإطباق أهل
المدينة خلفاً عن سلف، على منع النافلة حال
الخطبة.
وهذا الدليل للمالكية وجوابه أنه ليس إجماعهم
حجة ولو أجمعوا كما عرف في الأصول على أنه لا
يتم دعوى إجماعهم، فقد أخرج الترمذي وابن
خزيمة وصححه أن أبا سعيد أتى ومروان يخطب
فصلاهما فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى
صلاهما ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأمر
بهما.
وأما حديث ابن عمر عند الطبراني في الكبير
مرفوعاً بلفظ: "إذا دخل أحدكم المسجد والإمام
يخطب فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام" ففيه
أيوب بن نهيك متروك وضعفه جماعة وذكره ابن
حبان في الثقات وقال: يخطىء.
وقد أخذ من الحديث أنه يجوز للخطيب أن يقطع
الخطبة باليسير من الكلام، وأجيب عنه بأنه هذا
الذي صدر منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من
جملة الأوامر التي شرعت لها الخطبة، وأمره
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بها دليل على
وجوبها. وإليه ذهب
(2/51)
البعض.
وأما من دخل الحرم في غير حال الخطبة فإنه
يشرع له الطواف فإنه تحته أو لأنه في الأغلب
لا يعقد إلا بعد صلاة ركعتي الطواف.
وأما صلاتها قبل صلاة العيد فإن كانت صلاة
العيد في جبانة غير مسبلة فلا يشرع لها التحية
مطلقاً وإن كانت في مسجد فتشرع.
وأما كونه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما
خرج إلى صلاته لم يصل قبلها شيئاً فذلك لأنه
حال قدومه اشتغل بالدخول في صلاة العيد ولأنه
كان يصليها في الجبانة ولم يصلها إلا مرة
واحدة في مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
فلا دليل فيه على أنها لا تشرع لغيره ولو كانت
العيد في مسجد.
13- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقرأ في صلاة
الجمعة سورة الجمعة" في الأولى "والمنافقين"
في الثانية أي بعد الفاتحة فيها لما علم من
غيره "رواه مسلم".
وإنما خصهما بهما لما في سورة الجمعة من الحث
على حضورها والسعي إليها وبيان فضيلة بعثته
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وذكر الأربع
الحكم في بعثته من أنه يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة والحث على ذكر
الله. ولما في سورة المنافقين من توبيخ أهل
النفاق وحثهم على التوبة ودعائهم إلى طلب
الاستغفار من رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم لأن المنافقين يكثر اجتماعهم في
صلاتها، ولما في آخرها من الوعظ والحث على
الصدقة.
14- وله" أي لمسلم "عن النعمان بن بشير رضي
الله عنه كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يقرأ" أي رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم "في العيدين" الفطر والأضحى
أي في صلاتهما "وفي الجمعة" أي في صلاتها
"بسبح اسم ربك الأعلى" أي في الركعة الأولى
بعد الفاتحة "{وهل أتاك حديث الغاشية}" أي في
الثانية بعدها وكأنه كان يقرأ ما ذكره ابن
عباس تارة وما ذكره النعمان تارة، وفي سور سبح
والغاشية من التذكير بأحوال الآخرة والوعد
والوعيد ما يناسب قراءتهما في تلك الصلاة
الجامعة، وقد ورد في العيدين أنه كان يقرأ
بقاف واقتربت.
15- وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: صلى
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العيد" في
يوم الجمعة، "ثم رخص في الجمعة" أي في صلاتها،
" ثم قال: من شاء أن يصلي" أي الجمعة "فليصل"
هذا بيان لقوله رخص، وإعلام بأنه كان الترخيص
بهذا اللفظ، "رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه
ابن خزيمة".
وأخرج أيضاً أبو داود من حديث أبي هريرة أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "قد اجتمع
في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة
وإنا مجمعون". وأخرجه ابن ماجه والحاكم من
حديث أبي صالح، وفي إسناده بقية وصحح
الدارقطني وغيره إرساله، وفي الباب عن ابن
الزبير من حديث عطاء: "أنه ترك ذلك، وأنه سأل
ابن عباس فقال: أصاب السنة".
والحديث دليل على أن صلاة الجمعة بعد صلاة
العيد تصير رخصة يجوز فعلها وتركها وهو خاص
بمن صلى العيد دون من لم يصلها، وإلى هذا ذهب
الهادي وجماعة إلا في حق الإمام وثلاثة معه.
وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها لا تصير رخصة
مستدلين بأن دليل وجوبها عام لجميع الأيام،
وما ذكر من الأحاديث والآثار لا يقوى على
تخصيصها لما في أسانيدها من المقال.
قلت: حديث زيد بن أرقم قد صححه ابن خزيمة
(2/52)
ولم يطعن غيره
فيه فهو يصلح للتخصيص، فإنه يخص العام
بالآحاد، وذهب عطاء إلى أنه يسقط فرضها عن
الجميع لظاهر قوله: "من شاء أن يصلي فليصل".
ولفعل ابن الزبير فإنه صلى بهم في يوم عيد
صلاة العيد يوم الجمعة، قال عطاء: ثم جئنا إلى
الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحدانا، قال:
وكان ابن عباس في الطائف، فلما قدم ذكرنا له
ذلك فقال: أصاب السنة وعنده أيضاً أنه يسقط
فرض الظهر ولا يصلي إلى العصير". وأخرج أبو
داود عن ابن الزبير: "أنه قال عيدان اجتمعا في
يوم واحد فجمعهما فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد
عليهما حتى صلى العصر". وعلى القول بأن الجمعة
الأصل في يومها والظهر بدل فهو يقتضي صحة هذا
القول لأنه إذا سقط وجوب الأصل مع إمكان أدائه
سقط البدل.
وظاهر الحديث أيضاً حيث رخص لهم في الجمعة ولم
يأمرهم بصلاة الظهر مع تقدير إسقاط الجمعة
للظهر يدل على ذلك كما قاله الشارح، وأيد
الشارح مذهب ابن الزبير.
قلت: ولا يخفى أن عطاءاً أخبر أنه لم يخرج ابن
الزبير لصلاة الجمعة وليس ذلك بنص قاطع أنه لم
يصل الظهر في منزله، فالجزم بأن مذهب ابن
الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة يكون
عيداً على من صلى صلاة العيد لهذه الرواية غير
صحيح لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله، بل في
قول عطاء أنهم صلوا وحدانا أي الظهر ما يشعر
بأنه لا قائل بسقوطه، ولا يقال: أن مراده صلوا
الجمعة وحدانا فإنها لا تصح إلا جماعة
إجماعاً، ثم القول بأن الأصل في يوم الجمعة
صلاة الجمعة والظاهر بدل عنها قول مرجوح بل
الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء
والجمعة متأخر فرضها، ثم إذا فاتت وجب الظهر
إجماعاً فهي البدل عنه، وقد حققناه في رسالة
مستقلة.
16- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا صلى
أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً" رواه مسلم"
الحديث دليل على شرعية أربع ركعات بعد الجمعة
والأمر بها وإن كان ظهره الوجوب، إلا أنه
أخرجه عنه ما وقع في لفظه من رواية ابن
الصباح: "من كان مصلياً بعد الجمعة فليصل
أربعاً" أخرجه مسلم فدل على أن ذلك ليس بواجب
والأربع أفضل من الاثنتين لوقوع الأمر بذلك
وكثرة فعله لها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم،
قال في الهدي النبوي: وكان صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صلى الجمعة دخل منزله
وصلى ركعتين سنتها، وأمر من صلاها أن يصلي
بعدها أربعاً، قال شيخنا ابن تيمية: إن صلى في
المسجد صلى أربعاً وإن صلى في بيته صلى
ركعتين.
قلت: وعلى هذا تدل الأحاديث وقد ذكر أبو داود
عن ابن عمر: "أنه كان إذا صلى في المسجد صلى
أربعاً، وإذا صلى في بيته صلي ركعتين" ، وفي
الصحيحين عن ابن عمر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته.
17- وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه" هو أبو
يزيد السائب بن يزيد الكندي في الأشهر ولد في
الثانية من الهجرة وحضر الحجة الوداع مع أبيه
وهو ابن سبع سنين "أن معاوية قال: إذا صليت
الجمعة فلا تصلها" بفتح حرف المضارعة عن الوصل
"بصلاة حتى تتكلم أو تخرج" أي من المسجد "فإن
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمرنا
بذلك أن لا نوصل
(2/53)
صلاة بصلاة حتى
نتكلم أو نخرج" أن وما بعده بدل أو عطف بيان
من ذلك "رواه مسلم" فيه مشروعية فصل النافلة
عن الفريضة وأن لا توصل بها، وظاهر النهي
التحريم وليس خاصاً بصلاة الجمعة، لأنه استدل
الراوي على تخصيصخ بذكر صلاة الجمعة بحديث
يعمها وغيرها.
قيل: والحكمة في ذلك لئلا يشتبه الفرض
بالنافلة، وقد ورد أن ذلك هلكة. وقد ذكر
العلماء أنه يستحب التحول للنافلة من موضع
الفريضة والأفضل أن يتحول إلى بيته، فإن فعل
النوافل في البيوت أفضل، وإلا فإلى موضع في
المسجد أو غيره، وفيه تكثير لمواضع السجود،
وقد أخرج أبو داود من حديث أبو هريرة مرفوعاً:
"أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه
أو عن شماله في الصلاة يعني السبحة" . ولم
يضعفه أبو داود، وقال البخاري في صحيحه: ويذكر
عن أبي هريرة يرفعه: "لا يتطوع الإمام في
مكانه". ولم يصح النهي.
18- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من اغتسل"
أي للجمعة لحديث: "إذا أتى أحدكم الجمعة
فليغتسل" أو مطلقاً، "ثم أتى الجمعة" أي
الموضع الذي تقام فيه كما يدل له قوله: "فصلى"
من النوافل "قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام
من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين
الجمعة الأخرى وفضل" أي زيادة "ثلاثة أيام .
رواه مسلم".
فيه دلالة على أنه لا بد في إحرازه لما ذكر من
الأجر من الاغتسال إلا أن في رواية لمسلم: "من
توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة". وفي هذه
الرواية بيان أن غسل الجمعة ليس بواجب وأنه لا
بد من النافلة حسبما يمكنه فإنه لم يقدرها بحد
فيتم له هذا الأجر ولو اقتصر على تحية المسجد.
وقوله: "أنصت" من الإنصات وهو السكوت وهو غير
الاستماع، إذ هو الإصغاء لسماع الشيء، ولذا
قال تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} "الأعراف:
204" وتقدم الكلام على الإنصات هل يجب أو لا.
وفيه دلالة على أن النهي عن الكلام إنما هو
حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة
فإنه لا نهي عنه كما دلت عليه "حتى".
وقوله "غفر له ما بينه وبين الجمعة" أي ما بين
صلاتها وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة
الثانية حتى يكون سبعة أيام بلا زيادة ولا
نقصان أي غفرت له الخطايا الكائنة فيما
بينهما.
"وفضل ثلاثة أيام" وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام
مع السبع حتى تكون عشرة.
وهل المغفور الكبائر أو الصغائر؟ الجمهور على
الآخر وأن الكبائر لا يغفرها إلا التوبة.
19- وعنه" أي أبي هريرة "رضي الله عنه أن رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذكر يوم
الجمعة فقال: "فيه ساعةٌ لا يوافِقُها عبْدٌ
مُسْلمٌ وهوَ قائمٌ" جملة حالية أو صفة لعبد
والواو لتأكيد لصوق الصفة "يُصَلي" حال ثانية
"يسأَلُ الله عزَّ وجلَّ" حال ثالثة "شيئاً
إلا أَعطاهُ إياهُ وأشار" أي النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم "بيده يقللها" يحقر وقتها
متفق عليه: وفي رواية لمسلم "وهي ساعةٌ
خفيفة"" هو الذي أفاده لفظ يقللها في الأولى
وفيه إبهام الساعة ويأتي تعيينها.
ومعنى "قائم" أي مقيم لها متلبس بأركانها لا
بمعنى حال القيام فقط وهذه الجملة ثابتة في
رواية جماعة من الحفاظ وأسقطت في رواية آخرين.
وحكي عن بعض
(2/54)
العلماء أنه
كان يأمر بحذفها من الحديث وكأنه استشكل
الصلاة، إذ وقت تلك الساعة إذا كان من بعد
العصر فهو وقت كراهة للصلاة وكذا إذا كان من
حال جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه، وقد
تأولت هذه الجملة بأن المراد منتظراً للصلاة؛
والمنتظر للصلاة في صلاة كما ثبت في الحديث،
وإنما قلنا إن المشير بيده هو النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما في رواية مالك
"فأشار النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم"
وقيل المشير بعض الرواة.
وأما كيفية الإشارة فهو أنه وضع أنملته على
بطن الوسطى أو الخنصر يبين قلتها. وقد أطلق
السؤال هنا وقيده في غيره كما عند ابن ماجه
"ما لم يسأل الله إثماً" وعند أحمد "ما لم
يسأل إثماً أو قطيعة رحم".
20- وعن أبي برْدة" بضم الموحدة وسكون الراء
ودال مهملة هو عامر ابن عبد الله بن قيس، وعبد
الله هو أبو موسى الأشعري، وأبو بردة من
التابعين المشهورين سمع أباه وعلياً عليه
السلام وابن عمر وغيرهم "عن أبيه" أبي موسى
الأشعري "قال: سمعت رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "هي" أي ساعة الجمعة
"ما بين أن يجلس الإمام" أي على المنبر "إلى
أن تُقْضَ الصَّلاة" رواه مسلم ورجح الدارقطني
أنه من قول أبي بردة".
وقد اختلف العلماء في هذه الساعة وذكر المصنف
في فتح الباري عن العلماء ثلاثة وأربعين قولاً
وسيشير إليها وسردها الشارح رحمه الله في
الشرح، وهذا المروي عن أبي موسى أحدها ورجحه
مسلم على ما روى عنه البيهقي وقال: هو أجود
شيء في هذا الباب وأصحه وقال به البيهقي وابن
العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع
الخلاف فلا يلتفت إلى غيره وقال النووي: هو
الصحيح بل الصواب.
قال المصنف: وليس المراد أنها تستوعب جميع
الوقت الذي عين بل تكون في أثنائه لقوله
"يقللها" وقوله "خفيفة".
وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيها فيكون
ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلاً وانتهاؤها
انتهاء الصلاة.
وأما قوله: إنه رجح الدارقطني أن الحديث من
قوله أبي بردة فقد يجاب عنه بأنه لا يكون إلا
مرفوعاً فإنه لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات
العبادات ويأتي ما أعله به الدارقطني قريباً.
21 ـ وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه"
هو أبو يوسف بن سلام من بني قينقاع إسرائيليّ
من ولد يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو أحد
الأحبار وأحد من شهد له النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم بالجنة روى عنه ابناه يوسف
ومحمد وأنس بن مالك وغيرهم مات بالمدينة سنة
ثلاث وأربعين وسلام بتخفيف اللام قال المبرد:
لم يكن في العرب سلام بالتخفيف غيره "عند ابن
ماجه" لفظه فيه عن عبد الله بن سلام قال: قلت:
ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جالس:
إنا لنجد في كتاب الله ـ يعني التوراة ـ في
الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل
الله عز وجل شيئاً إلا قضى الله له حاجته، قال
عبد الله: فأشار أي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أو بعض ساعة قلت: صدقت يا رسول الله
أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: "هي آخر
ساعة من ساعات النهار" قلت: إنها ليست ساعة
صلاة قال: "إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا
يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة" انتهى.
22 ـ وَجَابرٍ رضي اللَّهُ عنه عِنْد أبي
دَاوُدَ وللنسائي: "أَنّها مَا بينَ صَلاةِ
العصر وغُروب الشّمس"
(2/55)
قوله "أنها"
بفتح الهمزة مبتدأ خبره ما تقدم من قوله في
حديث عبد الله ابن سلام إلى آخره، ورجح أحمد
بن حنبل هذا القول رواه عنه الترمذي وقال
أحمد: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد
البر: هو أثبت شيء في هذا الباب، روى سعيد بن
منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد
الرحمن: "أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذكروا
ساعة الجمعة ثم افترقوا ولم يختلفوا أنها آخر
ساعة من يوم الجمعة" ورجحه إسحاق وغيره، وحكي
أنه نص الشافعي.
وقد استشكل هذا فإنه ترجيح لغير ما في الصحيح
على ما فيه، والمعروف من علوم الحديث وغيرها
أن ما في الصحيحين أو في أحدهما مقدم على غيره
والجواب أن ذلك حيث لم يكن حديث الصحيحين أو
أحدهما مما انتقده الحفاظ كحديث أبي موسى هذا
الذي في مسلم فإنه قد أعل بالانقطاع والاضطر:
أما الأول فلأنه من رواية مخرمة بن بكير وقد
صرح أنه لم يسمع من أبيه فليس على شرط مسلم،
وأما الثاني فلأن أهل الكوفة أخرجوه عن أبي
بردة غير مرفوع، وأبو بردة كوفي وأهل بلدته
أعلم بحديثه من بكير فلو كان مرفوعاً عند أبي
بردة لم يقفوه عليه ولهذا جزم الدارقطني بأن
الموقوف هو الصواب.
وجمع ابن القيم بين حديث أبي موسى وابن سلام
بأن الساعة تنحصر في أحد الوقتين وسبقه إلى
هذا أحمد بن حنبل "وقد اختلف فيها على أكثر من
أربعين قولاً أمليتها في شرح البخاري" تقدمت
الإشارة إلى هذا، قال الخطابي: اختلف فيها على
قولين فقيل: قد رفعت، وهو محكي عن بعض
الصحابة. وقيل: هي باقية واختلف في تعيينها،
ثم سرد الأقوال ولم يبلغ بها المصنف من العدد
وقد اقتصر المصنف هاهنا على قولين كأنهما
الأرجح عنده دليلاً.
وفي الحديث بيان فضيله الجمعة لاختصاصها بهذه
الساعة.
23- وعن جابر رضي الله عنه" هو ابن عبد الله
"قال: مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة
. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف".
وذلك أنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن،
وعبد العزيز قال فيه أحمد: اضرب على أحاديثه
فإنها كذب أو موضوعة، وقال النسائي: ليس بثقة،
وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال ابن حبان:
لا يجوز أن يحتج به وفي الباب أحاديث لا أصل
لها، وقال عبد الحق: لا يثبت في العدد حديث؛
وقد اختلف العلماء في النصاب الذين بهم تقوم
الجمعة.
فذهب إلى وجوبها على الأربعين لا على من دونهم
عمر بن عبد العزيز والشافعي وفي كون الإمام
أحدهم وجهان عند الشافعية.
وذهب أبو حنيفة والمؤيد وأبو طالب إلى أنها
تنعقد بثلاثة مع الإمام وهو أقل عدد تنعقد به
فلا تجب إذا لم يتم هذا القدر مستدلين بقوله
تعالى: { فَاسَعَوْا } قالوا: والخطاب للجماعة
بعد النداء للجمعة وأقل الجمع ثلاثة فدل على
وجوب السعي على الجمعة للجمعة بعد النداء لها
والنداء لا بدّ له من مناد فكانوا ثلاثة مع
الإمام ولا دليل على اشتراط ما زاد على ذلك،
واعترض بأنه لا يلزم من خطاب الجماعة فعلهم
لها مجتمعين وقد صرح في البحر بهذا، واعترض به
أهل المذهب لما استدلوا به للمذهب ونقضه بقوله
تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ } { وَجَاهَدُوا } فإنه لا يلزم
إيتاء الزكاة في جماعة.
قلت: والحق أن شرطية أي شيء في أي عبادة لا
يكون إلا عن
(2/56)
دليل ولا دليل
هنا على تعين عدد لا من الكتاب ولا من السنة
وإذا قد علم أنها لا تكون صلاتها إلا جماعة
كما قد ورد بذلك حديث أبي موسى عند ابن ماجة
وابن عدي وحديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني،
والاثنان أقل ما تتم به الجماعة لحديث
"الإثنان جماعة" فتتم بهم في الأظهر، وقد سرد
الشارح الخلاف والأقوال في كمية العدد المعتبر
في صلاة الجمعة فبلغت أربعة عشر قولاً وذكر ما
تشبث به كل قائل من الدليل على ما ادعاه بما
لا ينهض حجة على الشرطية.
ثم قال: والذي نقل حال النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أنه كان يصليها في جمع كثير
غير موقوف على عدد يدل على أن المعتبر وهو
الجمع الذي يحصل به الشعار ولا يكون إلا في
كثرة يغيظ بها المنافق ويكيد بها الجاحد ويسر
بها المصدق، والآية الكريمة دالة على الأمر
بالجماعة فلو وقف على أقل ما دلت عليه لم
تنعقد. قلت: قد كتبنا رسالة في شروط الجمعة
التي ذكروها ووسعنا فيها المقال والاستدلال
سميناها: اللمعة في تحقيق شرائط الجمعة.
24 ـ وَعَن سَمُرة بنِ جُنْدبٍ رضي الله عنه
"أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
كانَ يَسْتَغْفِرُ" للمؤمنينَ والمؤمنَاتِ
كُلَّ جُمُعَةٍ" رَوَاهُ الْبَزَّارُ بإسْنادٍ
لَيِّنٍ.
قلت: قال البزار: لا نعلمه عن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا بهذا الإسناد وفي
إسناده[تض] البزار يوسف بن خالد السمتي[/تض]
وهو ضعيف ورواه الطبراني في الكبير إلا أنه
بزيادة "والمسلمين والمسلمات".
وفيه دليل على مشروعية ذلك للخطيب لأنها موضع
الدعاء، وقد ذهب إلى وجوب دعاء الخطيب لنفسه
وللمؤمنين والمؤمنات أبو طالب والإمام يحيى،
وكأنهم يقولون إن مواظبته صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم دليل الوجوب كما يفيده "كان يستغفر".
وقال غيرهم: يندب ولا يجب لعدم الدليل على
الوجوب قال الشارح: والأول أظهر.
25 ـ وَعَنْ جابر بنِ سَمُرة رضي اللَّهُ
عنهما "أنَّ النّبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كانَ في الخُطْبة، يقرأُ آياتٍ مِن
القرآن ويُذكِّرُ النّاس" رَواهُ أبو داود
وأَصْلُهُ في مُسْلمٍ.
كأنه يريد ما تقدم من حديث أمّ هشام بنت
حارثة: أنها قالت ما أخذت "ق والقرآن المجيد"
إلا من لسان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يقرؤها كل جمعة على المنبر" وروى
الطبراني في الأوسط من حديث علي عليه السلام:
"أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
كان يقرأ على المنبر "{قل يا أيها الكافرون} و
{قل هو الله أحد} وفيه رجل مجهول وبقية رجاله
موثقون وأخرج الطبراني فيه أيضاً من حديث
جابر: "أنه خطب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم فقرأ في خطبته آخر الزمر فتحرّك
المنبر مرتين". وفي رواته ضعيفان.
26- وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه" ابن عبد
شمس الأحمسي البجلي الكوفي أدرك الجاهلية ورأى
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وليس له
منه سماع وغزا في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثاً
وثلاثين أو أربعاً وثلاثين غزوة وسرية ومات
سنة اثنتين وثمانين "أن رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الجمعة حق واجبٌ على
كلِّ مُسْلمٍ في جماعةٍ إلا أربعة مملُوكٌ
وامرأةٌ وصبيٌّ ومريضٌ" رواه أبو داود وقال:
لم يسمع طارق من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم" إلا أنه في سنن أبي داود بلفظ "عبد
مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض" بلفظ أو
(2/57)
وكذا ساقه
المصنف في التلخيص ثم قال أبو داود: طارق قد
رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو من
أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولم
يسمع منه شيئاً. انتهى "وأخرجه الحاكم من
رواية طارق المذكور عن أبي موسى" يريد المصنف
أنه بهذا صار موصولاً. وفي الباب عن تميم
الداري وابن عمر ومولى لابن الزبير رواه
البيهقي، وحديث تميم فيه أربعة أنفس ضعفاء على
الولاء قاله ابن القطان، وحديث ابن عمر أخرجه
الطبراني في الأوسط بلفظ "ليس على مسافر جمعة"
وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً "خمسة
لا جمعة عليهم المرأة والمسافر والعبد والصبي
وأهل البادية".
27- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "ليس على
مُسافر جمْعَةٌ" رواه الطبراين بإسناد ضعيف"
ولم يذكر المصنف تضعيفه في التلخيص، ولا بيّن
وجه ضعفه.
وإذا عرفت هذا فقد اجتمع من الأحاديث أنها لا
تجب الجمعة على ستة أنفس: الصبي وهو متفق على
أنه لا جمعة عليه، والمملوك وهو متفق عليه إلا
عند داود فقال بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم
{يا أيّها الذينَ امنوا إذا نوديَ للصلاةِ}
فإنه تقرر في الأصول دخول العبيد في الخطاب
وأجيب عنه بأنه خصصته الأحاديث وإن كان فيه
مقال فإنه يقوي بعضها بعضاً.
والمرأة وهو مجمع على عدم وجوبها عليها، وقال
الشافعي: يستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج،
ورواية البحر عنه أنه يقول بالوجوب عليهنّ
خلاف ما هو مصرح به في كتب الشافعية.
والمريض فإنه لا يجب عليه حضورها إذا كان
يتضرر به.
والمسافر لا يجب عليه حضورها وهو يحتمل أن
يراد به مباشر السفر وأما النازل فيجب عليه
ولو نزل بمقدار الصلاة وإلى هذا ذهب جماعة من
الآل وغيرهم. وقيل: لا تجب عليه لأنه داخل في
لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيضاً،
وهو الأقرب لأن أحكام السفر باقية له من القصر
ونحوه ولذا لم ينقل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلى الجمعة بعرفات في حجة الوداع لأنه
كان مسافراً.
وكذلك العيد تسقط صلاته عن المسافر ولذا لم
يرو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى صلاة
العيد في حجته تلك وقد وهم ابن حزم فقال: إنه
صلاها في حجته وغلّطه العلماء.
السادس أهل البادية وفي النهاية: أن البادية
تختص بأهل العمد والخيام دون أهل القرى
والمدن. وفي شرح العمدة أن حكم أهل القرى حكم
أهل البادية ذكره في شرح حديث "لا يبيع حاضر
لباد".
28- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا
استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا . رواه
الترمذي بإسناد ضعيف" لأن فيه[تض] محمد بن
الفضل بن عطية[تض] وهو ضعيف تفرد به وضعفه به
الدارقطني وابن عدي وغيرهما "وله شاهد من حديث
البراء عند ابن خزيمة" لم يذكره الشارح ولا
رأيته في التلخيص.
والحديث يدل على أن استقبال الناس الخطيب
مواجهين له أمر مستمر وهو في حكم المجمع عليه،
جزم بوجوبه أبو الطيب من الشافعية، وللهادوية
احتمالان فيما إذا تقدم بعض المستمعين على
الإمام ولم يواجهوه يصح
(2/58)
أو لا يصح؟.
ونص صاحب الأثمار أنه يجب على العدد الذين
تنعقد لهم الجمعة المواجهة دون غيرهم.
29- وعن الحكم بن حَزْن رضي الله عنه" بفتح
المهملة وسكون الزاي فنون. والحكم قال ابن عبد
البر: إنه أسلم عام الفتح وقيل يوم اليمامة
وأبوه حزن ابن أبي وهب المخزومي "قال "شهدنا
الجمعة مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم فقام متوكئاً على عصا أو قَوْس . رواه
أبو داود" تمامه في السنن "فحمد الله وأثنى
عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال:
"أيها الناس إنكم لن تطيقوا ـ أو لن تفعلوا ـ
كل ما أمرتم به ولكن سَدِّدوا ويَسّروا" وفي
رواية "وأبشروا" وإسناده حسن وصححه ابن السكن
وله شاهد عند أبي داود من حديث البراء: "أنه
صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب يعتمد
على عنزة له" . والعنزة مثل نصف الرمح أو أكبر
فيها سنان مثل سنان الرمح.
وفي الحديث دليل على أنه يندب للخطيب الاعتماد
على سيف أو نحوه وقت خطبته والحكمة أن في ذلك
ربطاً للقلب ولبعد يديه عن العبث فإن لم يجد
ما يعتمد عليه أرسل يديه أو وضع اليمنى على
اليسرى أو على جانب المنبر ويكره دق المنبر
بالسيف إذ لم يؤثر فهو بدعة.
(2/59)
باب صلاة الخوف
1- عن صالح بن خوّات رضي الله عنه" بفتح الخاء
المعجمة وتشديد الواو فمثناة فوقية الأنصاري
المدني تابعي مشهور سمع جماعة من الصحابة "عمن
صلى مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" في
صحيح مسلم عن صالح بن خوات ابن جبير عن سهل بن
أبي حثمة، فصرح بمن حدثه في رواية. وفي رواية
أبهمه كما هنا "يوم ذات الرِّقاع" بكسر الراء
فقاف مخففة آخره عين مهملة هو مكان من نجد
بأرض غطفان. سميت الغزوة بذلك لأن أقدامهم
نقبت فلفوا عليها الخرق كما في صحيح البخاري
من حديث أبي موسى وكانت في جمادى الأولى في
السنة الرابعة من الهجرة "صلاة الخوف أن
طائفة" من أصحابه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
"صفت معه وطائفة وجاه" بكسر الواو فجيم مواجهة
"العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائماً
وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا" في مسلم
فصفوا بالفاء "وجاه العدو وجاءت الطائفة
الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت
جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. متفق عليه
وهذا لفظ مسلم ووقع في المعرفة" كتاب "لابن
منده" بفتح الميم وسكون النون فدال مهملة إمام
كبير من أئمة الحديث "عن صالح بن خوات عن
أبيه" أي خوات وهو صحابي فذكر المبهم أنه
أبوه، وفي مسلم أنه من ذكرناه.
(2/59)
واعلم أن هذه
الغزوة كانت في الرابعة كما ذكرناه وهو الذي
قاله ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي
وتلقاه الناس منهم. قال ابن القيم: وهو مشكل
جداً فإنه قد صح أن المشركين حبسوا رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الخندق عن
صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهنّ
جميعاً وذلك قبل نزول صلاة الخوف. والخندق بعد
ذات الرقاع سنة خمس، قال: والظاهر أن أول صلاة
صلاها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
للخوف بعسفان، ولا خلاف بينهم أن عسفان كانت
بعد الخندق، وقد صح عنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أنه صلى صلاة الخوف بذات الرقاع فعلم
أنها بعد الخندق وبعد عسفان وقد تبين لنا وهم
أهل السير انتهى.
ومن يحتج بتقديم شرعيتها على الخندق على رواية
أهل السير يقول: إنها لا تصلى صلاة الخوف في
الحضر ولذا لم يصلها النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الخندق.
وهذه الصفة التي ذكرت في الحديث في كيفية
صلاتها واضحة وقد ذهب إليها جماعة من الصحابة
ومن الآل من بعدهم.
واشترط الشافعي أن يكون العدو في غير جهة
القبلة.
وهذا في الثنائية وإن كانت ثلاثية انتظر في
التشهد الأول وتتم الطائفة الركعة الثالثة،
وكذلك في الرباعية إن قلنا إنها تصلى صلاة
الخوف في الحضر وينتظر في التشهد أيضاً.
وظاهر القرآن مطابق لما دل عليه هذا الحديث
الجليل لقوله {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا
فيصلوا معك} وهذه الكيفية أقرب إلى موافقة
المعتاد من الصلاة في تقليل الأفعال المنافية
للصلاة والمتابعة للإمام...
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع
رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
قِبل" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة "نجد"
نجد: كل ما ارتفع من بلاد العرب "فوازينا"
بالزاي بعدها مثناة تحتية قابلنا "العدو
فصاففناهم فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم فصلى بنا" في المغازي من البخاري أنها
صلاة العصر ثم لفظ البخاري "فصلى لنا" باللام
قال المصنف في الفتح: أي لأجلنا ولم يذكر أن
فيه رواية بالموحدة وفيه "يصلي" بالفعل
المضارع "فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على
العدو وركع بمن معه ركعة وسجد سجدتين ثم
انصرفوا" أي الذين صلوا معه، ولم يكونوا أتوا
بالركعة الثانية ولا سلموا من صلاتهم "مكان
الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع بهم ركعة
وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع
لنفسه ركعة وسجد سجدتين . متفق عليه وهذا لفظ
البخاري".
قال المصنف: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا
ويحتمل أنهم أتموا في حالة واحدة ويحتمل أنهم
أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى
وإلا استلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد
الإمام وحده ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث
ابن مسعود بلفظ "ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة
الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا
ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم
سلموا" انتهى.
والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على
الواحد حتى لو كانوا ثلاثة جاز للإمام أن يصلي
بواحد والثالث يحرس ثم يصلي مع الإمام وهذا
أقل ما يحصل به جماعة الخوف.
وظاهر الحديث أن الطائفة الثانية والت بين
ركعتيها ثم أتت الطائفة الأولى بعدها، وقد ذهب
إلى هذه الكيفية أبو حنيفة ومحمد.
(2/60)
3- وعن جابر
رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الخوف فصففنا
صفين: صفٌّ خلف رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم والعدوُّ بيننا وبين القبلة فكبر
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكبرنا
جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من
الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف
الذي يليه" أي انحدر الصف الذي يليه وهو عطف
على الضمير المتصل من دون تأكيد لأنه وقد وقع
الفصل "وأقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما
قضى السجود وقام الصف الذي يليه فذكر الحديث"
تمامه "انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم
تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وركعنا
جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً
ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان
مؤخراً في الركعة الأولى وقام والصف المؤخر في
نحور العدو، فلما قضى النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم السجود والصف الذي يليه
انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وسلمنا
جميعاً، قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء
بأمرائهم" انتهى لفظ مسلم.
قوله "وفي رواية" هي في مسلم عن جابر وفيها
تعيين القوم الذين حاربوهم ولفظها "غزونا مع
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قوماً
من جهينة فقاتلونا قتالاً شديداً فلما صلينا
الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة
لاقتطعناهم فأخبر جبريل رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك فذكر لنا رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: وقالوا:
إنها ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من "الأولاد"
فلما حضرت العصر ـ إلى أن قال: ثم سجد وسجد
معه الصف الأول فلما قاموا سجد الصف الثاني،
ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني، فذكر
مثله" قال: "فقاموا مقام الأول فكبر رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكبرنا وركع
فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول وقام
الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعاً"
"وفي أواخره: ثم سلم النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم وسلمنا جميعاً . رواه مسلم".
الحديث دليل على أنه إذا كان العدو في جهة
القبلة فإنه يخالف ما إذا لم يكن كذلك فإنها
تمكن الحراسة مع دخولهم جميعاً في الصلاة.
وذلك أن الحاجة إلى الحراسة إنما تكون في حال
السجود فقط، فيتابعون الإمام في القيام
والركوع، ويحرس الصف المؤخر في حال السجدتين
بأن يتركوا المتابعة للإمام ثم يسجدون عند
قيام الصف الأول. ويتقدم المؤخر إلى محل الصف
المقدم، ويتأخر المقدم ليتابع المؤخر الإمام
في السجدتين الأخيرتين، فيصح مع كل من
الطائفتين المتابعة في سجدتين.
والحديث يدل أنها لا تكون الحراسة إلا حال
السجود فقط دون حال الركوع لأن حال الركوع لا
يمتنع معه إدراك أحوال العدو.
وهذه الكيفية لا توافق ظاهر الآية ولا توافق
الرواية الأولى عن صالح ابن خوات ولا رواية
ابن عمر إلا أنه قد يقال: إنها تختلف الصفات
باختلاف الأحوال.
4 ـ ولأبي داود عن أبي عياش الزرقي مثله" أي
مثل رواية جابر هذه "وزاد" تعيين محل الصلاة
"أنها كانت بعسفان" بضم العين المهملة وسكون
السين المهملة ففاء آخره نون وهو موضع على
مرحلتين من مكة كما في القاموس.
(2/61)
5- وللنسائي من
وجه آخر" غير الوجه الذي أخرجه منه مسلم "عن
جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين
ثم سلم ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم" فصلى
بإحداهما فرضاً وبالأخرى نفلاً له.
وعمل بهذا الحسن البصري، وادعى الطحاوي أنه
منسوخ بناء منه على أنه لا يصح أن يصلي
المفترض خلف المتنفل، ولا دليل على النسخ.
6 ـ ومثله لأبي داود عن أبي بكرة" وقال أبو
داود: وكذلك في المغرب يكون للإمام ست ركعات
وللقوم ثلاث ثلاث.
7 ـ وعَنْ حُذيفة رضيَ اللَّهُ عنه: "أنَّ
النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في
الخوفِ بهؤلاءِ ركْعَةً وهؤلاءِ ركْعَةً ولمْ
يَقْضُوا" رَوَاهُ أَحْمدُ وأَبو داودَ
والنسائي وصحّحهُ ابنُ حبان.
8 ـ ومِثْلُهُ عِنْدَ ابنِ خُزَيْمَةَ عن ابنِ
عبّاسٍ رضيَ الله عَنْهُما.
وهذه الصلاة بهذه الكيفية صلاها حذيفة
بطبرستان وكان الأمير سعيد ابن العاص فقال:
أيكم صلى مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلاة الخوف قال حذيفة: أنا، فصلى
بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.
وأخرج أبو داود عن ابن عمر وعن زيد بن ثابت:
قال زيد: فكانت للقوم ركعة ركعة وللنبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم ركعتين. وأخرج عن ابن
عباس: قال: فرض الله تعالى الصلاة على لسان
نبيكم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الحضر
أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة.
وأخذ بهذا عطاء وطاوس والحسن وغيرهم فقالوا:
يصلي في شدة الخوف ركعة يوميء إيماء.
وإن إسحاق يقول: تجزئك عند المسايفة ركعة
واحدة تومىء لها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة فإن
لم فتكبيرة لأنها ذكر الله".
9 ـ وعن ابن عُمَر رضي الله عنهما قال: قالَ
رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
"صلاة الخوف ركعةٌ على أيِّ وجهٍ كان" رواهُ
البزَّارُ بإسناد ضَعيف.
وأخرج النسائي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلاها بذي قرد بهذه الكيفية . وقال
المصنف: قد صححه ابن حبان وغيره. وأما الشافعي
فقال: لا يثبت.
والحديث دليل على أن صلاة الخوف ركعة واحدة في
حق الإمام والمأموم وقد قال به الثوري وجماعة،
وقال به من الصحابة أبو هريرة وأبو موسى.
واعلم أنه ذكر المصنف في هذا الكتاب خمس
كيفيات لصلاة الخوف وفي سنن أبي داود ثماني
كيفيات منها هذه الخمس وزاد ثلاثاً.
وقال المصنف في فتح الباري: قد روي في صلاة
الخوف كيفيات كثيرة ورجح ابن عبد البر الكيفية
الواردة في حديث ابن عمر لقوة الإسناد وموافقة
الأصول في أن المؤتم لا تتم صلاته قبل الإمام.
وقال ابن حزم: صح منها أربعة عشر وجهاً.
وقال ابن العربي: فيها روايات كثيرة أصحها ست
عشرة رواية مختلفة.
وقال النووي: نحوه في شرح مسلم ولم يبينها.
قال الحافظ: وقد بينها شيخنا الحافظ أبو الفضل
في شرح الترمذي وزاد وجهاً فصارت سبع عشرة
ولكن يمكن أن تتداخل.
وقال في الهدي النبوي: صلاها النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم عشر مرات. وقال ابن العربي:
صلاها أربعاً وعشرين مرة.
وقال الخطابي: صلاها النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم في أيام مختلفة بأشكال
متباينة يتحرّى ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ
في الحراسة فهي على اختلاف صورتها متفقة
المعنى انتهى.
10ـ وعَنْهُ رضي اللَّهُ عنهُ مَرْفوعاً
"لَيْسَ في صَلاةِ الخوفِ سَهْوٌ" أَخرجَهُ
(2/62)
الدَّارقُطني
بإسناد ضَعيف. وهو مع هذا موقوف، قيل: ولم يقل
به أحد من العلماء.
واعلم أنه قد شرط في صلاة الخوف شروط:
منها السفر: فاشترطه جماعة لقوله تعالى: {
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } الآية
ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصلها
في الحضر وقال زيد بن علي والناصر والحنفية
والشافعية: لا يشترط لقوله تعالى: { وَإِذَا
كُنْتَ فِيهِمْ } بناء على أنه معطوف على
قوله: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ }
فهو غير داخل في التقييد بالضرب في الأرض ولعل
الأوّلين يجعلونه مقيداً بالضرب في الأرض وأن
التقدير وإذا كنت فيهم مع هذه الحالة التي هي
الضرب في الأرض والكلام مستوفى في كتب
التفسير.
ومنها: أن يكون آخر الوقت: لأنها بدل من صلاة
الأمن لا تجزيء إلا عند اليأس من المبدل منه
وهذه قاعدة للقائلين بذلك وهم الهادوية.
وغيرهم يقول: تجزيء أوّل الوقت لعموم أدلة
الأوقات.
ومنها: حمل السلاح حال الصلاة: اشترطه داود
فلا تصح الصلاة إلا بحمله ولا دليل على
اشتراطه. وأوجبه الشافعي والناصر للأمر به في
الآية ولهم في السلاح تفاصيل معروفة.
ومنها: ألا يكون القتال محرّماً: سواء كان
واجباً عيناً أو كفاية.
ومنها: أن يكون المصلي مطلوباً للعدوّ لا
طالباً: لأنه إذا كان طالباً أمكنه أن يأتي
بالصلاة تامّة، أو يكون خاشياً لكرّ العدو
عليه. وهذه الشرائط مستوفاة في الفروع مأخوذة
من أحوال شرعيتها وليست بظاهرة في الشرطية.
واعلم أن شرعية هذه الصلاة من أعظم الأدلة على
عظم شأن الجماعة.
(2/63)
باب صلاة العيدين
1 ـ عَنْ عَائشةَ رضي اللَّهُ عنها قالت: قالَ
رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
"الفطرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النّاسُ والأضحى
يَوْمَ يُضَحِّي النّاس" رواهُ التِّرمذيُّ.
وقال الترمذي بعد سياقه: هذا حديث حسن غريب.
وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث أن معنى هذا:
الفطر والصوم مع الجماعة ومعظم الناس بلفظه:
فيه دليل على أنه يعتبر في ثبوت العيد
الموافقة للناس وأن المنفرد بمعرفة يوم العيد
بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ويلزمه حكمهم في
الصلاة والإفطار والأضحية. وقد أخرج الترمذي
مثل هذا الحديث عن أبي هريرة وقال: حديث حسن.
وفي معناه حديث ابن عباس وقد قال له كريب: إنه
صام أهل الشام ومعاوية برؤية الهلال يوم
الجمعة بالشام وقدم المدينة آخر الشهر وأخبر
ابن عباس بذلك فقال ابن عباس: لكنا رأيناه
ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو
نراه قال: قلت: أولا تكتفي برؤية معاوية
والناس؟ قال: لا هكذا أمرنا رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
وظاهر الحديث أن كريباً ممن رآه وأنه أمره ابن
عباس أن يتم صومه وإن كان متيقناً أنه يوم عيد
عنده.
وذهب إلى هذا محمد بن الحسن وقال: يجب موافقة
الناس وإن خالف يقين نفسه وكذا في الحج لأنه
ورد "وعرفتكم يوم تعرفون".
وخالفه الجمهور وقالوا: إنه يجب عليه العمل في
نفسه بما تيقنه وحملوا الحديث على عدم معرفته
بما يخالف الناس فإنه إذا انكشف بعد الخطأ فقد
أجزأه ما فعل. قالوا: وتتأخر الأيام في حق من
التبس عليه وعمل بالأصل وتأولوا حديث ابن عباس
بأنه يحتمل أنه لم يقل برؤية
(2/63)
أهل الشام
لاختلاف المطالع في الشام والحجاز، أو أنه لما
كان المخبر واحداً لم يعمل بشهادته، وليس فيه
أنه أمر كريباً بالعمل بخلاف يقين نفسه فإنما
أخبر عن أهل المدينة وأنهم لا يعملون بذلك
لأحد الأمرين.
2- وعن أبي عمير" هو أبو عمير "ابن أنس بن
مالك رضي الله عنهما" الأنصاري يقال: إن اسمه
عبد الله وهو من صغار التابعين روى عن جماعة
من الصحابة وعمّر بعد أبيه زماناً طويلاً "عن
عمومةٍ له من أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أن ركباً جاءوا إلى النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يشهدون أنهم رأوا الهلال
بالأمس فأمرهم" النبي صلى الله عليه وآله وسلم
"أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم .
رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه وإسناده صحيح"
وأخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن المنذر
وابن السكن وابن حزم. وقول ابن عبد البر إن
أبا عمير مجهول مردود بأنه قد عرفه من صحح له.
الحديث دليل على أن هذه الأذكار قائمة مقام
القراءة للفاتحة، وغيرها، لمن لا يحسن ذلك،
وظاهره: أنه لا يجب عليه تعلم القران ليقرأ به
في الصلاة، فإن معنى لا أستطيع: لا أحفظ الان
منه شيئاً، فلم يأمره بحفظه، وأمره بهذه
الألفاظ، مع أنه يمكنه حفظ الفاتحة، كما يحفظ
هذه. وقد تقدم في حديث المسيء صلاته.
والحديث دليل على أن صلاة العيد تصلى في اليوم
الثاني حيث انكشف العيد بعد خروج وقت الصلاة.
وظاهر الحديث الإطلاق بالنظر إلى وقت الصلاة،
وأنه وإن كان وقتها باقياً حيث لم يكن ذلك
معلوماً من أول اليوم، وقد ذهب إلى العمل به
الهادي والقاسم وأبو حنيفة لكن شرط أن لا يعلم
إلا وقد خرج وقتها فإنها تقضى في اليوم الثاني
فقط في الوقت الذي تؤدى فيه في يومها، قال أبو
طالب: بشرط أن يترك اللبس كما ورد في الحديث،
وغيره يعمم العذر سواء كان للبس أو لمطر وهو
مصرح به في كتب الحنفية قياساً لغير اللبس
عليه.
ثم ظاهر الحديث أنها أداء لا قضاء.
وذهب مالك أنها لا تقضى مطلقاً كما لا تقضى في
يومها.
وللشافعية تفاصيل أخر ذكرها في الشرح وهذا
الحديث ورد في عيد الإفطار وقاسوا عليه الأضحى
وفي الترك للبس وقاسوا عليه سائر الأعذار وفي
القياس نظر إذا لم يتعين معرفة الجامع والله
أعلم.
3- وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو" أي يخرج وقت
الغداة "يوم الفطر" أي إلى المصلى "حتى يأكل
تمرات . أخرجه البخاري، وفي رواية معلقة" أي
للبخاري علقها عن أنس "ووصلها أحمد "ويأكلهن
أفراداً"" وأخرجه البخاري في تاريخه وابن حبان
والحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: حتى
يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أقل
من ذلك أو أكثر وتراً.
والحديث يدل على مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم على ذلك.
قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن
لايظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد فكأنه
أراد سد هذه الذريعة، وقيل لما وقع وجوب الفطر
عقيب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى
امتثال أمر الله.
قال ابن قدامة: ولا نعلم في استحباب تعجيل
الأكل في هذا اليوم قبل الصلاة خلافاً.
قال المصنف في الفتح: والحكمة في استحباب
التمر ما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه
الصوم، أو لأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر
به المنام ويرقق القلب ومن ثمة استحب بعض
التابعين أن يفطر على الحلو مطلقاً.
قال المهلب: وأما جعلهن وتراً فللإشارة إلى
الوحدانية، وكذلك كان يفعل صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم في جميع أموره تبركاً بذلك.
4- وعن ابن بريدة رضي الله عنه" بضم الموحدة
وفتح الراء وسكون المثناة التحتية ودال مهملة
(2/64)
"عن أبيه" هو
بريدة بن الحصيب تقدم، واسم ابن بريدة: عبد
الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي أبو سهل
المروزي قاضيها ثقة من الثالثة قاله المصنف في
التقريب "قال: كان النبيُّ صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم،
ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي . رواه أحمد"
وزاد فيه: فيأكل من أضحيته " والترمذي وصححه
ابن حبان" وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني
والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان وفي رواية
البيهقي زيادة: وكان إذا رجع أكل من كبد
أضحيته . قال الترمذي: وفي الباب عن علي وأنس،
ورواه الترمذي أيضاً عن ابن عمر وفيها ضعف.
والحديث دليل على شرعية الأكل يوم الفطر قبل
الصلاة وتأخيره يوم الأضحى إلى ما بعد الصلاة.
والحكمة فيه هو أنه لما كان إظهار كرامة الله
تعالى للعباد بشرعية نحر الأضاحي كان الأهم
الابتداء بأكلها شكراً لله على ما أنعم به من
شرعية النسكية الجامعة لخير الدنيا وثواب
الآخرة.
5- وعن أم عطية رضي الله عنها" هي الأنصارية
اسمها نسيبة بنت الحرث وقيل بنت كعب كانت تغزو
مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
كثيراً تداوي الجرحى وتمرض المرضى، تعدّ في
أهل البصرة، وكان جماعة من الصحابة وعلماء
التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت لأنها
شهدت غسل بنت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم فحكمت ذلك وأتقنت، فحديثها أصل في غسل
الميت، ويأتي حديثها هذا في كتاب الجنائز
"قالت: أُمرنا" مبني للمجهول للعلم بالآمر،
وأنه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم،
وفي رواية للبخاري: "أمرنا نبينا" "أن نُخْرج"
أي إلى المصلى "العواتق" البنات الأبكار
البالغات والمقاربات للبلوغ "والحيض" هو أعم
من الأول من وجه "في العيدين يشهدن الخير" هو
الدخول في فضيلة الصلاة لغير الحيض "ودعوة
المسلمين" تعم الجميع " ويعتزل الحيض المصلى.
متفق عليه" لكن لفظه عند البخاري: "أمرنا أن
نخرج العواتق ذوات الخدور ـ أو قال: العواتق
وذوات الخدور فيعتزلن الحيض المصلى". ولفظ
مسلم: "أَمرنا يعني النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أن نخرج العواتق وذوات الخدور وأَمرَ
الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين" .
فهذا اللفظ الذي أتى به المصنف ليس لفظ
أحدهما.
والحديث دليل على وجوب إخراجهن. وفيه أقوال
ثلاثة:
الأول: أنه واجب وبه قال الخلفاء الثلاثة أبو
بكر وعمر وعلي. ويؤيد الوجوب ما أخرجه ابن
ماجه والبيهقي من حديث ابن عباس: "أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخرج نساءه وبناته
في العيدين". وهو ظاهر في استمرار ذلك منه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو عام لمن كانت
ذات هيئة وغيرها وصريح في الشواب وفي العجائز
بالأولى.
والثاني: سنة وحمل الأمر بخروجهن على الندب
قاله جماعة وقواه الشارح مستدلاً بأنه علل
خروجهن بشهود الخير ودعوة المسلمين قال: ولو
كان واجباً لما علل بذلك ولكان خروجهن لأداء
الواجب عليهنّ لامتثال الأمر "قلت": وفيه تأمل
فإنه قد يعلل الواجب بما فيه من العوائد ولا
يعلل بأدائه.
وفي كلام الشافعي في الأم التفرقة بين ذوات
الهيئات والعجائز فإنه قال: أحب شهود العجائز
وغير ذوات الهيئات من النساء الصلاة وأنا
لشهودهن الأعياد أشد استحباباً.
والثالث: أنه منسوخ قال الطحاوي: إن ذلك كان
في صدر الإسلام للاحتياج
(2/65)
في خروجهنّ
لتكثير السواد فيكون فيه إرهاب للعدو ثم نسخ.
وتعقب أنه نسخ بمجرد الدعوى ويدفعه أن ابن
عباس شهد خروجهنّ وهو صغير وكان ذلك بعد فتح
مكة، ولا حاجة إليهنّ لقوة الإسلام حينئذ،
ويدفعه أنه علل في حديث أم عطية حضورهنّ
لشهادتهنّ الخير ودعوة المسلمين. ويدفعه أنه
أفتت به أم عطية بعد وفاته صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم بمدة ولم يخالفها أحد من
الصحابة.
وأما قول عائشة: "لو رأى النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ما أحدث النساء لمنعهنّ عن
المساجد": فهو لا يدل على تحريم خروجهنّ ولا
على نسخ الأمر به بل فيه دليل على أنهنّ لا
يمنعن لأنه لم يمنعهنّ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم بل أمر بإخراجهنّ فليس لنا أن نمنع ما
أمر به.
6 ـ وعن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمَا
قالَ: "كانَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم وَأَبُو بكر وعُمَرُ يصلونَ
العِيديْنِ قَبْلَ الخُطْبةِ" مُتّفقٌ عليه.
فيه دليل على أن ذلك هو الأمر الذي داوم عليه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وخليفتاه
واستمروا على ذلك.
وظاهره وجوب تقديم الصلاة على الخطبة، ونقل
الإجماع على عدم وجوب الخطبة في العيدين،
ومستنده ما أخرجه النسائي وابن ماجه وأبو داود
من حديث عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العيد فلما
قضى صلاته قال: " إنا نخطب فمن أحب أن يجلس
للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب" فكانت
غير واجبة فلو قدمها لم تشرع إعادتها وإن كان
فاعلاً خلاف السنة.
وقد اختلف من أول من خطب قبل الصلاة؟ ففي مسلم
أنه مروان، وقيل: سبقه إلى ذلك عثمان كما رواه
ابن المنذر بسند صحيح إلى الحسن البصري قال:
"أول من خطب قبل الصلاة عثمان". أي صلاة
العيد.
وأما مروان فإنه إنما قدم الخطبة لأنه قال لما
أنكر عليه أبو سعيد: إن الناس لم يكونوا
يجلسون لنا بعد الصلاة، قيل إنهم كانوا
يتعمدون ترك استماع الخطبة لما فيها من سب من
لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس.
وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري
قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد
معاوية... وعلى كل تقدير فإنه بدعة مخالف
لهديه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد اعتذر
لعثمان بأنه كثر الناس في المدينة وتناءت
البيوت فكان يقدم الخطبة ليدرك من بعد منزله
الصلاة وهو رأي مخالف لهديه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم.
7 ـ وعن ابْنِ عَبّاسٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما
"أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
صَلى يَوْمَ العيدِ رَكْعَتَيْنِ لمْ يُصَل
قَبْلَهُمَا ولا بَعْدهُما" أَخْرجَهُ
السّبْعة.
هو دليل على أن صلاة العيد ركعتان وهو إجماع
فيمن صلى مع الإمام في الجبانة وأما إذا فاتته
صلاة الإمام فصلى وحده فكذلك عند الأكثر.
وذهب أحمد والثوري إلى أنه يصلي أربعاً.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود "من فاتته
صلاة العيد مع الإمام فليصل أربعاً" وهو إسناد
صحيح.
وقال إسحاق: إن صلاها في الجبانة فركعتين وإلا
فأربعاً.
وقال أبو حنيفة: إذا قضى صلاة العيد فهو مخير
بين اثنتين وأربع.
وصلاة العيد مجمع على شرعيتها مختلف فيها على
أقوال ثلاثة:
الأول: وجوبها عيناً عند الهادي وأبي حنيفة
وهو الظاهر من مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم
(2/66)
والخلفاء من
بعده وأمره بإخراج النساء، وكذلك ما سلف من
حديث أمرهم بالغدوّ إلى مصلاهم، فالأمر أصله
الوجوب، ومن الأدلة قوله تعالى: { فَصَلِّ
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } على من يقول المراد به
صلاة النحر، وكذلك قوله تعالى: { قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى } "الأعلى: 41، 51" فسرها
الأكثر بزكاة الفطر وصلاة عيده.
الثاني: أنها فرض كفاية لأنها شعار وتسقط
بقيام البعض به كالجهاد ذهب إليه أبو طالب
وآخرون.
الثالث: أنها سنة مؤكدة ومواظبته صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم عليها دليل تأكيد سنيتها وهو
قول زيد بن عليّ وجماعة قالوا: لقوله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خمس صلوات كتبهن الله
على العباد" وأجيب بأنه استدلال بمفهوم العدد،
وبأنه يحتمل كتبهن كل يوم وليلة. وفي قوله:
"لم يصل قبلها ولا بعدها" . دليل على عدم شرعة
النافلة قبلها ولا بعدها لأنه إذا لم يفعل ذلك
ولا أمر به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فليس
بمشروع في حقه فلا يكون مشروعاً في حقنا ويأتي
حديث أبي سعيد فإن فيه الدلالة على ترك ذلك
إلا أنه يأتي في حديث سعيد: "أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي بعد العيد ركعتين
في بيته". وصححه الحاكم فالمراد بقوله هنا ولا
بعدها أي في المصلي.
8- وعنه" أي ابن عباس "أن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم صلى العيد بلا أذان ولا
إقامة. أخرجه أبو داود وأصله في البخاري" وهو
دليل على عدم شرعيتهما في صلاة العيد فإنهما
بدعة، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن
المسيب: "أن أول من أحدث الأذان لصلاة العيد
معاوية"، ومثله رواه الشافعي عن الثقة وزاد
"وأخذ به الحجاج حين أمر على المدينة"، وروى
ابن المنذر: "أن أول من أحدثه زياد بالبصرة"،
وقيل: أول من أحدثة مروان، وقال ابن أبي حبيب:
أول من أحدثه عبد الله بن الزبير وأقام أيضاً،
وقد روى الشافعي عن الثقة عن الزهري: "أن رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يأمر
المؤذن في العيد أن يقول الصلاة جامعة" . قال
في الشرح: وهذا مرسل يعتضد بالقياس على الكسوف
لثبوت ذلك فيه، قلت: وفيه تأمل:.
9- وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا يصلي قبل
العيد شيئاً فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين .
رواه ابن ماجه بإسناد حسن" وأخرجه الحاكم
وأحمد، وروى الترمذي عن ابن عمر نحوه وصححه
وهو عند أحمد والحاكم، وله طريق أخرى عند
الطبراني في الأوسط لكن فيه جابر الجعفي وهو
متروك، والحديث يدل على أنه شرع صلاة ركعتين
بعد العيد في المنزل، وقد عارضه حديث ابن عمر
عند أحمد مرفوعاً: "لا صلاة يوم العيد لا
قبلها ولا بعدها" والجمع بينهما بأن المراد لا
صلاة في الجبانة.
10- وعنه" أي أبي سعيد "قال: كان رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخرج يوم الفطر
والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة
ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم
فيعظهم ويأمرهم . متفق عليه" فيه دليل على
شرعية الخروج إلى المصلى والمتبادر منه الخروج
إلى موضع غير مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم، وهو كذلك فإن مصلاه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم محل معروف بينه وبين باب
مسجده ألف ذراع، قاله عمر ابن شبة في أخبار
(2/67)
المدينة.
وفي الحديث دلالة على تقديم الصلاة على الخطبة
وتقدم، وعلى أنه لا نفل قبلها وفي قوله: "يقوم
مقابل الناس" دليل على أنه لم يكن في مصلاه
منبر، وقد أخرج ابن حبان في رواية: "خطب يوم
عيد على راحلته". وقد ذكر البخاري في تمام
روايته عن أبي سعيد: "أن أول من اتخذ المنبر
في مصلى العيد مروان". وأن كان قد روى عمر بن
شبة: "أن من خطب الناس في المصلى على المنبر
عثمان فعله مرة ثم تركه حتى أعاده مروان"،
وكأن أبا سعيد لم يطلع على ذلك. وفيه دليل على
مشروعية خطبة العيد وأنها كخطب الجمع أمر ووعظ
وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد
بينهما ولعله لم يثبت ذلك من فعله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم، وإنما صنعه الناس قياساً
على الجمعة.
11- وعن عمرو بن شعيب" هو أبو إبراهيم عمرو بن
شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص
سمع أباه وابن المسيب وطاوساً، وروي عنه
الزهري وجماعة، ولم يخرج الشيخان حديثه وضمير
أبيه وجده إن كان معنا أن أباه شعيباً روى عن
جده محمد أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قال: كذا فيكون مرسلاً، لأن جده
محمداً لم يدرك النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم وإن كان الضمير الذي في أبيه عائداً
إلى شعيب والضمير في جده إلى عبد الله فيراد
أن شعيباً روى عن جده عبد الله فشعيب لم يدرك
جده عبد الله، فلهذه العِلَّة لم يخرجا حديثه،
وقال الذهبي: قد ثبت سماع شعيب من جده عبد
الله، وقد احتج به أرباب السنن الأربعة وابن
خزيمة وابن حبان والحاكم، "عن أبيه عن جده
قال: قال نبي الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: " التكبير في الفطر" أي في صلاة عيد
الفطر "سبع في الأولى" أي في الركعة الأولى،
"وخمس في الأخيرة" أي الركعة الأخرى، و
"القراءة" الحمد وسورة "بعدهما" أخرجه أبو
داود ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه" ،
وأخرجه أخمد وعليّ بن المديني، وصححاه، وقد
رووه من حديث عائشة وسعد القرظي وابن عباس
وابن عمر وكثير بن عبد الله، والكل فيه ضعفاء،
وقد روي عن عليّ عليه السلام وابن عباس
موقوفاً، قال ابن رشد: إنما صاروا إلى الأخذ
بأقوال الصحابة في هذه المسألة لأنه لم يثبت
فيها عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
شيء.
قلت: وروي العقيلي عن أحمد بن حنبل أنه قال:
ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح.
هذا والحديث دليل على أنه يكبر في الأولى من
ركعتي العيد سبعاً، ويحتمل أنها بتكبيرة
الافتتاح وأنها من غيرها والأوضح أنها من
دونها وفيها خلاف.
وقال في الهدي النبوي: إن تكبيرة الافتتاح
منها إلا أنه لم يأت بدليل، وفي الثانية خمساً
وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم وخالف
آخرون فقالوا: خمس في الأولى وأربع في
الثانية، وقيل: ثلاث في الأولى وثلاث في
الثانية، وقيل: ست في الأولى وخمس في الثانية.
قلت: والأقرب العمل بحديث الباب، فإنه وإن كان
كل طرقه واهية، فإنه يشد بعضها بعضاً ولأن ما
عداه من الأقوال ليس فيها سنة يعمل بها.
وفي الحديث دليل على القراءة بعد التكبير في
الركعتين، وبه قال الشافعي ومالك ،
(2/68)
وذهب الهادي
إلى أن القراءة قبلها فيهما واستدل له في
البحر بما لا يتم دليلاً وذهب الباقر وأبو
حنيفة إلى أنه يقدم التكبير في الأولى ويؤخر
في الثانية ليوالي بين القراءتين.
واعلم أن قول المصنف أنه نقل الترمذي عن
البخاري تصحيحه.
وقال في تلخيص الحبير: إنه قال البخاري
والترمذي: إنه أصح شيء في هذا الباب، فلا أدري
من أي نقله عن الترمذي فإن الترمذي لم يخرج في
سننه رواية عمرو بن شعيب أصلاً بل أخرج رواية
كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وقال: حديث
جد كثير أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقال: وفي الباب
عن عائشة وابن عمر وعبد الله بن عمرو ولم يذكر
عن البخاري شيئاً، وقد وقع البيهقي في السنن
الكبرى هذا الوهم بعينه إلا أنه ذكره بعد
روايته لحديث كثير فقال: قال أبو عيسى: سألت
محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث، فقال: ليس
في هذا الباب شيء أصح منه قال: وحديث عبد الله
بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده في هذا الباب هو صحيح أيضاً،
انتهى كلام البيهقي.
ولم نجد في الترمذي شيئاً مما ذكره، وقد نبه
في تنقيح الأنظار على شيء من هذا، وقال:
والعجب أن ابن النحوي ذكر في خلاصته عن
البيهقي أن الترمذي قال: سألت محمداً عنه إلخ،
وبهذا يعرف أن المصنف قلد في النقل عن الترمذي
عن البخاري الحافظ البيهقي، ولهذا لم ينسب
حديث عمرو بن شعيب إلا إلى أبي دادو، والأولى
العمل بحديث عمرو لما عرفت، وأنه أشفى شيء في
الباب، وكان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسكت
بين كل تكبيرتين سكتة لطيفة ولم يحفظ عنه ذكر
معين بين التكبيرتين ولكن ذكر الخلال عن ابن
مسعود أنه قال: يحمد الله ويثني عليه ويصلي
على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وأخرج
الطبراني في الكبير عن ابن مسعود "أن بين كل
تكبيرتين قدر كلمتين" وهو موقوف. وفيه[تض]
سليمان بن أرقم[تض] ضعيف، وكان ابن عمر مع
تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة.
12- وعن أبي واقد" بقاف ومهملة اسم فاعل من
وقد اسمه: الحارث بن عوف الليثي قديم الإسلام
قيل إنه شهد بدراً، وقيل إنه من مسلمة الفتح،
والأول أصح. عداده في أهل المدينة، وجاور
بمكة، ومات بها سنة ثمان وستين "الليثي رضي
الله عنه قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يقرأ في الفطر والأضحى بـ "قاف" " أي
في الأولى بعد الفاتحة "واقتربت" أي في
الثانية بعدها "أخرجه مسلم".
فيه دليل على أن القراءة بهما في صلاة العيد
سنة، وقد سلف أنه يقرأ فيهما بسبح والغاشية.
والظاهر أنه كان يقرأ هذا تارة وهذا تارة، وقد
ذهب إلى سُنية ذلك الشافعي ومالك.
13 ـ وَعَنْ جابرٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
"كانَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم إذا كانَ يوْمُ الْعيدِ خَالَفَ
الطّريقَ" أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ.
يعني أنه يرجع من مصلاه من جهة غير الجهة التي
خرج منها إليه.
قال الترمذي: أخذ بهذا بعض أهل العلم واستحبه
للإمام وبه يقول الشافعي انتهى. وقال به أكثر
أهل العلم، ويكون مشروعاً للإمام والمأموم
الذي أشار إليه بقوله:
(2/69)
14 ـ وَلأبي
دَاوُدَ عن ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهما
نَحْوُهُ.
ولفظه في السنن عن ابن عمر "أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أخذ يوم العيد في طريق ثم
رجع في طريق أخرى".
وفيه دليل أيضاً على ما دل عليه حديث جابر.
واختلف في وجه الحكمة في ذلك. فقيل: ليسلم على
أهل الطريقين: وقيل: لينال بركته الفريقان:
وقيل: ليقضي حاجة من له حاجة فيهما وقيل:
ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق
وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام
وأهله ومقام شعائره، وقيل: لتكثر شهادة البقاع
فإن الذاهب إلى المسجد أو المصلى إحدى خطواته
ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة حتى يرجع إلى
منزله وقيل: وهو الأصح أنه لذلك كله من الحكم
التي لا يخلو فعله عنها وكان ابن عمر مع شدة
تحريه للسنة يكبر من بيته إلى المصلى.
15ـ وَعَنْ أَنَسٍ رَضَي اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
قَدمَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
المدينة وَلهُم يَوْمان يَلْعبُون فيهما
فقَالَ: "قَدْ أَبْدلَكمُ الله بِهِمَا
خَيْراً منهما: يومَ الأضحْى ويوْمَ الْفِطْر"
أَخْرَجَهُ أَبو داوُد والنسائي بإسنْادٍ
صحيح.
الحديث يدل على أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم ذلك عقيب قدومه المدينة كما تقتضيه
الفاء.
والذي في كتب السير أن أول عيد شرع في الإسلام
عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة.
وفيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين
مندوب، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله
لعباده، إذ في إبدال عيد الجاهلية بالعيدين
المذكورين دلالة على أنه يفعل في العيدين
المشروعين ما تفعله الجاهلية في أعيادها،
وإنما خالفهم في تعيين الوقتين "قلت": هكذا في
الشرح ومراده من أفعال الجاهلية ما ليس بمحظور
ولا شاغل عن طاعة.
وأما التوسعة على العيال في الأعياد بما حصل
لهم من ترويح البدن وبسط النفس من كلف العبادة
فهو مشروع.
وقد استنبط بعضهم كراهية الفرح في أعياد
المشركين والتشبه بهم، وبالغ في ذلك الشيخ
الكبير أبو حفص البستي من الحنفية وقال: من
أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر
بالله.
16 ـ وعَنْ علي رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ:
"مِنَ السُّنّةِ أَنْ تَخْرُج إلى العِيدِ
مَاشياً" رواهُ التّرْمِذيُّ وحَسّنهُ.
تمامه من الترمذي "وأن تأكل شيئاً قبل أن
تخرج".
قال أبو عيسى: والعمل على هذا الحديث عند أكثر
أهل العلم يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد
ماشياً وأن يأكل شيئاً قبل أن يخرج.
قال أبو عيسى: ويستحب أن لا يركب إلا من عذر
انتهى.
ولم أجد فيه أنه حسّنه ولا أظن أنه يحسّنه
لأنه رواه من طريق الحارث الأعور وللمحدثين
فيه مقال.
وقد أخرج الزهري مرسلاً: أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ما ركب في عيد ولا جنازة.
وكان ابن عمر يخرج إلى العيد ماشياً ويعود
ماشياً.
وتقييد الأكل بقبل الخروج بعيد الفطر لما مر
من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، وروى ابن
ماجه من حديث أبي رافع وغيره: "أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخرج إلى العيد ماشياً
ويرجع ماشياً". ولكنه بوب البخاري في الصحيح
عن المضى والركوب إلى العيد فقال: "باب المضي
والركوب إلى العيد" فسوى بينهما كأنه لما رأى
من عدم صحة الحديث فرجع إلى الأصل في التوسعة.
17ـ وعنْ أبي هُرَيرة رضيَ اللَّهُ عَنْهُ:
"أَنّهُمْ أصَابُهم مطَرٌ في يَوْم عيدٍ فصَلى
بهمُ النّبيُّ
(2/70)
صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم صَلاةَ الْعيدِ في المسجدِ"
رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ بإسْنادٍ لَيِّن.
لأن في إسناده رجلاً مجهولاً، ورواه ابن ماجه
والحاكم بإسناد ضعيف.
وقد اختلف العلماء على قولين: هل الأفضل في
صلاة العيد الخروج إلى الجبانة أو الصلاة في
مسجد البلد إذا كان واسعاً؟
الثاني قول الشافعي: أنه إذا كان مسجد البلد
واسعاً صلوا فيه ولا يخرجون فكلامه يقضي أن
العلة في الخروج طلب الاجتماع، ولذا أمر صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإخراج العواتق وذات
الخدور، فإذا حصل ذلك في المسجد فهو أفضل
ولذلك فإن أهل مكة لا يخرجون لسعة مسجدها وضيق
أطرافها وإلى هذا ذهب الإمام يحيى وجماعة
قالوا: الصلاة في المسجد أفضل.
والقول الأول للهادوية ومالك: أن الخروج إلى
الجبانة أفضل ولو اتسع المسجد للناس. وحجتهم
محافظته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك
ولم يصل في المسجد إلا لعذر المطر ولا يحافظ
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا على الأفضل
ولقول عليّ عليه السلام فإنه روي أنه خرج إلى
الجبانة لصلاة العيد وقال: "لولا أنه السنة
لصليت في المسجد، واستخلف من يصلي بضعفة الناس
في المسجد" قالوا: فإن كان في الجبانة مسجد
مكشوف فالصلاة فيه أفضل وإن كان مسقوفاً ففيه
تردد.
فائدة: التكبير في العيدين مشروع عند
الجماهير، فأما تكبير عيد الإفطار فأوجبه
الناصر لقوله تعالى: { وَلِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } والأكثر أنه
سنة، ووقته مجهول مختلف فيه على قولين:
فعند الأكثر: أنه من عند خروج الإمام للصلاة
إلى مبتدأ الخطبة، وذكر فيه البيهقي حديثين
وضعفهما، لكن قال الحاكم: هذه سنة تداولها
أئمة الحديث وقد صحت به الرواية عن ابن عمر
وغيره من الصحابة.
والثاني: للناصر أنه من مغرب أول ليلة من شوال
إلى عصر يومها خلف كل صلاة.
وعند الشافعي إلى خروج الإمام أو حتى يصلي أو
حتى يفرغ من الخطبة. أقوال عنه.
وأما صفته ففي فضائل الأوقات للبيهقي بإسناده
إلى سلمان "أنه كان يعلمهم التكبير ويقول:
كبروا الله أكبر الله أكبر كبيراً أو قال
كثيراً اللهم أنت أعلى وأجل من أن تكون لك
صاحبة أو يكون لك ولد أو يكون لك شريك في
الملك أو يكون لك ولي من الذل وكبره تكبيراً
اللهم اغفر لنا اللهم ارحمنا".
وأما تكبير عيد النحر فأوجبه أيضاً الناصر
لقوله تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } ولقوله { كَذَلِكَ
سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ووافقه المنصور بالله.
وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة للرجال
والنساء. ومنهم من خصه بالرجال.
وأما وقته فظاهر الآية الكريمة والآثار عن
الصحابة أنه لا يختص بوقت دون وقت، إلا أنه
اختلف العلماء فمنهم من خصه بعقيب الصلاة
مطلقاً، ومنهم من خصه بعقيب الفرائض دون
النوافل، ومنهم من خصه بالجماعة دون الفرادى،
وبالمؤداة دون المقضية وبالمقيم دون المسافر،
وبالأمصار دون القرى.
وأما ابتداؤه وانتهاؤه ففيه خلاف أيضاً فقيل
في الأول: من صبح يوم عرفة، وقيل: من ظهره،
وقيل: من عصره.
وفي الثاني: إلى ظهر ثالثه، وقيل: إلى آخر
أيام التشريق، وقيل: إلى ظهره، وقيل: إلى
عصره، ولم يثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم في ذلك حديث واضح، وأصح ما ورد فيه عن
الصحابة قول علي
(2/71)
وابن مسعود
"أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى"،
أخرجهما ابن المنذر.
وأما صفته فأصح ما ورد فيه ما رواه عبد الرازق
عن سلمان بسند صحيح "قال: كبروا الله أكبر
الله أكبر، الله أكبر كبيراً" وقد روي عن سعيد
بن جبير ومجاهد وابن أبي ليلى وقول الشافعي
وزاد فيه "ولله الحمد" وفي الشرح صفات كثيرة
واستحسانات عن عدة من الأئمة، وهو يدل على
التوسعة في الأمر وإطلاق الآية يقتضي ذلك.
واعلم أنه لا فرق بين تكبير عيد الإفطار وعيد
النحر في مشروعية التكبير لاستواء الأدلة في
ذلك وإن كان المعروف عند الناس إنما هو تكبير
عيد النحر.
وقد ورد الأمر في الآية بالذكر في الأيام
المعدودات والأيام المعلومات، وللعلماء قولان:
منهم: من يقول هما مختلفان، فالأيام المعدودات
أيام التشريق والمعلومات أيام العشر ذكره
البخاري عن ابن عباس تعليقاً ووصله غيره،
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس"إن المعلومات:
التي قبل أيام التروية ويوم عرفة. والمعدودات:
أيام التشريق" وإسناده صحيح وظاهره إدخال يوم
العيد في أيام التشريق. وقد روى ابن أبي شيبة
عن ابن عباس أيضاً "إن المعلومات يوم النحر
وثلاثة أيام بعده" ورجحه الطحاوي لقوله {
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } فإنها تشعر بأن
المراد أيام النحر انتهى.
وهذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات ولا
أيام التشريق معدودات بل تسمية التشريق
معدودات متفق عليه لقوله تعالى: { وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وقد ذكر
البخاري عن أبي هريرة وابن عمر تعليقاً: أنهما
كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران
ويكبر الناس بتكبيرهما. وذكر البغوي والبيهقي
ذلك. قال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك
أيام العشر جميعها.
فائدة ثانية: يندب لبس أحسن الثياب والتطيب
بأجود الأطياب في يوم العيد ويزيد في الأضحى
الضحية بأسمن ما يجد لما أخرجه الحاكم من حديث
الحسن السبط قال: "أمرنا رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم في العيدين أن نلبس أجود ما
نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد وأن نضحي بأسمن ما
نجد: البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة وأن نظهر
التكبير والسكينة والوقار". قال الحاكم بعد
إخراجه من طريق إسحاق بن بزرج: لولا جهالة
إسحاق هذا لحكمت للحديث بالصحة "قلت": ليس
بمجهول فقد ضعفه الأزدي ووثقه ابن حبان. ذكره
في التلخيص.
(2/72)
باب صلاة الكسوف
1- عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال:
انكسفت الشمس على عهد رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يوم مات إبراهيم" أي ابنه
عليه السلام وموته في العاشرة من الهجرة: وقال
أبو داود: في ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر
خلون منه وقيل: في الرابعة "فقال الناس:
انكسفت الشمس لموت إبراهيم" "فقال صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم" أي رادّاً عليهم ""إنّ
الشمس والقمرَ آيتان مِنْ آيات الله لا
ينكسفان لمَوْتِ أَحدٍ ولا لِحياته فإذا
رَأَيْتُموهما
(2/72)
فادعُوا الله
وصلُّوا" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري "فصلوا
وادعوا الله"،
"حتى تَنكشف" ليس هذا اللفظ في البخاري، بل هو
في مسلم متفق عليه. يقال: كسفت الشمس: بفتح
الكاف وتضم نادراً وانكسفت وخسفت بفتح الخاء
وتضم نادراً وانخسفت.
واختلف العلماء في اللفظين هلا يستعملان في
الشمس والقمر، أو يختص كل لفظ بواحد منهما؟
وقد ثبت في القرآن نسبة الخسوف إلى القمر،
وورد في الحديث خسفت الشمس كما ثبت في نسبة
الكسوف إليهما وثبت استعمالهما منسوبين إليهما
فيقال فيهما: الشمس والقمر ينخسفان، وينكسفان
إنما الذي لم يرد في الأحاديث نسبة الكسوف إلى
القمر على جهة الانفراد، وعلى هذا يدل استعمال
الفقهاء فإنهم يخصون الكسوف بالشمس والخسوف
بالقمر: واختاره ثعلب، وقال الجوهري: إنه
أفصح، وقيل يقال بهما في كل منهما.
والكسوف: لغة التغير إلى السواد، والخسوف
النقصان، وفي ذلك أقوال أخر.
وإنما قالوا إنها كسفت لموت إبراهيم لأنها
كسفت في غير يوم كسوفها المعتاد، فإن كسوفها
في العاشر أو الرابع لا يكاد يتفق فلذا قالوا:
إنما هو لأجل هذا الخطب العظيم، فردّ عليهم
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك وأخبرهم
أنهما علامتان من العلامات الدالة على وحدانية
الله تعالى وقدرته على تخويف عباده من بأسه
وسطوته.
والحديث مأخوذ في قوله تعالى: { وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً }.
وفي قوله "لحياته" مع أنهم لم يدعوا ذلك بيان
أنه لا فرق بين الأمرين فكما أنكم لا تقولون
بكسوفهما لحياة أحد كذلك لا يكسفان لموته، أو
كأن المراد من حياته صحته من مرضه ونحوه، ثم
ذكر القمر مع أن الكلام خاص بكسوف الشمس زيادة
في الإفادة والبيان، أن حكم النيِّرين واحد في
ذلك.
ثم أرشد العباد إلى ما يشرع عند رؤية ذلك من
الصلاة والدعاء ويأتي صفة الصلاة.
والأمر دليل الوجوب إلا أنه حمله الجمهور على
أنه سنة مؤكدة لانحصار الواجبات في الخمس
الصلوات.
وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، ونقل عن أبي
حنيفة أنه أوجبها.
وجعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غاية وقت
الدعاء والصلاة انكشاف الكسوف، فدل على أنها
تفوت الصلاة بالانجلاء، فإذا انجلت وهو في
الصلاة فلا يتمها، بل يقتصر على ما فعل إلا أن
في رواية لمسلم: "فسلم وقد انجلت"، فدل أنه
يتم الصلاة وإن كان قد حصل الانجلاء، ويؤيده
القياس على سائر الصلوات فإنها تقيد بركعة كما
سلف، فإذا أتى بركعة أتمها.
وفيه دليل على أن فعلها يتقيد بحصول السبب في
أي وقت كان من الأوقات، وإليه ذهب الجمهور.
وعند أحمد وأبي حنيفة ما عدا أوقات الكراهة
"وفي رواية للبخاري" أي عن المغيرة "حتى
تنجلي" عوض قوله تنكشف والمعنى واحد.
2 ـ وَلِلْبُخَاري مِنْ حديثِ أَبي بَكْرَةَ
رضي اللَّهُ عَنْهُ "فَصَلُّوا وادعُوا حَتى
يُكْشَفَ مَا بكمُ" .
هو أول حديث ساقه البخاري في باب الكسوف ولفظه
"يكشف" والمراد يرتفع ما حل بكم من كسوف الشمس
أو القمر.
3ـ وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم جهر في صلاة الكسوف
بقراءته فصلى أربع ركعات" أي ركوعات بدليل
قولها "في ركعتين وأربع سجدات . متفق
(2/73)
عليه وهذا لفظ
مسلم".
الحديث دل على شرعية الجهر بالقراءة في صلاة
الكسوف، والمراد كسوف الشمس لما أخرجه أحمد
بلفظ "خسفت الشمس" وقال: "ثم قرأ فجهر
بالقراءة" وقد أخرج الجهر أيضاً الترمذي
والطحاوي والدارقطني، وقد أخرج ابن خزيمة
وغيره من عليّ عليه السلام مرفوعاً الجهر
بالقراءة في صلاة الكسوف، وفي ذلك أقوال
أربعة:
الأول: أنه يجهر بالقراءة مطلقاً في كسوف
الشمس والقمر لهذا الحديث وغيره، وهو إن كان
وارداً في كسوف الشمس، فالقمر مثله لجمعة صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم بينهما في الحكم
حيث قال: "فإذا رأيتموهما" أي كاسفتين "فصلوا
وادعوا" والأصل استواؤهما في كيفية الصلاة،
ونحوهما وهو مذهب أحمد وإسحاق وأبي حنيفة وابن
خزيمة وابن المنذر وآخرين.
والثاني: يسرّ مطلقاً لحديث ابن عباس "أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قام قياماً
طويلاً نحواً من سورة البقرة". فلو جهر لم
يقدره بما ذكر وقد علق البخاري عن ابن عباس:
أنه قام بجنب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم في الكسوف فلم يسمع منه حرفاً. ووصله
البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية فيضعف
القول بأنه يحتمل أن ابن عباس كان بعيداً منه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلم يسمع جهره
بالقراءة.
الثالث: أنه يخير فيهما بين الجهر والإسرار
لثبوت الأمرين عنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كما عرفت من أدلة القولين.
الرابع: أنه يسر في الشمس ويجهر في القمر وهو
لمن عدا الحنفية من الأربعة عملاً بحديث ابن
عباس وقياساً على الصلوات الخمس. وما تقدم من
دليل أهل الجهر مطلقاً أنهض مما قالوه.
وقد أفاد حديث الباب أن صفة صلاة الكسوف
ركعتان في كل ركعة ركوعان وفي كل ركعة سجدتان
ويأتي في شرح الحديث الرابع الخلاف في ذلك
"وفي رواية" أي لمسلم عن عائشة "فبعث" أن
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "منادياً
ينادي: الصلاةَ جامعةً" بنصب الصلاة وجامعة
فالأول على أنه مفعول فعل محذوف أي أحضروا،
والثاني على الحال ويجوز رفعهما على الابتداء
والخبر وفيه تقادير أخر.
وهو دليل على مشروعية الإعلام بهذا اللفظ
للاجتماع لها ولم يرد الأمر بهذا اللفظ عنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا في هذه
الصلاة.
4ـ وعَن ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عَنْهمُا
قالَ: "انخَسَفَتْ الشّمْسُ على عَهْدِ رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَصَلى
رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم،
فَقَامَ قِيَاماً طَويلاً نحْواً مِنْ قراءةِ
سُورَةِ الْبَقرةِ، ثمَّ ركَعَ رُكُوعاً
طَويلاً، ثَمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِياماً طويلاً
وَهُو دُونَ الْقيامِ الأوَّل، ثمَّ ركَعَ
ركوعاً طويلاً وهو دون الرُّكوع الأوَّل ثمَّ
سَجَدَ، ثمَّ قَام قياماً طويلاً وهُوَ دونَ
القِيَام الأوَّل، ثمَّ ركع رُكُوعاً طويلاً
وهُو دُون الرُّكوع الأول، ثمَّ رفعَ فقَامَ
قياماً طويلاً وهُوَ دونَ القيام الأوَّلِ،
ثمَّ ركعَ رُكُوعاً طَويلاً وَهُوَ دونَ
الركوع الأوَّل، ثمَّ رفَعَ رَأسَهُ ثمَّ
سَجَدَ، ثمَّ انْصرفَ وَقَدْ تَجَلّت الشمسُ
فَخَطَبَ النّاسَ" مُتّفقٌ عَلَيْه واللفظ
للبُخاريِّ، قوله "فصلى" ظاهر الفاء التعقيب.
واعلم أن صلاة الكسوف رويت على وجوه كثيرة
ذكرها الشيخان وأبو داود وغيرهم وهي سنة
باتفاق العلماء. وفي دعوى الاتفاق نظر لأنه
صرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، وحكى عن مالك
أنه أجراها مجرى الجمعة وتقدم عن أبي حنيفة
إيجابها.
ومذهب الشافعي
(2/74)
وجماعة أنها
تسنّ في جماعة، وقال آخرون: فرادى وحجة
الأولين الأحاديث الصحيحة من فعله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم لها جماعة.
ثم اختلفوا في صفتها. فالجمهور أنها ركعتان في
كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان والسجود
سجدتان كغيرها وهذه الكيفية ذهب إليها مالك
والشافعي والليث وآخرون.
وفي قوله: "نحواً من قراءة سورة البقرة" دليل
على أنه يقرأ فيها القرآن، قال النووي: اتفق
العلماء أنه يقرأ في القيام الأول من أول ركعة
الفاتحة واختلفوا في القيام الثاني ومذهبنا
ومالك أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها.
وفيه دليل على شرعية طول الركوع، قال المصنف:
لم أر في شيء من الطريق بيان ما قاله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيه إلا أن العلماء
اتفقوا أنه لا قراءة فيه وإنما المشروع فيه
الذكر من تسبيح وتكبير وغيرهما.
وفي قوله "وهو دون الأول " دلالة على أن
القيام الذي يعقبه السجود لا تطويل فيه وأنه
دون الأول وإن كان قد وقع في رواية مسلم في
حديث جابر "أنه أطال ذلك" لكن قال النووي:
إنها شاذة فلا يعمل بها.
ونقل القاضي إجماع العلماء أنه لا يطول
الاعتدال الذي يلي السجود وتأول هذه الرواية
بأنه أراد بالإطالة زيادة الطمأنينة.
ولم يذكر في هذه الرواية طول السجود ولكنه قد
ثبتت إطالته في رواية أبي موسى عند البخاري
وحديث ابن عمرو عند مسلم.
قال النووي: قال المحققون من أصحابنا وهو
المنصوص للشافعي: أنه يطول للأحاديث الصحيحة
بذلك، فأخرج أبو داود والنسائي من حديث سمرة
"كان أطول ما يسجد في صلاة قط" وفي رواية مسلم
من حديث جابر "وسجوده نحواً من ركوعه" وبه جزم
أهل العلم بالحديث.
ويقول عقيب كل ركوع: سمع الله لمن حمده ثم
يقول عقيبه: ربنا لك الحمد إلى آخره.
ويطول الجلوس بين السجدتين فقد وقع في رواية
مسلم لحديث جابر إطالة الاعتدال بين السجدتين،
قال المصنف: لم أقف عليه في شيء من الطرق إلا
في هذا، وَنَقْلُ الغزالي الاتفاق على عدم
إطالته مردودٌ.
وفي قوله: "ثم قام قياماً طويلاً وهو دون
القيام الأول" دليل على إطالة القيام في
الركعة الثانية ولكنه دون القيام في الركعة
الأولى وقد ورد في رواية أبي داود عن عروة
"أنه قرأ آل عمران".
قال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى
بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية
بقيامها وركوعها.
واختلف في القيام الأول من الثانية وركوعه هل
هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه
أن يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم
معنى قوله: "وهو دون القيام الأول" هل المراد
به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع فيكون
كل قيام دون الذي قبله.
وفي قوله: "فخطب الناس" دليل على شرعية الخطبة
بعد صلاة الكسوف، وإلى استحبابها ذهب الشافعي
وأكثر أئمة الحديث.
وعن الحنفية: لا خطبة في الكسوف لأنها لم
تنقل، وتُعُقِّب بالأحاديث المصرحة بالخطبة.
والقول بأن الذي فعله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم لم يقصد به الخطبة بل قصد الرد على ما
اعتقد أن الكسوف بسبب موت أحد مُتَعَقّبٌ بأن
رواية البخاري، "فحمد الله وأثنى عليه" وفي
رواية "شهد أنه عبده ورسوله" وفي رواية
للبخاري "أنه ذكر أحوال الجنة والنار وغير
ذلك" وهذه مقاصد الخطبة، وفي لفظ مسلم من حديث
فاطمة عن أسماء قالت: "فخطب رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم الناس فحمد الله
(2/75)
وأثنى عليه ثم
قال: أما بعد ما من شيء لم أكن أُريته إلا وقد
أُريته في مقامي هذا حتى الجنة والنار وإنه قد
أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريباً أو
مثل فتنة المسيح الدجال - لا أدري أي ذلك قالت
أسماء - فيؤتى أحدكم فيقال ما علمك بهذا
الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن - لا أدري أي
ذلك قالت أسماء - فيقول: هو محمد رسول الله
جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وأطعنا ثلاث
مرات ثم يقال: نم قد كنا نعلم أنك تؤمن به فنم
صالحاً" وفي مسلم رواية أخرى في الخطبة بألفاظ
فيها زيادة "وفي رواية لمسلم" أي عن ابن عباس
"صلى" أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
"حين كَسَفت الشمس ثماني ركعات" أي ركوعات "في
أربع سجدات" في ركعتين لأن كل ركعة لها سجدتان
والمراد أنه ركع في كل ركعة أربع ركوعات فيحصل
في الركعتين ثمان ركوعات وإلى هذه الصفة ذهبت
طائفة.
5 ـ وعن علي رضي الله عنه" أي وأخرج مسلم عنه
"مثل ذلك" أي مثل رواية ابن عباس.
6 ـ وله" أي لمسلم "عن جابر" بن عبد الله
"صلى" أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم "ست
ركعات بأربع سجدات" أي صلى ركعتين في كل ركعة
ثلاث ركوعات وسجدتان.
7 ـولأبي داود عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه
صلى" أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم "فركع
خمس ركعات" أي ركوعات في كل ركعة "وسجد سجدتين
وفعل في الثانية مثل ذلك" ركع خمس ركوعات وسجد
سجدتين.
إذا عرفت هذه الأحاديث فقد يحصل من مجموعها أن
صلاة الكسوف ركعتان اتفاقاً إنما اختلف في
كمية الركوعات في كل ركعة فحصل من مجموع
الروايات التي ساقها المصنف أربع صور.
الأولى: ركعتان في كل ركعة ركوعان وبهذا أخذ
الشافعي ومالك والليث وأحمد وغيرهم وعليها دل
حديث عائشة وجابر وابن عباس وابن عمرو، قال
ابن عبد البر: هو أصح ما في الباب وباقي
الروايات معللة ضعيفة.
والثانية: ركعتان أيضاً في كل ركعة أربع
ركوعات وهي التي أفادتها رواية مسلم عن ابن
عباس وعلي عليه السلام.
والثالثة: ركعتان أيضاً في كل ركعة ثلاث
ركوعات وعليها دل حديث جابر.
والرابعة: ركعتان أيضاً يركع في كل واحدة خمس
ركوعات.
ولما اختلفت الروايات اختلف العلماء فالجمهور
أخذوا بالأولى لما عرفت من كلام ابن عبد البر،
وقال النووي في شرح مسلم: إنه أخذ بكل نوع بعض
الصحابة.
وقال جماعة من المحققين: إنه مخير بين الأنواع
فأيهما فعل فقد أحسن، وهو مبني على أنه تعدد
الكسوف وأنه فعل هذا تارة وهذا أخرى، ولكن
التحقيق أن كل الروايات حكاية عن واقعة واحدة
هي صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم
وفاة إبراهيم، ولهذا عول الآخرون على إعلال
الأحاديث التي حكت الصور الثلاث، قال ابن
القيم: كبار الأئمة لا يصححون التعدد لذلك
كالإمام أحمد والبخاري والشافعي ويرونه غلطاً،
وذهبت الحنفية إلى أنها تصلي ركعتين كسائر
النوافل.
8 ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما هبت
الريح قط إلا جثا" بالجيم والمثلثة "النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ركبتيه" أي
برك عليهما وهي قعدة المخافة لا يفعلها
(2/76)
في الغالب إلا
الخائف "وقال: "اللهمَّ اجعلْها رَحْمة ولا
تجعلْها عذاباً" رواه الشافعي والطبراني".
الريح: اسم جنس صادق على ما يأتي بالرحمة
ويأتي بالعذاب وقد ورد في حديث أبي هريرة
مرفوعاً "الريح من روح الله تأتي بالرحمة
وبالعذاب فلا تسبوها".
وقد ورد في تمام حديث ابن عباس: "اللهم اجعلها
رياحاً ولا تجعلها ريحاً". وهو يدل أن المفرد
يختص بالعذاب والجمع بالرحمة، قال ابن عباس:
في كتاب الله {إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً}
.. {وأرسلنا عليهم الريح العقيم} .. {وأرسلنا
الرياح لواقح} .. {وأنه يرسل الرياح مبشرات}
رواه الشافعي في الدعوات الكبير. وهو بيان
أنها جاءت مجموعة في الرحمة، ومفردة في
العذاب، فاستشكل ما في الحديث من طلب أن تكون
رحمة، وأجيب: بأن المراد لا تهلكنا بهذه الريح
لأنهم لو هلكوا بهذه الريح لم تهب عليهم ريح
أخرى فتكون ريحاً لا رياحاً.
9 ـ وعنه" أي ابن عباس "رضي الله عنهما صلى في
زلزلة ست ركعات" أي ركوعات "وأربع سجدات" أي
صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات "وقال:
هكذا صلاة الآيات . رواه البيهقي. وذكر
الشافعي عن علي مثله دون آخره" وهو قوله:
"هكذا صلاة الآيات" أخرجه البيهقي من طريق عبد
الله بن الحارث أنه كان في زلزلة في البصرة،
ورواه ابن أبي شيبة من هذا الوجه مختصراً: أن
ابن عباس صلى بهم في زلزلةٍ أربعَ سجدات ركع
فيها ستاً. وظاهر اللفظ أنه صلى بهم جماعة
وإلى هذا ذهب القاسم من الآل وقال: يصلي
للأفزاع مثل صلاة الكسوف وإن شاء ركعتين
ووافقه على ذلك أحمد بن حنبل ولكن قال: كصلاة
الكسوف "قلت": لكن في كتب الحنابلة أنه يصلي
صلاة الكسوف ركعتين إذا شاء.
وذهب الشافعي وغيره إلى أنه لا يسنّ التجميع
وأما صلاة المنفرد فحسن، قال: لأنه لم يرو أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر بالتجميع إلا
في الكسوفين.
(2/77)
باب صلاة الاستسقاء
أي طلب سقاية الله تعالى عند حدوث الجدب: أخرج
ابن ماجه من حديث ابن عمر: أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لم ينقص قوم
المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة
المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة
أموالهم إلا منعوا القطر من السماء".
1- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" أي من
المدينة "متواضعاً متبذلاً" بالمثناة الفوقية
فذال معجمة أي أنه لابس ثياب البذلة، والمراد
ترك الزينة وحسن الهيئة تواضعاً وإظهاراً
للحاجة "متخشعاً" الخشوع في الصوت والبصر
كالخضوع في البدن "مترسلاً" من الترسل في
المشي وهو التأني وعدم العجلة "متضرعاً" لفظ
أبي داود "متبذلاً متواضعاً متضرعاً" والتضرع
التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة كما في
النهاية "فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم
يخطب خطبتكم هذه" لفظ أبي داود "ولكن لم يزل
في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما
يصلي في العيد" فأفاد لفظه أن الصلاة كانت بعد
الدعاء واللفظ الذي أتى به المصنف غير صريح في
ذلك "رواه الخمسة وصححه
(2/77)
الترمذي وأبو
عوانة وابن حبان" وأخرجه الحاكم والبيهقي
والآل والدارقطني.
والحديث دليل على شرعية الصلاة للاستسقاء
وإليه ذهب الآل.
وقال أبو حنيفة: لا يصلي للاستسقاء وإنما شرع
الدعاء فقط.
ثم اختلف القائلون بشرعية الصلاة فقال جماعة:
إنها كصلاة العيد في تكبيرها وقراءتها وهو
المنصوص للشافعي عملاً بظاهر لفظ ابن عباس.
وقال آخرون: بل يصلي ركعتين لا صفة لهما زائدة
على ذلك وإليه ذهب جماعة من الآل ويروى عن علي
عليه السلام وبه قال مالك مستدلين بما أخرجه
البخاري من حديث عباد بن تميم أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم ركعتين . وكما يفيده
حديث عائشة الآتي قريباً وتأولوا حديث ابن
عباس بأن المراد التشبيه في العدد لا في
الصفة، ويبعده أنه قد أخرج الدارقطني من حديث
ابن عباس: أنه يكبر فيها سبعاً وخمساً
كالعيدين ويقرأ بسبح وهل أتاك. وإن كان في
إسناده مقال فإنه يؤيده حديث الباب.
وأما أبو حنيفة فاستدل بما أخرجه أبو داود
والترمذي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
استسقى عند أحجار الزيت بالدعاء. وأخرج عوانة
في صحيحه، أنه شكا إليه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قوم القحط فقال: " اجثوا على الركب
وقولوا: يا رب يا رب".
وأجيب عنه بأنه ثبت صلاة ركعتين وثبت تركها في
بعض الأحيان لبيان الجواز.
وقد عدّ في الهدي النبوي أنواع استسقائه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
فالأول: خروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
إلى المصلى وصلاته وخطبته.
والثاني: يوم الجمعة على المنبر أثناء الخطبة.
والثالث: استسقاؤه على منبر المدينة استسقى
مجرداً في غير الجمعة ولم يحفظ عنه فيه صلاة.
الرابع: أنه استسقى وهو جالس في المسجد فرفع
يديه ودعا الله عز وجل.
الخامس: أنه استسقى عند أحجار الزيت قريباً من
الزوراء وهي خارج باب المسجد.
السادس: أنه استسقى في بعض غزواته لما سبقه
المشركون إلى الماء، وأغيث صلى الله عليه وآله
وسلم في كل مرة استسقى فيها.
واختلف في الخطبة في الاستسقاء؛ فذهب الهادي
إلى أنه لا يخطب فيه لقول ابن عباس "لم يخطب"
إلا أنه لا يخفى أنه ينفي الخطبة المشابهة
لخطبتهم وذكر ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم
وقد زاد في رواية أبي داود: أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم رقى المنبر. والظاهر أنه لا
يرقاه إلا للخطبة.
وذهب آخرون إلى أنه يخطب فيها كالجمعة لحديث
عائشة الآتي وحديث ابن عباس.
ثم اختلفوا هل يخطب قبل الصلاة أو بعدها؟ فذهب
الناصر وجماعة إلى الأول.
وذهب الشافعي وآخرون إلى الثاني مستدلين بحديث
أبي هريرة عند أحمد وابن ماجه وأبي عوانة
والبيهقي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
خرج للاستسقاء فصلى ركعتين ثم خطب. واستدل
الأوّلون بحديث ابن عباس وقد قدمنا لفظه.
وجمع بين الحديثين: بأن الذي بدأ به هو
الدعاء، فعبر بعض عن الدعاء بالخطبة واقتصر
على ذلك ولم يرو في الخطبة بعدها، والراوي
لتقديم الصلاة على الخطبة اقتصر على ذلك ولم
يروا الدعاء قبلها وهذا جمع بين الروايتين.
وأما ما يدعو به فيتحرى ما ورد عنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم من ذلك وقد أبان الألفاظ
التي دعا بها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
2 ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس
إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
قحوط المطر"
(2/78)
وهو مصدر
كالحقط "فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد
الناس يوماً يخرجون فيه قالت عائشة:" عينه لهم
"فخرج رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر" قال ابن
القيم: إن صح وإلا ففي القلب منه شيء "فكبر
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحمد
الله عز وجل ثم قال: "إنكُمْ شَكَوْتم جَدْب
دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم
فَقَد أَمركُمُ اللَّهُ أن تدعوهُ" قال تعالى:
{ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ووعدكم أن
يستجيب لكم كما الآية الأولى وفي قوله {
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ } "ثمَّ قالَ: { الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
}
فيه دليل على عدم افتتاح الخطبة بالبسملة بل
بالحمدلة ولم تأت رواية عنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أنه افتتح الخطبة بغير
التحميد "مالك يوم الدين لا إلَه إلا الله
يفعل ما يريد اللَّهم أنت الله لا إلَه إلا
أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث
واجعل ما أنزلت علينا قوة بلاغاً إلى حين ثم
رفع يديه فلم يزل" في سنن أبي داود، "في
الرفع" "حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس
ظهر" فاستقبل القِبْلة "وقلب" في سنن أبي
داود، "وحول" "رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل
على الناس" توجه إليهم بعد تحويل ظهره عنهم،
"ونزل" أي عن المنبر "فصلى ركعتين فأنشأ الله
سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت" تمامه في سنن أبي
داود بإذن الله فلم يأت باب مسجده حتى سالت
السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت
نواجذه، وقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير
وأني عبد الله ورسوله" "رواه أبو داود، وقال:
غريب وإسناده جيد" هو من تمام قول أبي داود ثم
قال أبو داود: "أهل المدينة يقرءون ملك يوم
الدين، وإن هذا الحديث حُجَّة لهم"، وفي قوله:
"وعد الناس" ما يدل على أنه يحسن تقديم تبيين
اليوم للناس ليتأهبوا ويتخلصوا من المظالم
ونحوها ويقدموا التوبة، وهذه الأمور واجبة
مطلقاً إلا أنه مع حصول الشدة وطلب تفريجها من
الله تعالى يتضيق ذلك، وقد ورد في
الإسرائيليات "إن الله حرم قوماً من بني
إسرائيل السقيا بعد خروجهم لأنه كان فيهم عاص
واحد"، ولفظ الناس يعم المسلمين وغيرهم قبل
فيشرع إخراج أهل الذمة ويعتزلون المصلي.
وفي الحديث دليل على شرعية رفع اليدين عند
الدعاء، ولكنه يبالغ في رفعهما في الاستسقاء
حتى يساوي بهما وجهه ولا يجاوز بهما رأسه. وقد
ثبت رفع اليدين عند الدعاء في عدة أحاديث وصنف
المنذري في ذلك جزءاً.
وقال النووي: قد جمعت فيها نحواً من ثلاثين
حديثاً من الصحيحين أو أحدهما وذكرها في أواخر
باب صفة الصلاة من شرح المهذب.
وأما حديث أنس في نفي رفع اليدين في غير
الاستسقاء، فالمراد به نفي المبالغة لا نفي
أصل الرفع.
وأما كيفية قلب الرداء فيأتي عن البخاري جعل
اليمين على الشمال وزاد ابن ماجه وابن خزيمة
"وجعل الشمال على اليمين" ، وفي رواية لأبي
داود "جعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر
وعطافه الأيسر عاتقه الأيمن" ، وفي رواية لأبي
داود "أنه كان عليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ
بأسفلها ويجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها
على عاتقه" ويشرع للناس أن يحولوا معه لما
أخرجه أحمد بلفظ: "وحول الناس معه"، وقال
الليث
(2/79)
وأبو يوسف: إنه
يختص التحويل بالإمام، وقال بعضهم: لا تحول
النساء. وأما وقت التحويل فعند استقباله
القِبْلة ولمسلم: "أنه لما أراد أن يدعو
استقبل القِبْلة وحول رداءه" ومثله في
البخاري.
وفي الحديث دليل على أن صلاة الاستسقاء ركعتان
وهو قول الجمهور وقال الهادي: أربع بتسليمتين
ووجه قوله بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
استسقى في الجمعة كما في قصة الأعرابي والجمعة
بالخطبتين بمنزلة أربع ركعات ولا يخفى ما فيه،
وقد ثبت من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
الركعتان كما عرفت من هذا الحديث والذي قبله
ولما ذهبت الحنفية إلى أنه لا يشرع التحويل،
وقد أفاده هذا الحديث الماضي زاد المصنف تقوية
الاستدلاً على ثبوت التحويل بقوله:
3- وقصة التحويل في الصحيح" أي صحيح البخاري
"من حديث عبد الله بن زيد" أي المازني وليس هو
راوي الأذان كما وهم فيه بعض الحفاظ ولفظه في
البخاري "فاستقبل القِبْلة وقلب رداءه" "وفيه"
أي في حديث عبد الله بن زيد "فتوجه" أي النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم " إلى القِبْلة
يدعو" في البخاري بعد يدعو، "وحول رداءه"، وفي
لفظ "قلب رداءه" "ثم صلى ركعتين جهر فيهما
بالقراءة" ، قال البخاري: قال سفيان: وأخبرني
المسعودي عن أبي بكر قال: "جعل اليمين على
الشمال" انتهى. زاد ابن خزيمة "والشمال على
اليمين" ، وقد اختلف في حكمة التحويل، فأشار
المصنف إليه بإيراد الحديث:
4- وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر" هو
محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب
سمع أباه زين العابدين وجابر بن عبد الله،
وروى عنه ابنه جعفر الصادق وغيره. ولد سنة ست
وخمسين ومات سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ثلاث
وستين سنة ودفن بالبقيع في البقعة التي دفن
فيها أبوه وعم أبيه الحسن بن عليّ بن أبي
الطالب وسمي الباقر لأنه تبقر في العلم أي
توسع فيه انتهى من جامع الأصول، "وحول رداءه
ليتحول القحط" وقال ابن العربي: هو أمارة بينه
وبين ربه، قيل: له حول رداءك ليتحول للتفاؤل،
قال: لأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، وقال
المصنف: إنه ورد في التفاؤل حديث رجاله ثقات.
قال المصنف في الفتح: إنه أخرجه الدارقطني
والحاكم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جار
فوصله لأن محمد بن عليّ لقي جابراً، وروي عنه
إلا أنه قال: إنه رجح الدارقطني إرساله، ثم
قال: وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن
وقوله: في الحديث الأول: " جهر فيهما
بالقراءة" في بعض روايات البخاري "يجهر"، ونقل
ابن بطال أنه مجمع عليه أي على الجهر في صلاة
الاستسقاء وأخذ منه بعضهم أنها لا تصلي إلا في
النهار ولو كانت تصلي في الليل لأسر فيها
نهاراً ولجهر فيها ليلاً وفي هذا الأخذ بعد لا
يحفى.
5- وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد
يوم الجمعة والنبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قائم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت
الأموال وانقطعت السُبل فادع الله عز وجل
يغيثنا فرفع يديه" زاد البخاري في رواية "ورفع
الناس أيديهم" "ثم قال: "اللهم أغِثنا" وفي
(2/80)
البخاري أسقنا
"اللهمَّ أَغِثْنا"" فذكر الحديث "وفيه الدعاء
بإمساكها" أي السحاب عن الإمطار متفق عليه:"
تمامه من مسلم: قال أنس: فلا والله ما نرى في
السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع
من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل
الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال:
فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. ثم دخل رجل
من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله
قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال
وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا قال: فرفع
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يديه
ثم قال: "اللهم حَوَالينا ولا علينا اللهم على
الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر"
قال فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك:
فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا
أدري. انتهى. قال المصنف: لم أقف على تسميته
في حديث أنس.
وهلاك الأموال يعم المواشي والأطيان. وانقطاع
السبل عبارة عن عدم السفر لضعف الإبل بسبب عدم
المرعى والأقوات أو لأنه لما نفد ما عند الناس
من الطعام لم يجدوا ما يحملونه إلى الأسواق.
وقوله "يُغيثنا" يحتمل فتح حرف المضارعة على
أنه من غاث إما من الغيث أو الغوث ويحتمل ضمه
على أنه من الإغاثة ويرجح هذا قوله: "اللهم
أغثنا".
وفيه دلالة على أنه يدعى إذا كثر المطر وقد
بوب له البخاري "باب الدعاء إذا كثر المطر"
وذكر الحديث.
وأخرج الشافعي في مسنده وهو مرسل من حديث
المطلب بن حنطب: أن النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم كان يقول عند المطر "اللهم سقيا رحمة
لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم
على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا
علينا".
6- وعن أنس رضي الله عنه أن عمر كان إذا
قُحِطوا" بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم
القحط "استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال" أي
عمر: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا
فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا
فيسقون. رواه البخاري" وأما العباس رضي الله
عنه فإنه قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء من
السماء إلا بذنب ولم ينكشف إلا بتوبة وقد توجه
بي القوم إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا
إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا
الغيث؛ فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت
الأرض" أخرجه الزبير بن بكار في الأنساب،
وأخرجه أيضاً من حديث ابن عمر أن عمر استسقى
بالعباس عام الرمادة وذكر الحديث، وذكر
الباذري أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة،
والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام
بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جداً
من
(2/81)
عدم المطر.
وفي هذه القصة دليل على الاستشفاع بأهل الخير
والصلاح وبيت النبوة.
وفيه فضيلة العباس وتواضع عمر ومعرفته لحق أهل
البيت رضي الله عنهم.
7- وعن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا ونحن مع
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مطر
قال: فحسر ثوبه" أي كشف بعضه عن بدنه "حتى
أصابه من المطر وقال: "إنهُ حديثُ عَهْدٍ
بربِّهِ" رواه مسلم" وبوّب له البخاري فقال:
"باب من يمطر حتى يتحادر عن لحيته" وساق حديث
أنس بطوله.
وقوله: "حديث عهد بربه" أي بإيجاد ربه إياه أن
المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله لها
فيتبرك بها وهو دليل على استحباب ذلك.
8- وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا رأى
المطر قال: "اللهمَّ صَيِّباً نافعاً" أخرجاه"
أي الشيخان وهذا خلاف عادة المصنف فإنه يقول
فيما أخرجاه: متفق عليه.
والصيب من صاب المطر إذا وقع، ونافعاً صفة
مقيدة احترازاً عن الصيب الضارّ.
9- وعن سعد رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم دعا في الاستسقاء "اللهمَّ
جَلِّلْنا" بالجيم من التجليل والمراد تعميم
الأرض "سحاباً كثيفاً" بفتح الكاف فمثلثة
فمثناة تحتية ففاء، أي متكاثفاً متراكماً
"قَصِيفاً" بالقاف المفتوحة فصاد مهملة فمثناة
تحتية ففاء، وهو ما كان رعده شديد الصوت وهو
من أمارات قوة المطر "دلُوقاً" بفتح الدال
المهملة وضم اللام وسكون الواو فقاف يقال خيل
دلوق أي مندفعة شديدة الدفعة ويقال دلق السيل
على القوم هجم "ضَحُوكاً" بفتح أوّله بزنة
فعول أي ذات برق "تُمْطِرنَا مِنْه رذاذاً"
بضم الراء فذال معجمة فأخرى مثلها هو ما كان
مطره دون الطش "قِطْقطِاً" بكسر القافين وسكون
الطاء الأولى قال أبو زيد: القطقط أصغر المطر
ثم الرذاذ وهو فوق القطقط ثم الطش وهو فوق
الرذاذ "سَجْلاً" مصدر سجلت الماء سجلاً إذا
صببته صباً؛ وصف به السحاب مبالغة في كثرة ما
يصب منها من الماء حتى كأنها نفس المصدر "يا
ذا الجَلال والإكْرامِ" رواه أبو عوانة في
صحيحه" وهذا الوصفان نطق بهما القرآن.
وفي التفسير أي الاستغناء المطلق والفضل
التامّ، وقيل الذي عنده الإجلال والإكرام
للمخلصين من عباده وهما من عظائم صفاته تعالى
ولذا قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألظوا
بياذا الجلال والإكرام" وروي أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم مرّ برجل وهو يصلي ويقول: يا
ذال الجلال والإكرام، فقال: "قد استجيب لك".
(2/82)
10 ـ وعَنْ
أَبي هُريرَة رضي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسُولَ
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ:
"خَرَجَ سُليمانُ عَليه السّلامُ يَسْتَسْقي
فَرَأَى نمْلَةً مُستلقيةً على ظهْرها رافعة
قوائمها إلى السماء تقُولُ: اللّهُمَّ إنا
خلقٌ منْ خلْقِكَ ليْس بنا غِنى عنْ سُقياكَ،
فقال: ارْجِعُوا سُقيتم بدعوةِ غيركم رواهُ
أَحمدُ وصحّحهُ الحاكمُ.
فيه دلالة على أن الاستسقاء شرع قديم والخروج
له كذلك.
وفيه أنه يحسن إخراج البهائم في الاستسقاء،
وأن لها إدراكاً يتعلق بمعرفة الله ومعرفة
بذكره وبطلب الحاجات منه. وفي ذلك قصص يطول
ذكرها وآيات من كتاب الله دالة على ذلك وتأويل
المتأوّلين لها لا ملجأ له.
11 ـ وَعَنْ أَنسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ: "أنَّ
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استسْقَى
فأَشارَ بظهْر كفيْهِ إلى السماءِ" أَخرجهُ
مُسلمٌ.
فيه دلالة أنه إذا أريد بالدعاء رفع البلاء
فإنه يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء
وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى
السماء وقد ورد صريحاً في حديث خلاد بن السائب
عن أبيه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كان إذا سأل جعل بطن كفيه إلى السماء
وإذا استعاذ جعل ظهرهما إليها".
وإن كان قد ورد من حديث ابن عباس "سلوا الله
ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهرها" وإن كان
ضعيفاً فالجمع بينهما أن حديث ابن عباس يختص
بما إذا كان السؤال بحصول شيء لا لدفع بلاء
وقد فسر قوله تعالى {ويدعوننا رغباً ورهباً}
أن الرغب بالبطون والرهب بالظهور.
(2/83)
باب اللباس
أي ما يحل منه وما يحرم
1- عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه" قال في
الأطراف: اختلف في اسمه فقيل عبد الله بن
هانىء، وقيل عبد الله بن وهب، وقيل عبيد الله
بن وهب وبقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان سكن
الشام. وليس بعم أبي موسى الأشعري فإنّ ذلك
قتل أيام حنين في حياة النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم واسمه عبيد بن سليم "قال:
قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"ليكوننَّ من أمّتي أَقوامٌ يَسْتحلُّونَ
الْحِرَ" بالحاء والراء المهملتين والمراد به
استحلال الزنا وبالخاء والزاي المعجمتين
"والحريرَ" رواه أبو داود وأصله في البخاري"
وأخرجه البخاري تعليقاً.
والحديث دليل على تحريم لباس الحرير لأن قوله
يستحلون بمعنى يجعلون الحرام حلالاً ويأتي
الحديث الثاني وفيه التصريح بذلك.
وفي الحديث دليل أن استحلال المحرم لا يخرج
فاعله من مسمى الأمة كذا قال "قلت": ولا يخفى
ضعف هذا القول فإن من استحل محرّماً أي اعتقد
حله فإنه كذّب الرسول صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم الذي أخبر أنه حرام، فقوله بحله ردّ
لكلامه وتكذيب، وتكذيبه كفر فلا بدّ من تأويل
الحديث بأنه أراد أنه من الأمة قبل الاستحلال
فإذا استحل خرج عن مسمى الأمة.
ولا يصح أن يراد بالأمة هنا أمة الدعوة لأنهم
مستحلون لكل ما حرّمه لا لهذا بخصوصه.
وقد اختلف في ضبط هذه اللفظة في الحديث. فظاهر
إيراد المصنف له في اللباس أنه يختار أنها
(2/83)
بالخاء
المعجمعة والزاي، وهو الذي نص عليه الحميدي
وابن الأثير في هذا الحديث، وهو ضرب من ثياب
الإبريسم معروف، وضبطه أبو موسى بالحاء والراء
المهملتين.
قال ابن الأثير في النهاية: والمشهور في هذا
الحديث على اختلاف طرقه هو الأول وإذا كان هو
المراد من الحديث فهو الخالص من الحرير وعطف
الحرير عليه من عطف العام على الخاص لأن الخزي
ضرب من الحرير.
وقد يطلق الخزّ على ثياب تنسج من الحرير
والصوف ولكنه غير مراد هنا لما عرف من أن هذا
النوع حلال وعليه يحمل. ما أخرجه أبو داود عن
عبد الله بن سعد الدشتكي عن أبيه سعد؛ قال:
رأيت ببخارى رجلاً على بغلة بيضاء عليه عمامة
خز سوداء قال: كسانيها رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم. أخرجه النسائي. وذكره
البخاري ويأتي من حديث عمر بيان ما يحل من غير
الخالص.
2- وعن حذيفة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أَن نَشْرَبَ في
آنيةِ الذهبِ والْفِضَّة وأَنْ نَأكُلَ فيها"
تقدم الحديث عن حذيفة بلفظ: قال رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تشربوا في
آنية الذهب والفضة" الحديث فقوله هنا "نهى"
إخبار عن ذلك اللفظ الذي تقدّم وتقدم الكلام
فيه "وعَنْ لُبْسِ الْحرير والديباج، وأَنْ
نَجْلِسَ عَلَيْهِ" رواه البخاري" أي ونهى عن
لبس الحرير والنهي ظاهر في التحريم.
وإلى تحريم لبس الحرير ذهب الجماهير من الأمة
على الرجال دون النساء، وحكى القاضي عياض عن
قوم إباحته ونسب في البحر إباحته إلى ابن
علية، وقال: إنه انعقد الإجماع بعده على
التحريم، ولكنه قال المصنف في الفتح: قد ثبت
لبس الحرير عن جماعة من الصحابة وغيرهم قال
أبو داود: لبسه عشرون من الصحابة وأكثر،
وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وقد أخرج ابن
أبي شيبة من طريق عمار بن أبي عمار قال: أتت
مروان بن الحكم مطارف خز فكساها أصحاب رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
قال: والأصح في تفسير الخز أنه ثياب سداها من
حرير ولحمتها من غيره وقيل: تنسج مخلوطة من
حرير وصوف أو نحوه، وقيل أصله اسم دابة يقال
لها الخز فسمى الثوب المتخذ من وبره خزّاً
لنعومته ثم أطلق على ما تخلط بحرير لنعومة
الحرير.
إذا عرفت هذا فقد يحتمل أن الذي لبسه الصحابة
في رواية أبي داود كان من الخز وإن كان ظاهر
عبارته يأبى ذلك.
وأما القز بالقاف بدل الخاء المعجمة فقال
الرافعي: إنه عند الأئمة: من الحرير فحرّموه
على الرجال أيضاً. والقول بحله وحل الحرير
للنساء قول الجماهير إلا ابن الزبير فإنه أخرج
مسلم عنه: أنه خطب فقال: لا تلبسوا نساءكم
الحرير فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تلبسوا
الحرير" فأخذ بالعموم إلا أنه انعقد الإجماع
على حل الحرير للنساء.
فأما الصبيان من الذكور فيحرم عليهم أيضاً عند
الأكثر لعموم قوله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم، "حرام على ذكور أمتي" وقال محمد بن
الحسن: يجوز إلباسهم، وقال أصحاب الشافعي:
يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لأنه
لا تكليف عليهم ولهم في غير يوم العيد ثلاثة
أوجه أصحها جوازه.
وأما الديباج فهو ما غلظ
(2/84)
من ثياب الحرير
وعطفه عليه من عطف الخاص على العام.
وأما الجلوس على الحرير فقد أفاد الحديث النهي
عنه إلا أنه قال المصنف في الفتح: إنه قد أخرج
البخاري ومسلم حديث حذيفة من غير وجه وليس فيه
هذه الزيادة وهي قوله: "وأن نجلس عليه" قال:
وهي حجة قوية لمن قال يمنع الجلوس على الحرير
وهو قول الجمهور خلافاً لابن الماجشون
والكوفيين وبعض الشافعية، وقال بعض الحنفية في
الدليل على عدم تحريم الجلوس على الحرير: إن
قوله نهى ليس صريحاً في التحريم، وقال بعضهم:
إنه يحتمل أن يكون المنع ورد عن مجموع اللبس
والجلوس لا الجلوس وحده. "قلت: ولا يخفى تكلف
هذا القائل والإخراج عن الظاهر بلا حاجة" وقال
بعض الحنفية: مدار الجواز والتحريم على اللبس
لصحة الأخبار فيه والجلوس ليس بلبس، واحتج
الجمهور على أنه يسمى الجلوس لبساً بحديث أنس
الصحيح: "فقمت إلى حصير لنا قد أسودّ من طول
ما لبس" ولأن لبس كل شيء بحسبه.
وأما افتراش النساء للحرير فالأصل جوازه وقد
أحل لهن لبسه ومنه الافتراش ومن قال بمنعهن عن
افتراشه فلا حجة له.
واختلف في علة تحريم الحرير على قولين: الأول
الفخر والخيلاء والثاني كونه لباس رفاهية
وزينة تليق بالنساء دون شهامة الرجال.
3 ـ وعنْ عُمَرَ رضيَ الله عنهُ قال: "نهى
النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن لُبْس
الحرير إلّا موْضع أُصبعين أوْ ثلاثٍ أَوْ
أَرْبع" مُتّفقٌ عليه واللّفْظُ لمسْلِمٍ.
قال المصنف: "أو" هنا للتخيير والتنويع.
وقد أخرج الحديث ابن أبي شيبة من هذا الوجه
بلفظ "إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا
وهكذا" يعني أصبعين وثلاثاً وأربعاً ومن قال
المراد أن يكون في كل كم أصبعان فإنه يرده
رواية النسائي "لم يرخص في الديباج إلا في
موضع أربعة أصابع" وهذا ـ أي الترخيص في
الأربع الأصابع ـ مذهب الجمهور.
وعن مالك في رواية منعه وسواء كان منسوجاً أو
ملصقاً ويقاس عليه الجلوس.
وقدرت الهادوية الرخصة بثلاث أصابع لكن هذا
الحديث نص في الأربع.
4- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم رخص لعبد الرحمن بن عوف
والزبير في قميص الحرير من حِكّة" بكسر الحاء
المهملة وتشديد الكاف نوع من الجرب وذكر الحكة
مثلا لا قيداً أي من أجل حكة، فمن للتعليل
"كانت بهما . متفق عليه" وفي رواية "أنهما
شكوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة
لهما".
قال المصنف في الفتح: يمكن الجمع بأن الحكة
حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب
وتارة إلى سبب السبب.
وقد اختلف العلماء في جوازه للحكة وغيرها.
فقال الطبري: دلت الرخصة في لبسه للحكة على أن
من قصد بلبسه دفع ما هو أعظم من أذى الحكة
كدفع السلاح ونحو ذلك فإنه يجوز. والقائلون
بالجواز لا يخصونه بالسفر.
وقال البعض من الشافعية: يختص به.
وقال القرطبي: الحديث حجة على من منع إلا أن
يدعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن ولا تصح
تلك الدعوى.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز مطلقاً.
وقال الشافعي بالجواز للضرورة، ووقع في كلام
الشارح تبعاً للنووي أن
(2/85)
الحكمة في لبس
الحرير للحكة لما فيه من البرودة، وتعقب بأن
الحرير حارّ فالصواب أن الحكمة فيه لخاصية فيه
تدفع ما تنشأ عنه الحكة من القمل.
5- وعن علي رضي الله عنه قال: كساني النبي صلى
الله عليه وآله وسلم حلة سِيَرَاء" بكسر
المهملة ثم مثناة تحتية ثم راء مهملة ثم ألف
ممدودة قال الخليل: ليس في الكلام فعلاء بكسر
أوله مع المد سوى سيراء ـ وهو الماء الذي يخرج
على رأس المولود ـ وحولاء وعنباء لغة في ضبط
العنب وحلة بالتنوين، على أن سيراء صفة لها
وبغيره على الإضافة وهو الأجود كما في شرح
مسلم "فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها
بين نسائي. متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
قال أبو عبيدة: الحلة إزار ورداء، وقال ابن
الأثير: إذا كانا من جنس واحد، وقيل هي برود
مضلعة بالقز، وقيل حرير خالص وهو الأقرب.
وقوله "فرأيت الغضب في وجهه" زاد مسلم في
رواية فقال: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها إنما
بعثتها إليك لتشققها خُمُراً بين نسائك" وله
في أخرى: "شققتها خمراً بين الفواطم".
وقوله "فشققتها" أي قطعتها ففرقتها خُمُراً
وهي بالخاء المعجمة مضمومة وضم الميم جمع
خِمار ـ بكسر أوله والتخفيف ـ ما تغطي به
المرأة رأسها.
والمراد بالفواطم: فاطمة بنت محمد صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم وفاطمة بنت أسد أم علي عليه
السلام والثالثة قيل هي فاطمة بنت حمزة وذكرت
لهنّ رابعة وهي فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب.
وقد استدل بالحديث على جواز تأخير البيان عن
وقت الخطاب لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
أرسلها لعلي عليه السلام فبنى على ظاهر
الإرسال وانتفع بها في أشهر ما صنعت له وهو
اللبس فبيّن له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أنه لم يبيح له لبسها.
6- وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أُحِلَّ
الذَّهَبُ والْحريرُ" أي لبسهما "لإناثِ
أُمّتي وحُرِّمَ" أي لبسهما وفراش الحرير كما
سلف "على ذُكُورها" رواه أحمد والنسائي
والترمذي وصححه" إلا أنه أخرجه الترمذي من
حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسى وأعله أبو
حاتم بأنه لم يلقه. وكذا قال ابن حبان في
صحيحه: سعيد بن أبي هند عن أبي موسى معلول لا
يصح. وأما ابن خزيمة فصححه.
وقد روي من ثمان طرق غير هذه الطريق عن ثمانية
من الصحابة وكلها لا تخلوا عن مقال ولكنه يشدّ
بعضها بعضاً.
وفيه دليل على تحريم لبس الرجال الذهب والحرير
وجواز لبسهما للنساء ولكنه قد قيل إن حل الذهب
للنساء منسوخ.
7 ـ وعنْ عِمْرانَ بن حُصَين رضي الله
عَنْهُما أنَّ رسول اللَّهِ صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إنَّ الله يحبُّ إذا
أَنعمَ على عبدهِ نعْمَةً أَنْ يرَى أَثَرَ
نِعْمَتِهِ عليْهِ" رواهُ البيْهَقِيُّ.
وأخرج النسائي من حديث أبي الأحوص، والترمذي
والحاكم من حديث ابن عمر "إن الله يحب أن يرى
أثر نعمته على عبده" وأخرج النسائي عن أبي
الأحوص عن أبيه وفيه: "إذا آتاك الله مالاً
فلير أثر نعمته عليك وكرامته".
في هذه الأحاديث دلالة أن الله تعالى يحب من
العبد إظهار نعمته في مأكله وملبسه فإنه شكر
للنعمة فعْليّ، ولأنه إذا رآه المحتاج في هيئة
حسنة قصده ليتصدق
(2/86)
عليه، وبذاذة
الهيئة سؤال وإظهار للفقر بلسان الحال ولذا
قيل: ولسان حالي بالشكاية أنطق، وقيل: وكفاك
شاهد منظري عن مخبري.
8- وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم نهى عن لُبس" بضم اللام
"القَسِّي" بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها
ياء النسبة وقيل: إن المحدثين يكسرون القاف
وأهل مصر يفتحونها وهي نسبة إلى بلد يقال لها
القس، وقد فسر القسي في الحديث بأنها ثياب
مضلعة يؤتى بها من مصر والشام هكذا في مسلم
وفي البخاري فيها حرير أمثال الأترج "والمعصفر
. رواه مسلم" هو المصبوغ بالعصفر.
فالنهي في الأول للتحريم إن كان حريره أكثر
وإلا فإنه للتنزيه والكراهة وأما في الثاني
فالأصل في النهي أيضاً التحريم وإليه ذهب
الهادوية.
وذهب[اث] جماهير الصحابة[/اث] والتابعين إلى
جواز لبس المعصفر وبه قال الفقهاء غير أحمد،
وقيل مكروه تنزيهاً، قالوا: لأنه لبس صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم حلة حمراء، وفي
الصحيحين عن ابن عمر "رأيت رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصبغ بالصفرة".
وقد رد ابن القيم القول بأنها حلة حمراء بحتاً
وقال: إن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان
بخطوط حمر مع الأسود وهي معروفة بهذا الاسم
باعتبار ما فيها من الخطوط وأما الأحمر البحت
فمنهي عنه أشد النهي ففي الصحيحين أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عن المياثر الحمر.
ولكن الحديث وهو قوله:
9 ـ وعَنْ عبد الله بن عمْرو رضي اللَّهُ
عَنْهُما قالَ: رَأَى عليَّ النَّبيُّ صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثَوْبَيْن
مُعَصْفَرَيْن فقال: "أُمُّكَ أَمرتْكَ بهذا؟"
رواهُ مُسلمٌ.
دليل على تحريم المعصفر معضد للنهي الأول
ويزيده قوة في الدلالة تمام هذا الحديث عند
مسلم "قلت: أغسلهما يا رسول الله؟ قال: بل
احرقهما".
وفي رواية "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها"
وأخرجه أبو داود والنسائي.
وفي قوله: "أمّك أمرتك" إعلان بأنه لباس
النساء وزينتهنّ وأخلاقهنّ.
وفيه حجة على العقوبة بإتلاف المال وهو ـ أي
أمر ابن عمرو بتحريقها ـ يعارض حديث علي عليه
السلام، وأمره بأن يشقها بين نسائه كما في
رواية قدمناها فينظر في وجه الجمع إلا أن في
سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو: أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى عليه رَّيْطَة
مضرجة بالعصفر فقال: "ما هذه الرّيْطَة التي
عليك؟" قال: فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم
يسجرون تنوراً لهم، فقذفتها فيه ثم أتيته من
الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟
فأخبرته فقال: "ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا
بأس به للنساء" فهذا يدل على أنه أحرقها من
غير أمر من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
فلو صحت هذه الرواية لزال التعارض بينه وبين
حديث علي عليه السلام لكنه يبقى التعارض بين
روايتي ابن عمرو وقد يقال: إنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أمر أولاً بإحراقها ندباً ثم
لما أحرقها قال له صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: لو كسوتها بعض أهلك إعلاماً له بأن
هذا كان كافياً عن إحراقها لو فعله وأن الأمر
للندب.
وقال القاضي عياض في شرح مسلم: أمره صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإحراقها من باب
التغليظ أو العقوبة.
10 ـ وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
أنها أخرجت جبة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم طيالسة
(2/87)
مكفوفة"
المكفوف من الحرير ما اتخذ جيبه من حرير وكان
لذيله وأكمامه كفاف منه "الجيب والكمين
والفرجين بالديباج" هو ما غلظ من الحرير كما
سلف "رواه أبو داود وأصله في مسلم وزاد" أي من
رواية أسماء "كانت" أي الجبة "عند عائشة حتى
قُبضت" مغير الصيغة أي ماتت "فقبضتها وكان
النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها" الحديث
في مسلم له سبب وهو: أن أسماء أرسلت إلى ابن
عمر أنه بلغها أنه يحرم العلم في الثواب فأجاب
بأنه سمع عمر يقول: سمعت رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "إنما يلبس الحرير من
لا خلاق له" فخفت أن يكون العلم منه فأخرجت
أسماء الجبة "وزاد البخاري في الأدب المفرد"
في رواية أسماء "وكان يلبسها للوفد والجمعة" .
قال في شرح مسلم للنووي على قوله مكفوفة:
ومعنى المكفوفة أنه جعل له كُفة بضم الكاف وهو
ما يكف به جوانبها ويعطف عليها ويكون ذلك في
الذيل وفي الفرجين وفي الكمين اهـ. وهو محمول
على أنه أربع أصابع أو دونها أو فوقها إذا لم
يكن مصمتاً جميعاً بين الأدلة.
وفي جواز مثل ذلك من الحرير وجواز لبس الجبة
وماله فرجان من غير كراهة.
وفي استشفاء بآثاره صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم وبما لامس جسده الشريف.
وفي قولها: "كان يلبسها للوفد والجمعة" دليل
على استحباب التجمل بالزينة للوافد ونحوه كذا
قيل، إلا أنه لا يخفى أنه قول صحابية لا دليل
فيه.
وأما خياطة الثوب بالخيط الحرير ولبسه وجعل
خيط السبحة من الحرير وليقة الدواة وكيس
المصحف وغشاية الكتب فلا ينبغي القول بعدم
جوازه لعدم شموله النهي له.
وفي اللباس آداب: منها في العمامة تقصير
العذبة فلا تطول طولاً فاحشاً وإرسالها بين
الكتفين ويجوز تركها بالأصالة، وفي القميص
تقصير الكم لحديث أبي داود عن أسماء "كان كم
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى الرسغ"
قال ابن عبد السلام: إفراط توسعة الثياب
والأكمام بدعة وسرف، وفي المئزر، ومثله اللباس
والقميص أن لا يسبله زيادة على نصف الساق
ويحرم إن جاوز الكعبين.
(2/88)
|