سبل
السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي كتاب الجنائز
كتاب الجنائز
...
كتاب الجنائز
الجنائز: جمع جنازة بفتح الجيم وكسرها، في
القاموس: الجنازة الميت وتفتح أو بالكسر الميت
وبالفتح السرير أو عكسه أو بالكسر السرير مع
الميت.
1- ( عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أكثروا ذكر هاذم
اللّذات: المَوْت" بالكسر بدل من هاذم (رواه
الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان) والحاكم
وابن السكن وابن طاهر وأعله الدارقطني
بالإرسال.
وفي الباب عن عمروعن أنس وما تخلو عن مقال،
قال المصنف نقلاً عن السهيلي: إن الرواية في
هاذم بالذال المعجمة معناه القاطع وأمّا
بالمهلة فمعناه المزيل للشيء وليس مراداً هنا،
قال المصنف: وفي هذا النفي نظر لا يخفى (قلت):
يريد أن المعنى على الدال المهملة صحيح فإن
الموت يزيل اللذات كما يقطعها ولكن العمدة
الرواية.
والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن
يغفل عن ذكر
(2/88)
أعظم المواعظ
وهو الموت، وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر
بقوله "فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلله ولا
قليل إلا كثره". وفي رواية للديلمي عن أبي
هريرة "أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره
إلا أحيى الله قلبه وهوّن عليه الموت" وفي لفظ
لابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان "أكثروا
ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره عبدٌ قط في ضيق
إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقها" وفي حديث أنس
عن ابن لال في مكارم الأخلاق "أكثروا ذكر
الموت فإن ذلك تمحيص للذنوب وتزهيد في الدنيا"
وعند البزار "أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما
ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا
في سعة إلا ضيقها" وعند ابن أبي الدنيا
"أكثروا من ذكر الموت فإنه يمحق الذنوب ويزهد
في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه وإن
ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم" .
2- (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يتمنّيَنَّ
أَحَدُكُمُ المَوْت لضُرَ نزلَ به فإنْ كان لا
بُدَّ" أي لا فرار ولا محالة كما في القاموس
"مُتَمنِّياً فَلْيَقُل" بدلاً من لفظ التمني
الدعاء وتفويض ذلك إلى الله: "اللهم أَحْيني
ما كانت الحياة خيراً لي وتوفّني ما كانت
الوفاة خيراً لي" متفق عليه).
الحديث دليل على النهي عن تمني الموت للوقوع
في بلاء أو محنة أو خشية ذلك من عدوُ أو مرض
أو فاقة أو نحوها من مشاق الدنيا لما في ذلك
من الجزع وعدم الصبر على القضاء وعدم الرضا.
وفي قوله "لضر نزل به" ما يرشد إلى أنه إذا
كان لغير ذلك من خوف أو فتنة في الدين فإنه لا
بأس به، وقد دل له حديث الدعاء "إذا أردت
بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" ، أو كان
تمنياً للشهادة كما وقع ذلك لعبد الله بن
رواحة وغيره من السلف، وكما في قول مريم - يا
ليتني مت قبل هذا - فإنها إنما تمنت ذلك لمثل
هذا الأمر المخوف من كُفر من كَفر وشقاوة من
شقي بسببها.
وفي قوله: "فإن كان لا بدّ متمنياً" يعني إذا
ضاق صدره وفقد صبره عدل إلى هذا الدعاء، وإلا
فالأولى له أن لا يفعل ذلك.
3- (وعن بريدة) هو ابن الحصيب (أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "المُؤْمِنُ
يمُوتُ بعرقِ" بفتح العين المهملة والراء
"الجبين" . رواه الثلاثة وصححه ابن حبان)
وأخرجه أحمد وابن ماجه وجماعة، وأخرجه
الطبراني من حديث ابن مسعود.
وفيه وجهان: أحدهما: أنه عبارة عما يكابده من
شدة السياق "النزع" الذي يعرق دونه جبينه أي
يشدد عليه تمحيصاً لبقية ذنوبه، والثاني: أنه
كناية عن كدّ المؤمن في طلب الحلال وتضييقه
على نفسه بالصوم والصلاة حتى يلقى الله تعالى،
فيكون الجارّ والمجرور في محل النصب على
الحال.
والمعنى على الأوّل أن حال الموت ونزوع الروح
شديد عليه فهو صفة لكيفية الموت وشدته على
المؤمن، والمعنى على الثاني أن يدركه الموت في
حال كونه على هذه الحالة الشديدة التي يعرق
منها الجبين فهو صفة للحال التي يفاجئه الموت
عليها.
4- (وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَقِّنُوا
مَوْتاكم" أي الذين في سياق الموت فهو مجاز
"لا إله إلا اللَّهُ" رواه مسلم والأربعة)
وهذا
(2/89)
لفظ مسلم،
ورواه ابن حبان بلفظه وزيادة، "فمن كان آخر
قوله لا إله إلا الله دخل الجنة يوماً من
الدهر وإن أصابه ما أصابه قبل ذلك" وقد غلط من
نسبه إلى الشيخين أو إلى البخاري، وروى ابن
أبي الدنيا عن حذيفة بلفظ "لقنوا موتاكم لا
إله إلا الله، فإنها تهدم ما قبلها من
الخطايا". وفي الباب أحاديث صحيحة.
وقوله: "لقنوا" المراد تذكير الذي في سياق
الموت هذا اللفظ الجليل وذلك ليقولها، فتكون
آخر كلامه فيدخل الجنة كما سبق، فالأمر في
الحديث بالتلقين عام لكل مسلم يحضر من هو في
سياق الموت، وهو أمر ندب، وكره العلماء
الإكثار عليه والموالاة، لئلا يضجر ويضيق حاله
ويشتد كربه، فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا
يليق، قالوا: وإذا تكلم مرة فيعاد عليه
التعريض ليكون آخر كلامه، وكأن المراد بقول لا
إله إلا الله أي وقول محمد رسول الله فإنها لا
تقبل إحداهما إلا بالآخرى كما علم.
والمراد "بموتاكم" : موتى المسلمين. وأما موتى
غيرهم، فيعرض عليهم الإسلام، كما عرضه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم على عمه عند السياق،
وعلى الذمي الذي كان يخدمه، فعاده وعرض عليه
الإسلام فأسلم، وكأنه خص في الحديث موتى أهل
الإسلام لأنهم الذين يقبلون ذلك ولأن حضور أهل
الإسلام عندهم هو الأغلب بخلاف الكفار فالغالب
أنه لا يحضر موتاهم إلا الكفار.
(فائدة): يحسن أن يُذكَّر المريض بسعة رحمة
الله ولطفه وبرّه، فيحسن ظنه بربه. لما أخرجه
مسلم من حديث جابر "سمعت رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يقول قبل موته: لا يموتن
أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" . وفي الصحيحين
مرفوعاً من حديث أبي هريرة "قال: قال الله:
أنا عند ظن عبدي بي" . وروى ابن أبي الدنيا عن
إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد
محاسن عمله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه" وقد
قال بعض أئمة العلم: إنه يحسن جمع أربعين
حديثاً في الرجاء تقرأ على المريض فيشتد حسن
ظنه بالله تعالى، فإنه تعالى عند ظن عبده به.
وإذا امتزج خوف العبد برجائه عند سياق الموت
فهو محمود. أخرج الترمذي بإسناد جيد من حديث
أنس: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دخل على
شاب وهو في الموت فقال: "كيف تجدك؟" قال أرجو
الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يجتمعان في قلب عبد في
مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه
مما يخاف" .
(فائدة أخرى) ينبغي أن يوجه من هو في السياق
إلى القبلة، لما أخرجه الحاكم وصححه من حديث
أبي قتادة: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن
معرور قالوا: توفي وأوصى بثلث ماله لك يا رسول
الله وأوصى أن يوجه للقبلة إذا احتضر، فقال
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أصاب
الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده" ثم ذهب فصلى
عليه وقال: "اللهم اغفر له وأدخله جنتك وقد
فعلت" وقال الحاكم: لا أعلم في توجيه المحتضر
للقبلة غيره.
5- (وعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "اقرءُوا على
مَوْتَاكُمْ" قال ابن حبان: أراد به من حضرته
المنية لا أن الميت يقرأ عليه "يس" رواه
(2/90)
أبو داود
والنسائي وصححه ابن حبان) وأخرجه أحمد وابن
ماجه من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان،
وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار، ولم
يقل النسائي وابن ماجه عن أبيه، وأعله ابن
القطان بالاضطراب والوقف، وبجهالة حال أبي
عثمان وأبيه، ونقل عن الدارقطني أنه قال: هذا
حديث مضطرب الإسناد مجهول المتن ولا يصح، وقال
أحمد في مسنده: حدثنا صفوان قال: كانت المشيخة
يقولون: إذا قرئت يس عند الميت خفف عنها بها.
وأسنده صاحب الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر
قالا: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا
هوّن الله عليه" وهذا يؤيد أن ما قاله ابن
حبان من أن المراد به المحتضر وهما أصرح في
ذلك مما استدل به.
وأخرج أبو الشيخ في فضائل القرآن وأبو بكر
المروزي في كتاب الجنائز عن أبي الشعثاء صاحب
ابن عباس أنه يستحب قراءة سورة الرعد وزاد في
ذلك يخفف عن الميت وفيه أيضاً عن الشعبي كانت
الأنصار يستحبون أن تقرأ عند الميت سورة
البقرة.
6- ( وعن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شَقَّ بصره )
في شرح مسلم أنه بفتح الشين ورفع بصره فاعل شق
هكذا ضبطناه وهو المشهور، وضبط بعضهم بصره
بالنصب وهو صحيح أيضاً فالشين مفتوحة بلا
خلاف. ( فأغمضه ثم قال: "إن الرُّوح إذا قُبض
اتبعه البصرُ" فضج ناس من أهله فقال: "لا
تَدعُوا على أنْفُسكم إلا بخَيْر فإنَّ
الملائكة تؤمن على ما تقُولون" أي من الدعاء (
ثم قال: "اللّهُم اغفر لأبي سلَمَة وارفَعْ
درجته في المَهْديّين، وافْسح لهُ قبرهِ،
ونَوِّرْ لهُ فيه واخْلفْهُ في عقِبه" رواه
مسلم) يقال: شق الميت بصره إذا حضره الموت
وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد عنه طرفه.
وفي إغماضه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم طرفه
دليل على استحباب ذلك، وقد أجمع عليه
المسلمون. وقد علل في الحديث ذلك بأن البصر
يتبع الروح أي ينظر أين يذهب.
والحديث من أدلة من يقول إن الأرواح أجسام
لطيفة متحللة في البدن، وتذهب الحياة من الجسد
بذهابها، وليس عرضاً كما يقوله آخرون.
وفيه دليل على أنه يدعى للميت عند موته،
ولأهله، وعقبه، بأمور الآخرة والدنيا.
وفيه دلالة على أن الميت ينعم في قبره أو
يعذب.
7- (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين توفي سجي
ببرد حبرة) بالحاء المهملة فموحدة فراء فتاء
تأنيث بزنة عنبة (متفق عليه(.
التسجية بالمهملة والجيم التغطية أي: غطي،
والبرد يجوز إضافته إلى الحبرة ووصفه بها،
والحبرة ما كان لها أعلام، وهي من أحب اللباس
إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه التغطية قبل الغسل. قال النووي في شرح
مسلم: إنه مجمع عليها، وحكمته صيانة الميت عن
الانكشاف، وستر صورته المتغيرة عن الأعين،
قالوا: وتكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفي
فيها لئلا يتغير بدنه بسببها.
8- (وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (أن أبا
بكر الصديق رضي الله عنه قَبّل النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد موته. رواه
البخاري(.
استدل به على جواز تقبيل الميت بعد موته، وعلى
أنها تندب تسجيته،
(2/91)
وهذه أفعال
صحابة بعد وفاته لا دليل فيها لانحصار الأدلة
في الأربعة نعم هذه الأفعال جائزة على أصل
الإباحة وقد أخرج الترمذي من حديث عائشة أن
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبّل عثمان
بن مظعون وهو ميت وهو يبكي أو قال: وعيناه
تهرقان.. قال الترمذي: حديث عائشة حسن صحيح.
9- ( وعن أَبي هُريرة رضي الله عنْهُ عن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "نَفْسُ
المؤمن مُعلّقةٌ بدَيْنِهِ حَتى يُقْضى
عَنْهُ" رواهُ أَحْمدُ والترمذيُّ وحسّنَهُ.
وقد ورد التشديد في الدين حتى ترك صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم الصلاة على من مات وعليه دين
حتى تحمله عنه بعض الصحابة، وأخبر صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أنه يغفر للشهيد عند أول
دفعة من دمه كل ذنب إلا الدين.
وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت
مشغولاً بدينه بعد موته، ففيه حث على التخلص
عنه قبل الموت، وأنه أهم الحقوق، وإذا كان هذا
في الدين المأخوذ برضا صاحبه فكيف بما أخذ
غصباً ونهباً وسلباً؟
10- (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في الذي سقط
عن راحلته فمات) وذلك هو واقف بعرفة على
راحلته كما في البخاري: "اغْسلوه بماءٍ وسِدْر
وكفنُوه في ثوبيه" متفق عليه) تمامه "ولا
تحنطوه ولا تخمروا رأسه" وبعده في البخاري
"فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" .
الحديث دليل على وجوب غسل الميت، قال النووي:
الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، قال
المصنف بعد نقله في الفتح: وهو ذهول شديد فإن
الخلاف فيه مشهور عند المالكية، حتى إن
القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة. ولكن
الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على من
لم يقل بذلك وقال: قد توارد القول والعمل وغسل
الطاهر المطهر فكيف بمن سواه؟. ويأتي كمية
الغسلات في حديث أمّ عطية قريباً.
وقوله: "بماء وسدر" ظاهره: أنه يخلط السدر
بالماء في كل مرة من مرات الغسل، قيل: وهو
يشعر بأنّ غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لأن
الماء المضاف لا يتطهر به؛ قيل: وقد يقال
يحتمل أنّ السدر لا يغير وصف الماء فلا يصير
مضافاً، وذلك بأن يمعك بالسدر ثم يغسل بالماء
في كل مرة، وقال القرطبي: يجعل السدر في ماء
ثم يخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسد
الميت ثم يصب عليه الماء القراح هذه غسلة؛
وقيل: لا يطرح السدر في الماء أي لئلا يمازج
الماء فيغير وصف الماء المطلق.
وتمسك بظاهر الحديث بعض المالكية فقال: غسل
الميت إنما هو للتنظيف فيجزي الماء المضاف كما
الورد ونحوه، وقالوا: إنما يكره لأجل السرف.
والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبدي يشترط فيه
ما يشترط في الاغتسالات الواجبة والمندوبة.
وفي الحديث النهي عن تحنيطه ولم يذكره المصنف
كما عرفت، وتعليله بأنه يبعث ملبياً يدل على
أن علة النهي كونه مات محرماً، فإذا انتفعت
العلة انتفى النهي، وهو يدل على أنّ الحنوط
للميت كان أمراً متقرّراً عندهم.
وفيه أيضاً النهي عن تخمير وتغطية رأسه لأجل
الإحرام، فمن ليس بمحرم يحنط ويخمر رأسه.
والقول بأن ينقطع حكم الإحرام بالموت كما تقول
الحنفية وبعض المالكية خلاف الظاهر، وقد ذكر
(2/92)
في الشرح
خلافهم وأدلتهم وليست بناهضة على مخالفة ظاهر
الحديث فلا حاجة إلى سردها.
وقوله "وكفنوه في ثوبين" يدل على وجوب
التكفين، وأنه لا يشترط فيه أن يكون وتراً،
وقيل: يحتمل أن الاقتصار عليهما لأنه مات فيهم
وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه
لم يجد له غيرهما، وأنه من رأس المال، لأنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر به ولم
يستفصل هل عليه دين مستغرق أم لا؟
وورد الثوبان في هذه الرواية مطلقين وفي رواية
في البخاري "في ثوبيه" وللنسائي "في ثوبيه
اللذين أحرم فيهما" قال المصنف: فيه استحباب
تكفين الميت في ثياب إحرامه؛ وأن إحرامه باق
وأنه لا يكفن في المخيط.
وفي قوله "يبعث ملبياً" ما يدل لمن شرع في عمل
طاعة ثم حيل بينه وبين تمامها بالموت أنه يرجو
له أن يكتبه الله في الآخرة من أهل ذلك العمل.
11- ( وعَنْ عائشةَ رضي الله عَنْها قالتْ:
"لمّا أَرادُوا غُسْلَ النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم قالوا: واللَّهِ ما نَدْري
نُجَرِّد رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كما نُجَرِّدُ مَوْتانا أَمْ لا؟"
الحديثَ، رواهُ أَحْمَدُ وأَبو داود.
وتمامه عند أبي داود "فلما اختلفوا ألقى الله
عليهم النوم حتى ما منهم من أحد إلا وذقنه في
صدره ثم كلمهم ملكهم من ناحية البيت، لا يدرون
من هو: اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه
ثيابه فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق
القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم" . وكانت
عائشة تقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت
ما غسل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
إلا نساؤه" وفي رواية لابن حبان "وكان الذي
أجلسه في حجره علي بن أبي طالب عليه السلام"
وروى الحاكم قال: "غسل النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم عليّ عليه السلام وعلى يد
عليّ خرقة فغسله فأدخل يده تحت القميص فغسله
والقميص عليه" وروى ذلك الشافعي عن مالك عن
جعفر بن محمد عن أبيه.
وفي هذه القصة دلالة على أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ليس كغيره من الموتى.
12- (وعن أمّ عطية رضي الله عنها) تقدم اسمها
وفيه خلاف وهي أنصارية (قالت: دخل علينا النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ونحن نغسل ابنته
) لم تقع في شيء من روايات البخاري مسماة،
والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص كانت وفاتها
في أوّل سنة ثمان، ووقع في روايات أنها أم
كلثوم. ووقع في البخاري عن ابن سيرين: "لا
أدري أي بناته" فقال: "اغْسلنها ثلاثاً أو
خمساً أو أكثر من ذلك إنْ رأَيتن ذلك بماءٍ
وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أَوْ شيئاً من
كافور" هو شك من الراوي أي اللفظين قال.
والأول محمول على الثاني لأنه نكرة في سياق
الإثبات، فيصدق بكل شيء منه ( فلما فرغنا
آذناه ) في البخاري "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قال لهنّ: فإذا فرغتن آذنني" ووقع في
رواية البخاري "فلما فرغن" عوضاً عن فرغنا
"فألقى إلينا حقوه" في لفظ البخاري "فأعطانا
حِقوه" وهو بفتح المهملة ويجوز كسرها وبعدها
قاف ساكنة والمراد هنا الإزار. وأطلق على
الإزار مجازاً إذ معناه الحقيقي معقد الإزار
فهو من تسمية الحال باسم المحل ( فقال:
"أَشْعرنْها إيّاه" متفق عليه) أي اجعلنه
شعارها أي الثوب الذي يلي جسدها (وفي رواية)
أي للشيخين عن أم عطية "ابْدَأن بميامنها
ومواضع الوضوء منها" في لفظ للبخاري) أي عن أم
عطية
(2/93)
"فَضَفَرنا
شعرها ثلاثة قُرون فأَلْقيناها خلْفها" .
دل الأمر في قوله "اغسلنها ثلاثاً" على أنه
يجب ذلك العدد. والظاهر الإجماع على إجزاء
الواحدة فالأمر بذلك محمول على الندب.
وأما أصل الغسل فقد علم وجوبه من محل آخر،
وقيل: تجب الثلاثة.
وقوله: "أو خمساً" أو للتخيير لا للترتيب هو
الظاهر.
وقوله: "أو أكثر" قد فسر في رواية أو سبعاً
بدل قوله أو أكثر من ذلك، وبه قال أحمد وكره
الزيادة على سبع، قال ابن عبد البر: لا أعلم
أحداً قال بمجاوزة السبع، إلا أنه وقع عند أبي
داود "أو سبعاً أو أكثر من ذلك" ، فظاهرها
شرعية الزيادة على السبع.
وتقدم الكلام في كيفية غسلة السدر. قالوا:
والحكمة فيه أنه يليّن جسد الميت.
وأما غسلة الكافور فظاهره أنه يجعل الكافور في
الماء ولا يضر الماء تغييره به، والحكمة فيه
أنه يطيب رائحة الموضع لأجل من حضر من
الملائكة وغيرهم، مع أنه فيه تجفيفاً وتبريداً
وقوة نفوذ، وخاصية في تصليب جسد الميت وصرف
الهوام عنه، ومنع ما يتحلل من الفضلات، ومنع
إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الروائح الطيبة
في ذلك. وهذا هو السر في جعله في الآخرة إذ لو
كان في الأولى مثلاً لأذهبه الماء.
وفيه دلالة على البداءة في الغسل بالميامن،
والمراد بها ما يلي الجانب الأيمن.
وقوله: "ومواضع الوضوء منها" ليس بين الأمرين
تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن
معاً، وقيل المراد: ابدأن بميامنها في الغسلات
التي لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها في
الغسلة المتصلة بالوضوء.
والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد سمة المؤمن في
ظهور أثر الغرة والتحجيل، وظاهر موضع الوضوء
دخول المضمضة والاستنشاق.
وقولها "ضفرنا شعرها" استدل به على ضفر شعر
الميت، وقال الحنفية: يرسل شعر المرأة خلفها
وعلى وجهها مفرقاً.
قال القرطبي: كأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم
عطية لم يكن عن أمره صلى الله عليه وسلم.
ولكنه قال المصنف: إنه قد روى سعيد بن منصور
ذلك بلفظ "قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: اغسلنها وتراً واجعلن شعرها ضفائر" وفي
صحيح ابن حبان "اغسلنها ثلاثة أو خمساً أو
سبعاً واجعلن لها ثلاثة قرون".
والقرن هنا المراد به الضفائر، وفي بعض ألفاظ
البخاري "ناصيتها وقرنيها" ففي لفظ ثلاثة قرون
تغليب، والكل حجة على الحنفية، والضفر يكون
بعد نقض شعر الرأس وغسله وهو في البخاري
صريحاً.
وفيه دلالة على إلقاء الشعر خلفها، وذهل ابن
دقيق العيد عن كون هذه الألفاظ في البخاري
فنسب القول به إلى بعض الشافعية وأنه استند في
ذلك إلى حديث غريب.
13- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ثلاثة
أثواب بيض سُحولية ) بضم السين المهملة والحاء
المهملة ( من كُرْسُف ) بضم الكاف وسكون الراء
وضم السين المهملة ففاء أي قطن ( ليس فيها )
أي الثلاثة ( قميص ولا عمامة ) بل إزار ورداء
ولفافة كما صرح به في طبقات ابن سعد عن الشعبي
(متفق عليه(.
فيه أن الأفضل التكفين في ثلاثة أثواب بيض،
لأن الله تعالى لم يكن يختار لنبيه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم إلا الأفضل، وقد روى أهل
السنن من حديث ابن عباس "البسوا ثياب البياض
فإنها أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم" وصححه
الترمذي والحاكم، وله شاهد من حديث سمرة
أخرجوه وإسناده صحيح أيضاً.
وأما ما تقدم في حديث عائشة "أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم سجي ببرد حبرة" وهي برد
يماني
(2/94)
مخطط غالي
الثمن، فإنه لا يعارض ما هنا لأنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم لم يكفن في ذلك البرد بل
سجوه به ليتجفف فيه ثم نزعوه عنه كما أخرجه
مسلم، على أن الظاهر أن التسجية كانت قبل
الغسل. قال الترمذي: تكفينه في ثلاثة أثواب
بيض أصح ما رود في كفنه.
وأما ما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبزار من
حديث علي عليه السلام " أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في سبعة أثواب" فهو من
رواية عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ
يصلح حديثه في المتابعات إلا إذا انفرد فلا
يحسن، فكيف إذا خالف كما هنا. فلا يقبل، قال
المصنف: وقد روى الحاكم من حديث أيوب عن نافع
عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن عقيل.
فإن ثبت، جمع بينه وبين حديث عائشة بأنها روت
ما اطلعت عليه وهو الثلاثة، وغيرها روى ما
اطلع عليه سيما إن صحت الرواية عن علي فإنه
كان المباشر للغسل.
واعلم أنه يجب من الكفن ما يستر جميع جسد
الميت، فإن قصر عن ستر الجميع قدم ستر العورة،
فما زاد عليها ستر به من جانب الرأس وجعل على
الرجلين حشيش، كما فعل النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم في عمه حمزة ومصعب بن عمير.
فإن أريد الزيادة على الواحد، فالمندوب أن
يكون وتراً، ويجوز الاقتصار على الاثنين كما
مر في حديث المحرم الذي مات، وقد عرفت من
رواية الشعبي كيفية الثلاثة، وأنها إزار ورداء
ولفافة، وقيل مئزر ودرجان، وقيل يكون منها
قميص غير مخيط وإزار يبلغ من سرته إلى ركبته،
ولفافة يلف بها من قرنه إلى قدمه، وتأول هذا
القائل قول عائشة: "ليس فيها قميص ولا عمامة"
بأنها أرادت نفي وجود الأمرين معاً لا القميص
وحده، أو أن الثلاث خارجة عن القميص والعمامة،
والمراد أن الثلاثة مما عداها وإن كانا
موجودين، وهذا بعيد جداً، قيل والأولى أن يقال
أن التكفين بالقميص وعدمه سواء يستحبان فإنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن عبد الله بن
أُبَيْ في قميصه أخرجه. البخاري. ولا يفعل
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا ما هو
الأحسن.
وفيه أن قميص الميت مثل قميص الحي مكفوفاً
مزروراً، وقد استحب هذا محمد بن سيرين كما
ذكره البيهقي في الخلافيات، قال في الشرح: وفي
هذا رد على من قال إنه لا يشرع القميص إلا إذا
كانت أطرافه غير مكفوفة. قلت: وهذا يتوقف أن
كف أطراف القميص كان عرف أهل ذلك العصر.
14- ( وعن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن
أُبيّ جاء ابنه ) هو عبد الله بن عبد الله (
إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
فقال: اعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه . متفق
عليه(.
هو دليل على شرعية التكفين في القميص كما سلف
قريباً. وظاهر هذه الرواية أنه طلب القميص منه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبل التكفين إلا
أنه قد عارضها ما عند البخاري من حديث جابر:
"أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتى عبد
الله بن أبيّ بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من
ريقه وألبسه قميصه" فإنه صريح أنه كان الإعطاء
والإلباس بعد الدفن، وحديث ابن عمر يخالفه،
وجمع بينهما بأن المراد من قوله في حديث ابن
عمر فأعطاه أي أنعم له بذلك فأطلق على العدة
اسم العطية مجازاً لتحقق وقوعها، وكذا قوله في
حديث جابر "بعد ما دفن" أي دُلِّيَ في حفرته
أو أن المراد من حديث جابر أن الواقع بعد
إخراجه من حفرته هو النفث، وأما القميص فقد
كان ألبس، والجمع بينهما لا يدل على وقوعهما
معاً لأن الواو لا تقتضي
(2/95)
الترتيب ولا
المعية فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة
من إكرامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من غير
إرادة الترتيب.
وقيل إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعطاه
أحد قميصيه أوّلا ولما دفن أعطاه الثاني بسؤال
ولده عبد الله. وفي الإكليل للحاكم ما يؤيد
ذلك.
واعلم أنه إنما أعطى عبد الله بن عبد الله بن
أبيّ لأنه كان رجلاً صالحاً ولأنه سأله ذلك
وكان لا يرد سائلاً، وإلا فإن أباه الذي ألبسه
قميصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكفن فيه
من أعظم المنافقين ومات على نفاقه، وأنزل الله
فيه: - { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} -.
وقيل إنما كساه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
قميصه لأنه كان كسا العباس لما أُسر ببدر
فأراد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يكافئه.
15- ( وعن ابنِ عبّاسٍ رضيِ الله عَنْهُما
أَنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
قالَ: "البسُوا مِنْ ثيابكُمُ الَْيض فإنها
مِنْ خَيْر ثيابكُمْ، وكفِّنوا فيها موتاكُم"
رواهُ الخمسةُ إلا النّسائيَّ وصححهُ
الترمذيُّ.
تقدم حديث البخاري عن عائشة: أنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في ثلاثة أثواب بيض.
وظاهر الأمر أنه يجب التكفين في الثياب البيض
ويجب لبسها إلا أنه صرف الأمر عنه في اللبس
أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس
غير الأبيض، وأما التكفين فالظاهر أنه لا صارف
عنه إلا أن لا يوجد الأبيض كما وقع في تكفين
شهداء أُحد فإنه صلى الله عليه وسلم كفن جماعة
في نمرة واحدة كما يأتي فإنه لا بأس به
للضرورة.
وأما ما رواه ابن عدي من حديث ابن عباس: "أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في قطيفة
حمراء" ففيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وكأنه
اشتبه عليه بحديث: أنه جعل في قبره قطيفة
حمراء، وكذلك ما قيل إنه كفن في بردة حبرة
وتقدم الكلام أنه إنما سجي بها ثم نزعت عنه.
16- ( وعن جابِرٍ رضيَ الله عنهُ قال قال
النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذَا
كَفّنَ أَحَدُكُم أَخاهُ فَلْيُحسن كَفَنهُ"
رواهُ مسلْمٌ.
ورواه الترمذي أيضاً من حديث أبي قتادة وقال:
حسن غريب. ثم قال: ابن المبارك: قال سَلاَّم
بن أبي مطيع قوله "وليحسن كفنه" قال: هو
الصفاء بالضاد المعجمة والفاء أي الواسع
الفائض.
وفي الأمر بإحسان الكفن دلالة على اختيار ما
كان أحسن في الذات، وفي صفة الثوب، وفي كيفية
وضع الثياب على الميت.
فأما حسن الذات فينبغي أن يكون على وجه لا يعد
من المغالاة كما سيأتي النهي عنه.
وأما صفة الثوب فقد بينها حديث ابن عباس الذي
قبل هذا.
وأما كيفية وضع الثياب على الميت فقد بينت
فيما سلف.
وقد وردت أحاديث في إحسان الكفن وذكرت فيها
علة ذلك: أخرج الديلمي عن جابر مرفوعاً
"أحسنوا كفن موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون
بها في قبورهم" وأخرج أيضاً من حديث أم سلمة:
"أحسنوا الكفن ولا تؤذوا موتاكم بعويل ولا
بتزكية ولا بتأخير وصية ولا بقطيعة وعجلوا
بقضاء دَيْنه واعدلوا عن جيران السوء وأعمقوا
إذا حفرتم ووسعوا" .
ومن الإحسان إلى الميت ما أخرجه أحمد من حديث
عائشة عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من
غسل ميتاً فأدّى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما
يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم
(2/96)
ولدته أمه" .
وقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لِيَلِهِ
أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون
عنده حظاً من ورع وأمانة" رواه أحمد. وأخرج
الشيخان من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من ستر مسلماً
ستره الله يوم القيامة" . وأخرج عبد الله بن
أحمد من حديث أبيّ بن كعب: "إن آدم عليه
السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه
وحفروا له وألحدوه وصلوا عليه ودخلوا قبره
ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر ثم حثوا
عليه التراب ثم قالوا: يا بني آدم هذا سنتكم"
.
17- (وعنه) أي عن جابر (قال: كان النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم يجمع بين الرجلين من
قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أَيُّهمْ
أَكْثر أخذاً للقرآن" فيقدّمه في اللحد ) سمي
لحداً لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن
وسطه والإلحاد لغة الميل (ولم يغسلوا ولم يصلّ
عليهم. رواه البخاري).
دل على أحكام (الأول): أنه يجوز جمع الميتين
في ثوب واحد للضرورة وهو أحد الاحتمالين
والثاني: أن المراد يقطعه بينهما ويكفن كل
واحد على حياله وإلى هذا ذهب الأكثرون، بل قيل
إن الظاهر أنه لم يقل بالاحتمال الأول: أحد
فإن فيه التقاء بشرتي الميتين ولا يخفى أن قول
جابر في تمام الحديث فكفن أبي وعمي في نمرة
واحدة. دليل على الاحتمال الأول، وأما الشارح
رحمه الله فقال: الظاهر الاحتمال الثاني: كما
فعل في حمزة رضي الله عنه (قلت): حديث جابر
أوضح في عدم تقطيع الثوب بينهما فيكون أحد
الجائزين، والتقطيع جائز على الأصل.
(الحكم الثاني): أنه دل على أنه يقدّم الأكثر
أخذاً للقرآن على غيره لفضيلة القرآن ويقاس
عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد.
(الحكم الثالث): جمع جماعة في قبر وكأنه
للضرورة وبوّب البخاري "باب دفن الرجلين
والثلاثة في قبر" وأورد فيه حديث جابر هذا وإن
كانت رواية جابر في الرجلين، فقد وقع ذكر
الثلاثة في رواية عبد الرزاق: كان يدفن
الرجلين والثلاثة في القبر الواحد. وروى أصحاب
السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت
الأنصار إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح
وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين
والثلاثة في قبر. صححه الترمذي. ومثله
المرأتان والثلاث:
وأما دفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فقد
روى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع
"أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد
فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه" وكأنه كان
يجعل بينهما حائلا من تراب.
(الحكم الرابع): أنه لا يغسل الشهيد وإليه ذهب
الجمهور ولأهل المذاهب تفاصيل في ذلك.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن وابن شريح أنه
يجب غسله. والحديث حجة عليهم، وقد أخرج أحمد
من حديث جابر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
قال في قتلى أحد: "لا تغسلوهم فإن كل جرحٍ أو
دم يفوح مسكاً يوم القيامة" فبين الحكمة في
ذلك.
(الحكم الخامس): عدم الصلاة على الشهيد وفي
ذلك خلاف بين العلماء معروف فقالت طائفة: يصلى
عليه عملاً بعموم أدلة الصلاة على الميت وبأنه
روي "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على
قتلى أُحد، وكبر على حمزة سبعين تكبيره" ،
وبأنه روى البخاري عن عقبة بن عامر "أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى على قتلى أحد"
وقالت طائفة: لا يصلى عليه
(2/97)
عملا برواية
جابر هذه.
قال الشافعي: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه
متواترة "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم لم يصل على قتلى أُحد" وما روي أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى عليهم وكبر
على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح وقد كان ينبغي
لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي
على نفسه. وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في
نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين يعني،
والمخالف يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت
المدة "فلا يتم له الاستدلال" وكأنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعا لهم واستغفر لهم
حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك، ولا يدل
على نسخ الحكم الثابت انتهى.
ويؤيد كونه دعا لهم عدم الجمعية بأصحابه، إذ
لو كانت صلاة الجنازة لأشعر أصحابه وصلاها
جماعة كما فعل في صلاته علي النجاشي، فإن
الجماعة أفضل قطعاً وأهل أحد أولى الناس
بالأفضل، ولأنه لم يرد عنه أنه صلى على قبر
فرادى، وحديث عقبة أخرجه البخاري بلفظ "أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على قتلى
أُحُد بعد ثمان سنين" زاد ابن حبان "ولم يخرج
من بيته حتى قبضه الله تعالى" .
18- (وعنْ عليٍ عليه السلام قال: سمعْتُ رسول
اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقُولُ:
" لا تَغَالَوْا في الكفن فإِنّهُ يُسْلبُ
سريعاً" رواهُ أبو داودَ.
من رواية الشعبي عن علي عليه السلام وفي
إسناده عمرو بن هشام الجنبي بفتح الجيم فنون
ساكنة فموحدة مختلف فيه، وفيه انقطاع بين
الشعبي وعليّ لأنه قال الدارقطني: إنه لم يسمع
منه سوى حديث واحد.
وفيه دلالة على المنع من المغالاة في الكفن
وهي زيادة الثمن.
وقوله: "فإنه يسلب سريعاً" كأنه إشارة إلى أنه
سريع البلى والذهاب، كما في حديث عائشة: "إن
أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع
من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه
ثوبين فكفنوني فيها" (قلت) إن هذا خلق قال: إن
الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة.
ذكره البخاري مختصراً.
19- (وعن عائشةَ رضيَ الله عَنْها أَنَّ
النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ
لهَا: "لَوْمُتِّ قَبْلي لَغَسّلْتُك" الحديث،
رواهُ أَحمدُ وابن مَاجَهْ وصَحّحهُ ابنُ
حبِّانَ.
فيه دلالة على أن للرجل أن يغسل زوجته وهو قول
الجمهور.
وقال أبو حنيفة: لا يغسلها بخلاف العكس
لارتفاع النكاح ولا عدة عليه والحديث يرد
قوله. هذا في الزوجين.
وأما في الأجانب فإنه أخرج أبو داود في
المراسيل من حديث أبي بكر ابن عياش عن محمد بن
أبي سهل عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: "إذا ماتت المرأة مع الرجال
ليس فيهم امرأة غيرها والرجل مع النساء ليس
معهن رجل غيره فإنهما ييممان ويدفنان" وهما
بمنزلة من لا يجد الماء انتهى. محمد بن أبي
سهل هذا ذكره ابن حبان في الثقات. وقال
البخاري: لا يتابع على حديثه. وعن علي عليه
السلام قال: قال رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى
فخذ حي ولا ميت" رواه أبو داود وابن ماجه وفي
إسناده اختلاف.
20- ( وعنْ أَسْماءَ بنْتِ عُمَيْسٍ رَضيَ
اللَّهُ عنْها: "أَنَّ فاطِمَة رضيَ اللَّهُ
عَنْها أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَها
(2/98)
عَليٌّ عليه
السلام" رواهُ الدارقطنيُّ.
هذا يدل على ما دل عليه الحديث الأول وأما غسل
المرأة زوجها فيستدل له بما أخرجه أبو داود عن
عائشة أنها قالت: "لو استقبلت من أمري ما
استدبرت ما غسل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم غير نسائه" وصححه الحاكم، وإن كان قول
صحابية، وكذلك حديث فاطمة، فهو يدل على أنه
كان أمراً معروفاً في حياته صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ويؤيده ما رواه البيهقي من
أن أبا بكر أوصى امرأته أسماء بنت عميس أن
تغسله واستعانت بعبد الرحمن بن عوف لضعفها عن
ذلك ولم ينكره أحد. وهو قول الجمهور والخلاف
فيه لأحمد بن حنبل. قال: لارتفاع النكاح كذا
في الشرح.
والذي في دليل المطالب من كتب الحنابلة ما
لفظه: وللرجل أن يغسل زوجته وأمته وبنتاً دون
سبع وللمرأة غسل زوجها وسيدها وابن دون سبع.
21- ( وعن بريدة في قصة الغامدية) بالغين
المعجمة وبعد الميم دال مهملة نسبة إلى غامد
وتأتي قصتها في الحدود (التي أمر النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم برجمها في الزنا قال:
ثم أمر بها فصُلِّي عليها ودفنت . رواه مسلم(.
فيه دليل على أنه يصلي على من قتل بحدّ وليس
فيه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الذي صلى
عليه، وقد قال مالك: إنه لا يصلي الإمام على
مقتول في حدّ لأن الفضلاء لا يصلون على الفساق
زجراً لهم. قلت: كذا في الشرح لكن قد قال
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الغامدية:
"إنها تابت توبة لو قسمت بين أهل المدينة
لوسعتهم" أو نحو هذا اللفظ.
وللعلماء خلاف في الصلاة على الفساق، وعلى من
قتل في حد، وعلى المحارب، وعلى ولد الزنا،
وقال ابن العربي: مذهب العلماء كأنه الصلاة
على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد
الزنا اهـ. وقد ورد في قاتل نفسه الحديث:
22- ( وعَنْ جابرِ بنِ سَمُرَةَ قالَ: "أُتِيَ
النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برجُلٍ
قَتَلَ نَفْسَهُ بمشَاقِص فَلَمْ يُصَلِّ
عَلَيْهِ" رواه مُسْلمٌ.
المشاقص جمع مشقص وهو نصل عريض.
قال الخطابي: وترك الصلاة عليه معناه العقوبة
له وردع لغيره عن مثل فعله.
وقد اختلف الناس في هذا، وكان عمر بن عبد
العزيز لا يرى الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك
قال الأوزاعي.
وقال أكثر الفقهاء: يصلي عليه اهـ، وقالوا في
هذا الحديث: إنه صلى عليه الصحابه. قالوا:
وهذا كما ترك النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم الصلاة على من مات وعليه دين أول
الأمر، وأمرهم بالصلاة على صاحبهم، قلت: إن
ثبت نقل أنه أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وآله
وَسَلّم أصحابه بالصلاة على قاتل نفسه. تم هذا
القول وإلا فرأى عمر بن عبد العزيز أوفق
بالحديث، إلا أن في رواية للنسائي: "أما أنا
فلا أصلي عليه" ، فربما أخذ منها أن غيره صلى
عليه.
23- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة
المرأة التي كانت تَقم المسجد) بفتح حرف
المضارعة أي تخرج القمامة منه وهي الكناسة
(فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:
ماتت فقال: "أَفلا كنتمْ آذنتموني" فكأَنهمْ
صغروا أَمْرها فقال: "دلُّوني على قبرها" أي
بعد قولهم في جواب سؤاله إنها ماتت ( فدلوه
فصلى عليها . متفق عليه وزاد مسلم) أي من
رواية أبي هريرة (ثم قال) أي النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم "إنَّ هذه القبور
(2/99)
مملوءةٌ
ظُلْمةٌ على أَهْلها وإنَّ اللَّهَ يُنوِّرها
لهمْ بصلاتي عليْهم" وهذه الزيادة لم يخرجها
البخاري لأنها مدرجة من مراسيل ثابت كما قال
أحمد. هذا والمصنف جزم أن القصة كانت مع امرأة
وفي البخاري: أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء
بالشك من ثابت الراوي لكنه صرح في رواية أخرى
في البخاري عن ثابت قال: "ولا أراه إلا امرأة"
وبه جزم ابن خزيمة من طريق أخرى عن أبي هريرة
فقال: "امرأة سوداء" ورواه البيهقي أيضاً
بإسناد حسن وسماها أم محجن وأفاد أن الذي
أجابه صلى الله عليه وسلم عن سؤاله هو أبو
بكر، وفي البخاري عوض "فسأل عنها" فقال: "ما
فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله"
الحديث.
والحديث دليل على صحة الصلاة على الميت بعد
دفنه مطلقاً سواء أصلي عليه قبل الدفن أم لا
وإلى هذا ذهب الشافعي.
ويدل له أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على
البراء بن معرور فإنه مات والنبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة فلما قدم صلى على قبره،
وكان ذلك بعد شهر من وفاته.
ويدل له أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على
الغلام الأنصاري الذي دفن ليلا ولم يشعر صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم بموته، أخرجه البخاري.
ويدل له أيضاً أحاديث وردت في الباب عن تسعة
من الصحابة أشار إليها في الشرح.
وذهب أبو طالب تحصيلاً لمذهب الهادي إلا أنه
لا صلاة على القبر واستدل له في البحر بحديث
لا يقوى على معارضة أحاديث المثبتين لما عرفت
من صحتها وكثرتها.
واختلف القائلون بالصلاة على القبر في المدة
التي تشرع فيها الصلاة، فقيل إلى شهر بعد
دفنه، وقيل إلى أن يبلى الميت لأنه إذا بلي لم
يبق ما يصلي عليه، وقيل أبداً لأن المراد من
الصلاة عليه الدعاء وهو جائز في كل وقت. قلت:
هذا هو الحق إذ لا دليل على التحديد بمدة.
وأما القول بأن الصلاة على القبر من خصائصه
صلى الله عليه وآله وسلم فلا تنهض لأن دعوى
الخصوصية خلاف الأصل.
24- ( وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان ينهى عن النعي ) في
القاموس: نعاه له نعياً ونعياً ونعياناً أخبره
بموته (رواه أحمد والترمذي وحسنه) وكأن صيغة
النهي هي ما أخرجه الترمذي من حديث عبد الله
عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إياكم
والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية" فإن صيغة
التحذير في معنى النهي. وأخرج حديث حذيفة وفيه
قصة، فإنه ساق سنده إلى حذيفة أنه قال لمن
حضره: "إذا مت فلا يؤذن أحد إني أخاف أن يكون
نعياً فإني سمعت رسول لله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم ينهى عن النعي" هذا لفظه ولم يحسنه.
ثم فسر الترمذي النعي بأنه عندهم أن ينادي في
الناس إن فلاناً مات ليشهدوا جنازته. وقال بعض
أهل العمل: لا بأس أن يعلم الرجل قرابته
وإخوانه. وعن إبراهيم أنه قال: لا بأس بأن
يعلم الرجل قرابته انتهى.
وقيل المحرّم ما كانت تفعله الجاهلية كانوا
يرسلون من يعلم بخبر موت الميت على أبواب
الدور والأسواق.
وفي النهاية: والمشهور في العربية أنهم كانو
إذا مات فيهم شريف أو قتل بعثوا راكباً إلى
القبائل ينعاه إليهم يقول: نَعاء فلاناً أو
يَانَعَاء العرب: أي هلك فلان أو هلكت العرب
بموت فلان انتهى.
ويقرب عندي أن هذا هو
(2/100)
المنهي عنه.
قلت: ومنه النعي من أعلى المنارات كما يعرف في
هذه الأعصار في موت العظماء.
قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث
حالات (الأولى): إعلام الأهل والأصحاب وأهل
الصلاح فهذا سنة.
(الثانية): دعوى الجمع الكثير للمفاخرة فهذه
تكره.
(الثالثة) إعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك
فهذا يحرم انتهى.
وكأنه أخذ سنية الأولى من أنه لا بد من جماعة
يخاطبون بالغسل والصلاة والدفن ويدل له قوله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا آذنتموني"
ونحوه، ومنه:
25- (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نعى النّجاشي )
بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة
ثم مثناة تحتية مشددة وقيل مخففة، لقب لكل مَن
ملك الحبشة واسمه أصحمة ( في اليوم الذي مات
فيه وخرج بهم إلى المصلى ) يحتمل أنه مصلى
العيد أو محل اتخذ لصلاة الجنائز ( فصف بهم
وكبر عليه أربعاً، متفق عليه(.
فيه دلالة على أن النعي اسم للإعلام بالموت
وأنه لمجرد الإعلام جائز.
وفيه دلالة على شرعية صلاة الجنازة على
الغائب، وفيه أقوال:
الأول: تشرع مطلقاً وبه قال الشافعي وأحمد
وغيرهما وقال ابن حزم لم يأت عن أحد من السلف
خلافه.
والثاني: منعه مطلقاً وهو للهادوية والحنفية
ومالك.
والثالث: يجوز في اليوم الذي مات فيه الميت أو
ما قرب منه إلا إذا طالت المدة.
الرابع: يجوز ذلك إذا كان الميت في جهة
القبلة، ووجه التفصيل في القولين معاً الجمود
على قصة النجاشي. وقال المانع له مطلقاً: إن
صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على
النجاشي خاصة به، وقد عرف أن الأصل عدم
الخصوصية واعتذروا بما قاله أهل القول الخامس
وهو: أن يصلى على الغائب إذا مات بأرض لا يصلى
عليها فيها كالنجاشي فإنه مات بأرض لم يسلم
أهلها واختاره ابن تيمية، ونقله المصنف في فتح
الباري عن الخطابي وأنه استحسنه الروياني، ثم
قال: وهو محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من
الأخبار أنه لم يصلِّ عليه في بلده أحد.
واستدل بالحديث على كراهة الصلاة على الجنازة
في المسجد، لخروجه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم. والقول بالكراهة للحنفية والمالكية،
ورد بأنه لم يكن في الحديث نهي عن الصلاة فيه،
وبأن الذي كرهه القائل بالكراهة إنما هو إدخال
الميت المسجد وإنما خرج صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم تعظيماً لشأن النجاشي ولتكثر الجماعة
الذين يصلون عليه.
وفيه شرعية الصفوف على الجنازة لأنه أخرج
البخاري في هذه القصة حديث جابر وأنه كان في
الصف الثاني أو الثالث وبوّب له البخاري "باب
من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام".
وفي الحديث من أعلام النبوّة إعلامهم بموته في
اليوم الذي توفي فيه مع بُعد ما بين المدينة
والحبشة.
26- ( وعن ابن عبّاسٍ قالَ: سَمِعْت رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "ما مَنْ
رجلٍ مُسْلمٍ يموتُ فَيَقومُ على جنازتِهِ
أَربْعونَ رجُلاً لا يُشركُون بالله شيئاً لا
شَفّعَهُمُ اللَّهُ فيهِ" رواهُ مُسلْمٌ.
في الحديث دليل على فضيلة تكثير الجماعة على
الميت. وأن شفاعة المؤمن مقبولة عنده تعالى
وفي رواية "ما من مسلم يصلي عليه أمة من
المسلمين يبلغون كلهم مائة: يشفعون فيه إلا
شُفعوا فيه" . وفي رواية "ثلاثة صفوف" رواها
أصحاب السنن.
قال القاضي:
(2/101)
قيل هذه
الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك
فأجاب كل واحد عن سؤاله. ويحتمل أن يكون صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخبر بقبول شفاعة كل
واحد من هذه الأعداد ولا تنافي بينهما إذ
مفهوم العدد يطرح مع وجود النص فجميع الأحاديث
معمول بها وتقبل الشفاعة بأذناها..
27- ( وعَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ رضيَ الله
عَنْهما قال: "صَلّيْتُ وَرَاءَ النّبيِّ
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على امرأَةٍ
مَاتَتْ في نفاسِها فَقَامَ وَسْطَهَا"
مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
فيه دليل على مشروعية القيام عند وسط المرأة
إذا صلى عليها وهذا مندوب، وأما الواجب فإنما
هو استقبال جزء من الميت رجلاً أو امرأة.
واختلف العلماء في حكم الاستقبال في حق الرجل
والمرأة فقال أبو حنيفة: إنهما سواء.
وعند الهادوية أنه يستقبل الإمام سرة الرجل
وثديي المرأة لرواية أهل البيت عليهم السلام
عن علي عليه السلام. وقال القاسم: صدر المرأة،
وبينه وبين السرة من الرجل، إذ قد روي قيامه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند صدرها ولا
بدّ من مخالفة بينها وبين الرجل.
وعن الشافعي أنه يقف حذاء رأس الرجل وعند
عجيزتها لما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث
أنس: أنه صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على
المرأة فقام عند عجيزتها فقال له العلاء بن
زياد: هكذا كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يفعل؟ قال: نعم. إلا أنه قال المصنف
في الفتح: إن البخاري أشار بإيراد حديث سمرة
إلى تضعيف حديث أنس.
28- (وعن عائشة قالت: والله لقد صلى رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ابني بيضاء )
هما سهل وسهيل أبوهما وهب بن ربيعة وأمهما
البيضاء اسمها دعد والبيضاء صفة لها ( في
المسجد . رواه مسلم) قالته عائشة ردّاً على من
أنكر عليها صلاتها على سعد بن أبي وقاص في
المسجد فقالت: "ما أسرع وما أنسى الناس والله
لقد صلى" الحديث.
والحديث دليل على ما ذهب إليه الجمهور من عدم
كراهية صلاة الجنازة في المسجد.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها لا تصح وفي
القدوري للحنفية ولا يصلى على ميت في مسجد
جماعة. واحتجا بما سلف من خروجه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم إلى الفضاء للصلاة على
النجاشي وتقدّم جوابه وبما أخرجه أبو داود "من
صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" وأجيب
بأنه نص أحمد على ضعفه لأنه تفرّد به صالح
مولى التوأمة وهو ضعيف على أنه في النسخ
المشهورة من سنن أبي داود بلفظ "فلا شيء
عليه".
وقد روى أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد وأن
صهيباً صلى على عمر في المسجد.
وعند الهادوية يكره إدخال الميت المسجد كراهة
تنزيه وتأولوا هم والحنفية والمالكية حديث
عائشة بأن المراد أنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلى على ابني البيضاء وجنازتهما خارج
المسجد وهو صلى الله عليه وسلم داخل المسجد
ولا يخفي بعده وأنه لا يطابق احتجاج عائشة.
29- (وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى) هو أبو عيسى
عبد الرحمن بن أبي ليلى ولد لست سنين بقيت من
خلافة عمر سمع أباه وعلي بن أبي طالب عليه
السلام وجماعة من الصحابة ووفاته سنة اثنتين
وثمانين وفي سبب وفاته أقوال، قيل: فقد، وقيل
قتل، وقيل
(2/102)
غرق في نهر
البصرة (قال: كان زيد بن أرقم يكبر على
جنائزنا أربعاً وإنه كبر على جنازة خمساً
فسألته فقال: كان رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يكبرها . رواه مسلم
والأربعة) تقدم في حديث أبي هريرة أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم كبر في صلاته على
النجاشي أربعاً ورويت الأربع عن ابن مسعود
وأبي هريرة وعقبة بن عامر والبراء بن عازب
وزيد بن ثابت، وفي الصحيحين عن ابن عباس: "صلى
على قبر فكبر أربعاً". وأخرج ابن ماجه عن أبي
هريرة: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلى على جنازة فكبر أربعاً". قال ابن
أبي داود: ليس في الباب أصح منه.
فذهب إلى أنها أربعاً لا غير جمهور من السلف
والخلف منهم الفقهاء الأربعة ورواية عن زيد بن
علي عليه السلام.
وذهب أكثر الهادوية إلى أنه يكبر خمس تكبيرات
واحتجوا بما روي أن علياً عليه السلام كبر على
فاطمة خمساً وأن الحسن كبر على أبيه خمساً وعن
ابن الحنفية أنه كبر على ابن عباس خمساً
وتأولوا رواية الأربع بأن المراد بها ما عدا
تكبيرة الافتتاح وهو بعيد:
30- (وعن علي عليه السلام أنه كبر على سهل بن
حنيف) بضم المهملة فنون فمثناة تحتية ففاء
(ستا وقال: "إنه بدريٌّ") أي ممن شهد وقعة بدر
معه صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم (رواه
سعيد بن منصور وأصله في البخاري) الذي في
البخاري "أن علياً كبر على سهل بن حنيف" زاد
البرقاني في مستخرجه ستاً كذا ذكره البخاري في
تاريخه.
وقد اختلفت الروايات في عدة تكبيرات الجنازة
فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال:
كل ذلك قد كان أربعاً وخمساً فاجتمعنا على
أربع. ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن سعيد،
ورواه البيهقي أيضاً عن أبي وائل قال: كانوا
يكبرون على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً فجمع عمر
أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
فأخبر كلٌّ بما رأى فجمعهم عمر على أربع
تكبيرات. وروى ابن عبد البر في الاستذكار
بإسناده: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يكبر على الجنائز أربعاً وخمساً وستاً
وسبعاً وثمانياً حتى جاء موت النجاشي فخرج إلى
المصلى وصف الناس وراءه وكبر عليه أربعاً ثم
ثبت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على
أربع حتى توفاه الله؛ فإن صح هذا فكأن عمر ومن
معه لم يعرفوا استقرار الأمر على الأربع حتى
جمعهم وتشاوروا في ذلك.
31- ( وعن جابرٍ رضي اللَّهُ عنه قال: كانَ
رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
يُكبِّرُ على جنائزنا أَربعاً، ويقرأُ بفاتحةِ
الكتابِ في التّكبيرةِ الأولى" رواهُ
الشّافعيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ.
سقط هذا الحديث من نسخة الشرح فلم يتكلم عليه
الشارح رحمه الله قال المصنف في الفتح: إنه
أفاد شيخه في شرح الترمذي أن سنده ضعيف وفي
التلخيص إنه رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد
عن محمد عبد الله بن عقيل عن جابر انتهى وقد
ضعفوا ابن عقيل.
واعلم أنه اختلف العلماء في قراءة الفاتحة في
صلاة الجنازة، فنقل ابن المنذر عن ابن مسعود
والحسن بن علي وابن الزبير مشروعيتها وبه قال
الشافعي وأحمد وإسحاق.
ونقل عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها
قراءة وهو قول مالك والكوفيين. واستدل الأولون
بما سلف وهو وإن كان ضعيفاً فقد شهد له قوله:
(2/103)
32- (وعنْ
طلحةَ بن عبد الله بنِ عَوْفٍ قالَ: "صلْيتُ
خلفَ ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما على جنازةٍ
فَقَرَأَ بفاتحة الْكتابِ، قال: لِتَعْلَمُوا
أَنّها سُنّةٌ" رواهُ البُخاري.
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه والنسائي بلفظ
"فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال: نعم يا ابن
أخي إنه حق وسنة" وأخرج النسائي أيضاً من طريق
أخرى بلفظ "فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى
أسمعنا فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: سنة
وحق" وقد روى الترمذي عن ابن عباس: أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ على الجنازة بفاتحة
الكتاب. ثم قال لا يصح. والصحيح عن ابن عباس
قوله: "من السنة".
قال الحاكم: أجمعوا على أن قول الصحابي "من
السنة" حديث مسند قال المصنف: كذا نقل الإجماع
مع أن الخلاف عند أهل الحديث وعند الأصوليين
شهير.
والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في صلاة
الجنازة لأن المراد من السنة الطريقة المألوفة
عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا أن المراد
بها ما يقابل الفريضة فإنه اصطلاح عرفي. وزاد
الوجوب تأكيداً قوله: "حق" أي ثابت. وقد أخرج
ابن ماجه من حديث أم شريك قالت: أمرنا رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نقرأ على
الجنازة بفاتحة الكتاب. وفي إسناده ضعف يسير
يجبره حديث ابن عباس.
والأمر من أدلة الوجوب، وإلى وجوبها ذهب
الشافعي وأحمد وغيرهما من السلف والخلف.
وذهب آخرون إلى عدم مشروعيتها لقول ابن مسعود:
لم يوقت لنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قراءة في صلاة الجنازة بل قال: "كبّر
إذا كبر الإمام واختر من أطايب الكلام ما شئت"
إلا أنه لم يعزه إلى كتاب حديثي حتى تعرف صحته
من عدمها ثم هو قول صحابي على أنه ناف وابن
عباس مثبت وهو مقدم.
وعن الهادي وجماعة من الآل أن القراءة سنة
عملا بقول ابن عباس سنة وقد عرفت المراد بها
في لفظه.
واستدل للوجوب بأنهم اتفقوا أنها صلاة وقد ثبت
حديث "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" فهي داخلة
تحت العموم وإخراجها منه يحتاج إلى دليل.
وأما موضع قراءة الفاتحة فإنه بعد التكبيرة
الأولى ثم يكبر فيصلي على النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ثم يكبر فيدعو للميت وكيفية
الدعاء قد أفادها قوله:
33- ( وعن عَوْفِ بن مالك قال: صلى رسولُ الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على جنَازَةٍ
فَحَفِظْتُ منْ دعائهِ "اللهمَّ اغفِرْ لهُ،
وارْحَمْهُ، وعَافِهِ واعْفُ عنْهُ، وأَكرم
نُزُلَهُ، ووسع مُدْخلهُ، واغْسِلْهُ بالماءِ
والثّلْج والبْرَدِ، ونقّه من الْخطايا كما
يُنَقَى الثّوب الأبْيضُ من الدنس، وأَبْدلهُ
داراً خَيْراً من دارهِ، وأَهْلاً خيراً من
أَهْله، وأَدْخلْهُ الجنّةَ، وقِهِ فتْنة
القبر وعذابَ النّار" رواه مُسلمٌ.
يحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جهر به
فحفظه ويحتمل أنه سأله ما قاله فذكره له
فحفظه.
وقد قال الفقهاء: يندب الإسرار، ومنهم من قال
يخير، ومنهم من قال: يسر في النهار ويجهر
بالليل.
وفي الدعاء ينبغي الإخلاص فيه لقوله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أخلصوا له الدعاء"
وما ثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
أولى. وأصح الأحاديث الواردة في ذلك هذا
الحديث وكذلك قوله:
(2/104)
34-( وعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم على جنازة يقول: "اللهم اغفر
لحيّنا وميِّتنا وشاهدنا" أي حاضرنا "وغائبنا
وصغيرنا" أي ثبته عند التكليف للأفعال الصالحة
وإلا فلا ذنب له "وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا،
اللهُمَّ من أحْييْته منّا فأَحيْه على
الإسلام، ومن توفيْتَهُ منّا فتوفّهُ على
الإيمان، اللهم لا تحرمنْا أجْرَهُ ولا
تُضِلْنا بَعْدهُ" رواه مسلم والأربعة)
والأحاديث في الدعاء للميت كثيرة ففي سنن أبي
داود عن أبي هريرة أن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم دعا في الصلاة على الجنازة:
"اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها
للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها
وعلانيتها جئنا شفعاء له فاغفر له ذنبه" .
وابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع قال: "صلى
بنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
على جنازة رجل من المسلمين فسمعته يقول: اللهم
إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، قه فتنة
القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد،
اللهم فاغفر له وارحمه، فإنك أنت الغفور
الرحيم" .
واختلاف الروايات دال على أن الأمر متسع في
ذلك ليس مقصوراً على شيء معين، وقد اختار
الهادوية أدعية أخرى، واختار الشافعي كذلك،
والكل مسطور في الشرح.
وأما قراءة سورة مع الحمد فقد ثبت ذلك كما
عرفت في رواية النسائي ولم يرد فيها تعيين
وإنما الشأن في إخلاص الدعاء للميت لأنه الذي
شرعت له الصلاة، والذي ورد به الحديث وهو
قوله:
35- (وعنه) أي أبي هريرة (أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: "إذا صليْتم على الميِّت
فأَخلصوا لهُ الدعاءَ" رواه أبو داود وصححه
ابن حبان) لأنهم شفعاء والشافع يبالغ في طلبها
يريد قبول شفاعته فيه.
وروى الطبراني: أن ابن عمر كان إذا رأى جنازة
قال: "هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله
ورسوله"، اللهم زدنا إيماناً وتسليماً. ثم
أسند عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
أنه قال: "من رأى جنازة فقال: الله أكبر صدق
الله ورسوله هذا ما وعد الله ورسوله اللهم
زدنا إيماناً وتسليماً تكتب له عشرون حسنة".
36- ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أسرعوا
بالجنازة فإن تكُ ) أي الجنازة والمراد بها
الميت "صالحة فخيْرٌ " خيْرٌ خبر مبتدأ محذوف
أي فهو خير ومثله شر الآتي "تُقدِّمُونها
إليْه، وإن تكُن سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عنْ
رقابكم " متفق عليه".
نقل ابن قدامة أن الأمر بالإسراع للندب بلا
خلاف بين العلماء.
وسئل ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد به شدة
المشي وعلى ذلك حمله بعض السلف.
وعند الشافعي والجمهور المراد بالإسراع فوق
سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد.
والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث لا
ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو
مشقة على الحامل والمشيع.
وقال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ
بالميت عن الدفن، لأن البطء ربما أدى إلى
التباهي والاختيال، هذا بناء على أن المراد
بقوله بالجنازة بحملها إلى قبرها، وقيل:
المراد الإسراع بتجهيزها فهو أعم من القول
الأول. قال
(2/105)
النووي: هذا
باطل مردود بقوله في الحديث "تضعونه عن
رقابكم" ، وتعقب بأن الحمل على الرقاب قد يعبر
به عن المعاني كما تقول حمل فلان على رقبته
ديوناً. قال: ويؤيده أن الكل لا يحملونه، قال
المصنف بعد نقله في الفتح: ويؤيده حديث ابن
عمر سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه
وأسرعوا به إلى قبره" أخرجه الطبراني بإسناد
حسن، ولأبي داود مرفوعاً: لا ينبغي لجيفة مسلم
أن تبقى بين ظهراني أهله.
والحديث دليل على المبادرة بتجهيز الميت
ودفنه، وهذا في غير المفلوج ونحوه فإنه ينبغي
التثبت في أمره.
37- ( (وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من شهد
الجنازة حتى يصلى عليها فلهُ قيراطٌ ومن شهدها
حتى تدفن فله قيراطان" قيل: صرح أبو عوانة بأن
القائل وما القيراطان هو أبي هريرة (وما
القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين" متفق
عليه. ولمسلم) أي من حديث أبي هريرة حتى يوضع
في اللحد". وللبخاري أيضاً من حديث أبي هريرة
"من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان
معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع
بقيراطين كل قيراطٍ مثلُ جبل أُحُدٍ" فاتفقا
على صدر الحديث ثم انفرد كل واحد منهما بلفظ.
وهذا الحديث رواه اثنا عشر صحابياً.
وقوله: "إيماناً واحتساباً" قيد به لأنه لا بد
منه لأن ترتب الثواب على العمل يستدعي سبق
النية، فيخرج من فعل ذلك على سبيل المكافأة
المجردة أو على سبيل المحاباة. ذكره المصنف في
الفتح.
وقوله: "مثل أُحد" ووقع في رواية النسائي:
"فله قيراطان من الأجر كل واحد منهما أعظم من
أحد" وفي رواية لمسلم: "أصغرهما مثل أُحد".
وعند ابن عدي من رواية واثلة: "كتب له قيراطان
من الأجر أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل
من جبل أُحد" .
والشهود: الحضور وظاهره الحضور معها من ابتداء
الخروج بها. وقد ورد في لفظ مسلم: "من خرج مع
جنازة من بيتها ثم تبعها حتى تدفن كان له
قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أُحد، ومن صلى
عليها ثم رجع كان له قيراط" . والروايات إذا
رد بعضها إلى بعض تقضي بأنه لا يستحق الأجر
المذكور إلا من صلى عليها ثم تبعها.
قال المصنف رحمه الله: الذي يظهر لي أنه يحصل
الأجر لمن صلى وإن لم يتبع لأن ذلك وسيلة إلى
الصلاة لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط
من صلى وتبع. وأخرج سعيد بن منصور من حديث
عروة عن زيد بن ثابت: "إذا صليت على جنازة فقد
قضيت ما عليك" أخرجه ابن أبي شيبة بلفظ "إذا
صليتم" وزاد في آخره "فخلوا بينها وبين أهلها"
ومعناه قد قضيت حق الميت فإن أرودت الاتباع
فلك زيادة أجر. وعلق البخاري قول حميد بن
هلال: ما علمنا على الجنازة إذنا ولكن من صلى
ورجع فله قيراط.
وأما حديث أبي هريرة: أميران وليسا بأميرين:
الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن
يرجع حتى يستأذن وليها. أخرجه عبد الرزاق فإنه
حديث منقطع موقوف. وقد رويت في معناه أحاديث
مرفوعة كلها ضعيفة.
ولما كان وزن الأعمال في الآخرة ليس لنا طريق
إلى معرفة
(2/106)
حقيقته ولا
يعلمه إلا الله، ولم يكن تعريفنا لذلك إلا
بتشبيهه بما نعرفه من أحوال المقادير، شبه قدر
الأجر الحاصل من ذلك بالقيراط ليبرز لنا
المعقول في صورة المحسوس. ولما كان القيراط
حقير القدر بالنسبة إلى ما نعرفه في الدنيا
نبه على معرفة قدره: بأنه كأحد الجبل المعروف
بالمدينة.
وقوله: "حتى تدفن" ظاهر في وقوع مطلق الدفن
وإن لم يفرغ منه كله.
ولفظ "حتى توضع في اللحد" كذلك إلا إن في
الرواية الأخرى لمسلم "حتى يفرغ من دفنها"
ففيها بيان وتفسير لما في غيرها.
والحديث ترغيب في حضور الميت والصلاة عليه
ودفنه، وفيه دلالة على عظم فضل الله وتكريمه
للميت وإكرامه بجزيل الإثابة لمن أحسن إليه
بعد موته.
تنبيه في حمل الجنازة: أخرج البيهقي في السنن
الكبرى بسنده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال:
إذا تبع أحدكم الجنازة فليأخذ بجوانب السرير
الأربعة ثم ليتطوع بعد أو يذر فإنه من السنة.
وأخرج بسنده: أن عثمان ابن عفان حمل بين
العمودين سرير أمه فلم يفارقه حتى وضعه" وأخرج
أيضاً "أن أبا هريرة رضي الله عنه حمل بين
عمودي سرير سعد بن أبي وقاص. وأخرج: أن ابن
الزبير حمل بين عمودي سرير المسور بن مخرمة.
وأخرج من حديث يوسف بن ماهك قال: شهدت جنازة
رافع بن خديج وفيها ابن عمر وابن عباس فانطلق
ابن عمر حتى أخذ بمقدم السرير بين القائمين
فوضعه على كاهله ثم مشى بها. انتهى..
38- (وعن سالم رضي الله عنه) هو أبو عبد الله
أووأبو عمرو: سالم بن عبد الله بن عمر بن
الخطاب أحد فقهاء المدينة من سادات التابعين
وأعيان علمائهم روى عن أبيه وغيره مات سنة ست
ومائة (عن أبيه) هو عبد الله بن عمر ( أنه رأى
النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم
يمشون أمام الجنازة . رواه الخمسة وصححه ابن
حبان وأعله النسائي وطائفه بالإرسال) اختلف في
وصله وإرساله فقال أحمد: إنما هو عن الزهري
مرسل، وحديث سالم موقوف على ابن عمر من فعله.
قال الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الزهري عن سالم
بن عبد الله بن عمر كان يمشي بين يديها وأبو
بكر وعمر وعثمان. قال الزهري: وكذلك السنة.
وقد ذكر الدارقطني في العلل اختلافاً كثيراً
فيه عن الزهري قال: والصحيح قول من قال عن
الزهري عن سالم عن أبيه: أنه كان يمشي. قال:
وقد مشى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما بين
يديها. وهذا مرسل وقال البيهقي: إن الموصول
أرجح لأنه من رواية ابن عيينة وهو ثقة حافظ،
وعن علي بن المديني قال: قلت لابن عيينة: يا
أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث، فقال:
استيقن؛ الزهري حدثنيه مراراً لست أحصيه،
يعيده ويبديه، سمعته من فيه، عن سالم عن أبيه.
قال المصنف: وهذا لا ينفي عنه الوهم لأنه ضبط
أنه سمعه منه عن سالم عن أبيه والأمر كذلك إلا
أن فيه إدراجاً. وصححه الزهري وحدث به ابن
عيينة.
وللاختلاف في الحديث اختلف العلماء على خمسة
أقوال (الأوّل): أن المشي أمام الجنازة أفضل
لوروده من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
وفعل الخلفاء وذهب إليه الجمهور والشافعي.
(والثاني) للهادية والحنفية: أن المشي خلفها
أفضل لما رواه ابن طاوس عن أبيه "ما مشى رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حتى مات إلا
خلف
(2/107)
الجنازة" ولما
رواه سعيد بن منصور من حديث عليّ عليه السلام
قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل
صلاة الجماعة على صلاة الفذّ. إسناده حسن وهو
موقوف له حكم الرفع، وحكى الأثرم أن أحمد تكلم
في إسناده.
(الثالث): أنه يمشي بين يديها وخلفها وعن
يمينها وعن شمالها علقه البخاري عن أنس،
وأخرجه ابن أبي شيبة موصولاً وكذا عبد الرزاق،
وفيه التوسعة على المشيعين وهو يوافق سنة
الإسراع بالجنازة وأنهم لا يلزمون مكاناً
واحداً يمشون فيه لئلا يشق عليهم أو على
بعضهم.
(القول الرابع) للثوري: أن الماشي يمشي حيث
شاء والراكب خلفها لما أخرجه أصحاب السنن
وصححه ابن حبان والحاكم من حديث المغيرة
مرفوعاً "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء
منها".
(القول الخامس) للنخعي: إن كان مع الجنازة
نساء مشي أمامها وإلا فخلفها..
39- (وعن أم عطية قالت: "نهينا" مبني للمجهول
"عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا" متفق عليه)
جمهور أهل الأصول والمحدثين أن قول الصحابي
نهينا أو أمرنا بعدم ذكر الفاعل له حكم
المرفوع إذ الظاهر من ذلك أن الآمر والناهي هو
النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما هذا الحديث فقد ثبت رفعه وأنه أخرجه
البخاري في باب الحيض عن أم عطية بلفظ "نهانا
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث" إلا أنه
مرسل لأن أم عطية لم تسمعه منه لما أخرجه
الطبراني عنها قال: لما دخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة جمع النساء في بيت ثم
بعث إلينا عمر فقال: "إن رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم بعثني إليكن لأبايعكن على أن
لاتسرقن" الحديث. وفيه نهانا أن نخرج في
جنازة".
وقولها: "ولم يعزم علينا" ظاهر في أن النهي
للكراهة لا للتحريم كأنها فهمته من قرينة وإلا
فأصله التحريم، وإلى أنه لكراهة ذهب جمهور أهل
العلم ويدل له ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث
أبي هريرة "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها
فقال: دعها يا عمر" الحديث وأخرجه النسائي
وابن ماجه. ومن طريق أخرى ورجالها ثقات.
40- ( وعنْ أَبي سَعِيدٍ رضي اللَّهُ عنهُ
أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وآله
وَسَلّم قال: "إذا رأَيْتُمُ الجنازة فقُوموا،
فَمَنْ تبعها فلا يجْلسْ حتى تُوضع" مُتّفقٌ
عليه.
الأمر ظاهر في وجوب القيام للجنازة إذا مرت
بالمكلف وإن لم يقصد تشييعها وظاهره في عموم
كل جنازة من مؤمن وغيره ويؤيده أنه أخرج
البخاري قيامه صلى الله عليه وسلم لجنازة
يهودي مرت به. وعلل ذلك بأن الموت فزع وفي
رواية "أليست نفساً" وأخرج الحاكم " إنما قمنا
للملائكة" وأخرج أحمد والحاكم وابن حبان:
"إنما نقوم إعظاماً للذي يقبض النفوس". ولفظ
ابن حبان: "إعظاماً لله". ولا منافاة بين
التعليلين.
وقد عارض هذا الأمر حديث عليّ عليه السلام عند
مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قام للجنازة ثم
قعد. والقول بأنه يحتمل أن مراده قام ثم قعد
لما بعدت عنه، يدفعه أن علياً أشار إلى قوم
بأن يقعدوا ثم حدثهم الحديث. ولما تعارض
الحديثان اختلف العلماء في ذلك.
فذهب الشافعي إلى أن حديث عليّ عليه السلام
ناسخ للأمر بالقيام، وردّ أن حديث عليّ ليس
نصّاً لاحتمال أن قعوده صلى الله عليه
(2/108)
وسلم كان لبيان
الجواز، ولذا قال النووي: المختار أنه مستحب.
وأما حديث عبادة بن الصامت أنه كان صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يقوم للجنازة فمرّ به حبر من
اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال: "اجلسوا
وخالفوهم" . أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا
النسائي وأخرجه البزار والبيهقي، فإنه حديث
ضعيف فيه بشر بن رافع قال البزار: تفرّد به
بشر وهو لين الحديث.
وقوله: "ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع" أفاد
النهي لمن شيعها، عن الجلوس حتى توضع، ويحتمل
أن المراد حتى توضع في الأرض أو توضع في
اللحد، وقد روي الحديث بلفظين إلا أنه رجح
البخاري وغيره رواية "توضع في الأرض".
فذهب بعض السلف إلى وجوب القيام حتى توضع
الجنازة لما يفيده النهي هنا ولما عند النسائي
من حديث أبي هريرة وأبي سعيد: "ما رأينا رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شهد جنازة
قط فجلس حتى توضع".
وقال الجمهور: إنه مستحب. وقد روى البيهقي من
حديث أبي هريرة وغيره: إن القائم كالحامل في
الأجر.
41- (وعن أبي إسحاق) هو السبيعي بفتح السين
المهملة وكسر الباء الموحدة والعين المهملة
الهمداني الكوفي رأى علياً عليه السلام وغيره
من الصحابة وهو تابعي مشهور، كثير الرواية،
ولد لسنتين من خلافة عثمان، ومات سنة تسع
وعشرين ومائة (أن عبد الله بن يزيد) الخطمي
بالخاء المعجمة الأوسي كوفي شهد الحديبية وهو
ابن سبع عشرة سنة وكان أميراً على الكوفة وشهد
مع علي عليه السلام صفين والجمل ذكره ابن عبد
البر في الاستيعاب (أدخل الميت من قِبَل رجلي
القبر) أي من جهة المحل الذي يوضع فيه رجلاً
الميت فهو من إطلاق الحال على المحل (وقال:
هذا من السنة. أخرجه أبو داود) وروى عن علي
عليه السلام قال: صلى رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم على جنازة رجل من ولد عبد
المطلب فأمر بالسرير فوضع من قبل رجلي اللحد
ثم أمر به فسل سلا". ذكره الشارح ولم يخرجه.
وفي المسألة ثلاثة أقوال:
(الأول): ما ذكر وإليه ذهبت الهادوية والشافعي
وأحمد.
(والثاني): يسل من قبل رأسه لما روى الشافعي
عن الثقة مرفوعاً من حديث ابن عباس "أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم سل ميتاً من قبل رأسه"
وهذا أحد قولي الشافعي.
(والثالث) لأبي حنيفة: أنه يسل من قبل القبلة
معترضاً إذ هو أيسر (قلت): بل ورد به النص كما
يأتي في شرح حديث جابر في النهي عن الدفن ليلا
فإنه أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس ماهو نص
في إدخال الميت من قبل القبلة ويأتي أنه حديث
حسن فيستفاد من المجموع أنه فعلٌ مخير فيه.
(فائدة) اختلف في تجليل القبر بالثوب عند
مواراة الميت فقيل يجلل سواء كان المدفون
رجلاً أو امرأة لما أخرجه البيهقي لا أحفظه
إلا من حديث ابن عباس قال: " جلل رسولُ الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبر سعد بثوبه"
قال البيهقي: لا أحفظه إلا من حديث يحيي بن
عقبة بن أبي العيزار وهو ضعيف.
وقيل: يختص بالنساء لما أخرجه البيهقي أيضاً
من حديث أبي إسحاق "أنه حضر جنازة الحرث
الأعور فأبي عبد الله بن يزيد أن يبسطوا عليه
ثوباً وقال: إنه رجل" قال البيهقي: وهذا
إسناده صحيح وإن كان موقوفاً (قلت): يؤيده ما
أخرجه أيضاً البيهقي عن رجل من
(2/109)
أهل الكوفة "أن
علي بن أبي طالب أتاهم يدفنون ميتاً وقد بسط
الثوب على قبره فجذب الثوب من القبر، وقال:
"إنما يصنع هذا بالنساء".
42- ( وعن ابنِ عُمَرَ رضيَ الله عنهما عن
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا
وَضَعْتُم مَوْتاكُم في القُبُور فقولوا: بسم
اللَّهِ، وعلى مَلّهِ رسول الله" أَخْرجهُ
أَحْمدُ وأَبو داود والنسائي وصححه ابنُ
حبَّانَ وأعلّهُ الدارقطني بالوقفِ.
ورجح النسائي وقفه على ابن عمر أيضاً، إلا أنه
له شواهد مرفوعة ذكرها في الشرح، وأخرج الحاكم
والبيهقي بسند ضعيف أنها "لما وضعت أم كلثوم
بنت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في
القبر قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا
نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً
أُخْرَى} بسم الله وفي سبيل الله وعلى مِلَّة
رسول الله"، وللشافعي دعاء آخر استحسنه فدل
كلامه على أنه يختار الدافن من الدعاء للميت
ما يراه وأنه ليس فيه حد محدود.
43- (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "كسرُ عظْم
الميت ككسره حيّاً" رواه أبو داود بإسناد على
شرط مسلم: وزاد ابن ماجه، أي في الحديث هذا
وهو قوله: "من حديث أم سلمة: "في الإثم" بيان
للمثلية. فيه دلالة على وجوب احترام الميت كما
يحترم الحي، ولكن بزيادة "في الإثم" أنبأت أنه
يفارقه من حيث إنه لا يجب الضمان، وهو يحتمل
أن الميت يتألم كما يتألم الحي، وقد ورد به
حديث:
44 – (وعن سعد بن أَبي وقّاص قال: "الْحِدوا
لي لَحْداً وانْصِبُوا عليَّ اللّبِنَ نصْباً
كما صُنع برسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم" رواهُ مُسْلم)ٌ. هذا الكلام قاله سعد
لما قيل له ألا نتخذ شيئاً كأنه الصندوق من
الخشب؟ فقال: اصنعوا. فذكره. واللحد بفتح
اللام وضمها هو الحفر تحت الجانب القبلي من
القبر.، وفيه دلالة أنه لحد له صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم وقد أخرجه أحمد وابن ماجه
بإسناد حسن. أنه كان بالمدينة رجلان: رجل يلحد
ورجل يشق فبعث الصحابة في طلبهما فقالوا:
أيهما جاء عمل عمله لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم". ومثله عن ابن
عباس عند أحمد والترمذي. وأن الذي كان يلحد هو
أبو طلحة الأنصاري: وفي إسناده ضعف. وفيه
الدلالة على أن اللحد أفضل..
45- وللبيهقي) أي وروي البيهقي (عن جابر نحوه)
أي نحو حديث سعد (وزاد: ورفع قبره عن الأرض
قدر شبر وصححه ابن حبان)،هذا الحديث أخرجه
البيهقي وابن حبان من حديث جعفر بن محمد عن
أبيه عن جابر. وفي الباب من حديث القاسم بن
محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أماه اكشفي
لي عن قبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم وصاحبيه فكشفت له عن ثلاثة قبور لا
مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحة العرصة
الحمراء. أخرجه أبو داود والحاكم وزاد: ورأيت
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مقدماً
وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم وعمر رأسه عند رجلي رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو داود في
المراسيل عن صالح بن أبي صالح قال: رأيت قبر
رسول الله صلى
(2/110)
الله عليه وآله
وسلم شبراً أو نحو شبر. ويعارضه ما أخرجه
البخاري من حديث سفيان التمار: أنه رأى قبر
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسنماً. أي
مرتفعاً كهيئة السنام وجمع بينهما البيهقي
بأنه كان أولاً مسطحاً ثم لما سقط الجدار في
زمن الوليد بن عبد الملك أصلح فجعل مسنماً.
(فائدة) كانت وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يوم الاثنين عندما زاغت الشمس لاثنتي
عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ودفن يوم
الثلاثاء. كما في الموطأ. وقال جماعة يوم
الأربعاء. وتولى غسله ودفنه علي والعباس
وأسامة. أخرجه أبو داود من حديث الشعبي وزاد:
وحدثني مرحب، كذا في الشرح والذي في التلخيص:
مرحب وأبو مرحب بالشك أنهم أدخلوا معهم عبد
الرحمن بن عوف. وفي رواية البيهقي زيادة مع
علي والعباس "الفضل بن العباس" وصالح وهو
شقران "ولم يذكر ابن عوف. وفي رواية له ولابن
ماجه: على والفضل وقثم وشقران. وزاد. وسوّى
لحده رجل من الأنصار. وجمع بين الروايات بأن
من نقص فباعتبار ما رأى أول الأمر ومن زاد
أراد به آخر الأمر..
46- (ولمسلم عنه) أي عن جابر "نهى رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يجصص القبر
وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه" الحديث دليل على
تحريم الثلاثة المذكورة لأنه الأصل في النهي.
وذهب الجمهور إلى أن النهي في البناء والتجصيص
للتنزيه. والقعود للتحريم وهو جمع بين الحقيقة
والمجاز ولا يعرف ما الصارف عن حمل الجميع على
الحقيقة التي هي أصل النهي. وقد وردت الأحاديث
في النهي عن البناء على القبور والكتب عليها
والتسريج وأن يزاد فيها وأن توطأ. فأخرج أبو
داود والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود
مرفوعاً: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين
عليها المساجد والسرج". وفي لفظ للنسائي: "نهى
أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو
يكتب عليه" . وأخرج البخاري من حديث عائشة
قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله
اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
واتفقا على إخراج حديث أبي هريرة بلفظ "لعن
الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد" . وأخرج الترمذي "أن علياً عليه السلام
قال لأبي الهياج الأسدي: أبعثك على ما بعثني
عليه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سوّيتهُ ولا
تمثالاً إلا طمسته "قال الترمذي: حديث حسن،
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، فكرهوا أن
يرفع القبر فوق الأرض. قال الشارح رحمه الله:
وهذه الأخبار المعبر فيها باللعن والتشبيه
بقوله: "لا تجعلوا قبري وثناً يعبد من دون
الله" تفيد التحريم للعمارة والتزيين والتجصيص
ووضع الصندوق المزخرف ووضع الستائر على القبر
وعلى سمائه والتمسح بجدار القبر وأن ذلك قد
يفضي مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان عليه
الأمم السابقة من عبادة الأوثان، فكان في
المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة
المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكمة
المعتبرة في شرع الأحكام من جلب المصالح ودفع
المفاسد، سواء كانت بأنفسها أو باعتبار ما
تفضي إليه انتهى. وهذا كلام حسن وقد وفينا
المقام حقه ومسألة مستقلة.
47- (وعَنْ عامرِ بنِ ربيعةَ رضيَ اللَّهُ
عنْهُ "أنَّ النبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم صلّى على عثمانَ بنِ مَظْعُون
(2/111)
وأَتى
الْقَبْرَ فَحَثى عليه ثلاثَ حَثَيَات وهُوَ
قائمٌ" رواهُ الدارقطنيُّ. وأخرجه البزار وزاد
بعد قوله وهو قائم "عند رأسه" وزاد أيضاً
"فأمر فرشَّ عليه الماء" وروى أبو الشيخ في
مكارم الأخلاق عن أبي هريرة مرفوعاً "من حثا
على مسلم احتساباً كتب له بكل ثراة حسنة"
وإسناده ضعيف. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي
هريرة "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم حثى من قبل الرأس ثلاثاً" إلا أنه قال
أبو حاتم: حديث باطل وروى البيهقي من طريق
محمد بن زياد عن أبي أمامة قال: "توفي رجل فلم
تصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر
فغفرت له ذنوبه". ولكن هذه شهد بعضها لبعض.
وفيه دلالة على مشروعية الحثي على القبر
ثلاثاً، وهو يكون باليدين معاً لثبوته في حديث
عامر بن ربيعة ففيه حثا بيديه، واستحب أصحاب
الشافي أن يقول عند ذلك {مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} الآية.
48 - وعن عثْمانَ رضي الله عنه قال: كانَ
رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
إذا فرغ مِنْ دفن الميِّتِ وقَفَ عَلْيه وقال:
"استغْفِرُوا لأخيكُمْ واسْأَلُوا لَهُ
التّثْبيت فإنّهُ الآن يُسْأَل" رواهُ أبو
داود وصححه الْحاكِمُ. فيه دلالة على انتفاع
الميت باستغفار الحي له، وعليه ورد قوله
تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإِيمَانِ} وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ} ونحوهما. على أنه يسأل في
القبر، وقد وردت به الأحاديث الصحيحة، كما
أخرج ذلك الشيخان. فمنها من حديث أنس أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إن الميت
إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع
قرع نعالهم". زاد مسلم "وإذا انصرفوا أتاه
ملكان" زاد ابن حبان والترمذي من حديث أبي
هريرة: "أزرقان أسودان يقال لأحدهما المنكر
والآخر النكير" . زاد الطبراني في الأوسط
"أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي
البقر وأصواتهما البقر مثل الرعد" زاد عبد
الرزاق "ويحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما
ومعهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم
يقلوها" وزاد البخاري من حديث البراء: "فيعاد
روحه في جسده" . ويستفاد في مجموع الأحاديث
أنهما يسألانه فيقولان: "ما كنت تعبد؟ فإن كان
الله هداه فيقول: كنت أعبد الله، فيقولان: ما
كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه
عبد الله ورسوله". وفي رواية "أشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقال له:
صدقت" "فلا يسأل عن شيء غيرها" "ثم يقال له:
على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء
الله تعالى". وفي لفظ: "فينادي مناد من السماء
أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له
باباً إلى الجنة وألبسوه من الجنة قال: فيأتيه
من روحها وطيبها ويفسح له مد بصره، ويقال له
انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله مقعداً
من الجنة فيراهما جميعاً، فيقول: دعوني حتى
أذهب أبشر أهلي فيقال له: اسكت، ويفسح له في
قبره سبعون ذراعاً ويملأ خضراً إلى يوم
القيامة". وفي لفظ "ويقال له نم فينام نومة
العروس لا يوقظه إلا أحب أهله. وأما الكافر
والمنافق فيقول له الملكان: من ربك؟
(2/112)
فيقول: هاه
هاه، لا أدري ويقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه
هاه، لا أدري فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث
فيكم: فيقول: هاه هاه لا أدري فيقال: لا دريت
ولا تليت أي لا فهمت ولا تبعت من يفهم ويضرب
بمطارق من حديد ضربة لو ضرب بها جبل لصار
تراباً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير
الثقلين" .
واعلم أنه قد وردت أحاديث على اختصاص هذه
الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السالفة قال
العلماء: والسر فيه أن الأمم كانت تأتيهم
الرسل فإن أطاعوهم فالمراد، وإن عصوهم
اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب. فلما أرسل الله
محمداً صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رحمة
للعالمين أمسك عنهم العذاب وقبل الإسلام ممن
أظهره سواء أخلص أم لا، وقيض الله لهم من أن
يسألهم في القبور ليخرج الله سرهم بالسؤال
وليميز الله الخبيث من الطيب. وذهب ابن القيم
إلى عموم المسألة وبسط المسألة في كتاب الروح.
49- (وعن ضمرة) بفتح الضاد المعجمة وسكون
الميم (ابن حبيب) بالحاء المهملة مفتوحة
فموحدة فمثناة فموحدة (أحد التابعين) حمصي ثقة
روى عن شدّاد بن أوس وغيره (قال: كانوا) ظاهره
الصحابة الذين أدركهم (يستحبون إذا سوي) بضم
السين المهملة مغير الصفة من التسوية (على
الميت قبره وانصرف الناس عنه أن يقال عند
قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله ثلاث مرات،
يا فلان قل: ربي الله وديني الإسلام ونبيي
محمد. رواه سعيد بن منصور موقوفاً) على ضمرة
بن حبيب (وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة
مرفوعاً مطولاً) ولفظه عن أبي أمامة: إذا أنا
متُ فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "إذا
مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره
فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان
ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب ثم يقول: يا
فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله،
ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما كنت عليه في
الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربّاً
وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن
إماماً. فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد
منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا
عند من لقن حجته؟ فقال رجل: يا رسول الله فإنه
لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمّه حوّاء، يا
فلان ابن حواء" قال المصنف: إسناده صالح وقد
قوّاه أيضاَ في الأحكام له. قلت: قال الهيثمي
بعد سياقه ما لفظه: أخرجه الطبراني في الكبير،
وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وفي هامشه: فيه
عاصم بن عبد الله ضعيف: ثم قال: والراوي عن
أبي أمامة سعيد الأزدي بيض له أبو حاتم، وقال
الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: هذا الذي يصنعونه
إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول: يا فلان ابن
فلانة قال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام
حين مات أبو المغيرة. ويروى فيه عن أبي بكر بن
أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه.وقد
ذهب إليه الشافعية. وقال في المنار: إن حديث
التلقين هذا حديث لا يشك أهل المعرفة بالحديث
في وضعه. وأنه أخرجه سعيد بن منصور في سننه
(2/113)
عن حمز بن حبيب
عن أشياخ له من أهل حمص فالمسئلة حمصية. وأما
جعل "اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" :
شاهداً له، فلا شهادة فيه.وكذلك أمر عمرو بن
العاص بالوقوف عند قبره مقدار ما ينحر جزور
ليستأنس بهم عند مراجعة رسل ربه: لا شهادة فيه
على التلقين. وابن القيم جزم في الهدى بمثل
كلام المنار، وأما في كتاب الروح فإنه جعل
حديث التلقين من أدلة سماع الميت لكلام
الأحياء وجعل اتصال العمل بحديث التلقين من
غير نكير كافياً في العمل به، ولم يحكم له
بالصحة بل قال في كتاب الروح: إنه حديث ضعيف
ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف
والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله.
50 - وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبُور
فزوروها" رواه مسلم زاد الترمذي) أي من حديث
بريدة ("فإنها تذكِّرُ الآخرة".
51 - )زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود) وهو
الحديث الخمسون بلفظ "ما مضى" وزاد "وتُزَهّدُ
في الدنيا" وفي الباب أحاديث عن أبي هريرة عند
مسلم وعن ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وعن
أبي سعيد عند أحمد والحاكم وعن عليّ عليه
السلام عند أحمد وعن عائشة عند ابن ماجه.
والكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان
الحكمة فيها وأنها للاعتبار فإنه في لفظ حديث
ابن مسعود "فإنها عبرة وذكر للآخرة والتزهيد
في الدنيا" فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة
شرعاً. وحديث بريدة جمع فيه بين ذكر أنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان نهى أولاً عن
زيارتها ثم أذن فيها أخرى.وفي قوله: "فزوروها"
أمر الرجال بالزيارة وهو أمر ندب اتفاقاً،
ويتأكد في حق الوالدين لآثار في ذلك وأما ما
يقوله الزائر عند وصوله المقابر فهو: السلام
عليكم دار قوم مؤمنين ورحمة الله وبركاته،
ويدعو لهم بالمغفرة ونحوها. وسيأتي حديث مسلم
في ذلك قريباً وأما قراءة القرآن ونحوها عند
القبر فسيأتي الكلام فيها قريباً.
52 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرةَ رضي الله عنهُ
"أنَّ رسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم لَعَنَ زَائرَاتِ القُبُور" أَخْرجهُ
الترمذيُّ وصحّحهُ ابنُ حِبّان وقال الترمذي
بعد إخراجه: هذا حديث حسن. وفي الباب عن ابن
عباس وحسان.
وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا كان قبل أن
يرخص النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في
زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصته الرجال
والنساء.وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور
للنساء لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهن ثم ساق بسنده
أن عبد الرحمن بن أبي بكر توفي ودفن في مكة
وأتت عائشة قبره ثم قالت
وكنا كندماني جذيمة برهة ... من الدهر حتى قيل
لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا
رهط كسرى وتبعا
ولما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم
نبت ليلة معا
انتهى
ويدل ما قاله بعد أهل العلم ما أخرجه مسلم عن
عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت
القبور؟ فقال: قولي: "السلام على أهل الديار
من المسلمين والمؤمنين يرحم الله المتقدمين
منّا والمتأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"
. وما أخرج الحاكم من
(2/114)
حديث علي ابن
الحسين أن فاطمة عليها السلام كانت تزور قبر
عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده. قلت: وهو
حديث مرسل فإن علي بن الحسين لم يدرك فاطمة
بنت محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وعموم
ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً: من
زار قبر الوالدين أو أحدهما في كل جمعة غفر له
وكتب بارّاً.
53- وعَنْ أَبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ اللَّهُ
عنْهُ قالَ: "لَعَن رسولُ الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم النّائِحَةَ
والمُسْتَمِعَةَ" أَخْرَجَهُ أَبُو داود.
النوح هو رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومحاسن
أفعاله.والحديث دليل على تحريم ذلك وهو مجمع
عليه.
54- وعَنْ أُمِّ عطيّةَ قالت: "أَخذ عَلَيْنا
رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَنْ
لا نَنُوح" متفقٌ عليه. كان أخذه عليهنّ ذلك
وقت المبايعة على الإسلام. والحديثان دالان
على تحريم النياحة وتحريم استماعها إذ لا يكون
اللعن إلا على محرم. وفي الباب عن ابن مسعود
قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "ليس منّا من ضرب الخدود وشق الجيوب
ودعا بدعوى الجاهلية" . متفق عليه. وأخرجا من
حديث أبي موسى: أن رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أنا بريء ممن حلق وسلق
وخرق" . وفي الباب غير ذلك. ولا يعارض ذلك ما
أخرج أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن ابن عمر:
أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بنساء ابن
عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أُحد فقال: "لكن
حمزة لا بواكي" فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة
الحديث. فإنه منسوخ بما في آخره بلفظ "فلا
تبكين على هالك بعد اليوم" وهو يدل على أنه
عبر عن النياحة بالبكاء. فإن البكاء غير منهي
عنه كما يدل له ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة
قال: "مات ميت من آل رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم فاجتمع النساء يبكين عليه
فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال له صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: دعهن يا عمر فإن العين تدمع
والقلب مصاب والعهد قريب" والميت هي زينب بنته
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما صرح به في
حديث ابن عباس أخرجه أحمد وفيه أنه قال لهن:
"إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما كان من العين
ومن القلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من
اليد واللسان فمن الشيطان" فإنه يدل على جواز
البكاء، وإنه إنما نهي عن الصوت. ومنه قوله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "العين تدمع
ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب" قاله
في وفاة ولده إبراهيم، وأخرج البخاري من حديث
ابن عمر "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن
القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو
يرحم" وأما ما في حديث عائشة عند الشيخين في
قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمن أمره أن
ينهى النساء المجتمعات للبكاء على جعفر بن أبي
طالب "أحث في وجههن التراب" فيحمل على أنه كان
بكاء بتصويت النياحة فأمر بالنهي عنه ولو بحثو
التراب في أفواههنّ.
(2/115)
55- (وعن ابن
عمرعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميتُ
يعذب في قبره بما نيح عليه" متفق عليه. اولهما
أي الشيخين كما دل له متفق عليه فإنهما المراد
به (نحوه) أي نحو حديث ابن عمر وهو (عن
المغيرة بن شعبة( الأحاديث في الباب كثيرة.
وفيها دلالة على تعذيب الميت بسبب النياحة
عليه. وقد استشكل ذلك لأنه تعذيبه بفعل غيره.
واختلفت الجوابات. فأنكرت عائشة ذلك على عمر
وابنه عبد الله واحتجت بقوله تعالى: {وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وكذلك أنكره
أبو هريرة. واستبعد القرطبي إنكار عائشة وذكر
أنه رواه عدة من الصحابة فلا وجه لإنكارها مع
إمكان تأويله، ثم جمع القرطبي بين حديث
التعذيب والآية بأن قال: حال البرزخ يلحق
بأحوال الدنيا وقد جرى التعذيب فيها بسبب ذنب
الغير كما يشير إليه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْكُمْ خَاصَّةً} فلا يعارض حديث التعذيب،
آية {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
لأن المراد بها الإخبار من حال الآخرة
واستقواه الشارح. وذهب الأكثرون إلى تأويله
بوجوه. الأوّل: للبخاري أنه يعذب بذلك إذا كان
سنته وطريقته وقد أقرّ عليه أهله في حياته
فيعذب لذلك، وإن لم يكن طريقته فإنه لا يعذب.
فالمراد على هذا أنه يعذب ببعض بكاء أهله
وحاصله أنه قد يعذب العبد بفعل غيره إذا كان
له فيه سبب. الثاني: المراد أنه يعذب إذا أوصى
أن يبكي عليه وهو تأويل الجمهور قالوا: وقد
كان معروفاً عند القدماء كما قال طرفة بن
العبد:
إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... وشقي عليّ
الجيب يا معبد
ولا يلزم من وقوع النياحة من أهل الميت
امتثالاً له أن لا يعذب لو لم يمتثلوا بل يعذب
بمجرّد الإيصاء، فإن امتثلوه وناحوا عذب على
الأمرين: الإيصاء لأنه فعله، والنياحة لأنها
بسببه. الثالث: أنه خاص بالكافر وأن المؤمن لا
يعذب بذنب غيره أصلا وفيه بُعْد لا يخفى فإن
الكافر لا يحمل عليه ذنب غيره أيضاً لقوله
تعالى: -لا تزر وازرة وزر أخرى- الرابع: أن
معنى التعذيب توبيخ الملائكة للميت بما يندبه
به أهله كما روى أحمد من حديث أبي موسى
مرفوعاً: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت
النائحة: واعضداه واناصراه واكاسياه جلد الميت
وقال: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟"
وأخرج معناه ابن ماجه والترمذي. الخامس: أن
معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من
النياحة وغيرها فإنه يرق لهم، وإلى هذا
التأويل ذهب محمد بن جرير وغيره وقال، القاضي
عياض، هو أولى الأقوال واحتجوا بحديث فيه:
"أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم زجر امرأة
عن البكاء على ابنها وقال: إن أحدكم إذا بكى
استعبر له صويحبه، يا عباد الله لا تعذبوا
إخوانكم . واستدل له أيضاً أن أعمال العباد
تعرض على موتاهم وهو صحيح. وثمة تأويلات أخر
وما ذكرناه أشف ما في الباب.
56- وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنهُ قالَ:
"شهِدْتُ بِنْتاً لرسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وآله وَسَلّم (تدفن) ورسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جالسٌ على
الْقَبْر فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعانِ"
رَوَاهُ البخاريُّ. قد بين الواقدي وغيره في
روايته أن البنت أم كلثوم، وقد رد البخاري قول
من قال إنها رقية بأنها ماتت ورسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بدر فلم يشهد صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم دفنها.
(2/116)
والحديث دليل
على جواز البكاء على الميت بعد موته وتقدم ما
يدل له أيضاً إلا أنه عورض بحديث فإذا وجبت
فلا تبكين باكية. وجمع بينهما بأنه محمول على
رفع الصوت أو أنه مخصوص بالنساء لأنه قد يفضي
بكاؤهن إلى النياحة فيكون من باب سد الذريعة.
57- وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا تدفنوا موتاكم
بالليل إلا أن تضطروا" أخرجه ابن ماجه وأصله
في مسلم لكن قال: زَجَرَ بالزي والجيم والراء
عوض "نهى أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه"
. دل على النهي عن الدفن للميت ليلاً إلا
لضرورة، وقد ذهب إلى هذا الحسن وورد تعليل
النهي عن ذلك بأن ملائكة النهار أرأف من
ملائكة الليل في حديث قال الشارح: والله أعلم
بصحته. وقوله "وأصله في مسلم" لفظ الحديث الذي
فيه: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خطب
يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض وكفن في كفن
غير طائل وقبر ليلاً وزجر أن يقبر الرجل
بالليل حتى يصلي عليه إلا أن يضطر الإنسان إلى
ذلك". وهو ظاهر أن النهي إنما هو حيث كان مظنة
حصول التقصير في حق الميت بترك الصلاة أو عدم
إحسان الكفن إذا كان يحصل بتأخر الميت إلى
النهار كثرة المصلين أو حضور من يرجى دعاؤه،
حسن تأخره، وعلى هذا فيؤخر عن المسارعة فيه
لذلك ولو في النهار؛ ودل لذلك دفن علي عليه
السلام لفاطمة عليها السلام ليلاً ودفن
الصحابة لأبي بكر ليلاً، وأخرج الترمذي من
حديث ابن عباس: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم دخل قبراً ليلاً فأسرج له سراج فأخذ
من قبل القبلة فقال: رحمك الله إن كنت
لأوّاهاً تلاءً للقرآن" . الحديث، قال: هو
حديث حسن قال: وقد رخص أكثر أهل العلم في
الدفن ليلاً. وقال ابن حزم: لا يدفن ليلاً إلا
أن يضطر لذلك. قال: ومن دفن ليلاً من أصحابه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأزواجه فإنه
لضرورة أوجبت ذلك من خوف زحام أو خوف الحر على
من حضر أو خوف تغير أو غير ذلك مما يبيح الدفن
ليلاً. ولا يحل لأحد أن يظن بهم رضي الله عنهم
خلاف ذلك انتهى.
(تنبيه) تقدم في الأوقات حديث عقبة بن عامر:
"ثلاث ساعات كان رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم ينهانا أن نصلي فيهن وأن
نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى
ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس
وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب" انتهى. وكان
يحسن ذكر المصنف له هنا.
58- وَعَنْ عبد الله بن جَعْفَر رضي اللَّهُ
عَنْهُ قال: لمّا جاءَ نَعْيُ جَعْفَر حين
قُتِل قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَر طَعَاماً
فَقَدْ أَتَاهُمْ ما يُشْغِلُهُمْ" أخْرجهُ
الْخمسَةُ إلا النّسائيَّ. فيه دليل على شرعية
إيناس أهل الميت بصنع الطعام لهم لما هم فيه
من الشغل بالموت، ولكنه أخرج أحمد من حديث
جرير بن عبد الله البجلي: "كنا نعد الاجتماع
إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من
النياحة". فيحمل حديث جرير على أن المراد صنعة
أهل الميت الطعام لمن يدفن منهم ويحضر لديهم
كما هو عرف بعض أهل الجهات، وأما الإحسان
إليهم بحمل الطعام لهم فلا بأس به وهو الذي
أفاده حديث جعفر. ومما يحرم
(2/117)
بعد الموت
العقر عند القبر لورود النهي عنه، فإنه أخرج
أحمد وأبو داود من حديث أنس: أن النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا عقر في
الإسلام" . قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند
القبر بقرة أو شاة، قال الخطابي: كان أهل
الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد
يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في
حياته فيطعمها الأضياف ونحن نعقرها عند قبره
حتى تأكلها السباع والطير فيكون مطعماً بعد
وفاته كما كان يطعم في حياته. ومنهم من كان
يذهب إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في
القيامة راكباً ومن لم يعقر عنده حشر راجلاً
وكان هذا على مذهب من يقول منهم بالبعث فهذا
فعل جاهلي محرم.
59-) وعن سليمان بن بريدة) هو الأسلمي روى عن
أبيه وعمران بن حصين وجماعة مات سنة خمس عشرة
ومائة (عن أبيه) أي بريدة (قال: كان رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يعلمهم ) أي
الصحابة ( إذا خرجوا إلى المقابر ) أي أن
يقولوا: " السلام على أهل الديار من المؤمنين
والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل
الله لنا ولكم العافية" . رواه مسلم) وأخرجه
أيضاً من حديث عائشة وفيه زيادة "ويرحم الله
المتقدمين منا والمتأخرين". والحديث دليل على
شرعية زيارة القبور والسلام على من فيها من
الأموات وأنه بلفظ السلام على الأحياء. قال
الخطابي: فيه أن اسم الدار يقع على المقابر
وهو صحيح فإن الدار في اللغة تقع على الربع
المسكون وعلى الخراب غير المأهول. والتقييد
بالمشيئة للتبرك وامتثالاً لقوله تعالى: -ولا
تقولن لشيء إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء
الله- وقيل المشيئة عائدة إلى تلك التربة
بعينها. وسؤاله العافية دليل على أنها من أهم
ما يطلب وأشرف ما يسئل، والعافية للميت
بسلامته من العذاب ومناقشة الحساب. ومقصود
زيارة القبور: الدعاء لهم والإحسان إليهم
وتذكر الآخرة والزهد في الدنيا، وأما ما أحدثه
العامة من خلاف، كدعائهم الميت والاستصراخ به
والاستغاثة به وسؤال الله بحقه وطلب الحاجات
إليه تعالى به فهذا من البدع والجهالات وتقدم
شيء من هذا.
60- وعن ابن عَبّاسٍ رضي الله عَنْهُ قالَ:
مرَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
بقبُور المدينة فأَقْبلَ عليهمْ بوجْهِهِ
فقال: "السّلامُ عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ
الْقُبور، يَغْفِرُ اللَّهُ لنا ولكم، أَنْتُم
سَلَفُنا ونْحنُ بالأثَر" رواهُ التِّرمذيُّ
وقالَ حسنٌ.فيه أنه يسلم عليهم إذا مرّ
بالمقبرة وإن لم يقصد الزيارة لهم. وفيه أنهم
يعلمون بالمارّ بهم وسلامه عليهم وإلا كان
إضاعة. وظاهره في جمعة وغيرها وفي الحديثين
الأول وهذا دليل أن الإنسان إذا دعا لأحد أو
استغفر له يبدأ بالدعاء لنفسه والاستغفار لها،
وعليه وردت الأدعية القرآنية -ربنا اغفر لنا
ولإخواننا- -واستغفر لذنبك وللمؤمنين- وغير
ذلك. وفيه أن هذه الأدعية ونحوها نافعة للميت
بلا خلاف وأما غيرها من قراءة القرآن له
فالشافعي يقول: لا يصل ذلك إليه. وذهب أحمد
وجماعة من العلماء إلى وصول ذلك إليه. وذهب
جماعة من أهل السنة والحنفية الى أن للإنسان
أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان أو صوماً أو
حجاً أو صدقة أو قراءة قرآن
(2/118)
أو ذكرا أو أي
أنواع القرب، وهذا هو القول الأرجح دليلاً،
وقد أخرج الدارقطني: أن رجلاً سأل النبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه كيف يبر أبويه بعد
موتهما فأجابه: "بأنه يصلي لهما مع صلاته
ويصوم لهما مع صيامه". وأخرج أبو داود من حديث
معقل بن يسار عنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "اقرءُوا على موتاكم سورة يس" وهو
شامل للميت بل هو الحقيقة فيه، وأخرج الشيخان
"أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يضحي عن
نفسه بكبش وعن أمته بكبش" .وفيه إشارة إلى أن
الإنسان ينفعه عمل غيره وقد بسطنا الكلام في
حواشي ضوء النهار بما يتضح منه قوة هذا
المذهب.
61-) وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تسبوا الأموات
فإنهم قد أفضوا" أي وصلوا "إلى ما قدَّموا" من
الأعمال (رواه البخاري. الحديث دليل على تحريم
سب الأموات. وظاهره العموم للمسلم والكافر.
وفي الشرح: الظاهر أن مخصص بجواز سب الكافر
لما حكاه الله من ذم الكفار في كتابه العزيز
كعاد وثمود وأشباههم. قلت: لكن قوله "قد أفضوا
إلى ما قدَّموا" علة عامة للفريقين معناها أنه
لا فائدة تحت سبهم والتفكه بأعراضهم، وأما
ذكره تعالى للأمم الخالية بما كانوا فيه من
الضلال فليس المقصود ذمهم بل تحذيرا للأمة من
تلك الأفعال التي أفضت بفاعلها إلى الوبال
وبيان محرمات ارتكبوها. وذكر الفاجر بخصال
فجوره لغرض جائز، وليس من السب المنهي عنه فلا
تخصيص بالكفار، نعم الحديث مخصص ببعض المؤمنين
كما في الحديث: أنه مُرَّ عليه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم بجنازة فأثنوا عليها شرا
الحديث وأقرهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
على ذلك بل قال: "وجبت" أي النار ثم قال:
"أنتم شهداء الله". ولا يقال إن الذي أثنوا
عليه شراً ليس بمؤمن لأنه قد أخرج الحاكم في
ذمه: "بئس المرء لقد كان فظاً غليظاً".
والظاهر أنه مسلم إذ لو كان كافراً لما تعرضوا
لذمه بغير كفره. وقد أجاب القرطبي عن سبهم له
وإقراره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لهم بأنه
يحتمل أنه كان مستظهراً بالشر ليكون من باب لا
غيبة لفاسق، أو بأنه يحمل النهي عن سب الأموات
على ما بعد الدفن. قلت: وهو الذي يناسب
التعليل بإفضائهم إلى ما قدموا فإن الإفضاء
الحقيقي بعد الدفن.
62-) وروي الترمذي عن المغيرة نحوه) أي نحو
حديث عائشة في النهي عن سب الأموات (لكن قال)
عوض قوله "فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" (
فتؤذوا الأحياء ) قال ابن رشد: إن سب الكافر
يحرم إذا تأذى به الحي المسلم. ويحل إذا لم
يحصل به الأذية، وأما المسلم فيحرم إلا إذا
دعت إليه الضرورة كأن يكون فيه مصلحة للميت
إذا أريد
(2/119)
تخليصه من
مظلمة وقعت منه فإنه يحسن بل يجب إذا اقتضى
ذلك سبه وهو نظير ما استثني من جواز الغيبة
لجماعة من الأحياء لأمور.
(تنبيه) من الأذية للميت القعود على قبره لما
أخرجه أحمد قال الحافظ ابن حجر: بإسناد صحيح
من حديث عمرو بن حزم الأنصاري قال: رآني رسول
الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنا متكيء
على قبر فقال: "لا تؤذ صاحب القبر" وأخرج مسلم
من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لأن يجلس أحدكم
على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له
من الجلوس عليه" وأخرج مسلم عن أبي مرثد
مرفوعاً "لا تجلسوا على القبور ولا تُصلّوا
إليها". والنهي ظاهر في التحريم. وقال المصنف
في فتح الباري نقلاً عن النووي: إن الجمهور
يقولون بكراهة القعود عليه،وقال مالك: المراد
بالقعود الحدث وهو تأويل ضعيف أو باطل انتهى.
وبمثل قول مالك قال أبو حنيفة كما في الفتح.
قلت: والدليل يقتضي تحريم القعود عليه والمرور
فوقه، لأن قوله: "لا تؤذ صاحب القبر" نهى عن
أذية المقبور من المؤمنين، وأذية المؤمن محرمة
بنص القرآن {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً
وَإِثْماً مُبِيناً}
(2/120)
|