سبل السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي

كتاب الصيام
كتاب الصيام
...
كتاب الصيام
الصيام لغة: الإمساك وفي الشرع إمساك مخصوص وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع ويتبع ذاك الإمساك عن اللغو والرفث وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه لورود الأحاديث بالنهي عنها في الصوم زياده على غيره في وقت مخصوص بشروط مخصوصة تفصلها الأحاديث الآتية وكان مبدأ فرضه في السنة الثانية من الهجرة
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان" فيه دليل على إطلاق هذا اللفظ على شهر رمضان وحديث أبي هريرة ثم أحمد وغيره مرفوعا "لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا جاء شهر رمضان" حديث ضعيف لا يقاوم ما ثبت في الصحيح "بصوم يوم ولا يومين إلا رجل" كذا في نسخ بلوغ المرام ولفظه في البخاري "إلا أن يكون رجل" قال المصنف يكون تامة أي يوجد رجل ولفظ مسلم إلا رجلا قلت وهو قياس العربية لأنه استثناء متصل من مذكور "كان يصوم صوما فليصمه" متفق عليه الحديث دليل على تحريم صوم يوم أو يومين قبل رمضان قال الترمذي بعد رواية الحديث: والعمل على هذا ثم أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل الصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان انتهى وقوله لمعنى رمضان تقييد للنهي بأنه مشروط بكون الصوم احتياطا إلا لو كان الصوم صوما مطلقا كالنفل المطلق والنذر ونحوه قلت ولا يخفى أنه بعد هذا التقييد يلزم منه جواز تقدم رمضان بأي صوم كان وهو خلاف ظاهر النهي فإنه عام لم يستثن منه إلا صوم من اعتاد صوم أيام معلومة ووافق ذلك آخر يوم من شعبان ولو أراد صلى الله عليه وسلم الصوم المقيد بما ذكر لقال إلا متنفلا أو نحو هذا اللفظ وإنما نهى عن تقديم رمضان لأن الشارع قد علق الدخول في صوم رمضان برؤية هلاله فالمتقدم عليه مخالف للنص أمرا ونهيا وفيه إبطال لما يفعله الباطنية من تقدم الصوم بيوم أو يومين قبل رؤية هلال رمضان وزعمهم أن اللام في قوله "صوموا لرؤيته" في معنى مستقبلين لها وذلك لأن الحديث يفيد أن اللام لا يصح حملها على هذا المعنى وإن وردت له في موضع وذهب بعض العلماء إلى أن النهي عن الصوم من بعد النصف الأول من يوم سادس عشر من شعبان لحديث أبي هريرة مرفوعا إذا انتصف شعبان فلا تصوموا أخرجه أصحاب السنن وغيرهم وقيل إنه يكره بعد الانتصاف ويحرم قبل رمضان بيوم أو يومين وقال آخرون يجوز من بعد انتصافه ويحرم قبله بيوم أو يومين أما جواز الأول فلأنه الأصل وحديث أبي هريرة ضعيف قال أحمد وابن معين إنه منكروأما تحريم الثاني فلحديث الكتاب وهو قول حسن
2 - وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: "من صام اليوم الذي يشك" مغير الصيغة مسند إلى فيه "فقد عصى أبا القاسم" ذكره البخاري تعليقا ووصله إلى عمار وزاد المصنف

(2/150)


في الفتح الحاكم وأنهم وصلوه من طريق عمرو بن قيس عن أبي آسحاق ولفظه عندهم كنا ثم عمار بن ياسر فأتي بشاة مصلية فقال كلوا فتنحى بعض القوم فقال إني صائم فقال عمار من صام ألخ الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال وابن عبد البر هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك انتهى وهو موقوف لفظا تزوجها حكما ومعناه مستفاد من أحاديث النهي عن استقبال رمضان بصوم وأحاديث الأمر بالصوم لرؤيته.
واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان.والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه وإليه ذهب الشافعي واختلف الصحابة في ذلك منهم من قال يجواز صومه و منهم من منع منه وعده عصيانا لأبي القاسم والأدلة مع المحرمين وأما ما أخرجه الشافعي عن فاطمة بنت الحسين أن عليا عليه السلام قال لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان فهو أثر منقطع على أنه ليس في يوم شك مجرد بل بعد أن شهد عنده رجل على رؤية الهلال فصام وأمر الناس بالصيام وقال لأن أصوم إلخ ومما هو نص في الباب حديث ابن عباس "فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا" أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وأبو يعلى وأخرجه الطيالسي بلفظ "ولا تستقبلوا رمضان بيوم من شعبان" وأخرجه الدارقطني وصححه ابن خزيمة في صحيحه ولأبي داود من حديث عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره يصوم لرؤية الهلال" أي هلال رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام وأخرج أبو داود من حديث حذيفة مرفوعا "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" وفي الباب أحاديث واسعة دالة على تحريم صوم يوم الشك من ذلك قوله:
3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتموه" أي الهلال "فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم: بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي حال بينكم وبينه غيم: علكيم فاقدروا له" متفق عليه الحديث دليل على وجوب صوم رمضان لرؤية هلاله وإفطار أول يوم من شوال لرؤية الهلال وظاهره اشتراط رؤية الجميع له من المخاطبين لكن قام الإجماع على عدم وجوب ذلك بل المراد ما يثبت به الحكم الشرعي من إخبار الواحد العدل أو الاثنين على خلاف في ذلك فمعنى إذا رأيتموه أي إذا وجدت فيما بينكم الرؤية فيدل هذا على أن رؤية بلد رؤية لجميع أهل البلاد فيلزم الحكم وقيل لا يعتبر لأن قوله إذا رأيتموه خطاب لأناس مخصوصين به وفي المسألة أقوال ليس على أحدها دليل ناهض والأقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتهاوفي قوله لرؤيته دليل على أن الواحد إذا انفرد برؤية الهلال لزمه الصوم والإفطار وهو قول أئمة الآل وأئمة المذاهب الأربعة في الصوم واختلفوا في الإفطار فقال الشافعي يفطر ويخفيه وقال الأكثر يستمر صائما احتياطا كذا قاله في الشرح ولكنه تقدم له في أول باب صلاة العيدين أنه لم يقل

(2/151)


بأنه يترك يقين نفسه ويتابع حكم الناس إلا محمد بن الحسن الشيباني وأن الجمهور يقولون إنه يتعين عليه حكم نفسه فيما يتيقنه فناقض هنا ما سلف وسبب الخلاف قول ابن عباس لكريب إنه لا يعتد برؤية الهلال وهو بالشام بل يوافق أهل المدينة فيصوم الحادي والثلاثين باعتبار رؤية الشام لأنه يوم الثلاثين عند أهل المدينة وقال ابن عباس إن ذلك من السنة وتقدم الحديث وليس بنص فيما احتجوا به لاحتماله كما تقدم فالحق أنه يعمل بيقين نفسه صوما وإفطارا ويحسن التكتم بهما صونا للعباد عن إثمهم بإساءة الظن به ولمسلم أي عن ابن عمر "فإن أغمي عليك فاقدروا له ثلاثين" وللبخاري أي عن ابن عمر فأكملوا العدة ثلاثين قوله فاقدروا له هو أمر همزته همزة وصل وتكسر الدال وتضم وقيل الضم خطأ وفسر المراد به قوله "فاقدروا له ثلاثين وأكملوا العدة ثلاثين" والمعنى أفطروا يوم الثلاثين واحسبوا تمام الشهر وهذا أحسن تفاسيره وفيه تفاسير أخر نقلها الشارح خارجة عن ظاهر المراد من الحديث قال ابن بطال: في الحديث دفع لمراعاة المنجمين وإنما المعول عليه رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف وقد قال الباجي في الرد على من قال إنه يجوز للحاسب والمنجم وغيرهما الصوم والإفطار اعتمادا على النجوم إن إجماع السلف حجة عليهم وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل قد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع قال الشارح قلت والجواب الواضح عليهم ما أخرجه البخاري عن ابن عمر أنه صلى صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني تسعا وعشرين مرة وثلاثين مرة"
4 - وله أي البخاري في حديث أبو هريرة "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" وهو تصريح بمفاد الأمر بالصوم لرؤيته في رواية "فإن غم فأكملوا العدة" أي عدة شعبان وهذه الأحاديث نصوص في أنه لا صوم ولا إفطار إلا بالرؤية للهلال أو إكمال العدة
5 - وعن ابن عمررضي الله عنهما قال " تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود وصححه والحاكم ابن حبان الحديث دليل على العمل بخبر الواحد في الصوم دخولا فيه وهو مذهب طائفة من أئمة العلم ويشترط فيه العدالة وذهب آخرون إلى أنه لا بد من الاثنين لأنها شهادة واستدلوا بخبر رواه النسائي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه قال جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وحدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما إلا أن يشهد شاهدان" فدل بمفهومه أنه لا يكفي الواحد وأجيب عنه بأنه مفهوم والمنطوق الذي أفاده حديث ابن عمر وحديث الأعرابي الآتي أقوى منه ويدل على قبول خبر الواحد فيقبل بخبر المرأة والعبدوأما الخروج منه فالظاهر أن الصوم والإفطارمستويان في كفاية خبر الواحد وأما حديث ابن عباس وابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم أجاز خبر واحد على هلال رمضان وكان لا يجيزشهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين" فإنه ضعفه الدارقطني وقال تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو ضعيف ويدل لقبول خبر الواحد في الصوم دخولا أيضا قوله

(2/152)


6 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟" قال: نعم قال: "أتشهد أن محمدا رسول الله؟" قال: نعم قال: "فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا" رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي إرساله فيه دليل كالذي قبله على قبول خبر الواحد في الصوم ودلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة إذا لم يطلب صلى الله عليه وسلم من الإعرابي إلا الشهادةوفيه أن الأمر في الهلال جار مجرى الإخبار لا الشهادة وإنه يكفي في الإيمان الإقرار بالشهادتين ولا يلزم التبري من سائر الأديان
7 - وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه على حفصة وصححه مرفوعا ابن خزيمة وابن حبان وللدارقطني أي عن حفصة "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل" الحديث اختلف الأئمة في رفعه ووقفه وقال أبو محمد بن حزم الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة لأن من رواه مرفوعا قد رواه موقوفا وقد أخرجه الطبراني من طريق أخرى وقال رجالها ثقات وهو يدل على أنه لا يصح الصيام إلا بتبييت النية وهو أن ينوي الصيام في أي جزء من الليل وأول وقتها الغروب وذلك لأن الصوم عمل والأعمال بالنيات وأجزاء النهار غير منفصلة من الليل بفاصل يتحقق فلا يتحقق إلا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل وتشترط النية لكل يوم على انفراده وهذا مشهور من مذهب أحمد وله قول أنه إذا نوى من أول الشهر تجزئة وقوى هذا القول ابن عقيل بأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل امريء ما نوى" وهذا قد نوى جميع الشهر ولأن رمضان بمنزلة العبادة الواحدة لأن الفطر في لياليه عبادة أيضا يستعان بها على صوم نهاره وأطال في الاستدلال على هذا بما يدل على قوته والحديث عام للفرض والنفل والقضاء والنذر معينا مطلقا وفيه خلاف وتفاصيل واستدل من قال بعدم وجوب التبييت بحديث البخاري "أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء أن من أكل فليتم أو فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل" قالوا وقد كان واجبا ثم نسخ واجبا بصوم رمضان ونسخ وجوبه لا يرفع سائر الأحكام فقيس عليه رمضان وما في حكمه من النذر المعين والتطوع فخص عموم فلا صيام له بالقياس وبحديث عائشة الآتي فإنه دل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم تطوعا من غير تبييت النية وأجيب بأن صوم عاشوراء غير مساو لصوم رمضان حتى يقاس عليه فإنه صلى الله عليه وسلم ألزم الإمساك لمن أكل ولمن لم يأكل فعلم أنه أمر خاص ولأنه إنما أجزأ عاشوراء بغير تبييت لتعذره فيقاس عليه ما سواه كمن نام حتى أصبح على أنه لا يلزم من تمام الإمساك ووجوبه أنه صوم مجزيء وأما حديث عائشة وهو
8 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوم فقال: "هل عندكم شيء" قلنا: لا قال: "فإني إذا صائم" ثم أتانا يوما آخر

(2/153)


فقلت أهدي لنا حيس" بفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية فسين مهملة هو التمر مع السمن والأقط فقال: "أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل" رواه مسلم فالجواب عنه أنه أعم من أن يكون بيت الصوم أولا فيحمل على التبييت لأن المحتمل يرد إلى العام ونحوه على أن في بعض روايات حديثها إني أصبحت صائما والحاصل أن الأصل عموم حديث التبييت وعدم الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر ولم يقم ما يرفع هذين الأصلين فتعين البقاء عليهما
9 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه هو أن العباس سهل بن سعد بن مالك أنصاري خزرجي يقال كان اسمه حزنا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلا مات النبي صلى الله عليه وسلم وله خمس عشرة سنة ومات سهل بالمدينة سنة إحدى وتسعين وقيل ثمان وثمانين وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه زاد أحمد "وأخروا السحور" زاد أبو داود " لأن اليهود والنصارى يؤخرون الإفطار إلى اشتباك النجوم" قال في شرح المصابيح ثم صار في ملتنا شعارا لأهل البدعة وسمة لهم والحديث دليل على استحباب تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بأخبار من يجوز العمل بقوله وقد ذكر العلة وهي مخالفة اليهود والنصارى قال المهلب والحكمة في ذلك أنه لا يزاد في النهار من الليل ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة قال الشافعي تعجيل الإفطار مستحب ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمده ورأى الفضل فيه قلت في إباحته صلى الله عليه وسلم المواصلة إلى السحر كما في حديث أبي سعيد ما يدل على أنه لا كراهة إذا كان ذلك سياسة للنفس ودفعا لشهوتها إلا أن قوله
10 - وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا" دال على أن تعجيل الإفطار أحب إلى الله تعالى من تأخيره وأن إباحة المواصلة إلى السحر لا تكون أفضل من تعجيل الإفطار أو يراد بعبادي الذي يفطرون ولا يواصلون إلى السحر وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه خارج عن عموم الحديث لتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه ليس مثلهم كما يأتي فهو أحب الصائمين إلى الله تعالى وإن لم يكن أعجلهم فطرا لأنه قد أذن له في الوصال ولو أياما متصلة كما يأتي
11 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور" بفتح المهملة اسم لما يتسحر به وروي بالضم على أنه مصدر "بركة" متفق عليه زاد أحمد من حديث أبي سعيد "فلا تدعوه ولو أن يتجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" وظاهر الأمر وجوب التسحر ولكنه صرفه عنه إلى الندب ما ثبت من مواصلته صلى الله عليه وسلم ومواصلة أصحابه ويأتي الكلام في حكم

(2/154)


الوصال ونقل ابن المنذر الإجماع على أن التسحر مندوب والبركة المشار إليها فيه اتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب لحديث مسلم مرفوعا "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" والتقوي به على العبادة وزيادة النشاط والتسبب للصدقة على من سأل وقت السحر
12 - وعن سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال ابن عبد البر في الاستيعاب إنه ليس من الصحابة ضبي غير سليمان بن عامر المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور" رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والحديث قد روي من حديث عمران بن حصين وفيه ضعف ومن حديث أنس رواه الترمذي والحاكم وصححه ورواه أيضا الترمذي والنسائي وغيرهم من حديث أنس من فعله صلى الله عليه وسلم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن حسا حسوات من الماء" وورد في عدد التمر أنها ثلاث وفي الباب روايات في معنى ما ذكرناه ودل على أن الإفطار بما ذكر هو السنة قال ابن القيم وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحهم فإن إعطاء الطبيعة الشي الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به لا سيما القوة الباصرة فإنها تقوى به وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس فإن رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب
13 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال" هو ترك الفطر بالنهار وفي ليالي رمضان بالقصد فقال رجل من المسلمين قال المصنف لم أقف على اسمه فإنك تواصل يا رسول الله فقال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا" متفق عليه الحديث عند الشيخين من حديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة وأنس وتفرد مسلم بإخراجه عن أبي سعيد وهو دليل على تحريم الوصال لأنه الأصل في النهي وقد أبيح الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر وفي حديث أبي سعيد هذا دليل على أن إمساك بعض الليل مواصلة وهو يرد على من قال إن الليل ليس محلا للصوم فلا ينعقد بنيته وفي الحديث دلالة على أن الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد اختلف في حق غيره فقيل التحريم مطلقا وقيل محرم في حق من يشق عليه ويباح لمن لا يشق عليه الأول رأى الأكثر للنهي وأصله التحريم واستدل من قال إنه لا يحرم بأنه صلى الله عليه وسلم واصل بهم ولو كان النهي للتحريم لما أقرهم عليه فهو قرينة أنه للكراهة رحمة لهم وتخفيفا عنهم ولأنه أخرج أبو داود عن رجل من الصحابة نهى

(2/155)


رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح وإبقاء متعلق بقوله نهى وروى البزار والطبراني في الأوسط من حديث سمرة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال وليس بالعزيمة ويدل له أيضا مواصلة الصحابة فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن الزبير كان يواصل خمسة عشر يوما وذكر ذلك عن جماعة غيره فلو فهموا التحريم لما فعلوه ويدل للجواز أيضا ما أخرجه ابن السكن مرفوعا "ان الله لم يكتب الصيام بالليل فمن شاء فليتبعني ولا أجر له" قالوا والتعليل بأنه من فعل النصارى لا يقتضي التحريم واعتذر الجمهور عن مواصلته صلى الله عليه وسلم بالصحابة بأن ذلك كان تقريعا لهم وتنكيلا بهم واحتمل جواز ذلك لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي وكان ذلك أدعى إلى قبوله لما يترتب عليه من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف العبادات والأقرب من الأقوال هو التفصيل وقوله صلى الله عليه وسلم "وأيكم مثلي" استفهام إنكار وتوبيخ أي أيكم على صفتي ومنزلتي من ربي واختلف في قوله يطعمني ويسقيني فقيل هو على حقيقته كان يطعم ويسقى من عند الله وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا وأجيب عنه بأنه ما كان من طعام الجنة على جهة التكريم فإنه لا ينافي التكليف ولا يكون له حكم طعام الدنيا وقال ابن القيم: المراد ما يغذيه الله من معارفه وما يفيضه على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب وتنعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس وللقلب والروح بها أعظم غذاء وأجوده وأنفعه وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام برهة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حادي
ومن له أدنى معرفة أو تشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه وساق هذا المعنى واختار هذا الوجه في الإطعام والإسقاء وأما الوصال إلى السحر فقد أذن صلى الله عليه وسلم فيه كما في حديث البخاري عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" وأما حديث عمر في الصحيحين مرفوعا "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" فإنه لا ينافي الوصال لأن المراد بأفطر دخل في وقت الإفطار لا أنه صار مفطرا حقيقة كما قيل لأنه لو صار مفطرا حقيقة لما ورد الحث على تعجيل الإفطار ولا النهي عن الوصال ولا استقام الإذن بالوصال إلى السحر
14 - وعنه أي أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور" أي الكذب "والعمل به والجهل" أي السفه "فليس لله حاجة" أي إرادة "في أن يدع طعامه و شرابه" رواه البخاري وأبو داود واللفظ له

(2/156)


الحديث دليل على تحريم الكذب والعمل به وتحريم السفه على الصائم وهما محرمان على غير الصائم أيضا إلا أن التحريم في حقه آكد كتأكد تحريم الزنا من الشيخ والخيلاء من الفقير والمراد من قوله "فليس لله حاجة" أي إرادة بيان عظم ارتكاب ما ذكر وأن صيامه كلا صيام ولا معنى لاعتبار المفهوم هنا فإن الله لا يحتاج إلى أحد وهو الغني سبحانه ذكره ابن بطال وقيل هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن رد شيئا عليه لا حاجة لي في كذا وقيل إن معناه أن ثواب الصيام لا يقاوم في حكم الموازنة ما يستحق من العقاب لما ذكر هذا وقد ورد في الحديث الآخر "فإن شاتمه أحد أو سابه فليقل إني صائم" فلا تشتم مبتدئا ولا مجاوبا
15 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر" المباشرة الملامسة وقد ترد بمعنى الوطء في الفرج وليس بمراد هنا "وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه" بكسر الهمزة وسكون الراء فموحدة وهو حاجة النفس ووطرها وقال المصنف في التلخيص معناه لعضوه متفق عليه واللفظ لمسلم وزاد أي مسلم في رواية في رمضان قال العلماء: معنى الحديث أنه ينبغي لكم الاحتراز من القبلة ولا تتوهموا أنكم مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في استباحتها لأنه يملك نفسه ويأمن من وقوع القبلة أن يتولد عنها إنزال أو شهوة أو هيجان نفس أو نحو ذلك وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقكم كف النفس على ذلك وأخرج النسائي من طريق الأسود" قلت لعائشة أيباشر الصائم قالت: لا قلت: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم قالت: إنه كان أملككم لإربه" وظاهر هذا أنها اعتقدت أن ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم قال القرطبي: وهو اجتهاد منها وقيل: الظاهر أنها ترى كراهة القبلة لغيره صلى الله عليه وسلم كراهة تنزيه لا تحريم كما يدل له قولها أملككم لإربه وفي كتاب الصيام لأبي يوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة سئلت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها وظاهر حديث الباب جواز القبلة والمباشرة للصائم لدليل التأسي به صلى الله عليه وسلم ولأنها ذكرت عائشة الحديث جوابا عمن سأل عن القبلة وهو صائم وجوابها قاض بالإباحة مستدلة بما كان يفعله صلى الله عليه وسلم وفي المسألة أقوال الأول: للمالكية أنه مكروه مطلقا الثاني: أنه محرم مستدلين بقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فإنه منع المباشرة في النهار وأجيب بأن المراد بها في الآية الجماع وقد بين ذلك فعله صلى الله عليه وسلم كما أفاده حديث الباب وقال قوم: إنها تحرم القبلة وقالوا إن من قبل بطل صومه الثالث: أنه مباح وبالغ بعض الظاهرية فقال إنه مستحب الرابع: التفصيل فقالوا: يكره للشاب ويباح للشيخ ويروى عن ابن عباس ودليله ما أخرجه أبو داود أنه أتاه صلى الله عليه وسلم رجل فسأله عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب الخامس: إن مالك نفسه جاز له وإلا فلا وهو مروي عن الشافعي واستدل له بحديث عمر بن أبي سلمة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أمه أم سلمة "أنه صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك فقال يا رسول الله: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر

(2/157)


فقال: "إني أخشاكم لله" فدل على أنه لا فرق بين الشاب والشيخ وإلا لبينه صلى الله عليه وسلم لعمر لا سيما وعمر كان في ابتداء تكليفه وقد ظهر مما عرفت أن الإباحة أقوى الأقوال ويدل لذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمر بن الخطاب قال: "هششت يوما فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم" قلت لا بأس بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففيم" انتهى قوله: "هششت" بفتح الهاء وكسر الشين المعجمة بعدها شين معجمة ساكنة معناه ارتحت وخففت واختلفوا أيضا فيما إذا قبل أو نظر أو باشر فأنزل أو أمذى فعن الشافعي وغيره أنه يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء وقال مالك يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في الإمذاء فيقضي فقط وثمة خلافات أخر الأظهر أنه لا قضاء ولا كفارة إلا على من جامع وإلحاق غير الجامع به بعيد
(تنبيه) قولها: (وهو صائم) لا يدل أنه قبلها وهي صائمة وقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة كان يقبل بعض نسائه في الفريضة والتطوع ثم ساق بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمس وجهها وهي صائمة وقال ليس بين الخبرين تضاد لأنه كان يملك إربه ونبه بفعله ذلك على جواز هذا الفعل لمن هو بمثل حاله وترك استعماله إذا كانت المرأة صائمة علما منه بما ركب في النساء من الضعف عند الأشياء التي ترد عليهن انتهى
16 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم" رواه البخاري قيل: ظاهره أنه وقع منه الأمران المذكوران مفترقين وأنه احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم ولكنه لم يقع ذلك في وقت واحد لأنه لم يكن صائما في إحرامه إذا أريد إحرامه وهو في حجة الوداع إذ ليس في رمضان ولا كان محرما في سفره في رمضان عام الفتح ولا في شيء من عمره التي اعتمرها وإن احتمل أنه صام نفلا إلا أنه لم يعرف ذلك وفي الحديث روايات وقال أحمد: إن أصحاب ابن عباس لا يذكرون صياما وقال أبو حاتم: أخطأ فيه شريك إنما هو احتجم وأعطى الحجام أجرته وشريك حدث به من حفظه وقد ساء حفظه فعلى هذا الثابت إنما هو الحجامة والحديث يحتمل أنه إخبار عن كل جملة على حدة وأن المراد احتجم وهو محرم في وقت واحتجم وهو صائم في وقت آخر والقرينة على هذا معرفة أنه لم يتفق له اجتماع الإحرام والصيام وأما تغليط شريك وانتقاده على ذلك اللفظ فأمر بعيد والحمل على صحة لفظ روايته مع تأويلها أولى وقد اختلف فيمن احتجم وهو صائم فذهب إلى أنها لا تفطر الصائم الأكثر من الأئمة وقالوا إن هذا ناسخ لحديث شداد بن أوس وهو
17 - وعن شداد بن أوس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه الخمسة إلا الترمذي وصححة أحمد وابن خزيمة وابن حبان الحديث قد صححه البخاري وغيره وأخرجه الأئمة عن ستة عشر من

(2/158)


الصحابة وقال السيوطي في الجامع الصغير: إنه متواتر وهو دليل على أن الحجامة تفطر الصائم من حاجم ومحجوم له وقد ذهبت طائفة قليلة إلى ذلك منهم أحمد بن حنبل وأتباعه لحديث شداد وذهب آخرون إلى أنه يفطر المحجوم له وأما الحاجم فإنه لا يفطر عملا بالحديث هذا في الطرف الأول فلا أدري ما الذي أوجب العمل ببعضه دون بعض وأما الجمهور القائلون أنه لا يفطر حاجم ولا محجوم له فأجابوا عن حديث شداد هذا بأنه منسوخ لأن حديث ابن عباس متأخر لأنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم عام حجه وهو سنة عشر وشداد صحبه عام الفتح كذا حكي عن الشافعي قال: وتوقي الحجامة احتياطا أحب إلي ويؤيد النسخ ما في حديث أنس في قصة جعفر بن أبي طالب وقد أخرج الحازمي من حديث أبي سعيد مثله قال أبو محمد بن حزم: إن حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" ثابت بلا ريب لكن وجدنا في حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح وقد أخرج ابن أبي شيبة ما يؤيد حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على النسخ سواء كان حاجما أو محجوما وقيل إنه يدل على الكراهة ويدل لها حديث أنس الآتي وقيل إنما قاله صلى الله عليه وسلم في خاص وهو أنه مر بهما وهما يغتابان الناس رواه الوحاظي عن يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث الصنعاني أنه قال إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" له لأنهما كانا يغتابان الناس وقال ابن خزيمة في هذا التأويل: إنه أعجوبة لأن القائل به لا يقول إن الغيبة تفطر الصائم وقال أحمد: ومن سلم من الغيبة لوكانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم وقد وجه الشافعي هذا القول وحمل الشافعي الإفطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم ومثله قوله صلى الله عليه وسلم للمتكلم والخطيب يخطب: "لا جمعة له" ولم يأمره بالإعادة فدل على أنه أراد سقوط الأجر وحينئذ فلا وجه لجعله أعجوبة كما قال ابن خزيمة وقال البغوي: المراد بإفطارهما تعرضهما للإفطار أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم فيؤول إلى الإفطار قال ابن تيمية في رد هذا التأويل: إن قوله صلى الله عليه وسلم "أفطر الحاجم والمحجوم" له نص في حصول الفطر لهما فلا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما والنبي صلى الله عليه وسلم مخبر عنهما بالفطر لا سيما وقد أطلق هذا القول إطلاقا من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره غير مراد فلو جاز أن يريد مقاربة الفطر دون حقيقته لكان ذلك تلبيسا لا تبيينا للحكم انتهى قلت ولا ريب في أن هذا هو الذي دل عليه قوله
18 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان" ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم"

(2/159)


رواه الدارقطني وقواه قال إن رجاله ثقات ولا تعلم له علة وتقدم أنه من أدلة النسخ لحديث شداد
19 - وعن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم" رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف وقال الترمذي لا يصح في هذا الباب شيء ثم قال واختلف أهل العلم في الكحل للصائم فكرهه بعضهم وهو قول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق ورخص بعض أهل العلم في الكحل للصائم وهو قول الشافعي انتهى وخالف ابن شبرمة وابن أبي ليلى فقالا إنه يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم الفطر مما دخل وليس مما خرج وإذا وجد طعمه فقد دخل وأجيب عنه بأنا لا نسلم كونه داخلا لأن العين ليست بمنفذ وإنما يصل من المسام فإن الإنسان قد يدلك قدميه بالحنظل فيجد طعمه في فيه ولا يفطر وحديث الفطر مما دخل علقه البخاري عن ابن عباس ووصله عنه ابن أبي شيبة وأما ما أخرجه أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم قال في الإثمد: "ليتقه الصائم" فقال أبو داود قال لي يحيى بن معين هو منكر
20 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" وفي رواية الترمذي "فإنما هو رزق ساقه الله إليه" متفق عليه وللحاكم أي من حديث أبي هريرة من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" وهو صحيح وورد في لفظ "من أفطر" يعم الجماع وإنما خص الأكل والشرب لكونهما الغالب في النسيان كما قاله ابن دقيق العيد والحديث دليل على أن من أكل أو شرب أو جامع ناسيا لصومه فإنه لا يفطره ذلك لدلالة قوله فليتم صومه على أنه صائم حقيقة وهذا قول الجمهور وزيد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى والإمام يحيى والفريقين وذهب غيرهم إلى أنه يفطر قالوا لأن الإمساك عن المفطرات ركن الصوم فحكمه حكم من نسي ركنا من الصلاة فإنه تجب عليه الإعادة وإن كان ناسيا وتأولوا قوله فليتم صومه بأن المراد فليتم إمساكه عن المفطرات وأجيب بأن قوله فلا قضاء عليه ولا كفارة صريح في صحة صومه وعدم قضائه له وقد أخرج الدارقطني إسقاط القضاء في رواية أبي رافع وسعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار كلهم عن أبي هريرة وأفتى به جماعة من الصحابة منهم علي عليه السلام وزيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر كما قاله ابن المنذر وابن حزم وفي سقوط القضاء أحاديث يشد بعضها بعضا ويتم الاحتجاج بها وأما القياس على الصلاة فهو قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص على أنه منازع في الأصل وقد أخرج أحمد عن مولاة لبعض الصحابية"أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت منها ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين الآن بعد ما شبعت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك" وروى عبد الرزاق أن إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال له أصبحت

(2/160)


صائما وطعمت فقال لا بأس قال ثم دخلت على إنسان فنسيت فطعمت قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام
21 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء" بالذال المعجمة والراء فتكون المهملتين أي سبقه وغلبه في الخروج "فلا قضاء عليه ومن استقاء" أي طلب القيء باختياره "فعليه القضاء" رواه الخمسة وأعله أحمد بأنه غلط وقواه الدارقطني وقال البخاري لا آراه محفوظا وقد روي من غير وجه ولا يصح إسناده وأنكره أحمد وقال: ليس من ذا بشيء قال الخطابي: يريد أنه غير محفوظ قد يقال صحيح على شرطهما والحديث دليل على أنه لا يفطر بالقيء الغالب لقوله فلا قضاء عليه إذ عدم القضاء فرع الصحة وعلى أنه يفطر من طلب القيء واستجلبه وظاهره وإن لم يخرج له قيء لأمره بالقضاء ونقل ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفطر قلت ولكنه روي عن ابن عباس ومالك وربيعة والهادي أن القيء لا يفطر مطلقا إلا إذا رجع منه شيء فإنه يفطر وحجتهم ما أخرجه الترمذي والبيهقي بإسناد ضعيف ثلاث لا يفطرن القيء والحجامة والاحتلام ويجاب عنه بحمله على من ذرعه القيء جمعا بين الأدلة وحملا للعام علي الخاص على أن العام غير صحيح والخاص أرجح منه سندا فالعمل به أولى وإن عارضته البراءة الأصلية
22 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان" سنة ثمان من الهجرة قال ابن إسحاق وغيره: إنه خرج يوم العاشر منه " فصام حتى بلغ كراع الغميم" بضم الكاف فراء آخره مهملة والغميم بمعجمة مفتوحة وهو واد أمام عسفان "فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب ليعلم الناس بإفطاره ثم قيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة" وفي لفظ فقيل: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينتظرون فيما فعلت بقدح من ماء بعد العصر فشرب" رواه مسلم الحديث دليل على أن المسافر له أن يصوم وله أن يفطر وأن له الإفطار وإن صام أكثر النهار وخالف في الطرف الأول داود والإمامية فقالوا لا يجزيء الصوم لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وبقوله: "أولئك العصاة" قوله: "ليس من البر الصيام في السفر" وخالفهم الجماهير فقالوا يجزئه صومه لفعله صلى الله عليه وسلم والآية لا دليل فيها على عدم الإجزاء وقوله: "أولئك العصاة" إنما هو لمخالفتهم لأمره بالإفطار وقد تعين عليهم وفيه أنه ليس في الحديث أنه أمرهم وإنما يتم على أن فعله يقتضي الوجوب وأما الحديث "ليس من البر" فإنما قاله صلى الله عليه وآله وسلم فيمن شق عليه الصيام نعم يتم الاستدلال بتحريم الصوم في السفر على من شق عليه فإنه إنما أفطر صلى الله عليه وآله وسلم لقولهم إنهم قد شق عليهم الصيام والذين صاموا بعد ذلك وصفهم بأنهم عصاة وأما جواز الإفطار إن صام أكثر النهار فذهب أيضا إلى

(2/161)


جوازه الجماهير وعلق الشافعي القول به على صحة الحديث وهذا إذا نوى الصيام في السفر فأما إذا دخل فيه وهو مقيم ثم سافر في أثناء يومه فذهب الجمهور إلى أنه ليس له الإفطار وأجازه أحمد وإسحاق وغيرهم والظاهر معهم لأنه مسافروأما الأفضل فذهبت الهادوية وأبو حنفية والشافعي إلى أن الصوم أفضل للمسافر حيث لا مشقة عليه ولا ضرر فإن تضرر فالفطر أفضل وقال أحمد وإسحاق وآخرون الفطر أفضل مطلقا بالأحاديث التي احتج بها من قال لا يجزىء الصوم قالوا وتلك الأحاديث وإن دلت على المنع لكن حديث حمزة بن عمرو الآتي وقوله ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وأفاد بنفيه الجناح أنه لا بأس به لا أنه محرم ولا أفضل واحتج من قال بأن الصوم الأفضل أنه كان غالب فعله صلى الله عليه وسلم في أسفاره ولا يخفى أنه لا بد من الدليل على الأكثرية وتأولوا أحاديث المنع بأنه لمن شق عليه الصوم وقال آخرون الصوم والإفطار سواء لتعادل الأحاديث في ذلك وهو ظاهر حديث أنس سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم وظاهره التسوية
23 - وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه هو أبو صالح أو محمد حمزة بالحاء المهملة وزاي يعد في أهل الحجاز روى عنه ابنه محمد وعائشة مات سنة إحدى وستين وله ثمانون سنة أنه قال يا رسول الله أجد فيّ قوة على الصيام في السفر فهل علىّ جناح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" رواه مسلم وأصله في المتفق عليه من حديث عائشة أن حمزة بن عمرو سأل وفي لفظ مسلم إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر قال صم إن شئت وأفطر إن شئت ففي هذا اللفظ دلالة على أنهما سواء وتقدم الكلام في ذلك وقد استدل بالحديث من يرى أنه لا يكره صوم الدهر وذلك أنه أخبر أنه يسرد الصوم فأقره ولم ينكر عليه وهو في السفر ففي الحضر بالأولى وذلك إذا كان لا يضعف به عن واجب ولا يفوت بسبه عليه حق وبشرط فطره العيدين والتشريق وأما إنكاره صلى الله عليه وسلم على ابن عمرو صوم الدهر فلا يعارض هذا إلا أنه علم صلى الله عليه وسلم أنه سيضعف عنه وهكذا كان فإنه ضعف آخر عمره وكان يقول يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يحب العمل الدائم وإن قل ويحثهم عليه
24 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه رواه الدراقطني والحاكم وصححاه اعلم أنه اختلف الناس في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} والمشهور أنها منسوخة وأنه كان أول فرض الصيام أن من شاء أطعم مسكينا وأفطر ومن شاء صام ثم نسخت بقوله تعالى - وأن تصوموا خير لكم – وقيل بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال قوم هي غير منسوخة منهم ابن عباس كما هنا وروي عنه أنه كان يقرؤها {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِوِقُونَهُ} أي يكلفونه ويقول ليست بمنسوخة هي الشيخ الكبير والمرأة الهرمة وهذا هو الذي أخرجه

(2/162)


عنه من ذكره المصنف وفي سنن الدارقطني عن ابن عباس {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} واحد {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} قال زاد مسكينا آخر {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} قال وليست منسوخة إلا أنه رخص للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام إسناده صحيح ثابت وفيه أيضا لا يرخص في هذا إلا للكبير الذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يشفى قال وهذا صحيح وعين في رواية قدر الإطعام وإنه نصف صاع من حنطة وأخرج أيضا عن ابن عباس وابن عمر في الحامل والمرضع أنهما يفطران ولا قضاء وأخرج مثله عن جماعة من الصحابة وإنهما يطعمان كل يوم مسكينا وأخرج عن أنس بن مالك أنه ضعف عاما عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأشبعهم وفي المسألة خلاف بين السلف فالجمهور أن الإطعام لازم في حق من لم يطق الصيام لكبر منسوخ في غيره وقال جماعة من السلف الإطعام منسوخ وليس على الكبير إذا لم يطق الصيام سنان وقال مالك يستحب له الإطعام وقيل غير ذلك والأظهر ما قاله ابن عباس والمراد بالشيخ العاجز عن الصوم ثم الظاهر أن حديثه موقوف ويحتمل أن المراد رخص النبي صلى الله عليه الصيغة للعلم بذلك فإن الترخيص إنما يكون توقيفا ويحتمل أنه فهمه ابن عباس من الآية وهو الأقرب
25 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل هو سلمة أو سلمان صخر البياضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت يا رسول الله: قال: "وما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: "هل تجد ما تعتق رقبة" بالنصب بدل من ما قال لا قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال: لا قال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا" الجمهور أن لكل مسكين مد من طعام ربع صاع قال: لا قال: ثم جلس فأتي بضم الهمزة مغير الصيغة النبي صلى الله عليه وسلم "بعرق" بفتح العين المهملة والراء ثم قاف فيه تمر ورد في رواية الصحيحين فيه خمسة عشر صاعا وفي أخرى عشرون فقال: "تصدق بهذا" قال: أعلى أفقر منا فما بين لابتيها تثنية لابة وهي الحرة ويقال فيها لوبة ونوبة بالنون وهي غير مهموزة أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك" رواه السبعة واللفظ لمسلم الحديث دليل على وجوب الكفار على من جامع في نهار رمضان عامدا وذكر النووي أنه إجماع معسرا كان أو موسرا فالمعسر تثبت في ذمته على أحد قولين للشافعية ثانيهما لا تستقر في ذمته لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبين له أنها باقية عليه واختلف في الرقبة فإنها هنا مطلقة فالجمهور قيدوها بالمؤمنة حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل قالوا لأن كلام الله

(2/163)


في حكم الخطاب الواحد فيترتب فيه المطلق على المقيد مطلقاَ وقالت الحنفية لا يحمل المطلق على المقيد فتجزيء الرقبة الكافرة وقيل يفصل في ذلك وهو أنه يقيد المطلق إذا أقتضى القياس التقييد فيكون تقييدا بالقياس كالتخصيص بالقياس وهو مذهب الجمهور والعلة الجامعة هنا هو أن جميع ذلك كفارة عن ذنب مكفر للخطيئة والمسألة مبسوطة في الأصول ثم الحديث ظاهر في أن الكفارة مرتبة كما ذكر في الحديث فلا يجزيء العدول إلى الثاني مع إمكان الأول ولا إلى الثالث مع إمكان الثاني لوقوعه مرتبا في رواية الصحيحين وروى الزهري الترتيب عن ثلاثين نفسا أو أكثر ورواية التخيير مرجوحة مع ثبوت الترتيب في الصحيحين ويؤيد رواية الترتيب أنه الواقع في كفارة الظهار وهذه الكفارة شبيهة بها قوله ستين مسكينا ظاهر مفهومه أنه لا يجزيء إلا إطعام هذا العدد فلا يجزيء أقل من ذلك وقال الحنفية يجزيء الصرف في واحد ففي القدوري من كتبهم فإن أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه عندنا وإن أعطاه في يوم واحد لن يجزه إلا عن يومه وقوله "ذهب فأطعمه أهلك" فيه قولان للعلماء أحدهما أن هذه كفارة ومن قاعدة الكفارات أن لا تصرف في النفس لكنه صلى الله عليه وسلم خصه بذلك ورد بأن الأصل عدم الخصوصية الثاني أن الكفارة ساقطة عنه لإعساره ويدل له حديث علي رضي الله عنه كله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك إلا أنه حديث ضعيف أو أنها باقية في ذمته والذي أعطاه صلى الله عليه وسلم صدقة عليه وعلى أهله لما عرفه صلى الله عليه وسلم من حاجتهم وقالت الهادوية وجماعة إن الكفارة غير واجبة أصلا لا على موسر ولا معسر قالوا لأنه أباح له أن يأكل منها ولو كانت واجبة لما جاز ذلك وهوإستدلال غير ناهض لأن المراد ظاهر في الوجوب وإباحة الأكل لا تدل على أنها كفارة بل فيها الاحتمالات التي سلفت واستدل المهدي في البحر على عدم وجوب الكفار بأنه صلى الله عليه وسلم قال للمجامع "ستغفر الله وصم يوما مكانه" ولم يذكرها وأجيب عنه بأنه قد ثبت رواية الأمر بها ثم السبعة بهذا الحديث المذكور هنا واعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره في هذه الرواية بقضاء اليوم الذي جامع فيه إلا أنه ورد في رواية أخرجها أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله وإلى وجوب القضاء ذهبت الهادوية والشافعي لعموم قوله تعالى - فعدة من أيام أخر - وفي قول الشافعي أنه لا قضاء لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره إلا بالكفارة لا غير وأجيب بأنه اتكل صلى الله عليه وسلم على ما علم من الآية هذا حكم ما يجب على الرجل وأما المرأة التي جامعها فقد استدل بهذا الحديث أنه لا يلزم إلا كفارة واحدة وأنها لا تجب على الزوجة وهو الأصح من قولي الشافعي وبه قال الأوزاعي وذهب الجمهور إلى وجوبها على المرأة أيضا قالوا وإنما لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم مع الزوج لأنها لم تعترف واعتراف الزوج لا يوجب عليها الحكم أو لاحتمال أن المرأة لم تكن صائمة بأن تكون طاهرة من الحيض بعد طلوع الفجر

(2/164)


أو أن بيان الحكم في حق الرجل يثبت الحكم في المرأة أيضا لما علم من تعميم الأحكام أو أنه عرف فقرها كما ظهر من حال زوجها واعلم أن هذا حديث جليل كثير الفوائد قال المصنف في فتح الباري إنه قد اعتنى بعض المتأخرين ممن أدرك شيوخنا بهذا الحديث فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة انتهى وما ذكرناه فيه كفاية لما فيه من الأحكام وقد طول الشارح فيه ناقلا من فتح الباري
26 - وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع ثم يغتسل ويصوم" متفق عليه وزاد مسلم في حديث أم سلمة ولا يقضي فيه دليل على صحة صوم من أصبح أي دخل في الصباح وهو جنب من جماع وإلى هذا ذهب الجمهور وقال النووي: إنه إجماع وقد عارضه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومه" وأجاب الجمهور بأنه منسوخ وأن أبا هريرة رجع عنه لما روي له حديث عائشة وأم سلمة وأفتى بقولهما ويدل للنسخ ما أخرجه مسلم وابن حبان وابن خزيمة عن عائشة "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء حجاب فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة - أي صلاة الصبح - وأنا جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" قال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" وقد ذهب إلى النسخ ابن المنذر والخطابي وغيرهما وهذا الحديث يدفع قول من قال إن ذلك كان الموطأ به صلى الله عليه وسلم ورد البخاري حديث أبي هريرة بأن حديث عائشة أقوى سندا حتى قال ابن عبد البر إنه صح وتواتر وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتي به ورواية الرفع أقل ومع التعارض يرجح لقوة الطريق
27 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" متفق عليه فيه دليل على أنه يجزيء الميت صيام وليه عنه إذا ما مات وعليه صوم واجب والإخبار في معنى الأمر أي ليصم عنه وليه والأصل فيه الوجوب إلا أنه قد ادعى الإجماع على أنه للندب والمراد من الولي كل قريب وقيل الوارث خاصة وقيل عصبته وفي المسألة خلاف فقال أصحاب الحديث وأبو ثور وجماعة إنه يجزيء صوم الولي عن الميت لهذا الحديث الصحيح وذهبت جماعة من الآل ومالك وأبو حنيفة أنه لا صيام عن الميت وإنما الواجب الكفارة لما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا "من مات وعليه صيام أطعم عنه مكان كل يوم مسكين" إلا أنه قال بعد إخراجه غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والصحيح أنه موقوف على ابن عمر قالوا ولأنه ورد عن ابن عباس وعائشة الفتيا بالإطعام ولأنه الموافق لسائر العبادات فإنه لا يقوم بها مكلف عن مكلف والحج مخصوص وأجيب بأن الآثار المروية من فتيا عائشة وابن عباس لا تقاوم

(2/165)


الحديث الصحيح وأما قيام مكلف بعبادة عن غيره فقد ثبت في الحج بالنص الثابت فيثبت في الصوم به فلا عذر عن العمل به واعتذر المالكية عنه بعدم عمل أهل المدينة به مبني على أن تركهم العمل بالحديث حجة وليس كذلك كما عرف في الأصول وكذلك اعتذار الحنفية بأن الراوي أفتى بخلاف ما روى عذر غير مقبول إذ العبرة بما روى لا بما رأى كما عرف فيها أيضا ثم اختلف القائلون بإجزاء الصيام عن الميت هل يختص ذلك بالولي أو لا فقيل لا يختص بالولي بل لو صام عنه الأجنبي بأمره أجزأ كما في الحج وإنما ذكر الولي في الحديث للغالب وقيل يصح أن يستقل به الأجنبي بغير أمر لأنه قد شبهه صلى الله عليه وسلم بالدين حيث قال "فدين الله أحق أن يقضى" فكما أن الدين لا يختص بقضائه القريب فالصوم مثله وللقريب أن يستنيب

(2/166)


باب صوم التطوع
وما نهي عن صومه
1 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية" وسئل ذات يوم عن صوم يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية" وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأنزل علي فيه" رواه مسلم قد استشكل تكفير ما لم يقع وهو ذنب السنة الآتية وأجيب بأن المراد أنه يوفق فيها لعدم الإتيان بذنب وسماه تكفيرا لمناسبة السنة الماضية أو أنه إن أوقع فيها ذنبا وفق للإتيان بما يكفره وأما صوم يوم عاشوراء وهو العاشر من شهر المحرم عند الجماهير فإنه قد كان واجبا قبل فرض رمضان ثم صار بعده مستحبا وأفاد الحديث أن صوم يوم عرفة أفضل من صوم يوم عاشوراء وعلل صلى الله عليه وسلم شرعية صوم يوم الاثنين بأنه ولد فيه أو بعث فيه أو أنزل عليه فيه وكأنه شك من الراوي وقد اتفق أنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه وبعث فيه وفيه دلالة على أنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة بصومه والتقرب فيه وقد ورد في حديث أسامة تعليل صومه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين والخميس بأنه يوم تعرض فيه الأعمال وأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم ولا منافاة بين التعليلين
2 - وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم اتبعه ستا" هكذا ورد مؤنثا مع أن مميزه أيام وهي مذكر لأن اسم العدد إذا لم يذكر مميزه جاز فيه الوجهان كم صرح به النحاة "من شوال كان

(2/166)


كصيام الدهر" رواه مسلم فيه دليل على استحباب صوم ستة أيام من شوال وهو مذهب جماعة من الآل وأحمد والشافعي وقال مالك: يكره صومها قال: لأنه ما رأى أحدا من أهل العلم يصومها ولئلا يظن وجوبها و الجواب أنه بعد ثبوت النص بذلك لا حكم لهذه التعليلات وما أحسن ما قاله ابن عبد البر: إنه لم يبلغ مالكا هذا الحديث يعني حديث مسلم واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية ومن صامها عقيب العيد أو في أثناء الشهر وفي سنن الترمذي عن ابن المبارك أنه اختار أن يكون ستة أيام من أول شوال وقد روى عن ابن المبارك أنه قال من صام ستة أيام من شوال متفرقا فهو جائز قلت ولا دليل على اختيار كونها من أول شوال إذ من أتى بها في شوال في أي أيامه صدق عليه أنه اتبع رمضان ستا من شوال وإنما شبهها بصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة أشهر وست من شوال بشهرين وليس في الحديث دليل على مشروعية صيام الدهر ويأتي بيانه في آخر الباب
واعلم أنه قال التقي السبكي: إنه قد طعن في هذا الحديث من لا فهم له مغترا بقول الترمذي إنه حسن يريد في رواية سعد بن سعيد الأنصاري أخي يحيى بن سعيد قلت ووجه الاغترار أن الترمذي لم يصفه بالصحة بل بالحسن وكأنه في نسخة الذي رأيناه في سنن الترمذي بعد سياقه للحديث ما لفظه قال أبو عيسى حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح ثم قال وسعد بن سعيد هو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري وقد تكلم بعض أهل الحديث في سعد بن سعيد من قبل حفظه انتهى قلت قال ابن دحية إنه قال أحمد بن حنبل سعد بن سعيد ضعيف الحديث وقال النسائي ليس بالقوى وقال أبو حاتم لا يجوز الاشتغال بحديث سعد بن سعيد انتهى ثم قال ابن السبكي وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طرقه فأسنده عن بضعة وعشرين رجلا رووه عن سعد بن سعيد وأكثرهم حفاظ ثقات منهم السفيانان وتابع سعدا على روايته أخوه يحيى وعبد ربه وصفوان بن سليم وغيرهم ورواه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان وأبو هريرة وجابر وابن عباس والبراء بن عازب وعائشة ولفظ ثوبان من صام رمضان فشهره بعشره ومن صام ستة أيام بعد الفطر فذلك صيام السنة رواه أحمد والنسائي
3 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله" هو إذا أطلق يراد به الجهاد "إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفا" متفق عليه واللفظ لمسلم فيه دلالة على فضيلة الصوم في الجهاد ما لم يضعف بسبه عن قتال عدوه وكأن فضيلة ذلك لأنه جمع بين جهاد عدوه وجهاد نفسه في طعامة وشرابه وشهوته وكنى بقوله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفا عن سلامته من عذابها
4 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله صلى الله

(2/167)


عليه وسلم استكمل شهراًً قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان" متفق عليه واللفظ لمسلم فيه دليل على أن صومه صلى الله عليه وسلم لم يكن مختصا بشهر دون شهر وأنه كان صلى الله عليه وسلم يسرد الصيام أحيانا ويسرد الفطر أحيانا ولعل كان يفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن الأشغال فيتابع الصوم ومن عكس ذلك فيتابع الإفطار ودليل على أنه يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره وقد نبهت عائشة على علة ذلك فأخرج الطبراني عنها "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام في كل شهر" فربما أخر ذلك فيجتمع صوم السنة فيصوم شعبان وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف وقيل كان يصوم ذلك تعظيما لرمضان كما أخرجه الترمذي من حديث أنس وغيره أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل فقال شعبان تعظيما لرمضان قال الترمذي فيه صدقة بن موسى وهو عندهم ليس بالقوي وقيل كان يصومه لأنه شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان كما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم في شعبان قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع فيه عملي وأنا صائم" قلت: ويحتمل أنه كان يصومه لهذه الحكم كلها وقد عورض حديث أن صوم شعبان أفضل الصوم بعد رمضان بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم" وأورد عليه أنه لو كان أفضل لحافظ على الإكثار من صيامه وحديث عائشة يقتضي أنه كان أكثر صيامة في شعبان فأجيب بأن تفضيل صوم المحرم بالنظر إلى الأشهر الحرم وفضل شعبان مطلقا وأما عدم إكثاره لصوم المحرم فقال النووي: لأنه إنما علم ذلك آخر عمره
5 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام" وبينها بقوله: "ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" رواه النسائي والترمذي وصححه ابن حبان الحديث ورد من طرق عديدة من حديث أبي هريرة بلفظ فإن كنت صائما فصم الغر أي البيض أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان وفي بعض ألفاظه عند النسائي "فإن كنت صائما فصم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" وأخرج أصحاب السنن من حديث قتادة بن ملحان "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هي كهيئة الدهر" وأخرج النسائي من حديث جرير مرفوعا "صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر ثلاث الأيام البيض" الحديث وإسناده صحيح ووردت أحاديث في صيام ثلاثة أيام من كل شهر مطلقة ومبينة بغير الثلاثة وأخرج أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عدة ثلاثة أيام من كل شهر وأخرجه مسلم من حديث عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي في أي الشهر صام" وأما المبينة بغير الثلاث فهي ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث

(2/168)


حفصة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في كل شهر ثلاثة أيام الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى" ولا معارضة بين هذه الأحاديث فإنها كلها دالة على ندبية صوم كل ما ورد وكل من الرواة حكى ما اطلع عليه إلا أن ما أمر به وحث عليه ووصى به أولى وأفضل وأما فعله صلى الله عليه وسلم فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك وقد عين الشارع أيام البيض وللعلماء في تعيين الثلاثة الأيام التي يندب صومها من كل شهر أقوال عشرة سردها في الشرح
6 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل للمرأة" أي المزوجة بدليل قوله "أن تصوم وزوجها شاهد" أي حاضر "إلا بإذنه" متفق عليه واللفظ للبخاري زاد أبو داود غير رمضان فيه دليل على أن الوفاء بحق الزوج أولى من التطوع بالصوم وأما رمضان فإنه يجب عليها وإن كره الزوج ويقاس عليه القضاء فلو صامت النفل بغير إذنه كانت فاعلة لمحرم
7 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم النحر" متفق عليه فيه دليل على تحريم صوم هذين اليومين لأن أصل النهي التحريم وإليه ذهب الجمهور فلو نذر صومهما لم ينعقد نذره في الأظهر لأنه نذر بمعصية وقيل يصوم مكانهما عنهما
8 - وعن نبيشة بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية وشين معجمة يقال له نبيشة الخير بن عمرو وقيل ابن عبد الله الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيام التشريق" وهي ثلاثة أيام بعد النحر وقيل يومان بعد النحر "أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" رواه مسلم وأخرجه مسلم أيضا من حديث كعب بن مالك وابن حبان من حديث أبي هريرة والنسائي من حديث بشر بن سحيم وأصحاب السنن من حديث عقبة بن عامر والبزار من حديث ابن عمر "أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد" وأخرج أبو داود من حديث عمر في قصته "أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بإفطارها وينهاهم عن صيامها" أي أيام التشريق وأخرج الدارقطني من حديث عبد الله بن حذافة السهمي أيام التشريق أيام أكل وشرب وبعال البعال مواقعة النساء والحديث وما سقناه في معناه دال على النهي عن الصوم أيام التشريق وإنما اختلف هل هو نهي تحريم أو تنزيه فذهب إلى أنه للتحريم مطلقا جماعة من السلف وغيرهم وإليه ذهب الشافعي في المشهور وهؤلاء قالوا لا يصومها المتمتع ولا غيره وجعلوه مخصصا لقوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} لأن الآية عامة فيما قبل يوم النحر وما بعده والحديث خاص بأيام التشريق وأن كان فيه عموم بالنظر إلى الحج وغيره فيرجح خصوصها لكونه مقصودا بالدلالة على أنها ليست محلا للصوم وأن ذاتها باعتبار ما هي مؤهلة له كأنها منافية للصوم وذهبت الهادوية إلى أنه يصومها المتمتع الفاقد للهدي كما يفيده سياق الآية ورواية ذلك عن علي عليه السلام قالوا ولا يصومها القارن والمحصر إذا

(2/169)


فقد الهدي وذهب آخرون إلى أنه يصومها المتمتع ومن تعذر عليه الهدي وهو المحصر والقارن لعموم الآية ولما أفاده
9 - وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا "لم يرخص" بصيغة المجهول "في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي" رواه البخاري فإنه أفاد أن صوم أيام التشريق جائز رخصة لمن لم يجد الهدي وكان متمتعا أو قارنا أو محصرا لإطلاق الحديث بناء على أن فاعل يرخص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مرفوع وفي ذلك أقوال ثلاثة ثالثها أنه إن أضاف ذلك إلى عهده صلى الله عليه وسلم كان حجة وإلا فلا وقد ورد التصريح بالفاعل في رواية للدارقطني والطحاوي إلا أنها بإسناد ضعيف ولفظها رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق إلا أنه خص المتمتع فلا يكون حجة لأهل هذا القول وقد روي من فعل عائشة وأبي بكر وفتيا لعلي رضي الله عنهم وذهب جماعة إلى أن النهي للتنزيه وأنه يجوز صومها لكل واحد وهو قول لا ينهض عليه دليل
10 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" رواه مسلم الحديث دليل على تحريم تخصيص ليلة الجمعة بالعبادة معتادة إلا ما ورد به النص على ذلك كقراءة سورة الكهف فإنه ورد تخصيص ليلة الجمعة بقراءتها وسور أخر وردت بها أحاديث فيها مقال وقد دل هذا بعمومه على عدم مشروعية صلاة الرغائب في أول ليلة الجمعة من رجب ولو ثبت حديثها لكان مخصصا لها من عموم النهي لكن حديثها تكلم العلماء عليه وحكموا بأنه موضوع ودل على تحريم النفل بصوم يومها منفردا قال ابن المنذر ثبت النهي عن صوم الجمعة كما ثبت عن صوم العيد وقال أبو جعفر الطبري يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم العيد ولو صام قبله أو بعده وذهب الجمهور إلى أن النهي عن إفراد الجمعة بالصوم للتنزيه مستدلين بحديث ابن مسعود "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وقلما كان يفطر يوم الجمعة" أخرجه الترمذي وحسنه فكان فعله صلى الله عليه وسلم قرينة على أن النهي ليس للتحريم وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه كان يصوم يوما قبله أو بعده ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال واختلف في وجه حكمة تحريم صومه على أقوال أظهرها أنه يوم عيد كما روي من حديث أبي هريرة مرفوعا "يوم الجمعة يوم عيدكم" وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه قال "من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب" وذكر وهذا أيضا من أدلة تحريم صومه ولا يلزم أن يكون كالعيد من كل وجه فإنه ينعقد حرمة صومه بصيام يوم قبله ويوم بعده كما يفيده قوله
11 - وعنه أيضا رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده" متفق

(2/170)


عليه فإنه دال على زوال تحريم صومه لحكمة لا نعلهما فلو أفرده بالصوم وجب فطره كما يفيده ما أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود من حديث جويرية "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم جمعة وهي صائمة فقال لها: "أصمت أمس؟" قالت: لا قال: "تصومين غدا؟" قالت: لا قال: "فأفطري" والأصل في الأمر الوجوب
12 - وعنه أي أبي هريرة رضي الله عنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" رواه الخمسة واستنكره أحمد وصححه ابن حبان وغيره وإنما استنكره أحمد لأنه من رواية العلاء بن عبد الرحمن قلت وهو من رجال مسلم قال المصنف في التقريب: إنه صدوق وربما وهم والحديث دليل على النهي عن الصوم في شعبان بعد انتصافه ولكنه مقيد بحديث إلا أن يوافق صوما معتادا كما تقدم واختلف العلماء في ذلك فذهب كثير من الشافعية إلى التحريم لهذا النهي وقيل إنه يكره إلا قبل رمضان بيوم أو يومين فإنه محرم وقيل لا يكره وقيل إنه مندوب وأن الحديث مؤول بمن يضعفه الصوم وكأنهم استدلوا بحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان ولا يخفى أنه إذا تعارض القول والفعل كان القول مقدما منسوخ
13 - وعن الصماء بالصاد المهملة بنت بسر بالموحدة مضمومة وسين مهملة أسمها بهية بضم الموحدة وفتح الهاء وتشديد المثناة التحتية وقيل إسمها بهيمة بزيادة الميم هي أخت عبد الله بن بسر روى عنها أخوها عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء" بفتح اللام فحاء مهملة ممدودة عنب بكسر المهلمة وفتح النون فموحدة الفاكهة المعروفة والمراد قشره "أو عود شجرة فليمضغها" أي يطعمها بها للفطر رواه الخمسة ورجاله ثقات إلا أنه مضطرب وقد أنكره مالك وقال أبو داود هو منسوخ أما الاضطراب فلأنه رواه عبد الله بن بسر عن أخته الصماء وقيل عن عبد الله وليس فيه ذكر أخته قيل وليست هذه بعلة قادحة فإنه صحابي وقيل عن أبيه بسر وقيل عن الصماء عن عائشة قال النسائي هذا حديث مضطرب قال المصنف يحتمل أن يكون عند عبد الله عن أبيه وعن أخته وعند أخته بواسطة وهذه طريقة صحيحة وقد رجح عبد الحق الطريق الأولى وتبع في ذلك الدارقطني لكن هذا التلون في الحديث الواحد بإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهي الرواية وينبيء بقلة الضبط إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالا على قلة الضبط وليس الأمر هنا كذلك بل اختلف فيه على الراوي أيضا عن عبد الله بن بسر وأما إنكار مالك له فإنه قال أبو داود عن مالك إنه قال هذا كذب أما قول أبي داود إنه منسوخ فلعله أراد أن ناسخه قوله
14 - وعن أم سلمة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: "إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم" أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وهذا لفظه فالنهي عن صومه

(2/171)


كان أول الأمر حيث كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب ثم كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم مخالفتهم كما صرح به الحديث نفسه وقيل: بل النهي كان عن إفراده بالصوم إلا أنه صام ما قبله أو ما بعده وأخرج الترمذي من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" وحديث الكتاب دال على استحباب صوم السبت والأحد مخالفة لأهل الكتاب وظاهره صوم كل على الانفراد والاجتماع
15 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة" رواه الخمسة غير الترمذي وصححه ابن خزيمة والحاكم واستنكره العقيلي لأن في إسناده مهديا الهجري ضعفه العقيلي وقال لا يتابع عليه والراوي عنه مختلف فيه قلت في الخلاصة إنه قال ابن معين لا أعرفه وأما الحاكم فصحح حديثه تركها الذهبي في مختصر المستدرك ولم يعده من الضعفاء في المعنى وأما الراوي عنه فإنه حوشب بن عبدل قال المصنف في التقريب إنه ثقة والحديث ظاهر في تحريم صوم يوم عرفة بعرفة وإليه ذهب يحيى بن سعيد الأنصاري وقال يجب إفطاره على الحاج وقيل لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء ونقل عن الشافعي واختاره الخطابي والجمهور على أنه يستحب إفطاره وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد صح أنه كان يوم عرفة بعرفة مفطرا في حجته ولكن لا يدل تركه الصوم على تحريمه نعم يدل أن الإفطار هو الأفضل لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل إلا أنه قد يفعل المفضول لبيان الجواز فيكون في حقه أفضل لما فيه من التشريع والتبليغ بالفعل ولكن الأظهر التحريم لأنه أصل النهي
16 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد" متفق عليه اختلف في معناه قال شارح المصابيح فسر هذا وجهين أحدهما أنه على معنى الدعاء عليه زجرا له عن صنيعه والآخر على سبيل الإخبار والمعنى أنه بمكابدة صورة الجوع وحر الظمإ لاعتياده الصوم حتى خف عليه ولم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب فكأنه لم يصم ولم تحصل له فضيلة الصوم ويؤيد أنه للإخبار قوله
17 - ولمسلم من حديث أبي قتادة بلفظ "لا صام ولا أفطر" ويؤيده أيضا حديث الترمذي عنه بلفظ "لم يصم ولم يفطر" قال ابن العربي إن كان معناه الدعاء فياويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم وإذا لم يصم شرعا فكيف يكتب له ثواب وقد اختلف العلماء في صيام الأبد فقال بتحريمه طائفة وهو اختيار ابن خزيمة لهذا الحديث وما في معناه وذهب طائفة إلى جوازه وهو اختيار ابن المنذر وتأولوا أحاديث النهي عن صيام الدهر بأن المراد من صامه مع الأيام المنهي عنها من العيدين وأيام التشريق وهو تأويل مردود بنهيه صلى الله عليه وسلم لابن عمرو عن صوم الدهر وتعليله بأن لنفسه عليه حقا ولأهله حقا

(2/172)


ولضيفه حقا ولقوله: "أما أنا فأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني" فالتحريم هو الأوجه دليلا ومن أدلته ما أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة من حديث أبي موسى مرفوعا "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وعقد بيده" قال الجمهور ويستحب صوم الدهر لمن لا يضعفه عن حق وتأولوا أحاديث النهي تأويلاًًًً غير راجح واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم شبه صوم ست من شوال مع رمضان وشبه صوم ثلاثة أيام من كل شهر بصوم الدهر فلولا أن صاحبه يستحق الثواب لما شبه به وأجيب بأن ذلك على تقدير مشروعيته فإنها تغني عنه كما أغنت الخمس الصلوات عن الخمسين التي قد كانت فرضت مع أنه لو صلاها أحد لوجوبها لم يستحق ثوابا بل يستحق العقاب نعم أخرج ابن السني من حديث أبي هريرة مرفوعا "من صام الدهر فقد وهب نفسه من الله عز وجل" إلا أنا لا ندري ما صحته

(2/173)


باب الاعتكاف وقيام رمضان
الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه وشرعا المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة وقيام رمضان أي قيام لياليه مصليا أو تاليا قال النووي: قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح وهو إشارة إلى أنه لا يشترط استغراق كل الليل بصلاة النافلة فيه ويأتي ما في كلام النووي
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانا" أي تصديقا بوعد الله للثواب "واحتسابا" منصوبا على أنه مفعول لأجله كالذي عطف عليه أي طلبا لوجه الله وثوابه والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدد وإنما قيل فيمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه لأنه له حينئذ أن يعتد عمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به قاله في النهاية "غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه يحتمل أنه يريد قيام جميع لياليه وأن من قام بعضها لا يحصل له ما ذكره من المغفرة وهو الظاهر وإطلاق الذنب شامل للكبائر والصغائر وقال النووي المعروف أنه يختص بالصغائر وبه جزم إمام الحرمين ونسبه عياض لأهل السنة وهو مبني على أنها لا تغفر الكبائر إلا بالتوبة وقد زاد النسائي في روايته "ما تقدم وما تأخر" وقد أخرجها أحمد وأخرجت من طريق مالك وتقدم معنى مغفرة الذنب المتأخر والحديث دليل على فضيلة قيام رمضان والذي يظهر أنه يحصل بصلاة الوتر إحدى عشرة ركعة كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل في رمضان وغيره كما سلف في حديث عائشة وأما التراويح على ما اعتيد الآن فلم تقع في عصره صلى الله عليه وسلم إنما كان ابتدعها عمر في خلافته وأمر أبيا أن يجمع بالناس واختلف في القدر الذي

(2/173)


كان يصلي به أبي فقيل كان يصلي بهم إحدى عشر ركعة وروي إحدى وعشرون وروي عشرون ركعة وقيل ثلاث وعشرون، وقيل غير ذلك وقد قدمنا تحقيق ذلك
2 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر" أي العشر الأخيرة من رمضان هذا التفسير مدرج من كلام الراوي "شد مئزره" أي اعتزل النساء "وأحيا ليله وأيقظ أهله" متفق عليه وقيل في تفسير شد مئزره أنه كناية عن التشمير للعبادة قيل ويحتمل أن يكون المعنى أنه شد مئزره أي جمعه فلم يحلله واعتزل النساء وشمر للعبادة إلا أنه يبعده ما روي عن علي رضي الله عنه بلفظ فشد مئزره واعتزل النساء فإن العطف يقتضي المغايرة وإيقاع الإحياء على الليل مجاز عقلي لكونه زمانا للإحياء نفسه والمراد به السهر وقوله أيقظ أهله أي للصلاة والعبادة وإنما خص بذلك صلى الله عليه وسلم آخر رمضان لقرب خروج وقت العبادة فيجتهد فيه لأن خاتمة العمل والأعمال بخواتيمها
3 - وعنها أي عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده" متفق عليه فيه دليل على أن الاعتكاف سنة واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه من بعده قال أبو داود عن أحمد لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أن الاعتكاف مسنون وأما المقصود منه فهو جمع القلب على الله تعالى بالخلوة مع خلو المعدة والإقبال عليه تعالى والتنعم بذكره والإعراض عما عداه
4 - وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه" متفق عليه في دليل على أن أول وقت الاعتكاف بعد صلاة الفجر وهو ظاهر في ذلك وقد خالف فيه من قال إنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر إذا كان معتكفا نهارا وقبل غروب الشمس إذا كان معتكفا ليلا وأول الحديث بأنه كان يطلع الفجر وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد ومن بعد صلاته الفجر يخلو بنفسه في المحل الذي أعده لاعتكافه قلت ولا يخفى بعده فإنها كانت عادته صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج من منزله إلا عند الإقامة
5 - وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا" متفق عليه واللفظ للبخاري في الحديث دليل على أنه لا يخرج المعتكف من المسجد بكل بدنه وأن خروج بعض بدنه لا يضر وفيه أنه يشرع للمعتكف النظافة والحلق والتزين وعلى أن العمل اليسير من الأفعال الخاصة بالإنسان يجوز فعلها وهو في المسجد وعلى جواز استخدام الرجل لزوجته وقوله إلا لحاجة يدل على أنه لا يخرج المعتكف من المسجد إلا للأمر الضروري والحاجة فسرها الزهري بالبول والغائط وقد اتفق على استثنائهما

(2/174)


واختلف في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب وألحق بالبول والغائط جواز الخروج للفصد والحجامة ونحوهما
6 - وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه" مما سلف ونحوه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع رواه أبو داود ولا بأس برجاله إلا أن الراجح وقف آخره من قولها ولا اعتكاف إلا بصوم وقال المصنف جزم الدارقطني أن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج إلا لحاجة وما عداه ممن دونها انتهى من فتح الباري وهنا قال إن آخره موقوف وفيه دلالة على أنه لا يخرج المعتكف لشيء مما عينته هذه الرواية وأنه أيضا لا يخرج لشهود الجمعة وأنه إن فعل أي ذلك بطل اعتكافه وفي المسألة خلاف كبير ولكن الدليل قائم على ما ذكرناه وأما اشتراط الصوم ففيه خلاف أيضا وهذا الحديث الموقوف دال على اشتراطه وفيه أحاديث منها في نفي شرطيته ومنها في إثباته والكل لا ينهض حجة إلا أن الاعتكاف عرف من فعله صلى الله عليه وسلم ولم يعتكف إلا صائما واعتكافه في العشر الأول من شوال الظاهر أنه صامها ولم يعتكف إلا من ثاني شوال لأن يوم العيد يوم شغله بالصلاة والخطبة والخروج إلى الجبانة إلا أنه لا يقوم بمجرد الفعل حجة على الشرطية وأما اشتراط المسجد فالأكثر على شرطيته إلا عن بعض العلماء والمراد من كونه جامعا أن تقام فيه الصلوات وإلى هذا ذهب أحمد وأبو حنيفة وقال الجمهور يجوز في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي الجامع وفيه مثل ما في الصوم من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا في مسجده وهو مسجد جامع ومن الأحاديث الدالة عل عدم شرطية الصيام قوله
7 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه" رواه الدارقطني والحاكم والراجح وقفه أيضا على ابن عباس قال البيهقي الصحيح أنه موقوف ورفعه وهم قلت وللاجتهاد في هذا مسرح فلا يقوم دليلا على عدم الشرطية وأما قوله إلا أن يجعله على نفسه فالمراد أن ينذر الصوم
8 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء وقوله أروا بضم الهمزة على البناء للمجهول ليلة القدر في المنام أي قيل لهم في المنام هي في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرى" بضم الهمزة أي ظن "رؤياكم قد تواطأت" أي توافقت لفظا ومعنى "في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" متفق عليه وأخرج مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا "التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي" وأخرج أحمد رأى رجل أن ليلة القدر

(2/175)


ليلة سبع وعشرين أو كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في العشر البواقي في الوتر" منها وروى أحمد من حديث علي مرفوعا إن غلبتم فلا تغلبوا على السبع البواقي وجمع بين الروايات بأن العشر للاحتياط منها وكذلك السبع والتسع لأن ذلك هو المظنة وهو أقصى ما يظن فيه الإدراك وفي الحديث دليل على عظم شأن الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الأمور الوجودية بشرط أن لا تخالف القواعد الشرعية
9 - وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" رواه أبو داود مرفوعا والراجح وقفه على معاوية وله حكم الرفع وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولا أوردتها في فتح الباري ولا حاجة إلى سردها لأن منها ما ليس تعيينها كالقول بأنها رفعت والقول بإنكارها من أصلها فإن هذه عدها المصنف من الأربعين وفيها أقوال أخر لا دليل عليها وأظهر الأقوال أنها في السبع الأواخر وقال المصنف في فتح الباري بعد سرده الأقوال وأرجحها كلها أنها في وتر العشر الأواخر وأنها تنتقل كما يفهم من حديث هذا الباب وأرجاها أوتار الوتر عند الشافعية إحدى وعشرون أو ثالث وعشرون على ما في حديثي أبي سعيد وعبد الله بن أنس وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين
10 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم قيل علاماتها أن المطلع عليها يرى كل شيء ساجدا وقيل يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى المواضع المظلمة وقيل يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة وقيل علامتها استجابة دعاء من وقعت له وقال الطبري ذلك غير لازم فإنها قد تحصل ولا يرى شيئا ولا يسمع واختلف العلماء هل يقع الثواب المترتب لمن اتفق أنه وافقها ولم يظهر له شيء أو يتوقف ذلك على كشفها ذهب إلى الأول الطبري وابن العربي وآخرون وإلى الثاني ذهب الأكثرون ويدل له ما وقع ثم مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ من يقم ليلة القدر فيوافقها قال النووي أي يعلم أنها ليلة القدر ويحتمل أن يراد أن يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك ورجح هذا المصنف قال ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يوافق لها وإنما الكلام في حصول الثواب المعين الموعود به وهو مغفرة ما تقدم من ذنبه
11 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد" بضم الدال المهملة على أنه نفي ويروى بسكونها على أنه نهي "الرحال" جمع رجل وهو للبعير كالسرج للفرس وشده هنا كناية عن السفر لأنه لازمه غالبا "إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام" أي المحرم "ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"

(2/176)


متفق عليه اعلم أن إدخال هذا الحديث في باب الاعتكاف لأنه قد قيل لا يصح الاعتكاف إلا في الثلاثة المساجد ثم المراد بالنفي النهي مجازا كأنه قال لا يستقيم شرعا أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به من المزية التي شرفها الله تعالى بها والمراد من المسجد الحرام هو الحرم كله لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له هذا الفضل في المسجد الحرام وحده أم في الحرم قال بل في الحرم كله ولأنه لما أراد صلى الله عليه وسلم التعيين للمسجد قال مسجدي هذا والمسجد الأقصى بيت المقدس سمي بذلك لأنه لم يكن وراءه مسجد كما قاله الزمخشري والحديث دليل على فضيلة المساجد هذه ودل بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة كزيارة الصالحين أحياء وأمواتا لقصد التقرب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو محمد الجويني وبه قال القاضي عياض وطائفة ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت واستدل بهذا الحديث ووافقه أبو هريرة وذهب الجمهور إلى أن ذلك غيرمحرم واستدلوا بما لا ينهض وتأولوا أحاديث الباب بتأويل بعيدة ولا ينبغي التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوه الدليل وقد دل الحديث على فضل المساجد الثلاثة وأن أفضلها المسجد الحرام لأن التقديم ذكرا يدل على مزية المقدم ثم مسجد المدينة ثم المسجد الأقصى وقد دل لهذا أيضا ما أخرجه البزار وحسن إسناده من حديث أبي الدرداء مرفوعا الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة وفي معناه أحاديث أخر ثم اختلفوا هل الصلاة في هذه المساجد تعم الفرض والنفل أو تخص الأول قال الطحاوي وغيره إنها تخص بالفروض لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ولا يخفى أن لفظ الصلاة المعرف بلام الجنس عام فيشمل النافلة إلا أن يقال إن لفظ الصلاة إذا أطلق لا يتبادر منه إلا الفريضة فلا يشملها.

(2/177)