سبل السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي

كتاب الحج
باب فضله وبيان من فُرض عليه
...
كتاب الحج
الحج بفتح الحاء المهملة وكسرها لغتان وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة بالاتفاق. وأول فرصه سنة ست عند الجمهور واختار ابن القيم في الهدي أنه فرض سنة تسع أو عشر وفيه خلاف.
باب فضله وبيان من فُرض عليه
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "العمرةُ

(2/177)


إلى العمرةُ كفّارةٌ لما بينهما، والحج المبرور” قيل هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي وقيل: المقبول، وقيل: هو الذي تظهر ثمرته على صاحبه بأن يكون حاله بعده خيراً من حاله قبله. وأخرج أحمد والحاكم من حديث جابر: قيل يا رسول الله ما برّ الحج قال: "إطعام الطعام وإفشاء السلام" وفي إسناده ضعف ولو ثبت لتعين به التفسير "ليس لهُ جزاءً إلا الجنة" متفق عليه.
العمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد. وفي الشرع: إحرام وسعي وطواف وحلق أو تقصير، سميت بذلك لأنه يزار بها البيت ويقصد.
وفي قوله: "العمرة إلى العمرة" دليل على تكرار العمرة وأنه لا كراهة في ذلك ولا تحديد بوقت.
وقالت المالكية: يكره في السنة أكثر من عمرة واحدة واستدلوا له بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة وأفعاله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تحمل عندهم على الوجوب أو الندب. وأجيب عنه: بأنه علم من أحواله صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك الشي وهو يستحب فعله ليرفع المشقة عن الأمة وقد ندب إلى ذلك بالقول.
وظاهر الحديث عموم الأوقات في شرعيتها وإليه ذهب الجمهور. وقيل: إلا للمتلبس بالحج، وقيل: إلا أيام التشريق، وقيل: ويوم عرفة وقيل: إلا أشهر الحج لغير المتمتع والقارن.
والأظهر أنها مشروعة مطلقاً، وفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها في أشهر الحج ويرد قول من قال بكراهتها فيها، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يعتمر عمره الأربع إلا في أشهر الحج كما هو معلوم وإن كانت العمرة الرابعة في حجة، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حج قارناً كما تظاهرت عليه الأدلة وإليه ذهب الأئمة الأجلة.
2ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟) هو إخبار يراد به الاستفهام (قال: "نعمْ عليهن جهادٌ لا قتال فيه" كأنها قالت ما هو؛ فقال: "الحجُّ والعُمرةُ" أطلق عليهما لفظ الجهاد مجازاً شبههما بالجهاد وأطلقه عليهما بجامع المشقة وقوله: "لا قتال فيه" إيضاح للمراد وبذكره خرج عن كونه استعارة والجواب من الأسلوب الحكيم (رواه أحمد وابن ماجه واللفظ له) أي لابن ماجه (وإسناده صحيح، وأصله في الصحيح) أي في صحيح البخاري وأفادت عبارته أنه إذا أطلق الصحيح المراد به البخاري.وأراد بذلك ما أخرجه البخاري من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لا؛ لكن أفضل الجهاد حج مبرور". وأفاد تقييد إطلاق رواية أحمد للحج، أفاد أن الحج والعمرة تقوم مقام الجهاد في حق النساء، وأفاد أيضاً بظاهره أن العمرة واجبة إلا أن الحديث الآتي بخلافه وهو:
3 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعرابيٌّ) بفتح الهمزة نسبة إلى الأعراب وهم سكان البادية الذين يطلبون مساقط الغيث والكلإ، سواء كانوا من العرب أو من مواليهم، والعربي: من كان نسبه إلى العرب ثابتاً، وجمعه أعراب ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعارب (فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة) أي عن حكمها كما أفاده (أواجبة هي؟ فقال: "لا" أي لا تجب وهو من الاكتفاء "وأن تعتمر خيرٌ لك" أي من تركها، والأخْيِرَة في الأجر تدل على ندبها وأنها غير مستوية الطرفين حتى تكون من

(2/178)


المباح، والإتيان بهذه الجملة لدفع ما يتوهم أنها إذا لم تجب ترددت بين الإباحة والندب، بل كان ظاهراً في الإباحة لأنها الأصل فأبان بها ندبها رواه أحمد والترمذي ورفوعا والراجح وقفه على جابر فإنه الذي سأله الأعرابي وأجاب عنه وهو مما للاجتهاد فيه مسرح (وأخرجه ابن عدي من وجه آخر) وذلك أنه رواه من طريق أبي عصمة عن ابن المنكدر عن جابر، ووأبو عصمة كذبوه (ضعيف) لأن في إسناده أبا عصمة، وفي إسناده عند أحمد والترمذي أيضا الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف. وقد روى ابن عدي والبيهقي من حديث عطاء عن جابر "الحج والعمرة فريضتان" وسيأتي بما فيه، والقول بأن حديث جابر المذكور صححه الترمذي مردود بما في الإمام أن الترمذي لم يزد على قوله حسن في جميع الروايات عنه وأفرط ابن حزم فقال إنه مكذوب باطل.
وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة. ونقل الترمذي عن الشافعي أنه قال: ليس في العمرة شيء ثابت أنها تطوع؛ وفي إيجابها أحاديث لا تقوم بها الحجة كحديث عائشة الماضي وكالحديث:
4 - عنْ جابر رضي الله عنه مرْفوعاً: "الحجُّ والعُمْرةُ فريضتان". ولو ثبت لكان ناهضاً على إيجاب العمرة إلا أن المصنف لم يذكر هنا من أخرجه ولا ما قيل فيه. والذي في التلخيص أنه أخرجه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر، وابن لهيعة ضعيف، وقال ابن عدي: هو غير محفوظ عن عطاء، وأخرجه أيضاً الدارقطني من رواية زيد بن ثابت بزيادة "لا يضرك بأيهما بدأت". وفي إحدى طريقيه ضعف، وانقطاع في الأخرى، ورواه البيهقي من طريق ابن سيرين موقوفاً وإسناده أصح وصححه الحاكم.
ولما اختلفت الأدلة في إيجاب العمرة وعدمه اختلف العلماء في ذلك سلفاً وخلفاً. فذهب ابن عمر إلى وجوبها رواه عنه البخاري تعليقاً ووصله عنه ابن خزيمة والدارقطني وعلق أيضاً عن ابن عباس إنها لقرينتها في كتاب الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} ووصله عنه الشافعي وغيره، وصرح البخاري بالوجوب وبوب عليه بقوله: "باب وجوب العمرة وفضلها" وساق خبر ابن عمر وابن عباس.واستدل غيره للوجوب بحديث "حج عن أبيك واعتمر" وهو حديث صحيح قال الشافعي لا أعلم في إيجاب العمرة أجود منه. وإلى الإيجاب ذهبت الحنفية لما ذكر من الأدلة، وأما الاستدلال بقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} فقد أجيب عنه بأنه لا يفيد إلا وجوب الإتمام وهو متفق على وجوبه بعد الإحرام بالعمرة ولو تطوعاً.وذهبت الشافعية إلى أن العمرة فرض في الأظهر. والأدلة لا تنهض عند التحقيق على الإيجاب الذي الأصل عدمه.
5 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قيل: "يا رسول الله ما السبيل؟" أي الذي ذكر الله تعالى في الآية (قال: "الزَّاد والرَّاحلةُ" رواه الدارقطني وصححه الحاكم قلت: والبيهقي أيضاً من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (والراجح إرساله) لأنه قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلا، قال المصنف: يعني الذي أخرجه الدارقطني وسنده صحيح إلى الحسن ولا أرى الموصول إلا وهماً (وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أيضاً) أي كما أخرجه غيره من حديث أنس (وفي إسناده

(2/179)


ضعف) وإن قال الترمذي: إنه حسن، وذلك أن فيه راوياً متروك الحديث وله طرق عن علي وعن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن عائشة وعن غيرهم من طرق كلها ضعيفة قال عبد الحق: طرقه كلها ضعيفة. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث عن ذلك مسنداً، والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة.وقد ذهب إلى هذا التفسير أكثر الأمة فالزاد شرط مطلقاً والراحلة لمن داره على مسافة.وقال ابن تيمية في شرح العمدة بعد سرده لما ورد في ذلك: فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة مع علم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن كثيراً من الناس يقدرون على المشي وأيضاً إن الله قال في الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدراً زائدة على ذلك فإن كان المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد في ذلك، وليس هو إلا المال، وأيضاً فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة، فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد، ودليل الأصل قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية انتهى.وذهب ابن الزبير وجماعة من التابعين إلى أن الاستطاعة هي الصحة لا غير لقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فإنه فسر الزاد بالتقوى وأجيب بأنه غير مراد من الآية كما يدل سبب نزولها. وحديث الباب يدل أنه أريد بالزاد الحقيقة وهو وإن ضعفت طرقه فكثرتها تشد ضعفه، والمراد به كفاية فاصلة عن كفاية من يعول حتى يعود لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول" أخرجه أبو داود.ويجزيء الحج وإن كان المال حراماً ويأثم عند الأكثر. وقال أحمد: لا يجزيء.
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لقي ركباً قال عياض: يحتمل أنه لقيهم ليلا فلم يعرفوه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويحتمل أنه نهاراً ولكنهم لم يروه قبل ذلك (بالرَوْحاء) براء مهملة وبعد الواو حاء مهملة بزنة حمراء محل قرب المدينة (فقال: "مَنْ القوْم" فقالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول الله" فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعَمْ ولكِ أَجْرٌ" بسبب حملها وحجها به، أو بسبب سؤالها عن ذلك الأمر، أو بسبب الأمرين أخرجه مسلم والحديث دليل على أنه يصح حج الصبي وينعقد سواء كان مميزاً أم لا حيث فعل وليه عنه ما يفعل الحاج، وإلى هذا ذهب الجمهور ولكنه لا يجزئه عن حجة الإسلام لحديث ابن عباس "إيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى" أخرجه الخطيب والضياء المقدسي من حديث ابن عباس وفيه زيادة. قال القاضي: أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام إلا فرقة شذت فقالت: يجزئه.لقوله: "نعم" فإن ظاهره حج والحج إذا أطلق يتبادر منه ما يسقط الواجب ولكن العلماء ذهبوا إلى خلاف ذلك. قال النووي: والولي الذي يحرم عن الصبي إذا كان غير مميز وهو ولي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي أي المنصوب من جهة الحاكم أو الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أن تكون

(2/180)


وصية عنه أو منصوبة من جهة الحاكم وقيل يصح إحرامها وإحرام العصبة وإن لم يكن لهم ولاية المال وصفة إحرام الولي عنه أن يقول بقلبه جعلته محرماً.
7- وعنه أي ابن عباس (رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حجة الوداع وكان ذلك في منى (فجاءت امرأة من خَثْعم) بالخاء المعجمة مفتوحة فمثلثة ساكنة فعين مهملة قبيلة معروفة (فجعل الفضل ينظر إليها وتنطر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي) حال كونه (شيخاً) منتصب على الحال وقوله (كبيراً) يصح صفة ولا ينافي اشتراط كون الحال نكرة إذ لا يخرجه ذلك عنها (لا يثبت) صفة ثابتة على الراحلة) يصح صفة أيضاً ويحتمل الحال ووقع في بعض ألفاظه "وإن شددته خشيت عليه" (أفأحج) نيابة (عنه؟ قال: "نَعَمْ" أي حجي عنه (وذلك) أي جميع ما ذكر (في حجة الوداع. متفق عليه واللفظ للبخاري) في الحديث روايات أخر ففي بعضها أن السائل رجل وأنه سأل "هل يحج عن أمه" فيجوز تعدد القضية.وفي الحديث دل على أنه يجزيء الحج عن المكلف إذا كان مأيوساًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً من القدرة على الحج بنفسه مثل الشيخوخة فإنه مأيوس زوالها، وأما إذا كان عدم القدرة لأجل مرض أو جنون يرجى برؤهما فلا يصح. وظاهر الحديث مع الزيادة أنه لا بد في صحة التحجيج عنه من الأمرين: عدم ثباته على الراحلة، والخشية من الضرر عليه من شده، فمن لا يضره الشد كالذي يقدر على المحفة لا يجزئه حج الغير إلا أنه أدعى في البحر الإجماع على أن الصحة وهي التي يستمسك معها قاعداً شرط بالإجماع فإن صح الإجماع فذاك وإلا فالدليل مع من ذكرنا.قيل: ويؤخذ من الحديث أنه إذا تبرع أحد بالحج عن غيره لزمه الحج عن ذلك الغير وإن كان لا يجب عليه الحج، ووجهه أن المرأة لم تبين أن أباها مستطيع بالزاد والراحلة ولم يستفصل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن ذلك، ورد هذا بأنه ليس في الحديث إلا الإجزاء لا الوجوب، فلم يتعرض له، وبأنه يجوز أنها قد عرفت وجوب الحج على أبيها كما يدل لها قولها: "فريضة الله على عباده في الحج". فإنها عبارة دالة على علمها بشرط دليل الوجوب وهو الاستطاعه.واتفق القائلون بإجزاء الحج عن فريضة الغير بأنه لا يجزيء إلا عن موت أو عدم قدرة من عجز ونحوه، بخلاف النفل فإنه ذهب أحمد وأبو حنيفة إلى جواز النيابة عن الغير فيه مطلقاً للتوسيع في النفل.وذهب بعضهم إلى أن الحج عن فرض الغير لا يجزيء أحداً وأن هذا الحكم يختص بصاحبة هذه القصة وإن كان الاختصاص خلاف الأصل، إلا أنه استدل بزيادة رويت في الحديث بلفظ "حجي عنه وليس لأحد بعدك" ورد بأن هذه الزيادة رويت بإسناد ضعيف وعن بعضهم أنه يختص بالولد، وأجيب عنه بأن القياس عليه دليل شرعي وقد نبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على العلة بقوله في الحديث "فدين الله أحق

(2/181)


بالقضاء" كما يأتي فجعله دَيْناً والدين يصح أن يقضيه غير الولد بالاتفاق، وما يأتي من حديث شبرمة.
8- وعنه أي عن ابن عباس (أن امرأة) قال المصنف لم أقف على اسمها ولا اسم أمها (من جُهينة) بضم الجيم بعدها مثناة تحتية فنون اسم قبيلة (جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأيْتِ لَوْ كان على أُمِّك ديْنٌ أكُنْت قاضِيَتَه؟ اقْضُوا اللَّهَ فاللَّهُ أحقُّ بالوفاءِ" رواه البخاري. الحديث دليل على أن الناذر بالحج إذا مات ولم يحج أجزأه أن يحج عنه ولده وقريبه ويجزئه عنه، وإن لم يكن قد حج عن نفسه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسألها حجت عن نفسها أم لا، ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شبهه بالدين وهو يجوز أن يقضي الرجل دين غيره قبل دينه، ورُد بأنه سيأتي في حديث شبرمة ما يدل على عدم إجزاء حج من لم يحج عن نفسه. وأما مسألة الّدين فإنه لا يجوز له أن يصرف ماله إلى دين غيره وهو مطالب بدين نفسه.وفي الحديث دليل على مشروعية القياس وضرب المثل، ليكون أوقع في نفس السامع، وتشبيه المجهول حكمه بالمعلوم، فإنه دل أن قضاء الدين عن الميت كان معلوماً عندهم متقرراً ولهذا حسن الإلحاق به.ودل على وجوب التحجيج عن الميت سواء أوصى أم لم يوص لأن الّدين يجب قضاؤه مطلقاً وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة ونحوها. وإلى هذا ذهب ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والشافعي. ويجب إخراج الأجرة من رأس المال عندهم وظاهره أن يقدم على دين الآدمي وهو أحد أقوال الشافعي ولا يعارض ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم: 93) الآية لأن ذلك عام خصه هذا الحديث أو لأن ذلك في حق الكافر، وقيل: اللام في الآية بمعنى على أي ليس عليه مثل: "ولهم اللعنة" أي عليهم، وقد بسطنا القول في هذا حواشي ضوء النهاء.
9- وعنه أي عن ابن عباس رضي الله عنهما، (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أيما صبي حج ثم بلغ الحنث" بكسر الحاء المهلمة وسكون النون فمثلثة أي

(2/182)


الإثم أي بلغ أن يكتب عليه حنثه "فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى" رواه ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في رفعه والمحفوظ أنه موقوف) قال ابن خزيمة: الصحيح أنه موقوف وللمحدثين كلام كثير في رفعه ووقفه. وروي محمد بن كعب القرظي مرفوعاً قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين أيما صبي حج به أهله أجزأت فإن أدرك فعليه الحج" ، ومثله قال في العبد رواه سعيد بن منصور وأبو داود في مراسيله واحتج به أحمد، وروى الشافعي حديث ابن عباس قال ابن تيمية: والمرسل إذا عمل به الصحابة حجة اتفاقاً، قال: وهذا مجمع عليه ولأنه من أهل العبادات فيصح منه الحج ولا يجزئه لأنه فعله قبل أن يخاطب به.
10- وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخطب يقول: "لا يخلون رجل بإمرأة" أي أجنبية لقوله: "إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" فقام رجل) قال المصنف: لم أقف على تسميته، (فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال: "انطلق فحج مع امرأتك" متفق عليه واللفظ لمسلم) دل الحديث على تحريم الخلوة بالأجنبية وهو إجماع، وقد ورد في حديث: "فإن ثالثهما الشيطان" ، وهل يقوم غير المحرم مقامه في هذا بأن يكون معهما من يزيل معنى الخلوة الظاهر أنه يقوم لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة.
وقال القفال: لا بد من المحرم عملاً بلفظ الحديث: ودل أيضاً على تحريم سفر المرأة من غير محرم وهو مطلق في قليل السفر وكثيره، وقد وردت أحاديث مقيدة لهذا الإطلاق إلا أنها اختلفت ألفاظها، ففي لفظ: "لا تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا مع ذي محرم" ، وفي آخر "فوق ثلاث" ، وفي آخر "مسيرة يومين" وفي آخر "ثلاثة أميال" ، وفي لفظ "بريد" وفي آخر "ثلاثة أيام" ، قال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل ما يسمى سفراً فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه. وللعلماء تفصيل في ذلك قالوا: ويجوز سفر المرأة وحدها في الهجرة من دار الحرب والمخافة على نفسها ولقضاء الدين ورد الوديعة والرجوع من النشوز، وهذا مجمع عليه واختلفوا في سفر الحج الواجب فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز للشابة إلا مع محرم ونقل قولاً عن الشافعي أنها تسافر وحدها إذا كان الطريق آمناً ولم ينهض دليله على ذلك، قال ابن دقيق العيد: إن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} عموم شامل للرجال والنساء وقوله: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" عموم لكل أنواع السفر فتعارض العمومان ويجاب بأن حديث: لا تسافر المرأة للحج إلا مع ذيي محرم: مخصص لعموم الآية، ثم الحديث عام للشابة والعجوز.وقال جماعة من الأئمة يجوز للعجوز السفر من غير محرم وكأنهم نظروا إلى المعنى فخصصوا به العموم، وقيل: لا يخصص بل العجوز كالشابة.
وهل تقوم النساء الثقات

(2/183)


مقام المحرم للمرأة؟ فأجاز البعض مستدلاً بأفعال الصحابة ولا تنهض حجة على ذلك لأنه ليس بإجماع، وقيل: يجوز لها السفر إذا كانت ذات حشم، والأدلة لا تدل على ذلك.
وأما أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له بالخروج مع امرأته فإنه أخذ منه أحمد أنه يجب خروج الزوج مع زوجته إلى الحج إذا لم يكن معها غيره. وغير أحمد قال: لا يجب عليه، وحمل الأمر على الندب، قال: وإن كان لا يحمل على الندب إلا لقرينة عليه فالقرينة عليه ما علم من قواعد الدين أنه لا يجب على أحد بذل منافع نفسه لتحصيل غيره ما يجب عليه. وأخذ من الحديث أنه ليس للرجل منع امرأته من حج الفريضة لأنها عبادة قد وجب عليها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، سواء قلنا إنه على الفور أو التراخي، أما الأول فظاهر، قيل: وعلى الثاني أيضاً فإن لها أن تسارع إلى براءة ذمتها كما أن لها أن تصلي أول الوقت وليس له منعها. وأما ما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعاً في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج "ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها" فإنه محمول على حج التطوع جمعاً بين الحديثين على أنه ليس في حديث الكتاب ما يدل أنها خرجت من دون إذن زوجها.وقال ابن تميمة: إنه يصح الحج من المرأة بغير محرم ومن غير المستطيع، وحاصله أن من لم يجب عليه لعدم الاستطاعة مثل المريض والفقير والمعضوب والمقطوع طريقه، والمرأة بغير محرم، وغير ذلك إذا تكلفوا شهود المشاهد أجزأهم الحج، ثم منهم من هو محسن في ذلك كالذي يحج ماشياً، ومنهم من هو مسيء في ذلك كالذي يحج بالمسألة، والمرأة تحج بغير محرم وإنما أجزأهم لأن الأهلية تامة والمعصية إن وقعت فهي في الطريق لا في نفس المقصود.
11- وعنه) أي ابن عباس (رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شُبْرمة) بضم الشين المعجمة فموحدة ساكنة (قال: "من شُبرُمَةُ؟" قال: أخ لي أو قريب لي) شك من الراوي (فقال: "حججتَ عنْ نفسك؟" قال: لا: قال: "حُجَّ عنْ نفْسكَ ثمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَة" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والراجح عند أحمد وقفه). وقال البيهقي: إسناده صحيح وليس في هذا الباب أصح منه. وقال أحمد بن حنبل: رفعه خطأ. وقال ابن المنذر: لا يثبت رفعه، وقال الدارقطني: المرسل أصح، قال المصنف: هو كما قال، لكنه يقوي المرفوع لأنه من غير رجاله، وقال ابن تيمية: إن أحمد حكم في رواية ابنه صالح عنه أنه مرفوع فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه، قال: وقد رفعه جماعة. على أنه وإن كان موقوفاً فليس لابن عباس فيه مخالف. والحديث دليل على أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج نفسه لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن شبرمة فدل على أنها لم تنعقد النية عن غيره وإلا لأوجب عليه المضي فيه.
وأن الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد وينعقد مطلقاً مجهولاً معلقاً فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه وهذا لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي، والنهي يقتضي الفساد، وبطلان صفة الإحرام لا يوجب بطلان أصله وهذا قول أكثر الأئمة أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه

(2/184)


مطلقاً مستطيعاً كان أو لا، لأن ترك الاستفصال والتفريق في حكاية الأحوال دال على العموم، ولأن الحج واجب في أول سنة من سنى الإمكان فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره، لأن الأوّل فرض والثاني نفل، كمن عليه دين وهو مطالب به ومعه دراهم بقدره لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه وكذلك كل ما احتاج أن يصرفه إلى واجب عنه فلا يصرفه إلى غيره، إلا أن هذا إنما يتم في المستطيع، ولذا قيل: إنما يؤمر أن يبدأ بالحج عن نفسه إذا كان واجباً عليه، وغير المستطيع لم يجب عليه فجاز أن يحج عن غيره ولكن العمل بظاهر عموم الحديث أولى.
12.- وعنه) أي ابن عباس رضي الله عنهما (قال: خطبنا رسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "إن الله كتب عليكم الحج" فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: "لو قُلتها لوجبت، الحج مرَّة، فما زاد فَهُوَ تطوع" رواه الخمسة غير الترمذي وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة) وفي رواية زيادة بعد قوله لو جبت "ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها لعذبتم" . والحديث دليل على أنه لا يجب الحج إلا مرة واحدة في العمر على كل مكلف مستطيع. وقد أخذ من قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لو قلت نعم لو جبت" . أنه يجوز أن يفوّض الله إلى الرسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شرح الأحكام ومحل المسألة الأصول وفيها خلاف بين العلماء قد أشار إليه الشارح رحمه الله.

(2/185)


باب المواقيت
المواقيت: جمع ميقات، والميقات: ما حدّ ووقّت للعبادة، من زمان ومكان، والتوقيت: التحديد، ولهذا يذكر في هذا الباب ما حده الشارع للإحرام من الأماكن
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل المدينة ذا الحُلَيْفَة) بضم الحاء المهملة وبعد اللام مثناة تحتية وفاء: تصغير حلفة، والحلفة: وواحدة الحلفاء نبت في الماء. وهي مكان معروف بينه وبين مكة عشر مراحل، وهي من المدينة على فرسخ، وبها المسجد الذي أحرم منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والبئر تسمى الآن "بئر علي"، وهي أبعد المواقيت إلى مكة (ولأهل الشام الجُحْفَة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة ففاء سميت بذلك لأن السيل اجتحف أهلها إلى الجبل الذي هنالك، وهي من مكة على ثلاث مراحل، وتسمى "مهيعة" كانت قرية قديمة، وهي الآن خراب، ولذا يحرمون الآن من رابغ قبلها لوجود الماء بها للاغتسال (ولأهل نجد قَرْن المنازل) بفتح القاف وسكون الراء، ويقال له: "قرن الثعالب" بينه وبين مكة مرحلتان (ولأهل اليمن يلملم) بينه وبين مكة مرحلتان (هنّ) أي المواقيت (لهنّ) أي البلدان المذكورة والمراد لأهلها ووقع في بعض الروايات "هنّ لهم" ، وفي رواية للبخاري "هنّ لأهلهنّ" (ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك) المذكور من

(2/185)


المواقيت (فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة) يحرمون (من مكة) بحج أو عمرة (متفق عليه). فهذه المواقيت التي عينها صلى الله عليه وسلم لمن ذكره من أهل الآفاق، وهي أيضاً مواقيت لمن أتى عليها، وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة، فإنه يلزمه الإحرام منها إذا أتى عليها قاصداً لإتيان مكة لأحد النسكين، فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلاً إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام منها، ولا يتركه حتى يصل الجحفة، فإن أخر أساء ولزمه دم هذا عند الجمهور.وقالت المالكية: إنه يجوز له التأخير إلى ميقاته، وإن كان الأفضل له خلافه، قالوا: والحديث محتمل فإن قوله "هنّ لهنّ" ظاهره العموم لمن كان من أهل تلك الأقطار، سواء ورد على ميقاته أو ورد على ميقات آخر فإن له العدول إلى ميقاته، كما لو ورد الشامي على ذي الحليفة فإنه لا يلزمه الإحرام منها بل يحرم من الجحفة. وعموم قوله: "ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ" يدل على أنه يتعين على الشامي في مثالنا: أن يحرم من ذي الحليفة لأنه من غير أهلهنّ. قال ابن دقيق العيد: قوله: "ولأهل الشام الجحفة" يشمل من مرّ من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمرّ وقوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهنّ" يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره، فههنا عمومان قد تعارضا انتهى ملخصاً. قال المصنف: ويحصل الانفكاك بأن قوله: "هنّ لهنّ" ، مفسر لقوله مثلاً: "وقت لأهل المدينة ذا الحليفة" وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها، ومن سلك طريق ميقاتهم فمرّ على ميقاتهم انتهى. قلت: وإن صح ما قد روي من حديث عروة "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة" تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة. ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم، فكل من مرّ بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته، وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض ودل قوله: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" على أن من كان بين الميقات ومكة فميقاته حيث أنشأ الإحرام، إما من أهله ووطنه، أو من غيره. وقوله: "حتى أهل مكة من مكة" دل على أن أهل مكة يحرمون من مكة، وأنها ميقاتهم، سواء كان من أهلها أو من المجاورين أو الواردين إليها، أحرم بحج أو عمرة. وفي قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" ما يدل أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد دخول مكة لأحد النسكين، فلو لم يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام، وقد دخل ابن عمر بغير إحرام، ولأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج، والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة، ومن قال: إنه لا يجوز مجاوزة الميقات إلا بالإحرام إلا من استثنى من أهل الحاجات كالحطابين فإن له في ذلك آثاراً عن السلف ولا تقوم بها حجة. فمن دخل مريداً مكة لا ينوي نسكاً من حج ولا عمرة وجاوز ميقاته بغير إحرام، فإن بدا له إراده أحد النسكين أحرم من حيث أراد ولا يلزمه أن يعود إلى ميقاته. واعلم أن قوله: "حتى أهل مكة من مكة" يدل أن ميقات عمرة أهل مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم، ميقاته مكة ولكن قال المحب الطبري: إنه لا يعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة، وجوابه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم جعلها ميقاتاً لها بهذا الحديث، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: "يا أهل

(2/186)


مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينهاٍ بطن محسر" وقال أيضاً: "من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم" فآثار موقوفة لا تقاوم المرفوع، وأما ما ثبت من أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة فلم يرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها، لأنها أحرمت بالعمرة معه ثم حاضت فدخلت مكة ولم تطف بالبيت كما طفن، كما يدل له قولها قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد قال: "انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه" . الحديث، فإنه محتمل أنها إنما أرادت أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة ولا يدل أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن صار في مكة ومع الاحتمال لا يقاوم حديث الكتاب، وقد قال طاوس: لا أدري الذي يعتمرون من التنعيم يؤجرون أو يعذبون، قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف كان أعظم أجراً من أن يمشي في غير ممشى، إلا أن كلامه في تفضيل الطواف على العمرة. قال أحمد: العمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف، ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف، وعند أصحاب أحمد أن المكي إذا أحرم للعمرة من مكة كانت عمرة صحيحة قالوا: ويلزمه دم لما ترك من الإحرام من الميقات. قلت: ويأتيك أن إلزامه الدم لا دليل عليه.
2- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل العراق ذات عِرْق ) بكسر العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف، بينه وبين مكة مرحلتان، وسمي بذلك: لأن فيه عرقاً وهو الجبل الصغير (رواه أبو داود والنسائي وأصله عند مسلم من حديث جابر إلا أن راويه شك في رفعه) لأن في صحيح مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله سئل عن المهل فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلم يجزم برفعه (وفي البخاري أن عمر هو الذي وقت ذات عرق) وذلك أنها لمّا فتحت البصرة والكوفة أي أرضهما، وإلا فإن الذي مصرهما المسلمون طلبوا من عمر أن يعين لهم ميقاتاً فعين له ذات عرق وأجمع عليه المسلمون. قال ابي تيمية في المنتقى: والنص بتوقيت ذات عرق ليس في القوة كغيره، فإن ثبت فليس ببدع وقوع اجتهاد عمر على وفقه، فإنه كان موافقاً للصواب، كأن عمر لم يبلغه الحديث فاجتهد بما وافق النص، هذا وقد انعقد الإجماع على ذلك، وقد روى رفعه بلا شك من حديث أبن الزبير عن جابر عند ابن ماجه، ورواه أحمد مرفوعاً عن جابر بن عبد الله؛ وعن ابن عمرو وفي إسناده الحجاج بن أرطاة. ورواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم من حديث عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل العراق ذات عرق" . بإسناد جيد، ورواه عبد الله بن أحمد أيضاً عنها، وقد ثبت مرسلاً عن مكحول، وعطاء، قال ابن تيمية: وهذه الأحاديث المرفوعة الجياد الحسان يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى وأما ما ذكره بقوله:
3- وعند أَحمد وأَبي داودَ والتِّرمذي عن ابن عبّاس: "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقّت لأهل المشرقِ العقيق" فإنه وإن قال فيه الترمذي: إنه حسن، فإن مداره على يزيد

(2/187)


ابن أبي زياد وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.قال ابن عبد البر: أجمع أهل العمل على أن إحرام العراق من ذات عرق إحرام من الميقات، هذا والعقيق يعدّ من ذات عرق وقد قيل: إن كان لحديث ابن عباس هذا أصل فيكون منسوخاً، لأن توقيت ذات عرق كان في حجة الوداع، حين أكمل الله دينه كما يدل له ما أخرجه الحارث بن عمرو السهمي قال: أتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو بمنى أو عرفات وقد أطاف به الناس قال: فتجيء الأعراب فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك قال: ووقت ذات عرق لأهل العراق. رواه أبو داود والدارقطني.

(2/188)


باب وجوه الإحرام وصفته
الوجوه جمع وجه والمراد بها الأنواع التي يتعلق بها الإحرام وهو الحج أوالعمرة أو مجموعهما. وصفته: كيفيته التي يكون فاعلها بها محرماً.
1-. عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا) أي من المدينة، وكان خروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، بعد صلاته الظهر بالمدينة أربعاً، وبعد أنت خطبهم خطبة علمهم فيها الإحرام، وواجباته، وسننه، (مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عام حجة الوداع) وكان ذلك سنة عشر من الهجرة، سميت بذلك لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ودع الناس فيها، ولم يحج بعد هجرته غيرها، (فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة) فكان قارناً (ومنا من أهل بحج) فكان مفرداً (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بعمرة فحل عند قدومه) مكة بعد إتيانه ببقية أعمال العمرة (وأما من أهل بحج، أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر . متفق عليه).
الإهلال: رفع الصوت، قال العلماء: هو هنا رفع الصوت بالتلبية عند الدخول في الإحرام.
ودل حديثها على أنه وقع من مجموع الركب الذين صحبوه في حجه هذه الأنواع، وقد رويت عنها روايات تخالف هذا، وجمع بينها بما ذكرناه، وقد اختلفت الروايات في إحرام عائشة بماذا كان، لاختلاف الروايات أيضاً.ودل حديثها على أنه وقع من ذلك الركب الإحرام بأنواع الحج الثلاثة. فالمحرم بالحج هو من حج الإفراد، والمحرم بالعمرة هو من حج التمتع، والمحرم بهما هو القارن. ودل حديثها على أن من أهل بالحج مفرداً له عن العمرة لم يحل إلا يوم النحر، وهذا يخالف ما ثبت من الأحاديث عن أربعة عشر صحابياً في الصحيحين وغيرهما "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر من لم يكن معه هدي أن يفسخ حجه إلى العمرة". قيل: فيتأوّل حديث عائشة على تقييده بمن كان معه هدي وأحرم بحج مفرداً فإنه كمن ساق الهدي وأحرم بالحج والعمرة معاً.
وقد اختلف العلماء قديماً وحديثاً في الفسخ للحج إلى العمرة، هل هو خاص بالذين حجوا معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو لا؟ وقد بسط ذلك ابن القيم في زاد المعاد، وأفردناه برسالة، ولا يحتمل هنا نقل الخلاف والإطالة.واختلف العلماء أيضاً فيما أحرم به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والأكثر أنه أحرم بحج وعمرة فكان قارناً وحديث عائشة هذا أدل على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أحرم

(2/188)


بالحج مفرداً لكن الأدلة على أنه حج قارن واسعة جداً.واختلفوا أيضاً في الأفضل من أنواع الحج والأدلة تدل على أن أفضلها القران. وقد استوفي أدلة ذلك ابن القيم.

(2/189)


باب الإحرام وما يتعلق به
الإحرام: الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعماله بالنية.
1- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما أهل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا من عند المسجد ) أي مسجد ذي الحليفة (متفق عليه) هذا قاله ابن عمر ردّاً على من قال: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أحرم من البيداء، فإنه قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه أهل منها ما أهل الحديث. وفي رواية: "أنه أهل من عند الشجرة حين قام به بعيره" والشجرة كانت عند المسجد، وعند مسلم: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ركع ركعتين بذي الحليفة ثم إذا استوت الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل"، وقد جمع بين حديث الإهلال بالبيداء والإهلال بدي الحليفة بأنه صلى الله عليه وسلم لما أهل منهما وكل من روى أنه أهل بكذا فهو راو لما سمعه من إهلاله، وقد أخرج أبو داود والحاكم من حديث ابن عباس "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمّا صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أهل بالحج حين فرغ منهما، فسمع قوم فحفظوه فلما استقرت به راحلته أهلَّ وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوا في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا: إنما أهل حين استقلت به راحلته ثم مضى فلما على علا شرف البيداء أهلَّ وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه فنقل كما سمع" . الحديث:
ودل الحديث على أن الأفضل أن يحرم من الميقات لا قبله فإن أحرم قبله فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم، لأن قول الصحابة "وقت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأهل المدينة ذا الحليفة" يقضي بالإهلال من هذه المواقيت ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن يكون تركها أفضل، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه لأدلة التوقيت، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كأعداد الصلاة ورمي الجمار لا تشرع، كالنقص منها، وإنما لم يجزم بتحريم ذلك لما ذكرنا من الإجماع، ولأنه روي عن عدة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات فأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وأحرم أنس من العقيق، وأحرم ابن عباس من الشام، وأهلّ عمران بن حصين من البصرة، وأهل ابن مسعود من القادسية.
وورد في تفسير الآية "أن الحج والعمرة إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك" عن علي وابن مسعود، وإن كان قد تؤول بأن مرادهما أن ينشيء لهما سفراً مفرداً من بلده كما أنشأ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعمرة الحديبية والقضاء سفراً من بلده، ويدل لهذا التأويل أن علياً لم يفعل ذلك، ولا أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يحرموا بحج ولا عمرة إلا من الميقات، بل لم يفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فكيف يكون ذلك تمام الحج ولم يفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا أحد من الخلفاء ولا جماهير الصحابة.
نعم الإحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث

(2/189)


أم سلمة: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه أحمد وفي لفظ: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة" شك عبد الله أيتهما قال. ورواه ابن ماجه بلفظ "من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب" فيكون هذا مخصوصاً ببيت المقدس فيكون الإحرام منه خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، ويدل له إحرام ابن عمر منه ولم يفعل ذلك من المدينة على أن منهم من ضعف الحديث ومنهم من تأوله بأن المراد ينشيء لهما السفر من هنالك.
2- وعن خَلاد) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام آخره دال مهملة (ابن السائب) بالسين المهملة (عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَتاني جبريل فأَمرني أَنْ آمُر أَصحابي أَنْ يرْفعوا أَصواتهمْ بالإهلال" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان) وأخرج ابن ماجه " أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال: "العج والثج" وفي رواية عن السائب عنه صلى الله عليه وسلم : "أتاني جبريل فقال: "كن عجاجاً ثجاجاً" والعج رفع الصوت والثج نحر البدن.
كل ذلك دال على استحباب رفع الصوت بالتلبية، وإن كان ظاهر الأمر الوجوب. وأخرج ابن أبي شيبة "أن أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم" وإلى هذا ذهب الجمهور.
وعن مالك: لا يرفع صوته بالتلبية إلا عند المسجد الحرام، مسجد منى.
3- وعنْ زيد بن ثابت رضي الله عنه "أَنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تجرَّد لإهلاله واغتسل" رواه الترمذي وحسّنهُ.
وغربه، وضعفه العقيلي، وأخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني، ورواه الحاكم والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: "اغتسل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعدعلى بعيره فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج" ويعقوب ابن عطاء بن أبي رباح ضعيف. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "من السنة أن يغتسل إذا أراد الإحرام وإذا أراد دخول مكة" .
ويستحب التطيب قبل الإحرام. لحديث عائشة: "كنت أطيب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأطيب ما أجد" . وفي رواية: "كنت أطيب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم" . متفق عليه ويأتي الكلام في ذلك.
4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سئل عما يلبس المحرم من الثياب قال: "لا يَلْبسُ القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الْبرانس ولا الخفاف إلا أَحدٌ لا يجد النعلين) أي لا يجدهما يباعان أو يجدهما يباعان ولكن ليس معه ثمن فائض عن حوائجه الأصلية كما في سائر الأبدال (فَلْيَلْبس الخفين وليقطعهما أَسفل من الكعبين، ولا تَلْبسوا شيئاً من الثياب مَسّه الزعفران ولا الورس")

(2/190)


بفتح الواو وسكون الراء آخره سين مهملة (متفق عليه واللفظ لمسلم) وأخرج الشيخان من حديث ابن عباس "سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخطب بعرفات: من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" ومثله عند أحمد والظاهر أنه ناسخ لحديث ابن عمر بقطع الخفين لأنه قاله بعرفات في وقت الحاجة، وحديث ابن عمر كان في المدينة، قاله ابن تيمية في المنتقى.
واتفقوا على أن المراد بالتحريم هنا على الرجل ولا تلحق به المرأة في ذلك.
واعلم أنه تحصل من الأدلة أنه يحرم على المحرم الخف ولبس القميص والعمامة والبرانس والسراويل وثوب مسه ورس أو زعفران ولبس الخفين إلا لعدم غيرهما فيشقهما ويلبسهما والطيب والوطء.
والمراد من القميص كل ما أحاط بالبدن مما كان عن تفصيل وتقطيع.
وبالعمامة ما أحاط بالرأس فليحق بها غيرها مما يغطي الرأس، قال الخطابي: ذكر البرانس والعمامة معاً ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر كالبرانس وهو كل ثوب رأسه منه ملتزقاً به من جبة أو دراعة أو غيرهما.
واعلم أن المصنف لم يأت بالحديث فيما يحرم على المرأة المحرمة، والذي يحرم عليها في الأحاديث الانتقاب أي لبس النقاب، كما يحرم لبس الرجل القميص والخفين فيحرم عليها النقاب، ومثله البرقع وهو الذي فصل على قدر ستر الوجه، لأنه الذي ورد به النص، كما ورد بالنهي عن القميص للرجل مع جواز ستر الرجل لبدنه بغيره اتفاقاً، فكذلك المرأة المحرمة تستر وجهها بغير ما ذكر كالخمار والثوب ومن قال: إن وجهها كرأس الرجل المحرم لا يغطى بشي فلا دليل معه.ويحرم عليها لبس القفازين ولبس مامسّه ورس أو زعفران من الثياب.وبياح لها ما أحبت من غير ذلك من حلية وغيرها والطيب،وأما الصيد وحلق الرأس فالظاهر أنهن كالرجل في ذلك والله أعلم.وأما الانغماس في الماء، ومباشرة المحمل بالرأس، وستر الرأس باليد، وكذا وضعه على المخدة عند النوم، فإنه لا يضر لأنه لا يسمى لابساً. والخفاف جمع خف وهو ما يكون إلى نصف الساق، ومثله في الحكم الجوارب، وهو ما يكون إلى فوق الركبة وقد أبيح لمن لم يجد النعلين بشرط القطع إلا أنك قد سمعت ما قاله في المنتقى من نسخ القطع وقد رجحه في الشرح بعد إطالة الكلام بذكر الخفاف في المسألة ثم ألحق أنه لا فدية على لابس الخفين لعدم النعلين.
وخالفت الحنفية فقالوا: تجب الفدية.
ودل الحديث على تحريم لبس ما مسّه الزعفران والورس. واختلف في العلة التي لأجلها النهي هل هي الزينة أو الرائحة، فذهب الجمهور إلى أنها الرائحة فلو صار الثوب بحيث إذا أصابه الماء لم يظهر له رائحة جاز الإحرام فيه. وقد ورد في رواية "إلا أن يكون غسيلاً" وإن كان فيها مقال، ولبس المعصفر والمورّس محرم على الرجال في حال الحل كما في الإحرام.
5- وعَنْ عائشةَ رضي الله عنها قالت: "كُنْتُ أُطيِّبُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لإحرامهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرمَ ولحلِّه قبل أن يطوفَ بالبيت" مُتفقٌ عليه.
فيه دليل استحباب التطيب عند إرادة فعل الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام وأنه لا يضر بقاء لونه وريحه وإنما يحرم ابتداؤه في حال الإحرام وإلى هذا ذهب جماهير الأئمة والصحابة والتابعين.

(2/191)


وذهب جماعة منهم إلى خلافه وتكلفوا لهذه الرواية ونحوها بما لا يتم به مدعاهم فإنهم قالوا: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تطيب ثم اغتسل بعده فذهب الطيب.
قال النووي في شرح مسلم بعد ذكره: الصواب ما قاله الجمهور من أنه يستحب الطيب للإحرام لقولها: "لإحرامه" .
ومنهم من زعم أن ذلك خاص به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا يتم ثبوت الخصوصية إلا بدليل عليها، بل الدليل قائم على خلافها ووهو ما ثبت من حديث عائشة: "كنا نضمح وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم فنعرق ويسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلا ينهانا" . رواه أبو داود، وأحمد بلفظ: "كنا نخرج مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى مكة فننضح جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلا ينهانا" . ولا يقال هذا خاص بالنساء في الطيب سواء بالإجماع فالطيب يحرم بعد الإحرام لا قبله وإن دام حاله فإنه كالنكاح لأنه من دواعيه والنكاح إنما يمنع المحرم من ابتدائه لا من استدامته فكذلك الطيب، ولأن الطيب من النظافة من حيث إنه يقصد به دفع الرائحة الكريهة كما يقصد بالنظافة إزالة ما يجمعه الشعر والظفر من الوسخ، ولذا استحب أن يأخذ قبل الإحرام من شعره وأظفاره، لكونه ممنوعاً منه بعد الإحرام، وإن بقي أثره بعده.
وأما حديث مسلم في الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصنع في عمرته وكان الرجل قد أحرم وهو متضمخ بالطيب فقال: يا رسول الله ما ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بالطيب؟ فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات الحديث" فقد أجيب عنه بأن هذا السؤال والجواب كانا بالجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان، وقد حج صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سنة عشر، واستدام الطيب، وإنما يؤخذ بالآخر من أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لأنه يكون ناسخاً للأول.وقولها: "لحله قبل أن يطوف بالبيت" المراد لحله الإحلال الذي يحل به كل محظور وهو طواف الزيارة وقد كان حل بعض الإحلال وهو بالرمي الذي يحل به الطيب وغيره ولا يمنع بعده إلا من النساء. وظاهر هذا أنه قد كان فعل الحق والرمي وبقي الطواف:
6- وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكحُ" بفتح حرف المضارعة أي لا ينكح هو لنفسه (المحرم ولا ينكح) بضم حرف المضارعة لا يعقد لغيره (ولا يخطبُ) له ولا لغيره (رواه مسلم.
والحديث دليل على تحريم العقد على المحرم لنفسه ولغيره، وتحريم الخطبة كذلك،
والقول بأنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحرث وهو محرم لرواية ابن عباس لذلك، مردود بأن رواية أبي رافع "أنه تزوجها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو حلال" "أرجح لأن كان السفير بينهما، أي بين النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين ميمونة، ولأنها رواية أكثر الصحابة، قال القاضي عياض: لم يرو أنه تزوجها محرماً إلا ابن عباس وحده حتى قال سعيد: ذهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا بعد ما حل ذكره البخاري.
ثم ظاهر النهي في الثلاثة التحريم، إلا أنه قيل إن النهي في الخطبة للتنزيه وإنه إجماع، فإن صح الإجماع فذاك ولا أظن

(2/192)


صحته، وإلا فالظاهر هو التحريم. ثم رأيت بعد هذا نقلاً عن ابن عقيل الحنبلي أنها تحرم الخطبة أيضاً، قال ابن تيمية: لأن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عن الجميع نهياً واحداً ولم يفصل وموجب النهي التحريم وليس ما يعارض ذلك من أثر أو نظر.
7- وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قصة صيده الحمار الوحشي وهو غير محرم) وكان ذلك عام الحديبية (قال: فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأصحابه وكانوا محرمين: "هل منكم أَحدٌ أَمَرهُ أوْ أَشار إليه بشيءٍ؟" فقالوا: لا، قال: "فكلوا ما بقي من لحمه" متفق عليه) قد استشكل عدم إحرام أبي قتادة وقد جاوز الميقات وأجيب عنه بأجوبه.منها: أنه كان قد بعثه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم هو وأصحابه لكشف عدّو لهم بالساحل.
ومنها أنه لم يخرج مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بل بعثه أهل المدينة.ومنها أنها لم تكن المواقيت قد وقتت في ذلك الوقت.والحديث دليل على جواز أكل المحرم لصيد البر، والمراد به إن صاده غير محرم ولم يكن منه إعانة على قتله بشيء وهو رأي الجماهير والحديث نص فيه.وقيل: لا يحل أكله، وإن لم يكن منه إعانة عليه. ويروى هذا عن علي عليه السلام وابن عباس وابن عمر وهو مذهب الهادوية عملاً بظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} بناء على أنه أريد بالصيد المصيد. وأجيب عنه: بأن المراد في الآية: الاصطياد، ولفظ الصيد وإن كان متردداً بين المعنيين، لكن بين حديث أبي قتادة المراد. وزاده بياناً حديث جابر بن عبد الله عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال: "صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" أخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم إلا أن في بعض رواته مقالاً بينه المصنف في التلخيص. وعلى تقدير أن المراد في الآية الحيوان الذي يصاد فقد ثبت تحريم الاصطياد من آيات أخر ومن أحاديث. ووقع البيان بحديث جابر فإنه نص في المراد. والحديث فيه زيادة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "هل معكم من لحكمه شيء" وفي رواية: " هل معكم منه شيء" قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلها" إلا أنه لم يخرج الشيخان هذه الزيادة واستدل المانع لأكل المحرم الصيد مطلقاً بقوله:
8.- وعن الصَعْب) بفتح الصاد المهملة وسكون العين المهملة فموحدة (ابن جثامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة (الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حماراً وحشياً) وفي رواية: "حمار وحش يقطر دماً" ، وفي أخرى: "لحم حمار وحش" ، وفي آخرى: "عجز حمار وحش" ، وفي رواية: "عضداً من لحم صيد" ، كلها في مسلم (وهو بالأبواء) ممدود (أو بودّان) بفتح الواو وتشديد الدال المهملة وكان ذلك في حجة الوداع (فردّه عليه وقال: "إنّا لمْ نَرُدَّهُ" بفتح الدال رواه المحدثون وأنكره المحققون من أهل العربية، وقالوا: صوابه ضمها لأنه القاعدة في تحريك الساكن إذا كان بعده ضمير المذكر الغائب على الأصح، وقال النووي في شرح مسلم: في ردّه ونحوه للمذكر ثلاثة أوجه أوضحها الضم والثاني الكسر وهو ضعيف والثالث الفتح وهو أضعف منه، بخلاف ما إذا اتصل به ضمير المؤنث، نحو ردّها فإنه بالفتح "عليك إلا أَنّا حُرُمٌ"" بضم الحاء والراء أي محرمون (متفق عليه.
دل على أنه لا يحل لحم الصيد

(2/193)


للمحرم مطلقاً، لأنه علل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ردّه لكونه محرماً، ولم يستفصل هل صاده لأجله أولاً، فدل على التحريم مطلقاً، وأجاب من جوّزه بأنه محمول على أنه صيد لأجله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فيكون جمعاً بينه وبين حديث أبي قتادة، والجمع بين الأحاديث إذا أمكن أولى من إطراح بعضها، وقد دل لهذا أن في حديث أبي قتادة الماضي عند أحمد وابن ماجه بإسناد جيد: "إنما صدته له وأنه أمر أصحابه يأكلون ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له" . قال أبو بكر النيسابوري: قوله "اصطدته لك" وأنه "لم يأكل منه" : لا أعلم أحداً قاله في هذا الحديث غير معمر. قلت: معمر ثقة لا يضر تفرّده ويشهد للزيادة حديث جابر الذي قدّمناه.
وفي الحديث دليل على أنه ينبغي قبول الهدية وإبانة المانع من قبولها إذا ردّها.
واعلم أن ألفاظ الروايات اختلفت فقال الشافعي: إن كان الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم الحمار حياً فليس للمحرم ذبح حمار وحشي، وإن كان أهدى لحم حمار فيحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قد فهم أنه صاده لأجله، وأما رواية "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكل منه" التي أخرجها البيهقي فقد ضعفها ابن القيم، ثم إنه استقوى من الروايات رواية لحم حمار قال: لأنها لا تنافي رواية من روى حماراً لأنه قد يسمى الجزء باسم الكل وهو شائع في اللغة، ولأن أكثر الروايات اتفقت أنه بعض من أبعاض الحمار، وإنما وقع الاختلاف في ذلك البعض ولا تناقض بينها فإنه يحتمل أن يكون المهدي من الشق الذي فيه العجز الذي فيه رجله.
9- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خمس من الدواب كلُّهنَّ فواسق يقتلن في الحلِّ والحرم: الغراب والحدأة" بكسر الحاء المهملة وفتح الدال بعدها همزة "والعقرب" يقال على الذكر والأنثى وقد يقال عقربة "والفأرة" بهمزة ساكنة ويجوز تخفيفها ألفاً "والكلب العقور" متفق عليه) وفي رواية في البخاري زيادة ذكر الحية فكانت ستاً، وقد أخرجها بلفظ "ست" أبو عوانة وسرد الخمس مع الحية، ووقع عند أبي داود زيادة السبع العادي، فكانت سبعاً، ووقع عند أبن خزيمة وابن المنذر زيادة: الذئب والنمر، فكانت تسعاً إلا أنه نقل عن الذهلي أنه ذكرهما في تفسير الكلب العقور، ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل رجاله ثقات. وأخرج أحمد مرفوعاً الأمر للمحرم بقتل الذئب وفيه راو ضعيف. وقد دلت هذه الزيادات أن مفهوم العدد غير مراد من قوله خمس. والدواب: بتشديد الباء جمع دابة وهو ما دب من الحيوان، وظاهره أنه يسمى الطائر دابة، وهو يطابق قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} وقيل: يخرج الطائر من لفظ الدابة لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ولا حجة، لأنه يحتمل أنه عطف خاص على عام. هذا وقد اختص في العرف لفظ الدابة بذوات الأربع القوائم. وتسميتها فواسق: لأن الفسق لغة: الخروج، ومنه {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج، ويسمى العاصي فاسقاً، لخروجه عن طاعة ربه، ووصفت المذكورة بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوانات، في تحريم قتل المحرم لها، وقيل: لخروجها عن غيرها من الحيوانات في حل أكله لقوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فسمي ما لا يؤكل فسقاً قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ

(2/194)


عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بلإيذاء والإفساد وعدم الانتقاع، فهذه ثلاث علل استخرجها العلماء في حل قتل هذه الخمس. ثم اختلف أهل الفتوى فمن قال بالأول، ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم. ومن قال بالثاني ألحق كل ما لا يؤكل إلا ما نهي عن قتله. وهذا قد يجامع الأول، ومن قال بالثالث خص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد قاله المصنف في فتح الباري قلت: ولا يخفى أن هذه العلل لا دليل عليها فيبعد الإلحاق لغير المنصوص بها، والأحوط عدم الإلحاق وبه قالت الحنفية إلا أنهم ألحقوا الحية لثبوت الخبر والذئب لمشاركته للكلب في الكلبية وألحقوا بذلك من ابتدأ بالعدوان والأذى من غيرها. قال ابن دقيق العيد: والتعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ قوي بالنظر إلى تصرف أهل القياس، فإنه ظاهر من جهة الإيمان بالتعليل بالفسق، وهو الخروج عن الحدّ انتهى. قلت: ولا يخفى أنه قد اختلف في تفسير فسقها على ثلاثة أقوال كما عرفت فلا يتم تعيين واحد منها علة بالإيماء فلا يتم الإلحاق به.وإذا جاز قتلهنّ للمحرم جاز للحلال بالأولى، وقد ورد بلفظ "يُقتلن في الحل والحرم" عند مسلم، وفي لفظ "ليس على المحرم في قتلهن جناح" فدل أنه يقتلها المحرم في الحرم وفي الحل بالأولى. وقوله: "يقتلن" إخبار بحل قتلها وقد ورد بلفظ نفي الجناح ونفي الحرج على قاتلهنّ فدل على حمل الأمر على الإباحة. وأطلق في هذه الرواية لفظ الغراب، وقيد عند مسلم من حديث عائشة "بالأبقع" وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، فذهب بعض أئمة الحديث إلى تقييد المطلق بهذا وهي القاعدة في حمل المطلق على المقيد. والقدح في هذه الزيادة بالشذوذ وتدليس الراوي مدفوع بأنه صرح الراوي بالسماع فلا تدليس وبأنها زيادة من عدل ثقة حافظ فلا شذوذ. قال المصنف: قد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب، ويقال له غراب الزرع، وقد احتجوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملحقاً بالأبقع.
والمراد بالكلب: هو المعروف وتقييده بالعقور يدل أنه لا يقتل غير العقور ونقل عن أبي هريرة تفسير الكلب العقور: بالأسد، وعن زيد بن أسلم تفسيره: بالحية، وعن سفيان أنه الذئب خاصة؛ وقال مالك: كل ما عقر الناس وأخافهم وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب هو الكلب العقور، ونقل عن سفيان وهو قول الجمهور واستدل لذلك بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اللهم سلط عليهم كلباً من كلابك فقتله الأسد" ، وهو حديث حسن أخرجه الحاكم.
10- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احتجم وهو محرم) وذلك في حجة الوداع بمحل يقال له لحي جبل بين مكة والمدينة (متفق عليه) دل على جواز الحجامة للمحرم، وهو إجماع في الرأس وغيره إذا كان لحاجة فإن قلع من الشعر شيئاً كان عليه فدية الحلق وإن لم يقلع فلا فدية عليه. وإن كانت الحجامة لغير عذر، فإن كانت في الرأس حرمت إن قطع معها شعر لحرمة قطع الشعر وإن كانت في موضع لا شعر فيه فهي

(2/195)


جائزة عند الجمهور ولا فدية. وكرهها قوم وقيل: تحب فيها الفدية. وقد نبه الحديث على قاعدة شرعية وهي أن محرمات الإحرام من الحلق وقتل الصيد ونحوهما، تباح للحاجة وعليه الفدية، فمن احتاج إلى حلق رأسه أو لبس قميصه مثلاً، لحرّ أو برد، أبيح له ذلك ولزمته الفدية، وعليه دل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية، وبيّن قدر الفدية الحديث وهو قوله:
11- وعن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه) بضم المهملة وسكون الجيم وبالراء كعب صحابي جليل حليف الأنصار نزل الكوفة ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين (قال حُملت) مغير الصيغة (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: "ما كنت أُرى" بضم الهمزة أي أظن (الوجع بلغ بك ما أرى) بفتح الهمزة من الرؤية (أَتجد شاة؟" قلت: لا، قال: "تصوم ثلاثة أَيام أو تُطعم ستّة مساكين لكُلِّ مسكين نصْف صاعٍ" متفق عليه)، وفي رواية للبخاري مرّ بي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً فقال: "أتؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك" . الحديث وفيه فقال: نزلت فيّ هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية. وقد روي الحديث بألفاظ عديدة وظاهره أنه يجب تقديم النسك على النوعين الآخرين إذا وجدو، وظاهر الآية الكريمة وسائر روايات الحديث أنه مخير في الثلاث جميعاً ولذا قال البخاري في أول باب الكفارات: "خير النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كعباً في الفدية" وأخرج أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة. أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئت فانسك نسيكة وإن شئت فصم ثلاثة أيام وإن شئت فأطعم". الحديث. والظاهر أن التخيير إجماع. وقوله: "نصف صاع" أخذ جماهير العلماء بظاهره إلا ما يروى عن أبي حنيفة والثوري أنه نصف صاع من حنطة وصاع من غيرها.
12- .وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ) أراد به فتح مكة وأطلقه لأنه المعروف (قام رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الناس) أي خطيباً وكان قيامه ثاني الفتح (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله حبس عن مكّة الفيل" تعريفاً لهم بالمنة التي منّ الله تعالى بها عليهم وهي قصة معروفة مذكورة في القرآن (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) ففتحوها عنوة "وإنها لمْ تحلّ لأحدٍ كان قبلي، وإنّما أُحلتْ لي ساعةً من نهار" هي ساعة دخوله إياها "وإنّها لن تحلَّ لأحدٍ بَعْدي، فلا يُنَفّر" بالبناء للمجهول "صيدها" أي لا يزعجه أحد ولا ينحيه عن موضعه (ولا يختلى) بالخاء المعجمة مبني للمجهول أيضاً "شَوْكُها" أي لا يؤخذ ويقطع "ولا تحلُّ ساقطتها" أي لقطتها وهو بهذا اللفظ في رواية "إلا لمنشد" أي معرف لها يقال له: منشد، وطالبها ناشد "ومن قتل لهُ قتيلٌ فهو بخيْر النّظرين " إما أخذ الدية أو قتل القاتل (فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله) بكسر الهمزة وسكون الذال المعجمة فخاء معجمة مكسورة:

(2/196)


نبت معروف طيب الرائحة (فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا فقال: "إلا الإذخر" متفق عليه).
فيه دليل على أن فتح مكة عنوة، لقوله "لم تحل" وقوله: "سلط عليها" وقوله: "لا تحل" وعلى ذلك الجماهير.
وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحاً لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يقسمها على الغانمين كما قسم خيبر، وأجيب عنه بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم منّ على أهل مكة وجعلهم الطلقاء وصانهم عن القتل والسبي للنساء والذرية واغتنام الأموال، إفضالا منه على قرابته وعشيرته.
وفيه دليل على أنه لا يحل القتال لأحد بعده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة. قال الماوردي: من خصائص الحرم أنه لا يحارب أهله وإن بغوا على أهل العدل، وقالت طائفة بجوازه وفي المسألة خلاف.
وتحريم القتال فيها هو الظاهر. قال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالقتال لا عتذاره عن ذلك الذي أبيح له مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال لصدهم عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه، وكفرهم، وقال به غير واحد من أهل العلم. قال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دل على المأذون فيه للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولم يؤذن فيه لغيره، ويؤيده قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فإن ترخص أحدكم لقتال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" فدل أن حال القتال فيها من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
ودلّ على تحريم تنفير صيدها وبالأولى تحريم قتله، وعلى تحريم قطع شوكها، ويفيد تحريم قطع ما لا يؤذي بالأولى. ومن العجب أنه ذهب الشافعي إلى جواز قطع الشوك من فروع الشجر كما نقله عنه أبو ثور وأجازه جماعة غيره، ومنهم الهادوية وعللوا ذلك بأنه يؤذي فأشبه الفواسق.
قلت: وهذا من تقديم القياس على النص وهو باطل على أنك عرفت أنه لم يقم دليل على أن علة قتل الفواسق هو الأذية.
واتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لم ينبتها الأدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها وهو الرطب من الكلإ فإذا يبس فهو الحشيش، واختلفوا فيما ينبته الآدميون فقال القرطبي: الجمهور على الجواز.
وأفاد أنها لا تحل لقطتها إلا لمن يُعرّف بها أبداً ولا يتملكها، وهو خاص بلقطة مكة، وأما غيرها فيجوز أن يلتقطها بنية التملك بعد التعريف بها سنة، ويأتي ذكر الخلاف في المسألة في باب اللقطة إن شاء الله تعالى.
وفي قوله: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين" دليل على أن الخيار للولي ويأتي الخلاف في ذلك في باب الجنايات.
وقوله: "نجعله في قبورنا" أي نسدّ به خلل الحجارة التي تجعل على اللحد، وفي البيوت كذلك يجعل فيما بين الخشب على السقوف.
وكلام العباس يحتمل أنه شفاعة إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويحتمل أنه اجتهاد منه لما علم من أن العموم غالبه التخصيص كأنه يقول هذا ما تدعو إليه الحاجة، وقد عهد في الشريعة عدم الحرج فقرّر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كلامه؛ واستثناؤه إما بوحي أو اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم .
13- وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ إبراهيم حرَّم مكة) وفي رواية "إن الله حرّم مكة" ولا منافاة فالمراد أن الله حكم بحرمتها وإبراهيم أظهر هذا الحكم على العباد (ودعا لأهلها) حيث قال: {رَبِّ

(2/197)


اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} وغيرها من الآيات "وإني حرّمتُ المدينة" هي علم بالغلبة لمدينته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التي هاجر إليها فلا يتبادر عند إطلاق لفظها إلا هي "كما حرّم إبراهيم مكّة، وإني دعوت في صاعها ومُدِّهَا" أي فيما يكال بهما لأنهما مكيالان معروفان "بمثل ما دعا به إبراهيمُ لأهل مكة" متفق عليه). المراد من تحريم مكة: تأمين أهلها من أن يقاتلوا، وتحريم من يدخلها لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ، وتحريم صيدها وقطع شجرها، وعضد شوكها.
والمراد من تحريم المدينة: تحريم صيدها، وقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث.
وفي تحديد حرم المدينة خلاف ورد تحديده بألفاظ كثيرة ورجحت رواية "ما بين لابتيها" لتوارد الرواة عليها.
14- وعن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "المدينةُ حرمٌ ما بين عَيْرٍ" بالعين المهملة فمثناة تحتية فراء جبل بالمدينة "إلى ثور" رواه مسلم) ثور بالمثلثة وسكون الواو وآخره راء في القاموس إنه جبل بالمدينة، قال: وفيه الحديث الصحيح، وذكر هذا الحديث، ثم قال: وأما قول أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من الأكابر الأعلام: إن هذا تصحيف، والصواب إلى أحد لأن ثوراً إنما هو بمكة فغير جيد، لما أخبرني الشجاع الثعلبي الشيخ الزاهد عن الحافظ أبي محمد بن عبد السلام البصري أن حذاء أُحد جانحاً إلى ورائه جبلاً صغيراً يقال له ثور، وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب العارفين بتلك الأرض فكل أخبرني أن اسمه ثور ولما كتب إليّ الشيخ عفيف الدين المطري عن والده الحافظ الثقة قال: إن خلف أُحد عن شماله جبلاً صغيراً مدوراً يسمى ثوراً يعرفه أهل المدينة خلف عن سلف انتهى. وهو لا ينافي حديث ".." ما بين لابتيها لأنهما حرتان يكتنفانها كما في القاموس وعير وثور مكتنفان المدينة فحديث عير وثور يفسر اللابتين.

(2/198)


باب صفة الحج ودخول مكة
أراد به: بيان المناسك والإتيان بها مرتبة، وكيفية وقوعها، وذكر حديث جابر وهو وافٍ بجميع ذلك.
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حج) عبر بالماضي لأنه روى ذلك بعد تقضي الحج حين سأله عنه محمد بن عليّ بن الحسين كما في صحيح مسلم (فخرجنا معه) أي من المدينة (حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس) بصيغة التصغير امرأة أبي بكر يعني "محمد بن أبي بكر" (فقال) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اغتسلي واستثفري" بسين مهملة فمثناة فوقية ثم راء هو: شدّ المرأة على وسطها شيئاً ثم تأخذ خرقة عريضة تجعلها في محل الدم وتشد طرفيها من ورائها ومن قدامها إلى ذلك الذي شدته في وسطها وقوله (بثوب) بيان لما تستثفر به (وأحْرمي") فيه: أنه لا يمنع النفاس صحة عقد الإحرام (فصلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي صلاة الفجر

(2/198)


كذا ذكره النووي في شرح مسلم، والذي في الهدي النبوي أنها صلاة الظهر، وهو الأولى لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى خمس صلوات بذي الحليفة الخامسة هي الظهر، وسافر بعدها (في المسجد ثم ركب القَصْواء) بفتح القاف فصاد مهملة فواو فألف ممدودة وقيل: بضم القاف مقصور وخطىء من قاله لقب لناقته صلى الله عليه وسلم (حتى إذا استوت به على البيداء) اسم محل (أهلَّ) رفع صوته (بالتوحيد) أي إفراد التلبية لله وحده بقوله: "لبيك اللهمَّ لَبّيك، لبيك لا شريك لك لبيك" وكانت الجاهلية تزيد في التلبية: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك (إن الحمد) بفتح الهمزة وكسرها والمعنى واحد وهو التعليل (والنعمة لك والملك، لا شريك لك" حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) أي مسحه بيده، وأراد به الحجر الأسود، وأطلق الركن عليه لأنه قد غلب على اليماني (فرمل) أي في طوافه بالبيت أي أسرع في مشيه مهرولا (ثلاثاً) أي مرات (ومشى أربعاً، ثم أتى إلى مقام إبراهيم فصلى) ركعتي الطواف (ورجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب) أي باب الحرم (إلى الصفا، فلما دنا) أي قرب (من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ابداءوا في الأخذ في السعي (بما بدأ الله به فرقي) بفتح القاف (الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره) وبين ذلك بقوله: (وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله أنجز وعده" بإظهاره تعالى للدين "ونصر عبده" يريد به نفسه، "وهزم الأحزاب" في يوم الخندق، "وحده" أي من غير قتال الآدميين ولا سبب لانهزامهم كما أشار إليه قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} أو المراد كل من تحزب لحربه صلى الله عليه وسلم فإنه هزمهم (ثم دعا بين ذلك ثلاث مرات) دل أنه كرر الذكر المذكور ثلاثاً (ثم نزل) من الصفا منتهياً (إلى المروة،حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) قال عياض: فيه إسقاط لفظة لا بد منها وهي حتى انصبت قدماه فرمل في بطن الوادي فسقط لفظ رمل قال: وقد ثبتت هذه اللفظة في رواية لمسلم وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين (حتى إذا صعد) من بطن الوادي (مشى إلى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا) من استقباله القبلة إلى آخر ما ذكر (فذكر) أي جابر (الحديث) بتمامه واقتصر المصنف على محل الحاجة (وفيه) أي في الحديث (فلما كان يومُ التَرْوية) بفتح المثناة الفوقية فراء وهو الثامن من شهر ذي الحجة سمي بذلك لأنهم يتروون فيه إذا لم يكن بعرفة ماء (توجهوا إلى منى وركب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث) بفتح الكاف ثم مثلثة: لبث (قليلا) أي بعد صلاة الفجر (حتى طلعت الشمس، فأجاز) أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها (حتى أتى عرفة) أي 0قرب منها لا أنه دخل بدليل (فوجد القبة) خيمة صغيرة (قد ضربت له بنمرة) بفتح النون وكسر الميم فراء فتاء تأنيث محل معروف (فنزل بها) فإن نمرة ليست من عرفات (حتى إذا زالت الشمس أمر

(2/199)


بالقصواء فرحلت له" مغير الصيغة مخفف الحاء المهملة: أي وضع عليها رحلها "فأتى بطن الوادي) وادي عرفة (فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر) جمعاً من غير أذان (ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل) فيه ضبطان بالجيم والحاء المهملة والموحدة إما مفتوحة أو ساكنة (المشاة) وبها ذكره في النهاية وفسره بطريقهم الذي يسلكونه في الرمل وقيل أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل (بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص) قال في شرح مسلم: هكذا في جميع النسخ وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ قال: قيل: صوابه حين غاب القرص قال: ويحتمل أن يكون قوله: "حتى غاب القرص" بياناً لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة فإن هذه قد تطلق مجازاً على مغيب معظم القرص فأزال ذلك الاحتمال بقوله حتى غاب القرص
(ودفع، وقد شنق) بتخفيف النون: ضم وضيق (للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرك) بفتح الميم وكسر الراء (رحْله) بالحاء المهملة الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام وسط الرحل إذا مل من الركوب
(ويقول بيده اليمنى) أي يشير بها قائلاً: "يا أيها الناس: السكينة.السكينة" بالنصب أي الزموا (كلما أتى حبلا) بالمهملة وسكون الموحدة من حبال الرمل وحبل الرمل ما طال منه وضخم (أرخى لها قليلاً حتى تصعد) بفتح المثناة وضمها يقال: صعد وأصعد (حتى إذا أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح) أي لم يصل (بينهما شيئاً) أي نافلة (ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) وهو جبل معروف في المزدلفة يقال له قُزَح بضم القاف وفتح الزاي وحاء مهملة (فاستقبل القبلة فدعا وكبر وهلل، فلم يزل واقفاً حتى أسفر) أي الفجر (جداً) بكسر الجيم إسفاراً بليغاً (فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن مُحَسِّر) بضم الميم وفتح المهملة وكسر السين المهملة المشددة سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حُسر فيه أي كل وأعيا (فحرك قليلا) أي حرك لدابته لتسرع في المشي وذلك مسافة مقدار رمية حجر (ثم سلك الطريق الوسطى) وهي غير الطريق التي ذهب فيها إلى عرفات (التي تخرج على الجمرة الكبرى) وهي جمرة العقبة (حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة) وهي حد لمنى وليست منها، والجمرة: اسم لمجتمع الحصى سميت بذلك: لاجتماع الناس، يقال: أجمر بنو فلان إذا اجتمعوا (فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف) وقدره مثل حبة الباقلاء (رمى من بطن الوادي) بيان لمحل الرمي (ثم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم ركب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر) فيه حذف أي فأفاض إلى البيت فطاف به طواف الإفاضة ثم صلى الظهر وهذا يعارضه حديث ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمنى" وجمع بينهما بأنه صلى بمكة ثم أعاده بأصحابه جماعة بمنى لينالوا فضل الجماعة خلفه (رواه مسلم مطولا) وفيه زيادات حذفها المصنف واقتصر على محل الحاجة هنا.

(2/200)


واعلم أن هذا حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءاً كبيراً أخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، قال: ولو تقصى لزيد على هذا العدد أو قريب منه.
قلت: وليعلم أن الأصل في كل ما ثبت أنه فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حجه الوجوب، لأمرين أحدهما: أن أفعاله في الحج بيان الحج الذي أمر الله به، والأفعال في بيان الوجوب محمولة على الوجوب. والثاني وقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خذوا عني مناسككم" فمن ادعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل، ولنذكر ما يحتمله المختصر من فوائده ودلائله. ففيه دلالة على أن غسل الإحرام سنة للنفساء والحائض ولغيرهما بالأولى، وعلى استثفار الحائض والنفساء. وعلى صحة إحرامهما. وأن يكون الإحرام عقيب صلاة فرض أو نفل فإنه قد قيل: إن الركعتين اللتين أهل بعدهما فريضة الفجر؛ وأنه يرفع صوته بالتلبية، قال العلماء: ويستحب الاقتصار على تلبية النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلو زاد فلا بأس، فقد زاد عمر رضي الله عنه "لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك". وابن عمر رضي الله عنه "لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل". وأنس رضي الله عنه "لبيك حقاً حقا تعبداً ورقا". وأنه ينبغي للحاج القدوم أولا مكة ليطوف طواف القدوم، وأن يستلم الركن قبل طوافه، ثم يرمل في الثلاثة الأشواط الأول، والرمل: إسراع المشي مع تقارب الخطا، وهو الخبب، ثم يمشي أربعاً على عادته، وأنه يأتي بعد تمام مقام إبراهيم ويتلو {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ثم يجعل المقام بينه وبين البيت ويصلي ركعتين، وقد أجمع العلماء على أنه ينبغي لكل طائف إذا طاف بالبيت أنه يصلي خلف المقام ركعتي الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم لا فقيل بالوجوب، وقيل إن كان الطواف واجباً وجبتا وإلا فسنة، وهل يجبان خلف مقام إبراهيم حتماً أو يجزئان في غيره؟ فقيل يجبان خلفه، وقيل يندبان خلفه ولو صلاهما في الحجر أو في المسجد الحرام أو في أي محل من مكة جاز وفاتته الفضيلة. وورد في القراءة فيهما في الأولى بعد الفاتحة الكافرون والثانية بعدها الصمد رواه مسلم. ودل على أنه يشرع له الاستلام عند الخروج من المسجد كما فعله عند الدخول، واتفقوا أن الاستلام سنة، وأنه يسعى بعد الطواف، ويبدأ بالصفا ويرقى إلى أعلاه، ويقف عليه مستقبلا القبله ويذكر الله تعالى بهذا الذكر، ويدعو ثلاث مرات، وفي الموطإ: "حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى". وقد قدمنا لك أن في رواية مسلم سقطاً فدلت رواية الموطأ أنه يرمل في بطن الوادي، وهو الذي يقال له بين الميلين وهو مشروع في كل مرة من السبعة الأشواط لا في الثلاثة الأول كما في طواف القدوم بالبيت. وأنه يرقى أيضاً على المروة كما رقى على الصفا ويذكر ويدعو وبتمام ذلك تتم عمرته فإن حلق أو قصر صار حلالاً، وهكذا فعل الصحابة الذي أمرهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بفسخ الحج إلى العمرة. وأما من كان قارناً فإنه لا يحلق ولا يقصر ويبقى على إحرامه. ثم في يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة يحرم من أراد الحج ممن حل من عمرته ويطلق هو ومن كان قارناً إلى منى

(2/201)


كما قال جابر: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى" أي توجه من كان باقياً على إحرامه لتمام حجه ومن كان قد صار حلالاً أحرم وتوجه إلى منى وتوجه صلى الله عليه وسلم إليها راكباً فنزل بها وصلى الصلوات الخمس.
فيه أن الركوب أفضل من المشي في تلك المواطن، وفي الطريق أيضاً، وفيه خلاف ودليل الأفضلية فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وأن السنة أن يصلي بمنى الصلوات الخمس وأن يبيت بها هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة. وأن السنة ألا يخرجوا يوم عرفة من منى إلا بعد طلوع الشمس. وأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس. وأن يصلوا الظهر والعصر جمعاً بعرفات فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نزل بنمرة وليست من عرفات ولم يدخل إلى الموقف إلا بعد الصلاتين، وأن لا يصلى بينهما شيئاً. وأن السنة أن يخطب الإمام الناس قبل صلاة العصرين، وهذه إحدى الأربع الخطب المسنونة، والثانية يوم السابع من ذي الحجة عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق. وفي قوله: ثم ركب حتى أتى الموقف إلى آخره.(سنن وآداب) منها: أن يجعل الذهاب إلى الموقف عند فراغه من الصلاتين. ومنها أن الوقوف راكباً أفضل، ومنها أن يقف عند الصخرات وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. ومنها استقبال القبلة في الوقوف. ومنها أنه يبقى في الموقف حتى تغيب الشمس ويكون في وقوفه داعياً فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقف على راحلته راكباً يدعو الله عز وجل وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره وأخبرهم أن خير الدعاء دعاء يوم عرفه وذكر من دعائه في الموقف "اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول. اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي مماتي وإليك مآبي ولك تراثي. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسواس الصدر وشتات الأمر اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح" ذكره الترمذي. ومنها أن يدفع بعد تحقق غروب الشمس بالسكينة ويأمر بها الناس إن كان مطاعاً، ويضم زمام مركوبه لئلا يسرع في المشي إلا إذا أتى جبلا من جبال الرمال أرخاه قليلا ليخف على مركوبه صعوده. فإذا أتى المزدلفة نزل بها وصلى المغرب والعشاء جمعاً بأذان واحد وإقامتين وهذا الجمع متفق عليه وإنما اختلفوا في سببه فقيل: لأنه نسك وقيل: لأجل أنهم مسافرون وأنه لا يصلي بينهما شيئاً. وقوله: "ثم اضطجع حتى طلع الفجر" فيه سنن نبوية المبيت بمزدلفة وهو مجمع على أنه نسك إنما اختلفوا هل هو واجب أو سنة، والأصل فيما فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حجته الوجوب كما عرفت، وأن السنة أن يصلي الصبح بالمزدلفة ثم يدفع منها بعد ذلك فيأتي المشعر الحرام فيقف به ويدعو والوقوف عنده من المناسك ثم يدفع منه عند إسفار الفجر إسفاراً بليغاً فيأتي بطن محسر فيسرع السير فيه لأنه محل غضب الله فيه على أصحاب الفيل فلا ينبغي الأناة فيه ولا البقاء به، فإذا أتى الجمرة وهي جمرة العقبة نزل ببطن الوادي ورماها بسبع حصيات كل حصاة كحبة الباقلا يكبر مع كل حصاة، ثم ينصرف بعد ذلك إلى المنحر فينحر إن كانت عنده بدنة يريد نحوها، وأما هو صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فإنه

(2/202)


نحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة وكان معه مائة بدنة فأمر علياً عليه السلام بنحر باقيها ثم ركب إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وهو الذي يقال له طواف الزيارة ومن بعده يحل له كل ما حرم بالإحرام حتى وطء النساء، وأما إذا رمى جمرة العقبة ولم يطف هذا الطواف فإنه يحل له ما عدا النساء، فهذه الجمل من السنن والآداب التي أفادها هذا الحديث الجليل من أفعاله صلى الله عليه وسلم تبين كيفية أعمال الحج وفي كثير مما دل عليه هذا الحديث الجليل مما سقناه خلاف بين العلماء كثير، في وجوبه وعدم وجوبه، وفي لزوم الدم بتركه وعدم لزومه، وفي صحة الحج إن ترك منه شيئاً وعدم صحته، وقد طول بذكر ذلك في الشرح، واقتصرنا على ما أفاده الحديث فالآتي بما اشتمل عليه هو الممتثل لقوله صلى الله عليه وسلم : "خذوا عني مناسككم" والمقتدي به في أفعاله وأقواله.
2- وعَنْ خُزَيْمةَ بن ثابتِ رضي الله عَنْهُ: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْه ِوآله وَسَلّم كانَ إذا فرغَ من تلبيتهِ في حجٍ أَوْ عمرة سأَلَ الله رضوانه والجنّةَ واستعاذَ برحْمته منَ النّار" رواهُ الشافعيُّ بإسناد ضعيف.
سقط هذا الحديث من نسخة الشارح التي وقفنا عليها فلم يتكلم عليه ووجه ضعفه أن فيه: [تض] صالح بن محمد بن أبي زائدة أبو واقد الليثي ضعفوه. والحديث دليل على استحباب الدعاء بعد الفراغ من كل تلبية يلبيها المحرم في أي حين بهذا الدعاء ونحوه ويحتمل أن المراد بالفراغ منها انتهاء وقت مشروعيتها وهو عند رمي جمرة العقبة، والأول أوضح.
3- وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "نحرت هاهنا ومنى كلها مَنْحَرٌ فانحروا في رحالكم) جمع رحل وهو المنزل (ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقفٌ) وحد عرفة ما خرج عن وادي عرفة إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين بني عامر (ووقفت ههنا وجمعٌ كلها موقف" رواه مسلم) أفاد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه لا يتعين على أحد نحره حيث نحر، ولا وقوفه بعرفة، ولا جمع حيث وقف، بل ذلك موسع عليهم حيث نحروا في أي بقعة من بقاع منى، فإنه يجزىء عنهم، وفي أي بقعة من بقاع عرفه وجمع وقفوا أجزأ، وهذه زيادات في بيان التخفيف عليهم، وقد كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أفاده تقريره لمن حج معه ممن لم يقف في موقفه ولم ينحر من منحره إذ من المعلوم أنه حج معه أمم لا تحصى،ولا يتسع لها مكان وقوفه ونحره؛ هذا والدم الذي محله منى هو دم القران والتمتع. والإحصار والإفساد والتطوّع بالهدى وأما الذي يلزم المعتمر فمحله مكة وأما سائر الدماء اللازمة من الجزاءات فمحلها الحرم المحرم وفي ذلك خلاف معروف.
4- وعَنْ عائشةَ رضي الله عنْها "أَنَّ النبيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم لَمّا جَاءَ إلى مَكّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا وخرجَ مِنْ أَسْفَلِها" مُتّفقٌ عَلَيْهِ. هذا إخبار عن دخوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فإنه دخلها من محل يقال له كداء بفتح الكاف والمدّ غير منصرف، وهي الثنية التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة أهل مكة وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر المؤيد في حدود عشرين وثمانمائة، وأسفل مكة هي الثنية

(2/203)


السفلى يقال لها كُدى بضم القاف والقصر عند باب الشبيكة ويقول أهل مكة: افتح وادخل وضم واخرج. ووجه دخوله صلى الله عليه وسلم من الثنية العليا ما روي أنه قال أبو سفيان: "لا أسلم حتى الخيل تطلع من كداء فقال له العباس: ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي وإن الله لا يطلع الخيل من هنالك أبداً" قال العباس: "فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم منها" وعند البيهقي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كيف قال حسان" فأنشده شعراً:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع مطلعها كَداء
فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "ادخلوها من حيث قال حسان".
واختلف في استحباب الدخول من حيث دخل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والخروج من حيث خرج فقيل: يستحب وأنه يعدل إليه من لم يكن طريقه عليه، وقال البعض: وإنما فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأنه كان على طريقه فلا يستحب لمن لم يكن كذلك.
وقال ابن تيمية: يشبه أن يكون ذلك والله أعلم أن الثنية العليا التي تشرف على الأبطح والمقابر إذا دخل منها الإنسان فإنه يأتي من وجهة البلد والكعبة ويستقبلها استقبالاً من غير انحراف، بخلاف الذي يدخل من الناحية السفلى، لأنه يستدبر البلد والكعبة فاستحب أن يكون ما يليه منها مؤخراً لئلا يستدبر وجهها.
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يقدم مكة إلا بات) ليلة قدومه (بذي طُوى) في القاموس مثلثة الطاء ويُنَوَّن موضع قرب مكة (حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي أنه فعله (متفق عليه). فيه استحباب ذلك وأنه يدخل مكة نهاراً وهو قول الأكثر.
وقال جماعة من السلف وغيرهم: الليل والنهار سواء، والنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دخل مكة في عمرة الجعرانة ليلا. وفيه دلالة على استحباب الغسل لدخول مكة.
6- وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما "أنه كان يُقَبِّلُ الْحَجَر الأسود ويَسْجُدُ عليه" رواهُ الحاكم مرفوعاً والبيْهفِي موقوفاً. وحسنه أحمد، وقد رواه الأزرقي بسنده إلى محمد بن عباد بن جعفر قال: رأيت ابن عباس جاء يوم التروية وعليه حلة، مرجلاً رأسه، فقبل الحجر الأسود وسجد عليه، ثم قبله وسجد عليه ثلاثاً، رواه أبو يعلى بسنده من حديث أبي داود الطيالسي عن جعفر بن عثمان المخزومي قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه؛ وقال: رأيت خالى ابن عباس يقبل الحجر ويسجد عليه. وقال: رأيت عمر يقبل الحجر ويسجد عليه وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وحديث عمر في صحيح مسلم: أنه قبل الحجر والتزمه وقال: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بك حفياً" يؤيد هذا ففيه شرعية تقبيل الحجر والسجود عليه.

(2/204)


7-(وعنه) أي ابن عباس رضي الله عنهما. (قال: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ) أي أصحابه الذين قدموا معه مكة في عمرة القضاء (أن يرمُلوا) بضم الميم (ثلاثة أشواط) أي يهرولون فيها في الطواف (ويمشوا أربعاً ما بين الركنين. متفق عليه).
8- وعن ابن عُمَر رضي اللَّهُ عَنْهُما "أَنّهُ كان إذا طاف بالبيتِ الطّوافَ الأوَّلَ خَبَّ ثلاثاً ومشى أَرْبعاً" وفي رواية "رأَيتُ رسول اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا طاف في الحج أَو العُمْرة أَوَّل ما يقْدُمُ فإنّه يسعى ثلاثة أَطواف بالبيت ويمشي أَربعةً" مُتّفقٌ عليه.
وأصل ذلك ووجه حكمته ما رواه ابن عباس قال: "قدم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم". أخرجه الشيخان، وفي لفظ مسلم: "إن المشركين جلسوا مما يلي الحجر وإنهم حين رأوهم يرملون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم؟ إنهم لأجلد من كذا وكذا". وفي لفظ لغيره "إن هم إلا كالغزلان" فكان هذا أصل الرمل، وسببه إغاظة المشركين وردّ قولهم، وكان هذا في عمرة القضاء ثم صار سنّة، ففعله في حجة الوداع مع زوال سببه وإسلام من في مكة وإنما لم يرملوا بين الركنين لأن المشركين كانوا من ناحية الحجر عند قعيقعان فلم يكونوا يرون من بين الركنين.
وفيه دليل على أنه لا بأس بقصد إغاظة الأعداء بالعبادة وأنه لا ينافي إخلاص العمل بل هو إضافة طاعة إلى طاعة وقد قال تعالى: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}
9- (.وعنه) أي ابن عباس (قال: لم أر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين. رواه مسلم).
اعلم أن للبيت أربعة أركان: الركن الأسود ثم اليماني، ويقال لهما: اليمانيان بتخفيف الياء وقد تشدّد وإنما قيل لهما اليمانيان تغليباً كالأبوين والقمرين، والركنان الآخران يقال لهما: الشاميان وفي الركن الأسود فضيلتان كونه على قواعد إبراهيم عليه السلام والثانية كونه فيه الحَجَر وأما اليماني ففيه فضيلة كونه على قواعد إبراهيم، وأما الشاميان فليس فيهما شيء من هاتين الفضيلتين فلهذا خص الأسود بسنتي التقبيل والاستلام للفضيلتين، وأما اليماني فيستلمه من يطوف ولا يقبله لأن فيه فضيلة واحدة.
واتفقت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفق الجماهير على أنه لا يمسح الطائف الركنين الآخرين. قال القاضي: وكان فيه أي في استلام الركنين الآخرين خلاف لبعض الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما لا يستلمان وعليه حديث الباب.
10- وعن عُمَرَ رضي الله عنهُ: "أنّهُ قَبّلَ الحجر وقالَ: إني أَعْلمُ أَنك حجرٌ لا تضُرُّ ولا تنْفعُ، ولولا أَني رأَيتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُقَبِّلكَ ما قبّلْتك" مُتّفقٌ عليه.
وأخرج مسلم من حديث سويد بن غفلة أنه قال: رأيت عمر قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بك حفياً. وأخرج البخاري أن رجلا سأل ابن عمرعن استلام الحجر فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمله ويقبله قال: أرأيت إن زحمت أرأيت إن غلبت؟ قال: اجعل أرأيت باليمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. وروى الأزرقي

(2/205)


حديث عمر بزيادة وأنه قال له عليّ عليه السلام: بلى يا أمير المؤمنين هو يضر وينفع قال: وأين ذلك؟ قال: في كتاب الله قال: وأين ذلك من كتاب الله عز وجل؟ قال: قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} قال: فلما خلق الله آدم مسح على ظهره فأخرج ذريته من صلبه فقررهم أنه الرب وهم العبيد ثم كتب ميثاقهم في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له: افتح فاك فألقمه ذلك الرق وجعله في هذا الموضع، وقال: تشهد لمن وافاك بالإيمان يوم القيامة، قال الراوي: فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشى عمر أن يفهموا أن تقبيل الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه ابتاع لفعل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان.
11 - وعن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن) هي عصا محنية الرأس، (معه ويقبل المحجن. رواه مسلم)، وأخرج الترمذي وغيره وحسنه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق"، وروي الأزرقي بإسناد صحيح من حديث ابن عباس، قال: "إن هذا الركن يمين الله عَزَّ وجَلَّ في الأرض يصافح بها عباده مصافحة الرجل أخاه وأخرج أحمد عنه الركن يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه، والذي نفس ابن عباس بيده ما من امرىء مسلم يسأل الله عنده شيئاً إلا أعطاه إياه".
وحديث أبي الطفيل دال أنه يجزىء عن استلامه باليد استلامه بآلة ويقبل الآلة كالمحجن والعصا، وكذلك إذا استلمه بيده قبل يده، فقد روى الشافعي: "أنه قال ابن جريج لعطاء هل رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا استلموا قبلوا أيديهم قال: نعم رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استملوا قبلوا أيديهم"، فإن لم يمكن استلامه لأجل الزحمة قام حياله ورفع يده وكبر لما روي "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعفاء إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر" رواه أحمد والأزرقي، وإذا أشار بيده فلا يقبلها لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر.

(2/206)


12- (وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: طاف النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مضطبعاً ببرد أخضر . رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي) الاضطباع افتعال من الضبع وهوالعضو ويمسى التأبط لأنه يجعل وسط الراداء تحت الإبط وبيدي ضبعه الأيمن وقيل بيدي ضبعيه، وفي النهاية هو أن يأخذ الإزار أو البر ويجعله تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره. وأخرج أبو داود عن ابن عباس: "اضطبع فكبر واستلم وكبر ثم رمل ثلاثة أطواف كانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا ثم يطلعون عليهم يرملون تقول قريش كأنهم الغزلان"، قال ابن عباس: فكانت سنة وأول ما اضطبعوا في عمرة القضاء ليستعينوا بذلك على الرمل ليرى المشركون قوتهم ثم صار سنة ويضطبع في الأشواط السبعة، فإذا قضى طوافه ثوى ثيابه ولم يضطبع في ركعتي الطواف وقيل: في الثلاثة الأولى لا غير.
13- (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه. متفق عليه) تقدم أن الإهلال رفع الصوت بالتلبية وأول وقته من حين الإحرام إلى الشروع في الإحلال وهو في الحج إلى أن يأخذ في رمي جمرة العقبة وفي العمرة إلى الطواف. ودل الحديث على أنه من كبر مكان التلبية فلا نكير عليه بل هو سنة لأنه يريد أنس أنهم كانوا يفعلون ذلك ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيهم فيقر كلاً على ما قاله إلا أن الحديث ورد في صفة غدوهم من منى إلى عرفات وفيه رد على من قال: يقطع التلبية بعد صبح يوم عرف
14- (.وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثني النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الثقل) بفتح المثلثة وفتح القاف وهو متاع المسافر كما في النهاية (أو قال في الضعفة) شك من الراوي (من جمع) بفتح الجيم وسكون الميم علم المزدلفة سميت به لأن آدم وحواء لما أهبطا اجتمعا بها كما في النهاية بليل قد علم أن من السنة أنه لا بد من المبيت بجمع، وأنه لا يفيض من بات بها إلا بعد صلاة الفجر بها ثم يقف في المشعر الحرام ولا يدفع منه إلا بعد إسفار الفجر جداً ويدفع قبل طلوع الشمس وقد كانت الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون:
أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا أن حديث ابن عباس هذا ونحوه دل على الرخصة للضعفة في عدم استكمال المبيت. والنساء كالضعفة أيضاً لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أذن للظعن" بضم الظاء والعين المهلمة وسكونها جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة وعلى الهودج بلا امرأة كما في النهاية.
15- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وكانت ثبطة) بفتح المثلثة وسكون الموحودة فسرها قوله: (تعني ثقيلة فأذن لها . متفق عليهما) على حديث ابن عباس وعائشة. وفيه دليل على جواز الدفع

(2/207)


من مزدلفة قبل الفجر ولكن للعذر كما أفاده قولها: "وكانت ثبطة" وجمهور العلماء أنه يجب المبيت بمزدلفة ويلزم من تركه دم. وذهب آخرون إلى أنه سنة إن تركه فاتته الفضيلة ولا إثم عليه ولا دم ويبيت أكثر الليل، وقيل: ساعة من النصف الثاني، وقيل غير ذلك والذي فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المبيت بها إلى أن صلى الفجر، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" .
16- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" رواه الخمسة إلا النسائي وفيه انقطاع) وذلك لأن فيه الحسن العرني بجلي كوفي ثقة احتج به مسلم واستشهد به البخاري غير أن حديثه عن ابن عباس منقطع، قال أحمد: الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس. وفيه دليل على أن وقت رمي جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس وإن كان الرامي ممن أبيح له التقدم إلى منى وأذن له في عدم المبيت بمزدلفة.
وفي المسألة أربعة أقوال: الأول: جواز الرمي من بعد نصف الليل للقادر والعاجز، قاله أحمد والشافعي. الثاني: لا يجوز إلا بعد الفجر مطلقاً وهو قول أبي حنيفة. الثالث: لايجوز للقادر إلا بعد طلوع الفجر ولمن له عذر بعد نصف الليل وهو قول الهادوية. والرابع: للثوري والنخعي أنه من بعد طلوع الشمس للقادر وهذا أقوى الأقوال دليلاً وأرجحها قيلاً.
17- (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت . رواه أبو دادو وإسناده على شرط مسلم) الحديث دليل على جواز الرمي قبل الفجر لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك، فقرره وقد عارضه حديث ابن عباس وجمع بينهما بأنه لا يجوز الرمي قبل الفجر لمن له عذر، وكان ابن عباس لا عذر له، وهذا قول الهادوية فإنهم يقولون: لا يجوز الرمي للقادر إلا بعد الفجر ويجوز لغيره من بعد نصف الليل إلا أنهم أجازوا للقادر قبل طلوع الشمس. وقد ذهب الشافعي إلى جواز الرمي من بعد نصف الليل للقادر والعاجز، وقال آخرون: إنه لا رمي إلا من بعد طلوع الشمس للقادر وهو الذي يدل له فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقوله في حديث ابن عباس المتقدم قريباً وهو وإن كان فيه انقطاع فقد عضده فعله مع قوله: "خذوا عني" الحديث، وقد تقدمت أقوال العلماء في ذلك.
18- (وعن عروة بن مضرس) بضم الميم وتشديد الراء وبالضاد المعجمة والسين المهملة كوفي شهد حجة الوداع، وصدر حديثه أنه قال: "أتيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالموقف يعني جمعاً فقلت: جئت يا رسول الله من جبل طيء فأكلت مطيتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟"، ثم ذكر الحديث، (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من شهد صلاتنا" يعني صلاة الفجر هذه (يعني بالمزدلفة "فوقف معنا" أي في مزدلفة، "حتى ندفع" وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً "فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة) فيه دلالة على أنه لا يتم الحجة إلا بشهود صلاة الفجر بمزدلفة والوقوف بها حتى يدفع

(2/208)


الإمام وقد وقف بعرفة قبل ذلك في ليل أو نهار. ودل على إجزاء الوقوف بعرفة في نهار يوم عرفة إذا كان من بعد الزوال أو في ليلة الأضحى، وأنه إذا فعل ذلك فقد قضى ثفته وهو قضاء المناسك وقيل إذهاب الشعر ومفهوم الشرط أن من لم يفعل ذلك لم يتم حجه، فأما الوقوف بعرفة فإنه مجمع عليه، وأما بمزدلفة، فذهب الجمهور إلى أنه يتم الحج وإن فاته ويلزم فيه دم.
وذهب ابن عباس وجماعة من السَلَف إلى أنه ركن كعرفة وهذا المفهوم دليله ويدل له روايته النسائي: "ومن لم يدرك جمعاً فلا حج له" . وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقوله: "خذوا عني مناسككم" . وأجاب الجمهور بأن المراد من حديث عروة من فعل جميع ما ذكر فقد تم حجة وأتى بالكامل من الحج ويدل له ما أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي: أنه أتاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو واقف بعرفات ناس من أهل نجد فقالوا: كيف الحج؟ فقال: "الحج عرفة من جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه" وفي رواية لأبي داود "من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج" ومن رواية الدارقطني "الحج عرفة، الحج عرفة" قالوا: فهذا صريح في المراد وأجابوا عن زيادة "ومن لم يدرك جمعاً فلا حج له" باحتمالها التأويل أي فلا حج كامل الفضيلة وبأنها رواية أنكرها أبو جعفر العقيلي وألف في إنكارها جزءاً. وعن الآية أنها لا تدل إلا على الأمر بالذكر عند المشعر لا على أنه ركن وبأنه فعله صلى الله عليه وسلم بياناً للواجب المستكمل الفضيلة.
19- وعن عمر رضي الله عنه قال: إن المشركين كانوا لا يفيضون) أي من مزدلفة (حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق) بفتح الهمزة فعل أمر من الإشراق أي أدخل في الشروق (ثبير) بفتح المثلثة وكسر الموحدة فمثناة تحتية فراء جبل معروف على يسار الذاهب إلى منى وهو أعظم جبال مكة ( وأن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس . رواه البخاري) وفي رواية بزيادة "كيما نغير" أخرجها الإسماعيلي و ابن ماجه وهو من الإغارة الإسراع في عدو الفرس.
وفيه أنه يشرع الدفع وهو الإفاضة قبل شروق الشمس وتقدم حديث جابر "حتى أسفر جداً".
20- وعن ابنِ عبّاسٍ وأُسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي الله عَنْهماْ قالا: "لمْ يزلِ للنّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُلبِّي حتى رمى جمرة العَقَبة" رواهُ الْبُخاريُّ. فيه دليل على مشروعية الاستمرار في التلبية إلى يوم النحر حتى يرمي الجمرة. وهل يقطعه عند الرمي بأوّل حصاة أو مع فراغه منها؟ ذهب الجمهور إلى الأوّل وأحمد إلى الثاني ودل له ما رواه النسائي "فلم يزل يلبي حتى رمي الجمرة فلما رجع قطع التلبية" وما رواه أيضاً ابن خزيمة وقال: حديث صحيح من حديث ابن عباس عن الفضل أنه قال: "أفضت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ويكبّر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة" وهو يبين المراد من قوله: "حتى رمى الجمرة العقبة" أي أتم رميها وللعلماء خلاف متى يقطع التلبية؟ وهذه الأحاديث قد بينت وقت تركه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها

(2/209)


21- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه جعل البيت عن يساره) عند رميه جمرة العقبة (ومنى عن يمينه ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. متفق عليه.
قام الإجماع على أن هذه الكيفية ليست بواجبة وإنما هي مستحبة وهذا قاله ابن مسعود ردّاً على من يرميها من فوقها.
واتفقوا أن سائر الجمار ترمى من فوقها.
وخص سورة البقرة بالذكر لأن غالب أعمال الحج مذكور فيها أو لأنها اشتملت على أكثر أمور الديانات والمعاملات، وفيه جواز أن يقال سورة البقرة خلافاً لمن قال: يكره ولا دليل له.
22- وعن جابر رضي الله عنهُ قالَ: "رمى رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الجمرةَ يَوْمَ النّحْر ضُحى وأَمّا بعد ذلك فإذا زالتِ الشمسُ" روَاهُ مُسلمٌ.
تقدم الكلام على وقت رمي جمرة العقبة.
والحديث دليل على أن وقت رمي الثلاث الجمار من بعد زوال الشمس وهو قول جماهير العلماء.
23- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا) بضم الدال وبكسرها أي الدانية إلى مسجد الخيف وهي أوّل الجمرات التي ترمى ثاني النحر (بسبع حصيات يكبّر على إثر كل حصاة ثم يتقدم ثم يسهل) بضم حرف المضارعة وسكون المهملة أي يقصد السهل من الأرض (فيقوم فيستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال) أي يمشي إلى جهة شماله ليقف داعياً في مقام لا يصيبه الرمي (فيسهل ويقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. رواه البخاري).
فيه ما قد دلت عليه الأدلة الماضية: من الرمي بسبع حصيات لكل جمرة، والتكبير عند كل حصاة، وفيه زيادة أنه يستقبل القبلة بعد الرمي للجمرتين. ويقوم طويلاً يدعو الله تعالى، وقد فسر مقدار القيام ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح "أن ابن عمر كان يقوم عند الجمرتين بمقدار ما يقرأ سورة البقرة وأنه يرفع يديه عند الدعاء" قال ابن قدامة: ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن مالك "أنه لا يرفع يديه عند الدعاء" وحديث ابن عمر دليل لخلاف ما قال مالك.
24- وعنه) أي ابن عمر (رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "اللهم ارحم المحَلّقين" أي الذين حلقوا رؤوسهم في حج أو عمرة عند الإحلال منها (قالوا) يعني السامعين من الصحابة، قال المصنف في الفتح: إن لم يقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال بعد البحث الشديد عنه (والمقصرين) هو من عطف التلقين كما في قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} فى أحد الوجهين في الآية كأنه قيل: وارحم المقصرين (يا رسول الله؟ قال: في الثالثة "والمقصرين" متفق عليه) وظاهره أنه دعا للمحلقين مرتين وعطف المقصرين في الثالثة وفي روايات أنه دعا للمحلقين ثلاثاً ثم عطف المقصرين.
ثم إنه اختلف في هذا الدعاء متى كان منه صلى الله عليه وسلم ، فقيل: في عمرة الحديبية،

(2/210)


وجزم به إمام الحرمين. وقيل: في حجة الوداع، الموضعين، قال النووي وقال: هو الصحيح المشهور وقال القاضي عياض: كان في الموضعين، قال النووي: ولا يبعد ذلك، وبمثله قال ابن دقيق العيد، قال المصنف: وهذا هو المتعين لتظافر الروايات بذلك.
والحديث دليل على مشروعية الحلق والتقصير وأن الحلق أفضل. هذا ويجب في حلق الرأس استكمال حلقه عند الهادوية ومالك وأحمد وقيل: هو الأفضل ويجزيء الأقل فقيل: الربع وقيل: النصف، وقيل: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وقيل: شعرة واحدة، والخلاف في التقصير في التفضيل مثل هذا، وأما مقداره فيكون مقدار أنملة وقيل إذا اقتصر على دونها أجزأ وهذا كله في حق الرجال. ثم هو أي تفضيل الحلق على التقصير أيضاً في حق الحاج والمعمر وأما المتمتع فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خيره بين الحلق والتقصير كما في رواية البخاري بلفظ "ثم يحلقوا أو يقصروا" .
وظاهر الحديث استواء الأمرين في حق المتمتع وفصل المصنف في الفتح فقال: إن كان بحيث يطلع شعره فالأولى له الحلق وإلا فالتقصير ليقع الحلق في الحج وبين وجه التفصيل في الفتح.
وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير إجماعاً، وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس "ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير" وأخرج الترمذي من حديث عليّ عليه السلام "نهى أن تحلق المرأة رأسها" وهل يجزيء لو حلقت قال بعض الشافعية يجزي ويكره لها ذلك.
25- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع) أي يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة (فجعلوا يسألونه فقال رجل: ) قال المصنف: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد (لم أشعر) أي لم أفطن ولم أعلم (فحلقت قبل أن أذبح قال: "اذبح) أي الهدي، والذبح ما يكون في الحلق (ولا حرج") أي لا إثم (وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت) النحر ما يكون في اللبة (قبل أن أرمي) جمرة العقبة (قال: "ارْم ولا حرج" فما سئل يومئذ عن شيء قدّم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" متفق علي.
اعلم أن الوظائف على الحاج يوم النحر أربع: الرمي لجمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق والتقصير، ثم طواف الإفاضة هذا هو الترتيب المشروع فيها وهكذا فعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حجته، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أتى منى فأَتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى فنحر وقال للحالق: "خذه" ولا نزاع في هذا للحاج مطلقاً ونازع بعض الفقهاء في القارن فقال: لا يحلق حتى يطوف.
والحديث دليل على أنه يجوز تقديم بعض هذه الأشياء وتأخيرها وأنه لا ضيق ولا إثم على من قدم أو أخر. فاختلف العلماء في ذلك.
فذهب الشافعي وجمهور السلف وفقهاء أصحاب الحديث والعلماء إلى الجواز وأنه لا يجب الدم على من فعل ذلك لقوله للسائل "ولا حرج" فإنه ظاهر في نفي الإثم والفدية معاً لأن اسم الضيق يشملهما قال الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل إذ لو لم يجزئه لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المكلف الحكم الذي يلزمه في الحج كما لو ترك

(2/211)


الرمي ونحوه فإنه لا يأثم بتركه ناسياً أو جاهلاً لكن يجب عليه الإعادة، وأما الفدية فالأظهر سقوطها على الناسي والجاهل وعدم سقوطها عن العالم.
قال ابن دقيق العيد: القول بسقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج بقول: "خذوا عني مناسككم" وهذه السؤالات المرخصة بالتقديم لما وقع السؤال عنه إنما قرنت بقول السائل "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحالة ويحمل قوله "لا حرج" على نفي الإثم والدم معاً في الناسي والجاهل ويبقى العامد على أصل وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج، والقائل بالتفرقة بين العامد وغيره قد مشى أيضاً على القاعدة في أن الحكم إذا رتب على وصف يمكن بأن يكون معتبراً لم يجز اطراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذه، والحكم علق به فلا يمكن اطراحه بإلحاق العامد به إذ لا يساويه.
قال: وأما التمسك بقول الراوي: "فما سئل عن شيء" إلى آخره لإشعاره بأن الترتيب مطلقاً غير مراعى فجوابه أن هذه الأخبار من الراوي تتعلق بما وقع السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه فلا تبقى حجة في حال العمد.
26- وعن المِسْوَر) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو فراء (ابن مَخْرَمَة رضي الله عنه) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء زهري قرشي مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين وسمع منه وحفظ عنه انتقل من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ولم يزل بها إلى أن حاصرها عسكر يزيد فقتله حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي في أول سنة أربع وستين وكان من أهل الفضل والدين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك . رواه البخاري.
فيه دلالة على تقديم النحر قبل الحلق وتقدّم قريباً أن المشروع تقديم الحلق قبل الذبح فقيل حديث المسور هذا إنما هو إخبار عن فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم في عمرة الحديبية حيث أحصر فتحلل صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم بالذبح. وقد بوّب عليه البخاري: "باب النحر قبل الحلق في الحصر" وأشار البخاري إلى أن هذا الترتيب يختص بالمحصر على جهة الوجوب فإنه أخرجه بمعناه هذا وقد أخرجه بطوله في كتاب الشروط وفيه أنه قال لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" وفيه قول أم سلمة له صلى الله عليه وسلم "اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك فخرج فنحر بدنه ثم دعا حالقه فحلقه" الحديث وكان الأحسن تأخير المصنف له إلى باب الإحصار.
27- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا رمَيْتُم وحلقتم فَقَدْ حَلَّ لكُمْ الطّيب وكلُّ شيءٍ إلا النساءَ" رواهُ أَحمد وأَبو داود وفي إسناده ضَعْفٌ.
لأنه من رواية[تض] الحجاج بن أرطأة[/تض] وله طرق أخر مدارها عليه.
وهو يدل على أنه بمجموع الأمرين رمي جمرة العقبة والحلق يحل كل محرم على المحرم إلا النساء فلا يحل وطؤهن إلا بعد طواف الإفاضة والظاهر أنه مجمع على حل الطيب وغيره إلا الوطء بعد الرمي وإن لم يحلق.

(2/212)


28- وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "ليس على النّساءِ حَلّقٌ وإنما يُقصِّرْن" رواهُ أبو داود بإسْنَادٍ حَسَنٍ.
تقدم ذكر هذا الحكم في الشرح وأنه ليس في حقهن، فإن حلقن أجزأ.
29- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه استأذن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته) وهي ماء زمزم فإنهم كانوا يغترفونه بالليل ويجعلونه في الحياض سبيلاً (فأذن له . متفق عليه).
فيه دليل على أنه يجب المبيت بمنى ليلة ثاني النحر وثالثه إلا لمن له عذر، وهذا يروى عن أحمد.
والحنفية قالت: إنه سنة. قيل: إنه يختص هذا الحكم بالعباس دون غيره، وقيل: بل وبمن يحتاج إليه في سقايته وهو الأظهر، لأنه لا يتم له وحده إعداد الماء للشاربين، وهل يختص بالماء أو يلحق به ما في معناه من الأكل وغيره وكذا حفظ ماله وعلاج مريضه وهذا الإلحاق رأي الشافعي ويدل للإلحاق الحديث وهو قوله:
30- (وعن عاصم بن عدي رضي الله عنه) هو أبو عبد الله أو عمر أو عمرو حليف بني عبيد بن زيد من بني عمرو بن عوف من الأنصار شهد بدراً والمشاهد بعدها، وقيل: لم يشهد بدراً وإنما أخرج إليها معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فردّه إلى أهل مسجد الضرار لشيء بلغه عنهم وضرب له سهمه وأجره فكان كمن شهدها. مات سنة خمس وأربعين، وقيل: استشهد يوم اليمامة وقد بلغ مائة وعشرين سنة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر) جمرة العقبة ثم ينفرون ولا يبيتون بمنى (ثم يرمون يومين) أي يرمون اليوم الثالث لذلك اليوم واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الثاني (ثم يرمون يوم النفر) أي اليوم الرابع إن لم يتعجلوا (رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان).
فإن فيه دليلاً على أنه يجوز لأهل الأعذار عدم المبيت بمنى وأنه غير خاص بالعباس ولا بسقايته وأنه لو أحدث أحد سقاية جاز له ما جاز لأهل سقاية زمزم.
31- وعن أَبي بَكْرَة رضي الله عنه قال: "خَطَبَنَا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوْم النّحر" متّفقٌ عليه.
فيه شرعية الخطبة يوم النحر وليست خطبة العيد فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصل العيد في حجته ولا خطب خطبته.
واعلم أن الخطب المشروعات في الحج ثلاث عند المالكية والحنفية: الأولى: سابع ذي الحجة، والثانية: يوم عرفة، والثالثة: ثاني النحر. وزاد الشافعي رابعة في يوم النحر وجعل الثالثة في ثالث النحر لا في ثانية، قال: لأنه أول النفر. وقالت المالكية والحنفية: إن خطبة يوم النحر لا تعد خطبة إنما هي وصايا عامة، لأنها مشروعة في الحج. ورد عليهم بأن الصحابة سموها خطبة، وبأنها اشتملت على مقاصد الخطبة كما أفاده لفظها وهو قوله: "تدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى، قال: "أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس ذي الحجة؟" قلنا: بلى، قال: " أي بلد هذا؟" قلنا:

(2/213)


الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: "أليست البلدة الحرام؟" قلنا: بلى: قال: "فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟" قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". أخرجه البخاري. فاشتمل الحديث على تعظيم البلد الحرام ويوم النحر وشهر ذي الحجة والنهي عن الدماء والأموال، والنهي عن رجوعهم كفاراً، وعن قتالهم بعضهم بعضاً، والأمر بالإبلاغ عنه، وهذه من مقاصد الخطب ويدل على شرعية خطبة ثاني يوم النحر.
32- وعن سَرّاء بفتح المهملة وتشديد الراء ممدودة (بنت نَبْهان بفتح النون وسكون الموحدة (قالت: خطبنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الرؤوس فقال: "أليس هذا أوسط أيام التشريق؟" الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن) وهذه هي الخطبة الرابعة، ويوم الرؤوس ثاني يوم النحر بالاتفاق. وقوله: "أوسط أيام التشريق" يحتمل أفضلها ويحتمل الأوسط بين الطرفين. وفيه دليل على أن يوم النحر منها. ولفظ حديث السراء قالت: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "أتدرون أي يوم هذا قالت: وهو اليوم الذي يدعونه يوم الرؤوس قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "هذا أوسط أيام التشريق" قال: أتدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا المشعر الحرام" قال: "إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا ألا وإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة بلدكم هذا حتى تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم ألا هل بلغت" فلما قدمنا المدينة لم يلبث إلا قليلا حتى مات.
33- وعن عائشة رضي الله عنْها: "أَنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ لهَا: "طوافُك بالبيت وسعيك بين الصّفا والمروة يكفيك لحجِّك وعمرتك" رواهُ مسلمٌ.
فيه دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة وإليه ذهب جماعة من الصحابة والشافعي وغيره. وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا بد من طوافين وسعيين فالأحاديث متواردة على معنى حديث عائشة عن ابن عمر وجابر وغيرهما. واستدل من قال بالطوافين بقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله} ولا دليل في ذلك، فإن التمام حاصل وإن لم يطف إلا طوافاً واحداً، وقد اكتفى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بطواف وسعي واحد وكان قارنا كما هو الحق؛ واستدلوا أيضاً بحديث رواه زياد بن مالك قال في الميزان: زياد بن مالك عن ابن مسعود ليس بحجة، وقال البخاري: لا يعرف له سماع من عبد الله وعنه روي حديث "القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين". واعلم أنّ عائشة كانت قد أهلت بعمرة ولكنها حاضت فقال لها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ارفضي عمرتك" قال النووي: معنى رفضها إياها رفض العمل فيه وإتمام أعمالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس فأمرها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالإعراض عن أفعال العمرة وأن تحرم بالحج، فتصير قارنة وتقف بعرفات، وتفعل المناسك كلها، إلا الطواف فتؤخره حتى تطهر. ومن أدلة أنها صارت قارنة قوله صلى الله عليه وسلم لها: "طوافك

(2/214)


بالبيت" الحديث فإنه صريح أنها كانت متلبسة بحج وعمرة ويتعين تأويل قوله صلى الله عليه وسلم : "ارفضي عمرتك" بما ذكره النووي، فليس معنى ارفضي العمرة الخروج منها وإبطالها بالكلية فإن الحج والعمرة لا يصح الخروج منهما بعد الإحرام بهما بنية الخروج، وإنما يصح بالتحلل منهما بعد فراغهما.
34- وعن ابن عبّاس رضي اللَّهُ عَنْهما "أنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمْ يرْمُل في السبع الذي أَفاض فيه" رواه الخمسة إلا الترمذيَّ وصحّحهُ الحاكِمُ. فيه دليل أنه لا يشرع الرمل الذي سلفت مشروعيته في طواف القدوم في طواف الزيارة وعليه الجمهور.
35- وعن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب) بالمهملتين فموحدة بزنة مكرم اسم مفعول: الشِّعب الذي مخرجه إلى الأبطح وهو خيف بني كنانة (ثم ركب إلى البيت فطاف به) أي طواف الوداع (رواه البخاري) وكان ذلك يوم النحر الآخر وهو ثالث أيام التشريق فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رمى الجمار يوم النفر بعد الظهر وأخر صلاة الظهر حتى وصل المحصب ثم صلى الصلوات فيه كما ذكر. واختلف السلف والخلف هل التحصيب سنة أم لا؟ فقيل: سنة. وقيل: لا؛ إنما هو منزل نزله النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد فعله الخلفاء بعده تأسياً به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وذهب ابن عباس إلى أنه ليس من المناسك المستحبة، وإلى مثله ذهبت عائشة كما دل له الحديث وهو قوله.
36- وعنْ عائشة رضي الله عنْها "أنّها لم تكن تفعل ذلك: أَي النزول بالأبطح، وتقُولُ: إنّما نزله رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأنّهُ كان منزلاً أَسمح لخرُوجه" رواه مُسلمٌ أي أسهل لخروجه من مكة راجعاً إلى المدينة، قيل: والحكمة في نزوله فيه إظهار نعمة الله باعتزاز دينه، وإظهار كلمته، وظهوره على الدين كله، فإن هذا المحل هو الذي تقاسمت فيه قريش على قطيعة بني هاشم وكتبوا صحيفة القطيعة في القصة المعروفة. وإذا كانت الحكمة هي هذه فهي نعمة عل الأمة أجمعين فينبغي نزوله لمن حج من الأمة إلى يوم الدين.
37- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أُمر) بضم الهمزة (الناس) نائب الفاعل (أن يكون آخرُ عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض. متفق عليه) الآمر للناس هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك المخفف عن الحائض، وغيّر الراوي الصيغة، للعلم بالفاعل، وقد أخرجه مسلم وأحمد عن ابن عباس بلفظ: "كان الناس ينصرفون في كل وجهة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ينفرن أحد حتى يكون آخرُ عهده بالبيت". وهو دليل على وجوب طواف الوداع، وبه قال جماهير السلف والخلف وخالف الناصر ومالك وقالا: لو كان واجباً لما خفف عن الحائض، وأجيب بأن التخفيف دليل الإيجاب، إذ لو لم يكن واجباً لما أطلق عليه لفظ التخفيف والتخفيف عنها دليل على أنه لا يجب عليها فلا تنتظر الطهر ولا يلزمها دم بتركه لأنه ساقط عنها من أصله. ووقت طواف الوداع من ثالث النحر فإنه يجزيء إجماعاً وهل يجزيء قبله؟ والأظهر عدم إجزائه لأنه آخر المناسك واختلفوا إذا أقام

(2/215)


بعده هل يعيده أم لا؟ قيل: إذا بقي بعده لشراء زاد وصلاة جماعة لم يُعده، وقيل يعيده إذا قام لتمريض ونحوه، وقال أبو حنيفة: لا يعيد ولو أقام شهرين ثم هل يشرع في حق المعتمر قيل: لا يلزمه لأنه لم يرد إلا في الحج وقال الثوري: يجب على المعتمر أيضاً وإلا لزمه دم.
38- وعن ابن الزبير رضي الله عنهما) هو عند الإطلاق يراد به عبد الله (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صلاةٌ في مسجدي هذا" الإشارة تفيد أنه الموجود عند الخطاب فلا يدخل في الحكم ما يزيد فيه "أفضل من ألف صلاةٍ" وفي رواية: خيرٌ، وفي أخرى "تعدل ألف صلاة " فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجدِ الْحرام أفضلُ من صلاةٍ في مسجدي هذا بمائة صلاةً" وفي لفظ عند ابن ماجه وابن زنجويه وابن عساكر من حديث أنس "صلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة" إسناده ضعيف وفي لفظ عند أحمد من حديث ابن عمر "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وفي لفظ عن جابر "أفضل من ألف صلاة فيما سواه" أخرجه أحمد وغيره (رواه أحمد وصحّحه ابن حبان) وروى الطبراني عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" ورواه ابن عبد البر من طريق البزار ثم قال: هذا إسناد حسن. قلت: فعلى هذا يحمل قوله في حديث ابن الزبير بمائة صلاة أي من صلاة مسجدي فتكون مائة ألف صلاة فيتوافق الحديثان. قال أبو محمد بن حزم: ورواه ابن الزبير عن عمر بن الخطاب بسند كالشمس في الصحة ولا مخالف لهما من الصحابة فصار كالإجماع وقد روي بألفاظ كثيرة عن جماعة من الصحابة وعددهم فيما اطلعت عليه خمسة عشر صحابياً وسرد أسماءهم. وهذا الحديث وما في معناه دال على أفضلية المسجدين على غيرهما من مساجد الأرض وعلى تفاضلهما فيما بينهما وقد اختلفت أعداد المضاعفة كما عرفت والأكثر دال على عدم اعتبار مفهوم الأقل والحكم للأكثر لأنه صريح. وسبقت إشارة إلى أن الأفضلية في مسجده صلى الله عليه وسلم خاصة بالموجود في عصره قال النووي: لقوله في مسجدي فالإضافة للعهد. قلت: ولقوله هذا، ومثل ما قاله النووي من الاختصاص نقل المصنف عن ابن عقيل الحنبلي. وقال الآخرون: إنه لا اختصاص للموجود حال تكلمه صلى الله عليه وسلم بل كل ما زيد فيه داخل في الفضيلة وفائدة الإضافة الدلالة على اختصاصه دون غيره من مساجد المدينة لا أنها للاحتراز عما يزاد فيه. قلت: بل فائدة الإضافة الأمران معاً، قال من عمم الفضيلة فيما زيد فيه: إنه يشهد لهذا ما رواه ابن أبي شيبة والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة مرفوعاً "لو مدّ هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي" وروى الديلمي مرفوعاً "هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه" وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري وهو واه. وأخرج الديلمي أيضاً حديثاً آخر في معناه إلا أنه حديث معضل، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: زاد عمر في المسجد،

(2/216)


من شامية ثم قال: لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وفيه عبد العزيز بن عمران المدني متروك. ولا يخفى عدم نهوض هذه الأثار إذ المرفوع معضل وغيره كلام صحابي. ثم هل تعم هذه المضاعفة الفرض والنفل أو تخص بالأول؟ قال النووي: إنها تعمهما وخالفه الطحاوي والمالكية مستدلين بحديث "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته المكتوبة" . وقال المصنف: يمكن بقاء حديث "أفضل صلاة المرء" على عمومه فتكون النافلة في بيته في مكة أو المدينة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما وكذا في المسجد وإن كانت في البيوت أفضل مطلقاً. قلت: ولا يخفى أن الكلام في المضاعفة في المسجد لا في البيوت في المدينة ومكة إذا لم ترد فيهما المضاعفة بل في مسجديهما وقال الزركشي وغيره: إنها تضاعف النافلة في مسجد المدينة ومكة وصلاتها في البيوت أفضل قلت: يدل لأفضلية النافلة في البيوت مطلقاً محافظته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على صلاة النافلة في بيته وما كان يخرج إلى مسجده إلا لأداء الفرائض مع قرب بيته من مسجده. ثم هذا التضعيف لا يختص بالصلاة بل قال الغزالي: كل عمل في المدينة بألف. وأخرج البيهقي عن جابر مرفوعاً "الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام شهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان فيما سواه إلا المسجد الحرام" وعن ابن عمر نحوه، وقريب منه للطبراني في الكبير عن بلال بن الحارث.

(2/217)


باب الفوات والإحصار
الحصر: المنع، قاله: أكثر أئمة اللغة، والإحصار: هو الذي يكون بالمرض والعجز والخوف ونحوها وإذا كان بالعدوّ قيل له الحصر، وقيل: هما بمعنى واحد.
1- عن ابن عباس رضي الله عنْهُما قال: "قَدْ أُحْصر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَحَلَق رأسه وجامع نساءَهُ ونحر هَدْيهُ حتى اعتمر عاماً قابلا" رواه البُخاريُّ. اختلف العلماء بماذا يكون الإحصار؟
فقال الأكثر: يكون من كل حابس يحبس الحاج من عدوّ ومرض وغير ذلك حتى أفتى ابن مسعود رجلاً لدغ بأنه محصر، وإليه ذهب طوائف من العلماء منهم الهادوية والحنفية وقالوا: إنه يكون بالمرض والكبر والخوف، وهذه منصوص عليها ويقاس على سائر الأعذار المانعة، ويدل عليه عموم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الآية وإن كان سبب نزولها إحصار النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالعدو فالعام لا يقصر على سببه.
وفيه ثلاثة أقوال أُخر أحدهما: أنه خاص به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنه لا حصر بعده.
والثاني: أنه خاص بمثل ما اتفق له صلى الله عليه وسلم فلا يلحق به إلا من أحصره عدوّ كافر.
والثالث: أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو كافراً كان أو باغياً. والقول المصدر هو أقوى الأقوال، وليس في غيره من الأقوال إلا آثار وفتاوى للصحابة.
هذا وقد تقدّم حديث البخاري، وأنه صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وذلك في قصة الحديبية قالوا: وحديث ابن عباس هذا لا يقتضي

(2/217)


الترتيب كما عرفت ولم يقصده ابن عباس إنما قصد وصف ما وقع من غير نظر إلى ترتيب.
وقوله: "ونحر هديه" هو إخبار بأنه كان معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم هدي نحره هنالك ولا يدل كلامه على إيجابه.
وقد اختلف العلماء في وجوب الهدي على المحصر، فذهب الأكثر إلى وجوبه.
وخالف مالك فقال: لا يجب والحق معه فإنه لم يكن مع كل المحصرين هَدْي وهذا الهدي الذي كان معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ساقه من المدينة متنفلا به، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} والآية لا تدل على الإيجاب أعني قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وحققناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار.
وقوله: "حتى اعتمر عاماً قابلا" قيل: إنه يدل على إيجاب القضاء على من أحصر والمراد من أحصر عن النفل وأما من أحصر عن واجبه من حج أو عمرة فلا كلام أنه يجب عليه الإتيان بالواجب إن منع من أدائه. والحق أنه لا دلالة في كلام ابن عباس على إيجاب القضاء فإن ظاهر ما فيه أنه أخبر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اعتمر عاماً قابلا ولا كلام أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اعتمر في عام القضاء، ولكنه عمرة أخرى ليس قضاء عن عمرة الحديبية. أخرج مالك بلاغاً: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر أحداً من أصحابه ولا ممن كان معه يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء.
وقال الشافعي: فحيث أحصر ذبح وحل ولا قضاء عليه من قِبل أن الله تعالى لم يذكر قضاء؛ ثم قال: لأنا علمنا من تواطيء أحاديثهم أنه كان معه في عام الحديبية رجال معروفون ثم اعتمر عمرة القضاء فتخلف بعضهم في المدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلوا عنه. وقال: إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين قريش لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة.
وقول ابن عباس "ونحر هديه" اختلف العلماء هل نحره يوم الحديبية في الحل أو في الحرم، وظاهر قوله تعالى: والهدي معكوفا أن يبلغ محله} أنهم نحروه في الحل؛ وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال:
الأول: للجمهور أنه يذبح هديه حيث يحل في حل أو حرم.
الثاني: للهادوية والحنفية أنه لا ينحره إلا في الحرم.
الثالث: لابن عباس وجماعة أنه إن كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه ولا يحل حتى ينحر في محله وإن كان لا يستطيع البعث به إلى الحرم نحره في محل إحصاره، وقيل إنه نحره في طرف الحديبية وهو من الحرم، والأول أظهر.
2- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ضُبَاعَة) بضم المعجمة ثم موحدة مخففة (بنت الزبير بن عبد المطلب) بن هاشم بن عبد مناف، بنت عم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تزوجها المقداد ابن عمرو فولدت له عبد الله وكريمة، روى عنها ابن عباس وعائشة وغيرهما قاله ابن الأثير في الجامع الكبير. (فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "حُجي واشترطي أنَّ محلي حيث حبستني" متفق عليه فيه دليل على أن المحرم إذا اشترط في إحرامه ثم

(2/218)


عرض له المرض فإن له أن يتحلل وإليه ذهب طائفة من الصحابة والتابعين ومن أئمة المذاهب أحمد وإسحاق وهو الصحيح من مذهب الشافعي ومن قال: إن عذر الإحصار يدخل فيه المرض، قال: يصير المريض محصراً له حكمه.
وظاهر هذا الحديث أنه لا يصير محصراً بل يحل حيث حصره المرض ولا يلزمه ما يلزم المحصر من هدي ولا غيره.
وقال طائفة من الفقهاء: أنه لا يصح الاشتراط ولا حكم له قالوا: وحديث ضباعة قصة عين موقوفة مرجوحة أو منسوخة أو أن الحديث ضعيف وكل ذلك مردود إذ الأصل عدم الخصوصية وعدم النسخ. والحديث ثابت في الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة.
ودل مفهوم الحديث أن من لم يشترط في إحرامه فليس له التحلل ويصير محصراً له حكم المحصر على ما هو الصواب على أن الإحصار يكون بغير العدو.
3- وعن عكرمة) هو أبو عبد الله عكرمة مولى عبد الله بن عباس أصله من البربر يسمع من ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم ونسب إليه أنه يرى رأي الخوارج وقد أطال المصنف في ترجمته في مقدمة الفتح وأطال الذهبي فيه في الميزان والأكثرون على إطراحه وعدم قبوله: (عن الحجاج بن عمرو) بن أبي غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد المثناة التحتية (الأنصاري رضي الله عنه) المازني نسبة إلى جده مازن بن النجار قال البخاري: له صحبة روى عنه حديثين هذا أحدهما (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: منْ كُسر) مغير الصيغة (أوْ عَرجَ) بفتح المهملة الراء وهو محرم لقوله (فقد حلّ وعليه الحج من قابل") إذا لم يكن قد أتى الفريضة (قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما عن ذلك فقالا: صدق) في إخباره عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (رواه الخمسة وحسنه الترمذي).
والحديث دليل على أن من أحرم فأصابه مانع من مرض مثل ما ذكره أو غيره فإنه بمجرّد حصول ذلك المانع يصير حلالا.
فأفادت الثلاثة الأحاديث أن المحرم يخرج عن إحرامه بأحد ثلاث أمور:
إما بالإحصار بأي مانع كان، أو بالاشتراط، أو بحصول ما ذكر من حادث كسر أو عرج وهذا فيمن أحصر وفاته الحج.
وأما من فاته الحج لغير إحصار فإنه اختلف العلماء في حكمه فذهب الهادوية وآخرون إلى أنه يتحلل بإحرامه الذي أحرمه للحج بعمرة، وعن الأسود قال: "سألت عمر عمن فاته الحج وقد أحرم به فقال: يهل بعمرة وعليه الحج من قابل ثم لقيت زيد بن ثابت فسألته فقال: مثله" أخرجهما البيهقي.
وقيل يهل بعمرة ويستأنف لها إحراماً آخر، وقالت الهادوية: ويجب عليه دم لفوات الحج، وقالت الشافعية والحنفية: لا يجب عليه إذ يشرع له التحلل، وقد تحلل بعمرة والأظهر ما قالوه لعدم الدليل على الإيجاب والله أعلم.

(2/219)