سبل
السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي المجلد الرابع
كتاب الحدود
باب حد الزاني
...
كتاب الحدود
الحدود جمع حد والحد أصله ما يحجز به بين
شيئين فيمنع اختلاطهما سميت هذه العقوبات
حدودا لكونها تمنع عن المعاودة ويطلق الحد على
التقدير وهذه الحدود مقدرة من الشارع ويطلق
الحد على نفس المعاصي نحو قوله تعالى: {تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وعلى فعل
فيه شيء مقدر نحو قوله تعالى: {وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ}
باب حد الزاني
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد
الجهني رضي الله عنهما أن رجلا من الأعراب أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله: "أنشدك" قال في الفتح:ضمن أنشدك معنى
أذكرك فحذف الباء أي أذكرك الله رافعا نشيدتي
أي صوتي وهو بفتح أوله فنون ساكتة وضم الشين
المعجمة أي أسألك الله "إلا قضيت لي بكتاب
الله تعالى" استثناء مفرغ إذ المعنى لا أنشدك
إلا القضاء بكتاب الله فقال الآخر وهو أفقه
منه كأن الراوي يعرف أنه أفقه منه أو من كونه
سأل أهل الفقه نعم فاقض بيننا بكتاب الله
وائذن لي فقال: "قل" قال: إن ابني كان عسيفا
بالعين المهملة والسين المهملة فمثناة تحتية
ففاء كأجير وزنا ومعنى على هذا فزنى بامرأته
وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه
بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن
ما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على
امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب
الله الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد
مائة وتغريب عام -كأنه قد علم صلى الله عليه
وسلم أنه غير محصن وقد كان اعترف بالزنا-
"واغد يا أنيس " تصغير أنس رجل من الصحابة لا
ذكر له إلا في هذا الحديث "إلى امرأة
(4/3)
هذا فإن اعترفت
فارجمها" متفق عليه وهذا اللفظ لمسلم الحديث
دليل على وجوب الحد على الزاني غير المحصن
مائة جلدة وعليه دل القرآن وأنه يجب عليه
تغريب عام وهو زيادة على ما دل عليه القرآن
ودليل على أنه يجب الرجم على الزاني المحصن
وعلى أنه يكفي في الاعتراف بالزنا مرة واحدة
كغيره من سائر الأحكام وإلى هذا ذهب الحسن
ومالك والشافعي وداود وآخرون وذهبت الهادوية
والحنفية والحنابلة وآخرون إلى أنه يعتبر في
الإقرار بالزنا أربع مرات مستدلين بما يأتي من
قصة ماعز ويأتي الجواب عنه في شرح حديثه وأمره
صلى الله عليه وسلم أنيسا برجمها بعد اعترافها
دليل لمن قال بجواز حكم الحاكم في الحدود
ونحوها بما أقر به الخصم عنده وهو أحد قولي
الشافعي وبه قال أبو ثور كما نقله القاضي عياض
وقال الجمهور: لا يصح ذلك قالوا وقصة أنيس
يطرقها احتمال الأعذار وأن قوله فارجمها بعد
إعلامه صلى الله عليه وسلم أو أنه فوض الأمر
إليه والمعنى فإذا اعترفت بحضرة من يثبت ذلك
بقوله حكمت قلت ولا يخفى أن هذه تكلفات واعلم
أنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلى المرأة
لأجل إثبات الحد عليها فإنه صلى الله عليه
وسلم قد أمر باستتار من أتى بفاحشة وبالستر
عليه ونهى عن التجسس وإنما ذلك لأنها لما قذفت
المرأة بالزنا بعث إليها صلى الله عليه وسلم
لتنكر فتطالب بحد القذف أو تقر بالزنا فيسقط
عنه فكان منها الإقرار فأوجبت على نفسها الحد
ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن
عباس أن رجلا أقر أنه زنى بامرأة فجلده النبي
صلى الله عليه وسلم مائة ثم سأل المرأة فقالت
كذب فجلده جلد الفرية ثمانين وقد سكت عليه أبو
داود وصححه الحاكم واستنكره النسائي
2- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال" قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا
عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد
مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"
رواه مسلم إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} بين به
أنه قد جعل الله تعالى لهن السبيل بما ذكره من
الحكم وفي الحديث مسألتان الأولى حكم البكر
إذا زنى والمراد بالبكر ثم الفقهاء الحر
البالغ الذي لم يجامع في نكاح صحيح وقوله
بالبكر هذا خرج مخرج الغالب لا أنه يراد به
مفهومه فإنه يجب على البكر الجلد سواء كان مع
بكر أو ثيب كما في قصة العسيف وقوله نفي سنة
فيه دليل على وجوب التغريب للزاني البكر عاما
وأنه من تمام الحد وإليه ذهب الخلفاء الأربعة
ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم وادعي فيه
الإجماع وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا
يجب التغريب واستدل الحنفية بأنه لم يذكر في
آية النور فالتغريب زيادة على النص وهو ثابت
بخبر الواحد فلا يعمل به لأنه يكون ناسخا
وجوابه أن الحديث مشهور لكثرة طرقه وكثرة من
عمل به من الصحابة وقد عملت الحنفية بمثله بل
بدونه كنقض الوضوء من القهقهة وجواز الوضوء
بالنبيذ وغير ذلك مما هو زيادة على ما في
القرآن وهذا منه وقال
(4/4)
ابن المنذر
أقسم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف
أنه يقضي بكتاب الله ثم قال: إن عليه جلد مائة
وتغريب عام وهو المبين لكتاب الله وخطب بذلك
عمر على رؤوس المنابر وكأن الطحاوي لما رأى
ضعف جواب الحنفية هذا أجاب عنهم بأن حديث
التغريب منسوخ بحديث "إذا زنت أمة أحدكم
فليجلدها" ثم قال في الثالثة "فليبعها" والبيع
يفوت التغريب قال: وإذا سقط عن الأمة سقط عن
الحرة لأنها في معناها قال: ويتأكد بحديث "لا
تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" قال: وإذا انتفى
عن النساء انتفى عن الرجال انتهى
وفيه ضعف لأنه مبني على أن العام إذا خص لم
يبق دليلا وهو ضعيف كما عرف في الأصول ثم نقول
الأمة خصصت من حكم التغريب وكان الحديث عاما
في حكمه للذكر والأنثى والأمة والعبد فخصت منه
الأمة وبقي ما عداها داخلا تحت الحكم واستدل
الهادوية بما ذكره المهدي في البحر من قوله
قلت: التغريب عقوبة لا حد لقول علي جلد مائة
وحبس سنة ولنفي عمر في الخمر ولم ينكر ثم قال:
لا أنفي بعدها أحدا والحدود لا تسقط انتهى ولا
يخفى ضعف ما قاله أما كلام علي عليه السلام
فإنه مؤيد لما قاله الجماهير فإنه جعل الحبس
عوضا عن التغريب فهو نوع منه وأما نفي عمر في
الخمر فاجتهاد منه زيادة في العقوبة ثم ظهر له
أن لا ينفي أحدا باجتهاده والنفي بالزنى بالنص
ويروى عن علي عليه السلام
وقال مالك والأوزاعي: إن المرأة لا تغرب
قالوا: لأنها عورة وفي نفيها تضييع لها وتعريض
للفتنة ولهذا نهيت عن السفر مع غير محرم ولا
يخفى أنه لا يرد ما ذكر ولأنه قد شرط من قال
بالتغريب أن تكون مع محرمها وأجرته منها إذ
وجبت بجنايتها وقيل في بيت المال كأجرة الجلاد
وأما الرقيق فإنه ذهب مالك وأحمد وغيرهما إلى
أنه لا ينفى قالوا لأن نفيه عقوبة لمالكه
لمنعه نفعه مدة غربته وقواعد الشرع قاضية أن
لا يعاقب إلى الجاني ومن ثمة سقط فرض الجهاد
والحج عن المملوك
وقال الثوري وداود: ينفي لعموم أدلة التغريب
ولقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وينصف
في حق المملوك لعموم الآية وأما مسافة التغريب
فقالوا أقلها مسافة القصر لتحصل الغربة وغرب
عمر من المدينة إلى الشام وغرب ثمان إلى مصر
ومن كان غريبا لا وطن له غرب إلى غير البلد
التي واقع فيها المعصية
المسألة الثانية في قوله: "الثيب بالثيب"
المراد بالثيب من قد وطىء في نكاح صحيح وهو
حرّ بالغ عاقل والمرأة مثله وهذا الحكم يستوي
فيه المسلم والكافر والحكم هو ما دل له قوله
"جلد مائة والرجم" فإنه أفاد أنه يجمع للثيب
بين الجلد والرجم وهو قول علي كما أخرجه
البخاري أنه جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم
الجمعة وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الشعبي: قيل لعلي جمعت بين حدين فأجاب بما
ذكر
قال الحازمي: وذهب إلى هذا أحمد وإسحاق وداود
وابن المنذر وهو مذهب الهادوية وذهب غيرهم إلى
أنه لا يجمع بين الجلد والرجم قالوا وحديث
عبادة منسوخ بقصة ماعز والغامدية واليهودية
فإنه صلى الله عليه وسلم رجمهم ولم يرو أنه
جلدهم قال الشافعي فدلت السنة على أن الجلد
ثابت على البكر ساقط عن الثيب قالوا وحديث
(4/5)
عبادة متقدم
وأجيب بأنه ليس في قصة ماعز ومن ذكر معه على
تقدير تأخرها تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم
لاحتمال أن يكون ترك روايته لوضوحه ولكونه
الأصل وقد احتج الشافعي بنظير هذا حين عورض في
إيجاب العمرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر من سأله أن يحج عن أبيه ولم يذكر العمرة
فأجاب بأن السكوت عن ذلك لا يدل على سقوطه إلا
أنه قد يقال إن جلد من ذكر من الخمسة الذين
رجمهم صلى الله عليه وسلم لو وقع مع كثرة من
يحضر عذابهما من طوائف المؤمنين يبعد أنه لا
يرويه أحد ممن حضر فعدم إثباته في رواية من
الروايات مع تنوعها واختلاف ألفاظها دليل أنه
لم يقع الجلد فيقوى معه الظن بعدم وجوبه وفعل
على ظاهر أنه اجتهاد منه لقوله جلدتها بكتاب
الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإنه ظاهر أنه عمل باجتهاده بالجمع بين
الدليلين فلا يتم القول بأنه توقيف أو إن كان
في قوله بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
يشعر بأنه توقيف قلت ولا يخفى قوة دلالة حديث
عبادة على إثبات جلد الثيب ثم رجمه ولا يخفى
ظهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلد من رجمه
فأنا أتوقف في الحكم حتى يفتح الله وهو خير
الفاتحين وكنت قد جزمت في منحة الغفار بقوة
القول بالجمع بين الجلد والرجم ثم حصل لي
التوقف هنا
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل
من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
في المسجد فناداه فقال يا رسول الله: إني زنيت
فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه أي انتقل من
الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي
يستقبل بها وجهه فقال يا رسول الله: إني زنيت
فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات فلما
شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: "أبك جنون؟" قال: لا
قال: "فهل أحصنت" بفتح الهمزة فحاء مهملة فصاد
مهملة أي تزوجت قال: نعم فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "اذهبوا به فارجموه" متفق عليه
الحديث اشتمل على مسائل
الأولى أنه وقع منه إقرار أربع مرات فاختلف
العلماء هل يشترط تكرار الإقرار بالزنا أربعا
أو لا ذهب من قدمنا ذكره وهم الحسن ومالك
والشافعي وداود وآخرون إلى عدم اشتراط التكرار
مستدلين بأن الأصل عدم اشتراطه في سائر
الأقارير كالقتل والسرقة وبأنه صلى الل عليه
وسلم قال لأنيس "فإن اعترفت فارجمها" ولم يذكر
له تكرار الاعتراف فلو كان شرطا معتبرا لذكره
صلى الله عليه وسلم لأنه في مقام البيان لا
يؤخر عن وقت الحاجة وذهب الجماهير إلى أنه
يشترط في الإقرار بالزنا أربع مرات مستدلين
بحديث ماعز هذا وأجيب عنهم بأن حديث ماعز هذا
اضطربت فيه الروايات في عدد الإقرارات فجاء
فيها أربع مرات ومثله في حديث جابر بن سمرة
عند مسلم ووقع في طريق أخرى عند مسلم أيضا
مرتين أو ثلاثا ووقع في حديث عنده أيضا في
طريق أخرى فاعترف بالزنا ثلاث مرات وقوله صلى
الله تعالى عليه وعلى وسلم في بعض الروايات
"قد شهدت على نفسك أربع مرات" حكاية لما وقع
منه معتبر وما كان ذلك إلا زيادة في الاستثبات
والتبين ولذلك سأل صلى الله عليه وسلم هل به
جنون أو هو شارب خمر وأمر من يشم رائحته وجعل
يستفسره عن الزنا
(4/6)
كما سيأتي
بألفاظ عديدة كل ذلك لأجل الشبهة التي عرضت في
أمره ولأنها قالت الجهينة أتريد أن تردني كما
رددت ماعزا فعلم أن الترديد ليس بشرط في
الإقرار وبعد فلو سلمنا أنه لا اضطراب وأنه
أقر أربع مرات فهذا فعل منه أمره صلى الله
عليه سلم ولا طلبه لتكرار إقراره بل فعله من
تلقاء نفسه وتقريره عليه دليل على جوازه لا
على شرطيته واستدل الجمهور بالقياس على أنه قد
اعتبر في الشهادة على الزنا أربعة ورد بأنه
استدلال واضح البطلان لأنه قد اعتبر في المال
عدلان والإقرار به يكفي مرة واحدة اتفاقا
المسألة الثانية دلت ألفاظ الحديث على أنه يجب
على الإمام الاستفصال عن الأمور التي يجب معها
الحد فإنه قد روي في هذا الحديث ألفاظ كثيرة
دالة عليه ففي حديث بريدة أنه قال: "أشربت
خمر" ا قال لا وأنه قام رجل يستنكهه فلم يجد
فيه ريحا وفي حديث ابن عباس "لعلك قبلت أو
غمزت" وفي رواية " هل ضاجعتها؟" قال نعم قال:
"فهل باشرتها؟" قال نعم قال "هل جامعتها؟" قال
نعم وفي حديث ابن عباس أنكتها لا يكني رواه
البخاري وفي حديث أبي هريرة "أنكحتها؟" قال
نعم قال "دخل ذلك منك في ذلك منها" قال نعم
قال "كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في
البئر؟" قال نعم قال تدري ما الزنا قال نعم
أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته
حلالا قال: "فما تريد بهذا القول؟" قال تطهرني
فأمر به فرجم فدل جميع ما ذكر على أنه يجب
الاستفصال والتبين وأنه يندب تلقين ما يسقط
الحد وأن الإقرار لا بد فيه من اللفظ الصريح
الذي لا المواقعة وقد روي عن جماعة من الصحابة
تلقين المقر كما أخرجه مالك عن أبي الدرداء
وعن علي عليه السلام في قصة شراحة فإنه قال
لها علي استكرهت قالت لا قال فلعل رجل أتاك في
نومك الحديث وعند المالكية أنه لا يلقن من
اشتهر بانتهاك الحرمات وفي قوله أشربت خمرا
دليل على أنه لا يصح إقرار السكران وفيه خلاف
وفيه دليل على أنه يحفر للرجل عند رجمه لأن في
حديث بريدة عند مسلم فحفر له حفيرة وفي الحديث
عند البخاري أنها لما أذلقته الحجارة هرب
فأدركناه بالحرة فرجمناه زاد في رواية حتى مات
وأخرج أبو داود أنه قال صلى الله عليه وسلم
يعني حين أخبر بهربه هلا رددتموه إلي وفي
رواية "تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه"
وأخذ من هذا الهادوية والشافعي وأحمد أنه يصح
رجوع المقر عن الإقرار فإذا هرب ترك لعله يرجع
وفي قوله صلى الله عليه وسلم "لعله يتوب"
إشكال لأنه ما جاء إلا تائبا يطلب تطهيره من
الذنب وقد أخرج أبو داود أنه قال صلى الله
عليه وسلم في قصة ماعز "والذي نفسي بيده إنه
الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" ولعله يجاب
بأن المراد لعله يرجع عن إقراره ويتوب بينه
وبين الله تعالى فيغفر له أو المراد يتوب عن
إكذابه نفسه واعلم أن قوله فأمر به فرجموه يدل
أنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر الرجم وأنه لا
يجب أن يكون أول من يرجم الإمام فيمن ثبت عليه
الحد بالإقرار وإلى هذا ذهب الشافعي
(4/7)
والهادي
والأولى حمل ذلك على الندب وعليه يحمل ما أخرج
البيهقي عن علي عليه السلام أنه قال أيما
امرأة بغى عليها ولدها أو كان اعتراف فالإمام
أول من يرجم فإن ثبت بالبينة فالشهود أول من
يرجم
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أتى
ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قال له: "لعلك قبلت أو غمزت؟" بفتح الغين
المعجمة والميم فزاي في النهاية الغمز في بعض
الأحاديث بالإشارة كالرمز بالعين والحاجب ولعل
المراد هنا الجس باليد لأنه ورد في بعض
الروايات أو لمست عوضا عنه أو نظرت قال لا يا
رسول الله رواه البخاري والمراد استفهامه هل
هو أطلق لفظ الزنا على أي هذه مجازا وذلك كما
جاء العين تزني وزناها النظر والحديث دليل على
التثبت وتلقين المسقط للحد وأنه لا بد من
التصريح في الزنا الصريح الذي لا يحتمل غير
ذلك
5- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب
فقال: إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه
الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم قرأناها
ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله صلى الله
عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس
زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله
فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم حق
في كتاب الله على من زنا إذا أحصن من الرجال
والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل بفتح
المهملة والموحدة أو الاعتراف متفق عليه زاد
الإسماعيلي بعد قوله أو الاعتراف وقد قرأناها
الشيخ والشيخة فارجموهما البتة وبين في رواية
عند النسائي محلها من السورة وأنها كانت في
سورة الأحزاب وكذلك أخرج هذه الزيادة في هذا
الحديث الموطأ عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب
وفي رواية زيادة إذا زنيا فارجموهما ألبتة
نكالا من الله والله عزيز حكيم وفي رواية لولا
أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها
بيدي وهذا القسم من نسخ التلاوة مع بقاء الحكم
وقد عده الأصوليون قسما من أقسام النسخ وفي
الحديث دليل على أنها إذا وجدت المرأة الخالية
من الزوج أو السيد حبلى ولم تذكر شبهة أنه
يثبت الحد بالحبل وهو مذهب عمر وإليه ذهب مالك
وأصحابه وقالت الهادوية والشافعي وأبو حنيفة
أنه لا يثبت الحد إلا ببينة أو اعتراف لأن
الحدود تسقط بالشبهات واستدل الأولون بأنه
قاله عمر على المنبر ولم ينكر عليه فينزلت
منزلة الإجماع قلت لا يخفى أن الدليل هو
الإجماع لا ما ينزل منزلته
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة
أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب
عليها" بمثناة تحتية فمثلثة فراء فموحدة
التعنيف لفظا ومعنى "ثم إن زنت فليجلدها الحد
ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها
فليبعها ولو بحبل من شعر"
(4/8)
متفق عليه وهذا
لفظ مسلم
فيه مسائل
الأولى: دل قوله "فتبين زناها" أنه إذا علم
السيد بزنا أمته جلدها وإن لم تقم شهادة وذهب
إليه بعض العلماء وقيل المراد إذا تبين زناها
بما يتبين به في حق الحرة وهو الشهادة أو
الإقرار والشهادة تقام عند الحاكم عند الأكثر
وقال بعض الشافعية تقام عند السيد وفي قوله
فليجلدها دليل على أن ولاية جلد الأمة إلى
سيدها وإليه ذهب الشافعي وعند الهادوية أن ذلك
إذا لم يكن في الزمان إمام وإلا فالحدود إليه
والأول أقوى والمراد بالجلد الحد المعروف في
قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
المسألة الثانية قوله: "ولا يثرب عليها" ورد
في لفظ النسائي "ولا يعنفها" وهو بمعنى ما هنا
وهو نهى عن الجمع لها بين العقوبة بالتعنيف
والجلد ومن قال المراد أنه لا يقنع بالتعنيف
دون الجلد فقد أبعد
قال ابن بطال: يؤخذ منه أن كل من أقيم عليه
الحد لا يعزر بالتعنيف واللوم وإنما يليق ذلك
بمن صدر منه قبل أن يرفع إلى الإمام للتحذير
والتخويف فإذا رفع وأقيم عليه الحد كفاه ويؤيد
هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبب الذي أقيم
عليه حد الخمر وقال: "لا تكونوا عونا للشيطان
على أخيكم" وفي قوله "ثم إن زنت" إلى آخره
دليل على أن الزاني إذا تكرر منه الزنا بعد
إقامة الحد عليه تكرر عليه الحد وأما إذا زنى
مرارا من دون تخلل إقامة الحد لم يجب عليه إلا
حد واحد ويؤخذ من ظاهر قوله: "فليبعها" أنه
كان عليها الحد قال المصنف في الفتح الأرجح
أنه يجلدها قبل البيع ثم يبيعها والسكوت عنه
للعلم بأن الحد لا يترك ولا يقوم البيع مقامه
المسألة الثالثة: ظاهر الأمر وجوب بيع السيد
للأمة وأن إمساك من تكررت منه الفاحشة محرم
وهذا قول داود وأصحابه وذهب الجمهور إلى أنه
مستحب لا واجب
قال ابن بطال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على
الحض على مباعدة من تكرر منه الزنا لئلا يظن
بالسيد الرضا بذلك فيكون ديوثا وقد ثبت الوعيد
على من اتصف بالدياثة وفيه دليل على أنه لا
يجب فراق الزانية لأن لفظ أمة أحدكم عام لمن
يطؤها مالكها ومن لا يطؤها ولم يجعل الشارع
مجرد الزنا موجبا للفراق إذ لو كان موجبا لوجب
فراقها في أول مرة بل لم يوجبه إلا في الثالثة
على القول بوجوب فراقها بالبيع كما قاله داود
وأتباعه وهذا الإيجاب لا لمجرد الزنا بل
لتكريره لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك فيتصف
بالصفة القبيحة ويجري هذا الحكم في الزوجة أنه
لا يجب طلاقها وفراقها لأجل الزنا بل إن تكرر
منها وجب لما عرفت قالوا وإنما أمر ببيعها في
الثالثة لما ذكرنا قريبا ولما في ذلك من
الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا قال وحمله
بعضهم على الوجوب ولا سلف له من الأمة فلا
يشتغل به وقد ثبت النهي عن إضاعة المال فكيف
يجب بيع ماله قيمة خطيرة بالحقير ا هـ قلت:
ولا يخفى أن الظاهر مع من قال بالوجوب ولم يأت
القائل بالاستحباب بدليل على عدم الإيجاب قوله
وقد ثبت النهي عن إضاعة المال قلنا وثبت هنا
مخصص لذلك النهي وهو هذا الأمر وقد وقع
الإجماع على جواز بيع الشيء الثمين بالشيء
الحقير إذا كان البائع عالما به وكذلك إذا كان
جاهلا ثم الجمهور وقوله ولما في ذلك من
الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا فقال ليس في
الأمر ببيعها قطع لذلك إذ
(4/9)
لا ينقطع إلا
بتركها له وليس في بيعها ما يصيرها تاركة له
وقد قيل في وجه الحكم في الأمر ببيعها مع أنه
ليس من موانع الزنا أنه جواز أن تستغني عند
المشتري وتعلم بأن إخراجها من ملك السيد الأول
بسبب الزنا فتتركه خشية من تنقلها عند الملاك
أو لأنه قد يعفها بالتسري لها أو بتزويجها
المسألة الرابعة هل يجب على البائع أن يعرف
المشتري بسبب بيعها لئلا يدخل تحت قوله: "من
غشنا فليس منا" فإن الزنا عيب ولذا أمر بالحط
من القيمة يحتمل أنه لا يجب عليه ذلك لأن
الشارع قد أمره ببيعها ولم يأمره ببيان عيبها
ثم هذا المعيب ليس معلوما ثبوته في الاستقبال
فقد يتوب الفاجر ويفجر البار وكونه قد وقع
منها وأقيم عليها الحد قد صيره كغير الواقع
ولهذا نهى عن التعنيف لها وبيان عيبها قد يكون
من التعنيف وله يندب له ذكر سبب بيعها فلعله
يندب ويدخل تحت عموم المناصحة
المسألة الخامسة في إطلاق الحديث دليل على
إقامة الحد على الأمة سواء أحصنت أو لا وفي
قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
دليل على شرطية الإحصان ولكن يحتمل أنه شرط
للتنصيف في جلد المحصنة من الإماء وأن عليها
نصف الجلد لا الرجم إذ لا يتنصف فيكون فائدة
التقييد في الآية وصرح بتفصيل الإطلاق قول علي
عليه السلام: في خطبته يا أيها الناس أقيموا
على أرقائكم الحد من أحصن منهن ومن لم يحصن
رواه ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب كما
قال مالك وهذا مذهب الجمهور وذهب جماعة من
العلماء إلى أنه لا يحد من العبيد والإماء إلا
من أحصن وهو مذهب ابن عباس ولكنه يؤيد كلام
الجمهور إطلاق الحديث الآتي
7- وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما
ملكت أيمانكم " رواه أبو داود وهو في مسلم
موقوف على علي رضي الله عنه وأخرجه البيهقي
مرفوعا وقد غفل الحاكم فظن أنه لم يذكره أحد
الشيخين واستدركه عليهما
قلت: يمكن أنه استدركه لكون مسلم لم يرفعه وقد
ثبت عند الحاكم رفعه والحديث دل على ما دل
عليه الحديث الأول من إقامة الملاك الحد على
المماليك إلا أن هذا يعم ذكورهم وإناثهم فهو
أعم من الأول ودل على إقامة الحد عليهم مطلقا
أحصنوا أو لا وعلى أن إقامته إلى المالك ذكرا
كان أو أنثى واختلف في الأمة المزوجة فالجمهور
يقولون إن حدها إلى سيدها وقال مالك حدها إلى
الإمام إلا أن يكون زوجها عبدا لمالكها فأمرها
إلى السيد وظاهره أنه لا يشترط في السيد شرط
صلاحية ولا غيرها قال ابن حزم يقيمه السيد إلا
أن يكون كافرا قال لأنهم لا يقرون إلا بالصغار
وفي تسليطه على إقامة الحد على مماليكه منافاة
لذلك ثم ظاهر الحديث أن للسيد إقامة حد السرقة
والشرب وقد خالف في ذلك جماعة بلا دليل ناهض
وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع
أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق وجلد عبدا له
زنى من غير أن يرفعهما إلى الوالي وأخرج مالك
في الموطأ بسنده أن عبدا لبني عبد الله بن أبي
بكر سرق واعترف فأمرت به عائشة فقطعت يده
وأخرج الشافعي وعبد الرزاق بسندهما إلى الحسين
بن محمد بن علي أن
(4/10)
فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم حدت جارية لها زنت
ورواه ابن وهب عن ابن جريج عن عمرو بن دينار
أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله
وسلم كانت تجلد وليدتها خمسين إذا زنت وذهبت
الهادوية إلى أنه لا يقيم الحد عليه إلا
الإمام إلا أن لا يوجد إمام أقامه السيد وذهبت
الحنفية إلى أنه لا يقيم الحدود مطلقا إلا
الإمام أو من أذن له وقد استدل الطحاوي بما
أخرجه من طريق مسلم بن يسار قال كان أبو عبد
الله رجل من الصحابة يقول الزكاة والحدود
والفيء والجمعة إلى السلطان قال الطحاوي ولا
نعلم له مخالفا من الصحابة وقد تعقبه ابن حزم
فقال بل خالفه اثنا عشر نفسا من الصحابة وقد
سمعت ما روي عن الصحابة وكفي به ردا على
الطحاوي ومن ذلك ما أخرجه البيهقي عن عمرو بن
مرة وفيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت
بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم
في مجالسهم إذا زنت قال الشافعي وكان ابن
مسعود يأمر به وأبو برزة يحد وليدته
8- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن امرأة
من جهينة هي المعروفة بالغامدية أتت النبي صلى
الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا
نبي الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسن إليها فإذا
وضعت فأتني بها" ففعل فأمر بها فشكت عليها
ثيابها مبني للمجهول أي شدت وورد في رواية
عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها
فقال عمر: أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟
فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من
أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت
بنفسها الله" رواه مسلم
ظاهر قوله "فإذا وضعت فائتني بها ففعل" أنه
وقع الرجم عقيب الوضع إلا أنه قد ثبت في رواية
أخرى أنها رجمت بعد أن فطمت ولدها وأتت به وفي
يده كسرة خبز ففي رواية الكتاب طي واختصار قال
النووي بعد ذكر الروايتين وهما في صحيح مسلم:
ظاهرهما الاختلاف فإن الثانية صريحة في أن
رجمها كان بعد فطامه وأكله الخبز والأولى أنه
رجمها عقيب الولادة فيجب تأويل الأولى وحملها
على وفق الثانية فيكون قوله في الرواية الأولى
قام رجل من الأنصار فقال إلى رضاعه إنما قاله
بعد الفطام و أراد برضاعه كفايته وتربيته
وسماه رضاعا مجازا انتهى باختصار والحديث دليل
على وجوب الرجم وتقدم الكلام فيه وأما شد
ثيابها عليها فلأجل أن لا تكشف عند اضطرابها
من مس الحجارة واتفق العلماء أنها ترجم المرأة
قاعدة والرجل قائما إلا عند مالك فقال قاعدا
وقيل يتخير الإمام بينهما وفي الحديث دليل أنه
صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة بنفسه إن
صحت الرواية فصلى بالبناء للمعلوم إلا أنه قال
الطبري: إنها بضم الصاد وكسر اللام قال وكذا
هو في رواية ابن أبي شيبة وأبي داود وفي رواية
لأبي داود فأمرهم أن يصلوا ولكن أكثر الرواة
لمسلم بفتح الصاد وفتح اللام وظاهر قول عمر
صلي عليها أنه صلى الله عليه وسلم باشر الصلاة
بنفسه وهو يؤيد رواية الأكثر لمسلم والقول بأن
المراد من صلى أمر
(4/11)
بأن يصلي وأنه
أسند إليه صلى الله عليه وسلم لكونه الآمر
خلاف الظاهر فإن الأصل الحقيقة وعلى كل تقدير
فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها
أو أمر بالصلاة فالقول بكراهة الصلاة على
المرجوم يصادم النص إلا أن تخص الكراهة بمن
رجم بغير الإقرار لجواز أنه لم يتب فهذا ينزل
على الخلاف في الصلاة على الفساق فالجمهور أنه
يصلي عليهم ولا دليل مع المانع عن الصلاة
عليهم وفي الحديث دليل على أن التوبة لا تسقط
الحد وهو أصح القولين عند الشافعية والجمهور
والخلاف في حد المحارب إذا تاب قبل القدرة
عليه فإنه يسقط بالتوبة عند الجمهور لقوله
تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}
9- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال
رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من
أسلم يريد ماعز بن مالك ورجلا من اليهود
وامرأة يريد الجهنية رواه مسلم وقصة اليهوديين
في الصحيحين من حديث ابن عمر أما حديث ماعز
والجهنية فتقدما وفي الحديث دليل على إقامة
الحد على الكافر إذا زنى وهو قول الجمهور وذهب
المالكية ومعظم الحنفية إلى اشتراط الإسلام
وأنه شرط للإحصان الموجب للرجم ونقل ابن عبد
البر الاتفاق عليه ورد قوله بأن الشافعي وأحمد
لا يشترطان ذلك ودليلهما وقوع التصريح بأن
اليهوديين اللذين زنيا كانا قد أحصنا وقد أجاب
من اشترط الإسلام عن الحديث هذا بأنه صلى الل
عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة وليس من
حكم الإسلام في شيء وإنما هو من باب تنفيذ
الحكم عليهما بما في كتابهما فإن في التوراة
الرجم على المحصن وعلى غيره قال ابن العربي
إنما رجمهما لإقامة الحجة عليهما بما لا يرده
في شرعه مع قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ومن ثمة استدعى
شهودهما لتقوم عليهما الحجة منهم ورده الخطابي
بأن الله تعالى قال وأن احكم بينهم بما أنزل
الله وإنما جاءه القوم سائلين الحكم عنده كما
دلت عليه الرواية فنبههم على ما كتموه من حكم
التوراة ولا جائز أن يكون حكم الإسلام عنده
مخالفا لذلك لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ فدل
على أنه إنما حكم بالناسخ انتهى قلت: ولا يخفى
احتمال القصة للأمرين والقول الأول مبني على
عدم صحة شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض
والثاني مبني على جوازه وفيه خلاف معروف وقد
دلت القصة على صحة أنكحة أهل الكتاب لأن ثبوت
الإحصان فرع عن ثبوت صحته وأن الكفار مخاطبون
بفروع الشرائع كذا قيل قلت أما الخطاب بفروع
الشرائع ففيه نظر لتوقفه على أنه حكم صلى الله
عليه وسلم بشرعة لا بما في التوراة على أحد
احتمالين
10- وعن سعيد بن سعد بن عبادة هو أنصاري قال
الواقدي صحبته صحيحة كان واليا لعلي بن أبي
طالب على اليمن قال كان بين أبياتنا جمع بيت
رويجل تصغير رجل ضعيف فخبث بالخاء المعجمة
فموحدة فمثلثة أي فجر بأمة من إمائهم فذكر ذلك
سعيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"اضربوه حده فقالوا يا رسول الله إنه أضعف من
ذلك قال "خذوا عثكالا" بكسر العين فمثلثة بزنة
قرطاس وهو العذق
(4/12)
فيه مائة شمراخ
بالشين المعجمة أوله وراء آخره خاء معجمة بزنة
عثكال وهو غصن دقيق في أصل العثكال "ثم اضربوه
ضربة واحدة" ففعلوا رواه أحمد والنسائي وابن
ماجه وإسناده حسن لكن اختلفوا في وصله وإرساله
قال البيهقي المحفوظ عن أبي أمامة أي ابن سهل
بن حنيف كونه مرسلا وأخرجه أحمد وابن ماجه من
حديث أبي أمامة عن سعيد بن سعد بن عبادة
موصولا وقد أسلفنا لك غير مرة أن هذا ليس بعلة
قادحة بل روايته موصولا زيادة من ثقة مقبولة
والمراد هنا بالعثكال الغصن الكبير الذي يكون
عليه أغصان صغار وهو للنخل كالعنقود للعنب وكل
واحد من تلك الأغصان يسمى شمراخا وفي الحديث
دليل على أن من كان ضعيفا لمرض ونحوه ولا يطيق
إقامة الحد عليه بالمعتاد أقيم عليه بما
يحتمله مجموعا دفعة واحدة من غير تكرار للضرب
مثل العثكول ونحوه وإلى هذا ذهب الجماهير
قالوا ولا بد أن يباشر المحدود جميع الشماريخ
ليقع المقصود من الحد وقيل يجزىء وإن لم يباشر
جميعه وهو الحق فإنه لم يخلق الله العثاكيل
مصفوفة كل واحد إلى جنب الآخر عرضا منتشرة إلى
تمام مائة قط ومع عدم الانتشار يمتنع مباشرة
كل عود منها فإن كان المريض يرجى زوال مرضه أو
خيف عليه شدة حر أو برد أخر الحد عليه إلى
زوال ما يخاف
11- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم
لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ومن وجدتموه
وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" رواه
أحمد والأربعة ورجاله موثقون إلا أن فيه
اختلافا ظاهره أن الاختلاف في الحديث جميعه لا
في قوله "و من وجدتموه" إلخ فقط وذلك أن
الحديث قد روي عن ابن عباس مفرقا وهو مختلف في
ثبت كل واحد من الأمرين أما الحكم الأول فإنه
قد أخرج البيهقي من حديث سعيد بن جبير ومجاهد
عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية قال
يرجم وأخرج عنه أنه قال ينظر أعلى بناء في
القرية فيرمى به منكسا ثم يتبع بالحجارة وأما
الثاني فإنه أخرج عن عاصم بن بهدلة عن أبي ذر
عن ابن عباس أنه سئل عن الذي يأتي البهيمة قال
لا حد عليه فهذا الاختلاف عنه دل على أنه ليس
عنده سنة فيهما عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإنما تكلم باجتهاده كذا قيل في بيان وجه
قول المصنف إن فيه اختلافا
والحديث فيه مسألتان
الأولى فيمن عمل عمل قوم لوط ولا ريب أنه
ارتكب كبيرة وفي حكمها أقوال:
الأول: أنه يحد حد الزاني قياسا عليه يجامع
إيلاج محرم في فرج محرم وهذا قول الهادوية
وجماعة من السلف والخلف وإليه رجع الشافعي
واعتذروا عن الحديث بأن فيه مقالا فلا ينتهض
على إباحة دم المسلم إلا أنه لا يخفى أن هذه
الأوصاف التي جمعوها علة لإلحاق اللواط بالزنا
لا دليل على علتها
والثاني: يقتل الفاعل والمفعول به محصنين كانا
أو غير محصنين للحديث المذكور وهو للناصر
وقديم قولي الشافعي وكان طريقة الفقهاء أن
يقولوا في القتل فعل ولم ينكر فكان إجماعا
سيما مع تكريره من أبي بكر وعلي وغيرهما وتعجب
في المنار من قلة الذاهب إلى هذا مع وضوح
دليله لفظا
(4/13)
وبلوغه إلى حد
يعمل به سندا
الثالث: أنه يحرق بالنار فأخرج البيهقي أنه
اجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
على تحريق الفاعل والمفعول به وفيه قصة وفي
إسناده إرسال وقال الحافظ المنذري حرق اللوطية
بالنار أربعة من الخلفاء أبو بكر الصديق وعلي
بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد
الملك
الرابع: أنه يرمى به من أعلى بناء في القرية
منكسا ثم يتبع بالحجارة رواه البيهقي عن علي
رضي الله عنه وتقدم عن ابن عباس رضي الله
عنهما المسألة الثانية فيمن أتى بهيمة دل
الحديث على تحريم ذلك وأن حد من يأتيها قتله
وإليه ذهب الشافعي في أخير قوليه وقال إن صح
الحديث قلت به وروي عن القاسم وذهب الشافعي في
قول له أنه يجب حد الزنا قياسا على الزاني
وذهب أحمد بن حنبل والمؤيد والناصر وغيرهم إلى
أنه يعزر فقط إذ ليس بزنا والحديث قد تكلم فيه
بما عرفت ودل على وجوب قتل البهيمة مأكولة
كانت أو لا وإلى ذلك ذهب علي رضي الله عنه
وقول الشافعي وقيل لابن عباس ما شأن البهيمة
قال ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ذلك شيئا ولكن أرى أنه كره أن يؤكل من
لحمها أو ينتفع بها بعد ذلك العمل ويروى أنه
قال في الجواب إنها ترى فيقال هذه التي فعل
بها ما فعل وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه
يكره أكلها فظاهره أنه لا يجب قتلها
قال الخطابي: الحديث هذا معارض بنهيه صلى الله
عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكله قال
المهدي فيحتمل أنه أراد عقوبته بقتلها إن كانت
له وهي مأكولة جمعا بين الأدلة
12- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم ضرب وغرب وأن أبا بكر ضرب وغرب
وأن عمر ضرب وغرب رواه الترمذي ورجاله ثقات
إلا أنه اختلف في ورفعه وقفه وأخرج البيهقي أن
عليا عليه السلام جلد ونفى من البصرة إلى
الكوفة ومن الكوفة إلى البصرة وتقدم تحقيق ذلك
في التغريب وكأنه ساقه المصنف ردا على من زعم
نسخ التغريب
13- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين" جمع
مخنث بالخاء المعجمة فنون فمثلثة اسم مفعول أو
اسم فاعل روي بهما "من الرجال والمترجلات من
النساء" وقال: "أخرجوهم من بيوتكم" رواه
البخاري اللعن منه صلى الله عليه وسلم على
مرتكب المعصية دال على كبرها وهو محتمل
الإخبار والإنشاء كما قدمناه والمخنث من
الرجال المراد به من تشبه بالنساء في حركاته
وكلامه وغير ذلك من الأمور المختصة بالنساء
والمراد من تخلق بذلك لا من كان ذلك من خلقته
وجبلته والمراد بالمترجلات من النساء
المتشبهات بالرجال هكذا ورد تفسيره في حديث
آخر أخرجه أبو داود وهذا دليل على تحريم تشبه
الرجال بالنساء وبالعكس وقيل لا دلالة للعن
على التحريم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يأذن
في المخنثين بالدخول على النساء وإنما نفي من
سمع منه وصف المرأة بما لا يفطن له إلا من كان
له إربة فهو لأجل تتبع أوصاف الأجنبية قلت
(4/14)
يحتمل أن من
أذن له كان ذلك صفة له خلق لا تخلقا هذا وقال
ابن التين أما من انتهى في التشبه بالنساء من
الرجال إلى أن يؤتى في دبره وبالرجال من
النساء إلى أن تتعاطى السحق فإن لهذين الصنفين
من اللوم والعقوبة أشد ممن لم يصل إلى ذلك قلت
أما من يؤتى من الرجال في دبره فهو الذي سلف
حكمه قريبا
14- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا الحدود ما
وجدتم لها مدفعا" أخرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف
وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عائشة بلفظ
"ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم وهو"
ضعيف أيضا ورواه البيهقي عن علي رضي الله عنه
من قوله بلفظ ادرءوا الحدود بالشبهات وذكره
المصنف في التلخيص عن علي رضي الله عنه مرفوعا
وتمامه ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود قال
وفيه المختار بن نافع وهو منكر الحديث قاله
البخاري إلا أنه ساق المصنف في التلخيص عدة
روايات موقوفة صحح بعضها وهي تعاضد المرفوع
وتدل على أن له أصلا في الجملة وفيه دليل على
أنه يدفع الحد بالشبهة التي يجوز وقوعها كدعوى
الإكراه أو أنها أتيت المرأة وهي نائمة فيقبل
قولها ويدفع عنها الحد ولا تكلف البينة على ما
زعمته
15- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول
لله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا هذه
القاذورات" جمع قاذورة والمراد بها الفعل
القبيح والقول السيء مما نهى الله تعالى عنه
التي نهى الله تعالى عنها "فمن ألم بها
فليستتر بستر الله وليتب إلى الله تعالى فإنه
من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى"
رواه الحاكم وقال على شرطهما وهو في الموطأ من
مراسيل زيد ابن أسلم قال ابن عبد البر لا أعلم
هذا الحديث أسند بوجه من الوجوه ومراده بذلك
حديث مالك وأما حديث الحاكم فهو مسند مع أنه
قال إمام الحرمين في النهاية إنه صحيح متفق
على صحته قال ابن الصلاح وهذا مما يتعجب منه
العارف بالحديث وله أشباه بذلك كثيرة أوقعه
فيها اطراحه صناعة الحديث التي يفتقر إليها كل
فقيه وعالم وفي الحديث دليل على أنه يجب على
من ألم بمعصية أن يستتر ولا يفضح نفسه
بالإقرار ويبادر إلى التوبة فإن أبدى صفحته
للإمام والمراد بها هنا حقيقة أمره وجب على
الإمام إقامة الحد وقد أخرج أبو داود مرفوعا
تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد
وجب
(4/15)
باب حد القذف
القذف لغة الرمي بالشيء وفي الشرع الرمي بوطء
يوجب الحد على المقذوف
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت لما نزل عذري
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر
فذكر ذلك وتلا القرآن من قوله: {إِنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ} إلى آخر
(4/15)
ثماني عشرة آية
على إحدى الروايات في العدد "فلما نزل أمر
برجلين" هما حسان ومسطح وامرأة هي حمنة بنت
جحش "فضربوا الحد" أخرجه أحمد والأربعة وأشار
إليه البخاري في الحديث ثبوت حد القذف وهو
ثابت لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية وظاهره أنه لم
يثبت القذف لعائشة إلا من الثلاثة المذكورين
وقد ثبت أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن
سلول ولكن لم يثبت أنه جلده صلى الله عليه
وسلم حد القذف وقد ذكر ذلك ابن القيم وعد أعذر
في تركه صلى الله عليه وسلم لحده ولكنه قد
أخرج الحاكم في الإكليل أنه صلى الله عليه
وسلم حده من جملة القذفة وأما قول المارودي
إنه صلى الله عليه وسلم لم يجلد أحدا من
القذفة لعائشة وعلله بأن الحد إنما يثبت ببينة
أو إقرار فقد رد قوله بأنه ثبت ما يوجبه بنص
القرآن وحد القاذف يثبت بعدم ثبوت ما قذف به
ولا يحتاج في إثباته إلى بينة قلت ولا يخفى أن
القرآن لم يعين أحدا من القذفة وكأنه يريد ما
ثبت في تفسير الآيات فإنه ثبت أن الذي تولى
كبره عبد الله بن أبي بن سلول وأن مسطحا من
القذفة وهو المراد بنزول قوله تعالى: {وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ
وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى}
الآية
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أول
لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه
هلال بن أمية بامرأته فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم البينة وإلا فحد في ظهرك الحديث
أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات وفي البخاري نحوه
من حديث ابن عباس قوله أول لعان قد اختلفت
الروايات في سبب نزول آية اللعان ففي رواية
أنس أنها نزلت في قصة هلال وفي أخرى أنها نزلت
في قصة عويمر العجلاني ولا ريب أن أول لعان
كان بنزولها لبيان الحكم وجمع بينهما بأنها
نزلت في شأن هلال وصادف مجيء عويمر العجلاني
وقيل غيرذلك والحديث دليل على أن الزوج إذا
عجز عن البينة على ما ادعاه من ذلك الأمر وجب
عليه الحد إلا أنه نسخ وجوب الحد عليه
بالملاعنة وهذا من نسخ السنة بالقرآن إن كانت
آية جلد القذف وهي قوله: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية سابقة نزولا
على آية اللعان وإلا فآية اللعان إما ناسخة
على تقدير تراخي النزول عند من يشترطه لقذف
الزوج أو مخصصة إن لم يتراخ النزول أو تكون
آية اللعان قرينة على أنه أريد بالعموم في
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ} الخصوص وهو من عدا القاذف
لزوجته من باب استعمال العام في الخاص بخصوصه
كذا قيل والتحقيق أن الأزواج القاذفين
لأزواجهم باقون في عموم الآية وإنما جعل الله
تعالى شهادة الزوج أربع شهادات قائمة مقام
الأربعة الشهداء ولذا سمي الله أيمانه شهادة
فقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فإذا نكل عن الأيمان
وجب جلده جلد القذف كما أنه إذا رمى أجنبية
أجنبي ولم يأت بأربعة شهداء جلد للقذف
فالأزواج باقون في عموم {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} داخلون في حكمه
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "البينة وإلا
فحد في ظهرك" وإنما أنزل الله آيات اللعان
لإفادة أنه إذا فقد الزوج البينة وهم الأربعة
الشهداء فقد جعل الله تعالى عوضهم الأربع
الأيمان وزاد
(4/16)
الخامسة
للتأكيد والتشديد وجلد الزوج بالنكول قول
الجمهور فكأنه قيل في الآية الأولى ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء ولم يحلفوا إن كانوا
أزواجا لمن رموا
وغايته أنها قيدت الآية الثانية بعض أفراد
عموم الأولى بقيد زائد عوضا عن القيد الأول
إذا فقد الأول والله أعلم
3- وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة هو أبو
عمران عبد الله بن عامر القارىء الشامي كان
عالما حافظا لما رواه في الطبقة الثانية من
التابعين أحد القراء السبعة روى عن وائلة بن
الأسقع وغيره وقرأ القرآن على المغيرة بن شهاب
المخزومي عن عثمان بن عفان ولد سنة إحدى
وعشرين من الهجرة ومات سنة ثماني عشرة ومائة
قال لقد أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم
فلم أرهم يضربون المملوك ذكرا كان أو أنثى في
القذف إلا أربعين رواه مالك والثوري في جامعه
دل على أن رأي من ذكر تنصيف حد القذف على
المملوك ولا يخفى أن النص ورد في تنصيف حد
الزنا في الإماء بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} فكأنهم قاسوا عليه حد القذف في
الأمة إذ كانت قاذفة وخصوا بالقياس عموم
والذين يرمون المحصنات ثم قاسوا العبد على
الأمة في تنصيف الحد في الزنا والقذف بجامع
الملك وعلى رأي من يقول بعدم دخول المماليك في
العمومات لا تخصيص إلا أنه مذهب مردود في
الأصول وهذا مذهب الجماهير من علماء الأمصار
وذهب ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز إلى أنه
رأي الظاهرية والتحقيق أن القياس غير تام هنا
لأنهم جعلوا العلة في إلحاق العبد بالأمة
الملك ولا دليل على أنه العلة إلا ما يدعونه
من السير والتقسيم والحق أنه ليس من مسالك
العلة وأي مانع من كون الأنوثة جزء العلة لنقص
حد الأمة لأن الإماء يمتهن ويغلبن ولذا قال
تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ
مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
أي لهن ولم يأت مثل ذلك في الذكور إذ لا
يغلبون على أنفسهم وحينئذ نقول إنه لا يلحق
العبد بالأمة في تنصيف حد الزنا ولا القذف
وكذلك الأمة لا ينصف لها حد القذف بل يحد لها
كحد الحرة ثمانين جلدة ودعوى الإجماع على
تنصيفه في حد الزنا غير صحيحة لخلاف داود وأما
في القذف فقد سمعت الخلاف منه ومن غيره
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من قذف مملوكه يقام
عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال"
متفق عليه فيه دليل على أنه لا يحد المالك في
الدنيا إذا قذف مملوكه وإن كان داخلا تحت عموم
آية القذف بناء على أنه لم يرد بالإحصان
الحرية ولا التزوج وهو لفظ مشترك يطلق على
الحر
(4/17)
وعلى المحصن
وعلى المسلم لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه
يحد لقذفه مملوكه يوم القيامة ولو وجب حده في
الدنيا لم يجب حده يوم القيامة إذ قد ورد أن
هذه الحدود كفارات لمن أقيمت عليه وهذا إجماع
وأما إذا قذف العبد غير مالكه فإنه أيضا أجمع
العلماء على أنه لا يحد قاذفه إلا أم الولد
ففيها خلاف فذهب الهادوية والشافعية و أبو
حنيفة إلى أنه لا حد أيضا على قاذفها لأنها
أيضا مملوكة قبل موت سيدها وذهب مالك
والظاهرية إلى أنه يحد وصح ذلك عن ابن عمر
(4/18)
باب حد السرقة
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق إلا
في ربع دينار فصاعدا" نصب على الحال ويستعمل
بالفاء وبثم ولا يأتي بالواو قيل معناه ولو
زاد وإذا زاد لم يكن إلا صاعدا فهو حال مؤكدة
متفق عليه واللفظ لمسلم ولفظ البخاري "تقطع يد
السارق في ربع دينار فصاعدا" وفي رواية لأحمد
أي عن عائشة وهي
2- "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو
أدنى من ذلك" إيجاب حد السرقة ثابت بالقرآن:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} الآية ولم يذكر في القرآن نصاب
ما يقطع فيه فاختلف العلماء في مسائل الأولى
هل يشترط النصاب أو لا ذهب الجمهور إلى
اشتراطه مستدلين بهذه الأحاديث الثابتة وذهب
الحسن والظاهرية والخوارج إلى أنه لا يشترط بل
يقطع في القليل والكثير لإطلاق الآية ولما
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال صلى
الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة
فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" وأجيب بأن
الآية مطلقة في جنس المسروق وقدره والحديث
بيان لها وبأن المراد من حديث البيضة غير
القطع بسرقتها بل الإخبار بتحقير شأن السارق
وخسارة ما ربحه من السرقة وهو أنه إذا تعاطى
هذه الأشياء الحقيرة وصار ذلك خلقا له جرأه
على سرقة ما هو أكثر من ذلك مما يبلغ قدره ما
يقطع به فليحذر هذا القليل قبل أن تملكه
العادة فيتعاطى سرقة ما هو أكثر من ذلك ذكر
هذا الخطابي وسبقه ابن قتيبة إليه ونظيره حديث
"من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة" وحديث
تصدقي "ولو بظلف محرق" ومن المعلوم أن مفحص
القطاة لا يصح تسبيله ولا التصدق بالظلف
المحرق لعدم الانتفاع بها فما قصد صلى الله
عليه وسلم إلا المبالغة في الترهيب الثانية
اختلف الجمهور في قدر النصاب بعد اشتراطهم له
على أقوال بلغت إلى عشرين قولا والذي قام
الدليل عليه
(4/18)
منها قولان
الأول أن النصاب الذي تقطع به ربع دينار من
الذهب وثلاثة دراهم من الفضة وهذا مذهب فقهاء
الحجاز و الشافعي وغيرهم مستدلين بحديث عائشة
المذكور فإنه بيان لإطلاق الآية وقد أخرجه
الشيخان كما سمعت وهو نص في ربع الدينار قالوا
والثلاثة الدراهم قيمتها ربع دينار ولما يأتي
من أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته
ثلاثة دراهم قال الشافعي إن الثلاثة الدراهم
إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع
واحتج له أيضا بما أخرجه ابن المنذر أنه أتى
عثمان بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم من
حساب الدينار باثني عشر فقطع وأخرج أيضا أن
عليا عليه السلام قطع في ربع دينار كانت قيمته
درهمين ونصفا وقال الشافعي ربع الدينار موافق
الثلاثة الدراهم وذلك أن الصرف على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر درهما
بدينار وكان كذلك بعده ولهذا قومت الدية اثني
عشر ألفا من الورق وألف دينار من الذهب القول
الثاني للهادوية وأكثر فقهاء العراق أنه لا
يوجب القطع إلا سرقة عشرة دراهم ولا يجب في
أقل من ذلك واستدلوا لذلك بما أخرجه البيهقي
والطحاوي من طريق محمد بن إسحاق من حديث ابن
عباس أنه كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم عشرة دراهم وروى أيضا محمد بن
إسحاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
مثله قالوا وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن
عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن وإن
كان فيهما أن قيمته ثلاثة دراهم لكن هذه
الرواية قد عارضت رواية الصحيحين والواجب
الاحتياط فيما يستباح به العضو المحرم قطعه
إلا بحقه فيجب الأخذ بالمتيقن وهو الأكثر وقال
ابن العربي: ذهب سفيان الثوري مع جلالته في
الحديث إلى أن القطع لا يكون إلا في عشرة
دراهم وذلك أن اليد محرمة بالإجماع فلا تستباح
إلا بما أجمع عليه والعشرة متفق على القطع بها
عند الجميع فيتمسك به ما لم يقع الاتفاق على
دون ذلك قلت قد أستفيد من هذه الروايات
الاضطراب في قدر قيمة المجن من ثلاثة دراهم أو
عشرة أو غير ذلك مما ورد في قدر قيمته ورواية
ربع دينار في حديث عائشة صريحة في المقدار فلا
يقدم عليها ما فيه اضطراب على أن الراجح أن
قيمة المجن ثلاثة دراهم لما يأتي من حديث ابن
عمر المتفق عليه وباقي الأحاديث المخالفة له
لا تقاومه سندا وأما الاحتياط بعد ثبوت الدليل
فهو في اتباع الدليل لا فيما عداه على أن
رواية التقدير لقيمة المجن بالعشرة جاءت من
طريق ابن إسحق ومن طريق عمرو بن شعيب وفيها
كلام معروف وإن كنا لا نرى القدح في ابن إسحق
إنما ذكروه كما قررناه في مواضع أخر المسألة
الثالثة اختلف القائلون بشرطية النصاب فيما
يقدر به غير الذهب والفضة فقال مالك في
المشهور يقوم بالدراهم لا بربع الدينار يعني
إذا اختلف صرفها مثل أن يكون ربع دينار صرف
درهمين مثلا وقال الشافعي الأصل في تقويم
الأشياء هو الذهب
(4/19)
لأنه الأصل في
جواهر الأرض كلها قال الخطابي ولذلك فإن
الصكاك القديمة كان يكتب فيها عشرة دراهم وزن
سبعة مثاقيل فعرفت الدارهم بالدنانير وحصرت
بها حتى قال الشافعي إن الثلاثة الدراهم إذا
لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع كما
قدمنا وقال بقول الشافعي في التقويم أبو ثور
والأوزاعي وداود وقال أحمد بقول مالك في
التقويم بالدراهم وهذان القولان في قدر النصاب
تفرعا عن الدليل كما عرفت وفي الباب أقوال كما
قدمنا لم ينهض لها دليل فلا حاجة إلى شغل
الأوراق والأوقات بالقال والقيل
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى
الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم"
متفق عليه المجن بكسر الجيم الترس مفعل من
الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وكسرت ميمه
لأنه آلة في الاستتار قال:
وكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص
كاعبان ومغفري
وقد عرفت مما مضى أن الثلاثة الدراهم ربع
دينار ويدل له قوله وفي رواية حصول ولا تقطعوا
فيما هو أدنى من ذلك بعد أن ذكر القطع في ربع
الدينار ثم أخبر الراوي هنا أنه صلى الله عليه
وسلم قطع في ثلاثة دراهم ما ذاك إلا لأنها ربع
دينار وإلا لنا في قوله ولا تقطعوا فيما هو
أدنى من ذلك وقوله هنا قيمته هذا هو المعتبر
أعني القيمة وورد في بعض ألفاظ هذا الحديث عمد
الشيخين بلفظ ثمنه ثلاثة دراهم
قال ابن دقيق العيد: المعتبر القيمة وما ورد
في بعض الروايات من ذكر الثمن فكأنه لتساويهما
عند الناس في ذلك الوقت أو في عرف الراوي أو
باعتبار الغلبة وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن
الذي شراه به مالكه لم يعتبر إلا القيمة
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق
يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده"
متفق عليه أيضا تقدم أنه من أدلة الظاهرية
ولكنه مؤول بما ذكر قريبا والموجب لتأويله ما
عرفته من قوله في المتفق عليه "لا تقطع يد
السارق إلا في ربع دينار" وقوله فيما أخرجه
أحمد ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك فتعين
تأويله بما ذكرناه وأما تأويل الأعمش له بأنه
أريد بالبيضة بيضة الحديد وبالحبل حبل السفن
فغير صحيح لأن الحديث ظاهر في التهجين على
السارق لتفويته العظيم بالحقير قيل فالوجه في
تأويله أن قوله لتقطع خبر لا أمر ولا فعل وذلك
ليس بدليل لجواز أن يريد صلى الله عليه وسلم
أنه يقطعه من لا يراعي النصاب أو بشهادة على
النصاب ولا يصح إلا دونه أو نحو ذلك
5- وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال مخاطبا لأسامة: "أتشفع في
حد من حدود الله؟" ثم قام فخطب فقال: "أيها
الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا
سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف
أقاموا عليه الحد" متفق عليه واللفظ لمسلم وله
من
(4/20)
وجه آخر عن
عائشة قالت: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فتكون يدها
الخطاب في قوله: "أتشفع" لأسامة بن زيد كما
يدل له ما في البخاري أن قريشا أهمتهم المرأة
المخزومية التي سرقت قالوا من يكلم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومن يجترىء عليه إلا أسامة
حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال "أتشفع" الحديث
وهذا استفهام إنكار وكأنه قد سبق علم أسامة
بأنه لا شفاعة في حد وفي الحديث مسألتان
الأولى النهي عن الشفاعة في الحدود وترجم
البخاري في باب كراهية الشفاعة في الحد إذا
رفع إلى السلطان وقد دل لما قيده من أن
الكراهة بعد الرفع ما في بعض روايات هذا
الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم قال لأسامة
"لما تشفع لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت
إلي فليس بمتروكة" وأخرج أبو داود من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه تعافوا
الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب
وصححه الحاكم وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من
حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "من حالت شفاعته دن حد من
حدود الله فقد ضاد الله في أمره" وأخرج ابن
أبي شيبة من وجه أصح عن ابن عمر موقوفا وفي
الطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ فقد
ضاد الله في ملكه وأخرج الدارقطني من حديث
الزبير موصولا بلفظ اشفعوا ما لم يصل إلى
الوالي فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله
عنه وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قال لقي
الزبير سارقا فشفع فيه فقيل حتى يبلغ الإمام
فقال إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع
قيل وهذا الموقوف هو المعتمد وتأتي قصة الذي
سرق رداء صفوان ورفعه إليه صلى الله عليه سلم
ثم أراد أن لا يقطعه فقال صلى الله عليه سلم:
"هلا قبل أن تأتيني به" ويأتي من أخرجه وهذه
الأحاديث متعاضدة على تحريم الشفاعة بعد
البلوغ إلى الإمام وأنه يجب على الإمام إقامة
الحد وادعى ابن عبد البر الإجماع على ذلك
ومثله في البحر ونقل الخطابي عن مالك أنه فرق
بين من عرف بأذية الناس وغيره فقال لا يشفع في
الأول مطلقا وفي الثاني تحسن الشفاعة قبل
الرفع وفي حديث عن عائشة أقيلوا ذوي الهيئات
إلا في الحدود ما يدل على جواز الشفاعة في
التعزيرات لا في الحدود ونقل ابن عبد البر
الاتفاق على ذلك المسألة الثانية في قوله كانت
امرأة تستعير المتاع وتجحده وأخرجه النسائي
بلفظ استعارت امرأة على ألسنة ناس يعرفون وهي
لا تعرف فباعته وأخذت ثمنه وأخرجه عبد الرزاق
بسند صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن أن امرأة
جاءت فقالت إن فلانة تستعير حليا فأعارتها
إياه فمكثت لا تراه فجاءت إلى التي استعارت
لها فسألتها فقالت ما استعرتك شيئا فرجعت إلى
الأخرى فأنكرت فجاءت إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فدعاها فسألها فقالت والذي بعثك بالحق ما
استعرت منها شيئا فقال: "اذهبوا إلى بيتها
تجدوه تحت فراشها فأتوه وأخذوه فأمر بها
فقطعت" والحديث دليل على أنه يجب القطع على
جحد العارية وهو مذهب أحمد وإسحاق والظاهرية
ووجه دلالة الحديث على ذلك واضحة فإنه صلى
الله عليه سلم رتب القطع على جحد العارية وقال
ابن دقيق العيد إنه لا يثبت الحكم المرتب على
الجحود
(4/21)
حتى يتبين
ترجيح رواية من روى أنها كانت جاحدة على رواية
من روى أنها كانت سارقة وذهب الجماهير أنه لا
يجب القطع في جحد العارية قالوا لأن الآية في
السارق والجاحد لا يسمى سارقا ورد هذا ابن
القيم وقال إن الجحد داخل في اسم السرقة قلت
أما دخول الجاحد تحت لفظ السارق لغة فلا
تساعده عليه اللغة وأما الدليل فثبوت قطع
الجاحد بهذا الحديث قال الجمهور وحديث
المخزومية قد ورد بلفظ أنها سرقت من طريق
عائشة وجابر وعروة بن الزبير ومسعود بن الأسود
أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي وغيرهم مصرحا
بذكر السرقة قالوا فقد تقرر أنها سرقت ورواية
جحد العارية لا تدل على أن القطع كان لها بل
إنما ذكر جحدها العارية لأنه قد صار خلقا لها
معروفا فعرفت المرأة به والقطع كان للسرقة
وهذا خلاصة ما أجاب به الخطابي ولا يخفى تكلفه
ثم هو مبني على أن المعبر عنه امرأة واحدة
وليس في الحديث ما يدل على ذلك لكن في عبارة
المصنف ما يشعر بذلك فإنه جعل الذي ذكره ثانيا
رواية وهو يقتضي من حيث الإشعار العادي أنهما
حديث واحد أشار إليه ابن دقيق العيد في شرح
العمدة والمصنف هنا صنع ما صنعه صاحب العمدة
في سياق الحديث عند قال الجمهور ويؤيد ما
ذهبنا إليه الحديث الآتي وهو قوله
6- وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا
مختلس قطع" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي
وابن حبان قالوا وجاحد العارية خائن ولا يخفى
أن هذا عام لكل خائن ولكنه مخصص بجاحد العارية
ويكون القطع فيمن جحد العارية لا غيره من
الخونة وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يخص القطع
بمن استعار على لسان غيره مخادعا للمستعار منه
ثم تصرف في العارية وأنكرها لما طولب بها قال
فإن هذا لا يقطع بمجرد الخيانة بل لمشاركة
السارق في أخذ المال خفية والحديث فيه كلام
كثير لعلماء الحديث وقد صححه من سمعت وهذا دال
على أن الخائن لا قطع عليه والمراد بالخائن
الذي يضمر ما لا يظهره في نفسه والخائن هنا هو
الذي يأخذ المال خفية من مالكه مع إظهاره له
النصيحة والحفظ والخائن أعم فإنها تكون
الخيانة في غير المال ومنه خائنة الأعين وهي
مسارقة الناظر بطرفه ما لا يحل له نظره
والمنتهب المغير من النهبة وهي الغارة والسلب
وكأن المراد هنا ما كان على جهة الغلبة والقهر
والمختلس السالب من اختلسه إذا سلبه واعلم أن
العلماء اختلفوا في شرطية أن تكون السرقة في
حرز فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وهو قول للناصر
والخوارج إلى أنه لا يشترط لعدم ورود الدليل
باشتراطه من السنة ولإطلاق الآية وذهب غيرهم
إلى اشتراطه مستدلين بهذا الحديث إذ مفهومه
لزوم القطع فيما أخذ بغير ما ذكر وهو ما كان
عن خفية وأجيب بأن هذا مفهوم ولا تثبت به
قاعدة يقيد بها القرآن ويؤيد عدم اعتباره أنه
صلى الله عليه وسلم قطع يد من أخذ رداء صفوان
من تحت رأسه من المسجد الحرام وبأنه صلى الله
عليه وسلم قطع يد المخزومية وإنما كانت تجحد
(4/22)
ما تستعيره
وقال ابن بطال: كم مأخوذ في مفهوم السرقة لغة
فإن صح فلا بد من التوفيق بينه وبين ما ذكر
مما لا يدل على اعتبار الحرز فالمسألة كما ترى
والأصل عدم الشرط وأنا أستخير الله وأتوقف حتى
يفتح الله
7- وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع
في ثمر ولا كثر" هو بفتح الكاف وفتح المثلثة
جمار النخل وهو شحمه الذي في وسط النخلة كما
في النهاية رواه المذكورون وهم أحمد والأربعة
وصححه أيضا الترمذي وابن حبان كما صححا ما
قبله قال الطحاوي الحديث تلقته الأمة بالقبول
والثمر المراد به ما كان معلقا في النخل قبل
أن يجذ ويحرز وعلى هذا تأوله الشافعي وقال
حوائط المدينة ليست بحرز وأكثرها تدخل من
جوانبها والثمر اسم جامع للرطب واليابس من
الرطب والعنب وغيرهما كما في البدر المنير
وأما الكثر فوقع تفسيره في رواية النسائي
بالجمار والجمار بالجيم آخره راء بزنة رمان
وهو شحم النخل الذي في وسط النخلة كما في
النهاية والحديث فيه دليل على أنه لا يجوز
القطع في سرقة الثمر والكثر وظاهره سواء كان
على ظهر المنبت له أو قد جذ وإلى هذا ذهب أبو
حنيفة قال في نهاية المجتهد قال أبوحنيفة لا
قطع في طعام ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب
والحشيش وعمدته في منعه القطع في الطعام الرطب
قوله صلى الله عليه وسلم "لا قطع في ثمر ولا
كثر" وعند الجمهور أنه يقطع في كل محرز سواء
كان على أصله باقيا أو قد جذ سواء كان أصله
مباحا كالحشيش ونحوه أولا قالوا لعموم الآية
والأحاديث الواردة في اشتراط النصاب وأما حديث
لا قطع في ثمر ولا كثر فقال الشافعي إنه أخرج
على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم
إحراز حوائطها فترك القطع لعدم الحرز فإذا
أحرزت الحوائط كانت كغيرها
8- وعن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه لا
يعرف له اسم عداده في أهل الحجاز وروى عنه أبو
المنذر مولى أبي ذر هذا الحديث قال أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بلص قد اعترف اعترافا
ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما إخالك سرقت" قال بلى "فأعاد
عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع" وجيء به
فقال: "استغفر الله وتب إليه" فقال أستغفر
الله وأتوب إليه فقال: "اللهم تب عليه ثلاثا"
أخرجه أبو داود واللفظ له وأحمد والنسائي
ورجاله ثقات وقال الخطابي في إسناده مقال
والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة ولم يجب
الحكم به قال عبد الحق أبو المنذر المذكور في
إسناده لم يرو عنه إلا إسحق بن عبد الله بن
أبي طلحة وفي الحديث دليل على أنه ينبغي
للإمام تلقين السارق الإنكار وقد روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لسارق أسرقت قل لا قال
الرافعي لم يصححوا هذا الحديث وقال الغزالي
قوله قل لا لم يصححه الأئمة وروى البيهقي
موقوفا على أبي الدرداء أنه أتي بجارية سرقت
فقال أسرقت قولي لا فقالت لا فخلى سبيلها وروى
عبد الرزاق عن عمر أنه أتي برجل سرق فسأله
أسرقت قل لا
(4/23)
فقال لا فتركه
وساق روايات عن الصحابة دالة على التلقين
واختلف في إقرار السارق فذهبت الهادوية و أحمد
وإسحاق إلى أنه لا بد في ثبوت السرقة بالإقرار
من إقراره مرتين وكأن هذا دليلهم ولا دلالة
فيه لأنه خرج مخرج الاستثبات وتلقين المسقط
ولأنه تردد الراوي هل مرتين أو ثلاثا وكان
طريق الاحتياط لهم أن يشترطوا الإقرار ثلاثا
ولم يقولوا به وذهب الفريقان وغيرهم إلى أنه
يكفي الإقرار مرة واحدة كسائر الأقارير ولأنها
قد وردت عدة روايات لم يذكر فيها اشتراط عدد
الإقرار
9- وأخرجه أي حديث أبي أمية الحاكم من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه فساقه بمعناه وقال فيه
"اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه" بالمهملتين
وأخرجه البزار أيضا أي من حديث أبي هريرة وقال
لا بأس بإسناده الحديث دال على وجوب حسم ما
قطع والحسم الكي بالنار أي يكوى محل القطع
لينقطع الدم لأن منافذ الدم تنسد وإذا ترك
فربما استرسل الدم فيؤدي إلى التلف وفي الحديث
دلالة على أنه يأمر بالقطع والحسم الإمام
وأجرة القاطع والحاسم من بيت المال وقيمة
الدواء الذي يحسم به منه لأن ذلك واجب على
غيره
فائدة: من السنة أن تعلق يد السارق في عنقه
لما أخرجه البيهقي بسنده من حديث فضالة بن
عبيد أنه سئل أرأيت تعليق يد السارق في عنقه
من السنة قال نعم "رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم قطع سارقا ثم أمر بيده فعلقت في عنقه"
وأخرج بسنده أن عليا رضي الله عنه قطع سارقا
فمر به ويده معلقة في عنقه وأخرج عنه أيضا أنه
أقر عنده سارق مرتين فقطع يده وعلقها في عنقه
قال الراوي فكأني أنظر إلى يده تضرب صدره
10- وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغرم
السارق إذا أقيم عليه الحد" رواه النسائي وبين
أنه منقطع وقال أبو حاتم هو منكر رواه النسائي
من حديث المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن
عوف والمسور لم يدرك جده عبد الرحمن بن عوف
قال النسائي هذا مرسل وليس بثابت وكذا أخرجه
البيهقي وذكر له علة أخرى وفي الحديث دليل على
أن العين المسروقة إذا تلفت في يد السارق لم
يغرمها بعد أن وجب عليه القطع سواء أتلفها قبل
القطع أو بعده وإلى هذا ذهب الهادوية ورواه
أبو يوسف عن أبي حنيفة وفي شرح الكنز على
مذهبه تعليل ذلك بأن اجتماع حقين في حق واحد
مخالف للأصول فصار القطع بدلا من الغرم ولذلك
ثنى سرقة ما قطع به لم يقطع وذهب الشافعي
وأحمد وآخرون ورواية عن أبي حنيفة إلى أنه
يغرم لقوله صلى الله عليه وسلم "على اليد ما
أخذت حتى تؤديه" وحديث عبد الرحمن هذا لا تقوم
به حجة مع ما قيل فيه ولقوله تعالى: {لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} و "لا يحل مال امرىء مسلم
(4/24)
إلا بطيبة من
نفسه" ولأنه اجتمع في السرقة حقان حق لله
تعالى وحق للآدمي فاقتضى كل حق موجبه ولأنه
قام الإجماع أنه إذا كان موجودا بعينه أخذ منه
فيكون إذا لم يوجد في ضمانه قياسا على سائر
الأموال الواجبة وقوله اجتماع الحقين مخالف
للأصول الدعوه غير صحيحة فإن الحقين مختلفان
فإن القطع بحكمة الزجر والتغريم لتفويت حق
الآدمي كما في الغصب ولا يخفى قوة هذا القول
11- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه سلم
أنه سئل عن التمر المعلق فقال: "من أصاب بفيه
من ذي حاجة غير متخذ خبنة" بضم الخاء المعجمة
وسكون الموحدة فنون وهو معطف الإزار وطرف
الثوب "فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه
الغرامة والعقوبة ومن خرج بشيء منه بعد أن
يؤويه الجرين" هو موضع التمر الذي يجفف فيه
"فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" أخرجه أبو داود
والنسائي وصححه الحاكم قال المنذري المراد
بالثمر المعلق ما كان معلقا في النخل قبل أن
يجد ويجرن والثمر اسم جامع للرطب واليابس من
التمر والعنب وغيرهما
وفي الحديث مسائل:
الأولى: أنه إذا أخذ المحتاج بفيه لسد فاقته
فإنه مباح له
والثانية: أنه يحرم عليه الخروج بشيء منه فإن
خرج بشيء منه فلا سواده أن يكون قبل أن يجده
ويؤويه الجرين أو بعده فإن كان قبل الجذ فعليه
الغرامة والعقوبة وإن كان بعد القطع وإيواء
الجرين له فعليه القطع مع بلوغ المأخوذ النصاب
لقوله صلى الله عليه وسلم فبلغ ثمن المجن وهذا
مبني على أن الجرين حزركما هو الغالب إذ لا
قطع إلا من حرز كما يأتي الثالثة: أنه أجمل في
الحديث الغرامة والعقوبة ولكنه قد أخرج
البيهقي تفسيرها بأنها غرامة مثليه وبأن
العقوبة جلدات نكالا وقد استدل بحديث البيهقي
هذا على جواز العقوبة بالمال فإن غرامة مثليه
بالمال وقد أجازه الشافعي في القديم ثم رجع
عنه وقال لا تضاعف الغرامة على أحد في شيء
إنما العقوبه في الأبدان لا في الأموال وقال
هذا منسوخ والناسخ له قضاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم على أهل الماشية بالليل أن ما أتلفت
فهو ضامن على أهلها قال وإنما يضمنونه بالقيمة
وقد قدمنا الكلام في ذلك في حديث بهز في
الزكاة الرابعة: أخذ منه اشتراط كم في وجوب
القطع لقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن يؤويه
الجرين وقوله في الحديث الآخر " لا قطع في ثمر
ولا في حريسة الجبل فإذا آواه الجرين أو
المراح فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" أخرجه
النسائي قالوا والإحراز مأخوذ في مفهوم السرقة
فإن السرقة والاستراق هو المجيء مستترا في
خفية لأخذ مال غيره من حرز كما في القاموس
وغيره فالحرز مأخوذ في مفهوم السرقة لغة ولذا
لا يقال لمن خان أمانته سارق هذا مذهب الجمهور
وذهبت الظاهرية وآخرون إلى عدم اشتراطه عملا
بإطلاق الآية الكريمة إلا أنه لا يخفى أنه إذا
كان الحرز مأخوذا في مفهوم السرقة فلا إطلاق
في الآية والله أعلم
(4/25)
واعلم أن حريسة
الجبل بالحاء المهملة مفتوحة فراء فمثناة
تحتية فسين مهملة والجبل بالجيم فموحدة قيل هي
المحروسة أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع
لأنه ليس بموضع حرز وقيل حريسة الجبل المثناة
التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مأواها
والمراح الذي تأوي إليه الماشية ليلا كذا في
جامع الأصول وهذا الأخير أقرب بمراد الحديث
والله أعلم
12- وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال له لما أمر بقطع الذي
سرق رداءه فشفع فيه: "هلا كان ذلك قبل أن
تأتيني به" أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن
الجارود والحاكم الحديث أخرجوه من طرق منها عن
طاوس عن صفوان ورجحها ابن عبد البر وقال إن
سماع طاوس من صفوان ممكن لأنه أدرك عثمان وقال
أدركت سبعين شيخا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه سلم وللحديث قصة أخرج البيهقي عن عطاء بن
أبي رباح قال بينما صفوان بن أمية مضطجع
بالبطحاء إذ جاء إنسان فأخذ بردائه من تحت
رأسه فأتي به النبي صلى الله عليه سلم فأمر
بقطعه فقال إني أعفو وأتجاوز فقال: "فهلا قبل
أن تأتيني به" وله ألفاظ في بعضها أنه كان في
المسجد الحرام وفي أخرى في مسجد المدينة نائما
وفي الحديث دليل على أنها تقطع يد السارق فيما
كان مالكه حافظا له وإن لم يكن مغلقا عليه في
مكان قال الشافعي: رداء صفوان كان محرزا
باضطجاعه عليه وإلى هذا ذهب الشافعي والحنفية
والمالكية وقال في نهاية المجتهد: وإذا توسد
النائم شيئا فتوسده له حرز على ما جاء في رداء
صفوان قال في الكنز للحنفية ومن سرق من المسجد
متاعا وربه عنده يقطع وإن كان غير محرز
بالحائط لأن المسجد ما بني لإحراز الأموال فلم
يكن المال محرزا بالمكان انتهى وتقدم الخلاف
فالحرز واختلف القائلون بشرطيته فقال الشافعي
ومالك والإمام يحيى: إن لكل مال حرزا يخصه
فحرز الماشية ليس حرز الذهب والفضة وقال
الهادوية والحنفية ما أحرز فيه مال فهو حرز
لغيره إذ الحرز ما وضع لمنع الداخل ألا يدخل
والخارج ألا يخرج وما كان ليس كذلك فليس بحرز
لا لغة ولاشرعا وكذلك قالوا المسجد والكعبة
حرزان لآلاتهما وكسوتهما واختلفوا في القبر هل
هو حرز للكفن فيقطع آخذه أو ليس بحرز فذهب إلى
أن النباش سارق جماعة من السلف والهادي
والشافعي ومالك وقالوا يقطع لأنه أخذ المال
خفية من حرز له وقد روي عن علي عليه السلام
وعائشة وقال الثوري وأبو حنيفة لا يقطع النباش
لأن القبر ليس بحرز وفي المنار هذه المسألة
فيها صعوبة لأن حرمة الميت كحرمة الحي لكن
حرمة يد السارق كذلك الأصل منعها ولم يدخل
النباش تحت السارق لغة والقياس الشرعي غير
واضح وإذا توقفنا امتنع القطع انتهى واختلف في
السارق من بيت المال فذهبت الهادوية و الشافعي
وأبو حنيفة إلى أنه لا يقطع من سرق من بيت
المال وروي عن عمر وذهب مالك إلى أنه يقطع
واتفقوا على أنه لا يقطع من سرق من الغنيمة
والخمس وإن لم يكن من أهلها قالوا لأنه قد
يشارك فيها بالرضخ أو من الخمس
(4/26)
13- وعن جابر
رضي الله عنه قال جيء بسارق إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: "اقتلوه" فقال إنما سرق
يا رسول الله قال: "اقطعوه" فقطع ثم جيء به
الثانية فقال: "اقتلوه" فذكر مثله ثم جيء به
الثالثة فذكر مثله ثم جيء به الرابعة كذلك ثم
جيء به الخامسة فقال "اقتلوه" أخرجه أبو داود
والنسائي تمامه ثمهما فقال جابر فانطلقنا به
فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ورمينا
عليه الحجارة واستنكره أي النسائي فإنه قال
الحديث منكر ومصعب بن ثابت ليس بقوي في الحديث
قيل لكن يشهد له الحديث الآتي وهو قوله
14- وأخرج أي النسائي من حديث الحارث بن حاطب
نحوه وأخرج حديث الحرث الحاكم وأخرج في الحلية
لأبي نعيم عن عبد الله بن زيد الجهني قال ابن
عبد البر حيث القتل منكر لا أصل له وذكر
الشافعي أن القتل في الخامسة منسوخ وزاد ابن
عبد البر في كلام الشافعي لا خلاف فيه بين أهل
العلم وفي النجم الوهاج إن ناسخه حديث لا يحل
دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث تقدم قال ابن
عبد البر وهذا يدل على أن حكاية أبي مصعب عن
عثمان وعمر بن عبد العزيز أنه يقتل لا أصل له
وجاء في رواية النسائي بعد قطع قوائمه الأربع
ثم سرق الخامسة في عهد أبي بكر رضي الله عنه
فقال أبو بكر كان رسول الله صلى الله عليه سلم
أعلم بهذا حين قال اقتلوه ثم دفعه إلى فتية من
قريش فقال اقتلوه فقتلوه قال النسائي لا أعلم
في هذا الباب حديثا صحيحا والحديث دليل على
قتل السارق في الخامسة وأن قوائمه الأربع تقطع
في الأربع المرات والواجب قطع اليمين في
السرقة الأولى إجماعا وقراءة ابن مسعود مبينة
لإجمال الآية فإنه قرأ فاقطعوا أيمانهما وفي
الثانية الرجل اليسرى عند الأكثر لفعل الصحابة
وعند طاووس اليد اليسرى لقربها من اليمنى وفي
الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى
وهذا عند الشافعي ومالك وأخرجه الدارقطني من
حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى
وسلم قال في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن
سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن
سرق فاقطعوا رجله وفي إسناده الواقدي وأخرجه
الشافعي من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وأخرج
الطبراني والدارقطني نحوه في عصمة بن مالك
وإسناده ضعيف وخالفت الهادوية والحنفية فقالوا
يحبس في الثالثة لما رواه البيهقي من حديث علي
رضي الله عنه أنه قال بعد أن قطع رجله وأتي به
في الثالثة بأي شيء يتمسح وبأي شيء يأكل لما
قيل له تقطع يده اليسرى ثم قال أقطع رجله على
أي شيء يمشي إني لأستحي من الله ثم ضربه وخلد
في السجن وأجاب الأولون بأن هذا رأي لا يقاوم
النصوص وإن كان المنصوص فيه ضعف فقد عاضدته
الروايات الأخرى وأما محل القطع فيكون من مفصل
الكف إذ هو أقل ما يسمى يدا ولفعله صلى الله
عليه وسلم فيما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو
بن شعيب أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارق
فقطع يده من مفصل الكف وفي إسناده مجهول وأخرج
ابن أبي شيبة من مرسل رجاء بن حيوة أن النبي
صلى الله عليه وسلم قطع
(4/27)
من المفصل
وأخرجه أبو الشيخ من وجه آخر عن رجاء عن عدي
رفعه وعن جابر رفعه وأخرجه سعيد بن منصور عن
عمر وقالت الإمامية ويروى عن علي عليه السلام
أنه يقطع من أصول الأصابع إذ هو أقل ما يسمى
يدا ورد ذلك بأنه لا يقال لمن قطعت أصابعه
مقطوع اليد لا لغة ولا عرفا وإنما يقال مقطوع
الأصابع وقد اختلفت الرواية عن علي عليه
السلام فروي أنه كان يقطع من يد السارق الخنصر
والبنصر والوسطى وقال الزهري والخوارج إنه
يقطع من الإبط إذ هو اليد حقيقة والأقوى الأول
لدليله المأثور وأما محل قطع الرجل فتقطع من
مفصل القدم وروي عن علي عليه السلام أنه كان
يقطع الرجل من الكعب وروي عنه وهو للإمامية
أنه من معقد الشراك
(خاتمة) أخرج أحمد وأبو داود عن عطاء عن عائشة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وقد دعت
على سارق سرقها ملحفة "لا تسبخي عنه بدعائك
عليه" ومعناه لا تخففي عنه الإثم الذي يستحقه
بالسرقة وهذا يدل على أن الظالم يخفف عنه
بدعاء المظلوم عليه وروى أحمد في كتاب الزهد
عن عمر بن عبد العزيز أنه قال بلغني أن الرجل
ليظلم مظلمة فلا يزال المظلوم يشتم الظالم
وينتقصه حتى يستوفي حقه ويكون للظالم الفضل
عليه وفي الترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "من دعا على من ظلمه فقد
انتصر" فإن قيل قد مدح الله المنتصر من البغي
ومدح العافي عن الجرم قال ابن العربي فالجواب
أن الأول محمول على ما إذا كان الباغي وقحا ذا
جرأة وفجور والثاني على من وقع منه ذلك نادرا
فتقال عثرته بالعفو عنه وقال الواحدي إن كان
الانتصار لأجل الدين فهو محمود وإن كان لأجل
النفس فهو مباح لا يحمد عليه واختلف العلماء
في التحليل من الظلامة على ثلاثة أقوال كان
ابن المسيب لا يحلل أحدا من عرض ولا مال وكان
سليمان بن يسار وابن سيرين يحللان منهما ورأى
مالك التحليل من العرض دون المال
(4/28)
باب حد الشارب وبيان المسكر
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده
بجريدتين نحو أربعين قال أي أنس وفعله أبو بكر
فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن
عوف أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر متفق عليه
الخمر مصدر خمر كضرب ونصر خمرا يسمى به الشراب
المعتصر من العنب إذا غلي وقذف بالزبد وهي
مؤنثة وتذكر ويقال خمرة وفي الحديث مسائل
الأولى أن تطلق على ما ذكر حقيقة إجماعا وتطلق
على ما هو أعم من ذلك وهو ما أسكر من العصير
أو من النبيذ أومن غير ذلك وإنما اختلف
العلماء هل هذا الإطلاق حقيقة أو لا قال صاحب
القاموس العموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة
خمر عنب ما كان إلا البسر والتمر انتهى وكأنه
يريد أن العموم حقيقة وسميت خمرا قيل لأنها
تخمر العقل أي تستره فيكون بمعنى اسم الفاعل
أي الساترة للعقل وقيل لأنها تغطى حتى تشتد
يقال خمره
(4/28)
أي غطاه فيكون
بمعنى اسم المفعول وقيل لأنها تخالط العقل من
خامره إذا خالطه ومنه هنيئا مريئا غير داء
مخامر أي مخالط وقيل لأنها تترك حتى تدرك ومنه
اختمر العجين أي بلغ إدراكه وقيل مأخوذة من
الكل لاجتماع المعاني هذه فيها قال ابن عبد
البر الأوجه كلها موجده في الخمر لأنها نزعت
حتى أدركت وسكنت فإذا شربت خالطت العقل حتى
تغلب عليه وتغطيه قلت فالخمر تطلق على عصير
العنب المشتد حقيقة إجماعا وفي النجم الوهاج
الخمر بالإجماع المسكر من عصير العنب وإن لم
يقذف بالزبد واشترط أبو حنيفة أن يقذف وحينئذ
لا يكون مجمعا عليه واختلف أصحابنا في وقوع
الخمر على الأنبذة فقال المزني وجماعة بذلك
لأن الاشتراك في الصفة يقتضي الاشتراك في
الاسم وهو قياس في اللغة وهو جائز عند الأكثر
وهو ظاهر الأحاديث ونسبه الرافعي إلى الأكثرين
أنه لا يقع عليها إلا مجازا قلت وبه جزم ابن
سيده في المحكم وجزم به صاحب الهداية من
الحنفية حيث قال الخمر عندنا ما اعتصر من ماء
العنب إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغة
وأهل العلم ورد ذلك الخطابي وقال زعم قوم أن
العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب فيقال لهم
إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب
خمرا عرب فصحاء فلو لم يكن الاسم صحيحا لما
أطلقوه وقال القرطبي الأحاديث الواردة عن أنس
وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين
القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب وما
كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم
الخمر وهو قول مخالف للغة العرب للسنة الصحيحة
ولفهم الصحابة لأنهم لما نزل تحريم الخمر
فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر
ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ
من غيره بل سووا بينهما وحرموا ما كان من غير
عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن
فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة
حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم ويأتي حديث عمر
أنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة الحديث وعمر
من أهل اللغة وإن كان يحتمل أنه أراد بيان ما
تعلق به التحريم لا أنه المسمى في اللغة لأنه
بصدد بيان الأحكام الشرعية ولعل ذلك صار أعطى
شرعيا لهذا النوع فيكون حقيقة شرعية ويدل له
حديث مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"
قال الخطابي: إن الآية لما نزلت في تحريم
الخمر وكان مسماها مجهولا للمخاطبين بين أن
مسماها هو ما أسكر فيكون مثل لفظ الصلاة
والزكاة وغيرهما من الحقائق الشرعية انتهى قلت
هذا يخالف ما سلف عنه قريبا ولا يخفى ضعف هذا
الكلام فإن الخمر كانت من أشهر الأشربة عند
العرب واسمها أشهر من كل شيء عندهم وليست
كالصلاة والزكاة وأشعارهم فيها لا تحصى فكأنه
يريد أنه ما كان تعميم الاسم بلفظ الخمر لكل
مسكر معروفا عندهم فعرفهم به الشرع فإنهم
كانوا يسمون بعض المسكرات بغير لفظ الخمر
كالأمزاز يضيفونها إلى ما يتخذ منه من ذرة
وشعير ونحوهما ولا يطلقون عليه لفظ الخمر فجاء
الشرع بتعميم الاسم لكل مسكر فتحصل مما ذكر
جميعا أن الخمر حقيقة لغوية في عصير العنب
المشتد الذي يقذف
(4/29)
بالزبد وفي
غيره مما يسكر حقيقة شرعية أو قياس في اللغة
أو مجاز فقد حصل المقصود من تحريم ما أسكر من
ماء العنب أو غيره إما بنقل اللفظ إلى الحقيقة
الشرعية أو بغيره وقد علمت أنه أطلق عمر وغيره
من الصحابة الخمر على كل ما أسكر وهم أهل
اللسان والأصل الحقيقة فقد أحسن صاحب القاموس
بقوله والعموم أصح وأما الدعاوى التي تقدمت
على اللغة كما قاله ابن سيده وشارح الكنز فما
أظنها إلا بعد تقرير هذه المذاهب إذنه تكلم كل
على ما يعتقده ونزل في قلبه من مذهبه ثم جعله
لأهل اللغة المسألة الثانية قوله فجلده
بجريدتين نحو أربعين فيه دليل على ثبوت الحد
على شارب الخمر وادعى فيه الإجماع ونوزع في
دعواه لأنه قد نقل عن طائفة من أهل العلم أنه
لا يجب فيه إلا التعزير لأنه صلى الله عليه
وسلم لم ينص على حد معين وإنما ثبت عنه الضرب
المطلق وفيه دليل على أنه يكون الجلد بالجريد
وهو سعف النخل وقد اختلف العلماء هل يتعين
الجلد بالجريد على ثلاثة أقوال أقربها جواز
الجلد بالعود غير الجريد ويجوز الاقتصار على
الضرب باليدين والنعال قال في شرح مسلم أجمعوا
على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب
ثم قال والأصح جوازه بالسوط وقال المصنف: توسط
بعض المتأخرين فعين السوط للمتمردين وأطراف
الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما
يليق بهم وقد عين قوله في الحديث نحو أربعين
ما أخرجه البيهقي وأحمد بلفظ فأمر قريبا من
عشرين رجلا فجلده كل واحد جلدتين بالجريد
والنعال قال المصنف وهذا يجمع ما اختلف فيه
على تشعبه وأن جملة الضربات كانت أربعين لا
أنه جلده بجريدتين أربعين المسألة الثالثة
قوله فلما كان عمر استشار إلى آخره سبب
استشارته ما أخرجه أبو داود والنسائي أن خالد
بن الوليد كتب إلى عمر إن الناس قد انهمكوا في
الخمر وتحاقروا العقوبة قال وعنده المهاجرون
والأنصار فسألهم فأجمعوا على أن يضرب ثمانين
وأخرج مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد أن عمر
استشار في الخمر فقال له علي بن أبي طالب عليه
السلام نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر
وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى فجلد عمر في
الخمر ثمانين وهذا حديث معضل ولهذا الأثر عن
علي طرق وقد أنكره ابن حزم كما سلف وفي معناه
نكارة لأنه قال إذا هذي إفترى لا يعد قوله
فرية لأنه لا عمد له ولا فرية إلا عن عمد وقد
أخرج عبد الرزاق قال جاءت الأخبار متواترة عن
علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يسن في الخمر شيئا ولا يخفى أن الحديث
الآتي يؤيده
2- ولمسلم عن علي في قصة الوليد بن عقبة
حققناها في منحة الغفار على ضوء النهار وفيها
أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في
الخمر فقال لعبد الله بن جعفر اجلده فجلده
فلما بلغ أربعين قال امسك جلد رسول الله صلى
الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين
وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي وفي
الحديث أن رجلا شهد عليه أنه رآه يتقيأ الخمر
فقال عثمان إنه لم يتقيأها حتى
(4/30)
شربها يريد أنه
أحب إليه مع جرأة الشاربين لا أنه أحب إليه
مطلقا فلا يرد أنه كيف يجعل فعل عمر أحب إليه
من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإن ظاهر
الإشارة إلى فعل عمر وهو الثمانون ولكنه يقال
إن ظاهر قوله أمسك بعد الأربعين دال على أنه
لم يفعل الأحب إليه وأجيب عنه بأن في صحيح
البخاري من رواية عبد الله بن عدي بن الخيار
أن عليا جلد الوليد ثمانين والقصة واحدة والذي
في البخاري أرجح وكأنه بعد أن قال وهذا أحب
إلي أمر عبد الله بتمام الثمانين وهذه أولى من
الجواب الآخر وهو أنه جلده بسوط له رأسان
فضربه أربعين فكانت الجملة ثمانين فإن هذا
ضعيف لعدم مناسبة سياقه له والروايات عنه صلى
الله عليه سلم أنه جلد في الخمر أربعين كثيرة
إلا أن في ألفاظها نحو أربعين وفي بعضها
بالنعال فكأنه فهم الصحابة أن ذلك يتقدر بنحو
أربعين جلدة واختلف العلماء في ذلك فذهبت
الهادوية و أبو حنيفة ومالك وأحمد وأحد قولي
الشافعي أنه يجب الحد على السكران ثمانين جلدة
قالوا لقيام الإجماع عليه في عهد عمر فإنه لم
ينكر عليه أحد وذهب الشافعي في المشهور عنه
وداود أنه أربعون لأنه الذي روي عنه صلى الله
عليه وسلم فعله ولأنه الذي استقر عليه الأمر
في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ومن تتبع ما في
الروايات واختلافها علم أن الأحوط الأربعون
ولا يزاد عليها وفي هذا الحديث أن رجلا شهد
على الوليد أنه رآه يتقيأ الخمر فقال عثمان
إنه لم يتقيأها حتى شربها وفي مسلم أنه شهد
عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد
عليه آخر أنه رآه يتقيؤها قال النووي في شرح
مسلم: هذا دليل لمالك وموافقيه في أن من تقيأ
الخمر يحد حد شارب الخمر ومذهبنا أنه لا يحد
بمجرد ذلك لاحتمال أنه شربها جاهلا كونها خمرا
أو مكرها عليه وغير ذلك من الأعذار المسقطة
للحدود ودليل مالك هنا قوي لأن الصحابة اتفقوا
على جلد الوليد بن عقبة المذكور في هذا الحديث
ا هـ
قلت: وبمثل ما قاله مالك قالت الهادوية ثم لا
يخفى أن اقتصار المصنف على الشاهد بالقيء وحده
تقصير لإيهامه أنه جلد الوليد بشهادة واحد على
التقيؤ
3- وعن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال في شارب الخمر: "إذا شرب
فاجلدوه ثم إذا شرب الثانية فاجلده ثم إذا شرب
الثالثة فاجلدوه ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا
عنقه" أخرجه أحمد وهذا لفظه والأربعة اختلفت
الروايات في قتله هل يقتل إذا شرب الرابعة أو
إن شرب الخامسة فأخرج أبو داود من رواية أبان
القصار وذكر الجلد ثلاث مرات بعد الأولى ثم
قال "فإن شربوا فاقتلوهم" وأخرج من حديث ابن
عمر من رواية نافع عنه أنه قال وأحسبه قال في
الخامسة فإن شربها فاقتلوه وإلى قتله فيها ذهب
الظاهرية واستمر عليه ابن حزم واحتج له وادعى
عدم الإجماع على نسخه والجمهور على أنه منسوخ
ولم يذكروا ناسخا صريحا إلا ما يأتي من رواية
أبي داود عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم
ترك القتل في الرابعة وقد يقال القول أقوى
(4/31)
من الترك فلعله
صلى الله عليه وسلم تركه لعذر وذكر الترمذي ما
يدل على أنه منسوخ وأخرج ذلك أبو داود صريحا
عن الزهري يريد ما أخرجه من رواية الزهري عن
قبيصة بن ذؤيب قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "من شرب الخمر فاجلدوه" إلى أن قال
"ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه" قال فأتي
برجل قد شرب فجلده ثم أتي به قد شرب فجلده ثم
أتي به قد شرب فجلده ثم أتي به الرابعة فجلده
فرفع القتل عن الناس فكانت رخصة وقال الشافعي:
هذا يريد نسخ القتل مما لا اختلاف فيه بين أهل
العلم ومثله قال الترمذي والله أعلم
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ضرب أحدكم
فليتق الوجه" متفق عليه الحديث دليل على أنه
لا يحل ضرب الوجه في حد ولا في غيره وكذلك لا
يضرب المحدود في المراق والمذاكير لما أخرجه
ابن أبي شيبة عن علي عليه السلام أنه قال
للجلاد اضرب في أعضائه واعط كل عضو حقه واتق
وجهه ومذاكيره وأخرجه عبد الرزاق وسعيد بن
منصور والبيهقي من طرق عن علي عليه السلام
وإنما نهى عن المراق والمذاكير لأنه لا يؤمن
عليه مع ضربها واختلف في ضربه في الرأس فذهب
جماعة من العلماء إلى أنه لا يضرب فيه إذ هو
غير مأمون وذهبت الهادوية وغيرهم إلى جواز
ضربه فيه قالوا لقول علي عليه السلام للجلاد
اضرب الرأس ولقول أبي بكر رضي الله عنه اضرب
الرأس فإن الشيطان فيه أخرجه ابن أبي شيبة
وفيه ضعف وانقطاع وذهب مالك أنه لا يضرب إلا
في رأسه
فائدة في الحديث أنه صلى الله عليه سلم أمر أن
يحثي عليه التراب ويبكت فلما ولي شرع القوم
يسبونه ويدعون عليه ويقول القائل اللهم العنه
فقال صلى الله عليه سلم: "لا تقولوا هذا ولكن
قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه" وأوجب
المازري التثريب والتبكيت وأما صفة سوط الضرب
فأخرج مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلا أن
النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يجلد رجلا
فأتي بسوط خلق فقال فوق هذا فأتي بسوط جديد
فقال دون هذا فيكون بين الجديد والخلق وذكر
الرافعي عن علي عليه السلام سوط الحد بين
سوطين وضربه بين ضربين قال ابن الصلاح السوط
هو المتخذ من سيور تلوى وتلف
5- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في
المساجد" رواه الترمذي والحاكم وأخرجه ابن
ماجه وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي ضعيف
من قبل حفظه وأخرجه أبو داود والحاكم وابن
السكن والدارقطني والبيهقي من حديث حكيم بن
حزام ولا بأس بإسناده وله طرق أخر والكل
متعاضدة وقد عمل به الصحابة فأخرج ابن أبي
شيبة عن طارق بن شهاب قال أتي عمر بن الخطاب
برجل في حد فقال أخرجاه من المسجد ثم اضرباه
وأسنده على شرط الشيخين وأخرج عن علي عليه
السلام أن رجلا جاء إليه فساره فقال يا قنبر
أخرجه
(4/32)
من المسجد فأقم
عليه الحد وفي سنده مقال وإلى عدم جواز إقامة
الحد في المسجد ذهب أحمد وإسحاق والكوفيون لما
ذكر من الدليل وذهب ابن أبي ليلى والشعبي إلى
جوازه ولم يذكر له دليلا وكأنه حمل النهي على
التنزيه قال ابن بطال وقول من نزه المسجد أولى
يريد قول الأولين
6- وعن أنس رضي الله عنه قال لقد أنزل الله
تعالى تحريم الخمر وما بالمدينة شراب يشرب إلا
من تمر أخرجه مسلم فيه دليل على ما سلف من
تسمية نبيذ التمر خمرا عند نزول آية التحريم
7- وعن عمر رضي الله عنه قال: نزل تحريم الخمر
وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة
والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه
وأخرجه الثلاثة أيضا ولا يقال إنه معارض بحديث
أنس لأن حديث أنس إخبار عما كان من الشراب في
المدينة وكلام عمر ليس فيه تقييد بالمدينة
وإنما هو إخبار عما يشربه الناس مطلقا وقوله
الخمر ما خامر العقل إشارة إلى وجه التسمية
وظهره أن كل ما خالط العقل أو غطاه يسمى خمرا
لغة سواء كان مما ذكر أومن غيره ويدل له أيضا
الحديث الآتي
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر وكل مسكر
حرام" أخرجه مسلم فإنه دال على أن كل مسكر
يسمى خمرا وفي قوله "كل مسكر حرام" دليل على
تحريم كل مسكر وهو عام لكل ما كان من عصير أو
نبيذ وإنما اختلف العلماء في المراد بالمسكر
هل يراد تحريم القدر المسكر وتحريم تناوله
مطلقا وإن قل ولم يسكر إذا كان في ذلك الجنس
صلاحية الإسكار ذهب إلى تحريم القليل والكثير
مما أسكر جنسه الجمهور من الصحابة وغيرهم و
أحمد وإسحاق والشافعي ومالك والهادوية جميعا
مستدلين بهذا الحديث وحديث جابر الآتي بعد هذا
وبما أخرجه أبو داود من حديث عائشة كل مسكر
حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام
وبما أخرجه ابن حبان والطحاوي من حديث سعد بن
أبي وقاص أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم
عن قليل ما أسكر كثيره" وفي معناه روايات
كثيرة لا تخلو عن مقال في أسانيدها لكنها
تعتضد بما سمعت قال أبو مظفر السمعاني:
الأخبار في ذلك كثيرة لا مساغ لأحد في العدول
عنها وذهب الكوفيون و أبو حنيفة وأصحابه وأكثر
علماء البصرة إلى أنه يحل دون المسكر من غير
عصير العنب والرطب وتحقيق مذهب الحنفية قد
بسطه في شرح الكنز حيث قال: إن أبا حنيفة قال
الخمر هو النيء من ماء العنب إذا غلى واشتد
وقذف بالزبد حرم قليلها وكثيرها وقال إن
الغليان من آية الشدة وكماله بقذف الزبد
وبسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام
الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحدود وإكفار
المستحل وحرمة البيع والنجاسة وعند صاحبيه إذا
اشتد صار خمرا ولا يشترط القذف بالزبد لأن
الاسم يثبت به والمعنى المقتضي للتحريم وهو
المأثر في الفساد وإيقاع العداوة وأما الطلاء
بكسر الطاء وهو العصير من العنب إن طبخ حتى
يذهب أقل من ثلثيه والسكر بفتحتين وهو النيء
من ماء
(4/33)
الرطب ونقيع
الزبيب وهو النيء من ماء الزبيب فالكل حرام إن
غلي واشتد وحرمتها دون الخمر والحلال منها
أربع نبيذ التمر والزبيب إن طبخ أدنى طبخ وإن
اشتد إذا شرب ما لا يسكر بلا لهو وطرب
والخليطان وهو أن يخلط ماء التمر وماء الزبيب
ونبيذ العسل والتين والبر والشعير والذرة طبخ
أو لا والمثلث العنبي انتهى كلامه ببعض تصرف
فيه فهذه الأنواع التي لم ينقل تحريمها استدل
لها بأنها لا تدخل تحت مسمى الخمر فلا تشملها
أدلة تحريم الخمر وتؤول حديث ابن عمر هذا بما
قاله الطحاوي حيث قال في تأويل الحديث قال
بعضهم المراد به ما يقع السكر عنده قال ويؤيده
أن القاتل لا يسمى قاتلا حتى يقتل قال ويدل له
حديث ابن عباس يرفعه حرمت الخمر قليلها
وكثيرها والسكر من كل شراب أخرجه النسائي
ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه
وفي رفعه ووقفه على أنه على تقدير صحته فقد
قال أحمد وغيره إن الراجح أن الرواية فيه
والمسكر بضم الميم وسكون السين لا السكر بضم
السين أو بفتحتين وعلى تقدير ثبوته فهو حديث
فرد لا يقاوم ما عرفت من الأحاديث التي
ذكرناها وقد سرد لهم في الشرح أدلة من آثار
وأحاديث لا سواده شيء منها عن قادح فلا تنتهض
على المدعي عند لفظ الخمر قد سمعت أن الحق فيه
لغة عمومه لكل مسكر كما قاله مجد الدين فقد
تناول ما ذكر دليل التحريم وقد أخرج البخاري
عن ابن عباس لما سأله أبو جويرية عن الباذق
وهو بالباء الموحدة والذال المعجمة المفتوحة
وقيل المكسورة وهو فارسي معرب أصله باذة وهو
الطلاء فقال ابن عباس سبق محمد الباذق ما أسكر
فهو حرام الشراب الحلال الطيب ليس بعد الحلال
الطيب إلا الحرام الخبيث وأخرج البيهقي عن ابن
عباس أنه أتاه قوم يسألون عن الطلاء فقال ابن
عباس وما طلاؤكم هذا إذا سألتموني فبينوا لي
الذي تسألونني عنه فقالوا هو العنب يعصر ثم
يطبخ ثم يجعل في الدنان قال وما الدنان قالوا
دنان مقيرة قال مزفتة قالوا نعم قال يسكر
قالوا إذا أكثر منه قال فكل مسكر حرام وأخرج
عنه أيضا أنه قال في الطلاء إن النار لا تحل
شيئا ولا تحرمه وأخرج أيضا عن عائشة في سؤال
أبي مسلم الخولاني قال يا أم المؤمنين إنهم
يشربون شرابا لهم يعني أهل الشام يقال له
الطلاء قالت صدق الله وبلغ حبي سمعت حبي رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أناسا من
أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" وأخرج
مثله عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "ليشربن أناس من أمتي
الخمر يسمونها بغير أسمها وتضرب على رءوسهم
المعازف يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة
وخنازير" وأخرج عن عمر أنه قال إني وجدت من
فلان ريح شراب فزعم أنه يشرب الطلاء وإني سائل
عما يشرب فإن كان يسكر جلدته فجلده الحد تاما
وأخرج عن أبي عبيد أنه قال جاءت في الأشربة
آثار كثيرة مختلفة عن النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه وكل له تفسير فأولها الخمر وهي
(4/34)
ما غلي من عصير
العنب فهذه مما لا اختلاف في تحريمها من
المسلمين إنما الاختلاف في غيرها ومنها السكر
يعني بفتحتين وهو نقيع التمر الذي لم تمسه
النار وفيه يروى عن ابن مسعود أنه قال السكر
خمر ومنها البتع بكسر الباء الموحدة والمثناة
أي الفوقية الساكنة والمهملة وهو نبيذ العسل
ومنها الجعة بكسر الجيم وهي نبيذ الشعير ومنها
المذر وهو من الذرة جاء تفسير هذه الأربعة عن
ابن عمر رضي الله عنهما وزاد ابن المنذر في
الرواية عنه قال والخمر من العنب والسكر من
التمر ومنها السكركة يعني بضم السين المهملة
وسكونالكاف وضم الراء فكاف مفتوحة عن أبي موسى
أنها من الذرة ومنها الفضيخ يعني بالفاء
والضاد المعجمة والخاء المعجمة ما افتضخ من
البسر من غير أن تمسه نار وسماه ابن عمر
الفضوخ قال أبو عبيد فإن كان مع البسر تمر فهو
الذي يسمى الخليطين قال أبو عبيد بعض العرب
تسمي الخمر بعينها الطلاء قال عبيد بن الأبرص:
هي الخمر تكنى الطلاء ... كما الذئب الغرماء
أبا جعدة
قال وكذلك الخمر سمي الباذق إذا عرفت فهذه
آثار تؤيد العمل بالعموم ومع التعارض فالترجيح
للمحرم على المبيح ومن أدلة الجمهور الحديث
الآتي
9- وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله
حرام" أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان
وأخرجه الترمذي وحسنه ورجاله ثقات وأخرج
النسائي والدارقطني وابن حبان من طريق عامر بن
سعد بن أبي وقاص عن أبيه بلفظ "نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن قليل ما أسكر كثيره"
وفي الباب عن علي عليه السلام وعن عائشة رضي
الله عنها وعن خوات وعن سعيد وعن ابن عمر وزيد
بن ثابت كلها مخرجة في كتب الحديث والكل تقوم
به الحجة وتقدم تحقيقه
فائدة ويحرم ما أسكر من أي شيء وإن لم يكن
مشروبا كالحشيشة قال المصنف من قال إنها لا
تسكر وإنما تخدر فهي مكابرة فإنها تحدث ما
تحدث الخمر من الطرب والنشوة قال وإذا سلم عدم
الإسكار فهي مفترة وقد أخرج أبو داود أنه نهى
رسول الله عن كل مسكر ومفتر قال الخطابي
المفتر كل شراب يورث الفتور والخور في الأعضاء
وحكى العراقي وابن تيمية الإجماع على تحريم
الحشيشة وأن من استحلها كفر قال ابن تيمية إن
الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من
الهجرة حين ظهرت دولة التتار وهي من أعظم
المنكرات وهي شر من الخمر من بعض الوجوه لأنها
تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر ويصعب الطعام
عليها أعظم من الخمر وقد أخطأ القائل
حرموها من غير عقل ونقل ... وحرام تحريم غير
الحرام
وأما البنج فهو حرام قال ابن تيمية: إن الحد
في الحشيشة واجب قال ابن البيطار: إن الحشيشة
وتسمى القنب توجد في مصر مسكرة جدا إذا تناول
الإنسان منها قدر درهم أو درهمين وقبائح
خصالها كثيرة وعد منها بعض العلماء مائة
وعشرين مضرة دينية
(4/35)
ودنيوية وقبائح
خصالها موجودة في الأفيون وفيه زيادة مضار قال
ابن دقيق العيد في الجوزة إنها مسكرة ونقله
عنه متأخرو علماء الفريقين واعتمدوه
10- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب
في السقاء فيشربه يومه والغد وبعد الغد فإذا
كان مساء الثالثة شربه وسقاه فإن فضل" بفتح
الضاد وكسرها "شيء أهراقه" أخرجه مسلم هذه
الرواية إحدى روايات مسلم وله ألفاظ أخر
المساجد من هذه في المعنى وفي دليل على جواز
الانتباذ ولا كلام في جوازه وقد احتج من يقول
بجواز شرب النبيذ إذا اشتد بقوله في رواية
أخرى "سقاه الخادم أو أمر بصبه" فإن سقيه
الخادم دليل على جواز شربه وإنما تركه صلى
الله عليه وسلم تنزها عنه وأجيب بأنه لا دليل
على أنه بلغ حد الإسكار وإنما بدا فيه بعض
تغير في طعمه من حموضة أو نحوها فسقاه الخادم
مبادرة لخشية الفساد ويحتمل أن تكون أو
للتنويع كأنه قال سقاه الخادم أو أمر به
فأهريق أي إن كان بدا في طعمه بعض تغير ولم
يشتد سقاه الخادم وإن اشتد أمر بإهراقه وبهذا
جزم النووي في معنى الحديث
11- وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى
الله عليه وسلم: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما
حرم عليكم" أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان
وأخرجه أحمد وذكره البخاري تعليقا عن ابن
مسعود ويأتي ما أخرجه مسلم عن وائل بن حجر
والحديث دليل على أنه يحرم التداوي بالخمر
لأنه إذا لم يكن فيه شفاء فتحريم شربها باق لا
يرفعه تجويز أنه يدفع بها الضرر عن النفس وإلى
هذا ذهب الشافعي وقالت الهادوية إلا إذا غص
بلقمة ولم يجد ما يسوغها به إلا الخمر جاز
وادعى في البحر الإجماع على هذا وفيه خلاف
وقال أبو حنيفة: يجوز التداوي بها كما يجوز
شرب البول والدم وسائر النجاسات للتداوي قلنا
القياس باطل فإن المقيس عليه محرم بالنص
المذكور لعمومه لكل محرم
فائدة
في النجم الوهاج قال الشيخ كل ما يقول الأطباء
من المنافع في الخمر وشربها كان عند شهادة
القرآن أن فيها منافع للناس قبل وأما بعد نزول
آية المائدة فإن الله تعالى الخالق لكل شيء
سلبها المنافع جملة فليس فيها شيء من المنافع
وبهذا تسقط مسألة التداوي بالخمر والذي قاله
منقول عن الربيع والضحاك وفيه حديث أسنده
الثعلبي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال إن الله تعالى لما حرم الخمر سلبها النافع
12- وعن وائل هو ابن حجر بضم الحاء وسكون
الجيم الحضرمي أن طارق بن سويد رضي الله عنه
سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنعها
للدواء فقال: "إنها ليست بدواء ولكنها داء"
أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما أفاد الحكم الذي
دل عليه الحديث الأول وهو تحريم التداوي
بالخمر وزيادة الإخبار بأنها داء
(4/36)
وقد علم من حال
من يستعملها أنه يتولد عن شربها أدواء كثيرة
وكيف لا يكون ذلك بعد إخبار الشارع أنها داء
فقبح الله وصافها من الشعراء الخلعاء ووصاف
شربها وتشويق الناس إلى شربها والعكوف عليها
كأنهم يضادون الله تعالى ورسوله فيما حرمه ولا
شك أنهم يقولون تلك الأشعار بلسان شيطاني
يدعون إلى ما حرمه الله تعالى ورسوله
(4/37)
باب التعزير وحكم الصائل
التعزير مصدر عزر من العزر وهو الرد والمنع
وهو في الشرع تأديب على ذنب لا حد فيه وهو
مخالف للحدود من ثلاثة أوجه الأول أنه يختلف
باختلاف الناس فتعزير ذوي الهيئات أخف ويستوون
في الحدود مع الناس والثاني أنها تجوز فيه
الشفاعة دون الحدود والثالث التالف خلافا لأبي
حنيفة ومالك وقد فرق قوم بين التعزير والتأديب
ولا يتم لهم الفرق ويسمى تعزير لدفعة ورده عن
فعل القبائح ويكون بالقول والفعل على حسب ما
يقتضيه حال الفاعل وقوله وحكم الصائل الصائل
اسم فاعل من صال على قرنه إذا سطا عليه
واستطال
1- عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يجلد"
روي مبنيا للمعلوم ومبنيا للمجهول ومجزوما على
النهي ومرفوعا على النفي "فوق عشرة أسواط إلا
في حد من حدود الله تعالى" متفق عليه وفي
رواية عشر جلدات وفي رواية "لا عقوبة فوق عشر
ضربات" والمراد بحدود الله ما عين الشارع فيه
عددا من الضرب أو عقوبة مخصوصة كالقطع والرجم
وهذان داخلان في عموم حدود الله خارجان عما
فيه السياق إذ السياق في الضرب وقد اتفق
العلماء على حد الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد
المحارب وحد القذف بالزنا والقتل في الردة
والقصاص في النفس واختلفوا في القصاص في
الأطراف هل يسمى حدا أم لا كما اختلفوا في
عقوبة جحد العارية واللواط وإتيان البهيمة
وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها والسحاق
وأكل الدم والميتة ولحم الخنزير لغير ضرورة
والسحر والقذف بشرب الخمر وترك الصلاة تكاسلا
والأكل في رمضان هل يسمى حدا أو لا فمن قال
يسمى حدا أجاز الزيادة في التعزير عليها على
العشر الأسواط ومن قال لا يسمى لم يجزه إلا
أنه قد اختلف في العمل بحديث الباب فذهب إلى
الأخذ به الليث وأحمد وإسحق وجماعة من
الشافعية وذهب مالك والشافعي وزيد بن علي
وآخرون إلى جواز الزيادة في التعزير على
العشرة ولكن لا يبلغ أدنى الحدود وذهب القاسم
والهادي إلى أن يكون التعزير في كل حد دون حد
جنسه لما يأتي من فعل علي عليه السلام قلت لا
دليل لهم إلا فعل بعض الصحابة كما روي أن عليا
عليه السلام جلد من وجد مع امرأة من غير زنا
مائة سوط إلا سوطين وأن عمر رضي الله عنه ضرب
من نقش على
(4/37)
خاتمة مائة سوط
وكذا روي عن ابن مسعود ولا يخفى أن فعل بعض
الصحابة ليس بدليل ولا يقاوم النص الصحيح وأن
ما نقل عن عمر لا يتم لهم دليلا ولعله لم يبلغ
الحديث من فعل ذلك من الصحابة كما أنه قال
صاحب التقريب معتذرا لو بلغ الخبر الشافعي
لقال به لأنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي
ومثله قال الداودي معتذرا لمالك لم يبلغ مالكا
هذا الحديث فرأى العقوبة بقدر الذنب ولو بلغه
ما عدل عنه فيجب على من بلغه أن يأخذ به
2- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم
إلا الحدود" رواه أحمد وأبو داود والنسائي
والبيهقي وللحديث طرق كثيرة لا تخلو عن مقال
والإقالة هي موافقة البائع على نقض البيع
وأقيلوا هنا مأخوذ منها والمراد هنا موافقة ذي
الهيئة على ترك المؤاخذة له أو تخفيفها وفسر
الشافعي ذوي الهيئات بالذين لا يعرفون بالشر
فيزل أحدهم الزلة والعثرات جمع عثرة والمراد
هنا الزلة وحكى الماوردي في ذلك وجهين أحدهما
أنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر والثاني من
إذا أذنب تاب وفي عثراتهم وجهان أحدهما
الصغائر والثاني أول معصية يزل فيها مطيع
واعلم أن الخطاب في أقيلوا للأئمة لأنهم الذين
إليهم التعزير لعموم ولاتهم فيجب عليهم
الاجتهاد في اختيار الأصلح لاختلاف ذلك
باختلاف مراتب الناس وباختلاف المعاصي وليس له
أن يفوضه إلى مستحقه ولا إلى غيره وليس
التعزير لغير الإمام إلا لثلاثة الأب فإن له
تعزير ولده الصغير للتعليم والزجر عن سيء
الأخلاق والظاهر أن الأم في مسألة زمن الصبا
في كفالته لها ذلك وللأمر بالصلاة والضرب
عليها وليس للأب تعزير البالغ وإن كان سفيها
والثاني السيد يعزر رقيقه في حق نفسه وفي حق
الله تعالى على الأصح والثالث الزوج له تعزير
زوجته في أمر النشوز كما صرح به القرآن وهل له
ضربها على ترك الصلاة ونحوها الظاهر أن له ذلك
إن لم يكف فيها الزجر لأنه من باب إنكار
المنكر والزوج من جملة من يكلف بالإنكار باليد
أو اللسان أو الجنان والمراد هنا الأولان
3- وعن علي رضي الله عنه قال ما كنت لأقيم على
أحد حدا فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر
فإنه لو مات وديته بتخفيف الدال المهملة وسكون
المثناة التحتية أي غرمت ديته أخرجه البخاري
فيه دليل على أن الخمر لم يكن فيه حد محدود من
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من باب
التعزيرات فإن مات ضمنه الإمام وكذا كل معزر
يموت بالتعزير يضمنه الإمام وإلى هذا ذهب
الجمهور وذهبت الهادوية إلى أنه لا شيء فيمن
مات بحد أو تعزير قياسا منهم للتعزير على الحد
بجامع أن الشارع قد أذن فيهما قالوا وقول علي
عليه السلام إنما هو للاحتياط وتقدم الجواب
بأنه إذا أعنت في التعزير دل على أنه غير
مأذون فيه من أصله بخلاف الإعنات في الحد فإنه
لا يضمن لأنه مأذون في أصله فإن أعنت فإنه
للخطأ في صفته وكأنهم يريدون أنه لم يكن
مأذونا في غير ما أذن به بخصوصه كالضرب مثلا
وإلا فهو مأذون في مطلق التعزير وتأويلهم لقول
علي عليه السلام ساقط فإنه صريح في أن ذلك
واجب لا من باب الاحتياط ولأن في تمام حديثه
لأن رسول الله
(4/38)
صلى الله عليه
وسلم لم يسنه وأما قوله جلد رسول الله صلى
الله عليه وسلم أربعين إلى قوله وكل سنة وقد
تقدم فلعله يريد أنه جلد جلدا غير مقدر ولا
تقررت صفته بالجريد والنعال والأيدي ولذا قال
أنس نحو أربعين قال النووي في شرح مسلم ما
معناه: وأما من مات في حد من الحدود غير الشرب
فقد أجمع العلماء على أنه إذا جلده الإمام أو
جلاده فمات فإنه لا دية ولا كفارة على الإمام
ولا على جلاده ولا بيت المال وأما من مات
بالتعزير فمذهبنا وجوب الضمان للدية والكفارة
وذكر تفاصيل في ذلك مذهبية
4- في قتال الصائل الذي ذكره في الترجمة وعن
عبد الله بن خباب بفتح الخاء المعجمة فموحدة
مشددة فألف فموحدة وهو خباب بن الأرت صحابي
تقدمت ترجمته قال سمعت أبي يقول سمعت رسول
الله صلى الله عليه سلم يقول: "تكون فتن فكن
فيها ياعبد الله المقتول ولا تكن القاتل"
أخرجه ابن أبي خيثمة بالخاء المعجمة مفتوحة
فمثناة تحتية ساكنة فمثلثة والدارقطني وأخرج
أحمد نحوه عن خالد بن عرفطة بضم العين المهملة
وسكون الراء وضم الفاء وبالطاء المهملة وخالد
صحابي عداده في أهل الكوفة روى عنه أبو عثمان
النهدي وعبد الله بن يسار ومسلم مولاه ولاه
سعد بن أبي وقاص القتال يوم القادسية ومات
بالكوفة سنة ستين والحديث قد أخرج من طرق
كثيرة وفيها كلها راو لم يسم وهو رجل من عبد
القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم وسبب الحديث
أنه قال ذلك الرجل إن الخوارج دخلوا قرية فخرج
عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذعرا يجر رداءه فقال والله
أرعبتموني مرتين قالوا أنت عبد الله بن خباب
قال نعم قالوا هل سمعت من أبيك شيئا تحدثنا به
قال سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه ذكر "فتنة القاعد فيها خير والقائم
فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من
الساعي فإن أدركك ذلك فكن عبد الله المقتول"
قالوا أنت سمعت هذا من أبيك يحدث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال نعم فقدموه على ضفة
النهر فضربوا عنقه وبقروا أم ولده عما في
بطنها والحديث قد أخرجه أحمد والطبراني وابن
قانع طريق المجهول إلا أن فيه علي بن زيد بن
جدعان وفهي مقال ولفظه عن خالد بن عرفطة
"ستكون فتنة بعدي وأحداث واختلاف فإن استطعت
أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل"
وأخرج أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه قال فإن دخل على بيتي وبسط يده
ليقتلني قال كن كابن آدم وأخرج أحمد من حديث
ابن عمر بلفظ ما يمنع أحدكم إذا جاء أحدا يريد
قتله أن يكون مثل أبني آدم القاتل في النار
والمقتول في الجنة وأخرج أحمد وأبو داود وابن
حبان من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله
عليه سلم قال في الفتنة "كسروا فيها قسيكم
وأوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة فإن دخل على
أحدكم بيته فليكن كخير ابني آدم" وصححه
القشيري في الاقتراح على شرط الشيخين والحديث
دليل على ترك القتال عند ظهور الفتن والتحذير
من الدخول فيها قال القرطبي اختلف السلف في
ذلك فذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر
ومحمد بن مسلمة
(4/39)
وغيرهم إلى أنه
يجب الكف عن المقاتلة فمنهم من قال إنه يجب
عليه أن يلزم بيته وقالت طائفة يجب عليه
التحول من بلد الفتنة أصلا ومنهم من قال يترك
المقاتلة وهو قول الجمهور وشذ من أوجبه حتى لو
أراد أحدهم قتله لم يدفعه عن نفسه ومنهم من
قال يدافع عن نفسه وعن أهله وعن ماله وهو
معذور إن قتل أو قتل وذهب جمهور الصحابة
والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين
وحملوا هذه الأحاديث على من ضعف عن القتال أو
قصر نظره عن معرفة الحق وقال بعضهم بالتفصيل
وهو أنه إذا كان القتال بين طائفتين لا إمام
لهم فالقتال حينئذ ممنوع وتنزل الأحاديث على
هذا وهو قول الأوزاعي وقال الطبري إنكار
المنكر واجب على من يقدر عليه فمن أعان المحق
أصاب ومن أعان المبطل أخطأ وإن أشكل الأمر فهي
الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها وقيل إن
النهي إنما هو في آخر الزمان حيث تكون
المقاتلة لطلب الملك وفيه دليل على أنه لا يجب
الدفاع عن النفس وقوله إن استطعت يدل على أنها
لا تحرم المدافعة وأن النهي للتنزيه لا
للتحريم
5- في الصائل وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من
قتل دون ماله فهو شهيد" رواه الأربعة وصححه
الترمذي في الحديث دليل على جواز الدفاع عن
المال وهو قول الجمهور وشذ من أوجبه فإذا قتل
فهو شهيد كما صرح به هذا الحديث وحديث مسلم عن
أبي هريرة أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال "يا رسول الله أرأيت إن جاء
رجل يريد أخذ مالي قال فلا تعطه قال فإن
قاتلني قال فاقتله قال أرأيت إن قتلني قال
فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته قال فهو في
النار" قالوا فإن قتله فلا ضمان عليه لعدم
التعدي منه والحديث عام لقليل المال وكثيره
وقد أخرج أبو داود وصححه الترمذي عنه صلى الله
عليه وسلم: "من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل
دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد
ومن قتل دون أهله فهو شهيد" وفي الصحيحين ذكر
المال فقط ووجه الدلالة أنه لما جعله صلى الله
عليه وآله وسلم شهيدا دل على أن له القتل
والقتال قال في النجم الوهاج ومحل ذلك إذا لم
يجد ملجأ كحصن ونحوه أو لم يستطع الهرب وإلا
وجب عليه قلت لا أدري ما وجه وجوب الهرب عليه
قالوا ولا يجب الدفع عن المال بل يجوز له أن
يتظلم إلا أنه قد تقدم أن علماء الحديث
كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة
بالأمر بالصبر على جوره فلا يجوز دفاعه عن أخذ
المال ويجب الدفع عن البضع لأنه لا سبيل إلى
إباحته قالوا وكذلك يجب على النفس إن قصدها
كافر لا إذا قصدها مسلم فلا يجب لما تقدم
قريبا في شرح الحديث الأول وصح أن عثمان رضي
الله عنه منع عبيده أن يدفعوا عنه وكانوا
(4/40)
أربعمائة وقال
من ألقى سلاحه فهو حر قالوا وخالف المضطر فإن
في القتل شهادة بخلاف ترك الأكل وهل ترك
الدفاع عن قتل النفس مباح أو مندوب فيه خلاف
(4/41)
|