سبل السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي

كتاب الجنايات
كتاب الجنايات
...
كتاب الجنايات
هي جمع جناية مصدر من جنى الذنب يجنيه جناية أي جره إليه وجمعت وإن كانت مصدرا لاختلاف أنواعها فإنها قد تكون في النفس وفي الأطراف وتكون عمدا وخطأ
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" هو تفسير لقوله مسلم "إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني أي المحصن بالرجم والنفس بالنفس والتارك لدينه" أي المرتد عنه "المفارق للجماعة" متفق عليه فيه دليل على أنه لا يباح دم المسلم إلا بإتيانه بإحدى الثلاث والمراد من النفس بالنفس القصاص بشرطه وسيأتي والتارك لدينه يعم كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيقتل إن لم يرجع إلى الإسلام وقوله المفارق للجماعة يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما كالخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا وقد أورد على الحصر أنه يجوز قتل الصائل وليس من الثلاثة وأجيب بأنه داخل تحت قوله المفارق للجماعة أو أن المراد من هؤلاء من يجوز قتلهم قصدا والصائل لا يقتل قصدا بل دفعا وفيه دليل على أنه لا يقتل الكافر الأصلي لطلب إيمانه بل لدفع شره وقد بسطنا القول في ذلك في حواشي ضوء النهار وقد يقال إن الكافر الأصلي داخل تحت التارك لدينه لأنه ترك فطرته التي فطر عليها كما عرف في محله
2- وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث" خصال بينها بقوله: "زان محصن " يأتي تفسيره فيرجم "ورجل يقتل مسلما متعمدا" قيد ما أطلق في الحديث الأول فيقتل "ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم الحديث أفاد ما أفاده الحديث الأول الذي قبله وقوله فيحارب الله ورسوله بعد قوله يخرج من الإسلام

(3/231)


بيان لحكم خاص لخارج عن الإسلام خاص وهو المحارب وله حكم خاص هو ما ذكر من القتل أو الصلب أو النفي فهو أخص من الذي أفاده الحديث الذي قبله والنفي الحبس عند أبي حنيفة وعند الشافعي النفي من بلد إلى بلد لا يزال يطلب وهو هارب فزع وقيل ينفي من بلده فقط وظاهر الحديث والآية أيضا أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل محارب مسلما كان أو كافرا
3- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" متفق عليه فيه دليل على عظم شأن دم الإنسان فإنه لا يقدم في القضاء إلا الأهم ولكنه يعارضه حديث أول ما يحاسب العبد عليه صلاته أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة ويجاب بأن حديث الدماء فيما يتعلق بحقوق المخلوق وحديث الصلاة فيما يتعلق بعبادة الخالق وبأن ذلك في أولوية القضاء والآخر في أولوية الحساب كما يدل له ما أخرجه النسائي من حديث ابن مسعود بلفظ أول ما يحاسب عليه العبد صلاته وأول ما يقضى بين الناس في الدماء وقد أخرج البخاري من حديث علي رضي الله عنه وغيره أنه رضي الله عنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة في قتلى بدر الحديث فبين فيه أول قضية يقضي فيها وقد بين الاختصام حديث أبي هريرة "أول ما يقضى بين الناس في الدماء ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه يقول يا رب سل هذا فيم قتلني" الحديث وفي حديث ابن عباس يرفعه "يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه ملببا قاتله بيده الأخرى تشحط أوداجه دما حتى يقفا بين يدي الله تعالى" وهذا في القضاء في الدماء وفي القضاء بالأموال ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر يرفعه "من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته" وفي معناه عدة أحاديث وأنها إذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه طرح عليه من سيئات خصمه وألقي في النار وقد استشكل ذلك بأنه كيف يعطى الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو يتناهى يعني على القول بخروج الموحدين من النار وأجاب البيهقي بأنه يعطى من حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته المضاعفة التي يضاعف الله تعالى بها الحسنات لأن ذلك من محض الفضل الذي يخص الله تعالى به من يشاء من عباده وهذا فيمن مات غير ناو لقضاء دينه وأما من مات وهو ينوي القضاء فإن الله يقضي عنه كما قدمناه في شرح الحديث الثالث من أبواب السلم
4- وعن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل عبده قتلناه ومن جدع " بالجيم والدال المهملة عبده "جدعناه" رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وهو من رواية الحسن البصري عن سمرة وقد اختلف في سماعه منه على ثلاثة أقوال قال ابن معين لم يسمع الحسن منه شيئا وإنما هو كتاب وقيل سمع منه حديث العقيقة وأثبت ابن المديني سماع الحسن من سمرة وفي رواية أبي داود

(3/232)


والنسائي بزيادة "ومن خصى عبده خصيناه" وصحح الحاكم هذه الزيادة والحديث دليل على أن السيد يقاد بعبده في النفس والأطراف إذ الجدع قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس ويقاس عليه إذا كان القاتل غير السيد بطريق الأولى والمسألة فيها خلاف ذهب النخعي وغيره إلى أنه يقتل الحر بالعبد مطلقا عملا بحديث سمرة وأيده عموم قوله تعالى النفس بالنفس وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقتل به إلا إذا كان سيده عملا بعموم الآية وكأنه يخص السيد بحديث لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده أخرجه البيهقي إلا أنه من رواية عمر بن عيسى يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث وأخرج البيهقي أيضا من حديث ابن عمرو في قصة زنباع لما جب عبده وجدع أنفه أنه صلى الله عليه وسلم قال من مثل بعبده وحرق بالنار فهو حر وهو مولى الله ورسوله فأعتقه صلى الله عليه وسلم ولم يقتص من سيده إلا أن فيه المثنى بن الصباح ضعيف ورواه عن الحجاج بن أرطاة من طريق آخر ولا يحتج به وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة وذهبت الهادوية و الشافعي ومالك وأحمد إلى أنه لا يقاد الحر بالعبد مطلقا مستدلين بما يفيده قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فإن تعريف المبتدأ يفيد الحصر وأنه لا يقتل الحر بغير الحر ولأنه تعالى قال في صدر الآية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وهو المساواة الحر بالحر تفسير وتفصيل لها وقوله تعالى في آية المائدة {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} مطلق وهذه الآية مقيدة مبينة وهذه صريحة لهذه الأمة وتلك سيقت في أهل الكتاب وشريعتهم وإن كانت شريعة لنا لكنه وقع في شريعتنا التفسير بالزيادة والنقصان كثيرا فيقرب أن هذا التقييد من ذلك وفيه مناسبة إذ فيه تخفيف ورحمة وشريعة هذه الأمة أخف من شرائع من قبلها فإنه وضع عنهم فيها الآصار التي كانت على من قبلهم والقول بأن آية المائدة نسخت آية البقرة لتأخرها مردود بأنه لا تنافي بين الآيتين إذ لا تعارض بين عام وخاص ومطلق ومقيد حتى يصار إلى النسخ ولأن آية المائدة متقدمة حكما فإنها حكاية لما حكم الله تعالى به في التوراة وهي متقدمة نزولا على القرآن وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد وأخرج البيهقي من حديث علي رضي الله عنه من السنة أن لا يقتل حر بعبد وفي إسناده جابر الجعفي ومثله عن ابن عباس وفيه ضعف وأما حديث سمرة فهو ضعيف أو منسوخ بما سردناه من الأحاديث هذا وأما قتل العبد بالحر فإجماع وإذا تقرر أن الحر لا يقتل بالعبد فيلزم من قتله قيمته على خلاف فيها معروف ولو بلغت ما بلغت وإن جاوزت دية الحر وقد بيناه في حواشي ضوء النهار وأما إذا قتل السيد عبده ففيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده صبرا متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة
5- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الوالد بالولد" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه ابن الجارود والبيهقي وقال الترمذي إنه مضطرب قال الترمذي وروي عن عمرو بن شعيب مرسلا وهذا

(3/233)


حديث فيه اضطراب والعمل عليه عند أهل العلم انتهى وفي إسناده عنده الحجاج بن أرطأة وجه الاضطراب أنه اختلف على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن عمر وهي رواية الكتاب وقيل عن سراقة وقيل بلا واسطة وفيها المثنى بن الصباح وهو ضعيف قال الشافعي طرق هذا الحديث كلها منقطعة وقال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح فيها شيء والحديث دليل على أنه لا يقتل الوالد بالولد قال الشافعي حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أن لا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول وإلى هذا ذهب الجماهير من الصحابة وغيرهم كالهادوية والحنفية والشافعية وأحمد وإسحاق مطلقا للحديث قالوا لأن الأب سبب لوجود الولد فلا يكون الولد سببا لإعدامه وذهب البتي إلى أنه يقاد الوالد بالولد مطلقا لعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وأجيب بأنه مخصص بالخبر وكأنه لم يصح عنده وذهب مالك إلى أنه يقاد بالولد إذا أضجعه وذبحه قال لأن ذلك عمد حقيقة لا يحتمل غيره فإن الظاهر في مثل استعمال الجارح في المقتل هو قصد العمد والعمدية أمر خفي لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الأحوال وأما إذا كان على غير هذه الصفة فيما يحتمل عدم إزهاق الروح بل قصد التأديب من الأب وإن كان في حق غيره يحكم فيه بالعمد وإنما فرق بين الأب وغيره لما للأب من الشفقة على ولده وغلبة قصد التأديب عند فعله ما يغضب الأب فيحمل على عدم قصد القتل وهذا رأي منه وإن ثبت النص لم يقاومه شيء وقد قضى به عمر في قصة المدلجي وألزم الأب الدية ولم يعطه شيئا وقال ليس لقاتل شيء فلا يرث من الدية إجماعا ولا من غيرها عند الجمهور والجد والأم كالأب عندهم في سقوط القود
6- وعن أبي جحيفة قال قلت لعلي رضي الله عنه هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم استثناء من لفظ شيء تزوجها على البدلية يعطيه الله تعالى رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة أي الورقة المكتوبة قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل أي الدية سميت عقلا لأنهم كانوا يعقلون الإبل التي هي دية بفناء دار المقتول وفكاك بكسر الفاء وفتحها الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر رواه البخاري وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من وجه آخر عن علي رضي الله عنه وقال فيه المؤمنون تتكافأ دماؤهم أي تتساوى في الدية والقصاص ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده وصححه الحاكم قال المصنف إنما سأل أبو جحيفة عليا رضي الله عنه عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن لأهل البيت عليهم السلام لا سيما علي رضي الله عنه اختصاصا بشيء من الوحي لم يطلع عليه غيره وقد سأل عليا رضي الله عنه عن هذه المسألة غير أبي جحيفة أيضا عند الظاهر أن المسؤول عنه هو ما يتعلق بالأحكام الشرعية من الوحي الشامل لكتاب الله المعجز وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى سماها وحيا إذ فسر قوله تعالى

(3/234)


{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} بما هو أعم من القرآن ويدل عليه قوله وما في هذه الصحيفة فلا يلزم منه نفي ما نسب إلى علي رضي الله عنه من الجفر وغيره وقد يقال إن هذا داخل تحت قوله إلا فهم يعطيه الله تعالى رجلا في القرآن فإنه كما نسب إلى كثير ممن فتح الله عليه بأنواع العلوم ونور بصيرته أنه يستنبط ذلك من القرآن والحديث قد اشتمل على مسائل الأولى: العقل وهو الدية ويأتي تحقيقها والثانية: فكاك الأسير أي حكم تخليص الأسير من يد العدو وقد ورد الترغيب في ذلك والثالثة: عدم قتل المسلم بالكافر قودا وإلى هذا ذهب الجماهير وأنه لا يقتل ذو عهد في عهده فذو العهد الرجل من أهل دار الحرب يدخل علينا بأمان فإن قتله محرم على المسلم حتى يرجع إلى مأمنه فلو قتله مسلم فقالت الحنفية يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق ولا يقتل بالمستأمن واحتجوا بقوله في الحديث ولا ذو عهد في عهده فإنه معطوف على قوله مؤمن فلا بد من تقييد في الثاني كما في الطرف الأول فيقدر ولا ذو عهد في عهده بكافر ولا بد من تقييد الكافر في المعطوف بلفظ الحربي لأن الذمي يقتل بالذمي ويقتل بالمسلم وإذا كان التقييد لا بد منه في المعطوف وهو مطابق للمعطوف عليه فلا بد من تقدير مثل ذلك في المعطوف عليه فيكون التقدير ولا يقتل مؤمن بكافر حربي ومفهوم حربي أنه يقتل بالذمي بدليل مفهوم المخالفة وإن كانت الحنفية لا تعمل بالمفهوم فهم يقولون إن الحديث يدل على أنه لا يقتل بالحربي صريحا وأما قتله بالذمي فبعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ولما أخرجه البيهقي من أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال أنا أكرم من وفى بذمته وهو حديث مرسل من حديث عبد الرحمن بن البيلماني وقد روي مرفوعا قال البيهقي وهو خطأ وقال الدارقطني ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله وقال أبو عبيد القاسم بن سلام هذا الحديث ليس بمسند ولا يجعل مثله إماما تسفك به دماء المسلمين وذكر الشافعي في الأم إن حديث ابن البيلماني كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن الضميري قال فعلى هذا لو ثبت لكان منسوخا لأن حديث "لا يقتل مسلم بكافر" خطب به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كما في رواية عمرو بن شعيب وقصة عمرو بن أمية متقدمة قبل ذلك بزمان هذا وأما ما ذكرته الحنفية من التقدير فقد أجيب عنه بأنه لا يجب التقدير لأن قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام فلا يحتاج إلى إضمار لأن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة فيكون نهيا عن قتل المعاهد وقولهم إن قتل المعاهد معلوم وإلا لم يكن للعهد فائدة فلا حاجة إلى الإخبار به

(3/235)


جوابه أنه محتاج إلى ذلك إذ لا يعرف إلا بطريق الشارع وإلا فإن ظاهر العمومات يقضي بجواز قتله ولو سلم تقدير الكافر في الثاني فلا يسلم استلزام تخصيص الأول بالحربي لأن مقتضى العطف مطلق الاشتراك لا الاشتراك من كل وجه ومعنى قوله ويسعى بذمتهم أدناهم أنه إذا أمن المسلم حربيا كان أمانه أمانا من جميع المسلمين ولو كان ذلك المسلم امرأة كما في قصة أم هانىء ويشترط كون المؤمن مكلفا فإنه يكون أمانا من الجميع فلا يجوز نكث ذلك وقوله "وهم يد على من سواهم" أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يحل لهم التخاذل بل يعين بعضهم بعضا على جميع من عاداهم من أهل الملل كأنه جعل أيديهم يدا واحدة وفعلهم فعلا واحدا
7- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع بك هذا فلان فلان حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فأقر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين متفق عليه واللفظ لمسلم الحديث دليل على أنه يجب القصاص بالمثل كالمحدد وأنه يقتل الرجل بالمرأة وأنه يقتل بما قتل به فهذه ثلاث مسائل الأولى: وجوب القصاص بالمثقل وإليه ذهب الهادوية و الشافعي ومالك ومحمد بن الحسن عملا بهذا الحديث والمعنى المناسب ظاهر قوي وهو صيانة الدماء من الإهدار ولأن القتل بالمثل كالقتل بالمحدد في إزهاق الروح وذهب أبو حنيفة والشعبي والنخعي إلى أنه لا قصاص في القتل بالمثل واحتجوا بما أخرجه البيهقي من حديث النعمان بن بشير مرفوعا كل شيء خطأ إلا السيف ولكل خطأ أرش وفي لفظ كل شيء سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش وأجيب بأن الحديث مداره على جابر الجعفي وقيس بن الربيع ولا يحتج بهما فلا يقاوم حديث أنس هذا وجواب الحنفية عن حديث أنس بأنه حصل في الرض الجرح أو بأن اليهودي كان عادته قتل الصبيان فهو من الساعين في الأرض فسادا تكلف وأما إذا كان القتل بآلة لا يقصد بمثلها القتل غالبا كالعصا والسوط واللطمة ونحو ذلك فعند الهادوية و الليث ومالك يجب فيها القود وقال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم لا قصاص فيه وهو شبه العمد وفيه الدية مائة من الإبل مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها لما أخرجه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا وإن في قتل الخطإ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون في بطونها أولادها" قال ابن كثير في الإرشاد: في إسناده اختلاف كثير ليس هذا موضع بسطه قلت إذا صح الحديث فقد اتضح الوجه وإلا فالأصل عدم اعتبار الآلة في إزهاق الروح بل ما أزهق الروح أوجب القصاص المسألة الثانية قتل الرجل بالمرأة وفيه خلاف ذهب إلى قتله بها أكثر أهل العلم وحكى ابن المنذر الإجماع على ذلك لهذا الحديث وعن الحسن البصري أنه لا يقتل الرجل بالأنثى وكأنه يستدل بقوله تعالى: {والْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ورد بأنه ثبت في كتاب عمرو بن حزم الذي تلقاه الناس بالقبول أن الذكر يقتل بالأنثى فهو أقوى من مفهوم الآية وذهبت الهادوية إلى أن الرجل يقاد بالمرأة ويوفى ورثته نصف ديته

(3/236)


قالوا لتفاوتهما في الدية ولأنه تعالى قال والجروح قصاص ورد بأن التفاوت في الدية لا يوجب التفاوت في النفس ولذا يقتل عبد قيمته ألف بعبد قيمته عشرون وقد وقعت المساواة في القصاص لأن المراد بالمساواة في الجروح أن لا يزيد المقتص على ما وقع فيه من الجرح المسألة الثالثة أن يكون القود بمثل ما قتل به وإلى هذا ذهب الجمهور وهو الذي يستفاد من قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وبما أخرجه البيهقي من حديث البراء عنه صلى الله عليه وسلم "من غرض غرضنا له ومن حرق حرقناه ومن غرق غرقناه" أي من اتخذه غرضا للسهام وهذا يقيد بما إذا كان السبب الذي قتل به يجوز فعله وأما إذا كان لا يجوز فعله كمن قتل بالسحر فإنه لا يقتل به لأنه محرم وفيه خلاف قال بعض الشافعية إذا قتل باللواط أو بإيجار الخمر أنه يدس فيه خشبة ويوجر الخل وقيل يسقط اعتبار المماثلة وذهب الهادوية والكوفيون و أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يكون الاقتصاص إلا بالسيف واحتجوا بما أخرجه البزار و ابن عدي من حديث أبي بكرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قود إلا بالسيف" إلا أنه ضعيف قال ابن عدي طرقه كلها ضعيفة واحتجوا بالنهي عن المثلة وبقوله صلى الله عليه وسلم إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وأجيب بأنه مخصص بما ذكر وفي قوله فأقر دليل على أنه يكفي الإقرار مرة واحدة إذ لا دليل على أنه كرر الإقرار
8- وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لهم شيئا رواه أحمد والثلاثة بإسناد صحيح الحديث فيه دليل على أنه لا غرامة على الفقير إلا أنه قال البيهقي إن كان المراد بالغلام فيه المملوك فإجماع أهل العلم أن جناية العبد في رقبته فهو يدل والله أعلم أن جنايته كانت خطأ وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يجعل عليه شيئا لأنه التزم أرش جنايته فأعطاه من عنده متبرعا بذلك وقد حمله الخطابي على أن الجاني كان حرا وكانت الجناية خطأ وكانت عاقلته فقراء فلم يجعل عليهم شيئا إما لفقرهم وإما لأنه لا يعقلون الجناية الواقعة على العبد إن كان المجني عليه مملوكا كما قال البيهقي وقد يكون الجاني غلاما حرا غير بالغ وكانت جنايته عمدا فلم يجعل أرشها على عاقلته وكان فقيرا فلم يجعل عليه في الحال أو رآه على عاقلته فوجدهم فقراء فلم يجعله عليه لكون جنايته في حكم الخطإ ولا عليهم لكونهم فقراء والله أعلم انتهى وقوله ولم يجعل أرشها على عاقلته هذا مذهب الشافعي أن عمد الصغير يكون في ماله ولا تحمله العاقلة وقوله أو رآه على عاقلته يعني مع احتمال أنه خطأ وهذا اتفاق ومع احتمال أنه عمد كما ذهب إليه الهادوية و أبو حنيفة ومالك
9- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني فقال حتى تبرأ ثم جاء إليه فقال أقدني فأقاده ثم جاء إليه فقال يا رسول الله عرجت فقال قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من

(3/237)


جرح حتى يبرأ صاحبه رواه أحمد والدارقطني وأعل بالإرسال بناء على أن شعيبا لم يدرك جده وقد دفع بأنه ثبت لقاء شعيب لجده وفي معناه أحاديث تزيده قوة وهو دليل على أنه لا يقتص من الجراحات حتى يحصل البرء من ذلك وتؤمن السراية قال الشافعي إن الانتظار مندوب بدليل تمكينه صلى الله عليه وسلم من الاقتصاص قبل الاندمال وذهب الهادوية وغيرهم إلى أنه واجب لأن دفع المفاسد واجب وإذنه صلى الله عليه وسلم بالاقتصاص كان قبل علمه صلى الله عليه وسلم بما يؤول إليه من المفسدة
10- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها ومافي بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن دية جنينها غرة بضم الغين المعجمة وتشديد الراء منون " عبد أو وليدة" هما بدل من غرة وأو للتقسيم لا للشك "وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها من معهم" في سنن أبي داود أن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها والعقل على عصبتها ومثله في مسلم فضمير ورثها يعود إلى القاتلة وقيل يعود إلى المقتولة وذلك أن عاقلتها قالوا إن ميراثها لنا فقال لا فقضى بديتها لزوجها وولدها فقال حمل بفتح الحاء المهملة وفتح الميم ابن النابغة بالنون بعد الألف موحدة فغين معجمة وهو زوج المرأة القاتلة الهذلي يا رسول الله كيف يغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل الاستهلال رفع الصوت يريد أنه لم تعلم حياته بصوت نطق أو بكاء فمثل ذلك يطل بالمثناة التحتية مضمومة وتشديد اللام على أنه مضارع مجهول من طل ومعناه يهدر ويلغى ولا يضمن ويروى بالموحدة وتخفيف اللام على أنه ماض من البطلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا أي هذا القائل "من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع متفق عليه وفي الحديث مسائل الأولى فيه دليل على أن الجنين إذا مات بسبب الجناية وجبت فيه الغرة مطلقا سواء انفصل عن أمه وخرج ميتا أو مات في بطنها فأما إذا خرج حيا ثم مات ففيه الدية كاملة ولكنه لا بد أن يعلم أنه جنين بأن تخرج منه يد أو رجل وإلا فالأصل براءة الذمة وعدم وجوب الغرة وقد فسر الغرة في الحديث بعبد أو وليدة وهي الأمة قال الشعبي الغرة خمسمائة درهم وعند أبي داود والنسائي من حديث بريدة مائة شاة وقيل خمس من الإبل إذ هي الأصل في الديات وهذا في جنين الحرة وأما جنين الأمة فقيل يخصص بالقياس على ديتها فكما أن الواجب قيمتها في ضمانها فيكون الواجب في جنينها الأرش منسوبا إلى القيمة وقياسه على جنين الحرة فإن اللازم فيه نصف عشر الدية فيكون اللازم فيه نصف عشر قيمتها الثانية قوله " وقضى بدية المرأة على عاقلتها" يدل على أنه لا يجب القصاص في مثل هذا وهو من أدلة

(3/238)


من يثبت شبه العمد وهو الحق فإن ذلك القتل كان بحجر صغير أو عود صغير لا يقصد به القتل بحسب الأغلب فتجب فيه الدية على العاقلة ولا قصاص فيه والحنفية تجعله من أدلة عدم وجوب القصاص بالمثقل الثالثة في قوله على عاقلتها دليل على أنها تجب الدية على العاقلة والعاقلة هم العصبة وقد فسرت بمن عدا الولد وذوي الأرحام كما أخرجه البيهقي من حديث أسامة بن عمير فقال أبوها إنما يعقلها بنوها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الدية على العصبة وفي الجنين غرة" ولهذا بوب البخاري باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد قال الشافعي لا أعلم خلافا في أن العاقلة العصبة وهم القرابة من قبل الأب وفسر بالأقرب فالأقرب من عصبة الذكر الحر المكلف وفي ذلك خلاف يأتي في القسامة وظاهر الحديث وجوب الدية على العاقلة وبه قال الجمهور وخالف جماعة في وجوبها عليهم فقالوا لا يعقل أحد عن أحد مستدلين بما عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم أن رجلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من هذا قال ابني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه وعند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث عمرو بن الأحوص أنه صلى الله عليه وسلم قال لا يجني جان إلا على نفسه ولا يجني جان على ولده وجمع بينهما وبين وجوب الدية على العاقلة بأن المراد به الجزاء الأخروي أي لا يجني عليه جناية يعاقب بها في الآخرة وعلى القول بأن الوالد والولد ليسا من العاقلة كما قاله الخطابي فلا يتم به الاستدلال الرابعة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع يظهر أن قوله من أجل سجعه مدرج فهمه الراوي ففيه دليل على كراهة السجع قال العلماء إنما كرهه من هذا الشخص لوجهين أحدهما أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله الثاني أنه تكلفه في مخاطبته وهذان الوجهان من السجع مذمومان وأما السجع الذي ورد منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات وهو كثير في الحديث فليس من هذا لأنه لا يعارض حكم الشرع ولا يتكلفه فلا نهي عنه
11- وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن عمر سأل من شهد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين قال فقام حمل بن النابغة المذكور في الحديث الذي قبله فقال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى فذكره مختصرا وصححه ابن حبان والحاكم وأخرجه أبو داود بلفظ أن عمر سأل الناس عن إملاص المرأة فقال المغيرة شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى فيها بغرة عبد أو أمة" فقال ائتني بمن يشهد معك قال فأتاه محمد بن مسلمة فشهد له ثم قال أبو داود قال أبو عبيد إملاص المرأة إنما سمي إملاصا لأن المرأة تزلقه قبل وقت الولادة وكذلك كل ما زلق من اليد وغيرها فقد ملص انتهى ولا بد من أن يعلم أن الجنين قد تخلق وجرى فيه الروح ليتصف بأنه قتلته الجناية والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي من يد وأصبع وغيرهما فإن لم تظهر فيه الصورة ويشهد أهل الخبرة بأن ذلك أصل الآدمي فحكمه كذلك إذا كانت

(3/239)


الصورة خفية وإن شك أهل الخبرة لم يجب فيه شيء اتفاقا وفيه دليل على أن في الجنين غرة ذكرا كان أو أنثى لإطلاق الحديث
12- وعن أنس رضي الله عنه أن الربيع بضم الراء والباء الموحدة المفتوحة فمثناة تحتية مشددة مكسورة أخت أنس بنت النضر عمته أي عمة أنس بن مالك الربيع بنت معوذ ووقع في سنن البيهقي بنت معوذ قال المصنف إنه غلط كسرت ثنية جارية أي شابة من الأنصار كما في رواية فطلبوا أي قرابة الربيع إليها أي إلى الجارية العفو فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص" فقال أنس بن النضر يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك الفراش لا تكسر ثنيتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس كتاب الله القصاص" فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" متفق عليه واللفظ للبخاري فيه مسائل الأولى أن فيه دليلا على وجوب الاقتصاص في السن بأن كانت بكمالها فهو مأخوذ من قوله تعالى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} وقد ثبت على قلع السن بالسن في العمد وأما كسر السن فقد دل هذا الحديث على القصاص فيه أيضا قال العلماء وذلك إذا عرفت المماثلة وأمكن ذلك من دون سراية إلى غير الواجب قال أبو داود قلت لأحمد يريد أحمد بن حنبل: كيف في السن؟ قال تبرد أي يبرد من سن الجاني بقدر ما كسر من سن المجني عليه وقال بعضهم إن الحديث محمول على القلع وأنه أراد بقوله كسرت قلعت وهو بعيد وأما السن فقد قام الإجماع على أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه ذهاب النفس إذا لم تتأت فيه المماثلة بأن لا يوقف على قدر الذاهب وقال الليث والشافعي والحنفية لا قصاص في السن لأن دون العظم حائلا من جلد ولحم وعصب فيتعذر معه المماثلة فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص ولكن لا نصل إلى العظم حتى ننال ما دونه مما لا يعرف قدره
الثانية: قوله أتكسر ثنية الربيع ظاهر الاستفهام الإنكار وقد تؤول بأنه لم يرد به الحكم والمعارضة وإنما أراد به أن يؤكد للنبي صلى الله عليه وسلم طلب الشفاعة منهم وأكد طلبه من النبي صلى الله عليه وسلم بالقسم وقيل بل قاله قبل أن يعلم أن القصاص حتم وظن أنه يخير بينه وبين الدية أو العفو ويرشد إليه قوله في جوابه يا أنس كتاب الله القصاص وقيل إنه لم يرد الإنكار بل قاله توقعا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش وقد وقع الأمر على ما أراد وفي إلهامهم العفو وفي تقريره صلى الله عليه وسلم على الحلف دليل على أنه يجوز الحلف فيما يظن وقوعه
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم "كتاب الله القصاص" المشهور الرفع على أنه مبتدأ وخبر ويجوز النصب في الأول وفعله محذوف أي كتب كتاب الله وفي الثاني على أنه مفعول للكتاب أو للفعل المقدر ويحتمل وجوها أخر قيل أراد بالكتاب الحكم أي حكم الله القصاص وقيل أشار إلى قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أو إلى {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} أو إلى {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}

(3/240)


وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم" إلى آخره تعجب منه صلى الله عليه وسلم بوقوع مثل هذا من حلف أنس على نفي فعل الغير وإصرار الغير على إيقاع ذلك الفعل وكأن قضية العادة في ذلك أن يحنث في يمينه فألهم الله تعالى الغير العفو فبر قسم أنس وأن هذا الاتفاق وقع إكراما من الله تعالى لأنس ليبر في يمينه وأنه من جملة عباد الله الذين يعطيهم الله تعالى أربهم ويجيب دعاءهم وفيه جواز الثناء على من وقع له مثل ذلك عند أمن الفتنة
13- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في عميا" بكسر العين المهملة وتشديد الميم والياء المثناة من تحت بالقصر فعيلى من العماء قوله "أو رميا" بزنته مصدر يراد به المبالغة "بحجر أو سوط أو عصا فعقله عقل الخطأ ومن قتل عمدا فهو قود ومن حال دونه فعليه لعنه الله" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد قوي قال في النهاية في تفسير اللفظين المعنى أن يوجد بينهم قتيل يعمى أمره ولا يتبين قاتله فحكمه حكم قتيل الخطأ تجب فيه الدية الحديث فيه مسألتان الأولى أنه دليل على أن من لم يعرف قاتله فأنها تجب فيه الدية وتكون على العاقلة وظاهره من غير أيمان قسامة وقد اختلف في ذلك فقالت الهادوية" إن كان الحاضرون الذين وقع بينهم القتل منحصرين لزمت القسامة وجرى فيها حكمها من الأيمان والدية وإن منحصرين لزمت الدية في بيت المال وقال الخطابي: اختلف هل تجب الدية في بيت المال أو لا قال إسحاق بالوجوب وتوجيهه من حيث المعنى أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين فوجبت ديته في بيت مال المسلمين وذهب الحسن إلى أن ديته تجب على جميع من حضر وذلك لأنه مات بفعلهم فلا تتعداهم إلى غيرهم وقال مالك إنه يهدر لأنه إذا لم يوجد قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد وللشافعي قول إنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف فإن حلف استحق الدية وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة وذلك لأن الدم لا يجب إلا بالطلب وإذا عرفت هذا الاختلاف وعدم المستند القوي في أي هذه الأقوال وقد عرفت أن سند الحديث قوي كما قاله المصنف علمت أن القول به أولى الأقوال المسألة الثانية في قوله ومن قتل عمدا فهو قود دليل على أن الذي يوجبه القتل عمدا هو القود عينا وفي المسألة قولان الأول أنه يجب القود عينا وإليه ذهب زيد بن علي وأبو حنيفة وجماعة ويدل له قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وحديث "كتاب الله القصاص" قالوا وأما الدية فلا تجب إلا إذا رضي الجاني ولا يجبر الجاني على تسليمها والثاني للهادوية وأحمد ومالك غيرهم وقول للشافعي إنه يجب بالقتل عمدا أحد أمرين القصاص أو الدية لقوله صلى الله عليه وسلم "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقيد وإما أن يدي" أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم وأجيب عنه بأن المراد من الحديث أن ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية قالوا وفي هذا التأويل جمع بين الدليلين قلنا الاقتصار في الآية وفي بعض الأحاديث على بعض ما يجب لا يدل على أنه لا يجب غيره

(3/241)


مما قام الدليل على وجوبه وقد أخرج أحمد وأبو داود عن أبي شريح الخزاعي قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل" والخبل الجراح "فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه فإن قبل من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فإن له النار"
14- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك" رواه الدارقطني موصولا ومرسلا وصححه ابن القطان ورجاله ثقات إلا أن البيهقي رجح المرسل قال الحافظ ابن كثير في الإرشاد وهذا الإسناد على شرط مسلم قلت إشارة إلى إسناد الدارقطني فإنه رواه من حديث أبي داود الحفري عن الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ثم قال قال الحافظ البيهقي ما رواه غير أبي داود الحفري عن الثوري وغيره عن إسماعيل بن أمية مرسلا وهذا هو الصحيح والحديث دليل على أنه ليس على الممسك سوى حبسه ولم يذكر قدر مدته فهي راجعة إلى نظر الحاكم وأن القود أو الدية على القاتل وإلى هذا ذهبت الهادوية والحنفية والشافعية للحديث ولقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وذهب مالك والنخعي وابن أبي ليلى إلى أنهما يقتلان جميعا إذ هما مشتركان في قتله فإنه لولا الإمساك ما قتل وأجيب بأن النص منع الإلحاق فإن حكم ذلك حكم الحافر للبئر والمردي إليها فإن الضمان على المردي دون الحافر اتفاقا ولكن الحديث الآتي دليل للأولين
15- وعن عبد الرحمن بن البيلماني بفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية وفتح اللام ضعفه جماعة فلا يحتج بما انفرد به إذا وصل فكيف إذا أرسل فكيف إذا خالف وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي ليلى ضعيف "أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال أنا أولى من وفي بذمته" أخرجه عبد الرزاق هكذا مرسلا ووصله الدارقطني بذكر ابن عمر فيه وإسناده الموصول واه تقدم الكلام في الحديث
16- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قتل غلام غيلة بكسر الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية أي سرا فقال عمر رضي الله عنه لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به أخرجه البخاري وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن نافع أن عمر قتل سبعة من أهل صنعاء برجل وأخرجه في الموطإ بسند آخر من حديث ابن المسيب أن عمر قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا وللحديث قصة أخرجها الطحاوي والبيهقي عن ابن وهب قال حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاما يقال له أصيل فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها فاجتمع على قتل الغلام الرجل

(3/242)


ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاءه وجعلوه في عيبة وطرحوه في ركية في ناحية القرية ليس فيها ماء وذكر القصة وفيها فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون فكتب يعلى وهو يومئذ أمير شأنهم إلى عمر رضى الله عنه فكتب عمر بقتلهم جميعا وقال والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين وفي هذا دليل أن رأي عمر رضي الله عنه أنه تقتل الجماعة بالواحد وظاهره ولو لم يباشره كل واحد ولذا قلنا إن فيه دليلا لقول مالك والنخعي وقول عمر لو تمالأ أي توافق دليل على ذلك وفي قتل الجماعة بالواحد مذاهب الأول هذا وإليه ذهب جماهير فقهاء الأمصار وهو مروي عن علي رضي الله عنه وغيره وقد أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه في رجلين شهدا على رجل بالسرقة فقطعه علي رضي الله عنه ثم أتياه بآخر فقالا هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول فلم يجز شهادتهما على الآخر وأغرمهما دية الأول وقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا فرق بين القصاص في الأطراف والنفس والثاني للناصر والشافعي وجماعة ورواية عن مالك أنه يختار الورثة واحدا من الجماعة وفي رواية عن مالك يقرع بينهم فمن خرجت كان عليه القرعة قتل ويلزم الباقون الحصة من الدية وحجتهم أن الكفاءة معتبرة ولا تقتل الجماعة بالواحد كما لا يقتل الحر بالعبد وأجيب بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول بل لأن كل واحد منهم قاتل والثالث لربيعة وداود أنه لا قصاص على الجماعة بل الدية رعاية للمماثلة ولا وجه لتخصيص بعضهم هذه أقوال العلماء في المسألة والظاهر قول داود لأنه تعالى أوجب القصاص وهو المماثلة وقد انتفت هنا عند موجب القصاص هو الجناية التي تزهق الروح بها فإن زهقت بمجموع فعلهم فكل فرد ليس بقاتل فكيف يقتل عند الجمهور وإنما يصح على قول النخعي وإن كان كل واحد قاتلا بانفراده لزم توارد المؤثرات على أثر واحد والجمهور يمنعونه على أنه لا سبيل إلى معرفة أنه مات بفعلهم جميعا أو بفعل بعضهم فإن فرض معرفتنا بأن كل جناية قاتلة بانفرادها لم يلزم أنه مات بكل منها فلا عبرة بالأسبق كما قيل وأما حكم عمر رضي الله عنه ففعل صحابي لا تقوم به الحجة ودعوى أنه إجماع غير مقبولة وإذا لم يجب قتل الجماعة بالواحد فإنها تلزمهم دية واحدة لأنها عوض عن دم المقتول وقيل تلزم كل واحد ونسب قائله إلى خلاف الإجماع هذا ما قررناه هنا ثم قوي لنا قتل الجماعة بالواحد وحررنا دليله في حواشي ضوء النهار وفي ذيلنا على الأبحاث المسددة
17- وعن أبي شريح بضم الشين المعجمة وسكون المثناة التحتية فحاء مهملة الخزاعي بضم الخاء المعجمة فزاي بعد الألف عين مهملة واسمه عمرو بن خويلد وقيل غيره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل له قتيل بعد مقالتي هذه فأهله بين خيرتين: بالخاء المعجمة فراء تثنية خيرة بينهما بقوله :"إما أن يأخذوا

(3/243)


العقل أو يقتلوا " أخرجه أبو داود والنسائي وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة بمعناه" أصل الحديث أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم في أثناء كلامه: "ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له" الحديث وتقدم حديث أبي شريح فيه التخيير بين إحدى ثلاث ولا منافاة قال في الهدي النبوي إن الواجب أحد الشيئين إما القصاص أو الدية والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء العفو مجانا أو العفو إلى الدية أو القصاص ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة والرابعة المصالحة إلى أكثر من الدية وفيه وجهان أحدهما أشهرهما مذهبا أي للحنابلة جوازه الثاني ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها وهذا أرجح دليلا فإن اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه بعد وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك وتقدم القول الثاني أن موجبه القود عينا وليس له العفو إلى الدية إلا برضا الجاني وتقدم المختار

(3/244)


باب الديات
الديات بتخفيف المثناة التحتية جمع دية كعدات جمع عدة أصل دية ودية بكسر الواو مصدر ودي القتيل يديه إذا أعطى وليه ديته حذفت فاء الكلمة وعوضت عنها تاء التأنيث كما في عدة وهي اسم لأعم مما فيه القصاص وما لا قصاص فيه
1- وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بالحاء المهملة مفتوحة وسكون الزاي وهو تابعي ولي القضاء في المدينة لعمر بن عبد العزيز اسمه كنيته عن أبيه عن جده عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن فذكر الحديث أوله "من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين أما بعد" إلى آخر ما هنا وفيه "أن من اعتبط" بالعين المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة آخرها طاء مهملة أي من قتل قتيلا بلا جناية منه ولا جريرة توجب قتله "مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول" فيه دليل على أنهم مخيرون كما قررناه "وإن في النفس الدية مائة من الإبل " بدل من الدية "وفي الأنف إذا أوعب" بضم الهمزة وسكون الواو وكسر العين المهملة فموحدة "جدعه" أي قطع جميعه "الدية وفي اللسان الدية" إذا قطع من أصله أو ما يمنع منه الكلام "وفي الشفتين الدية وفي الذكر الدية" إذا قطع من أصله "وفي البيضتين الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية" إذا قطعت من مفصل الساق "وفي المأمومة" هي الجناية التي بلغت أم الرأس وهي الدماغ أو الجلدة الرقيقة عليها "ثلث الدية وفي الجائفة" قال في القاموس هي الطعنة تبلغ الجوف ومثله في غيره "ثلث الدية وفي المنقلة" اسم فاعل من نقل مشدد القاف وهي التي تخرج منها صغار العظام وتنتقل من أماكنها وقيل التي تنقل العظم أي تكسره

(3/244)


خمس عشرة من الإبل وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة" اسم فاعل من أوضح وهي التي توضح العظم وتكشفه "خمس من الإبل وإن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار" أخرجه أبو داود في المراسيل والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان وأحمد واختلفوا في صحته قال أبو داود في المراسيل قد أسند هذا ولا يصح والذي قال في إسناده سليمان بن داود وهم إنما هو ابن أرقم وقال أبو زرعة عرضته على أحمد فقال سليمان بن داود هذا ليس بشيء وقال ابن حبان سليمان بن داود اليماني ضعيف وسليمان بن داود الخولاني ثقة وكلاهما يرويان عن الزهري والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني فمن ضعفه إنما ظن أن الراوي هو اليماني وقال الشافعي لم ينقلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تغني شهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس إياه بالقبول والمعرفة قال العقيلي حديث ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه غير مسموع عمن فوق الزهري وقال يعقوب بن سفيان لا أعلم في الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم فإن الصحابة والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم قال ابن شهاب قرأت في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي وقال أحمد أرجو أن يكون صحيحا وقال الحافظ ابن كثير في الإرشاد بعد نقله كلام أئمة الحديث فيه ما لفظه قلت وعلى كل تقدير فهذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا يعتمدون عليه ويفزعون في مهمات هذا الباب إليه ثم ذكر كلام يعقوب بن سفيان وإذا عرفت كلام العلماء هذا عرفت أنه معمول به وأنه أولى من الرأي المحض وقد اشتمل على مسائل فقهية الأولى فيمن قتل مؤمنا اعتباطا أي بلا جناية منه ولا جريرة توجب قتله كما قدمناه وقال الخطابي اعتبط بقتله أي قتله ظلما لا عن قصاص وقد روى الاغتباط بالغين المعجمة كما يفيده تفسيره في سنن أبي داود فأنه قال إنه سئل يحيى بن يحيى الغساني عن الاغتباط فقال القاتل الذي يقتل في الفتنة فيرى أنه في هدى لا يستغفر الله تعالى منه فهذا يدل أنه من الغبطة الفرح والسرور وحسن الحال فإذا كان المقتول مؤمنا وفرح بقتله فإنه داخل في هذا الوعيد ودل على أنه يجب القود إلا أن يرضى أولياء المقتول فإنهم مخيرون بينه وبين الدية كما سلف الثانية أنه دل على أن قدر الدية مائة من الإبل وفيه دليل أيضا على أن الإبل هي الواجبة وأن سائر الأصناف ليست بتقدير شرعي بل هي مصالحة وإلى هذا ذهب القاسم والشافعي وأما أسنانها فسيأتي في حديث بعد هذا بيانها إلا أن قوله في هذا الحديث "وعلى أهل الذهب ألف دينار" ظاهره أنه أصل أيضا على أهل الذهب والإبل أصل على أهل الإبل ويحتمل أن ذلك مع عدم الإبل وأن قيمة المائة منها

(3/245)


ألف دينار في ذلك العصر ويدل لهذا ما أخرجه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على أثمان الإبل إذا غلت رفع من قيمتها وإذا هاجت ورخصت نقص من قيمتها وبلغت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم قال وقضى على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان دية عقله في الشاء بألفي شاة وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا من بني عدي قتل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا ومثله عند الشافعي وعند الترمذي وصرح بأنها اثنا عشر ألف درهم وعند أهل العراق أنها من الورق عشرة آلاف درهم ومثله عن عمر رضي الله عنه وذلك بتقويم الدينار بعشرة دراهم واتفقوا على تقويم المثقال بها في الزكاة وأخرج أبو داود عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل القمح شيئا لم يحفظه محمد بن إسحاق وهذا يدل على تسهيل الأمر وأنه ليس يجب على من لزمته الدية إلا من النوع الذي يجده ويعتاد التعامل به في ناحيته وللعلماء هنا أقاويل مختلفة وما دلت عليه الأحاديث أولى بالاتباع وهذه التقديرات الشرعية كما عرفت وقد استبدل الناس عرفا في الديات وهو تقديرها بسبعمائة قرش ثم إنهم يجمعون عروضا يقطع فيها بزيادة كثيرة في أ ثمانها فتكون الدية حقيقة نصف الدية الشرعية ولا أعرف لهذا وجها شرعيا فإنه أمر صار مأنوسا ومن له الدية لا يعذر عن قبول ذلك حتى أنه صار من الأمثال قطع دية إذا قطع شيء بثمن لا يبلغه المسألة الثالثة قوله "وفي الأنف إذا أوعب جدعه" أي استؤصل وهو أن يقطع من العظم المنحدر من مجمع الحاجبين فإن فيه الدية وهذا حكم مجمع عليه واعلم أن الأنف مركب من أربعة أشياء من قصبة ومارن وأرنبة وروثة فالقصبة هي العظم المنحدر من مجمع الحاجبين والمارن هو الغضروف الذي يجمع المنخرين والروثة بالراء وبالمثلثة طرف الأنف وفي القاموس المارن الأنف أو طرفه أو ما لان منه واختلف إذا جنى على أحد هذه فقيل تلزم حكومة عند الهادي وذهب الناصر والفقهاء إلى أن في المارن دية لما رواه الشافعي عن طاوس قال عندنا في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "في الأنف إذا قطع مارنه مائة من الإبل" قال الشافعي وهذا أبين من حديث آل حزم وفي الروثة نصف الدية لما أخرجه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قطعت ثندوة الأنف بنصف العقل خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب أو الورق" قال في النهاية الثندوة هنا روثة الأنف وهي طرفه ومقدمه المسألة الرابعة قوله "وفي اللسان الدية" أي إذا قطع من أصله كما هو ظاهر الإطلاق وهذا مجمع عليه وكذا إذا قطع منه ما يمنع الكلام وأما إذا قطع ما يبطل بعض الحروف فحصته معتبرة بعدد الحروف وقيل بحروف اللسان فقط وهي ثمانية عشر حرفا

(3/246)


لا حروف الحلق وهي ستة ولا حروف الشفة وهي أربعة والأول أولى لأن النطق لا يتأتى إلا باللسان المسألة الخامسة قوله "وفي الشفتين الدية" واحدتهما شفة بفتح الشين وتكسر كما في القاموس وحد الشفتين من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه وفي طوله من أعلى الذقن إلى أسفل الخدين وهو مجمع عليه واختلف إذا قطع إحداهما فذهب الجمهور إلى أن كل واحدة نصف الدية على السواء وروي عن زيد بن ثابت أن في العليا ثلثا وفي السفلى ثلثين إذ منافعها أكثر لحفظها للطعام والشراب السادسة قوله "وفي الذكر الدية" هذا إذا قطع من أصله وهو مجمع عليه فإن قطع الحشفة ففيها الدية عند مالك وبعض الشافعية واختاره المهدي كمذهب الهادوية وظاهر الحديث أنه لا فرق بين العنين وغيره والكبير والصغير وإليه ذهب الشافعي وعند الأكثر أن في ذكر الخصي والعنين حكومة السابعة قوله "وفي البيضتين الدية" وهو حكم مجمع عليه وفي كل واحدة نصف الدية وفي البحر عن علي رضي الله عنه وعن ابن المسيب رضي الله عنه أن في البيضة اليسرى ثلثي الدية لأن الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية الثامنة أن في الصلب الدية وهو إجماع والصلب بالضم والتحريك عظم من لدن الكاهل إلى العجب بفتح العين المهملة وسكون الجيم أصل الذنب كالصالبة قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} فإن ذهب المني مع الكسر فديتان التاسعة أفاد أن في العينين الدية وهو مجمع عليه وفي إحداهما نصف الدية وهذا في العين الصحيحة واختلف في الأعور إذا ذهبت عينه بالجناية فذهبت الهادوية والحنفية والشافعية إلى أنه يجب فيها نصف الدية إذ لم يفصل الدليل وهو هذا الحديث وقياسا على من له يد واحدة فإنه ليس له إلا نصف الدية وهو مجمع عليه وذهب جماعة من الصحابة و مالك وأحمد إلى أن الواجب فيها دية كاملة لأنها في معنى العينين واختلفوا إذا جنى على عين واحدة فالجمهور على ثبوت القود لقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وعن أحمد أنه لا قود فيها العاشرة قوله وفي الرجل الواحدة نصف الدية وحد الرجل التي تجب فيها الدية من مفصل الساق فإن قطع من الركبة لزم الدية وحكومة في الزائد
واعلم أنه ذكر البيهقي عن الزهري أنه قرأ في كتاب عمرو بن حزم وفي الأذن خمسون من الإبل قال وروينا عن عمر وعلي أنهما قضيا بذلك وروى البيهقي من حديث معاذ أنه قال مائة من الإبل وفي العقل مائة من الإبل وقال البيهقي إسناده ليس بقوي قال ابن كثير لأنه من رواية رشدين بن سعد المصري وهو ضعيف قال زيد بن أسلم مضت السنة أن في العقل إذا ذهب الدية رواه البيهقي الحادية عشرة أنه دل على أن في المأمومة والجائفة وتقدم تفسيرهما في كل واحدة ثلث الدية قال الشافعي لا أعلم خلافا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال في الجائفة ثلث الدية ذكره ابن كثير في الإرشاد وقال في نهاية المجتهد اتفقوا على أن الجائفة من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنه لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن واختلفوا إذا وقعت ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة

(3/247)


إلى تجويف عضو من الأعضاء أي عضو كان ذلك العضو ثلث الدية واختاره مالك وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر رضي الله عنه في موضحة الجسد الثانية عشرة وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وتقدم تفسيرها الثالثة عشرة أفاد أن في كل أصبع عشرا من الإبل سواء كانت من اليدين أو الرجلين فإن فيها عشرا وهو رأي الجمهور وفي حديث عمرو بن شعيب مرفوعا بلفظ والأصابع سواء أخرجه أحمد وأبو داود وقد كان لعمر في ذلك رأي آخر ثم رجع إلى الحديث لما روي له الرابعة عشرة أنه يجب في كل سن خمس من الإبل وعليه الجمهور وفيه خلاف ليس له دليل يقاوم الحديث الخامسة عشرة أنه يلزم في الموضحة خمس من الإبل وإليه ذهب الهادوية والفريقان وفيه خلاف ليس له ما يقاوم النص
فائدة: روى البيهقي عن زيد بن ثابت أن في الهاشمة عشرا من الإبل وحكاه البيهقي عن عدد من أهل العلم وروى عبد الله بن أحمد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في رجل ضرب فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه بأربع ديات رواه عبد الله بن أحمد وروى النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها" ذكره ابن كثير في الإرشاد وأما قوله وإن الرجل يقتل بالمرأة فتقدم الكلام فيه
2- وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دية الخطأ أخماسا" أي تؤخذ أو تجب بينه بقوله "عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون بني لبون" أخرجه الدارقطني وأخرجه الأربعة بلفظ وعشرون بني مخاض بدل بني لبون وإسناد الأول أقوى أي من إسناد الأربعة فإن فيه خشف بن مالك الطائي قال الدارقطني إنه رجل مجهول وفيه الحجاج بن أرطاة
واعلم أنه اعترض البيهقي على الدارقطني وقال إن جعله لبني اللبون غلط منه ثم قال البيهقي والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود والصحيح عن عبد الله أنه جعل أحد أخماسها بني المخاض لا كما توهم شيخنا الدارقطني رحمه الله تعالى والحديث دليل على أن دية الخطأ تؤخذ أخماسا كما ذكر وإليه ذهب الشافعي ومالك وجماعة من العلماء وإلى أن الخامس بنو لبون وعن أبي حنيفة أنه بنو مخاض كما في رواية الأربعة وذهب الهادي وآخرون إلى أنها تؤخذ أرباعا بإسقاط بني اللبون واستدل له بحديث له لم يثبته الحفاظ وذهبوا إلى أنها أرباع مطلقا وذهب الشافعي ومالك إلى أن الدية تختلف باعتبار العمد وشبه العمد والخطأ فقالوا أنها في العمد وشبه العمد تكون أثلاثا كما في الخطأ وأما التغليظ في الدية فإنه ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما فيمن قتل في الحرم بدية وثلث تغليظ في الدية وثبت عن جماعة القول بذلك ويأتي الكلام فيه وأخرجه أي حديث ابن مسعود ابن أبي شيبة من وجه آخر موقوفا على ابن مسعود وهو أصح من المرفوع

(3/248)


3- وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "الدية ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها" وقد تقدم تفسير هذه الأسنان في الزكاة
4- وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعتى " بفتح الهمزة وسكون العين المهملة فمثناة فوقية فألف مقصورة اسم تفضيل من العتو وهو التجبر "الناس على الله ثلاثة من قتل في حرم الله أو قاتله أو قتل لذحل" بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة الثأر وطلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو غيره " الجاهلية " أخرجه ابن حبان في حديث صححه الحديث دليل على أن هؤلاء الثلاث أزيد في العتو على غيرهم من العتاة الأول من قتل في الحرم فمعصية قتله تزيد على معصية من قتل الحرم وظاهره العموم لحرم مكة والمدينة ولكن الحديث ورد في غزاة الفتح في رجل قتل بالمزدلفة إلا أن السبب لا يخص به إلا أن يقال الإضافة عهدية والمعهود حرم مكة وقد ذهب الشافعي إلى التغليظ في الدية على من وقع منه قتل الخطأ في الحرم أو قتل محرما من النسب أو قتل في الأشهر الحرم قال لأن الصحابة غلظوا في هذه الأحوال وأخرج السدي عن مرة عن ابن مسعود قال ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه إلا أن رجلا لو هم بعد أن يقتل رجلا بالبيت الحرام إلا أذاقه الله تعالى من عذاب أليم وقد رفعه في رواية قلت وهذا مبني على أن الظرف في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} متعلق بغير الإرادة بل بالإلحاد وإن كانت الإرادة في غيره والآية محتملة وورد في التغليظ في الدية حديث عمرو بن شعيب مرفوعا بلفظ "عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح" رواه أحمد وأبو داود والثاني من قاتله أي من كان له دم عند شخص فيقتل رجلا آخر غير من عنده له الدم سواء كان له مشاركة في القتل أو لا الثالث قوله أو قتل لذحل الجاهلية تقدم تفسير الذحل وهو العداوة أيضا وقد فسر الحديث حديث أبي شريح الخزاعي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أعتى الناس من قتل غير قاتله أو طلب بدم في الجاهلية من أهل الإسلام أو بصر عينه ما لم تبصر" أخرجه البيهقي
5- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن دية الخطأ وشبه العمد" ما كان بالسوط والعصا "مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان قال ابن القطان وهو صحيح ولا يضره الاختلاف وتقدم الكلام في الحديث وإنما ذكره المصنف تفسيرا للحديث الذي سلف من حديث عمرو بن شعيب وفيه تغليظ عقل الخطأ ولم يبينه هنالك فبينه هنا
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذه

(3/249)


وهذه سواء" يعني الخنصر والإبهام رواه البخاري ولأبي داود والترمذي أي من حديث ابن عباس "دية الأصابع سواء" هذا أعم من الأول والأسنان سواء زاده بيانا بقوله الثنية والضرس سواء فلا يقال الدية على قدر النفع والضرس أنفع في المضغ ولابن حبان أي من حديث ابن عباس دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشرة من الإبل لكل إصبع وقد قدمنا الكلام في هذا مستوفى
7- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه قال "من تطبب" أي تكلف الطب ولم يكن طبيبا كما يدل له صيغة تفعل "ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا فما دونها فهو ضامن" أخرجه الدارقطني وصححه الحاكم وهو عند أبي داود والنسائي وغيرهما إلا أن من أرسله أقوى ممن وصله الحديث دليل على تضمين المتطبب ما أتلفه من نفس فما دونها سواء أصاب بالسراية أو المباشرة وسواء كان عمدا أو خطأ وقد ادعي على هذا الإجماع وفي نهاية المجتهد إذا أعنت أي المتطبب كان عليه الضرب والسجن والدية في ماله وقيل على العاقلة
واعلم أن المتطبب هو من ليس له خبرة بالعلاج وليس له شيخ معروف والطبيب الحاذق هو من له شيخ معروف وثق من نفسه بجودة الصنعة وإحكام المعرفة قال ابن القيم في الهدي النبوي إن الطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمرا وسردها هنالك قال والطبيب الجاهل إذا تعاطى علم الطب أو علمه ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لا يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان وهذا إجماع من أهل العلم قال الخطابي لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعد فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض وجناية الطبيب على قول عامة أهل العلم على عاقلته اه وأما إعنات الطبيب الحاذق فإن كان بالسراية لم يضمن اتفاقا لأنها سراية فعل مأذون فيه من جهة الشرع ومن جهة المعالج وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببه كسراية الحد وسراية القصاص عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه فإنه أوجب الضمان بها وفرق الشافعي بين الفعل المقدر شرعا كالحد وغير المقدر كالتعزير فلا يضمن في المقدر ويضمن في غير المقدر لأنه راجع إلى الاجتهاد فهو في مظنة العدوان وإن كان الإعنات بالمباشرة فهو مضمون عليه إن كان عمدا وإن كان خطأ فعلى العاقلة
8- وعنه أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في المواضح" جمع موضحة "خمس خمس من الإبل" رواه أحمد والأربعة وزاد أحمد والأصابع سواء كلهن عشر عشر من الإبل وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وهو يوافق ما تقدم في حديث كتاب عمرو بن حزم وموضحة الوجه والرأس سواء بالإجماع إذ هما كالعضو الواحد
9- وعنه أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى

(3/250)


الله عليه وآله وسلم: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين" رواه أحمد والأربعة ولفظ أبي داود "دية المعاهد نصف دية الحر" وللنسائي "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها" وصححه ابن خزيمة لكنه قال ابن كثير إنه من رواية إسماعيل بن عياش وهو إذا روى عن غير الشاميين لا يحتج به عند جمهور الأئمة وهذا منه قلت تعنتوا في إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين وقبوله في الشاميين والذي يرجح عند الظن قبوله مطلقا لثقته وضبطه وأنه لذلك صحح ابن خزيمة هذه الرواية وهي عن إسماعيل عن ابن جريج وابن جريج ليس بشامي
واعلم أنه اشتمل الحديث على مسألتين الأولى في دية أهل الذمة وههنا للعلماء ثلاثة أقوال الأول: أنها نصف دية المسلم كما أفاده الحديث قال الخطابي: في معالم السنن ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا وإليه ذهب عمر بن عبد العزيزو عروة بن الزبير وهو قول مالك وابن شبرمة وأحمد بن حنبل غير أن أحمد قال إذا كان القتل خطأ فإن كان عمدا لم يقد به وتضاعف عليه اثني عشر ألفا وقال أصحاب الرأي و سفيان الثوري ديته دية المسلم وهو قول الشعبي والنخعي ويروى ذلك عن عمر وابن مسعود وقال الشافعي وإسحاق بن راهويه ديته الثلث من دية المسلم اه فعرفت أن دليل القول الأول حديث الكتاب واستدل للقول الثاني وهو قول الحنفية وإليه ذهب الهادوية بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} قالوا فذكر الدية والظاهر فيها الإكمال وبما أخرجه البيهقي عن ابن جريج عن الزهري عن أبي هريرة قال كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مثل دية المسلمين الحديث وأجيب بأن الدية مجملة وحديث الزهري عن أبي هريرة مرسل ومراسيل الزهري قبيحة وذكروا آثارا كلها كمال الإسناد ودليل القول الثالث هو مفهوم قوله في حديث عمرو بن حزم وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل فإنه دل على أن غير المؤمنة بخلافها وكأنه جعل بيان هذا المفهوم ما أخرجه الشافعي نفسه عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف وفي دية المجوسي بثمانمائة ومثله عثمان رضي الله عنه فجعل قضاء عمر رضي الله عنه مبينا للقدر الذي أجمله مفهوم الصفة ولا يخفى أن دليل القول الأول أقوى لا سيما وقد صحح الحديث إمامان من أئمة أهل السنة المسألة الثانية ما أفاده قوله وللنسائي أي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها وهو دليل على أن أرش جراحات المرأة يكون كأرش جراحات الرجل إلى الثلث وما زاد عليه كان جراحتها مخالفة لجراحاته والمخالفة بأن يلزم فيها نصف ما يلزم في الرجل وذلك لأن دية المرأة على النصف من دية الرجل لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ دية المرأة على النصف من دية الرجل وهو إجماع فيقاس عليه مفهوم المخالفة من أرش جراحة المرأة على الدية الكاملة وإلى هذا ذهب الجمهور من الفقهاء

(3/251)


وهو قول عمر وجماعة من الصحابة وذهب علي رضي الله عنه والهادوية والحنفية والشافعية إلى أن دية المرأة وجراحاتها على النصف من دية الرجل وأخرج البيهقي عن علي أيضا أنه كان يقول جراحات النساء على النصف من دية الرجل فيما قل وكثر ولا يخفى أنه قد صحح ابن خزيمة حديث إن عقل المرأة كعقل الرجل حتى يبلغ الثلث فالعمل به متعين والظن به أقوى وبه قال فقهاء المدينة السبعة وجمهور أهل المدينة وهو مذهب مالك وأحمد ونقله أبو محمد المقدسي عن عمر وابنه وقال لا نعلم لهما مخالفا من الصحابة إلا عن علي رضي الله عنه ولا نعلم ثبوته عنه قال ابن كثير قلت هو ثابت عنه وفي المسألة أقوال أخر بلا دليل ناهض
10- وعنه أي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد" بينه في حديث أبي داود بلفظ "مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" وتقدم "ولا يقتل صاحبه" وبين شبه العمد بقوله "وذلك أن ينزو الشيطان" النزو بفتح النون فزاي فواو أي يثب "فتكون دماء بين الناس ضغينة ولا حمل سلاح" أخرجه الدارقطني وضعفه وأخرجه البيهقي بإسناده ولم يضعفه والحديث دليل أنه إذا وقع الجراح من غير قصد إليه ولم يكن بسلاح بل بحجر أو عصا أو نحوهما فإنه لا قود فيه وأنه شبه العمد فيلزم فيه الدية مغلظة كما تقدم في دية العمد وقد تقدم أن الدية في العمد وشبه العمد تكون أثلاثا عند الشافعي ومالك وأنها أرباع عند الهادوية وتقدم ذلك وأما أنها تكون أخماسا كما أفاده حديث ابن مسعود الماضي في الخطأ فتقدم أنه قال به أصحاب الرأي وغيرهم وفيه دليل على إثبات شبه العمد وقدمنا أنه الحق
11- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قتل رجل رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثنى عشر ألفا بين البيهقي أن المراد درهما رواه الأربعة ورجح النسائي وأبو حاتم إرساله وقد أخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه وعائشة وأبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم مثل هذا وإنما رجح النسائي وأبو حاتم إرساله لما قاله البيهقي إن محمد بن ميمون رواه عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس إنما قال لنا فيه عن ابن عباس مرة واحدة وأكثر ما كان يقول عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى قلت وزيادة العدل مقبولة وكونه قالها مرة واحدة كاف في الرفع فإنه لو اقتصر عليها لحكم برفع الحديث فإرساله مرارا لا يقدح في رفعه مرة واحدة وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وذهب الهادوية وأهل العراق أنها عشرة آلاف درهم واستدل له في البحر بقوله لقول علي به وهو توقيف انتهى إلا أنه لم يطرد هذا فيما ينقله عن علي رضي الله عنه بل تارة يقول مثل هذا وتارة يقول إن قول علي اجتهاد ولا يلزمنا ودعوى التوقيف غيري صحيحة إذ مثل هذا فيه للاجتهاد مسرح
12- وعن أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم وبالمثلثة اسمه رفاعة بن يثربي بفتح

(3/252)


المثناة التحتية وسكون المثلثة فراء فموحدة فياء النسبة قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وعداده في أهل الكوفة قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابني فقال من هذا فقلت ابني وأشهد به قال أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه رواه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يجني جان إلا على نفسه ولا يجني جان على ولده" في الباب روايات أخر تعضده والجناية الذنب أو ما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص وفيه دلالة على أنه لا يطالب أحد بجناية غيره سواء كان قريبا كالأب والولد وغيرهما أو أجنبيا فالجاني يطلب وحده بجنايته ولا يطالب بجنايته غيره قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإن قلت قد أمر الشارع بتحمل العاقلة الدية في جناية الخطأ والقسامة قلت هذا مخصص من الحكم العام وقيل إن ذلك ليس من تحمل الجناية بل من باب التعاضد والتناصر فيما بين المسلمين

(3/253)


باب دعوى الدم والقسامة
القسامة بفتح القاف وتخفيف المهملة مصدر أقسم قسما وقسامة وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم وخص القسم على الدم بالقسامة قال إمام الحرمين القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون وعند الفقهاء اسم للأيمان وفي القاموس القسامة الجماعة يقسمون على الشيء ويأخذونه أو يشهدون وفي الضياء القسامة الأيمان تقسم على خمسين رجلا من أهل البلد أو القرية التي يوجد فيها القتيل لا يعلم قاتله ولا يدعي أولياؤه قتله على أحد بعينه
1- وعن سهل بن أبي حثمة بفتح المهملة وسكون المثلثة واسم أبي حثمة عبد الله بن ساعدة بن عامر أوسي أنصاري عن رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة بضم الميم فحاء مهملة فمثناة تحتية مشددة فصاد مهملة ابن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد بضم الجيم وفتحها المشقة هنا أصابهم فأتى محيصة مغير الصيغة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح مغيران أيضا في عين فأتى أي محيصة(يهود) اسم جنس يجمع على يهدان فقال أنتم والله قتلتموه قالوا والله ما قتلناه فأقبل هو وأخوه حويصة بضم المهملة وفتح الواو فمثناة تحتية فصاد مهملة مشددة وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم وكان أصغر من حويصة وفي رواية فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر القوم فقال رسول الله صلى الله وسلم: "كبر كبر" بلفظ الأمر فيهما والثاني تأكيد للأول يريد السن مدرج تفسير لقوله كبر أي يتكلم من كان أكبر سنا فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا" أي اليهود "صاحبكم" أي عبد الله بن سهل "وإما أن أذنوا بحرب فكتب" أي رسول الله

(3/253)


صلى الله عليه وسلم "إليهم في ذلك" أي فيما ذكر من أنهم قتلوا عبد الله فكتبوا أي اليهود إنا والله ما قتلناه فقال أي النبي صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا لا وفي رواية عند مسلم قالوا لم نحضر ولم نشهد وفي بعض ألفاظ البخاري أنه قال "لهم تأتون بالبينة قالوا ما لنا بينة فقال أتحلفون" قال: "فتحلف لكم زفر" قالوا ليسوا مسلمين وفي لفظ قالوا لا نرضى بأيمان اليهود وفي لفظ كيف ينفذ بأيمان كفار فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم مائة ناقة قال سهل فلقد ركضتني منها ناقة حمراء متفق عليه اعلم أن هذا الحديث أصل كبير في ثبوت القسامة عند القائلين بها وهم الجماهير فإنهم أثبتوها وبينوا أحكامها ونتكلم على مسائل الأولى أنها لا تثبت القسامة بمجرد دعوى القتل على المدعى عليهم من دون شبهة إجماعا وقد روي عن الأوزاعي وداود ثبوتها شبهة ولا دليل لهما واختلف العلماء في الشبهة التي تثبت بها القسامة فمنهم من جعل الشبهة اللوث وهو كما في النهاية أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلانا قتلني أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما أو تهديد له منه أو نحو ذلك ومن اللوث التلطخ ومنهم من لم يشترطه كالهادوية والحنفية فإنهم قالوا وجود الميت وبه أثر القتل في محل يختص بمحصورين تثبت به القسامة عندهم إذا لم يدع المدعي على غيرهم قالوا لأن الأحاديث وردت في مثل هذه الحالة ورد بأن حديث الباب أصح ما ورد وفيه دليل على اللوث وحقيقته شبهة يغلب الظن بالحكم بها كما فصله في النهاية وهو هنا العداوة فلهذا ذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يثبت بهذا قسامة إلا إذا كان بين المقتول والمدعى عليهم عداوة كما كان في قصة خيبر قالوا فإنه يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محل طائفة لينسب إليهم وقد عدوا من صور اللوث قول المقتول قبل وفاته قتلني فلان وقال مالك إنه يقبل قوله وإن لم يكن به أثر أو يقول جرحني ويذكر العمد وادعى مالك أنه مما أجمع عليه الأئمة قديما وحديثا ورده ابن العربي بأنه لم يقله من فقهاء الأمصار غيره وتبعه عليه الليث واحتج مالك بقصة بقرة بني إسرائيل فإنه أحيي الرجل وأخبر بقاتله وأجيب بأن ذلك معجزة لنبي وتصديقها قطعي قلت ولأنه أحياه الله بعد موته فعين قاتله فإذا أحيا الله مقتولا بعد موته وعين قاتله قلنا به ولا يكون ذلك أبدا واحتج أصحابه بأن القاتل يطلب غفلة الناس فلو لم يقبل خبر المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبا وأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق ويتجنب الكذب والمعاصي ويتحرى التقوى والبر فوجب قبول قوله ولا يخفى ضعف هذه الاستدلالات وقد عدوا صور اللوث مبسوطة في كتبهم المسألة الثانية أنه بعد ثبوت ما ذكر من القتل وكل على أصله تثبت دعوى أولياء القتيل القسامة فتثبت أحكامها فمنها القصاص عند كمال شروطها لقوله في الحديث "تستحقون قتيلكم أو صاحبكم بأيمان خمسين منكم على رجل منهم فيدفع بذمته" وقوله "دم صاحبكم" في لفظ مسلم "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع بذمته" وإن كان قوله "إما أن بدوا صاحبكم" الحديث يشعر

(3/254)


بعدم القصاص إلا أن هذا التصريح في رواية مسلم أقوى في القول بالقصاص وهذا مذهب أهل المدينة فإن كانت الدعوى على واحد معين ثبت القود عليه وإن كانت على جماعة حلفوا وثبتت عليهم الدية عند الشافعية وفي قول يجب عليهم القصاص والأول الصحيح عنه فإن كان الوارث واحدا حلف خمسين يمينا فإن الإيمان لازمة للورثة ذكورا كانوا أو إناثا عمدا كان أو خطأ هذا مذهب الشافعي ومنها أن يبدأ بأيمان المدعي في القسامة بخلاف غيرها من الدعاوى كما في هذه الرواية ويدل له حديث أبي هريرة "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة" وفي إسناده لين إلا أنه قد أخرجه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب ولم يتكلم فيه قالوا ولأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة أو شبهة صارت اليمين له وهنا الشبهة قوية فصار المدعي في القسامة مشابها للمدعى عليه المتأيد بالبراءة الأصلية وذهبت الهادوية والحنفية وآخرون إلى أنه يحلف المدعى عليه ولا يمين على المدعين فيحلف خمسون رجلا من أهل القرية ما قتلناه ولا علمنا قاتله وإلى هذا جنح البخاري وذلك لأن الروايات اختلفت في ذلك في قصة الأنصار ويهود خيبر فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه من أن اليمين على المدعى عليه فإن حلفوا فهل تلزمهم الدية أم لا ذهبت الهادوية إلى أنها تلزمهم الدية بعد الأيمان وذهب آخرون إلى أنهم إذا حلفوا خمسين يمينا برئوا ولا دية عليهم وعليه تدل قصة أبي طالب الآتية واستدل الجماعة المذكورة ومن معهم في إيجاب الدية بأحاديث لا تقوم بها حجة لعدم صحة رفعها عند أئمة هذا الشأن وقوله فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وفي لفظ إنه وداه من إبل الصدقة فقيل المراد به أنه اقترضها منها وأنه لما تحملها صلى الله عليه وسلم للإصلاح بين الطائفتين كان حكمها حكم القضاء عن الغارم لما غرمه لإصلاح ذات البين فلم يأخذها صلى الله عليه وسلم لنفسه فإن الصدقة لا تحل له ولكن جرى إعطاء الدية منها مجرى إعطائها في الغرم لإصلاح ذات البين وأما من قال إنه صلى الله عليه وسلم أعطى ذلك من سهم الغارمين فلا يصح فإن غارم أهل الذمة لا يعطى من الزكاة كذا قيل قلت وفيه نظر فإن اليهود لم تلزمهم الدية لأنه لم يحلف المدعون كما عرفت فما وداه صلى الله عليه وسلم إلا تبرعا منه لئلا يهدر دمه وأما رواية النسائي أنه صلى الله عليه وسلم قسمها على اليهود وأعانهم ببعضها فقال ابن القيم إن هذا ليس بمحفوظ فإنه الدية لا أفطر المدعى عليهم بمجرد دعوى القتيل بل لا بد من إقرار أو بينة أو أيمان لمدعين ولم يوجد هنا شيء من ذلك وقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدعين أن يحلفوا فأبوا فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى انتهى قلت ويظهر لي أنه ليس في هذا الحديث حكم منه صلى الله عليه وسلم بالقسامة أصلا كما أفاده الحديث وإنما دل الحديث على حكاية للواقع لا غير وذكر لهم صلى الله عليه وسلم قصة الحكم على التقديرين ومن ثمة كتب إلى يهود بعد أن دار بينهم الكلام المذكور وسيأتي تحقيقه وقوله فكتبوا إنا والله ما قتلناه فيه دليل على الاكتفاء بالمكاتبة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة
فائدة: اختار مالك إجراء هذه الدعوى في الأموال فأجاز شهادة المسلوبين على

(3/255)


السالبين وإن كانوا مدعين قال لأن قاطع الطريق إنما يفعل ذلك مع الغفلة والانفراد عن الناس انتهى ولا يخفى أنه لا يتم هذا إلا بعد ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة وعرفناك هنا عدم نهوض ذلك وسنزيده بيانا عن قريب وإذا ثبت فهذا قياس من مالك مصادم لنص "البينة على المدعي واليمين على المنكر" إلا أن يكون مذهبه جواز تخصيص عموم النص بالقياس وللعلماء كلام في حجية العام بعد تخصيصه
2- وعن رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود رواه مسلم قوله على ما كانت عليه في الجاهلية كأنه أشار إلى ما أخرجه البخاري في قصة الهاشمي في الجاهلية وفيها أن أبا طالب قال للقاتل اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا خطأ وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله وإن أبيت قتلناك به وفيه دليل على ثبوت القتل بالقسامة واعلم أنا قد أشرنا إلى أنه لم يثبت القسامة إلا الجماهير كما قررناه عنهم وذهب سالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وأبو قلابة وابن علية والناصر إلى عدم شرعيتها لمخالفتها الأصول المقررة شرعا فإن الأصل أن البينة على المدعى عليه وبأن الأيمان لا تأثير لها في إثبات الدماء وبأن الشرع ورد بأنه لا يجوز الحلف إلا على ما علم قطعا أو شوهد حسا وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بها وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يجري الحكم بها على أصول الإسلام وبيان أنه لم يحكم بها أنهم لما قالوا له وكيف نحلف ولم نحضر ولم نشاهد لم يبين لهم أن هذا الحلف في القسامة من شأنه ذلك وأنه حكم الله فيها وشرعه بل عدل إلى قوله يحلف لكم يهود فقالوا ليسوا بمسلمين فلم يوجب صلى الله عليه وسلم عليهم ويبين لهم أن ليس لكم إلا اليمين من المدعى عليهم مطلقا مسلمين كانوا أو غيرهم بل عدل إلى إعطائه الدية من عنده صلى الله عليه وسلم ولو كان الحكم ثابتا بها لبين وجهه لهم بل تقريره صلى الله عليه وسلم لهم على أنه لا حلف إلا على شيء مشاهد مرئي دليل على أنه لا حلف في القسامة ولأنه لم يطلب صلى الله عليه وسلم اليهود للإجابة عن خصومهم في دعواهم فالقصة منادية بأنها لم تخرج مخرج الحكم الشرعي إذا لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فهذا أقوى دليل بأنها ليست حكما شرعيا وإنما تلطف صلى الله عليه وسلم في بيان أنها ليست بحكم شرعي بهذا التدريج المنادي بعدم ثبوتها شرعا وأقرهم صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يحلفون على ما لا يعلمونه ولا شاهدوه ولا حضروه ولم يبين لهم بحرف واحد أن أيمان القسامة من شأنها أن تكون على ما لا يعلم وبذا تعرف بطلان القول بأن في القصة دليلا على الحكم على الغائب إذ لا حكم فيها أصلا وبطلان الجواب عن كونها مخالفة للأصول بأنها مخصصة من الأصول لأن القسامة سنة مستقلة بنفسها منفردة مخصصة للأصول كسائر المخصصات للحاجة إلى شرعيتها حياطة

(3/256)


لحفظ الدماء وردع المعتدين ووجه بطلانه أنه فرع ثبوت الحكم بها عن الشارع فلو ثبت الحكم بها لكان هذا جوابا حسنا وأما ما في حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود فهو إخبار عن القصة التي في حديث سهل بن أبي حثمة وقد عرفت أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقض بها فيه كما قررناه وقد عرفت من حديث أبي طالب أنها كانت في الجاهلية على أن يؤدي الدية القاتل لا العاقلة كما قال أبو طالب إما أن تؤدي مائة من الإبل فإنه ظاهر أنها من ماله لا من عاقلته أو يحلف خمسون من قومك أو تقتل وهنا في قصة خيبر لم يقع شيء من ذلك فإن المدعى عليهم لم يحلفوا ولم يسلموا الدية ولم يطلب منهم الحلف وليس هذا قدحا في رواية الراوي من الصحابة بل في استنباطه لأنه قد أفاد حديثه أنه استنبط قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة من قصة أهل خيبر وليس في تلك القصة قضاء وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا وإنما روايته للحديث بلفظه أو بمعناه هي التي يتعين قبولها وأما قول أبي الزناد قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان فإنه قال في فتح الباري إنما نقله أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرة من الصحابة فضلا عن ألف اه قلت لا يخفى أنه تقرير لما رواه أبو الزناد لثبوت ما رواه عن خارجة بن زيد الفقيه الثقة وإنما دلس أبو الزناد بقوله قتلنا وكأنه يريد معشر المسلمين وإن لم يحضرهم ثم لا يخفى أن غايته بعد ثبوته عن خارجة فعل جماعة من الصحابة وليس بإجماع حتى يكون حجة ولا شك في ثبوت فعل عمر بالقسامة وإن اختلف عنه في القتل بها وإنما نزاعنا في ثبوت حكمه صلى الله عليه وسلم بها فإنه لم يثبت

(3/257)


باب قتال أهل البغي
البغي مصدر بغى عليه بفتح المعجمة بغيا بفتح الموحدة وسكون المعجمة علا وظلم وعدل عن الحق وله معان كثيرة وذكر الشارح رحمه الله معناه الاصطلاحي هنا وساقه على اصطلاح الهادوية وقد أبنا ما فيه في حواشي ضوء النهار ولم نذكره هنا لعدم انطباق الأحاديث عليه
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حمل علينا السلاح فليس منا" متفق عليه أي من حمله لقتال المسلمين بغير حق كني بحمله عن المقاتلة إذ القتل لازم لحمل السيف في الأغلب ويحتمل أنه لا كناية فيه

(3/257)


وأن المراد حمله حقيقة لإرادة القتال ويدل له قوله علينا وقوله فليس منا تقدم بيانه بأن المراد ليس على طريقتنا وهدينا فإن طريقته صلى الله عليه وسلم نصر المسلم والقتال دونه لا ترويعه وإخافته وقتاله وهذا في غير المستحل فإن استحل القتال للمسلم بغير حق فإنه يكفر باستحلاله المحرم القطعي والحديث دليل على تحريم قتال المسلم والتشديد فيه وأما قتال البغاة من أهل الإسلام فإنه خارج من عموم هذا الحديث بدليل خاص
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فميتته ميتة" بكسر الميم مصدر نوعي "جاهلية " أخرجه مسلم قوله عن الطاعة أي طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته وقوله وفارق الجماعة أي خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم واجتمعت به كلمتهم وحاطهم عن عدوهم قوله فميتته ميتة جاهلية أي منسوبة إلى أهل الجهل والمراد به من مات على الكفر قبل الإسلام وهو تشبيه لميتة من فارق الجماعة بمن مات على الكفر بجامع أن الكل لم يكن تحت حكم إمام فإن الخارج عن الطاعة كأهل الجاهلية لا إمام له وفي الحديث دليل على أنه إذا فارق أحد الجماعة ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم أنا لا نقاتله لنرده إلى الجماعة ويذعن للإمام بالطاعة بل نخليه وشأنه لأنه لم يأمر صلى الله عليه وسلم بقتاله بل أخبر عن حال موته وأنه كأهل الجاهلية ولا يخرج بذلك عن الإسلام ويدل له ما ثبت من قول علي رضي الله عنه للخوارج كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا فإن فعلتم نفذت إليكم بالحرب وهذا ثابت عنه بألفاظ مختلفة أخرجه أحمد والطبراني والحاكم من طريق عبد الله بن شداد قال عبد الله بن شداد فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام فدل على أن مجرد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال من خالفه
3- وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تقتل عمارا الفئة الباغية : رواه مسلم تمامه في مسلم "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" قال ابن عبد البر تواترت الأخبار بهذا وهو من أصح الحديث وقال ابن دحية لا مطعن في صحته ولو كان غير صحيح لرده معاوية وإنما قال معاوية قتله من جاء به ولو كان فيه شك لرده وأنكره حتى أجاب عمرو بن العاص على معاوية فقال فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل حمزة وأما ما نقله المصنف في التلخيص وتبعه الشارح في نقله من أنه نقل ابن الجوزي عن خلاد في العلل أنه حكى عن أحمد أنه قال قد روي هذا الحديث من

(3/258)


ثمانية وعشرين طريقا ليس فيها طريق صحيح وحكى أيضا عن أحمد وابن معين وابن أبي خيثمة أنهم قالوا لم يصح فقد أجاب السيد محمد بن إبراهيم الوزير عن هذا بقوله الاسترواح إلى ذكر هذا الخلاف الساقط من غير بيان ببطلانه من مثل ابن حجر عصبية شنيعة فأما ابن الجوزي فلم يعرف هذا الشأن وقد ذكر الذهبي في ترجمته في التذكرة كثرة خطئه في مصنفاته فهو أجهل وأحقر من أن ينتهض لمعارضة أئمة الحديث وفرسانه وحفاظه كابن عبد البر والبخاري ومسلم والحميدي وقد رواه كاملا أبو داود والترمذي والذهبي والحاكم وابن خزيمة والقرطبي والإسماعيلي والبرقاني وأمثالهم وقد ذكر جملة منهم تواتره وصحته وجماعة منهم إجماع أهل السنة وأهل الفقه وأهل العلم على ذلك وذكره القرطبي في آخر تذكرته والحاكم في علوم الحديث له وحكاه ابن خزيمة المعروف بإمام الأئمة ولم يحك أحد عنهم خلافا في ذلك وأما الذهبي فإنه حقق صحة دعواه بما أورده من الطرق الصحيحة الجمة والمنع من الصحة بمجرد العصبية من غير حجة صنيع من لا علم له بل من لا عقل له ولا حياء انتهى قلت ولا يخفى أن ابن الجوزي نقل عن أحمد عدم صحته وليس له هو قدح في صحته حتى يقال إنه أحقر من أن ينتهض لمعارضة أئمة الحديث وفرسانه وحفاظه فالأولى في الجواب عن نقل ابن الجوزي ما قاله السيد محمد أيضا أنه قد روى يعقوب بن شيبة الإمام الثقة الحافظ عن أحمد بن حنبل أنه قال فيه إنه حديث صحيح سمعه عنه يعقوب وقد سئل عنه ذكره الذهبي في ترجمة عمار في النبلاء ويؤيده أنه رواه أحمد عن جماعة كثير من الصحابة وكان يرى الضرب على روايات الضعاف والمنكرات وهذا يدل على بطلان ما حكاه ابن الجوزي وإلا فغايته أنه قد تعارض عن أحمد القولان فيطرح وفي تصحيح غيره ما يغني عنه كما لا يخفى وأما الحكاية عن ابن معين وابن أبي خيثمة فإنه رواها المصنف بصيغة التمريض ولم ينسبها إلى راو فيتكلم عليها والحديث دليل على أن الفئة الباغية معاوية ومن في حزبه والفئة المحقة علي رضي الله عنه ومن في صحبته وقد نقل الإجماع من أهل السنة بهذا القول جماعة من أئمتهم كالعامري وغيره وأوضحناه في الروضة الندية
4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدري يا ابن أم عبد" هو ابن مسعود لأنه المعروف بذلك وكأنه رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما أو سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه "كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟" قال الله ورسوله أعلم قا: "لا يجهز على جريحها" أي لا يتمم قتل من كان جريحا من البغاة "ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها" رواه البزار والحاكم وصححه فوهم فإن في إسناده كوثر بفتح الكاف وسكون الواو ومثلثة مفتوحة فراء ابن حكيم وهو متروك وصح عن علي نحوه من طرق موقوفا أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم في الميزان كوثر بن حكيم عن عطاء ومكحول وهو كوفي نزل حلب قال ابن معين ليس بشيء وقال أحمد بن حنبل أحاديثه بواطيل انتهى قال ابن عدي

(3/259)


هذا حديث غير محفوظ وأما الرواية عن علي عليه السلام فرواها البيهقي وغيره وفي الحديث مسائل الأولى جواز قتال البغاة وهو إجماع لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} قلت: والآية دالة على الوجوب وبه قالت الهادوية ولكن شرطوا ظن الغلبة وعند جماعة من العلماء أن قتالهم أفضل من قتال الكفار قالوا لما يلحق المسلمين من الضرر منهم
واعلم أنه يتعين أولا قبل قتالهم دعاؤهم إلى الرجوع عن البغي وتكرير الدعاء كما فعل علي رضي الله عنه في الخوارج فإنهم لما فارقوه أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف وكانوا ثمانية آلاف وبقي أربعة أبوا أن يرجعوا وأصروا على فراقه فأرسل إليهم كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا فقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بقروا بطن سريته وهي حبلى وأخرجوا ما في بطنها فبلغ عليا كرم الله وجهه فكتب إليهم أفيدونا بقاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله فأذن حينئذ في قتالهم وهي روايات ثابتة ساقها المصنف في فتح الباري المسألة الثانية "أنه لا يجهز على جريحها" وهو من أجهز على الجريح وجهز أي بت قتله وأسرعه وتمم عليه ودليله قوله ولا يجهز على جريحها وأخرج البيهقي أن عليا عليه السلام قال لأصحابه يوم الجمل إذا ظهرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح وانظروا ماحضرت به الحرب من آلته فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثته قال البيهقي هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا ودل الحديث أيضا على أنه لا يقتل أسير البغاة قالوا وهذا خاص بالبغاة لأن قتالهم إنما هو لدفعهم عن المحاربة ودل الحديث أيضا على أنه لا يطلب هاربها وظاهره ولو كان متحيزا إلى فئة وإلى هذا ذهب الشافعي قال لأن القصد دفعهم في تلك الحال وقد وقع وذهبت الهادوية والحنفية إلى أن الهارب إلى فئة يقتل إذ لا يؤمن عوده والحديث يرد هذا القول وكذا ما تقدم من كلام علي عليه السلام المسألة الثالثة قوله "لا يقسم فيؤها" أي لا يغنم فيقسم دال على أن أموال البغاة لا تغنم وإن أجلبوا بها إلى دار الحرب وإلى هذا ذهبت الشافعية والحنفية وأيد هذا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" وقد صحح البيهقي أن عليا عليه السلام لم يأخذ سلبا فأخرجه عن الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليا عليه السلام كان لا يأخذ سلبا وأخرج أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا عليه السلام يوم البصرة لم يأخذ من متاعهم شيئا وأخرج عن أبي أمامة قال شهدت يوم صفين وكانوا لا يجهزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وذهبت الهادوية إلى أنه يغنم ما أجلبوا به من مال وآلة حرب ويخمس لقول علي عليه السلام لكم المعسكر وما حوى وأجيب بأن الحديث مصرح بأنها لا تغنم وبأن ما ذكرناه عن علي عليه السلام مما يوافق الحديث أكثر وأقوى طريقا المسألة الرابعة يؤخذ من اطلاق قوله ولا يجهز على جريحها أنه لا يضمن البغاة ما أتلفوا في القتال من الدماء والأموال وإليه ذهب الإمام يحيى

(3/260)


والحنفية واستدل أيضا بقوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ولم يذكر ضمانا وبما أخرجه البيهقي عن ابن شهاب قال هاجت الفتنة الأولى فأدركت الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم أن يهدر أمر الفتنة ولا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سباء امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينها وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد فتنقضي عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول قلت وهذا وإن لم يكن إجماعا فإنه مقو للبراءة الأصلية إذا الأصل أن أموال المسلمين ودماءهم معصومة وذهب الشافعي وحكي عن الهادوية إلى أنه يقتص ممن قتل من البغاة واستدلوا بعموم الآيات والأحاديث نحو {مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} وحديث "من اعتبط مسلما بقتل عن بينة فهو قود" وأجيب بأنها عمومات خصت بما ذكر من أدلة أهل القول الأول
5- وعن عرفجة بضم العين المهملة وسكون الراء وضم الفاء وجيم ابن شريح بالشين المعجمة مصغر شرح وقيل بالمهملة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه" أخرجه مسلم ورواه مسلم بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان" وفي لفظ "فاقتلوه" وفي لفظ "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" وأخرج الشيخان واللفظ للبخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية" وفي لفظ "من خرج عن السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" دلت هذه الألفاظ على أن من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين والمراد أهل قطر كما قلناه فإنه قد استحق القتل لإدخاله الضرر على العباد وظاهره سواء كان جائرا أو عادلا وقد جاء في أحاديث تقييد ذلك بما أقاموا الصلاة وفي لفظ ما لم تروا كفرا بواحا وقد حققنا هذه المباحث في منحة الغفار حاشية ضوء النهار تحقيقا تضرب إليه آباط الإبل والحمد الله المنعم المتفضل

(3/261)


باب قتال الجاني وقتل المرتد
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد" رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه وأخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث سعيد بن زيد وفي الحديث دليل على جواز المقاتلة لمن قصد أخذ مال

(3/261)


غيره بغير حق قليلا كان المال أو كثيرا وهذا قول الجماهير وقال بعض المالكية لا يجوز القتال على أخذ القليل من المال
قال القرطبي: سبب الخلاف في ذلك هل القتال لدفع المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال في ذلك وحكى ابن المنذر عن الشافعي رضي الله عنه أن من أريد ماله أو نفسه أو حريمه ولم يمكنه الدفع إلا بالقتل فله ذلك وليس عليه قود ولا دية ولا كفارة لكن ليس له أن يقصد القتل من غير تفصيل قال ابن المنذر والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلما بغير تفصيل إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيامة عليه وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها وأما في حال الخلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدا قلت ويؤيد ما قاله ابن المنذر عن أهل العلم ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال فلا تعطه قال أرأيت إن قاتلني قال قاتله قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته قال فهو في النار" وظاهر الحديث إطلاق الأحوال قلت هذا في جواز قتال من يأخذ المال فهل يجوز له أي لمن يراد أخذ ماله ظلما الاستسلام وترك المنع بالقتال الظاهر جوازه ويدل له حديث فكن عبد الله المقتول فإنه دال على جواز الاستسلام في النفس والمال بالأولى فيحمل قوله هنا ولا تعطه على أنه نهي لغير التحريم
2- وعن عمران بن حصين قال قاتل يعلى بن أمية رجلا فعض أحدهما صاحبه فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال "أيعض أحدكم " بفتح حرف المضارعة فتكون المهملة ماضية عضض بكسر الضاء الأولى يعضض بفتحها في المضارع فأدغمت ونقلت حركتها إلى ما قبلها "أخاه كما يعض الفحل" أي الذكر من الإبل " لا دية له" متفق عليه واللفظ لمسلم اختلف في العاض والمعضوض منهما فقال الحافظ الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى ولا يعلى قيل فيتعين أن يكون يعلى هو العاض وفي الحديث دليل على أن هذه الجناية التي وقعت لأجل الدفع عن الضرر تهدر ولا دية على الجاني وإلى هذا ذهب الجمهور وقالوا لا يلزمه شيء لأنه في حكم الصائل واحتجوا أيضا بالإجماع على أن من شهر على آخر سلاحا ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه قالوا ولو جرحه المعضوض في محل آخر من بدنه لم يلزمه شيء وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب شدقه أو فك لحييه ليرسلهما ومهما أمكن التخلص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر وللشافعية وجه أنه يهدر على الإطلاق ودليل شرط الإهدار بما ذكر مأخوذ من القواعد الكلية في الشرع وإلا فلا يفيده الحديث فإن كان لعض في موضع آخر من البدن جرى فيه هذا الحكم قياسا

(3/262)


3-- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أن أمرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح" متفق عليه دل الحديث على تحريم الاطلاع على الغير بغير إذنه وعلى أن من اطلع قاصدا للنظر إلى محل غيره مما لا يجوز الدخول إليه إلا بإذن مالكه فإنه يجوز للمطلع عليه دفعه بما ذكر وإن فقأ عينه فإنه لا ضمان عليه وفي لفظ لأحمد والنسائي وصححه ابن حبان فلا دية له ولا قصاص وأما إذا كان مأذوناً بالنظرفالجناح غير مرفوع على من جنى على الناظر وكذا لو كان المنظور إليه في محل لا يحتاج إلى الإذن ولو نظر منه ما لا يحل له النظر إليه لأن التقصير من المنظور إليه وإلى هذا ذهب الشافعي وغيره والخلاف فيه للمالكية قال يحيى بن يعمر من المالكية لعل مالكا لم يبلغه الخبر وقال ابن دقيق العيد تصرف الفقهاء في الحكم بأنواع من التصرفات منها أنه يفرق بين أن يكون هذا الناظر واقعا في الشارع أو في خالص ملك المنظور إليه أو في سكة منسدة الأسفل اختلفوا فيه والأشهر أنه لا فرق ولا يجوز مد العين إلى حرم الناس بحال وفي وجه للشافعية أنه لا تفقأ إلا عين من وقف في ملك المنظور إليه والحديث مطلق ومنها أنه هل يجوز رمي الناظر قبل الإنذار والنهي فيه وجهان للشافعية أحدهما لا والثاني نعم قلت وهو الذي يدل له الحديث ويؤيده الحديث الآخر "أنه صلى الله عليه وسلم جعل يختل المطلع عليه ليطعنه" والختل فسره في النهاية بقوله يراوده ويطلبه من حيث لا يشعر وفي الحديث دليل أنه إنما يباح له قصد العين بشيء خفيف كالمدرى والبندقة والحصاة لقوله فخذفته قال الفقهاء فأما لو رماه بالنشاب أو بحجر يقتله فقتله فهذا قتيل يتعلق به القصاص أو الدية ومما تصرف فيه الفقهاء أن هذا الناظر إذا كان له محرم في الدار أو زوجة أو متاع لم يجز قصد عينه لأنه له في النظر شبهة وقيل لا يكفي إذا كان له في الدار محرم بل إنما يمتنع قصد عينه إذا لم يكن في الدار إلا محارمه ومنها إذا لم يكن في الدار إلا صاحبها فله الرمي إن كان مكشوف العورة ولا ضمان وإلا فوجهان أظهرهما لا يجوز رميه ومنها أن الحريم إذا كن في الدار مستترات أو في بيت ففي وجه لا يجوز قصد عينه لأنه لا يطلع على شيء قال بعض الفقهاء والأظهر الجواز لإطلاق الأخبار وأنه لا تنضبط روينا الستر والتكشف والاحتياط حسم الباب ومنها أن ذلك إنما يكون إذا لم يقصر صاحب الدار فإن كان بابه مفتوحا أو ثمة كوة واسعة أو ثلمة مفتوحة فينظر فإن كان مجتازا لم يجز قصده وإن كان وقف وتعمد فقيل لا يجوز قصده لتفريط صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة وقيل يجوز بتعديه بالنظر وأجرى هذا الخلاف فيما إذا نظر من سطح بيته أو نظر المؤذن من المئذنة لكن الأظهر ههنا عندهم جواز الرمي لأنه لا تقصير من صاحب الدار ثم قال واعلم أن ما كان من هذه التصرفات الفقهية داخلا تحت إطلاق الحديث فهو مأخوذ منها ومالا فبعضه مأخوذ من فهم المعنى المقصود بالحديث وبعضه مأخوذ من القياس وهو قليل فيما ذكر انتهى كلامه

(3/263)


واعلم أنه يؤخذ من هذا الحديث صحة قول الفقهاء إنها تهدم الصوامع المحدثة المعورة وكذا تعلية الملك إذا كانت معورة وهو محكي عن القاسم الرسي وهو رأي عمر فإنه أخرج عنه ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن يزيد بن أبي حبيب قال أول من بنى غرفة بمصر خارجة بن حذافة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى عمرو بن العاص سلام عليك أما بعد فإنه بلغني أن خارجة بن حذافة بنى غرفة ولقد أراد أن يطلع على عورات جيرانه فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إن شاء الله تعالى والسلام
4- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان وفي إسناده اختلاف مداره على الزهري وقد اختلف عليه فإنه روي من طرق كلها عن الزهري عن حزام عن البراء وحزام لم يسمع من البراء قاله عبد الحق تبعا لابن حزم وأخرجه البيهقي من طرق وفيها الاختلاف إلا أنه قال الشافعي رحمه الله أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله قال البيهقي ورويناه عن الشعبي عن شريح أنه كان يضمن ما أفسدته الغنم بالليل ولا يضمن ما أفسدته بالنهار ويتأول هذه الآية {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} وكان يقول النفش بالليل وروي مرة عن مسروق إذ نفشت فيه غنم القوم قال كان كرما فدخلت فيه ليلا فما تركت فيه خضرا فدل الحديث أنه لا يضمن مالك البهيمة ما جنته في النهار لأنه يعتاد إرسالها في النهار ويضمن ما جنته بالليل لأنه يعتاد حفظها بالليل وإلى هذا ذهبت الهادوية ومالك والشافعي ودليلهم الحديث والآية وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ضمان على أهل الماشية مطلقا وحجته حديث العجماء جرحها جبار أخرجه أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة وأحمد والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن عوف وفيه زيادة ولكنه قال الطحاوي مذهب أبي حنيفة أنه لا ضمان إذا أرسلها مع حافظ وأما إذا أرسلها من دون حافظ فإنه يضمن وكذا المالكية يقيدون ذلك بما إذا سرحت الدواب في مسارحها المعتادة للرعي وأما إذا كانت في أرض مزروعة لا مسرح فيها فإنهم يضمنون ليلا أو نهارا وفي المسألة أقوال أخر لا تناسب النص هذا ولا دليل لها يقاومه
5- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه في رجل أسلم ثم تهود لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله جوز في قضاء رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ونصبه على أنه مصدر حذف فعله وهو يشير إلى حديث من بدل دينه فاقتلوه وسيأتي من أخرجه فأمر به فقتل متفق عليه وفي رواية لأبي داود وكان قد استتيب قبل ذلك الحديث دليل على أنه يجب قتل المرتد وهو إجماع وإنما وقع الخلاف هل تجب استتابته قبل قتله أو لا ذهب الجمهور إلى وجوب الاستتابة لما في رواية أبي داود هذه وله في رواية أخرى فدعاه

(3/264)


أبو موسى عشرين ليلة أو قريبا منها وجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه وذهب الحسن وطاوس وأهل الظاهر وآخرون إلى عدم وجوب استتابة المرتد وأنه يقتل في الحال مستدلين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" يعني والفاء تفيد التعقيب كما لا يخفى ولأن حكم المرتد حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه يقاتل من دون أن يدعى وإنما شرعت الدعوى لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة وأما من خرج عن بصيرة فلا وعن ابن عباس وعطاء إن كان أصله مسلما لم يستتب وإلا استتيب نقله عنهما الطحاوي ثم للقائلين بالاستتابة خلاف آخر وهو أنه هل يكفي مرة أو لا بد من ثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام ويروى عن علي عليه السلام يستتاب شهرا
6- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري الحديث دليل على قتل من بدل دينه كما تقدم وهو عام للرجل والمرأة والأول إجماع وفي الثاني خلاف ذهب الجمهور إلى أنها تقتل المرأة المرتدة لأن كلمة من هنا تعم الذكر والأنثى ولأنه أخرج ابن المنذر عن ابن عباس راوي الحديث أنه قال تقتل المرأة المرتدة ولما أخرجه هو والدارقطني أن أبا بكر رضي الله عنه قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون ولم ينكر عليه أحد وهو حديث حسن أخرج أيضا حديثا مرفوعا في قتل المرأة ولكنه حديث ضعيف وقد وقع في حديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أنه قال له: "أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها" وإسناده حسن وهو نص في محل النزاع وذهب الحنفية إلى أنها لا تقتل المرأة إذا ارتدت قالوا لأنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن قتل النساء لما رأى امرأة مقتولة وقال ما كانت هذه لتقاتل رواه أحمد وأجاب الجمهور بأن النهي إنما هو عن قتل الكافرة الأصلية كما وقع في سياق قصة النهي فيكون النهي مخصوصا بما فهم من العلة وهو لما كانت لا تقاتل فالنهي عن قتلها إنما هو لتركها المقاتلة فكان ذلك في دين الكفار الأصليين المتحزبين للقتال وبقي عموم قوله من بدل دينه سالما عن المعارض وأيدته الأدلة التي سلفت واعلم أن ظاهر الحديث إطلاق التبديل فيشمل من تنصر بعد أن كان يهوديا وغير ذلك من الأديان الكفرية وإلى هذا ذهبت الشافعية وسواء كان من الأديان التي تقر بالجزية أم لا لإطلاق هذا اللفظ وخالفت الحنفية في ذلك وقالوا ليس المراد إلا تبديل الكفر بعد الإسلام قالوا وإطلاق الحديث متروك اتفاقا في حق الكافر إذا أسلم مع تناول الإطلاق له وبأن الكفر ملة واحدة فالمراد من بدل دين الإسلام بدين آخر فإنه قد أخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا "من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا بعنقه" فصرح بدين الإسلام

(3/265)


7- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي فلما كان ذات ليلة أخذ المعول بكسر الميم وعين مهملة وفتح الواو فجعله قي بظنها واتكأ عليه فقتلها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا اشهدوا فإن دمها هدر" رواه أبو داود ورواته ثقات الحديث دليل على أنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ويهدر دمه فإن كان مسلما كان سبه له صلى الله عليه وسلم ردة فيقتل قال ابن ابطال من غير استتابة ونقل ابن المنذر عن الأوزاعي والليث أنه يستتاب وإن كان من أهل العهد فإنه يقتل إلا أن يسلم ونقل ابن المنذر عن الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق أنه يقتل أيضا من غير استتابة وعن الحنفية أنه يعزر المعاهد ولا يقتل واحتج الطحاوي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهود الذين قالوا السام عليك ولو كان هذا من مسلم لكان ردة ولأن ما هم عليه من الكفر أشد من السب قلت يؤيده أن كفرهم به صلى الله عليه وسلم معناه أنه كذاب وأي سب أفحش من هذا وقد أقروا عليه إلا أن يقال إن هذا النص في حديث الأمة يقاس عليه أهل الذمة وأما القول بأن دماءهم إنما حقنت بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم انتقض عهده فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه فقد يجاب عنه أن عهدهم تضمن إقرارهم على تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم وهو أعظم سب إلا أن يقال يخص من بين غيره من السب والله أعلم

(3/266)