سبل السلام ط مكتبة مصطفى البابي الحلبي

كتاب الأيمان والنذور
كتاب الأيمان والنذور
...
كتاب الأيمان والنذور
الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين وأصل اليمين في اللغة اليد وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه والنذور جمع نذر وأصله الإنذار بمعنى التخويف وعرفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ركب الركب ركبان الإبل اسم جمع أو جمع وهم العشرة فصاعدا وقد يكون للخيل وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه سلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله" ليس المراد أنه لا يحلف إلا بهذا اللفظ بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بغيره نحو (مقلب القلوب) كما يأتي "أو ليصمت" بضم الميم مثل قتل يقتل متفق عليه
2- وفي رواية لأبي داود والنسائي عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد" الند بكسر أوله المثل والمراد هنا أصنامهم وأوثانهم التي جعلوها لله تعالى أمثالا لعبادتهم إياها وحلفهم بها نحو قولهم واللات والعزى ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون الحديثان دليل على النهي عن الحلف بغير الله تعالى وهو للتحريم كما هو أصله وبه قالت الحنابلة والظاهرية وقال ابن عبد البر لا يجوز الحلف بغير الله تعالى بالإجماع وفي رواية عنه إن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها وقوله لا يجوز بيان أنه أراد بالكراهة التحريم كما صرح به أولا وقال الماوردي لا يجوز لأحد أن يحلف أحدا بغير الله تعالى لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر وإذا حلف الحاكم أحدا بذلك وجب عزله وعند جمهور الشافعية والمشهور عن المالكية أنه للكراهة ومثله للهادوية ما لم يسو في التعظيم قلت لا يخفى أن الأحاديث واضحة في التحريم لما سمعت ولما أخرج أبو داود والحاكم واللفظ له من حديث ابن عمر أنه قال صلى الله عليه سلم من حلف بغير الله كفر وفي رواية للحاكم كل يمين يحلف بها دون الله تعالى شرك ورواه أحمد بلفظ من حلف بغير الله فقد أشرك وأخرج مسلم "من حلف منكم فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" وأخرج النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى قال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه سلم فقال قل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تعد" فهذه الأحاديث الأخيرة تقوي القول بأنه محرم لتصريحها بأنه شرك من غير تأويل ولذا أمر بتجديد الإسلام والإتيان

(4/101)


بكلمة التوحيد واستدل القائل بالكراهة بحديث "أفلح وأبيه إن صدق" أخرجه مسلم وأجيب عنه أولا بأنه قال ابن عبد البر إن هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها أفلح والله إن صدق بل زعم بعضهم أن راويها صحف والله إلى وأبيه وثانيا أنها لم تخرج مخرج القسم بل هي من الكلام الذي يجري على الألسنة مثل تربت يداه ونحوه وقولنا من غير تأويل إشارة إلى تأويل القائل بالكراهة فإنه تأول قوله فقد أشرك بما قاله الترمذي قد حمل بعض العلماء مثل هذا على التغليظ كما حمل بعضهم قوله الرياء شرك على ذلك وأجيب بأن هذا إنما يرفع القول بكفر من حلف بغير الله ولا يرفع التحريم كما أن الرياء محرم اتفاقا ولا يكفر من فعله كما قال ذلك البعض واستدل القائل بالكراهة بأن الله تعالى قد أقسم في كتابه بالمخلوقات من الشمس والقمر وغيرهما وأجيب بأنه ليس للعبد الاقتداء بالرب تعالى فإنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على أنها كلها مؤولة بأن المراد ورب الشمس ونحوه ووجه التحريم أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به ومنع النفس عن الفعل أو عزمها عليه بمجرد عظمة من حلف به وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى فلا يلحق به غيره ويحرم الحلف بالبراءة من الإسلام أو من الدين أو بأنه يهودي أو نحو ذلك لما أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما" والأظهر عدم وجوب الكفارة في الحلف بهذه المحرمات إذ الكفارة مشروعة فيما أذن الله تعالى أن يحلف به لا فيما نهى عنه ولأنه لم يذكر الشارع كفارة بل ذكر أنه يقول كلمة التوحيد لا غير
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمينك على ما يصدقك به صاحبك" وفي رواية "اليمين على نية المستحلف" أخرجهما مسلم الحديث دليل على أن اليمين تكون على نية المحلف ولا ينفع فيها نية الحالف إذا نوى بها غير ما أظهره وظاهره الإطلاق سواء كان المحلف له الحاكم أو المدعي للحق والمراد حيث كان المحلف له التحليف كم يشير إليه قوله على ما يصدقك به صاحبك فإنه يفيد أن ذلك حيث كان للمحلف التحليف وهو حيث كان صادقا فيما ادعاه على الحالف وأما لو كان على غير ذلك كانت النية نية الحالف واعتبرت الشافعية أن يكون المحلف الحاكم وإلا كانت النية نية الحالف قال النووي: وأما إذا حلف بغير استحلاف وورى فتنفعه ولا يحنث سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلفه غير القاضي أو غير نائبه ولا اعتبار في ذلك بنية المحلف بكسر اللام غير القاضي والحاصل أن اليمين على نية الحالف في جميع الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون اليمين على نية المستحلف وهو مراد الحديث أما إذا حلف بغير استحلاف القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون اليمين على نية الحالف وسواء في هذا كله بالله تعالى أو بالطلاق

(4/102)


والعتاق إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق والعتاق فتنفعه التورية ويكون الاعتبار بنية الحالف لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق وإنما يستحلف بالله ا ه قلت ولا أدري من أين جاء تقييد الحديث بالقاضي أو نائبه بل ظاهر الحديث أنه إذا استحلفه من له الحق فالنية نية المستحلف مطلقا
4- وعن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس العبشمي أبي سعيد صحابي من مسلمة الفتح افتتح سجستان ثم سكن البصرة ومات بها سنة خمسين أو بعدها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذا حلفت على يمين" أي على محلوف منه سماه يمينا مجازا "ورأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير" متفق عليه وفي لفظ للبخاري فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي رواية لأبي داود عن عبد الرحمن أيضا فكفر عن يمينك عند ائت الذي هو خير وإسنادهما بالتثنية أي لفظ البخاري ورواية أبي داود والأولى إفراد الضمير ليعود إلى رواية أبي داود فقط لما علم من عرفهم أن ما في الصحيحين صحيح لا يحتاج إلى أن يقال إسناده صحيح الحديث دليل على أن من حلف على كل شيء وكان تركه خيرا من التمادي على اليمين وجب عليه التكفير وإتيان ما هو خير كما يفيده الأمر ولكنه صرح الجماهير بأنه إنما يستحب له ذلك لا أنه يجب وظاهره وجوب تقديم الكفارة ولكنه ادعى الإجماع على عدم وجوب تقديمها وعلى جواز تأخيرها إلى ما بعد الحنث وعلى أنه لا يصح تقديمها قبل اليمين ودلت رواية ثم ائت الذي هو خير على أنه يقدم الكفارة قبل الحنث لاقتضاء عند الترتيب ورواية الواو تحمل على رواية ثم حملا للمطلق على المقيد فإن تم الإجماع على جواز تأخيرها وإلا فالحديث دال على وجوب تقديمها وممن ذهب إلى جواز تقديمها على الحنث مالك والشافعي وغيرهما وأربعة عشر من الصحابة وجماعة من التابعين وهو قول جماهير العلماء لكن قالوا يستحب تأخيرها عن الحنث وظاهره أن هذا جار في جميع أنواع الكفارة وذهب الشافعي إلى عدم إجزاء تقديم التكفير بالصوم وقال لا يجوز قبل الحنث لأنها عبادة بدنية لا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة وصوم رمضان وأما التكفير بغير الصوم فجائز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يجوز تقديم التكفير على الحنث على كل حال قالت الهادوية لأن سبب وجود الكفارة هو مجموع الحنث واليمين فلا يصح التقديم قبل تمام سبب الوجوب وعند الحنفية السبب الحنث ولا يخفى أن الحديث دال على خلاف ما عللوا به وذهبوا إليه فالقول الأول أقرب إلى العمل به
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه" رواه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان قال الترمذي لا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختياني قال ابن علية كان

(4/103)


أيوب يرفعه تارة وتارة لا يرفعه قال البيهقي لا يصح رفعه إلا عن أيوب مع أنه شك فيه قلت كأنه يريد أنه رفعه تارة ووقفه أخرى ولا يخفى أن أيوب ثقة حافظ لا يضر تفرده برفعه وكونه وقفه تارة لا يقدح فيه لأن رفعه زيادة عدل مقبولة وقد رفعه عبد الله العمري وموسى بن عقبة وكثر بن فرقد وأيوب بن موسى وحسان بن عطية كلهم عن نافع مرفوعا فقوى رفعه على أنه وإن كان موقوفا فله حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه وإلى ما أفاده الحديث ذهب الجماهير وقال ابن العربي اجمع المسلمون بأن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا قال ولو جاز منفصلا كما قال بعض السلف لم يحنث أحد في يمين ولم يحتج إلى الكفارة واختلفوا في زمن الإتصال فقال الجمهور هو أن يقول إن شاء الله متصلا باليمين من غير سكوت بينهما التنفس قلت وهذا هو الذي تدل له الفاء في قوله فقال وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه وقال عطاء قدر حلبة ناقة وقال سعيد بن جبير بعد أربعة أشهر وقال ابن عباس له الاستثناء أبدا متى يذكر قلت وهذه تقادير خالية عن الدليل وقد تأول بعضهم هذه الأقاويل بأن مرادهم أنه يستحب له أن يقول إن شاء الله تبركا ويجب على ما ذهب إليه بعضهم لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فيكون الاستثناء رافعا للإثم الحاصل بتركه أو لتحصيل ثواب الندب على القول باستحبابه ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث واختلفوا هل الاستثناء مانع للحنث في الحلف بالله وغيره من الطلاق والعتاق وغيره من الظهار والنذر والإقرار فقال مالك لا ينفع إلا في الحلف بالله دون غيره واستقواه ابن العربي واستدل بأنه تعالى قال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فلا يدخل في ذلك إلا اليمين الشرعية وهي الحلف بالله وذهب أحمد إلى أنه لا يدخل العتق لما أخرجه البيهقي من حديث معاذ مرفوعا إذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم تطلق وإذا قال لعبده أنت حر إن شاء الله فإنه حر إلا أنه قال البيهقي تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول واختلف عليه في إسناده وذهبت الهادوية إلى أن الاستثناء بقوله إن شاء الله معتبر فيه أن يكون المحلوف عليه فيما شاءه الله أو لا يشاؤه فإن كان مما يشاؤه الله بأن كان واجبا أو مندوبا أو مباحا في المجلس أو حال التكلم لأن مشيئة الله حاصلة في الحال فلا تبطل اليمين بل تنعقد به وإن كان لا يشاؤه بأن يكون محظورا أو مكروها فلا تنعقد اليمين فجعلوا حكم الاستثناء بالمشيئة حكم التقييد بالشرط فيقع المعلق عند وقوع المعلق به وينتفي بانتفائه وكذا قوله إلا أن يشاء الله حكمه حكم إن شاء الله ولا يخفى أن الحديث لا تطابقه هذه الأقوال وفي قوله فقال إن شاء الله دليل على أنه لا يكفي في الاستثناء النية وهو قول كافة العلماء وحكي عن بعض المالكية صحة الاستثناء بالنية من غير لفظ وإلى هذا أشار البخاري وبوب عليه باب النية في الأيمان يعني بفتح الهمزة ومذهب الهادوية صحة الاستثناء بالنية وإن لم يلفظ بالعموم إلا من عدد منصوص فلا بد من الاستثناء باللفظ

(4/104)


6- وعنه رضي الله عنه قال كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ومقلب القلوب" رواه البخاري المراد أن هذا اللفظ الذي كان يواظب عليه في القسم وقد ذكر البخاري الألفاظ التي كان صلى الله عليه وسلم يقسم بها "لا ومقلب القلوب" وفي رواية "لا ومصرف القلوب" "والذي نفسي بيده والذي نفس محمد بيده" "والله" "ورب الكعبة" ولابن أبي شيبة كان إذا اجتهد اليمين قال: "والذي نفس أبي القاسم بيده" ولابن ماجه كانت يمين رسول الله صلى الله عليه سلم التي يحلف بها أشهد عند الله والذي نفسي بيده والمراد بتقليب القلوب تقليب أعراضها وأحوالها لا تقليب ذات القلب قال الراغب تقليب الله القلوب والبصائر صرفها عن رأي إلى رأي والتقلب التصرف قال الله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} وقال ابن العربي: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية ووكل به ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر والعقل بنوره يهديه والهوى بظلمته يغويه والقضاء مسيطر على الكل والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة واللمة من الملك تارة ومن الشيطان أخرى والمحفوظ من حفظه الله ا ه قلت وقوله والكلام بناء منه على إثبات الكلام النفسي وأن محله القلب وقوله صلى الله عليه وسلم لا رد ونفي للسابق من الكلام والحديث دليل على جواز الإقسام بصفة من صفات الله وإن لم تكن من صفات الذات وإلى هذا ذهبت الهادوية حيث قالوا الحلف بالله أو بصفة لذاته أو لفعله لا يكون على ضدها ويريدون بصفة الذات كالعلم والقدرة ولكنهم قالوا لا بد من إضافتها إلى الله تعالى كعلم الله ويريدون بصفة الفعل كالعهد والأمانة إذا أضيفت إلى الله إلا أنه قد ورد حديث بالنهي عن الحلف بالأمانة أخرجه أبو داود من حيث بريدة بلفظ من حلف بالأمانة فليس منا وذلك لأن الأمانة ليست من صفاته تعالى بل من فروضه عل العباد وقولهم لا يكون على ضدها احتراز عن الغضب والرضا والمشيئة فلاتنعقد بها اليمين وذهب ابن حزم وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية إلى أن جميع الأسماء الواردة في القرآن أو السنة الصحيحة وكذا الصفات صريح في اليمين وتجب به الكفارة وفصلت الشافعية في المشهور عنهم والحنابلة فقالوا إن كان اللفظ يختص بالله تعالى كالرحمن ورب العالمين وخالق الخلق فهو صريح ينعقد به اليمين سواء قصد الله تعالى أو أطلق وإن كان يطلق عليه تعالى وعلى غيره لكن يقيد كالرب والخالق فتنعقد به اليمين إلا أن يقصد به غير الله تعالى وإن كان يطلق عليه وعلى غيره على السواء نحو الحي والموجود فإن نوي غير الله تعالى أو أطلق فليس بيمين وإن نوى به الله تعالى انعقد على الصحيح
7- وعن عبد الله بن عمروأي ابن العاص قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وهي بفتح الغين المعجمة وضم الميم آخره مهملة وفيه قلت ظاهره أن السائل ابن عمرو راوي الحديث

(4/105)


والمجيب هو النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون السائل غير عبد الله لعبد الله وعبد الله المجيب والأول أظهر وما اليمين الغموس قال التي يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب أخرجه البخاري اعلم أن اليمين إما أن تكون بعقد قلب وقصد أو لا بل تجري على اللسان بغير عقد قلب وإنما تقع بحسب ما تعوده المتكلم سواء كانت بإثبات أو نفي نحو والله وبلى والله ولا والله فهذه هي اللغو الذي قال الله تعالى فيه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} كما يأتي دليله وإن كانت عن عقد قلب فينظر إلى حال المحلوف عليه فينقسم بحسبه إلى أقسام خمسة إما أن يكون معلوم الصدق أو معلوم الكذب أو مظنون الصدق أو مظنون الكذب أو مشكوكا فيه فالأول يمين برة صادقة وهي التي وقعت في كلام الله تعالى نحو {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} ووقعت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: إنه صلى الله عليه وسلم حلف في أكثر من ثمانين موضعا وهذه هي المرادة في حديث إن الله تعالى يحب أن يحلف به وذلك لما يتضمن من تعظيم الله تعالى والثاني وهو معلوم الكذب اليمين الغموس ويقال لها الزور والفاجرة وسميت في الأحاديث يمين صبر ويمينا مصبورة قال في النهاية سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار فعلى هذا هي فعول بمعنى فاعل وقد فسرها في الحديث بالتي يقتطع بها مال المرء المسلم فظاهره أنها لا تكون غموسا إلا إذا اقتطع بها مال امريء مسلم لا أن كل محلوف كذبا يكون غموسا ولكنها تسمى فاجرة الثالث ما ظن صدقه وهو قسمان: الأول ما انكشف فيه الأصابة فهدا ألحقه البعض بما علم صدقه إذ بالانكشاف صار مثله والثاني ما ظن صدقه وانكشف خلافه وقد قيل لا يجوز الحلف في هذين القسمين لأن وضع الحلف لقطع الاحتمال فكأن الحالف يقول أنا أعلم مضمون الخبر وهذا كذب فإنه إنما حلف على ظنه الرابع ما ظن كذبه والحلف عليه محرم الخامس ما شك في صدقه وكذبه وهو أيضا محرم فتلخص أنه يحرم ما عدا المعلوم صدقه وقوله ما الكبائر فيه دليل على أنه قد كان معلوما عند السائل أن في المعاصي كبائر وغيرها وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب إمام الحرمين وجماعة من أئمة العلم إلى أن المعاصي كلها كبائر وذهب الجماهير إلى أنها تنقسم إلى كبائر وصغائر واستدلوا بقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وبقوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} قلت ولا يخفى أنه لا دليل على تسمية شيء من المعاصي صغائر وهو محل النزاع وقيل لا خلاف في المعنى إنما الخلاف لفظي لاتفاق الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها قلت وفيه أيضا تأمل وقوله فذكر الحديث ذكر فيه الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس وقد تعرض الشارح رحمه الله إلى ما قاله العلماء في تحديد الكبيرة وأطال نقل أقاويلهم في ذلك وهي أقاويل مدخولة والتحقيق أن الكبر والصغر أمر نسبي

(4/106)


فلا يتم الجزم بأن هذا صغير وهذا كبير إلا بالرجوع إلى ما نص الشارع على كبره فهو كبير وما عداه باق على الإبهام والاحتمال وقد عد العلائي في قواعده الكبائر المنصوص عليها بعد تتبعها من النصوص فأبلغها خمسا وعشرين وهي الشرك بالله والقتل والزنا وأفحشه بحليلة الجار والفرار من الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات والسحر والاستطالة في عرض المسلم بغير حق وشهادة الزور واليمين الغموس والنميمة والسرقة وشرب الخمر واستحلال بيت الله الحرام ونكث الصفقة وترك السنة والتعرب بعد الهجرة واليأس من روح الله والأمن من مكر الله ومنع ابن السبيل من فضل الماء وعدم التنزه من البول وعقوق الوالدين والتسبب إلى شتمهما والإضرار في الوصية وتعقب بأن السرقة لم يرد النص بأنها كبيرة وإنما في الصحيحين "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" وفي رواية النسائي "فإن فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه" وقد جاء في أحاديث صحيحة النص على الغلول وهو إخفاء بعض الغنيمة بأنه كبيرة وجاء في الجمع بين الصلاتين لغير عذر ومنع الفحل ولكنه حديث ضعيف وجاء في الأحاديث ذكر أكبر الكبائر كحديث أبي هريرة إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن ونحوه من الأحاديث ولا مانع من أن يكون في الذنوب الكبير والأكبر وظاهر الحديث أنه لا كفارة في الغموس وقد نقل ابن المنذر وابن عبد البر اتفاق العلماء على ذلك وقد أخرج ابن الجوزي في التحقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا أنه سمع رسول الله صلى الله عليه سلم يقول ليس فيها كفارة يمين صبر يقتطع بها مالا بغير حق وفيه راو مجهول وقد روى آدم بن أبي إياس وإسماعيل القاضي عن ابن مسعود موقوفا كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه قالوا ولا مخالف له من الصحابة ولكن تكلم ابن حزم في صحة أثر ابن مسعود وإلى عدم الكفارة ذهبت الهادوية وذهب الشافعي وآخرون إلى وجوب الكفارة فيها وهو الذي اختاره ابن حزم في شرح المحلى لعموم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان الآية واليمين الغموس معقودة قالوا والحديث لا تقوم به حجة حتى تخصص الآية والقول بأنه لا يكفرها إلا التوبة فالكفارة تنفعه في رفع إثم اليمين ويبقى في ذمته ما اقتطعه بها من مال أخيه فإن تحلل منه وتاب محا الله تعالى عنه الإثم
8- وعن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قالت هو قول الرجل لا والله وبلى والله أخرجه البخاري موقوفا على عائشة ورواه أبو داود مرفوعا فيه دليل على أن اللغو من الأيمان ما لا يكون عن قصد الحلف وإنما جرى على اللسان من غير إرادة الحلف وإلى تفسير اللغو بهذا ذهب الشافعي ونقله ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وجماعة من التابعين وذهب الهادوية والحنفية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشيء يظن صدقه فيكشف خلافه وذهب طاوس

(4/107)


إلى أنها الحلف وهو غضبان وفي ذلك تفاسير أخر لا يقوم عليها دليل وتفسير عائشة أقرب لأنها شاهدت التنزيل وهي عارفة بلغة العرب وعن عطاء والشعبي وطاوس والحسن وأبي قلابة لا والله وبلى والله لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام ولأن اللغو في اللغة ما كان باطلا وما لا يعتد به من القول ففي القاموس اللغو واللغى كالفتى السقط وما لا يعتد به من كلام غيره
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين أسما من أحصاها" وفي لفظ "من حفظها دخل الجنة" متفق عليه وساق الترمذي وابن حبان الأسماء والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة وظاهر الحديث أن أسماء الله الحسنى منحصرة في هذا العدد بناء على القول بمفهوم العدد ويحتمل أنه حصر لها باعتبار ما ذكر بعده من قوله من أحصاها دخل الجنة وهو خبر المبتدأ فالمراد أن هذه التسعة والتسعين تختص بفضيلة من بين سائر أسمائه تعالى وهو أن إحصاءها سبب لدخول الجنة وإلى هذا ذهب الجمهور وقال النووي ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى وليس معناه أنه ليس له أسم غير. التسعة والتسعين ويدل عليه ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من حديث ابن مسعود مرفوعا "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" فإنه دل على أن له تعالى أسماء لم يعرفها أحد من خلقه بل استأثر بها ودل على أنه قد يعلم بعض عباده بعض أسمائه ولكنه يحتمل أنه من التسعة والتسعين وقد جزم بالحصر فيما ذكر أبو محمد بن حزم فقال قد صح أن أسماءه تعالى لا تزيد على تسعة وتسعين شيئا لقوله صلى الله عليه وسلم مائة إلا واحدا فنفي الزيادة وأبطلها ثم قال وجاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسما مضطربة لا يصح منها شيء أصلا وإنما تؤخذ من نص القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم سرد أربعة وثمانين أسما استخرجها من القرآن والسنة وقال الشارح تبعا لكلام المصنف في التلخيص: إنه ذكر ابن حزم أحدا وثمانين اسما والذي رأيناه في كلام ابن حزم أربعة وثمانين وقد نقلنا كلامه وتعيين الأسماء الحسنى على ما ذكره في هامش التلخيص واستخرج المصنف من القرآن فقط تسعا وتسعين أسما وسردها في التلخيص وغيره وذكر السيد محمد بن إبراهيم الوزير في إيثار الحق أنه تتبعها من القرآن فبلغت مائة وثلاثة وسبعين أسما وإن قال صاحب الإيثار مائة وسبعة وخمسين فإنا عددناها فوجدناها كما قلنا أولا وعرفت من كلام المصنف أن مراده أن سرد الأسماء الحسنى المعروفة مدرج عند المحققين وأنه ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم وذهب كثيرون إلى أن عدها مرفوع وقال المصنف بعد نقله كلام العلماء في ذكر عدد الأسماء والاختلاف فيها ما لفظه ورواية الوليد بن مسلم عن شعيب هي أقرب الطرق الواضحة وعليها عول غالب من شرح الأسماء

(4/108)


الحسنى عند سردها على رواية الترمذي وذكر اختلافا في بعض ألفاظها وتبديلا في إحدى الروايات للفظ بلفظ ثم قال واعلم أن الأسماء الحسنى على أربعة أقسام القسم الأول الاسم العلم وهو الله والثاني ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير والثالث ما يدل على إضافة أمر إليه كالخالق والرازق والرابع ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس واختلف العلماء أيضا هل هي توقيفية يعني أنه لا يجوز لأي أحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله تعالى أسما بل لا يطلق عليه إلا ما ورد به نص الكتاب والسنة فقال الفخر الرازي المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية وقالت المعتزلة والكرامية إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله تعالى جاز إطلاقه على الله تعالى وقال القاضي أبو بكر والغزالي الأسماء توقيفية دون الصفات قال الغزالي كما أنه ليس لنا أن نسمي النبي صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه ولا أمه ولا سمى به نفسه كذلك في حق الله تعالى واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه تعالى اسم أو صفة توهم نقصا فلا يقال ماهد ولا زارع ولا فالق وإن جاء في القرآن: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} {أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ولا يقال ماكر ولا بناء وإن ورد {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} وقال القشيري الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه وما لم يرد لم يجز ولو صح معناه وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا إيقاظ الفكرة وقوله من أحصاها اختلف العلماء في الإحصاء فقال البخاري وغيره من المحققين معناه حفظها وهو الظاهر فإن إحدى الروايتين مفسرة للأخرى
وقال الخطابي: يحتمل وجوها أحدها: أن يعدها حتى يستوفيها بمعنى أن لا يقتصر على بعضها فيدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها فيستوجب الموعود عليها من الثواب
وثانيها: المراد بالإحصاء الإطاقة والمعنى من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها وهو أن يعتبر معانيها فيلزم نفسه بمواجبها فإذا قال الرزاق وثق بالرزق وكذا سائر الأسماء ثالثها: المراد به الإحاطة بمعانيها وقيل أحصاها عمل بها فإذا قال الحكيم سلم لجميع أوامره لأن جميعها على مقتضى الحكمة وإذا قال القدوس استحضر كونه مقدسا منزها عن جميع النقائص واختاره أبو الوفاء ابن عقيل
وقال ابن بطال: طريق العمل بها أن ما كان يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم فيمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها وما كان يختص به نفسه كالجبار والعظيم فعلى العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها وما كان فيه معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة وما كان فيه معنى الوعيد يقف منه عند الخشية والرهبة ويؤيد هذا أن حفظها لفظا من دون عمل واتصاف كحفظ القرآن من دون عمل لا ينفع كما جاء يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم ولكن هذا الذي ذكرته لا يمنع من ثواب من قرأها سردا وإن كان متلبسا بمعصية وإن كان ذلك مقام الكمال الذي لا يقوم به إلا أفراد من الرجال وفيه أقوال أخر لا تخلو

(4/109)


من تكلف تركناها فإن قلت كيف يتم أن المراد من حفظها على ما هو قول جمع المحققين ولم يأت بعددها حديث صحيح قلت لعل المراد من حفظ كل ما ورد في القرآن وفي السنة الصحيحة وإن كان موجودا فيهما أكثر من تسعة وتسعين فقد حفظ التسعة والتسعين في ضمنها فيكون حثا على تطلبها من الكتاب والسنة الصحيحة وحفظها
10- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء" أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان المعروف الإحسان والمراد من أحسن إليه إنسان بأي إحسان فكافأه بهذا القول فقد بلغ في الثناء عليه مبلغا عظيما ولا يدل على أنه قد كافأه على إحسانه بل دل على أنه ينبغي الثناء على المحسن وقد ورد في حديث آخر إن الدعاء إذا عجز العبد عن المكافأة مكافأة ولا يخفى أن ذكر الحديث هنا غير موافق لباب الأيمان والنذور وإنما محله باب الأدب الجامع
11- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل" متفق عليه هذا أول الكلام في النذور والنذر لغة التزام خير أو شر وفي الشرع التزام المكلف شيئا لم يكن عليه منجزا أو معلقا واختلف العلماء في هذا النهي فقيل هو على ظاهره وقيل بل متأول قال ابن الأثير في النهاية تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال لحكمه وإسقاط للزوم الوفاء به إذا كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يرد قضاء فقال لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله تعالى لكم أو تصرفون به عنكم ما قدر عليكم فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم ا ه وقال المازري بعد نقل معناه عن بعض أصحابه وهذا عندي بعيد عن ظاهر الحديث قال ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقرب مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب فلا ينشط العقل نشاط مطلق الاختيار أو لأن الناذر يصير القربة كالعوض عن الذي نذر لأجله فلا تكون خالصة ويدل عليه قوله إنه لا يأتي بخير وقال القاضي عياض إن المعنى أنه يغالب القدر والنهي لخشية أن يقع في ظن بعض الجهلة ذلك وقوله لا يأتي بخير معناه أن عقباه لا تحمد وقد يتعذر الوفاء به وأن لا يكون سببا لخير لم يقدر فيكون مباحا وذهب أكثر الشافعية ونقل عن المالكية إلى أن النذر مكروه لثبوت النهي واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزم وجزم الحنابلة بالكراهة وعندهم رواية أنها كراهة تحريم ونقل

(4/110)


الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم من الصحابة وقال ابن المبارك يكره النذر في الطاعة والمعصية فإن نذر بالطاعة ووفى به كان له أجر وذهب النووي في شرح المهذب إلى أن النذر مستحب وقال المصنف: وأنا أتعجب ممن أطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت النهي الصريح فأقل درجاته أن يكون مكروها قال ابن العربي: النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر لكنه من القدر وقد ندب إلى الدعاء ونهى عن النذر لأن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والخضوع والتضرع والنذر فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة ا هـ
قلت القول بتحريم النذر هو الذي دل عليه الحديث ويزيد تأكيدا تعليله بأنه لا يأتي بخير فإنه يصير إخراج المال فيه من باب إضاعة المال وإضاعة المال محرمة، فيحرم النذر بالمال كما هو ظاهر قوله وإنما يستخرج به من البخيل وأما النذر بالصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ونحوها من الطاعات فلا تدخل في النهي ويدل له ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال كانوا ينذرون طاعات من الصلاة والصيام وسائر ما افترض الله عليهم وهو وإن كان أثرا فهو يقويه ما ذكر في سبب نزول الآية هذا وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر ويجلب الخير ويدفع الشر ويعافي الأليم ويشفي السقيم وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه فيحرم كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه لأنه تقرير على الشرك ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام لكن طال الأمد حتى صار المعروف بنو والمنكر معروفا وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات وينحر في بابه النحائر من الأنعام وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد أشبعنا الكلام في هذا في رسالة تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد والحديث ظاهر في النهي عن النذر مطلقا ما ينذر به ابتداء كمن ينذر أن يخرج من ماله كذا وما يتقرب به معلقا كأن يقول إن قدم زيد تصدقت بكذا
12- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين" رواه مسلم وزاد الترمذي فيه إذا لم يسم وصححه الحديث دليل على أن من نذر بأي نذر من مال أو غيره فكفارته كفارة يمين ولا يجب الوفاء به وإلى هذا ذهب جماعة من فقهاء أهل الحديث كما قال النووي وقد أخرج البيهقي عن عائشة رضي الله عنها في رجل جعل ماله في المساكين صدقة قالت كفارة يمين وأخرج أيضا عن أم صفية أنها سمعت عائشة رضي الله عنها وإنسان يسألها عن الذي يقول كل ماله في سبيل الله أو كل ماله في رتاج الكعبة ما يكفر ذلك قالت عائشة يكفره ما يكفر اليمين وكذا أخرجه عن عمر وابن عمر وأم سلمة قال البيهقي هذا في غير العتق

(4/111)


فقد روي عن ابن عمر من وجه آخر أن العتاق يقع وكذلك عن ابن عباس ودليلهم حديث عقبة هذا وذهب آخرون إلى تفصيل في المنذور به فإن كان المنذور به فعلا فالفعل إن كان غير مقدور فهو غير منعقد وإن كان مقدورا فإن كان جنسه واجبا لزم الوفاء به عند الهادوية ومالك وأبي حنيفة وجماعة آخرين وقول للشافعي إنه لا ينعقد النذر المطلق بل يكون يمينا فيكفرها ذكر هذا الخلاف في البحر وذهب داود وأهل الظاهر وذكر النووي في شرح مسلم أنه أجمع المسلمون على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة فإن كان معصية أو مباحا كدخول السوق لم ينعقد النذر ولا كفارة عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال أحمد وطائفة فيه كفارة يمين وقال في نهاية المجتهد إنه وقع الاتفاق على لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر وكان على جهة الجزم وإن كان على جهة الشرط فقال مالك يلزم كالجزم ولا كفارة يمين في ذلك إلا أنه إذا نذر بجميع ماله لزم ثلث ماله إذا كان مطلقا وإن كان المنذور به معينا لزمه وإن كان جميع ماله وكذا إذا كان المعين أكثر من الثلث وذهب الشافعي إلى أنها تجب كفارة يمين لأنه ألحقها بالأيمان ثم ذكر أقاويل في المسألة لا ينهض عليها دليل وذكر متمسك القائلين بأدلة ليست من باب النذر ولا تنطبق على المدعي وحديث عقبة أحسن ما يعتمد الناظر عليه وقد حمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر وقالوا هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين ذكره النووي في شرح مسلم وهو الذي دل عليه إطلاق حديث عقبة
13- ولأبي داود من حديث ابن عباس مرفوعا "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين" وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه أما النذر الذي لم يسم كأن يقول لله علي نذر فقال كثير من العلماء في ذلك كفارة يمين لا غير وعليه دل حديث عقبة وحديث ابن عباس وأما النذر بالمعصية فكفارته كفارة يمين كما صرح به الحديث سواء فعل المعصية أم لا وكذلك من نذر نذرا لا يطيقه عقلا ولا شرعا كطلوع السماء وحجتين في عام لا ينعقد وتلزمه كفارة يمين وعند الشافعي ومالك وداود وجماهير العلماء لا تلزمه الكفارة لما دل عليه الحديث الآتي وهو قوله
14- وللبخاري من حديث عائشة "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" ولم يذكر كفارة وحديث عمر "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الله" أخرجه ابن ماجه وذهبت الهادوية وابن حنبل إلى وجوب الكفارة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما وأجيب عنه بأن الأصح أنه موقوف وأما الزيادة في حديث عمران بن حصين وكفارته كفارة يمين فقد أخرجها النسائي والحاكم والبيهقي ولكن فيه محمد بن الزبير الحظلي

(4/112)


وليس بالقوي وله طريق أخرى فيها علة ورواه الأربعة من حديث عائشة وفيه راو متروك ورواه الدارقطني وفيه أيضا متروك ولا يلزم الوفاء بنذر المعصية لقوله فلا يعصه ولما يفيده قوله
15- ولمسلم من حديث عمران لا وفاء لنذر في معصية فإنه صريح في النهي عن الوفاء كالذي قبله
16- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لتمش ولتركب" متفق عليه واللفظ لمسلم ولأحمد والأربعة فقال: "إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئا مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" دل الحديث على أن من نذر أن يمشي إلى بيت الله لا يلزمه الوفاء وله أن يركب لغير عجز وإليه ذهب الشافعي وذهبت الهادوية إلى أنه لا يجوز الركوب مع القدرة على المشي فإذا عجز جاز له الركوب ولزمه دم مستدلين برواية أبي داود لحديث عقبة بأنه قال فيه إن أختي نذرت أن تحج ماشية وإنها لا تطيق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لغني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة قالوا فتقييد رواية الصحيحين بأن إن استطاعت وتركب في الوقت الذي لا تطيق المشي فيه أو يشق عليها وقوله فلتختمر ذكر ذلك لأنه وقع في الرواية أنها نذرت أن تحج لله ماشية غير مختمرة قال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مرها الحديث ولعل الأمر بصيام ثلاثة أيام لأجل النذر بعدم الاختمار فإنه نذر بمعصية فوجب كفارة يمين وهو من أدلة من يوجب الكفارة في النذر بمعصية إلا أنه ذكر البيهقي أن في إسناده اختلافا وقد ثبت في رواية أبي داود عن ابن عباس بعد قوله فلتركب ولتهد بدنة قيل وهو على شرط الشيخين إلا أنه قال البخاري لا يصح في حديث عقبة بن عامر الأمر بالإهداء فإن صح فكأنه أمر ندب وفي وجهه خفاء
17- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه فقال: "اقضه عنها" متفق عليه لم يبين في هذه الرواية ما هو النذر وجاء في رواية أفيجزىء أن أعتق عنها فقال أعتق عن أمك فظاهر هذه الرواية أنها نذرت بعتق وأما ما أخرج النسائي عن سعد بن عبادة قال قلت يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها قالك "نعم" قلت فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء" فإنه في أمر آخر غير الفتيا إذ هذا في سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة تبرعا عنها والحديث دليل على أنه يلحق الميت ما فعل له من بعده من عتق أو صدقة أو نحوهما وقد قدمنا ذلك في آخر كتاب الجنائز وهل يجب ذلك على الوارث ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب على الوارث أن يقضي النذر عن الميت إذا كان ماليا ولم يخلف

(4/113)


تركة وكذا غير المالي وقالت الظاهرية يلزمه ذلك لحديث سعد وأجيب بأن حديث سعد لا دلالة فيه على الوجوب والظاهر مع الظاهرية إذ الأمر للوجوب
18- وعن ثابت بن الضحاك هو ثابت بن الضحاك الأشهلي قال البخاري هو ممن بايع تحت الشجرة حدث عنه أبو قلابة وغيره قال نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة بضم الموحدة وفتحها وبعدها واو ثم ألف وبعد الألف نون موضع بالشام وقيل أسفل مكة دون يلملم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: "هل كان فيها وثن يعبد؟" قال لا قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" فقال لا فقال: "أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود والطبراني واللفظ له وهو صحيح الإسناد وله شاهد من حديث كردم بفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة عند أحمد والحديث له سبب عند أبي داود وهو أنه قال يا رسول الله: إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أذبح على رأس بوانة في عقبة من الصاعد عنه الحديث وهو دليل على أن من نذر أن يتصدق أو يأتي بقربة في محل معين أنه يتعين عليه الوفاء بنذره ما لم يكن في ذلك المحل شيء من أعمال الجاهلية وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة الهادوية وقال الخطابي إنه مذهب الشافعي وأجازه غيره لغير أهل ذلك المكان ا ه ولكنه يعارضه حديث لا تشد الرحال فيكون قرينة على أن الأمر هنا للندب كذا قيل ويدل له أيضا قوله
19- وعن جابر أن رجلا قال يوم الفتح أي فتح مكة يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس فقال: "صل ها هنا" فسأله فقال: "صل ها هنا" فسأله فقال: "فشأنك إذن" رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم وصححه ابن دقيق العيد في الاقتراح وهو دليل على أنه لا يتعين المكان في النذر وإن عين إلا ندبا
20- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي هذا" متفق عليه واللفظ للبخاري تقدم الحديث في آخر باب الاعتكاف ولعله أورده هنا للإشارة إلى أن النذر لا يتعين فيه المكان إلا أحد الثلاثة المساجد وقد ذهب مالك والشافعي إلى لزوم الوفاء بالنذر بالصلاة في أي المساجد الثلاثة وخالفهم أبو حنيفة فقال لا يلزم الوفاء وله أن يصلي في أي محل شاء وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا كان لحج أو عمرة وأما غير الثلاثة المساجد فذهب أكثر العلماء إلى عدم لزوم الوفاء لو نذر بالصلاة فيها إلا ندبا وأما شد الرحال للذهاب إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة فقال الشيخ أبو محمد الجويني إنه حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره قال النووي والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم

(4/114)


ولا يكره قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى الثلاثة خاصة وقد تقدم هذا في آخر باب الاعتكاف
21- وعن عمر رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: "فأوف بنذرك" متفق عليه وزاد البخاري في رواية فاعتكف ليلة دل الحديث على أنه يجب على الكافر الوفاء بما نذر به إذا أسلم وإليه ذهب البخاري وابن جرير وجماعة من الشافعية لهذا الحديث وذهب الجماهير إلى أنه لا ينعقد النذر من الكافر قال الطحاوي لا يصح منه التقرب بالعبادة قال ولكنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه سلم فهم من عمر أنه سمح بفعل ما كان نذر فأمره به لأن فعله طاعة وليس هو ما كان نذر به في الجاهلية وذهب بعض المالكية إلى أنه صلى الله عليه سلم إنما أمر به استحبابا وإن كان التزمه في حال لا ينعقد فيها ولا يخفى أن القول الأول أوفق بالحديث والتأويل تعسف وقد استدل به على أن الاعتكاف لا يشترط فيه الصوم إذ الليل ليس ظرفا له وتعقب بأن في رواية عند مسلم يوما وليلة وقد ورد ذكر الصوم صريحا في رواية أبي داود والنسائي اعتكف وصم وهو ضعيف

(4/115)