البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي سهل أَسبَاب السّنة المحمدية لمن أخْلص لَهُ وأناب. وسلسل مواردها النَّبَوِيَّة لمن تخلق بالسنن والآداب. وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله شَهَادَة تنقذ قَائِلهَا من هول يَوْم الْحساب وَأشْهد أَن سيدنَا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الَّذِي كشف لَهُ الْحجاب. وَخَصه بالاقتراب. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى الْآل وَالْأَصْحَاب. وَالْأَنْصَار والأحزاب: (أما بعد) فَإِن أربح الْأَعْمَال أجرا وأبقاها ذكرا وَأَعْظَمهَا فخرا. وأضوعها فِي عَالم الملكوت فتا ونشرا. كسب الْعُلُوم النافعة فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. لَا سِيمَا عُلُوم الْأَحَادِيث المصطفوية الكاشفة النقاب. عَن جمال وُجُوه مجملات آيَات الْكتاب. وَأَن من أجل أَنْوَاع عُلُوم الحَدِيث معرفَة الْأَسْبَاب. وَقد ألف فِيهَا أَبُو حَفْص العكبري كتابا وَذكر الْحَافِظ ابْن حجر أَنه وقف مِنْهُ على انتخاب. وَلما لم أظفر فِي عصرنا بمؤلف مُفْرد فِي هَذَا الْبَاب، غير أَوَائِل تأليف شرع فِيهِ الْحَافِظ السُّيُوطِيّ ورتبه على الْأَبْوَاب. فَذكر فِيهِ نَحْو مائَة حَدِيث واخترمته الْمنية قبل اتما الْكتاب سنح لي أَن أجمع فِي ذَلِك كتابا تقر بِهِ عُيُون الطلاب. فرتبته على الْحُرُوف وَالسّنَن الْمَعْرُوف. وأضعت لَهُ تتمات تمس الْحَاجة إِلَيْهَا وتحقيقات يعول عَلَيْهَا. وسميته " الْبَيَان والتعريف فِي أَسبَاب الحَدِيث الشريف " وَجَعَلته خدمَة لحضرة الحبيب الأكرم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووسيلة لشفاعته يَوْم الْحَسْرَة والندم. وَمن الله سُبْحَانَهُ. أَرْجُو التَّوْفِيق والإعانة.

(1/2)


(مُقَدّمَة)
أعلم أَن أَسبَاب وُرُود الحَدِيث كأسباب نزُول الْقُرْآن والْحَدِيث الشريف فِي الْوُرُود على قسمَيْنِ مَا لَهُ سَبَب قبل لأَجله، وَمَا لَا سَبَب لَهُ ثمَّ أَن السَّبَب قد يذكر فِي الحَدِيث كَمَا فِي حَدِيث سُؤال جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالْإِحْسَان وَحَدِيث السُّؤَال عَن دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب وَحَدِيث السَّائِل أَي الْأَعْمَال أفضل وَحَدِيث سُؤال أَي الذَّنب أكبر وَذَلِكَ كثير وَقد لَا يذكر السَّبَب فِي الحَدِيث أَو يذكر فِي بعض طرقه فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الاعتناء بِهِ فَمن ذَلِك حَدِيث أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إِلَّا الْمَكْتُوبَة رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا من حَدِيث زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ وَقد رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ فِي الشمايل من حَدِيث عبد الله بن سعد رَضِي الله عَنهُ وَذكر السَّبَب قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا أفضل الصَّلَاة فِي بَيْتِي أَو فِي الْمَسْجِد قَالَ أَلا ترى إِلَى بَيْتِي مَا أقربه من الْمَسْجِد فَلِأَن أُصَلِّي فِي بَيْتِي أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَن تكون صَلَاة مَكْتُوبَة وَمَا ذكر فِي هَذَا النَّوْع من الْأَسْبَاب قد يكون مَا ذكر عقب ذَلِك السَّبَب من لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول مَا تكلم بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْوَقْت لأمور تظهر للعارف بِهَذَا الشَّأْن هَذَا ملخص مَا أَفَادَهُ البُلْقِينِيّ فِي كتاب محَاسِن الِاصْطِلَاح وَأفَاد الْحَافِظ ابْن نَاصِر الدّين الدِّمَشْقِي فِي التعليقة اللطيفة لحَدِيث الْبضْعَة الشَّرِيفَة أَنه يَأْتِي سَبَب الحَدِيث تَارَة فِي عصر النُّبُوَّة وَتارَة بعْدهَا وَتارَة يَأْتِي بالأمرين كَحَدِيث الْبضْعَة أما سَببه فِي عصر النُّبُوَّة فخطبة عَليّ رَضِي الله عَنهُ ابْنة أبي جهل على

(1/3)


فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا فَاطِمَة بضعَة مني الحَدِيث وَأما سَببه بعد عصر النُّبُوَّة فَمَا رَوَاهُ الْمسور تَسْلِيَة وتعزية لأهل الْبَيْت رَضِي الله عَنْهُم وَذَلِكَ لما تلقاهم الْمُسلمُونَ حِين قدمُوا الْمَدِينَة وَكَانَ فِيمَن تلقاهم الْمسور بن مخرمَة فَحدث زين العابدين وَأهل الْبَيْت رَضِي الله عَنْهُم بِهَذَا الحَدِيث وَفِيه التسلية عَن هَذَا الْمُصَاب وَقد علم بِمَا قَرَّرَهُ أَن من الْأَسْبَاب مَا يكون بعد عصر النُّبُوَّة كَمَا فِي أَحَادِيث ذكرُوا أَسبَاب وُرُودهَا عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقد نظر بعض الْمُتَأَخِّرين فِي ذَلِك وَلَكِن ذكرهَا أولى لِأَن فِيهِ بَيَان السَّبَب فِي الْجُمْلَة فَإِن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حفظوا الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال وحافظوا على الأطوار وَالْأَحْوَال فَيكون السَّبَب فِي الْوُرُود عَنْهُم مُبينًا لما لم يعلم سَببه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي أَبْوَاب الشَّرِيعَة والقصص وَغَيرهَا أَحَادِيث لَهَا أَسبَاب يطول شرحها وَمَا ذَكرْنَاهُ انموذج لمن يرغب فِي سلوك هَذِه المسالك ومدخل لمن يُرِيد أَن يصنف مَبْسُوطا فِي ذَلِك وعنيت بتخريج أَحَادِيثه من المعاجم وَالْمَسَانِيد والكتب السِّتَّة وَالْوَاجِب فِي الصِّنَاعَة الحديثية أَنه إِذا كَانَ الحَدِيث فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ لَا يعزى لغيره الْبَتَّةَ إِلَّا إِذا اقْتضى الْحَال وَلَكِن مقَام مقَال وَقد اقتديت بالأئمة فِي الِابْتِدَاء بِحَدِيث (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) متوسلا بقائله عَلَيْهِ أفضل الصَّلَوَات وأكمل التسليمات أَن يوفقني الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للأخلاص فِي جَمِيع الْحَالَات وَأَن يخْتم أَعمالنَا بالصالحات وَهُوَ حسبي وَكفى وَمَا خَابَ عبد إِلَيْهِ التجأ (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل أمرء مَا نوى فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت

(1/4)


هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو إِلَى امْرَأَة ينْكِحهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ) هَذَا حَدِيث صَحِيح مَشْهُور مُتَّفق عَلَيْهِ أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة فِي كتبهمْ وَغَيرهم عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ سَببه نقل الْحَافِظ السُّيُوطِيّ عَن الزبير بن بكار أَنه قَالَ فِي أَخْبَار الْمَدِينَة حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحسن عَن مُحَمَّد ابْن طَلْحَة بن عبد الرَّحْمَن عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث عَن أَبِيه قَالَ لما قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وعك فِيهَا أَصْحَابه وَقدم رجل يتَزَوَّج امْرَأَة كَانَت مهاجرة فَجَلَسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ثَلَاثًا فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت هجرته فِي دنيا يطْلبهَا أَو امْرَأَة يخطبها فَإِنَّمَا هجرته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ ثمَّ رفع يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ انقل عَنَّا الوبا ثَلَاثًا فَلَمَّا أصبح قَالَ أتيت هَذِه اللَّيْلَة بالحمى فَإِذا بِعَجُوزٍ سَوْدَاء ملببة فِي يَدي الَّذِي جَاءَ بهَا فَقَالَ هَذِه الْحمى فَمَا ترى فِيهَا اجْعَلُوهَا تحم وَنقل الْحَافِظ السُّيُوطِيّ أَن قصَّة مهَاجر أم قيس رَوَاهَا سعيد بن مَنْصُور فِي سنَنه بِسَنَد على شَرط الشَّيْخَيْنِ عَن أبي مَسْعُود قَالَ من هَاجر يَبْتَغِي شَيْئا فَإِنَّمَا لَهُ ذَلِك وَقَالَ ابْن مَسْعُود فَكُنَّا نُسَمِّيه مهَاجر أم قيس قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد وَلِهَذَا خص فِي الحَدِيث ذكر الْمَرْأَة دون سَائِر مَا يَنْوِي بِهِ الْهِجْرَة من أَفْرَاد الْأَغْرَاض الدُّنْيَوِيَّة.

(1/5)