المتواري على أبواب البخاري

(7 -] كتاب الصَّلَاة [)

(33 - (1) بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير)
وَصلى جَابر بن عبد الله وَأَبُو سعيد فِي السَّفِينَة قَائِما.
وَقَالَ الْحسن: تصلي قَائِما مَا لم يشق على أَصْحَابك تَدور مَعهَا. وَإِلَّا فقاعداً.
فِيهِ أنس: إِن جدته مليكَة دعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لطعام صَنعته لَهُ، فَأكل مِنْهُ ثمَّ قَالَ: قومُوا فلأصلي لكم، قَالَ أنس: فَقُمْت إِلَى حَصِير لنا، قد اسودّ من طول مَا لبس، فنضحته بِمَاء، فَقَامَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وصففت أَنا واليتيم وَرَاءه، والعجوز عَن وَرَائِنَا، فَصلي بِنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ انْصَرف.

(1/83)


قَالَ سيدنَا الْفَقِيه - رَضِي الله عَنهُ -: وَجه إِدْخَال الصَّلَاة فِي السَّفِينَة فِي تَرْجَمَة الصَّلَاة على الْحَصِير، أَنَّهُمَا اشْتَركَا فِي أَن الصَّلَاة عَلَيْهِمَا صَلَاة على غير الأَرْض. لِئَلَّا يتخيل أَن مُبَاشرَة الْمصلى للْأَرْض شَرط من قَوْله لِمعَاذ: " عفر وَجهك فِي التُّرَاب ".
(34 - بَاب كَرَاهِيَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر.)

فِيهِ ابْن عمر: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : اجعلوا من صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ، وَلَا تتخذوها قبوراً.
قَالَ الْفَقِيه - وَفقه الله - إِن قلت: مَا وَجه مُطَابقَة التَّرْجَمَة للْحَدِيث؟ .
قلت: دلّ الحَدِيث على الْفرق بَين الْبَيْت والقبر. فَأمر بِالصَّلَاةِ فِي الْبَيْت، وَألا يَجْعَل كالمقبرة. فأفهم أَن الْمقْبرَة لَيست بِمحل صَلَاة. لهَذَا أَدخل الحَدِيث تحتهَا. وَالله أعلم.
فِيهِ نظر، من حَيْثُ أَن المُرَاد بقوله: " لَا تتخذوها قبوراً " أَن لَا تَكُونُوا فِيهَا كالأموات فِي الْقُبُور. وانقطعت عَنْهُم الْأَعْمَال، وَارْتَفَعت التكاليف، فَهُوَ غير متعرض لصَلَاة الْأَحْيَاء فِي ظواهر الْمَقَابِر. وَالله أعلم.
وَلِهَذَا قَالَ " وَلَا تتخذوها قبوراً " وَلم يقل: " مَقَابِر " لِأَن الْقَبْر: هُوَ

(1/84)


الحفرة الَّتِي يستقّر بهَا الميّت والمقبرة اسْم للمكان الْمُشْتَمل على الحفرة، وَمَا وضمّت وَالله أعلم.
(35 - (3) بَاب إنشاد الشّعْر فِي الْمَسْجِد)
فِيهِ أَبُو سَلمَة: إِنَّه سمع حسان بن ثَابت يستشهد أَبَا هُرَيْرَة: أنْشدك الله،

(1/85)


هَل سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: يَا حسان أجب عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ؟ اللَّهُمَّ أيده بِروح الْقُدس؛ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: نعم!
قلت: رَضِي الله عَنْك -: لَيْسَ لي فِي هَذَا الحَدِيث أَنه أنْشد فِي الْمَسْجِد، وَإِن كَانَ مثبتاً فِي غير هَذَا الطَّرِيق، وَقد ذكره البُخَارِيّ فِي كِتَابه فِي غير هَذَا.
قَالَ: مر عمر بِحسان وَهُوَ ينشد فِي الْمَسْجِد. ثمَّ سَاق الحَدِيث.
فَإِن قلت: لم عدل عَن الطَّرِيق الْمُفْهم للمقصود إِلَى مَا لَا يفهمهُ مَعَ الْإِمْكَان؟
قلت: كَانَ البُخَارِيّ لطيف الْأَخْذ لفوائد الحَدِيث، دَقِيق الفكرة فِيهَا، وَكَانَ رُبمَا عرض لَهُ الِاسْتِدْلَال على التَّرْجَمَة بِالْحَدِيثِ الْوَاضِح المطابق، فَعدل إِلَى الْأَخْذ من الْإِشَارَة وَالرَّمْز بِهِ. وَكَانَ على الصَّوَاب فِي ذَلِك لِأَن الحَدِيث الْبَين يَسْتَوِي النَّاس فِي الْأَخْذ مِنْهُ. وَإِنَّمَا يتفاوتون فِي الاستنباط من الإشارات الْخفية. وَلم يكن مَقْصُود البُخَارِيّ كَغَيْرِهِ يمْلَأ الصُّحُف بِمَا سبق إِلَيْهِ، وَبِمَا يعْتَمد فِي مثله على الأفهام الْعَامَّة. وَإِنَّمَا كَانَ مقْصده فَائِدَة زَائِدَة.
وَوجه الْأَخْذ من هَذَا الطَّرِيق أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " يَا حسان أجب عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " ودعا لَهُ أَن يُؤَيّد بِروح الْقُدس، فدلّ على أَن من الشّعْر حَقًا يُؤمر بِهِ، ويتأهل صَاحبه، لِأَن يكون مؤيداً فِي النُّطْق بِهِ بِالْمَلَائِكَةِ. وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنه، فَلَا يتخيل ذولب أَنه يحرم فِي الْمَسْجِد، لِأَن الَّذِي يحرم فِي الْمَسْجِد من الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ الْعَبَث والسفه، وَمَا يعدّ فِي الْبَاطِل الْمنَافِي لما اتَّخذت لَهُ الْمَسَاجِد من الْحق. فَأَما هَذَا النَّوْع فَإِنَّهُ حق لَفظه حسن، وَمَعْنَاهُ صدق. فَهَذَا وَجه الْأَخْذ. وَالله أعلم. وَبِه يرْتَفع الْخلاف، وَيحمل الْمَنْع على شعر السَّفه والعبث، وَالْإِجَازَة على شعر الْفَائِدَة وَالْحكمَة. وَنَحْو ذَلِك مِمَّا تحسن

(1/86)


الْقَصْد إِلَيْهِ. وَالله أعلم.
(36 - (4) بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: بعث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خيلاً قبل نجد،

(1/87)


فَجَاءَت بِرَجُل من بني حنيفَة، يُقَال لَهُ: ثُمَامَة بن أَثَال، فربطوه بِسَارِيَة من سواري الْمَسْجِد، فَخرج إِلَيْهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَ، اطلقوا ثُمَامَة فَانْطَلق إِلَى نخل قريب من الْمَسْجِد، فاغتسل ثمَّ دخل الْمَسْجِد فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وأنّ مُحَمَّدًا رَسُول الله.
قلت: - رَضِي الله عَنْك - ترْجم قبل هَذَا على " ربط الْأَسير والغريم فِي الْمَسْجِد "، ثمَّ سَاق حَدِيث العفريت الَّذِي هّم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بربطه إِلَى سَارِيَة الْمَسْجِد، وَلم يربطه رِعَايَة لدَعْوَة سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقد كَانَ ذكر الحَدِيث فِي هَذِه التَّرْجَمَة أوقع وأنص على الْمَقْصُود، لِأَن ثُمَامَة كَانَ أَسِيرًا، فَربط فِي الْمَسْجِد. فإمَّا أَن يكون البُخَارِيّ سلك عَادَته فِي الِاسْتِدْلَال بالخفي، والإعراض عَن الِاسْتِدْلَال الْجَلِيّ، اكْتِفَاء بسبق الأفهام إِلَيْهِ. وَإِمَّا أَن يكون ترك الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث ثُمَامَة، لِأَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يربطه وَلم يَأْمر بربطه. وَحَيْثُ رَآهُ مربوطاً قَالَ: " أطْلقُوا ثُمَامَة "، فَهُوَ بِأَن يكون إنكاراً لفعلهم أولى مِنْهُ بِأَن يكون إِقْرَارا، بِخِلَاف قَضِيَّة العفريت، فَإِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] هُوَ الَّذِي هّم بربطه. وَإِنَّمَا امْتنع لمَانع أَجْنَبِي. وَالله أعلم.
وَوجه مُطَابقَة حَدِيث ثُمَامَة للْبيع وَالشِّرَاء فِي الْمَسْجِد أَن الَّذِي تخيل الْمَنْع. إِنَّمَا أَخذه من ظَاهر " إِن هَذِه الْمَسَاجِد إِنَّمَا بنيت للصَّلَاة، وَلذكر الله ". فبيّن البُخَارِيّ تَخْصِيص هَذَا الْعُمُوم الْحَاضِر بِإِجَازَة فعل غير الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد وَهُوَ ربط ثُمَامَة، لِأَنَّهُ لمقصود صَحِيح، فَالْبيع كَذَلِك. وَالله أعلم.
(37 - (5) بَاب الصَّلَاة فِي مَسَاجِد السُّوق)
وَصلى ابْن عمر فِي مَسْجِد فِي دَار يغلق عَلَيْهِ الْبَاب.

(1/88)


فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : صَلَاة الْجَمِيع تزيد على صلَاته فِي بَيته، وَصلَاته فِي سوقه خمْسا وَعشْرين دَرَجَة. الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك! إِن قلت: مَا وَجه مُطَابقَة التَّرْجَمَة لحَدِيث ابْن عمر - وَلم يصل فِي سوق -، وَلِلْحَدِيثِ الآخر، وَلَيْسَ فِيهِ لِلْمَسْجِدِ فِي السُّوق ذكر.
قلت: أَرَادَ البُخَارِيّ إِثْبَات جَوَاز بِنَاء الْمَسْجِد دَاخل السُّوق، لِئَلَّا يتخيل أَن الْمَسْجِد فِي الْمَكَان الْمَحْجُور لَا يسوغ، كَمَا أَن مَسْجِد الْجُمُعَة لَا يجوز أَن يكون مَحْجُورا. فنبّه بِصَلَاة ابْن عمر، على أَن الْمَسْجِد الَّذِي صلى فِيهِ كَانَ مَحْجُورا، وَمَعَ ذَلِك فَلهُ حكم الْمَسَاجِد.
ثمَّ خص السُّوق فِي التَّرْجَمَة لِئَلَّا يتخيل أَنَّهَا لما كَانَت شَرّ الْبِقَاع، وَبهَا يركز الشَّيْطَان، رَأَيْته كَمَا ورد فِي الحَدِيث، يمْنَع ذَلِك من اتِّخَاذ الْمَسَاجِد فِيهَا، وينافي الْعِبَادَة كمنافاتها الطرقات، ومواضع الْعَذَاب وَالْحمام، وَشبهه. فبيّن بِهَذَا الحَدِيث أَنه مَحل للصَّلَاة، كالبيوت. فَإِذا كَانَت محلا للصَّلَاة، جَازَ أَن يَبْنِي فِيهَا الْمَسْجِد. وَالله أعلم.
(38 - (6) بَاب تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَغَيره)

(1/89)


فِيهِ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان، يشدّ بعضه بَعْضًا ". وَشَبك أَصَابِعه -.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: صلى بِنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِحْدَى صَلَاتي العشّى، صلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ سلم، ثمَّ إِلَى قَامَ خَشَبَة معروضة فِي الْمَسْجِد، فاتكأ عَلَيْهَا، وَوضع يَده الْيُمْنَى على الْيُسْرَى. وشبّك أَصَابِعه.
قلت: رَضِي الله عَنْك، وَجه إِدْخَال هَذِه التَّرْجَمَة فِي الْفِقْه مُعَارضَة الْمَرَاسِيل الَّتِي وَردت فِي النَّهْي عَن التشبيك فِي الْمَسْجِد، وَلَكِن التَّحْقِيق أَنَّهَا لَا تعارضها، إِذا المنهى عَنهُ فعله على وَجه الولع والعبث. وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ لمقصود التَّمْثِيل، وتصوير الْمَعْنى فِي النَّفس بِصُورَة الْحس. وَنَحْو ذَلِك من الْمَقَاصِد الصَّحِيحَة. وَالله أعلم.
(39 - (7) بَاب اسْتِقْبَال الرجل صَاحبه وَهُوَ يُصَلِّي)
وَكَرِهَهُ عُثْمَان. وَهَذَا إِذا اشْتغل بِهِ. فَأَما إِذا لم يشْتَغل بِهِ، فقد قَالَ

(1/90)


زيد بن ثَابت: مَا باليت أَن الرجل لَا يقطع صَلَاة الرجل.
فِيهِ عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: ذكر عِنْدهَا مَا يقطع الصَّلَاة، فَقَالُوا: يقطعهَا الْكَلْب، وَالْحمار وَالْمَرْأَة، فَقَالَت: لقد جعلتمونا كلاباً، لقد رَأَيْت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يُصَلِّي، وَإِنِّي لبينه وَبَين الْقبْلَة الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك، التَّرْجَمَة لَا تطابق حَدِيث عَائِشَة. لَكِن حَدِيثهَا يدل على الْمَقْصُود بطرِيق الأولى، وَإِن لم يكن فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهَا كَانَت مستقبلته. فلعلّها كَانَت منحرفة أَو مستدبرة. لَكِن الْجُلُوس فِي مثله الِاسْتِقْبَال. وَالله أعلم.