المتواري على
أبواب البخاري (19 كتاب الزَّكَاة)
(66 - (1) بَاب لَا يقبل الله صَدَقَة من غلُول)
لقَوْله عز وَجل: {قَول مَعْرُوف ومغفرة خير من صَدَقَة
يتبعهَا أَذَى} [الْبَقَرَة: 263] .
قلت: رَضِي الله عَنْك! إِن قلت: مَا وَجه الْجمع بَين
التَّرْجَمَة وَالْآيَة، وَهل لَا ذكر قَوْله: {انفقوا من
طَيّبَات مَا كسبتم} [الْبَقَرَة: 267] .
قلت: جرى على عَادَته فِي إِيثَار الاستنباط الْخَفي،
والاتكال فِي الِاسْتِدْلَال بالجلي على سبق الأفهام لَهُ.
وَوجه الاستنباط يحْتَمل أَن الْآيَة لَهَا إِثْبَات
الصَّدَقَة، غير أَن الصَّدَقَة لما تبعتها سَيِّئَة
الْأَذَى بطلت. فالغلول غصب إِذا فيقارن الصَّدَقَة
فَتبْطل بطرِيق الأولى. أَو لِأَنَّهُ جعل الْمعْصِيَة
اللاحقة للطاعة بعد تقررها، وَهِي الْأَذَى، تبطل
الطَّاعَة. فَكيف إِذا كَانَت الصَّدَقَة عين الْمعْصِيَة
لِأَن الغال فِي دفْعَة المَال للْفَقِير، غاصبٌ متصرف فِي
ملك
(1/123)
الْغَيْر، فَكيف تقع الْمعْصِيَة من أول
أمرهَا طَاعَة مُعْتَبرَة، وَقد أبطلت الْمعْصِيَة
الطَّاعَة المحققة فِي أول أمرهَا فِي الصَّدَقَة المتبعة
بالأذى؟ وَهَذَا من لطيف الاستنباط، وخفيه. وَالله أعلم.
(67 - (2) بَاب الْعشْر فِي مَا يسْقِي من السَّمَاء
وَالْمَاء الْجَارِي)
وَلم ير عمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْعَسَل شَيْئا.
فِيهِ عمر: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثريا
(1/124)
الْعشْر وَفِيمَا سقى بالنضح نصف الْعشْر.
قلت: رَضِي الله عَنْك! ذكر الْعَسَل فِي التَّرْجَمَة
تَنْبِيه على أَن الحَدِيث يَنْفِي وجوب الْعشْر فِيهِ،
لِأَنَّهُ خص الْعشْر، أَو نصفه بِمَا يسْقِي، فأفهم ذَلِك
أَن مَا لَا يسْقِي لَا يعشر. ويقوى الْمَفْهُوم فِيهِ على
طَريقَة الإِمَام بِتَقْدِيم الْخَبَر على الْمُبْتَدَأ،
نَحْو صديقي زيد، فِي حصر إِجَابَة الْعشْر فِيهِ.
(68 - (3) بَاب صَدَقَة التَّمْر عِنْد صرام النّخل، وَهل
يتْرك الصَّبِي فيمس تمر الصَّدَقَة)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] يُؤْتِي بِالتَّمْرِ عِنْد صرام النّخل، فَيَجِيء
هَذَا بتمره، وَهَذَا بتمره حَتَّى يصير كوماً من تمر
فَجعل الْحسن وَالْحُسَيْن - رَضِي الله عَنْهُمَا -
يلعبان بذلك التَّمْر، فَأخذ أَحدهمَا تَمْرَة فَجَعلهَا
فِي فِيهِ. فَنظر إِلَيْهِ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] ، فاخرجها من فِيهِ فَقَالَ: أما علمت أَن آل
مُحَمَّد لَا يَأْكُلُون الصَّدَقَة.
(1/125)
قلت: رَضِي الله عَنْك! مدْخل ترك الصَّبِي
فِي الْفِقْه، التَّنْبِيه على الِاعْتِدَال فِي تَأْدِيب
الْأَطْفَال، لِأَنَّهُ فسح لَهُم فِي بعض المعلب، وَلم
يفسح لَهُم فِي الْأكل، لِأَنَّهُ محرّم على جنسهم ففسح
لَهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي مس التَّمْر،
فَلَمَّا هم بِالْأَكْلِ مَنعه، وَلم يفسح لَهُ فِيهِ،
وَإِن كَانَ غير مكّلف.
وَفِيه حجَّة لوُجُوب منع ولي الصَّغِيرَة إِيَّاهَا من
الطّيب وَنَحْوه وَإِن وَجَبت عَلَيْهَا عدَّة وَفَاة،
خلافًا لمن أنكر ذَلِك بِنَاء على أَنَّهَا غير مكّلفة.
(69 - (4) بَاب من بَاعَ ثماره، أَو نخله، أَو أرضه، وَقد
وَجب فِيهِ الْعشْر، أَو الصَّدَقَة، فَأدى الزَّكَاة من
غَيره. أَو بَاعَ ثماره وَلم تجب فِيهِ الصَّدَقَة.)
وَقَول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا
تَبِيعُوا الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، فَم يحظر
البيع بعد الصّلاح على أحد، وَلم يخص من وَجَبت عَلَيْهِ
الزَّكَاة مِمَّن لم تجب.
فِيهِ ابْن عمر: نهى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
عَن بيع الثَّمَرَة، حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، وَكَانَ
إِذا سُئِلَ عَن صَلَاحهَا، قَالَ: حَتَّى تذْهب عاهتها ".
وَفِيه أنس: أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى
عَن بيع الثِّمَار، حَتَّى تزهى، قَالَ: وَمَا
(1/126)
تزهى؟ . قَالَ: حَتَّى تحمارّ.
قلت: رَضِي الله عَنْك! مدْخل التَّرْجَمَة فِي الْفِقْه،
جوازُ بيع الثَّمَرَة الَّتِي وَجَبت زَكَاتهَا قبل أَدَاء
الزَّكَاة. وَيتَعَيَّن حينئذٍ أَن تُؤدِّي الزَّكَاة من
غَيرهَا، خلافًا لمن أفسد البيع، وَوجه الِاسْتِدْلَال
إِجَازَته للْبيع بعد بَدو الصّلاح. وَهُوَ وَقت الزَّكَاة
وَلم يقيّد الْجَوَاز بتزكيتها من عينهَا، بل عّم وَأطلق
فِي سِيَاق الْبَيَان.
(70 - (5) بَاب أَخذ الصَّدَقَة من الْأَغْنِيَاء، وَترد
فِي الْفُقَرَاء حَيْثُ كَانُوا)
فِيهِ ابْن عَبَّاس: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن: إِنَّك ستأتي
قوما أهل كتاب، فَإِذا جئتهم فادعهم إِلَى أَن يشْهدُوا
أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله.
فَإِذا هم أطاعوا لَك بذلك، فَأخْبرهُم أَن الله فرض
عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم، وَترد فِي
فقرائهم. فَإِن هم أطاعوا لَك بذلك، فإياك وكرائم
أَمْوَالهم، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم، فَإِنَّهُ
لَيْسَ بَينهَا وَبَين الله حجاب.
(1/127)
قلت: رَضِي الله عَنْك! قَوْله فِي
التَّرْجَمَة: " حَيْثُ كَانُوا " تَنْبِيه حسن على
مَسْأَلَة فقهية، وَهِي أنّه هَل يجوز نقل الزَّكَاة من
بلد إِلَى آخر؟ قيل بِجَوَازِهِ وبمنعه، وبجوازه إِذا فدحت
حَاجَة غير الْبَلَد. وَاخْتَارَ البُخَارِيّ الْجَوَاز
مُطلقًا،. لِأَن الضَّمِير فِي الْجَمِيع يعود على
الْمُسلمين، فَأَي فَقير مِنْهُم ردّت فِيهِ الصَّدَقَة
فِي أَي جِهَة كَانَ، فقد وافى عُمُوم الحَدِيث.
فَتَأَمّله.
(71 - (6) بَاب مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر)
وَقَالَ ابْن عَبَّاس لَيْسَ العنبر بركاز، إِنَّمَا هُوَ
دسره الْبَحْر. وَقَالَ الْحسن: فِي العنبر واللؤلؤ
الْخمس. وَإِنَّمَا جعل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] فِي الرِّكَاز الْخمس لَيْسَ فِي الَّذِي يصاب فِي
المَاء.
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ النَّبِي [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] : إِن رجلا من بني إِسْرَائِيل سَأَلَ آخر
من بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه ألف دِينَار، فَدَفعهَا
إِلَيْهِ فَخرج فِي الْبَحْر، فَلم يجد مركبا.
فَأخذ خَشَبَة فنقرها، فَأدْخل فِيهَا ألف دِينَار، فَرمى
بهَا فِي الْبَحْر، فَخرج الرجل الَّذِي كَانَ أسلفه.
فَإِذا بالخشبة فَأَخذهَا لأَهله حطباً - فَذكر الحَدِيث -
فَلَمَّا نشرها وجد المَال.
(1/128)
قلت: رَضِي الله عَنْك {مَوضِع الاستشهاد
فِي حَدِيث الْخَشَبَة، لَيْسَ أَخذ الدَّنَانِير،
وَإِنَّمَا هُوَ أَخذ الْخَشَبَة على أَنَّهَا حطب، فدلّ
على إِبَاحَة مثل هَذَا مَا يلفظه الْبَحْر، إِمَّا مِمَّا
ينشأ فِي الْبَحْر كالعنبر، أَو مِمَّا سبق فِيهِ ملك،
وعطب، وَانْقطع ملك صَاحبه مِنْهُ، على اخْتِلَاف بَين
الْعلمَاء فِي تملك هَذَا مُطلقًا ومفصلاً. وَإِذا جَازَ
تملك الْخَشَبَة، وَقد تقدم عَلَيْهَا ملك، فتملك نَحْو
العنبر الَّذِي هُوَ فِي مخلوقات الْبَحْر، وَلم يتَقَدَّم
عَلَيْهِ ملك، أولى.
(72 - (7) بَاب قَول الله عزّ وجلّ: {والعاملين عَلَيْهَا}
[التَّوْبَة: 60] ومحاسبة المصدقين للْإِمَام.)
فِيهِ أَبُو حميد: اسْتعْمل رَسُول الله -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] رجلا من الْأسد على صدقَات بني سليم، يدعى
ابْن اللتبية، فَلَمَّا جَاءَ حَاسبه.
قلت: رَضِي الله عَنْك} مدْخل المحاسبة فِي الْفِقْه
إِلْزَام الْعَامِل فِي الْقَرَاض وَنَحْوه من الْأُمَنَاء
على الْأَمْوَال بِإِقَامَة حِسَابهَا، وَلَا يُنَافِي
ذَلِك ائتمانهم عَلَيْهَا، لِأَن المحاسبة تظهر
الْأَمَانَة المسقطة للضَّمَان من التَّعَدِّي الْمُوجب
لَهُ فَوَجَبت إِذا دعى إِلَيْهَا. وَعِنْدنَا فِي مثله
خلاف. وَالله أعلم.
(1/129)
(73 - (8) بَاب الصَّدَقَة قبل الْعِيد)
فِيهِ ابْن عمر أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
أَمر بِزَكَاة الْفطر قبل خُرُوج النَّاس، إِلَى
الصَّلَاة.
وَفِيه أَبُو سعيد: كُنَّا نخرج على عهد رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] يَوْم الْفطر، صَاعا من طَعَام،
وَكَانَ طعامنا الشّعير، وَالزَّبِيب، والأقط،
وَالتَّمْر.] قَالَ أَبُو سعيد: فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَة
وَجَاءَت السمراء، قَالَ: أرى مدا من هَذَا يعدل مَدين [.
قلت: رَضِي الله عَنْك! مَوضِع التَّرْجَمَة من الحَدِيث
قَوْله: " يَوْم الْفطر "، فَدخل فِيهِ مَا قبل صَلَاة
الْعِيد إِلَى طُلُوع الْفجْر، وَهُوَ أول الْيَوْم، دلّ
أَنه دَاخل فِي وَقت إخْرَاجهَا. وَالله أعلم. |