المتواري على أبواب البخاري

 (30 -] كتاب كفّارات الْأَيْمَان [)

(180 - (1) بَاب قَوْله تَعَالَى: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} [التَّحْرِيم: 2] وَمَتى تجب الكفّارة على الْغَنِيّ وَالْفَقِير.)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَقَالَ: هَلَكت، قَالَ: مَا شَأْنك؟ قَالَ: وَقعت على امْرَأَتي فِي رَمَضَان. قَالَ: تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين. قَالَ: لَا. قَالَ: فتستطيع أَن تطعم سِتِّينَ مِسْكينا. قَالَ: لَا فأجلس. الحَدِيث.
قلت: رَضِي الله عَنْك! مَقْصُوده التَّنْبِيه على أَن الكفّارة إِنَّمَا تجب بِالْحِنْثِ، كَمَا أَن كَفَّارَة الْإِفْطَار إِنَّمَا كَانَت بعد اقتحام الذَّنب. وأدرج فِي ذَلِك إِيجَابهَا على الْفَقِير، لِأَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- علم فقره، وَمَعَ ذَلِك أعظاه مَا يكفّر بِهِ، كَمَا لَو أعْطى الْفَقِير مَا يغطى بِهِ دينه.
(181 - (2) بَاب يعْطى فِي الْكَفَّارَة عشرَة مَسَاكِين أقرباء كَانُوا أَو بعداء)
وَذكر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: أطْعم أهلك.

(1/231)


قلت: رَضِي الله عَنْك {أعَاد الحَدِيث فِي هَذِه التَّرْجَمَة وَمَا فِيهِ إِلَّا " أطْعم أهلك " لَكِن إِذا جَازَ أعْطى الأقرباء فالبعداء أجوز. وقاس البُخَارِيّ كَفَّارَة الْيَمين على كَفَّارَة الْإِفْطَار فِي إجَازَة الصّرْف إِلَى الأقرباء.
(182 - (3) بَاب عتق المدبّر وَأم الْوَلَد وَالْمكَاتب فِي الْكَفَّارَة، وَعتق ولد الزِّنَا. وَقَالَ طَاوس: يَجْزِي المدبّر وأمّ الْوَلَد.)
فِيهِ جَابر: إِن رجلا من الْأَنْصَار دبر مَمْلُوكا، وَلم يكن لَهُ مَال غَيره. فَبلغ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ من يَشْتَرِيهِ مني؟ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن النحّام بثمان مائَة دِرْهَم.
قلت: رَضِي الله عَنْك} وَجه مُطَابقَة التَّرْجَمَة لبيع المدبّر أَنه بَاعه. وَبيعه يدلّ على ملكه، فَهُوَ كالقنّ. وَقَول طَاوس بِإِجَازَة أم الْوَلَد توجب إجَازَة الْمكَاتب بطرِيق الأولى. وَلَا أعلم مُنَاسبَة بَين عتق ولد الزِّنَا وَبَين مَا أدخلهُ فِي التَّرْجَمَة إِلَّا أَن يكون الْمُخَالف فِي عتقه خَالف فِي عتق مَا ذكره فاستدلّ عَلَيْهِ البُخَارِيّ بطرِيق لَا قَابل بِالْفَضْلِ. أَو لِأَن الَّذِي منع عتق الْمكَاتب وَنَحْوه فِي الْكَفَّارَة بنى على نقص قِيمَته فِي الْكِتَابَة. فَلَا يجزيء فِي الْكَفَّارَة كعيب الْعين. فنقض عَلَيْهِ البُخَارِيّ بِنَقص ولد الزِّنَا فِي الْقيمَة، وَمَعَ ذَلِك جَازَ عتقه فِي الْكَفَّارَة وَالله أعلم.

(1/232)


(183 - (4) بَاب إِذا عتق عبدا بَينه وَبَين آخر فِي الْكَفَّارَة لمن وَلَاؤُه؟)
فِيهِ عَائِشَة إِنَّهَا أَرَادَت تشتري بَرِيرَة، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا] الْوَلَاء، فَقَالَ [: الْوَلَاء لمن أعتق. قلت: رَضِي الله عَنْك! ترْجم على العَبْد الْمُشْتَرك بِعِتْق أَحدهمَا وَحَدِيث بَرِيرَة لَا اشْتِرَاك فِيهِ. لكِنهمْ لما اشترطوا الْوَلَاء وَكَانَت الرَّقَبَة لعَائِشَة صَار الْحق فِي الْأمة مَدْخُولا فِيهِ على الِاشْتِرَاك. فأسقط الشَّرْع حق الْوَلَاء عَن غير الْمُعْتق، وَخص بِهِ الْمُعْتق. فَكَذَلِك أحد الشَّرِيكَيْنِ إِذا أعتق] نصِيبه [وَكَانَ مُوسِرًا. ويجزيه فِي الْكَفَّارَة عِنْد مَالك - رَحمَه الله -.

(1/233)


(184 - (5) بَاب الِاسْتِثْنَاء فِي الْيَمين)
فِيهِ أَبُو مُوسَى: أتيت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي نفر من الْأَشْعَرِيين أستحمله. فَقَالَ: وَالله لَا أحملكم. فلبثنا مَا شَاءَ الله. ثمَّ أَتَى بِإِبِل فَأمر لنا بِثَلَاث ذود فَقُلْنَا: لَا يُبَارك لنا فأتينا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَأَخْبَرنَاهُ. فَقَالَ: مَا أَنا حملتكم بل الله حملكم. وَأَنا إِن شَاءَ الله لَا أَحْلف على يَمِين فَأرى غَيرهَا خيرا مِنْهَا، إِلَّا كفرت عَن يَمِيني. وأتيت الَّذِي هُوَ خير، أَو أتيت الَّذِي هُوَ خير وكفرت عَن يَمِيني.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ سُلَيْمَان: لأطوفن اللَّيْلَة على تسعين امْرَأَة، كُلهنَّ تَلد غُلَاما يُقَاتل فِي سَبِيل الله. فَقَالَ لَهُ صَاحبه - يعْنى الْملك -: قل: إِن شَاءَ الله. فنسى فَلم يَأْتِ مِنْهُنَّ، إِلَّا وَاحِدَة جَاءَت بشق غُلَام. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة يرويهِ: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله لم يَحْنَث، وَكَانَ دركاً لَهُ فِي حَاجته وَقَالَ مرّة: قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَو اسْتثْنى.
قلت: رَضِي الله عَنْك! ترْجم على الِاسْتِثْنَاء فِي الْيَمين وَلَيْسَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى إِلَّا قَوْله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: " وَإِنِّي إِ، شَاءَ الله "، وَهَذِه لَيست بِيَمِين. وَأما حَدِيث سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَفِيهِ: " لأطوفنّ. وَهَذَا وَإِن لم يكن فِيهِ يَمِين وَلَكِن فِيهِ مَا يتَعَيَّن أَن يكون جَوَاب قسم. وَكَانَ البُخَارِيّ يَقُول: إِذا اسْتثْنى من الْأَخْبَار فَكيف لَا يسْتَثْنى من الْأَخْبَار الْمُؤَكّدَة بالقسم وَهُوَ أحْوج للتفويض إِلَى الْمَشِيئَة، لِأَنَّهُ أَدخل فِي التألى على الله تَعَالَى بِالْغَيْبِ الْمُسْتَقْبل؟ وَالله أعلم.
وَفِي حَدِيث سُلَيْمَان لَطِيفَة تدل على أَن الْفَصْل الْيَسِير بَين الْيَمين وَالِاسْتِثْنَاء لَا يضر، لِأَنَّهُ قَالَ: " فَقَالَ لَهُ الْملك، قل: إِن شَاءَ الله فنسى ". فَمُقْتَضى هَذَا أَنه

(1/234)


لَو قَالَهَا لاعتبر اسْتِثْنَاؤُهُ. وَذَلِكَ مَعَ الْفَصْل بقول الْملك بَين الْيَمين وَبَين الِاسْتِثْنَاء. وَلَكِن الْمَذْهَب الصَّحِيح عِنْد الْعلمَاء اشْتِرَاط الِاتِّصَال فِي الِاسْتِثْنَاء، فَيحمل على أَن الْملك قَالَ لَهُ ذَلِك خلال يَمِينه بِحَيْثُ لَو لم ينس لَكَانَ الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا. فَفِيهِ دَلِيل على أَن حُدُوث نيّة الِاسْتِثْنَاء خلال الْيَمين كافٍ وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد مَالك، لأنّا لَا نعتبر مُقَارنَة النيّة لأوّل الْيَمين بل لَو حدثت مُتَّصِلَة بآخر جُزْء مِنْهَا اعْتبر. وَالله أعلم.
(185 - (6) بَاب الْكَفَّارَة قبل الْحِنْث وَبعده)
فِيهِ حَدِيث أبي مُوسَى: إِلَى قَوْله: [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- إِنِّي وَالله إِن شَاءَ الله لَا أَحْلف على يَمِين فَأرى غَيرهَا خيرا مِنْهَا إِلَّا أتيت الَّذِي هُوَ خير، وتحلللتها.
وَفِيه عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- لَا تسْأَل الْإِمَارَة - إِلَى قَوْله - وَإِذا حَلَفت على يَمِين وَرَأَيْت غَيرهَا خيرا مِنْهَا فأت الَّذِي هُوَ خير وكفّر عَن يَمِينك.
قلت: رَضِي الله عَنْك! إِن قيل ترْجم على التَّكْفِير قبل وَبعد. وسَاق الحَدِيث الْمُجْمل فِي التَّرْتِيب لِأَن الْوَاو لَا تدّل على الْجمع الْمُطلق. فَالْجَوَاب أَنه لَو كَانَ التَّرْتِيب بَينهمَا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ لَا تشرع الْكَفَّارَة إِلَّا بعد الْحِنْث لنّبه الشَّرْع عَلَيْهِ فَلَمَّا لم تلْتَفت إِلَى ذَلِك فهم التَّسَاوِي فِيهِ. وَالله أعلم.

(1/235)