المتواري على
أبواب البخاري (70 -[كتاب الِاعْتِصَام بِالْكتاب
وَالسّنة] )
(353 - (1) بَاب مَا ذكر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-، وحض عَلَيْهِ من اتِّفَاق أهل الْعلم، وَمَا
اجْتمع عَلَيْهِ الحرمان مَكَّة وَالْمَدينَة وَمَا كَانَ
بهما من مشَاهد النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
والمهاجرين وَالْأَنْصَار، ومصلى النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- والمنبر والقبر.)
فِيهِ جَابر: إِن أَعْرَابِيًا بَايع النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- على الْإِسْلَام - الحَدِيث - فَقَالَ:
أَقلنِي بيعتي - الحَدِيث -. فَقَالَ: إِنَّمَا
الْمَدِينَة كالكير تنفى خبثها وتنصع طيبّها.
وَفِيه ابْن عَبَّاس: كنت أَقْْرِئ عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف، فلّما كَانَ آخر حجَّة حجّها عمر. قَالَ عبد
الرَّحْمَن بمنى: لَو شهِدت أَمِير الْمُؤمنِينَ أَتَاهُ
رجل. فَقَالَ: إِن فلَانا يَقُول: لَو مَاتَ أَمِير
الْمُؤمنِينَ فَبَايعْنَا فلَانا. فَقَالَ عمر: لأقومنّ
العشية فأحذّر هَؤُلَاءِ الرَّهْط الَّذين يُرِيدُونَ
يغصبونهم
(1/400)
قلت: لَا تفعل، فَإِن الْمَوْسِم يجمع رعاع
النَّاس، ويغلبون على مجلسك. فَأَخَاف أَن لَا ينزلوها على
وَجههَا. ويطيروا بِهِ كل مطير. فأمهل حَتَّى تقدّم
الْمَدِينَة دَار الْهِجْرَة وَدَار السنّة. فتخلص بأصحاب
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- من الْمُهَاجِرين
وَالْأَنْصَار، ويحفظوا مَقَالَتك، وينزلوها على وَجههَا.
الحَدِيث.
وَفِيه مُحَمَّد: كُنَّا عِنْد أبي هُرَيْرَة، وَعَلِيهِ
ثَوْبَان ممشقان من كتّان، فتمخط فَقَالَ: بخٍ بخٍ أَبُو
هُرَيْرَة لقد رَأَيْتنِي وَإِنِّي لأخرّ فِيمَا بَين
مِنْبَر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى حجرَة
عَائِشَة مغشياً علىّ، فيجئ الجائي فَيَضَع رجله على
عنقِي، وَيرى أَنِّي مَجْنُون، وَمَا بى جُنُون، مَا بِي
إِلَّا الْجُوع.
وَفِيه ابْن عَبَّاس: قيل لَهُ: أشهدت الْعِيد مَعَ
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-؟ فَقَالَ: نعم
{وَلَوْلَا منزلتي مِنْهُ من الصغر مَا شهدتّه. أَتَى
الْعلم الَّذِي عِنْد دَار كثير بن الصَّلْت فصلى، ثمَّ
خطب. الحَدِيث.
وَفِيه ابْن عمر: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- كَانَ يَأْتِي قبَاء رَاكِبًا وماشياً.
وَفِيه عَائِشَة: قلت لعبد الله بن الزبير: ادفني مَعَ
صواحبي، وَلَا تدفني مَعَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- فِي الْبَيْت، فَإِنِّي أكره أَن أزكى.
وَفِيه [هِشَام عَن أَبِيه] أَن عمر أرسل إِلَى عَائِشَة
ائذني لى أَن أدفن مَعَ صاحبيّ، فَقَالَت: أَي وَالله} ،
وَكَانَ الرجل إِذا أرسل عَلَيْهَا من الصَّحَابَة،
قَالَت: لَا وَالله، لَا أوثرهم بِأحد أبدا.
(1/401)
وَفِيه أنس: إِن النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- كَانَ يصلى الْعَصْر، فَيَأْتِي العوالي،
وَالشَّمْس مُرْتَفعَة.
قَالَ يُونُس: وَبعد العوالي أَرْبَعَة أَمْيَال أَو
ثَلَاثَة.
وَفِيه السَّائِب: كَانَ الصَّاع على عهد رَسُول الله
-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- مدّاً وَثلثا بمدّكم الْيَوْم
وَقد زيد [فِيهِ]
وَفِيه أنس: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
قَالَ: اللَّهُمَّ بَارك فِي مكيالهم وَبَارك فِي صاعهم
ومدّهم - يَعْنِي أهل الْمَدِينَة -.
وَفِيه ابْن عمر: أَن الْيَهُود جَاءُوا إِلَى النَّبِي
-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- بِرَجُل وَامْرَأَة زَنَيَا
فَأمر بهما فَرُجِمَا قَرِيبا من حَيْثُ مَوضِع
الْجَنَائِز عِنْد الْمَسْجِد.
وَفِيه [أنس] : إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
طلع عَلَيْهِ أحد، فَقَالَ: هَذَا جبل يحبّنا ونحبّه
اللَّهُمَّ إِن إِبْرَاهِيم حرّم مَكَّة، وَإِنِّي أحرم
مَا بَين لَا بتيها.
وَفِيه سهل: إِنَّه كَانَ بَين جِدَار الْمَسْجِد مِمَّا
يَلِي الْقبْلَة وَبَين الْمِنْبَر ممرّ الشَّاة.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة
من رياض الْجنَّة. ومنبري على حَوْضِي.
وَفِيه ابْن عمر: سَابق النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- بَين الْخَيل، فَأرْسلت الَّتِي أضمرت مِنْهَا
(1/402)
وأمدها [إِلَى] الحفياء - إِلَى ثنية
الْوَدَاع. [وَالَّتِي لم تضمر أمدها ثنية الْوَدَاع]
إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق.
وَفِيه ابْن عمر: سَمِعت عمر على مِنْبَر النَّبِي -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]- ... ".
وَفِيه عَائِشَة: كَانَ يوضع لى ولرسول الله -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- هَذَا المركن فنشرع فِيهِ جَمِيعًا.
وَفِيه أنس: حَالف النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
بَين الْأَنْصَار وقريش فِي دَاري الَّتِي بِالْمَدِينَةِ.
وقنت شهرا يَدْعُو على أَحيَاء من بني سليم.
وَفِيه أَبُو بردة: قدمت الْمَدِينَة فلقينى عبد الله بن
سَلام، فَقَالَ لى: انْطلق إِلَى الْمنزل فأسقيك فِي قدح
شرب فِيهِ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-. وتصلى
فِي مَسْجِد صلى فِيهِ [النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-] . فَانْطَلَقت مَعَه فسقاني سويقا، وأطعمني تَمرا
وصلّيت فِي مَسْجده.
وَفِيه عمر: أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
قَالَ: أَتَانِي اللَّيْلَة آتٍ من رَبِّي، وَهُوَ
بالعقيق، أَن صلّ فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك، وَقل:
عمْرَة وَحجَّة.
وَفِيه ابْن عمر: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- أرى فِي معرسه، وَهُوَ بذى الحليفة، فَقيل لَهُ:
إِنَّك ببطحاء مباركة.
(1/403)
وَفِيه ابْن عمر: وَقت النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- قرنا لأهل [نجد] ، والجحفة لأهل الشَّام،
وَذَا الحليفة لأهل الْمَدِينَة.
وَبَلغنِي أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
قَالَ: وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم، وَذكر لَهُ الْعرَاق،
فَقَالَ: لم يكن عراق يَوْمئِذٍ.
قلت: رضى الله عَنْك! ذكر هَذِه التَّرْجَمَة فِي " كتاب
الِاعْتِصَام "، فساق فِيهَا الْأَحَادِيث والْآثَار
الَّتِي تَضَمَّنت ذكر مَا يسْتَحق أَن يعتصم بِهِ،
ويتيمّن من بقْعَة تخْتَار للسُّكْنَى، وتقصد للبركة،
ويعتمد على أَهلهَا فِي أَحْكَام الْملَّة، ونوازل الدّين
كالمدينة.
وَحَدِيث ابْن عَوْف أقعد بِهَذَا الْمَعْنى، فَإِن
الْمَدِينَة عَادَتْ عَلَيْهَا وعَلى أَهلهَا بركَة
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- حَيا وَمَيتًا،
حَتَّى حركاته الجبلية، فضلا عَن الشَّرْعِيَّة تفيدها
خُصُوصِيَّة، وتزيدها مزية، مثل خُرُوجه إِلَى " العوالي "
على الْوَجْه الَّذِي صَارَت مسافتها معلما من معالم
الصَّلَاة. وَلذكر دَار فلَان الَّذِي اشتهرت مبانيها فِي
هَذَا الحَدِيث فَصَارَت مشهداً للصَّلَاة.
وعَلى الْجُمْلَة فَإِذا كَانَت مواطنها ومساكنها مفضلة
مقتدى بهَا فِي الْأَحْكَام مَوَاقِيت ومشاهد. فَكيف
ساكنها وعالمها؟ .
فَإِذا كَانَ جبلها قد تميزّ على الْجبَال. فَكيف لَا
يتَمَيَّز عالمها على الْعلمَاء فِي مزية الْكَمَال؟
وَإِذا عَادَتْ بركَة كَون النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- على الجمادات بالسعادات فَكيف لَا تعود بركته على
أهل الديانَات بالمزايا والزيادات؟
(1/404)
فرحمه الله على مَالك لقد أنزلهَا منزلهَا،
وَعَفا الله عَمَّن كثر عَلَيْهِ فِي الِاحْتِجَاج
بإجماعها، وَلَقَد تريّب بِالشُّبْهَةِ وقنع بسماعها
وإسماعها.
وَظهر لى من تَرْجَمَة البُخَارِيّ أَن الله شرح صَدره لما
شرح لَهُ صدر مَالك من تفضيلها، وَمن قَاعِدَته فِي
الِاعْتِبَار بإجماعها على جُمْلَتهَا وتفضيلها. وَالله
أعلم.
(354 - (2) بَاب قَول الله عز وَجل {لَيْسَ لَك من الْأَمر
شئ} [آل عمرَان: 128] )
فِيهِ ابْن عمر: سمع النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
يَقُول فِي صَلَاة الْفجْر: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد
فِي الْآخِرَة - ثمَّ قَالَ -: اللَّهُمَّ الْعَن فلَانا
وَفُلَانًا فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ لَك من الْأَمر
شئ أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبّهم فَإِنَّهُم
ظَالِمُونَ} [آل عمرَان: 128]
قلت: رضى الله عَنْك! أَدخل البُخَارِيّ هَذِه
التَّرْجَمَة فِي كتاب الِاعْتِصَام بِالسنةِ ليحقق أَن
الِاعْتِصَام فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ بِاللَّه، لَا
بِذَات الرَّسُول -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-. إِذا
الرَّسُول -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- معتصم بِأَمْر
الله، لَيْسَ لَهُ من الْأَمر بِشَيْء إِلَّا التَّبْلِيغ.
(1/405)
والتبليغ أَيْضا من فضل الله وعونه. أَلا
إِلَى الله تصير الْأُمُور.
(355 - (3) بَاب قَول الله عزّوجلّ: {وَكَانَ الْإِنْسَان
أَكثر شَيْء جدلاً} [الْكَهْف: 54] . وَقَوله تَعَالَى:
{وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن}
[العنكبوت: 46] .)
فِيهِ عَليّ: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
طرقه وَفَاطِمَة بنت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- فَقَالَ لَهما: أَلا تصلّون؟ فَقُلْنَا: يَا
رَسُول الله إِنَّمَا أَنْفُسنَا بيد الله، فَإِذا شَاءَ
أَن يبعثنا بعثنَا. فَانْصَرف النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- وَلم يرجع إِلَيْهِ شَيْئا. وَهُوَ مُدبر
يضْرب فَخذه وَهُوَ يَقُول: {وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر
شَيْء جدلاً} [الْكَهْف: 54] .
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- انْطَلقُوا إِلَى يهود، فخرجنا مَعَه
حَتَّى جِئْنَا إِلَى بَيت الْمِدْرَاس. فناداهم النَّبِي
-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَا معشر الْيَهُود:
أَسْلمُوا تسلموا. فَقَالُوا: بلغت يَا أَبَا الْقَاسِم
{فَقَالَ: ذَلِك أُرِيد، أَسْلمُوا تسلموا. فَقَالُوا: قد
بلّغت - قَالَهَا ثَلَاثًا -؟ . قَالَ: اعلموا أنمّا
الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ. وَإِنَّمَا أُرِيد أَن أجليكم
من هَذِه الأَرْض، فَمن وجد مِنْكُم بِمَالِه شَيْئا
فليبعه، وإلاّ فاعلموا أَنما الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ.
قلت: رَضِي الله عَنْك} أَدخل الْجِدَال الْمَذْكُور فِي
الْآيَة فِي كتاب
(1/406)
" الِاعْتِصَام " لينّبه على أَن المذموم
مِنْهُ ضدّ الِاعْتِصَام فَيجب تَركه. والمحدود مَعْدُود
من الِاعْتِصَام. مثل الأوّل بِالْآيَةِ الأولى،
وَالثَّانِي بِالثَّانِيَةِ.
(356 - (4) بَاب الْحجَّة على من قَالَ: إِن أَحْكَام
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- كَانَت ظَاهِرَة.
وَمَا كَانَ يغيب بَعضهم عَن مشَاهد النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- وَأُمُور الْإِسْلَام)
فِيهِ أَبُو مُوسَى: إِنَّه اسْتَأْذن عمر فَوَجَدَهُ
مَشْغُولًا، فَرجع. فَقَالَ عمر: ألم نسْمع صَوت عبد الله
بن قيس؟ ائذنوا لَهُ، فدعى بِهِ. فَقَالَ: مَا حملك على
مَا صنعت؟ فَقَالَ: كُنَّا نؤمر بِهَذَا. قَالَ: لتأتينى
على هَذَا ببيّنة أَو لأفعلنّ بك.
فَانْطَلق إِلَى مجْلِس الْأَنْصَار، فَقَالُوا: لَا يشْهد
إِلَّا أصاغرنا، فَقَامَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، فَقَالَ:
كُنَّا نؤمر بِهَذَا. فَقَالَ عمر: خفى علىّ هَذَا من أَمر
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ألهاني الصفق
بالأسواق.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: إِنَّكُم تَزْعُمُونَ أَن أَبَا
هُرَيْرَة يكثر الحَدِيث عَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- وَالله الْموعد، إنى كنت أمرءاً مِسْكينا ألزم
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- على ملْء بَطْني.
وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يشغلهم الصفق بالأسواق، وَكَانَت
الْأَنْصَار يشغلهم الْقيام على أَمْوَالهم، فَشَهِدت
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ذَات يَوْم، قَالَ:
من يسبط رادءه حَتَّى اقضى مَقَالَتي ثمَّ يقبضهُ فَلَنْ
ينسى شَيْئا سَمعه منى. فبسطت بردة كَانَ علىّ. فوالذي
بَعثه بِالْحَقِّ مَا نسيت شَيْئا سمعته مِنْهُ.
قلت: رضى الله عنكّ ردّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة وَمَا
مَعهَا قَول من زعم أَن التَّوَاتُر
(1/407)
شَرط قبُول الْخَبَر وحقّق بِمَا ذكره
قبُول خبر الْآحَاد، وَأدْخلهُ فِي الِاعْتِصَام، لِأَن
التَّمَسُّك بِهِ وَاجِب.
(357 - (5) بَاب الْأَحْكَام الَّتِي تعرف بالدلائل،
وَكَيف معنى الدّلَالَة وتفسيرها؟)
قد أخبر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- بِأَمْر
الْخَيل، ثمَّ سُئِلَ عَن الْحمر فدلّهم على قَوْله: {فَمن
يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7] .
وَسُئِلَ عَن الضبّ، فَقَالَ: لَا آكله وَلَا أحرّمه.
وَأكل على مائدة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ،
فاستدل ابْن عَبَّاس أَنه لَيْسَ بِحرَام.
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- قَالَ: الْخَيل لثَلَاثَة: لرجل أجر، ولرجل ستر،
وعَلى رجل وزر - الحَدِيث -.
وَسُئِلَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- عَن
الْحمر، فَقَالَ: مَا أنزل الله علىّ فِيهَا إِلَّا هَذِه
الْآيَة الفاذة الجامعة: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرّة خيرا
يره} .
وَفِيه عَائِشَة إِن امْرَأَة سَأَلت النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- عَن الْحيض كَيفَ تَغْتَسِل مِنْهُ؟
(1/408)
قَالَ: تأخذين فرْصَة ممسكة فتوضئ بهَا.
قَالَت عَائِشَة: فَعرفت الَّذِي يُرِيد النَّبِي -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]- فجذبتها إلىّ فعلّمتها.
وَفِيه ابْن عَبَّاس: إِن أمّ حفيد أَهْدَت إِلَى النَّبِي
-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- سمناً وإقطا، وأضباً، فعا
بِهن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فأكلن على
مائدته. فَتَرَكَهُنَّ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- كالمتقذر لَهُ. وَلَو كنّ حَرَامًا مَا أكلن [على]
مائدته، وَلَا أَمر بأكلهن.
وَفِيه جَابر: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-: من أكل ثوماً أَو بصلاً فليعتزلنا أَو ليعتزل
مَسْجِدنَا - وليقعد فِي بَيته.
وَإنَّهُ أَتَى ببدر - وَقَالَ ابْن وهب: يَعْنِي طبقًا
فِيهِ خضرات من بقول - فَوجدَ لَهَا ريحًا فَسَأَلَ
عَنْهَا فَأخْبر بِمَا فِيهَا من الْبُقُول. فَقَالَ:
قرّبوها إِلَى بعض أَصْحَابه كَانَ مَعَه. فلمّا رَآهُ كره
أكلهَا. قَالَ: " كل، فَإِنِّي أُنَاجِي من لَا تناجي ".
وَقَالَ ابْن وهب: " بِقدر فِيهِ خضرات ".
وَفِيه جُبَير بن مطعم: إِن امْرَأَة أَتَت النَّبِي -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]- وكلمته بِشَيْء، فَأمر
(1/409)
بهَا. فَقَالَت: أَرَأَيْت يَا رَسُول الله
{إِن لم أجدك. فَقَالَ: إِن لم تجديني فائتى أَبَا بكر.
وَزَاد لنا الحميديّ عَن إِبْرَاهِيم بن سعد: " كَأَنَّهَا
تعنى بِالْمَوْتِ ".
قلت: رضى الله عَنْك} أَدخل هَذِه التَّرْجَمَة فِي كتاب
الِاعْتِصَام تحذيراً من الاستبداد بِالرَّأْيِ فِي
الشَّرِيعَة، وتنبيهاً على الرأى الْمَحْمُود فِيهَا،
وَهُوَ الْمُسْتَند إِلَى قَول النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- أَو إِشَارَته أَو قرينَة حَاله، أَو
فعله، أَو سُكُوته عَن فعل إِقْرَارا عَلَيْهِ. ويندرج فِي
هَذَا الاستنباط التَّعَلُّق بِمَا وَرَاء الظَّاهِر وَعدم
الجمود عَلَيْهِ، فَدخل فِي ذَلِك تَصْحِيح الرَّأْي
المنضبط، والردّ على الظَّاهِرِيَّة وَغَيرهم.
وَبِذَلِك تبيّن مَا هُوَ اعتصام مِمَّا هُوَ استبداد
واسترسال.
(358 - (6) بَاب النَّهْي عَن التَّحْرِيم إِلَّا مَا تعرف
إِبَاحَته)
وَكَذَلِكَ الْأَمر نَحْو قَوْله: " حِين أحلّوا ": أصيبوا
من النِّسَاء.
قَالَ جَابر: وَلم يعزم عَلَيْهِم ولكنّه أحلهن لَهُم.
(1/410)
وَقَالَت أم عَطِيَّة نهينَا عَن إتباع
الْجَنَائِز، وَلم يعزم علينا.
فِيهِ جَابر: أَهْلَلْنَا - أَصْحَاب النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- فِي الْحَج خَالِصا لَيْسَ مَعَه عمْرَة.
فَقدم النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- صبح رَابِعَة
مَضَت من ذِي الْحجَّة. فلمّا قدمنَا أَمر النَّبِي -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَن نحلّ. وَقَالَ: أحلّوا وأصيبوا
من النِّسَاء.
قَالَ جَابر: وَلم يعزم عَلَيْهِم، وَلَكِن أحلهن لَهُم.
فَبَلغهُ أَنا نقُول: - لما لم يكن بَيْننَا وَبَين
عَرَفَة إِلَّا خمس - أمرنَا أَن نحلّ إِلَى نسائنا، فنأتى
عَرَفَة تقطر مذاكيرنا المنى. فَقَامَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- فَقَالَ: قد علمْتُم أَنى أَتْقَاكُم لله
وأبرّكم وأصدقكم، وَلَوْلَا هدى لَحللت كَمَا تحلّون
فحلّوا. فَلَو اسْتقْبلت من أمرى مَا اسْتَدْبَرت مَا
أهديت. فَحَلَلْنَا وَسَمعنَا وأطعنا.
وَفِيه عبد الله الْمُزنِيّ: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: صلّو قبل صَلَاة الْمغرب. - وَقَالَ فِي
الثَّالِثَة لمن شَاءَ، كَرَاهِيَة أَن يتّخذها النَّاس
سنّة.
وَفِيه جُنْدُب: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-: اقْرَأ وَالْقُرْآن مَا ائتلفت قُلُوبكُمْ فَإِذا
اختلفتم فَقومُوا عَنهُ.
وَفِيه ابْن عَبَّاس: لمّا حضر النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- وَفِي الْبَيْت رجال فيهم عمر بن الْخطاب
- فَقَالَ: هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده. قَالَ
عمر: إِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
(1/411)
غَلبه الوجع، وعندكم الْقُرْآن، فحسبنا كتاب الله عزّو
جلّ. وَاخْتلف أهل الْبَيْت واختصموا، فَمنهمْ من يَقُول:
قرّبوا، يكْتب لكم رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- كتابا لن تضلّوا بعده. وَمِنْهُم من يَقُول مَا
قَالَ عمر. فلمّا كثر اللَّغط وَالِاخْتِلَاف عِنْد
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: قومُوا عنىّ.
فَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: إِن الرزيّة كل الرزّية مَا
حَال بَين أَن يكْتب لَهُم رَسُول الله -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- الْكتاب من أجل اخْتلَافهمْ ولغطهم.
قلت: رَضِي الله عَنْك! قصد بِهَذِهِ التَّرْجَمَة
التَّنْبِيه على أَن الْمُخَالفَة الَّتِي وَقعت
أَحْيَانًا لما طلب مِنْهُم لم تكن عُدُولًا عَن
الِاعْتِصَام إِذْ لم يخالفوا وَاجِبا وَلم يُؤثر عَنْهُم
ذَلِك.
وصور الْمُخَالفَة فَهموا فِيهَا عدم الْعَزْم عَلَيْهِم
وتمكينهم من بعض الْخيرَة. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ
خلافًا، وَلكنه إِخْبَار لما كَانَ لَهُم فِيهِ خِيَار،
وَإِن كَانَ الْعلمَاء الْمُحَقِّقُونَ أَنْكَرُوا
اجْتِمَاع الطّلبَة والخيرة وَلَو كَانَ الطّلب ندبا،
وعدّوا ذَلِك تناقضاً لَا سَبِيل إِلَيْهِ شرعا، وَلَا
يُوجد من الْعلمَاء من أجَاز ذَلِك وَهُوَ نفس
البُخَارِيّ. وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم. |