المتواري على
أبواب البخاري (71 -[كتاب التَّوْحِيد] )
(359 - (1) بَاب قَوْله تَعَالَى: {إنى أَنا الرَّزَّاق
ذُو القوّة المتين} )
(1/412)
فِيهِ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِي -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]- مَا أحد أَصْبِر على أَذَى سَمعه من
الله، يدّعون لَهُ الْوَلَد، ثمَّ يعافيهم ويرزقهم.
قلت: رضى الله عَنْك! وَجه مُطَابقَة الحَدِيث لِلْآيَةِ
على صِفَتي الرزق وَالْقُوَّة أَي الْقُدْرَة.
أما الرَّزَّاق فَوَاضِح بقوله: " ويرزقهم ". أما
الْقُدْرَة وَالْقُوَّة فبقوله: " مَا أحد أَصْبِر على
أَذَى سَمعه من الله عزّ وجلّ " فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى
قدرَة الله على الْإِحْسَان إِلَيْهِم مَعَ كفرهم بِهِ.
وَأما الْبشر فَإِنَّهُ لَا يقدر على الْإِحْسَان إِلَى
المسئ طبعا وَكَيف يتكلّف ذَلِك شرعا، لِأَن الَّذِي يحمل
على الْمُكَافَأَة والمسارعة بالعقوبة خوف الْفَوْت.
وَالله سُبْحَانَهُ قَادر أزلاً وأبداً، لَا يعجزه شئ
وَلَا يفوتهُ.
والتلاوة: {إِن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة
المتين} [الذاريات: 58] .
(1/413)
(360 - (2) بَاب قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ
الله سميعا بَصيرًا} [النِّسَاء: 143] .)
وَقَالَت عَائِشَة: الْحَمد لله الَّذِي وسع سَمعه
الْأَصْوَات. فَأنْزل الله تَعَالَى: {قد سمع الله قَول
الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} [المجادلة: 1] .
فِيهِ أَبُو مُوسَى: كنّا مَعَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- فِي سفر، فكنّا إِذا علونا كبّرنا،
فَقَالَ: أربعوا على أَنفسكُم، فَإِنَّكُم لَا تدعون أصمّ
وَلَا غَائِبا، تدعون سميعاً بَصيرًا - الحَدِيث -.
وَفِيه أَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ: إِنَّه
قَالَ للنَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: علّمني
دُعَاء أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي قَالَ: " قل: اللَّهُمَّ
إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا، وَلَا يغْفر الذُّنُوب
إِلَّا أَنْت، فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك، إِنَّك أَنْت
الغفور الرَّحِيم.
وَفِيه عَائِشَة - رضى الله عَنْهَا -: قَالَ النَّبِي
-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: إِن جِبْرِيل ناداني
فَقَالَ: إِن الله سمع قَول قَوْمك وَمَا ردّوا عَلَيْك.
قلت: رَضِي الله عَنْك! الْأَحَادِيث مُطَابقَة
للتَّرْجَمَة إِلَّا حَدِيث أبي بكر فَلَيْسَ فِيهِ صِفَتي
السّمع وَالْبَصَر، غير أَنه قَالَ: " أَدْعُو بِهِ فِي
صَلَاتي " وَلَوْلَا أَن
(1/414)
سمع الله سُبْحَانَهُ يتَعَلَّق بالسرّ
وأخفى لما أَفَادَ الدُّعَاء فِي الصَّلَاة سرّاً.
(361 - (3) بَاب السُّؤَال بأسماء الله والاستعاذة بهَا.)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- إِذا جَاءَ أحدكُم فرَاشه فلينفضه بصنفة
ثَوْبه ثَلَاث مرّات وَليقل: " بِاسْمِك ربّى وضعت جَنْبي،
وَبِك أرفعه، إِن أَمْسَكت نفس فَاغْفِر لَهَا، وَإِن
أرسلتها فاحفظها بِمَا تحفظ بِهِ عِبَادك الصَّالِحين.
وَفِيه حُذَيْفَة: كَانَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- إِذا أَوَى إِلَى فرَاشه قَالَ: " اللَّهُمَّ
بِاسْمِك أَحْيَا وأموت ".
وَإِذا أصبح قَالَ: " الْحَمد لله الَّذِي أَحْيَانًا بعد
مَا أماتنا وَإِلَيْهِ النشور ".
وَفِيه ابْن عَبَّاس: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- لَو أَن أحدهم إِذا أَرَادَ أَن يأتى أَهله قَالَ:
" باسم الله اللَّهُمَّ جنبّنا الشَّيْطَان، وجنّب
الشَّيْطَان مَا رزقتنا ". فَإِنَّهُ إِن يقدّر بَينهمَا
ولدٌ فِي ذَلِك لم يضّره الشَّيْطَان.
وَفِيه عدي: سَأَلت النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
فَقلت: أرسل كلابى المعلّمة؟ فَقَالَ: إِذا أرْسلت كلابك
المعلّمة، وَذكرت اسْم الله فأمسكن فَكل - الحَدِيث -.
(1/415)
وَفِيه عَائِشَة: قَالُوا يَا رَسُول الله
{إِن هُنَا أَقْوَامًا حَدِيث عهد بشرك يَأْتُوا بلحمان
لَا نَدْرِي يذكرُونَ اسْم الله علينا أم لَا؟ قَالَ:
اذْكروا اسْم الله وكلوا.
وَفِيه أنس: ضحىّ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
بكبشين يسمّى ويكبّر.
وَفِيه جُنْدُب: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
قَالَ يَوْم النَّحْر: من ذبح قبل أَن يصلّى فليذبح
مَكَانهَا أُخْرَى. وَمن لم يذبح فليذبح باسم الله.
وَفِيه ابْن عمر: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-: لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ فَمن كَانَ حَالفا
فليحلف بِاللَّه.
قلت: رَضِي الله عَنْك} مَقْصُوده بالترجمة التَّنْبِيه
على أَن الِاسْم هُوَ المسمّى، وَلذَلِك صحّت
الِاسْتِعَاذَة والاستعانة. وَظهر ذَلِك فِي قَوْله: "
بِاسْمِك وضعت جَنْبي وَبِك أرفعه ". فأضاف الْوَضع إِلَى
الِاسْم وَالرَّفْع إِلَى الذَّات دلّ على أَن الِاسْم
هُوَ الذَّات. وَبهَا يستعان رفعا ووضعاً، لَا
بِاللَّفْظِ.
(1/416)
(362 - (4) بَاب قَوْله تَعَالَى:
{ويحذّركم الله نَفسه} [آل عمرَان: 28 - 30] . وَقَوله
تَعَالَى: {تعلم مَا فِي نفسى وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك}
[الْمَائِدَة: 116] .)
فِيهِ عبد الله: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-: مَا من اُحْدُ أغير من الله. وَمن أجل ذَلِك حرّم
الْفَوَاحِش. وَمَا أحد أحبّ إِلَيْهِ الْمَدْح من الله.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: لما خلق الله الْخلق كتب فِي كِتَابه -
وَهُوَ يكْتب على نَفسه، وَهُوَ وضع عِنْده على الْعَرْش
-: " إِن رحمتى تغلب غَضَبي ".
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: " يَقُول الله: أَنا عِنْد ظن عَبدِي
بِي، وَأَنا مَعَه إِذا ذَكرنِي، فَإِذا ذَكرنِي فِي نَفسه
ذكرته فِي نَفسِي، وَإِذا ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ
خير مِنْهُم. وَإِن تقرّب مني شبْرًا تقرّبت مِنْهُ
ذِرَاعا. وَإِن تقرّب إلىّ ذِرَاعا تقرّبت إِلَيْهِ باعاً.
وَمن أَتَانِي يمشى أَتَيْته هرولة.
قلت: رَضِي الله عَنْك! ترْجم على ذكر النَّفس فِي حق
الْبَارِي جلّ جَلَاله وَجَمِيع مَا ذكره يشْتَمل على
ذَلِك إِلَّا حَدِيث عبد الله الْمَذْكُور أوّلاً،
فَلَيْسَ للنَّفس فِيهِ ذكر.
فَوجه مطابقته - وَالله أعلم - أَنه صدّر الْكَلَام بِأحد.
و " أحد " الْوَاقِع
(1/417)
فِي النَّفْي عبارَة عَن النَّفس على وَجه
مَخْصُوص، وَلَيْسَ هُوَ اُحْدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {قل
هُوَ الله أحد} ، هذاك من الْوحدَة أَي الْوَاحِد. وَهَذَا
كلمة مترجلة فِي النَّفْي لبنى آدم، هَذَا أَصله.
فَإِذا قَالَ الْقَائِل: " مَا فِي الْبَيْت أحد " لم يفهم
إِلَّا نفى الأناس. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلهم: " مَا فِي
الدَّار أحد إِلَّا وتداً " اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس.
وَمُقْتَضى الحَدِيث إِطْلَاقه على الْحق، لِأَنَّهُ
لَوْلَا صِحَة الْإِطْلَاق مَا انتظم الْكَلَام، كَمَا لَا
يَنْتَظِم فِي مثل قَول الْقَائِل: " مَا أحسن من ثوبي "،
إِذْ الثَّوْب لَيْسَ من الأحدييّن، بِخِلَاف " أحد " أعلم
من زيد لِأَن زيدا من الأحديين.
(363 - (5) بَاب قَوْله تَعَالَى: {ولتصنع على عَيْني}
[طه: 39]- تغذي - وَقَوله: {تجرى بأعيننا} [الْقَمَر: 14]
.)
فِيهِ ابْن عمر: ذكر الدَّجَّال عِنْد النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-، فَقَالَ: إِن الله لَا يخفى عَلَيْكُم.
إِن الله لَيْسَ بأعور - أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عينه -،
وَإِن الْمَسِيح الدَّجَّال أَعور عين الْيُمْنَى.
وَفِيه أنس: قَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-:
مَا بعث الله من نبيّ إِلَّا أنذر قومه الْأَعْوَر
(1/418)
الْكذَّاب. إِنَّه أَعور وَإِن ربّكم
لَيْسَ بأعور، مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ " كَافِر ".
قلت: رضى الله عَنْك! وَجه الِاسْتِدْلَال على إِثْبَات
الْعين لله، لَا بِمَعْنى الْجَارِحَة من قَوْله: " إِن
الله لَيْسَ بأعور "، إِن العور عرفا عدم الْعين، وضد
العور ثُبُوت الْعين. فلمّا نفى عَن الْحق جلّ جَلَاله
هَذِه النقيصة وَهِي عدم الْعين لزم ثُبُوت الْكَمَال
بضدها، وَهُوَ وجود الْعين، وعَلى التَّمْثِيل والتقريب
للفهم، لَا على معنى إِثْبَات الْجَارِحَة.
وَبَين الْمُتَكَلِّمين خلاف فِي مُقْتَضى لفظ الْعين
وَنَحْوهَا:
فَمنهمْ من جعلهَا صِفَات سمعية أثبتها السّمع لَهُ، وَلم
يهتد إِلَيْهِ الْعقل. وَكَذَلِكَ الْوَجْه وَالْيَد
وَالْجنب.
وَمِنْهُم من جعلهَا كِنَايَة عَن صفة الْبَصَر. وَالْيَد
كِنَايَة عَن صفة الْقُدْرَة.
وَمِنْهُم من آمن بهَا إِيمَانًا بِالْغَيْبِ، وفوّض فِي
مَعْنَاهَا إِلَى الله تَعَالَى. وَالله أعلم.
(1/419)
(364 - (6) بَاب قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ
عَرْشه على المَاء} [هود: 7] . {وَهُوَ رب الْعَرْش
الْعَظِيم} [التَّوْبَة: 129] .)
قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء}
ارْتَفع: {فسوّاهن} خَلقهنَّ.
وَقَالَ مُجَاهِد: اسْتَوَى [علا] على الْعَرْش. وَقَالَ
ابْن عَبَّاس: الْمجِيد: الْكَرِيم، والودود: الحبيب.
يُقَال حميد مجيد، كَأَنَّهُ فعيل من ماجد، ومحمود من
حميد.
فِيهِ عمرَان: قَالَ إِنِّي عِنْد النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- إِذْ جَاءَهُ وَفد من بنى تَمِيم
فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أهل الْيمن إِذا لم
يقبلهَا بَنو تَمِيم. فَقَالُوا: قبلنَا، جئْنَاك لنتفقّه
فِي الدّين، ولنسألنّك عَن أوّل هَذَا الْأَمر مَا كَانَ.
قَالَ: كَانَ الله وَلم يكن شَيْء قبله وَكَانَ عَرْشه على
المَاء. ثمَّ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض، وَكتب فِي
الذّكر كل شَيْء.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- قَالَ يَمِين الله ملأى - الحَدِيث -.
وَفِيه أنس: جَاءَ زيد بن حَارِثَة يشكو، فَجعل النَّبِي
-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول: " اتّق الله، وَأمْسك
عَلَيْك زَوجك ". وَكَانَت [زَيْنَب] تَفْخَر على أَزوَاج
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] [تَقول] : زوّجكن
أهاليكن، وزوّجني الله من فَوق سبع سماوات.
(1/420)
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ الله لما
قضى الْخلق كتب فَوق عَرْشه: " إِن رحمتى سبقت غَضَبي: "
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- من آمن بِاللَّه وَرَسُوله، وَأقَام
الصَّلَاة وَصَامَ رَمَضَان، كَانَ حَقًا على الله أَن
يدْخلهُ الجنّة. هَاجر فِي سَبِيل الله أَو جلس فِي أرضه
الَّتِي ولد فِيهَا.
قَالُوا: يَا رَسُول الله {أَفلا ننبئى النَّاس بذلك،
قَالَ: إِن فِي الجنّة مائَة دَرَجَة أعدّها الله تَعَالَى
للمجاهدين فِي سَبيله، كل دَرَجَتَيْنِ مَا بَينهمَا كَمَا
بَين السَّمَاء وَالْأَرْض. فَإِذا سَأَلْتُم الله
فَاسْأَلُوهُ الفردوس فَإِنَّهُ أَوسط الجنّة، وَأَعْلَى
الجنّة. وفوقه عرش الرَّحْمَن. وَمِنْه تنفجر أَنهَار
الجنّة.
وَفِيه أَبُو ذَر: دخلت الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- جَالس. فلمّا غربت الشَّمْس قَالَ: يَا
أَبَا ذَر} هَل تدرى أَيْن تذْهب هَذِه؟ قَالَ: قلت: الله
وَرَسُوله أعلم. قَالَ: إِنَّهَا تذْهب تستأذن فِي
السُّجُود فَيُؤذن لَهَا. وَكَأَنَّهَا قد قيل لَهَا:
ارجعي من حَيْثُ خرجت، فَتَطلع من مغْرِبهَا، ثمّ قَرَأَ:
{ذَلِك مُسْتَقر لَهَا} . فِي قِرَاءَة عبد الله.
وَفِيه زيد: أرسل إلىّ أَبُو بكر الصّديق فتتبّعت
الْقُرْآن حَتَّى وجدت آخر سُورَة التَّوْبَة مَعَ
خُزَيْمَة - أَو أبي خُزَيْمَة - الْأنْصَارِيّ لم أَجدهَا
مَعَ غَيره: {لقد جَاءَكُم رَسُول الله من أَنفسكُم}
[التَّوْبَة: 128] حَتَّى خَاتِمَة بَرَاءَة - يعْنى:
{وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم} [التَّوْبَة: 129] .
(1/421)
وَفِيه ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّبِي -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول عِنْد الكرب: لَا إِلَه
إِلَّا هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم، لَا إِلَه إِلَّا الله
رب الْعَرْش الْعَظِيم، لَا إِلَه إِلَّا الله ربّ
السَّمَوَات وَرب الأَرْض وَرب الْعَرْش الْكَرِيم.
وَفِيه أَبُو سعيد: عَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- قَالَ: النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة، فَإِذا
أَنا بمُوسَى آخذ بقائمة من قَوَائِم الْعَرْش.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: عَن النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- فَأَكُون أوّل من يبْعَث فَإِذا مُوسَى
آخذ بالعرش.
قلت: رضى الله عَنْك! ترْجم على ذكر الْعَرْش للتّنْبِيه
على أَنه مَخْلُوق حَادث مرتسم بسمات الْحُدُوث، متصف
بِصِفَات الْإِمْكَان. وكلمّا ذكره مُشْتَمل على ذكر
الْعَرْش إِلَّا قَوْله: " قَالَ ابْن عَبَّاس: الْمجِيد
الْكَرِيم،. والودود: الحبيب، فَقَالَ: حميد مجيد،
كَأَنَّهُ فعيل من ماجد، ومحمود من حميد " فَهَذَا الْفضل
لَا يتَعَلَّق بالعرش، وَلكنه نبّه على لَطِيفَة وَهِي أَن
الْمجِيد فِي قَوْله: " على قِرَاءَة الْكسر - لَا يتخيّل
أَنَّهَا صفة الْعَرْش، وَأَنه بذلك قديم، بل هِيَ صفة
الْحق، بِدَلِيل قِرَاءَة الرّفْع. وبدليل اقترانها "
بالودود " وَهِي صفة الْحق، فَيكون الْكسر على الْجوَار
حينئذٍ. وَالله أعلم.
(365 - (7) بَاب قَوْله تَعَالَى: {تعرج الْمَلَائِكَة
وَالروح} [المعارج: 4] . وَقَوله تَعَالَى: {إِلَيْهِ يصعد
الْكَلم الطّيب} [فاطر: 10] )
(1/422)
قَالَ ابْن عَبَّاس: بلغ أَبَا ذَر مبعث
النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-، فَقَالَ لِأَخِيهِ:
اعْلَم لي علم هَذَا الرجل الَّذِي يزْعم أَنه يَأْتِيهِ
الْخَبَر من السَّمَاء.
وَقَالَ مُجَاهِد: الْعَمَل الصَّالح يرفع الْكَلم الطّيب.
وَيُقَال، ذِي المعارج: الْمَلَائِكَة تعرج إِلَى الله.
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- قَالَ: يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ
وملائكة بِالنَّهَارِ، ويجتمعون فِي صَلَاة الْعَصْر
وَصَلَاة الْفجْر، ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فِيكُم فيسألهم
رَبهم - الحَدِيث -.
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- من تصدق بِعدْل تَمْرَة من كسب طيّب
وَلَا يصعد إِلَى السَّمَاء إِلَّا الطيّب.
وَفِيه ابْن عَبَّاس: إِن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- كَانَ يَدْعُو بِهن عِنْد الكرب: لَا إِلَه إِلَّا
الله الْعَلِيم الْحَلِيم رب الْعَرْش الْعَظِيم، لَا
إِلَه إِلَّا الله رب السَّمَوَات وربّ الْعَرْش
الْكَرِيم.
وَفِيه أَبُو سعيد: بعث على إِلَى النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]- من الْيمن بذهيبة فِي تربَتهَا فَقَسمهَا
بَين أَرْبَعَة فتغضبت قُرَيْش وَالْأَنْصَار. وَقَالُوا:
يعْطى صَنَادِيد أهل نجد، ويدعنا. قَالَ: إنّما أتألفهم.
فَأقبل رجل غائر الْعَينَيْنِ، نأتى الجبين، كثّ
اللِّحْيَة، مشرق الوجنتين، محلوق الرَّأْس، فَقَالَ: يَا
مُحَمَّد! اتقّ الله. قَالَ: فَمن يُطِيع الله إِذا عصيته.
فيأمني على أهل الأَرْض، وَلَا تأمنوني.
(1/423)
وَفِيه أَبُو ذَر: سَأَلت النَّبِي -[صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم]- عَن قَوْله: {وَالشَّمْس تجْرِي
لمستقر لَهَا} [يس: 38] . قَالَ مستقرها تَحت الْعَرْش.
قلت: رَضِي الله عَنْك! جَمِيع مَا سَاقه فِي التَّرْجَمَة
مُطَابق لَهَا من ذكر العروج والصعود نَحْو ذَلِك، إِلَّا
حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا قَوْله: " رب
الْعَرْش الْعَظِيم ".
فَوجه مطابقته - وَالله أعلم - أَنه نبّه على بطلَان قَول
من أثبت الْجِهَة والحيّز. وَفهم من قَوْله: " ذِي المعارج
" أَن العلوّ الفوقي مُضَاف إِلَى الْحق على ظَاهره. فبيّن
البُخَارِيّ أنّ الْجِهَة الَّتِي يصدق عَلَيْهَا أَنَّهَا
سَمَاء، والحيّز الَّذِي يصدق عَلَيْهِ أَنه عرش، كل ذَلِك
مَخْلُوق مربوب مُحدث، وَقد كَانَ الله وَلَا مَكَان
ضَرُورَة. وَحدثت هَذِه الْأَمْكِنَة. وحدوثها وَقدمه -
جلّ جَلَاله - يحِيل وَصفه بالتحيّز فِيهَا لِأَنَّهُ لَو
تحيّز لاستحال وجوده قبل الحيّز مثل كل متحيّز. تَعَالَى
الله عَن ذَلِك.
(366 - (8) بَاب قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يمسك
السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} [فاطر: 41] .)
(1/424)
فِيهِ عبد الله بن مَسْعُود: جَاءَ حبر
إِلَى رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-، فَقَالَ:
يَا مُحَمَّد إِن الله يضع السَّمَاء على إِصْبَع،
وَالْجِبَال على إِصْبَع، وَالشَّجر والأنهار على أصْبع،
وَسَائِر الْخلق على إِصْبَع، ثمَّ يَقُول بِيَدِهِ أَنا
الْملك.
فَضَحِك رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-،
وَقَالَ: وَمَا قدرُوا الله حق قدره ".
قلت: رَضِي الله عَنْك! ظنّ الْمُهلب أَن قَول النَّبِي
-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وضحكه ردّ على الحبر،
وَلَيْسَ كَذَلِك فقد تقدّم فِي الحَدِيث أَنه ضحك
تَصْدِيقًا للحبر وَذكره مُسلم أَيْضا.
ولمّا اعْتقد الْمُهلب هَذَا اسْتشْكل إِيرَاد البُخَارِيّ
هَذَا الحَدِيث فِي تَفْسِير الْآيَة، لِأَن ذَلِك يُوهم
تصويب قَول الحبر.
وَالْحق عندنَا أَن الحَدِيث تَفْسِير لِلْآيَةِ. والأصابع
والقبضة وَالْيَد فِي حَقه تَعَالَى إمّا صِفَات، وَإِمَّا
رَاجِعَة إِلَى الْقُدْرَة على خلاف فِي ذَلِك. وَقد
تقّدم.
وَيحْتَمل أنّ يكون النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-،
صدّق الحبر مُطلقًا وَهُوَ الظَّاهِر.
وَيحْتَمل أَنه أنكر عَلَيْهِ فهمه من الْأَصَابِع
الْجَوَارِح، وَحِينَئِذٍ تَلا: " وَمَا قدرُوا الله حق
قدره ".
وَإِن بنينَا على تَصْدِيقه مُطلقًا فتلاوة الْآيَة على من
كيّف مُطلقًا.
(1/425)
(367 - (9) بَاب قَوْله تَعَالَى: {كل
يَوْم هُوَ فِي شَأْن} [الرَّحْمَن: 29] . {وَمَا
يَأْتِيهم من ذكر من ربّهم مُحدث} [الْأَنْبِيَاء: 2] .
وَقَوله تَعَالَى: {لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا}
[الطَّلَاق: 1] .)
وَأَن حَدثهُ لَا يشبه حدث المخلوقين لقَوْله: {لَيْسَ
كمثله شئ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} [الشورى: 11] .
وَقَالَ ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-: إِن الله يحدث من أمره [مَا يَشَاء وإنّ] ممّا
أحدث أَن لَا تكّلموا فِي الصَّلَاة.
فِيهِ ابْن عَبَّاس: قَالَ: كَيفَ تسْأَلُون أهل الْكتاب
عَن كتبهمْ، وعندكم كتاب الله أقرب الْكتب عهدا بِاللَّه
تقرؤنه مَحْضا لم يشب.
وَقَالَ مرّة: وَكِتَابكُمْ الَّذِي أنزل على نبيّكم أحدث
الْأَخْبَار بِاللَّه.
قلت: رضى الله عَنْك! يحْتَمل بِأَن البُخَارِيّ أجَاز وصف
الْكَلَام بِأَنَّهُ مُحدث لَا مَخْلُوق، كَمَا زعم بعض
أهل الظَّاهِر، تمسكاً بقوله: {مَا يَأْتِيهم من ذكر من
الرَّحْمَن مُحدث} [الشُّعَرَاء: 5] فَإِن أَرَادَ هَذَا
فقد بيّن أَن
(1/426)
الإحداث هَهُنَا لَيْسَ الْخلق والاختراع.
لِأَنَّهُ لَو كَانَ مخلوقاً لَكَانَ مثل كَلَام
المخلوقين. وكما أَن الله لَيْسَ كمثله شَيْء، فَكَذَلِك
لَيْسَ كَمثل صِفَاته صِفَات.
وَيحْتَمل أَن يُرِيد البُخَارِيّ حمل لفظ الْمُحدث على
معنى الحَدِيث. فَمَعْنَى قَوْله: {من ذكر من رَبهم مُحدث}
أَي متحدّث بِهِ.
وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ الأول. وتخلص بِنِسْبَة الإحداث
إِلَى إِنْزَال علمه على الرَّسُول -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- والخلق، لِأَن علومهم محدثة.
(368 - (10) بَاب قَوْله: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا
بِهِ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور أَلا يعلم من خلق
وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير} [الْملك: 13 - 14] )
يتخافتون: يتسارّون.
فِيهِ ابْن عَبَّاس: فِي قَوْله: {وَلَا تجْهر بصلاتك
وَلَا تخَافت بهَا} [الْإِسْرَاء: 110] . نزلت وَرَسُول
الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- مختف بِمَكَّة، فَكَانَ
إِذا صلّى بِأَصْحَابِهِ رفع صَوته بِالْقُرْآنِ، فَإِذا
سَمعه الْمُشْركُونَ سبّوا الْقُرْآن وَمن أنزلهُ، وَمن
جَاءَ بِهِ. فَقَالَ الله لنبيّه: {وَلَا تجْهر بصلاتك
وَلَا تخَافت بهَا} [الْإِسْرَاء: 110] عَن أَصْحَابك
فَلَا تسمعهم: {وابتغ بَين ذَلِك سَبِيلا} [الْإِسْرَاء:
110] .
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: لَيْسَ منّا من لم يتغنّ بِالْقُرْآنِ
وَزَاد غَيره: يجْهر بِهِ.
(1/427)
قلت: رَضِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
عَنْك! ظنّ الشَّارِح أَن البُخَارِيّ قصد التَّرْجَمَة
على صفة الْعلم، وَلَيْسَ كَذَلِك. وَلَو كَانَ كَمَا ظنّ
تقاطعت الْمَقَاصِد فِيمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ
التَّرْجَمَة. وَأي مُنَاسبَة بَين الْعلم وَبَين قَوْله:
" وَمن لم يتغنّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ منّا ".
وَإِنَّمَا قصد البُخَارِيّ - وَالله أعلم - الْإِشَارَة
إِلَى النُّكْتَة الَّتِي كَانَت بِسَبَب محنته حَيْثُ قيل
عَنهُ: إِنَّه قَالَ: " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق "
فَأَشَارَ بالترجمة إِلَى تِلَاوَة الْخلق تتصف بالسّر
والجهر. وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَونهَا مخلوقة.
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ}
ثمَّ قَوْله: {أَلا يعلم من خلق} تَنْبِيه على أَن قَوْلهم
مَخْلُوق. وَقَوله: {وَلَا تجْهر بصلاتك} يَعْنِي
بِقِرَاءَتِك دلّ أَنَّهَا فعله.
وَقَوله: " وَمن لم يتغنّ بِالْقُرْآنِ فأضاف التَّغَنِّي
إِلَيْهِ دلّ على أَن الْقِرَاءَة فعل الْقَارئ.
فَهَذَا كلّه يُحَقّق مَا وَقع لَهُ من ذَلِك، وَهُوَ
الْحق اعتقاداً، لَا إطلاقاً خوف الْإِيهَام، وحذراً من
الابتداع بمخالفة النسف فِي الْإِطْلَاق. وَهُوَ الَّذِي
أنكر عَلَيْهِ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي حَيْثُ قَالَ: من
قَالَ: إِن الْقُرْآن مَخْلُوق فقد كفر، وَمن قَالَ: "
لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فقد ابتدع ".
وَنقل عَن البُخَارِيّ أَنه سُئِلَ، هَل قَالَ هَذِه
الْمقَالة؟ فَقَالَ: إِنَّمَا سُئِلت مَا تَقول فِي لفظك
بِالْقُرْآنِ؟ فَقلت: أَفعَال الْعباد كلهَا مخلوقة.
وَالله أعلم.
ذكره الْخَطِيب فِي تَارِيخه.
(1/428)
(369 - (11) بَاب قَول النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: رجل آتَاهُ الله الْقُرْآن فَهُوَ يقوم
بِهِ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار " وَرجل يَقُول: لَو
أُوتيت مثل مَا أُوتى هَذَا فعلت كَمَا يفعل ")
فبيّن أَن قِيَامه بِالْكتاب هُوَ فعله. وَقَالَ: {وَمن
آيَاته خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف
أَلْسِنَتكُم وألوانكم} [الرّوم: 22] وَقَالَ: {وافعلوا
الْخَيْر لعلّكم تفلحون} [الْحَج: 77] .
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رجل
آتَاهُ الله الْقُرْآن فَهُوَ يتلوه آنَاء اللَّيْل
وَالنَّهَار. وَرجل يَقُول: لَو أُوتيت مثل مَا أُوتى
هَذَا عملت فِيهِ مثل مَا يعْمل.
[قلت:] قد قَارب الإفصاح فِي هَذِه التَّرْجَمَة عمّا رمز
إِلَيْهِ فِي الَّتِي قبلهَا.
(370 - (12) بَاب قَول النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-: الماهر بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَام البررة.
وَقَالَ: زيّنوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ.)
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: مَا أذن الله لشَيْء مَا أذن لنبيّ حسن
(1/429)
الصَّوْت بِالْقُرْآنِ يجْهر بِهِ.
وَفِيه عَائِشَة [حِين] قَالَ لَهَا أهل الْإِفْك مَا
قَالُوا، قَالَت وَالله! مَا كنت أَظن أَن الله ينزل فِي
شأني وَحيا يُتْلَى، ولشأني فِي نَفسِي أَحْقَر من أَن
يتَكَلَّم الله فىّ بِأَمْر يُتْلَى. فَأنْزل الله
تَعَالَى: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك} [النُّور: 11]
الْعشْر الْآيَات.
وَفِيه الْبَراء سَمِعت النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- يقْرَأ فِي الْعشَاء بِالتِّينِ وَالزَّيْتُون.
فَمَا سَمِعت أحسن صَوتا أَو قُرْآنًا مِنْهُ.
وَفِيه ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- متوارياً بمكّة، وَكَانَ يرفع صَوته بِالْقُرْآنِ.
فَإِذا سَمعه الْمُشْركُونَ سبّوا الْقُرْآن وَمن جَاءَ
بِهِ، فَقَالَ لنبيّه: {وَلَا تجْهر بصلاتك وَلَا تخَافت
بهَا} [الْإِسْرَاء: 110] .
وَفِيه أَبُو سعيد: قَالَ لِابْنِ أبي صعصعة: إِنِّي
أَرَاك تحبّ الْغنم والبادية فَإِذا كنت فِي غنمك أَو
باديتك فأذّنت بِالصَّلَاةِ فارفع صَوْتك بالنداء،
فَإِنَّهُ لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن إنس وَلَا جن،
وَلَا شَيْء إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة.
[قَالَ أَبُو سعيد] سمعته من النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-.
وَفِيه عَائِشَة: كَانَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- يقْرَأ الْقُرْآن، وَرَأسه فِي حجري وَأَنا
حَائِض.
(1/430)
وَقلت: رَضِي الله عَنْك {ظنّ الشَّارِح
أَن غَرَض البُخَارِيّ إِثْبَات جَوَاز قِرَاءَة الْقُرْآن
بتحسين الصَّوْت، وَلَيْسَ كَذَلِك. وَإِنَّمَا غَرَضه
الْإِشَارَة إِلَى مَا تقدّم من وصف التِّلَاوَة بالْحسنِ
والتحسين، وَالرَّفْع والخفض، ومقارنة الْحَالَات البشرية،
كقولها: " قَرَأَ الْقُرْآن فِي حجري وَأَنا حَائِض ".
فَهَذَا كلّه يُحَقّق أَن الْقِرَاءَة فعل الْقَارئ،
ومتصفة بِمَا تتصف الْأَفْعَال بِهِ، ومتعلّقة بالظروف
المكانية والزمانية أُسْوَة بالأفعال كلهَا.
(371 - (13) بَاب قَول الله تبَارك وَتَعَالَى: {وَلَقَد
يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدّكر} [الْقَمَر: 17]
.)
وَقَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: " كلّ
ميسّر لما خلق لَهُ "
[يُقَال: ميسّر:] مهيّأ.
فِيهِ عمرَان: قلت: يَا رَسُول الله} فيمَ يعْمل
الْعَامِلُونَ؟ .
قَالَ: كل ميسّر لما خلق لَهُ.
وروى عَليّ مَعْنَاهُ عَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]-.
(1/431)
قلت: رَضِي الله عَنْك {الشَّارِح بعيد عَن
قصد البُخَارِيّ بِهَذَا التراجم. وَهُوَ رَاجع إِلَى مَا
تقدّم من وصف الْقِرَاءَة بالتيسير. وَهَذَا يدلّ على
أَنَّهَا فعل. وَيشْهد قَوْله: " كل ميسّر لما خلق لَهُ ".
وَمِمَّا خلق لَهُ التِّلَاوَة. وَالله أعلم.
(372 - (14) بَاب قَوْله تَعَالَى: {وَنَضَع الموازين
الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} [الْأَنْبِيَاء: 47] وَإِن
أَعمال بني آدم وأقوالهم توزن. وَقَالَ مُجَاهِد: القسطاط
الْعدْل بالرومية وَيُقَال: الْقسْط مصدر المقسط وَهُوَ
الْعَادِل، فَأَما القاسط فَهُوَ الجائر.)
وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي -[صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم]-: كلمتان حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن،
خفيفتان على اللِّسَان، ثقيلتان فِي الْمِيزَان: سُبْحَانَ
الله وَبِحَمْدِهِ، وَسُبْحَان الله الْعَظِيم ".
قلت: رَضِي الله عَنْك} جمع البُخَارِيّ فِي هَذِه
التَّرْجَمَة بَين فَوَائِد.
وَمِنْهَا وصف الْأَعْمَال بِالْوَزْنِ.
وَمِنْهَا: إدراج الْكَلَام فِي الْأَعْمَال، لأنّه وصف
الْكَلِمَتَيْنِ بالخفّة على اللِّسَان، والثقل فِي
الْمِيزَان، دلّ أَن الْكَلَام عمل يُوزن.
وَمِنْهَا: أَنه ختم كِتَابه بِهَذَا التَّسْبِيح.
وَقد ورد فِي الحَدِيث مَا يدّل على اسْتِحْبَاب ختم
الْمجَالِس بالتسبيح وَأَنه كَفَّارَة لما لَعَلَّه يتّفق
فِي أثْنَاء الْكَلَام ممّا يَنْبَغِي هجره. وَهَذَا
نَظِير كَونه
(1/432)
بَدَأَ كِتَابه بِحَدِيث: " الْأَعْمَال
بِالنِّيَّاتِ " فَكَأَنَّهُ تأدّب فِي فاتحته وخاتمته
بآداب السنّة وَالْحق.
فالأدب فِي الِابْتِدَاء إخلاص الْقَصْد والنيّة، وَفِي
الِانْتِهَاء مراقبة الخواطر، ومناقشة النَّفس على
الْمَاضِي والاعتماد، فِي تَكْفِير مَا لَعَلَّه يحْتَاج
إِلَى التَّكْفِير بِمَا جعله الشَّرْع مكفّراً للهفوات،
مخلصاً للحسنات من النزعات الدَّاخِلَة فِي حيّز الْفَوات.
وَالله أعلم.
تمّ الْكتاب بِحَمْد الله وعونه وتيسير مِنْهُ. ونسأل الله
اللَّطِيف بِلُطْفِهِ وَرَحمته أَن يَجعله عوناً على
طَاعَته موصلاً إِلَى جنّته وَكَرمه، وَأَن ينفع بِهِ
مؤلّفه وكاتبه ومستمعه وقارئه بِمُحَمد نبيّه وعترته - صلى
الله عَلَيْهِ وعَلى آله، ورضى الله عَن أَصْحَابه
وذرّيتّه.
وَوَافَقَ الْفَرَاغ مِنْهُ يَوْم الِاثْنَيْنِ الْمُبَارك
خَامِس عشرى رَجَب الْفَرد سنة ألف وَمِائَة وَإِحْدَى
وَعشْرين.
وَالْحَمْد لله وَحده - تمّ
(1/433)
|