تأويل مختلف الحديث

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةُ الْمُحَقق للطبعة الأولى:
إِن الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ بلغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة ونصح الْأمة وجاهد فِي الله حق جهاده صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا، وَبعد،
فَإِن الْوَحْي الَّذِي تنزل على الرَّسُول الْخَاتم لم يقْتَصر على النَّص المعجز المتعبد بتلاوته "الْقُرْآن الْكَرِيم" بل شَمل كَذَلِك مَا رُوِيَ عَن الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السّنة من قَول أَو عمل أَو تَقْرِير أَو صفة.
وَقد شهد الْقُرْآن الْكَرِيم بشمول الْوَحْي لمصدري التشريع كليهمَا -الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة- بقوله تَعَالَى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2.
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 3.
كَمَا أكد الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنى بقوله: "إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمثله مَعَه" 4.
__________
1 سُورَة النَّجْم: الْآيَة 3: 4.
2 سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 31.
3 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة: 80.
4 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب السّنة6، وَأحمد4/ 4/ 131.

(1/7)


فبالإضافة إِلَى أَن السّنة صنو الْقُرْآن الْكَرِيم من حَيْثُ الدّلَالَة، فَهِيَ كَذَلِك شارحة لقواعده الْعَامَّة ومفصلة لمجمله، ومبينة لمعانيه، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . فَهِيَ جُزْء لَا يتَجَزَّأ من كَمَال الرسَالَة وتمامها.
وَلم تكن هَذِه الْحَقِيقَة مَوضِع خلاف بَين الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، بل كَانَت من البدهيات الْمُسلم بهَا وَالْمجْمَع عَلَيْهَا نصا وَعَملا.
تدوين السّنة فِي عهد النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَلَكِن السّنة لم تدون فِي حَيَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خشيَة اختلاطها بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم كَمَا هُوَ مَعْرُوف من نهي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ بَقِي الْأَمر على هَذَا الْحَال فِي عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا من استثناءت خَاصَّة لبَعض الصَّحَابَة المعروفين بعلمهم وضبطهم، فَكَانَت لبَعْضهِم مدوناته فِي السّنة، بِالْإِضَافَة إِلَى أَن مَنْهَج الاستيثاق وضعت معالمه فِي وَقت مبكر حِين جمع كتاب الله تَعَالَى فِي عهد الْخَلِيفَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ ثمَّ فِي عهد عُثْمَان رَضِي عَنهُ، وَكَانَ لَا بُد من شَهَادَة اثْنَيْنِ من الصَّحَابَة على الْأَقَل حَتَّى يتم تدوين الْآيَة فِي موضعهَا من الْقُرْآن الْكَرِيم، وَقد انسحب هَذَا الشَّرْط على قبُول الحَدِيث أَيْضا، فَلم يُقبل حديثٌ من راوٍ مَا لم يتوفر لَهُ شَاهد أَو أَكثر، وَقد تورع كثير من الصَّحَابَة عَن رِوَايَة الحَدِيث مَا لم يَكُونُوا على يَقِين تَامّ مِمَّا ينقلون، حَيْثُ أَن أَمر حفظ السّنة وتناقل رِوَايَات الحَدِيث لم يكن مُشكلا طالما أَن جيل الصَّحَابَة كَانَ مَوْجُودا.
تدوين السّنة بعد جيل الصَّحَابَة:
وَلما بَدَأَ جيل الصَّحَابَة يتناقص وامتد الْإِسْلَام إِلَى شعوب وأمم أُخْرَى، وَكَانَت الْأَحَادِيث تتناقل شفاهة بشروطها التوثيقية، شعر الْمُسلمُونَ بضرورة تدوين السّنة كَامِلَة، وبذل عُلَمَاء السّنة جزاهم الله خيرا جهودًا محمودة فِي تدوينها، وَوضعت عُلُوم مُتعَدِّدَة لتنقية السّنة من الشوائب الَّتِي ابتدعها أَصْحَاب الْأَهْوَاء والنحل الْبَاطِلَة، وَكَانَ الأساس فِي تدوين السّنة

(1/8)


مَنْهَج الاستيثاق الَّذِي اعْتَمدهُ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي وَقت مبكر بعد أَن طوروه إِلَى الصُّورَة الَّتِي جعلت مِنْهُ خير مَنْهَج علمي موضوعي يُمكن أَن يتوافر عَلَيْهِ بشر، حَتَّى أننا لَا نعهد فِي التَّارِيخ العالمي نبيًّا أَو عَظِيما بُذِلَ فِي سَبِيل تَحْقِيق مَنْطُوق كَلَامه وَمَا رُوِيَ عَن أَحْوَاله وَسيرَته بشكل عَام مَا توفر للرسول الْخَاتم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَلَا غرابة فِي ذَلِك فَإِن من لَوَازِم الرسَالَة الخاتمة وصولها نصًّا سليما وبيانًا صَحِيحا كثمرة للْحِفْظ الرباني لهَذَا الدَّين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فقيض الله لَهُ من يدْفع عَنهُ الشّبَه ويجلي الْحَقِيقَة، وينقله بِسَنَد مُتَّصِل على هَذَا النَّحْو من السَّلامَة والدقة.
وَلَا شكّ أَن من نعم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة أَن كَانَ ظُهُور الْفِتْنَة فِيهَا مترافقًا مَعَ وجود جيل الْأَصْحَاب -حفظَة الحَدِيث- الْمَشْهُود لَهُم من رَسُول الله، الْأَمر الَّذِي أدّى إِلَى تدوين وتوثيق السّنة بِحَيْثُ تحققت دَرَجَة صِحَة الحَدِيث وحجيته بِمَا لَا يدع مجالًا لشُبْهَة.
وَهَكَذَا لم يخْتَلف جُمْهُور عُلَمَاء الْأمة على وجوب الْأَخْذ بِالسنةِ وَالِاسْتِدْلَال بهَا عملا بقوله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وَلَا يعْتد بِرَأْي بَعضهم مِمَّن جنحت بِهِ الْأَهْوَاء وأضلته الْفِتَن.
اتجاه عُلَمَاء السّنة فِي عملية التدوين وَدفع الشّبَه:
وَقد اتجه عُلَمَاء السّنة فِي بنائهم لصرحها اتجاهين واضحين لَا يُغني أَحدهمَا عَن الآخر: الأول فِي تدوين السّنة الصَّحِيحَة بإسنادها، وَالثَّانِي دفع الشّبَه والأهواء الْبَاطِلَة وَبَيَان وَجه الْحَقِيقَة فِي ذَلِك.
وَيُمكن أَن يصنف هَذَا الْكتاب "تَأَول مُخْتَلف الحَدِيث" ضمن الْمَجْمُوعَة الثَّانِيَة فِي الدفاع عَن السّنة، ويتميز بِأَنَّهُ عرض الشّبَه الَّتِي أثيرت حول تنَاقض بعض الْأَحَادِيث فِيمَا بَينهَا، أَو معارضتها لآيَات فِي كتاب الله تَعَالَى، أَو خُرُوجهَا عَن منطق الْعقل ومبادئ الْفِكر الْمُتَعَارف عَلَيْهَا، أَو مخالفتها لمألوف النَّاس ومعروفهم، أَو لسنن الطبيعة وقوانينها العلمية. تِلْكَ

(1/9)


الشّبَه الَّتِي أثارها المخالفون، الْأَمر الَّذِي حملهمْ على إِسْقَاط بعض الْأَحَادِيث وتعطيلها.
وَلَقَد كَانَ عمل الْمُؤلف رَحمَه الله بَيَان الْحَقِيقَة بالأدلة العلمية، وتفنيد المزاعم وكشف قُصُور الْفَهم بالملابسات المرافقة لوُرُود النَّص..
وَيعْتَبر هَذَا الْكتاب -إِضَافَة إِلَى كتب أُخْرَى فِي الْمَوْضُوع نَفسه- نَافِذَة نطل مِنْهَا على التيارات الفكرية والمذهبية الَّتِي كَانَت مَوْجُودَة فِي الْقرن الثَّالِث، مِمَّا يعْتَبر سجلًا حيًّا وَشَاهدا وَاضحا على مَا دَار فِي عصر الْمُؤلف من مناظرات ومنازعات وحوار رسخت فِيهَا أَقْدَام، وزلت بهَا عَن الْحق أفهام. وَهِي على كل حَال سجل تاريخي يُغني ويثري الْفِكر الإسلامي، ويعين على التَّمَسُّك بالنافع الصَّالح، كَمَا يبصر بالمزالق والأهواء.
وسنفصل فِيمَا يَلِي أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي؛ ليَكُون ذَلِك مدخلًا نفهم من خلاله بوضوح موقع هَذَا الْكتاب، ثمَّ نعطي فكرة منهجية عَنهُ وعملنا فِيهِ، وننهي الْمُقدمَة بِالْحَدِيثِ عَن الْمُؤلف ومكانته العلمية ومساهماته فِي الاهتمامات العلمية والثقافية والمذهبية السائدة فِي عصره.
ونسأل الله تَعَالَى أَن يَجْزِي الْمُؤلف خير مَا يَجْزِي الْعلمَاء العاملين، وَأَن يَجْعَل عَملنَا خَالِصا لوجهه الْكَرِيم يثيبنا عَلَيْهِ بفضله وَرَحمته إِنَّه البَرُّ الرَّحِيم.

(1/10)