تأويل مختلف الحديث

أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي:
لَعَلَّ معرفَة أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي عِنْد عُلَمَاء الْمُسلمين وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين يلقِي ظلالًا موضوعية على قَضِيَّة هَذَا الْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا.
فَلَا خلاف فِي إِجْمَاع الْعلمَاء على اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي بعد كتاب الله تَعَالَى "الْقُرْآن الْكَرِيم" لَكِن السّنة لم تدون كلهَا فِي الْقرن الأول الهجري كَمَا أسلفنا، فقد فكر الْخَلِيفَة الثَّانِي عمر بن الْخطاب فِي تدوينها، وَلكنه بعد التروي والتشاور لم يقدم على ذَلِك لسببين فِيمَا نعتقد: لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على اتِّبَاع مَنْهَج صَاحِبيهِ السالفين، فَأَبُو بكر لم يَفْعَله وَلَا أذن بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم؛ وَلِأَن الْحَاجة لم تكن قَائِمَة فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى التدوين؛ فالجيل الَّذِي كَانَ يحفظ السّنة شفاهة ويجسدها بسلوكه عملا لَا يزَال مَوْجُودا.
وَهَكَذَا لم ينفذ عمر رَضِي الله عَنهُ مَا فكر فِيهِ، وانقضى الْقرن الأول الهجري من غير أَن تدون السّنة عدا مَا رُوِيَ من أَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَت لَهُ صحيفَة اسْمهَا "الصادقة" دون فِيهَا الْأَحَادِيث الَّتِي سَمعهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ بِإِذن خَاص مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، فقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: "كنت أَكثر الصَّحَابَة حفظا لحَدِيث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فقد كَانَ يكْتب وَلَا أكتب"1.
__________
1 الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ رقم113/ كتاب الْعلم.

(1/11)


تَوْثِيق الحَدِيث:
وعَلى الرغم من عدم التدوين إِلَّا أَن الصَّحَابَة مَعَ ذَلِك اتَّخذُوا بعض الاحتياطات الَّتِي لَا بُد مِنْهَا للوثوق بِرِوَايَة الحَدِيث، وتحروا الدقة فِي نَقله، فقد كَانَ أَبُو بكر الصّديق لَا يقبل الحَدِيث إِلَّا من راوٍ يُؤَيّدهُ شَاهد، وَعمر بن الْخطاب كَانَ يطْلب من الرَّاوِي أَن يَأْتِي بِالْبَيِّنَةِ على رِوَايَته، وَعلي بن أبي طَالب كَانَ يسْتَحْلف الرَّاوِي. وَلَكِن هَذِه الاحتياطات -وَإِن حققت الْغَرَض مِنْهَا فِي عهد الصَّحَابَة- إِلَّا أَن الْحَاجة أَصبَحت ماسة فِيمَا بعد إِلَى التدوين؛ نظرا لتفرق الصَّحَابَة وانقراضهم تدريجيًا، وَدخُول الْإِسْلَام إِلَى بِلَاد جَدِيدَة وانسياح الْمُسلمين فِي الأَرْض، وتناقل حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَصْحَاب شفاهة بالروايات ذَات السَّنَد الصَّحِيح أَو غَيره.
وَقد كَانَ لعدم تدوين السّنة أثران:
"أَحدهمَا": أَنه دفع عُلَمَاء الْمُسلمين إِلَى بذل جهود خَاصَّة فِي دراسة حَال رُوَاة الحَدِيث ودرجة الثِّقَة بهم، وانقسمت الأحادث بِاعْتِبَار رواتها إِلَى قَطْعِيَّة الثُّبُوت وظنية الثُّبُوت، كَمَا انقسمت دَرَجَات الحَدِيث من حَيْثُ الْقبُول وَالرَّدّ إِلَى صَحِيح وَحسن وَضَعِيف، وَأسسَ فن الرِّوَايَة وَوضعت فِيهِ مؤلفات.
"وَثَانِيهمَا" أَن عدم التدوين ترك فرْصَة للتحريف وَالزِّيَادَة وَالنَّقْص خطأ أَو عمدا، لذَلِك لم يجمع الْمُسلمُونَ على السّنة كلهَا كَمَا أَجمعُوا على الْقُرْآن كُله، مِمَّا أدّى إِلَى اخْتلَافهمْ فِي الِاحْتِجَاج بهَا حسب دَرَجَة اعْتِبَار الصِّحَّة لديهم.
التحزب السياسي والانقسام المذهبي:
إِن الانحياز والتحزب السياسي الَّذِي نَشأ بِسَبَب مَفْهُوم الْخلَافَة وَاخْتِيَار شخصية الْخَلِيفَة أَخذ شكلًا دينيًّا ذَا أثر خطير فِي اعْتِمَاد بعض الْأَحَادِيث ورفض بَعْضهَا الآخر، وَذَلِكَ أَنه بعد مقتل عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ بُويِعَ بالخلافة عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنهُ، ونازعه الْخلَافَة مُعَاوِيَة بن

(1/12)


أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنْهُمَا لأسباب ومسوغات لَا مجَال لذكرها هُنَا، واشتدت الْفِتْنَة بَين الْفَرِيقَيْنِ وانتهت إِلَى التَّحْكِيم، ونتج عَن ذَلِك انقسام الْمُسلمين إِلَى طوائف ثَلَاثَة: الْخَوَارِج، والشيعة، وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وهم جُمْهُور الْأمة.
1- أما الْخَوَارِج فهم جمَاعَة من الْمُسلمين نقموا من عُثْمَان سياسته فِي خِلَافَته، ونقموا من عَليّ قبُول التَّحْكِيم، ونقموا من مُعَاوِيَة توليه الْخلَافَة بِالْقُوَّةِ والسياسة، فَخَرجُوا على جَمِيع الْأَطْرَاف، وَكَانَ مبدؤهم أَن خَليفَة الْمُسلمين يَنْبَغِي أَن ينتخب انتخابًا من الْمُسلمين مِمَّن توفرت فِيهِ الْكَفَاءَة لَهَا، سَوَاء أَكَانَ قرشيًّا أم غير قرشي حَتَّى وَلَو كَانَ عبدا حبشيًّا، وَأَنه لَا تجب طَاعَته إِلَّا إِذا كَانَ مُلْتَزما الْقُرْآن وَالسّنة، فَإِن تجاوزهما وَجب الْخُرُوج عَلَيْهِ وسلكوا فِي تأييد مبدئهم ومجاهدة خصومهم وَسَائِل العنف والشدة فِي حروبهم.
2- وَأما الشِّيعَة فهم جمَاعَة من الْمُسلمين رَأَوْا تَفْضِيل عَليّ بن أبي طَالب وَذريته وأحقيتهم بالخلافة وأفرطوا فِي ذَلِك؛ لأَنهم يرَوْنَ أَنه الَّذِي أوصى لَهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخلافة من بعده، ثمَّ انقسموا فِيمَا بَينهم بشأن توارث هَذِه الْخلَافَة إِلَى كيسانية وزيدية وإسماعيلية وجعفرية، وكل فرقة تجْعَل الْخلَافَة فِي فرع خَاص من ذُرِّيَّة عليّ.
3- وَأما جمهرة الْمُسلمين فَلم يذهبوا مَذْهَب الْخَوَارِج وَلَا الشِّيعَة وَلم يرَوا أَن الْخلَافَة وَصِيَّة لأحد، وَرَأَوا أَن الْخَلِيفَة ينتخب من أكفاء قُرَيْش إِن وجد، ويؤولون مَا كَانَ بَينهم من خصومات بِأَنَّهَا كَانَت اجتهادية.
هَذَا الانقسام السياسي كَانَ لَهُ أثر فِي أَن الْخَوَارِج رفضوا الْأَحَادِيث الَّتِي رَوَاهَا عُثْمَان أَو عَليّ أَو مُعَاوِيَة أَو رَوَاهَا صَحَابِيّ مِمَّن ناصروا وَاحِدًا مِنْهُم، وردوا كل أَحَادِيثهم وآرائهم وفتاويهم، واقتصروا على مَا رُوِيَ عَمَّن يرضونهم وَرِوَايَات عُلَمَائهمْ وفتاويهم.
وَكَذَلِكَ الشِّيعَة اشترطوا فِي قبُول الحَدِيث أَن يكون من رِوَايَة آل

(1/13)


الْبَيْت والفتاوى الَّتِي صدرت عَنْهُم، وَبِهَذَا كَانَ لَهُم أَيْضا فقه خَاص.
وَأما جُمْهُور الْمُسلمين فَكَانُوا يحتجون بِكُل حَدِيث توافرت لراويه الشُّرُوط الْمَطْلُوبَة بِلَا تَفْرِيق بَين صَحَابِيّ وَآخر، وَيَأْخُذُونَ بفتاوى الصَّحَابَة وآرائهم جَمِيعًا، وعَلى الرغم من اتِّفَاق جُمْهُور عُلَمَاء الْمُسلمين على هَذِه الخطة الموضوعية فِي قبُول الحَدِيث -بِاعْتِبَار الصَّحَابَة جَمِيعًا عُدُولًا موثوقين- دون النّظر إِلَى مواقفهم السياسية من قَضِيَّة الْفِتْنَة الْكُبْرَى.
لكِنهمْ بِالْإِضَافَة إِلَى ذَلِك اخْتلفُوا فِي الخطة التشريعية الَّتِي تبناها كل مِنْهُم، وَقد نَشأ ذَلِك بِنَاء على اخْتلَافهمْ فِي تَقْدِير بعض مصَادر التشريع، وَقد تجلى ذَلِك على وَجه الْإِجْمَال فِيمَا يَأْتِي:
أَسبَاب الِاخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين:
1- أولًَا: من حَيْثُ دَرَجَة ثُبُوت الحَدِيث وَالْمِيزَان الَّذِي ترجح بِهِ رِوَايَة على أُخْرَى، وَذَلِكَ أَن قبُول السّنة كمصدر للْأَحْكَام مَبْنِيّ على الوثوق برواتها، وطرق رِوَايَتهَا، كَمَا اخْتلف الْأَئِمَّة فِي مقاييس الْقبُول: فمجتهدو الْعرَاق: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يحتجون بِالْحَدِيثِ الْمُتَوَاتر وَالْمَشْهُور، وَمَا يُقَاس عَلَيْهِمَا من رَأْي اجتهادي يقدمونه على حَدِيث خبر الْآحَاد حَال مُخَالفَته، قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: "وَعَلَيْك بِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَة من الحَدِيث، وَمَا يعرفهُ الْفُقَهَاء".
ومجتهدو الْمَدِينَة: مَالك وَأَصْحَابه يرجحون إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة ويقدمونه فِي الِاسْتِدْلَال على خبر الْآحَاد.
وَأما بَاقِي الْأَئِمَّة: فيحتجون بِمَا رَوَاهُ الْعُدُول الثِّقَات سَوَاء وَافق عمل أهل الْمَدِينَة أَو خَالفه. وترتب على هَذَا أَن مجتهدي أهل الْعرَاق جعلُوا الْمَشْهُور فِي حكم الْمُتَوَاتر، وخصصوا بِهِ الْعَام فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، وقيدوا بِهِ الْمُطلق، وترتب أَيْضا أَن مَرَاسِيل الصَّحَابَة من الحَدِيث وَهِي الَّتِي رَوَاهَا صَحَابِيّ بقوله: أَمر رَسُول الله بِكَذَا أَو نهى عَن كَذَا أَو قضى بِكَذَا -من غير أَن يُصَرح بِأَنَّهُ سمع ذَلِك بِنَفسِهِ أَو شافهه أَو شَاهده- يحْتَج بهَا بعض

(1/14)


الْمُجْتَهدين وَلَا يحْتَج بهَا بَعضهم الآخر، وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي طَرِيق قبُول بعض الْأَحَادِيث أدّى إِلَى قبُول بعض الْأَحَادِيث من قبل جمَاعَة من الْفُقَهَاء وردهَا من قبل آخَرين، وَرُبمَا رجح بَعضهم حكما بِحَدِيث هُوَ مَرْجُوح عِنْد الآخر، وَنَشَأ عَن هَذَا اخْتِلَاف الْأَحْكَام1.
2- وَثَانِيا: اخْتلَافهمْ فِي فَتَاوَى الصَّحَابَة وتقديرها، فَإِن الْأَئِمَّة اخْتلفُوا فِي الْفَتَاوَى الاجتهادية الَّتِي صدرت عَن أَفْرَاد الصَّحَابَة، فَأَبُو حنيفَة وَمن تَابعه لم يتقيدوا بفتوى مُعينَة لصحابي شريطة أَن لَا يخرجُوا عَن فتاويهم جَمِيعًا.
بَيْنَمَا كَانَ يرى الشَّافِعِي وَمن تَابعه أَن فَتَاوَى الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَتَاوَى اجتهادية من أَفْرَاد غير معصومين، فَلهم إِذن أَن يَأْخُذُوا بأية فَتْوَى مِنْهَا، كَمَا أَن لَهُم أَن يفتوا بِخِلَافِهَا كلهَا. وَعَن هَذَا نَشأ اخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام.
3- ثَالِثا: فِي الْقيَاس؛ فَإِن بعض الْمُجْتَهدين من الشِّيعَة والظاهرية أَنْكَرُوا الِاحْتِجَاج بِالْقِيَاسِ وَنَفَوْا أَن يكون مصدرا للتشريع وَلِهَذَا سموا: نفاة الْقيَاس، وَجُمْهُور الْأَئِمَّة احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ وعدوه الْمصدر التشريعي الرَّابِع بعد الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة وَالْإِجْمَاع، وَلَكنهُمْ مَعَ اتِّفَاقهم على أَنه حجَّة اخْتلفُوا فِيمَا يصلح أَن يكون عِلّة للْحكم ويبنى عَلَيْهِ الْقيَاس، حَيْثُ يشْتَرط بَعضهم أَن يكون مَنْصُوصا على عِلّة الحكم، وَنَشَأ عَن هَذَا أَيْضا اخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام.
4- رَابِعا: وَأما اخْتلَافهمْ فِي النزعة التشريعية، فقد ظهر فِي انقسامهم إِلَى فريق أهل الحَدِيث وَمِنْهُم أَكثر مجتهدي أهل الْحجاز، وفريق أهل الرَّأْي وَمِنْهُم أَكثر مجتهدي أهل الْعرَاق.
وَلَيْسَ معنى هَذَا الانقسام أَن فُقَهَاء الْعرَاق يصدرون فِي تشريعهم عَن
__________
1 قَالَ الزَّرْكَشِيّ: "يجوز تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد عِنْد الْجُمْهُور، وَهُوَ الْمَنْقُول عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة "الْبَحْر الْمُحِيط فِي أصُول الْفِقْه 3/ 364" -مُحَمَّد بدير-.

(1/15)


الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ فَقَط، لأَنهم جَمِيعًا متفقون على أَن الحَدِيث حجَّة شَرْعِيَّة ملزمة، وَأَن الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ أَي بِالْقِيَاسِ حجَّة شَرْعِيَّة فِيمَا لَا نَص فِيهِ.
بَين أهل الرَّأْي وَأهل الحَدِيث:
وَمعنى هَذَا الانقسام وَسبب هَذِه التَّسْمِيَة أَن فُقَهَاء الْعرَاق أَمْعَنُوا النّظر فِي مَقَاصِد الشَّرْع وَفِي الأسس الَّتِي بني عَلَيْهَا التشريع، فاقتنعوا بِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعْقُول مَعْنَاهَا ومقصود بهَا تَحْقِيق مصَالح النَّاس، وبأنها تعتمد على مبادئ وَاحِدَة ترمي إِلَى غَايَة وَاحِدَة، وَهِي لهَذَا لَا بُد أَن تكون متسقة، لَا تعَارض وَلَا تبَاين بَين نصوصها وأحكامها، وعَلى هَذَا الأساس يفهمون النُّصُوص، ويرجحون نصًّا على نَص، ويستنبطون فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَلَو أدّى استنباطهم على هَذَا الأساس إِلَى صرف نَص عَن ظَاهره أَو ترك نَص إِلَى آخر؛ وهم من أجل هَذَا لَا يتحرجون من التَّوَسُّع فِي الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ، ويجعلون لَهُ مجالًا فِي أَكثر بحوثهم التشريعية.
وَهُنَاكَ فُقَهَاء عنوا بِحِفْظ الحَدِيث وفتاوى الصَّحَابَة، واجتمعوا فِي تشريعهم إِلَى فهم هَذِه الْآثَار حَسْبَمَا تدل عَلَيْهِ عبارتها، وَكَانُوا من أجل هَذَا يتحرجون من الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ، وَلَا يلجئون إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة القصوى، وأغلب هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء كَانُوا من أهل الْحجاز. وَرُبمَا كَانَ سَبَب ذَلِك أَن أهل الْحجاز لم يشعروا بضرورة الاستزادة من فقه الرَّأْي، لِأَن مشكلات مجتمعهم الَّتِي يواجهونها لم تتبدل بِالْقدرِ نَفسه الَّذِي واجهه أهل الْعرَاق مِمَّا دفعهم إِلَى الاستزادة من الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ.
وَلَقَد اتهمهم مخالفوهم بِأَنَّهُم لَا ينظرُونَ فِي علل الْأَحْكَام، فَإِذا وجدوا مَا فَهموا من النَّص لَا يتَّفق مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعقل لم يبالوا بِهَذَا، وَقَالُوا: هُوَ النَّص، واتهموهم بالجمود والسطحية وَعدم فهم روح الشَّرِيعَة ومقاصدها الْعَامَّة، حَتَّى غلبوا أَحَادِيث ضَعِيفَة أَو مرجوحة على النُّصُوص القرآنية الْعَامَّة الَّتِي أكدت على مصَالح الْعباد، وَكَانَت أهدافها تسْعَى للمحافظة على الكليات الْخمس: الدَّين وَالنَّفس وَالْعقل والنسل وَالْمَال، بل

(1/16)


رُبمَا تَعَارَضَت بعض أَحَادِيث الْآحَاد وَالْأَحَادِيث الضعيفة مَعَ بدهيات الْعقل ومسلمات الْمنطق وحقائق الْعلم مِمَّا يُؤَكد بُطْلَانهَا، وَمَعَ ذَلِك فقد استمسكوا بهَا وجمدوا عَلَيْهَا، فعطلوا الْمصَالح وخالفوا الْمَقَاصِد لروايات ظهر بُطْلَانهَا بِالْحجَّةِ وَالْعقل ومقاصد الشَّرْع ... إِلَخ.
ودافع أهل الحَدِيث عَن موقفهم، واتهموا مخالفيهم بتغليب الرَّأْي على النَّص، ومتابعة الْهوى، وَأَن طعنهم بالأحاديث المروية الَّتِي تخَالف آراءهم لَيْسَ مبنيًّا على الْأُصُول الَّتِي وَضعهَا المحدثون فِي تحري سَلامَة الرِّوَايَة بالتأكد من سَلامَة السَّنَد، بل نصبوا أنفسهم محكمين فَمَا وَافق عُقُولهمْ الكليلة المحدودة قبلوه وَإِلَّا طعنوا فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا من شَأْن مُسلم يفترض أَن يحمل نَفسه على اتِّبَاع النَّص والإذعان لَهُ. واحتدم الْأَمر أَكثر بِظُهُور فِئَة "الْمُعْتَزلَة" الَّتِي أَعْطَتْ لِلْعَقْلِ مكانة خَاصَّة، إِذْ لَا يعقل فِي نظرهم أَن يتعارض نَص مَعَ الْعقل الَّذِي احتكمت إِلَيْهِ النُّصُوص أَحْيَانًا فِي النّظر وَالِاسْتِدْلَال؛ وَلذَلِك ردوا كل رِوَايَة يتناقض نَصهَا مَعَ منطق الْعقل.
وتفاقم الصراع بَين هَذِه الْمدَارِس، وَكَانَ لكل مِنْهَا عُلَمَاء وحجج ونظرات، وألفت فِي ذَلِك كتب دَافع بهَا كل أَصْحَاب مَذْهَب عَن مَذْهَبهم.
وَالْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا "تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث" ينتصر فِيهِ ابْن قُتَيْبَة -وَهُوَ من أَعْلَام مدرسة الحَدِيث- لمدرسة أهل الحَدِيث، وَيدْفَع حجج الْمدَارِس الْمُخَالفَة إِلَى دَرَجَة قد يُبَالغ فِيهَا بِنَقْد وتجريح أعلامها، لَا سِيمَا فِي تنَاوله لأئمة أهل الرَّأْي حَتَّى اتهمَ أَبَا حنيفَة -بِمَا سَوف يرد فِي الْكتاب- من اتِّبَاع للأهواء وسفه فِي الْأَحْكَام، وَهَذَا بِلَا شكّ تطرف غير مَقْبُول، بل هُوَ التعصب الَّذِي يحمل الْإِنْسَان على الغلو فِي نقد الْخُصُوم.
وَيبقى الْكتاب بعد ذَلِك من خيرة مَا ألف فِي بَابه؛ دفاعًا عَن الحَدِيث وبيانًا لوجه الْحق فِيهِ، وتوضيحًا لما توهمه الزارين من اضْطِرَاب وَشك.

(1/17)