تأويل مختلف
الحديث الرَّد على أَصْحَاب الرَّأْي:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ، فَنَجِدُهُمْ
أَيْضًا يَخْتَلِفُونَ وَيَقِيسُونَ، ثُمَّ يَدَّعُونَ
الْقِيَاسَ وَيَسْتَحْسِنُونَ، وَيَقُولُونَ بِالشَّيْءِ
وَيَحْكُمُونَ بِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ.
أَبُو حَنِيفَةَ:
حَدَّثَنِي سَهْلُ1 بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
الْأَصْمَعِيُّ2 عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ:
سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مِخْنَفٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الْمَشْرِقِ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ3 بِكِتَابٍ
مِنْهُ بِمَكَّةَ، عَامًا أَوَّلَ، فَعَرَضَهُ عَلَيْهِ
مِمَّا كَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَرجع عَن ذَلِك كُله.
__________
1 سهل بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْجُشَمِي السجتساني: من
كبار الْعلمَاء باللغة وَالشعر من أهل الْبَصْرَة كَانَ
الْمبرد يلازم الْقِرَاءَة عَلَيْهِ، لَهُ نَيف
وَثَلَاثُونَ كتابا، وَله شعر جيد توفّي عَام 248هـ.
2 الْأَصْمَعِي: أديب وراوية زَمَانه، اسْمه عبد الْملك بن
قريب بن عبد الْملك بن عَليّ بن أصمع، الْمَنْسُوب
إِلَيْهِ ابْن أبي مطهر، وَعَن البدالي أَن أصمع وَأَبا
مطهر أدْركَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأسلما، وَلم يذكرَا فِي الصَّحَابَة فِي
مُخْتَصر الْإِصَابَة. تحفة الْأَلْبَاب جـ1 ص288.
3 أَبُو حنيفَة: شيخ الْكُوفَة وَهُوَ تَابِعِيّ، لَقِي
سِتَّة من الصَّحَابَة واسْمه النُّعْمَان بن ثَابت بن
زوطا، مولى بني أَسد بن خُزَيْمَة قيل بِالْعِتْقِ، وَقيل
بِالْحلف، وَهُوَ قَول إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد ابْن أبي
حنيفَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: لم يتَقَدَّم علينا رق،
وَإِنَّمَا أسلم جدي على يَد رجل من أَسد بن خُزَيْمَة.
وَكَانَ أَبُو حنفية بالْمقَام الأوفى من الْعلم
وَالصَّلَاح، وَيَقُول بِالرَّأْيِ وَكَانَ جَعْفَر بن
مُحَمَّد -وَهُوَ جَعْفَر الصَّادِق- ينهاه عَن ذَلِك.
وَلم يرجع أَبُو حنيفَة عَن الرآي، ورأي الْأَئِمَّة
إِنَّمَا هُوَ الاستنباط من الْأَصْلَيْنِ لَا إِنَّه
يَقُول مَا وَافق مَا يرَاهُ من نَفسه.
ويروى فِي ورع أبي حنيفَة كثيرا من المواقف الَّتِي تدل
على زهده وعدله وخلقه وحبه للْعلم وتقواه وعَلى إِمَامَته
وفضله "تحفة الْأَلْبَاب جـ1 ص 243".
وَلَعَلَّ مَا أوردهُ الْمُؤلف من هَذِه الرِّوَايَات
الَّتِي فِيهَا مطاعن بِدِينِهِ أَو فقهه هِيَ من
المبالغات الَّتِي قد لَا يستوعب حَقِيقَتهَا ناقل، أَو
يغلو فِيهَا صَاحب مَذْهَب بِسَبَب خلاف علمي، وَالله
أعلم.
(1/102)
فَوضع الرَّجُلُ التُّرَابَ عَلَى
رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أَتَيْتُ
هَذَا الرَّجُلَ عَامًا أَوَّلًا، فَأَفْتَانِي بِهَذَا
الْكِتَابِ، فَأَهْرَقْتُ بِهِ الدِّمَاءَ، وَأَنْكَحْتُ
بِهِ الْفُرُوجَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ الْعَامَ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَدثنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ
عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ
لَهُ: كَيْفَ هَذَا؟
قَالَ: كَانَ رَأْيًا رَأَيْتُهُ، فَرَأَيْتُ الْعَامَ
غَيْرَهُ.
قَالَ: فَتَأْمَنُنِي أَنْ لَا تَرَى مِنْ قَابَلٍ شَيْئًا
آخَرَ؟
قَالَ أَبُو حنيفَة: لَا أَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَكِنِّي أَدْرِي أَنَّ عَلَيْكَ
لَعْنَةَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ:
إِنَّا لَا نَنْقِمُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَأَى؛
كُلُّنَا يَرَى؛ وَلَكِنَّنَا نَنْقِمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
يَجِيئُهُ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
الْأَصْمَعِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ
أَبَا حَنِيفَةَ سُئِلَ عَنْ مُحْرِم لَمْ يَجِدْ
إِزَارًا، فَلَبِسَ سَرَاوِيلَ، فَقَالَ: عَلَيْهِ
الْفِدْيَةُ.
فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ1، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ2، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْمحرم:
__________
1 عَمْرو بن دِينَار بن شُعَيْب الْبَصْرِيّ، أَبُو يحيى
الْأَعْوَر قهرمان آل الزبير، لَيْسَ بِثِقَة "تَهْذِيب
التَّهْذِيب" "8/ 230" "الْخُلَاصَة" 345.
2 جَابر بن زيد الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، أَبُو الشعْثَاء
تَابِعِيّ فَقِيه من الْأَئِمَّة من أهل الْبَصْرَة. أَصله
من عمان صحب ابْن عَبَّاس. وَكَانَ من بحار الْعلم، وَصفه
الشماخي "وَهُوَ من عُلَمَاء الإباضية" بِأَنَّهُ أصل
الْمَذْهَب وأسه الَّذِي قَامَت عَلَيْهِ آطامه ولد 21هـ.
نَفَاهُ الْحجَّاج إِلَى عمان، وَفِي كتاب الزّهْد
للْإِمَام أَحْمد لما مَاتَ جَابر بن زيد قَالَ قَتَادَة:
الْيَوْم مَاتَ أعلم أهل الْعرَاق، توفّي 93هـ.
(1/103)
"إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ
سَرَاوِيلَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ
خُفَّيْنِ" 1.
فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ2 عَنْ
أَبِي عَوَانَةَ3 قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
فَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ سَرَقَ ودِيًّا4 فَقَالَ: عَلَيْهِ
الْقَطْعُ.
فَقُلْتُ لَهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَر"
5.
فَقَالَ: مَا بَلَغَنِي هَذَا.
قُلْتُ لَهُ: فَالرَّجُلُ الَّذِي أَفْتَيْتَهُ، رُدَّه.
قَالَ: دَعْهُ، فَقَدْ جَرَتْ بِهِ الْبِغَالُ الشُّهُبُ.
قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: أَخَافُ أَنْ تَكُونَ إِنَّمَا
جَرَتْ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ6: حَدَّثْتُ أَبَا حَنِيفَةَ
بِحَدِيث عبد الله، فِي الَّذِي
__________
1 أخرجه مُسلم: حج 4 و5، وَالْبُخَارِيّ: لِبَاس 14 و37
وصيد 15 و16، وَأَبُو دَاوُد: مَنَاسِك 31، النَّسَائِيّ:
مَنَاسِك 3.
2 أَبُو عَاصِم: هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد بن الضَّحَّاك بن
مُسلم الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ، الْبَصْرِيّ
الْمَعْرُوف بالنبيل شيخ حفاظ الحَدِيث فِي عصره، لَهُ
جُزْء فِي الحَدِيث، ولد بِمَكَّة 122هـ وتحول إِلَى
الْبَصْرَة وَتُوفِّي بهَا 212هـ.
3 أَبُو عوَانَة: هُوَ الوضاح بن خَالِد الْيَشْكُرِي
بِالْوَلَاءِ الوَاسِطِيّ الْبَزَّاز، من حفاظ الحَدِيث
الثِّقَات من سبي جرجان، كَانَ مَعَ سَعَة علمه شبه أُمِّي
يقْرَأ ويستعين بِمن يكْتب لَهُ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ عَام
179هـ.
4 الودي، بتَشْديد الْيَاء: صغَار النّخل.
5 أخرجه أَبُو دَاوُد: حُدُود 13، وَالتِّرْمِذِيّ: حُدُود
19، وَالنَّسَائِيّ: سَارِق 13، وَابْن ماجة: حُدُود 37،
والدارمي: حُدُود 7، والموطأ: حُدُود 32، وَأحمد: 3/ 63
و4/ 140 و142.
6 عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب الوَاسِطِيّ مُسْند الْعرَاق
فِي عصره، من حفاظ الحَدِيث، كَانَ صَادِقا ورعًا مُوسِرًا
لَهُ صولة، أَصله من وَاسِط ولد عَام 105هـ وَسكن بَغْدَاد
وَمَات بهَا عَام 201هـ.
(1/104)
قَالَ: "مَنْ يَذْبَحُ لِلْقَوْمِ شَاةً
أُزَوِّجُهُ أَوَّلَ بِنْتٍ تُولَدُ لِي" فَفَعَلَ ذَلِك
رجل، فَقَضَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ
وَأَنَّ لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا قَضَاءُ الشَّيْطَانِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَلْهَجَ1
بِذِكْرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وتنقصهم2 والبعث عَلَى
قَبِيحِ أَقَاوِيلِهِمْ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، مِنْ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ الْمَعْرُوفِ
بِابْنِ رَاهَوَيْهِ3.
وَكَانَ يَقُولُ: نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَسُنَنَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَزِمُوا الْقِيَاسَ.
اسْتِدْرَاكَاتُ ابْنِ رَاهَوَيْهِ عَلَى أَصْحَابِ
الرَّأْيِ:
وَكَانَ يُعَدِّدُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ، مِنْهَا
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَامَ جَالِسًا،
وَاسْتَثْقَلَ فِي نَوْمِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
الْوُضُوءُ.
ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أُغْمِيَ
عَلَيْهِ، مُنْتَقَضُ الطَّهَارَةِ، قَالَ: وَلَيْسَ
بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَصْلٌ،
فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ.
وَفِي النَّوْمِ غَيْرُ حَدِيثٍ -مِنْهَا قَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنُ
وِكَاءُ السَّهِ. فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ انْفَتح
الوكاء" 4.
__________
1 وَفِي رِوَايَة: أبهج.
2 وَفِي رِوَايَة: ببغضهم.
3 إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ
الْمَعْرُوفِ بِابْن رَاهَوَيْه، عَالم خُرَاسَان فِي عصره
من سكان مرو ولد عَام 161هـ، وَهُوَ أحد كبار الْحفاظ،
طَاف الْبِلَاد لجمع الحَدِيث وَأخذ عَنهُ الإِمَام أَحْمد
بن حَنْبَل وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم. وَكَانَ إِسْحَاق ثِقَة فِي
الحَدِيث. قَالَ الدَّارمِيّ: سَاد إِسْحَاق أهل الْمشرق
وَالْمغْرب بصدقه. وَقَالَ فِيهِ الْخَطِيب
الْبَغْدَادِيّ: اجْتمع لَهُ الحَدِيث وَالْفِقْه
وَالْحِفْظ والصدق والورع والزهد، ورحل إِلَى الْعرَاق
والحجاز وَالشَّام واليمن وَله تصانيف، استوطن نيسابور
وَتُوفِّي بهَا عَام 238هـ.
4 أخرجه الدَّارمِيّ: وضوء 48، وَقد ورد فِي جَامع
الْأَحَادِيث للسيوطي حَدِيث برقم 23195 "من نَام وَهُوَ
جَالس فَلَا وضوء عَلَيْهِ، فَإِذا وضع جنبه فَعَلَيهِ
الْوضُوء ". وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن
الْكُبْرَى، وَإِسْنَاده حسن/ انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم
4148، وَله شَاهد صَحِيح من حَدِيث عَليّ عِنْد أَحْمد
وَابْن ماجة بِلَفْظ: "الْعين وكاء السه فَمن نَام فليتوطأ
".
(1/105)
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "مَنْ نَامَ
فَلْيَتَوَضَّأْ" 1.
قَالَ: فَأَوْجَبُوا فِي الضَّجْعَةِ الْوُضُوءَ إِذَا
غَلَبَهُ النَّوْمُ، وَأَسْقَطُوهُ عَنِ النَّائِمِ
الْمُسْتَثْقِلِ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا. قَالَ:
وَهَاتَانِ الْحَالَانِ، فِي خَشْيَةِ الْحَدَثِ، أَقْرَبُ
مِنَ الضَّجْعَةِ، فَلَا هُمُ اتَّبَعُوا أَثَرًا، وَلَا
لَزِمُوا قِيَاسًا.
قَالَ: وَقَالُوا مَنْ تَقَهْقَهَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ
أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ
أُخْرَى. قَالَ: فَأَيُّ غَلَطٍ أَبْيَنُ مِنْ غَلَطِ مَن
يَحْتَاطُ لِصَلَاةٍ لَمْ تَحْضُرْ، وَلَا يَحْتَاطُ
لِصَلَاةٍ هُوَ فِيهَا.
قَالَ: وَقَالُوا فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ، وَتَرَكَ جَدَّهُ
أَبَا أُمِّهِ وَبِنْتَ بِنْتِهِ -الْمَالُ لِلْجَدِّ
دُونَ بِنْتِ الْبِنْتِ. وَكَذَلِكَ هُوَ -عِنْدَهُمْ-
مَعَ جَمِيعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
قَالَ: فَأَيُّ خَطَأٍ أَفْحَشُ مِنْ هَذَا، لِأَنَّ
الْجَدَّ يُدْلِي بِالْأُمِّ، فَكَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَى
بِنْتِ الْبِنْتِ، وَهِيَ تُدْلِي بِالْبِنْتِ، إِلَّا
أَنْ يَكُونَ شَبَّهُوا أَبَا الْأُمِّ بِأَبِي الْأَبِ،
إِذِ اتَّفَقَ أَسْمَاؤُهُمَا2.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، وَهُوَ ابْنُ
رَاهَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ3 أَنَّ أَبَا
حَنِيفَةَ قَالَ: مَا بَالُهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ
كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ؟ أَيُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ؟
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ4: إِنْ
كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ إِذَا افْتَتَحَ، فَإِنَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ إِذا خفض وَرفع.
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 79، وَابْن ماجة: طَهَارَة
62، وَأحمد 1/ 111.
2 وَفِي رِوَايَة: أَسمَاؤُهُم.
3 وَكِيع بن الْجراح بن مليح الرُّؤَاسِي حَافظ للْحَدِيث،
ثَبْتٌ، كَانَ مُحدث الْعرَاق فِي عصره ولد بِالْكُوفَةِ
129 هـ وَأَبوهُ نَاظر على بَيت المَال فِيهَا، وتفقه
وَحفظ الحَدِيث واشتهر، وَأَرَادَ الرشيد أَن يوليه قَضَاء
الْكُوفَة فَامْتنعَ ورعًا، وَكَانَ يَصُوم الدَّهْر، لَهُ
كتب مِنْهَا "تَفْسِير الْقُرْآن" توفّي بغيد رَاجعا من
الْحَج 197هـ.
4 عبد الله بن الْمُبَارك، الْحَنْظَلِي وَلَاء، أَبُو عبد
الرَّحْمَن الْمروزِي، أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وشيوخ
الْإِسْلَام كتب عَن أَرْبَعَة آلَاف شيخ، قَالَ فِيهِ
ابْن عُيَيْنَة: ابْن الْمُبَارك عَالم الْمشرق وَالْمغْرب
وَمَا بَينهمَا، وَقد مَلَأت أخباره الرائعة كتب التراجم.
توفّي سنة 181هـ.
(1/106)
قَالَ: هَذَا مَعَ تَحَكُّمِهِ فِي
الدِّينِ، كَقَوْلِهِ: أَقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقَنَا،
وَلَا أَقْطَعُ فِي الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ وَأَقْطَعُ فِي
النَّوْرة، وَلَا أَقْطَعُ فِي الْفَخَّارِ وَالزُّجَاجِ.
فَكَأَنَّ الْفَخَّارَ وَالزُّجَاجَ لَيْسَا مَالًا
وَكَأَنَّ الْآبِنُوسَ لَيْسَ خَشَبًا.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: وَسُئِلَ -يَعْنِي
أَبَا حَنِيفَةَ- عَنِ الشُّرْبِ فِي الْإِنَاءِ
الْمُفَضَّضِ.
فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ
الْخَاتَمِ فِي إِصْبَعِكَ، فَتُدْخِلُ يَدكَ الْمَاءَ،
فَتَشْرَبُهُ1 بِهَا.
وَكَانَ يُعَدِّدُ مِنْ هَذَا، أَشْيَاءَ يَطُولُ
الْكِتَابُ بِهَا.
وَأَعْظَمُ مِنْهَا، مُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوهُ.
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَدِي لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ
عَمْدًا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتَصَّ، وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَالله تبَارك وَتَعَالَى
يَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ
تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} 2.
يُرِيدُ: فَمَنْ عَفَا عَنِ الدَّمِ، فَلْيَتَّبِعْ
بِالدِّيَةِ اتِّبَاعًا بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: يُطَالِبُ
مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، لَا يُرْهِقُ الْمَطْلُوبَ،
وَلْيُؤَدِّ الْمُطَالَبُ الْمَطْلُوبَ، أَدَاءً
بِإِحْسَانٍ، لَا مَطْلَ3 فِيهِ وَلَا دِفَاعَ عَنِ
الْوَقْتِ.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يَعْنِي تَخْفِيفًا عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ
أُلْزِمُوه، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيٍّ إِلَّا أَنْ
يَقْتَصَّ أَو يعْفُو.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: وتشرب بهَا.
2 الْآيَة 178 من سُورَة الْبَقَرَة.
3 المطل: التسويف بالعدة وَالدّين. "الْقَامُوس".
(1/107)
ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {فَمَنِ
اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ: بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ
فَقَتَلَ.
{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم} . قَالُوا: يُقْتَلُ وَلَا
تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَا أُعَافِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ
الدِّيَةِ"1.
وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ لَا
عُذْرَ فِيهِ، وَلَا عُذْرَ فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ.
فَأَمَّا الرَّأْيُ فِي الْفُرُوعِ، فَأَخَفُّ أَمْرًا،
وَإِنْ كَانَ مَخَارِجُ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَمَخَارِجُ
الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ
وَتَقْدِيرِ الْعُقُولِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَدَّثَنِي الزِّيَادِيُّ2 قَالَ:
حَدَّثَنِي عِيسَى3 بْنُ يُونُسَ عَنِ الْأَعْمَشِ4 عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ5، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: قَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كرم الله وَجهه: "مَا كُنْتُ
أَرَى أَنَّ أَعْلَى الْقَدَمِ أَحَقُّ بِالْمَسْحِ مِنْ
بَاطِنِهَا، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى أَعْلَى
قَدَمَيْهِ"6.
وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ زُفَرَ7 بن هُذَيْل يَقُول
__________
1 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 6186، وَفِي
تَخْرِيج الْمشكاة 3479 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة
للألباني برقم 4767 وَأخرجه الطَّيَالِسِيّ عَن جَابر.
2 الزيَادي: عبد الله ابْن أبي إِسْحَاق الزيَادي
الْحَضْرَمِيّ، نحوي من الموَالِي من أهل الْبَصْرَة، ولد
عَام 29هـ فرّع النَّحْو وقاسه وَكَانَ أعلم الْبَصرِيين
بِهِ توفّي عَام 117هـ.
3 عِيسَى بن يُونُس بن عَمْرو السبيعِي الْهَمدَانِي،
أَبُو عَمْرو. مُحدث ثِقَة كثير الْغَزْو للروم، من بَيت
علم وَحَدِيث. ولد بِالْكُوفَةِ وَسكن الْحَدث "بِقرب
بيروت" مرابطًا، وَكَانَ يَغْزُو عَاما ويحج عَاما توفّي
عَام 187هـ.
4 الْأَعْمَش: هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان الْكَاهِلِي
وَلَاء أَبُو مُحَمَّد الْكُوفِي أحد الْأَعْلَام الْحفاظ
والقراء رأى من الصَّحَابَة أنسا قَالَ عَمْرو بن عَليّ:
كَانَ يُسمى الْمُصحف لصدقه، وَكَانَ فصيحًا ثِقَة ثبتًا.
توفّي سنة 148هـ.
5 أَبُو إِسْحَاق: هُوَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ولد فِي
الْكُوفَة وَقدم دمشق ورحل إِلَى بَغْدَاد فَأكْرمه الرشيد
وأجله. كَانَ من الْعلمَاء العاملين، عَاشَ مرابطًا بثغر
المصيصة وَمَات بهَا سنة 188هـ.
6 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 63، والدارمي: وضوء 43،
وَأحمد 1/ 95 و114 و124 و148.
7 زفر بن الْهُذيْل بن قيس الْعَنْبَري، من تَمِيم، أَبُو
الْهُذيْل: فَقِيه كَبِير من أَصْحَاب الإِمَام أبي حنيفَة
أَصله من أَصْبَهَان. أَقَامَ بِالْبَصْرَةِ وَولي قضاءها
ولد عَام 110هـ فِي أَصْبَهَان وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ
عَام 158هـ، وَهُوَ أحد الْعشْرَة الَّذين دوَّنوا الْكتب
جمع بَين الْعلم وَالْعِبَادَة. وَكَانَ من أَصْحَاب
الحَدِيث، غلب عَلَيْهِ الرَّأْي وَهُوَ قِيَاس
الْحَنَفِيَّة، وَكَانَ يَقُول نَحن لَا نَأْخُذ
بِالرَّأْيِ مَا وجد أثر، وَإِذا جَاءَ الْأَثر تركنَا
الرَّأْي.
(1/108)
فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ، بِمَا بَيْنَ
الْعَشَرَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ.
قَالَ: يُعْطِي تِسْعَةً، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ،
وَلَا هَذَا الْعَقْدُ.
كَمَا تَقُولُ: "لَهُ مَا بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ"
فَلَهُ مَا بَيْنَهُمَا، لَيْسَتْ لَهُ
الْأُسْطُوَانَتَانِ.
فَقُلْنَا لَهُ: فَرَجُلٌ مَعَهُ ابْنٌ لَهُ مَحْظُوظٌ
قِيلَ لَهُ: كَمْ لِابْنِكَ؟
قَالَ: مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى اثْنَيْنِ
وَسِتِّينَ، فَهَذَا -فِي قِيَاسِكُمْ- ابْنُ سَنَةٍ.
قَالَ: اسْتُحْسِنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَحَدَّثَنَا عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلْتُ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ1: كَمْ فِي إِصْبَعِ
الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ.
قُلْتُ: فَكَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ
الْإِبِلِ.
قُلْتُ: فَكَمْ فِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ
مِنَ الْإِبِلِ.
قُلْتُ: فَكَمْ فِي أَرْبَعِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: عِشْرُونَ
مِنَ الْإِبِلِ.
قُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جَرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ
مُصِيبَتُهَا، نَقَصَ عَقْلُهَا2؟ قَالَ: هِيَ السُّنَّة
يَا ابْنَ أَخِي.
أَشَدُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَانَ أَشَدُّ أَهْلِ
الْعِرَاقِ، فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، الشَّعْبِيَّ،
وَأَسْهَلُهُمْ فِيهِ، مُجَاهِد3.
__________
1 سعيد بن الْمسيب بن حزن بن أبي وهب المَخْزُومِي
الْقرشِي، سيد التَّابِعين وَأحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة
بِالْمَدِينَةِ جمع بَين الحَدِيث وَالْفِقْه والزهد
والورع، وَكَانَ يعِيش من التِّجَارَة بالزيت ولد عَام
13هـ وَكَانَ أحفظ النَّاس لأحكام عمر بن الْخطاب
وَتُوفِّي عَام 94هـ.
2 عقلهَا: دِيَتهَا.
3 مُجَاهِد: بن جبر، المَخْزُومِي وَلَاء، الْمَكِّيّ
القرئ الْمُفَسّر الْحَافِظ الإِمَام الثِّقَة، كَانَ أحد
أوعية الْعلم توفّي سنة 103هـ، وَقيل إِنَّه كَانَ لَا
يسمع بأعجوبة إِلَّا ذهب لينْظر إِلَيْهَا، عرض الْقُرْآن
على ابْن عَبَّاس وَأخذ عَنهُ.
(1/109)
حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ1 قَالَ:
حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: نَا الْأَعْمَشُ2
عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ،
الرَّأْيُ الْحَسَنُ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن خَالِد مُحَمَّدِ بْنِ خِدَاشٍ
قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: نَا
مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ
-وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ: مَا حَدَّثَكَ
هَؤُلَاءِ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْبَلْهُ، وَمَا خَبَّرُوكَ بِهِ
عَنْ رَأْيِهِمْ، فَارْمِ بِهِ فِي الحُش3.
وَكَانَ يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْقِيَاسَ، فَإِنَّكُمْ
إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ، حَرَّمْتُمُ الْحَلَالَ،
وَأَحْلَلْتُمُ الْحَرَامَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنِي الرِّيَاشِيُّ4 قَالَ: نَا الْأَصْمَعِيُّ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: قِيلَ
لِلشَّعْبِيِّ: إِنَّ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقِيَاسِ،
فَقَالَ: أَيْرٌ5 فِي الْقِيَاسِ.
وَحَدَّثَنِي الرِّيَاشِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ
الْخَطَّابِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ
قَالَ: الْحَدِيثُ ذَكَرٌ، يُحِبُّهُ ذُكُورُ الرِّجَالِ،
وَيَكْرَهُهُ مُؤَنَّثُوهُمْ.
تَنَاقُضَاتٌ فِي الْقِيَاسِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَيْفَ يَطَّرِدُ لَكَ
الْقِيَاسُ فِي فُرُوعٍ، لَا يَتَّفِقُ أُصُولُهَا
وَالْفَرْعُ تَابِعٌ للْأَصْل؟
__________
1 أَبُو الْخطاب: عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح الْمعَافِرِي
الْحِمْيَرِي اليمني، زعيم الإباضية فِي أفريقية، كَانَ
شجاعًا بطلًا حكم إفريقية كلهَا فِي بَدْء سنة 141هـ، وَقد
وَجه إِلَيْهِ الْمَنْصُور خمسين ألفا فَقتل 144هـ.
2 الْأَعْمَش: سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَسدي
بِالْوَلَاءِ، تَابِعِيّ مَشْهُور، أَصله من بِلَاد
الرّيّ، ومنشؤه ووفاته فِي الْكُوفَة، ولد عَام 61هـ
وَكَانَ عَالما بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث والفرائض روى
نَحْو 1300 حَدِيث، قَالَ الذَّهَبِيّ كَانَ رَأْسا فِي
الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح توفّي 148هـ.
3 الحش: المرحاض.
4 الرياشي: هُوَ الْعَبَّاس بن الْفرج بن عَليّ بن عبد
الله الرياشي الْبَصْرِيّ، من الموَالِي، لغَوِيّ وراوية
عَارِف بأيام الْعَرَب، من أهل الْبَصْرَة ولد عَام 177هـ
وَقتل فِيهَا أَيَّام فتْنَة الزنج عَام 257هـ.
5 لَيْسَ من المستحسن نقل زلات الْعلمَاء، وَمثل هَذَا
الْكَلَام لَا يعْتد بِهِ وَالله أعلم بِصِحَّتِهِ.
(1/110)
وَكَيْفَ يَقَعُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ
يُقْطَعَ سَارِقُ عَشْرِ دَرَاهِمَ، وَيُمْسَكَ عَنْ
غَاصِبِ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَيُجْلَدَ قَاذِفُ الْحُرِّ الْفَاجِرِ، وَيُعْفَى عَنْ
قَاذِفِ الْعَبْدِ الْعَفِيفِ؟
وَتُسْتَبْرَأَ أَرْحَامُ الْإِمَاءِ بِحَيْضَةٍ، وَرَحِمُ
الْحُرَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ.
وَيُحَصَّنَ الرَّجُلُ بِالْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ
السَّوْدَاءِ، وَلَا يُحَصَّنَ بِمِائَةِ أَمَةٍ
حَسْنَاءَ؟
وَيُوجَبَ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاء الصَّوْم وَلَا يجب
عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ.
وَيُجْلَدَ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا أَكْثَرُ مِنَ
الْجَلْدِ فِي الْقَذْفِ بِالْكُفْرِ.
وَيُقْطَعَ فِي الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنَ، وَلَا يُقْطَعَ
فِي الزِّنَا بِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةٍ؟
مُخَالَفَاتُ الْجَاحِظِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى الْجَاحِظِ1، وَهُوَ آخِرُ
الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمُعَايِرُ عَلَى
الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَحْسَنُهُمْ لِلْحُجَّةِ
اسْتِثَارَةً، وَأَشَدُّهُمْ تَلَطُّفًا لِتَعْظِيمِ
الصَّغِيرِ، حَتَّى يَعْظُمَ، وَتَصْغِيرِ الْعَظِيمِ
حَتَّى يَصْغُرَ، وَيَبْلُغَ بِهِ الْاقْتِدَارُ إِلَى
أَنْ يَعْمَلَ الشَّيْءَ وَنَقِيضَهُ، وَيَحْتَجَّ
لِفَضْلِ السُّودَانِ عَلَى الْبِيضَانِ.
وَتَجِدُهُ يَحْتَجُّ مَرَّةً لِلْعُثْمَانِيَّةِ عَلَى
الرَّافِضَةِ، وَمَرَّةً لِلزَّيْدِيَّةِ عَلَى
الْعُثْمَانِيَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ.
وَمَرَّةً يُفَضِّلُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَمَرَّةً يُؤَخِّرُهُ، وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُتْبِعُهُ قَالَ:
ابْنُ الْجَمَّازِ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ غَزْوَانَ:
كَذَا وَكَذَا مِنَ الْفَوَاحِشِ.
وَيُجِلُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، عَنْ أَنْ يُذْكَرَ فِي كِتَابٍ ذكرا فِيهِ
فَكَيْفَ فِي وَرَقَةٍ، أَوْ بعد سطر وسطرين؟
__________
1 الجاحظ: عَمْرو بن بَحر بن مَحْبُوب الْكِنَانِي
بِالْوَلَاءِ اللَّيْثِيّ، كَبِير أَئِمَّة الْأَدَب،
وَرَئِيس الْفرْقَة الجاحظية من الْمُعْتَزلَة، ولد فِي
الْبَصْرَة عَام 163هـ فلج آخر عمره وَكَانَ مُشَوه
الْخلقَة، لَهُ مصنفات كَثِيرَة، وَمَات وَالْكتاب على
صَدره عَام 255هـ.
(1/111)
وَيَعْمَلُ كِتَابًا، يَذْكُرُ فِيهِ
حُجَجَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَإِذَا صَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَجَوَّزَ1 فِي
الْحُجَّةِ، كَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ تَنْبِيهَهُمْ
عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ، وَتَشْكِيكَ الضَّعَفَةِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ.
وَتَجِدُهُ يَقْصِدُ فِي كتبه للمضاحيك2 وَالْعَبَثَ،
يُرِيدُ بِذَلِكَ، اسْتِمَالَةَ الْأَحْدَاثِ، وشُرَّاب
النَّبِيذِ.
وَيَسْتَهْزِئُ مِنَ الْحَدِيثِ اسْتِهْزَاءً، لَا يَخْفَى
عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ.
كَذِكْرِهِ كَبِدَ الْحُوتِ، وَقَرْنَ الشَّيْطَانِ،
وَذِكْرِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَأَنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ
فَسَوَّدَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ
يُبَيِّضَهُ الْمُسْلِمُونَ حِينَ أَسْلَمُوا.
وَيَذْكُرُ الصَّحِيفَةَ -الَّتِي كَانَ فِيهَا المُنْزَلُ
فِي الرَّضَاعِ- تَحْتَ سَرِيرِ عَائِشَةَ فَأَكَلَتْهَا
الشَّاةُ.
وَأَشْيَاءَ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي
تَنَادُمِ الدِّيكِ وَالْغُرَابِ، وَدَفْنِ الْهُدْهُدِ
أُمَّهُ فِي رَأْسِهِ، وَتَسْبِيحِ الضُّفْدَعِ، وَطَوْقِ
الْحَمَامَةِ، وَأَشْبَاهَ هَذَا، مِمَّا سَنَذْكُرُهُ
فِيمَا بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَهُوَ -مَعَ هَذَا- مِنْ أَكْذَبِ الْأُمَّةِ
وَأَوْضَعِهِمْ لِحَدِيثٍ، وَأَنْصَرِهِمْ لِبَاطِلٍ.
وَمَنْ عَلِمَ -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ
عَمَلِهِ، قَلَّ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ.
وَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَمَّا أَلَّفَ،
وَعَمَّا كَتَبَ، لَمْ يَعْمَلِ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ،
وَلَمْ يَسْتَفْرِغْ مَجْهُودَهُ فِي تَثْبِيتِ الْبَاطِلِ
عِنْدَهُ، وَأَنْشَدَنِي الرِّيَاشَيُّ:
وَلَا تَكْتُبْ بِخَطِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ ... يَسُرُّكَ فِي
الْقِيَامَةِ3 أَنْ تَرَاهُ
مِنْ آرَاءِ أَصْحَابِ الْكَلَامِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ
الْكَلَامِ، مَنْ يَرَى الْخَمْرَ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ،
وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا، عَلَى
جِهَةِ التَّأْدِيب، كَمَا قَالَ:
__________
1 وَفِي نُسْخَة: تخوَّن.
2 وَفِي رِوَايَة: للمضاحيك.
3 وَفِي نُسْخَة فِي "العواقب".
(1/112)
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 1.
وَكَمَا قَالَ: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ} 2.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى نِكَاحَ تِسْعٍ مِنَ الْحَرَائِرِ
جَائِزٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}
3.
قَالُوا: فَهَذَا تِسْعٌ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَلَمْ يُطْلِقِ اللَّهُ
لِرَسُولِهِ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا مَا أَطْلَقَ لَنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ
حَلَالًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ
لَحْمَهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 4 فَلَمْ
يُحَرِّمْ شَيْئًا غَيْرَ لَحْمِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا
يَعْلَمُ شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ، وَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا
حَتَّى يَتَحَرَّى.
فَبِمَنْ يُتَعَلَّقُ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ وَمَنْ يُتَّبَعُ
وَهَذِهِ نِحَلُهُمْ؟ وَهَكَذَا اخْتِلَافُهُمْ؟.
وَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي تَخَلُّصِ الْحَقِّ مِنْ
بَيْنِهِمْ؟ وَهُمْ -مَعَ تَطَاوُلِ الْأَيَّامِ بِهِمْ،
وَمَرِّ الدُّهُورِ- عَلَى الْمُقَايَسَاتِ
وَالْمُنَاظَرَاتِ؟ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا اخْتِلَافًا،
وَمِنَ الْحَقِّ إِلَّا بُعدًا؟
وَكَانَ أيو يُوسُفَ يَقُولُ: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ
بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ
بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ
الْحَدِيثِ كُذِّبَ.
رِوَايَاتٌ لِابْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ كُنْتُ فِي عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ وَتَطَلُّبِ
الْآدَابِ، أُحِبُّ أَنْ أَتَعَلَّقَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ
بِسَبَبٍ، وَأَن أضْرب فِيهِ بِسَهْم.
__________
1 الْآيَة 29 من سُورَة الْإِسْرَاء.
2 الْآيَة 34 من سُورَة النِّسَاء.
3 الْآيَة 3 من سُورَة النِّسَاء.
4 الْآيَة 3 من سُورَة الْمَائِدَة.
(1/113)
فَرُبَّمَا حَضَرْتُ بَعْضَ مَجَالِسِهِمْ،
وَأَنَا مُغْتَرٌّ بِهِمْ طَامِعٌ أَنْ أَصْدُرَ عَنْهُ
بِفَائِدَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى خَيْرٍ، أَوْ
تَهْدِي لِرُشْدٍ.
فَأَرَى مِنْ جُرْأَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى، وَقِلَّةِ تُوَقِّيهِمْ، وَحَمْلِهِمْ
أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْعَظَائِمِ لِطَرْدِ1 الْقِيَاسِ
أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ انْقِطَاعٌ -مَا أَرْجِعُ مَعَهُ
خَاسِرًا نَادِمًا.
وَقَدْ ذَكَرَهُمْ مُحَمَّدُ2 بْنُ بَشِيرٍ الشَّاعِرُ،
وَقَدْ أَصَابَ فِي وَصْفِهِمْ، حِينَ يَقُولُ:
دَعْ مَنْ يَقُولُ3 الْكَلَامَ نَاحِيَةً ... فَمَا
يَقُولُ الْكَلَامَ ذُو وَرَعِ
كُلُّ فَرِيقٍ بَدْوُهُمْ حَسَنٌ ... ثُمَّ يَصِيرُونَ
بَعْدُ لِلشُّنَعِ
أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ ... لَمْ يَكْ فِي
قَوْلِهِ بِمُنْقَطِعِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ4 بْنُ مُصْعَبٍ:
ترى الْمَرْء بعجبه أَنْ يَقُولَا ... وَأَسْلَمُ
لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَقُولَا
فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ فُضُولَ الْكَلَامِ ... فَإِنَّ
لِكُلِّ كَلَامٍ فُضُولًا
وَلَا تَصْحَبَنَّ أَخَا بِدْعَةٍ ... وَلَا تَسْمَعَنَّ
لَهُ الدَّهْرَ قِيلًا
فَإِنَّ مَقَالَتَهُمْ كَالظِّلَالِ ... يُوشِكُ
أَفْيَاؤُهَا أَنْ تَزُولَا
وَقَدْ أَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ ... وَكَانَ الرَّسُولُ
عَلَيْهَا دَلِيلًا
وَأَوْضَحَ لِلْمُسْلِمِينَ السَّبِيلَ ... فَلَا
تَتْبَعَنَّ5 سِوَاهَا سَبِيلا
__________
1 لَعَلَّ الْأَصَح: لاطراد الْقيَاس.
2 مُحَمَّد بن بشير "الشَّاعِر": هُوَ قَاض أندلسي من أهل
باجة كَانَ كَاتبا لأحد الوزراء وَحج وَلَقي مَالك بن أنس
وَلما عَاد إِلَى الأندلس أصبح قَاضِيا وَبَقِي كَذَلِك
إِلَى وَفَاته عَام 198هـ.
3 وَفِي نُسْخَة "يَقُود" فِي الموضوعين.
4 عبد الله بن مُصعب بن ثَابت بن عبد الله بن الزبير ولد
بِالْمَدِينَةِ عَام 111هـ، وَولي الْيَمَامَة أَيَّام
الْمهْدي العباسي ثمَّ الْهَادِي وَاعْتَزل بِبَغْدَاد
فألزمه الرشيد بِولَايَة الْمَدِينَة ثمَّ أضيف إِلَيْهَا
الْيمن، توفّي بالرقة عَام 184هـ.
5 وَفِي نُسْخَة: "تبغينّ".
(1/114)
أنَاس بِهِمْ رِيبَةٌ فِي الصُّدُورِ ...
وَيُخْفُونَ فِي الْجَوْفِ مِنْهَا غَلِيلًا
إِذَا أَحْدَثُوا بِدْعَةً فِي الْقُرْآنِ ... تَعَادَوْا1
عَلَيْهَا فَكَانُوا عُدُولًا
فخلِّهم وَالَّتِي يَهْضِبُونَ2 ... وَوَلِّهِمْ مِنْكَ
صَمْتًا طَوِيلًا
حَيْرَتُهُمْ وَعَدَمُ اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَى رَأْيٍ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ بِقَوْلِ عُمَرَ3 بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ
غَرَضًا4 لِلْخُصُومَاتِ، أَكْثَرَ التَّنَقُّلِ".
وَكُنْتُ أَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَقَّ
يُدْرَكُ بِالْمُقَايَسَاتِ وَالنَّظَرِ، وَيَلْزَمُ مَنْ
لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ أَنْ يَنْقَادَ لَهَا. ثُمَّ
رَأَيْتُهُمْ، فِي طُولِ تَنَاظُرِهِمْ، وَإِلْزَامِ
بَعْضِهِمْ بَعْضًا الْحُجَّةَ، فِي كُلِّ مَجْلِسٍ
مَرَّاتٍ، لَا يَزُولُونَ عَنْهَا، وَلَا يَنْتَقِلُونَ.
وَسَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ
رَجُلًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي
عَنِ الْعَالَمِ، هَلْ لَهُ نِهَايَةٌ وَحَدٌّ؟
فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: النِّهَايَةُ -عِنْدِي- عَلَى
ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا نِهَايَةُ الزَّمَانِ، مِنْ وَقْتِ
كَذَا إِلَى وَقْتِ كَذَا، وَالْآخَرُ نِهَايَةُ
الْأَطْرَافِ وَالْجَوَانِبِ، وَهُوَ مُتَنَاهٍ
بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَأَخْبِرْنِي عَنَ الصَّانِع عز وَجل،
هَل مُتَنَاهٍ؟
فَقَالَ: مُحَالٌ.
قَالَ: فَتَزْعُمُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ
الْمُتَنَاهِي، مَنْ لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ؟
فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ
الشَّيْءَ، مَنْ لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَمَا جَازَ أَنْ
يَخْلُقَ الْمُتَنَاهِي من لَيْسَ بمتناه؟
__________
1 وَفِي نُسْخَة: تغاذوا.
2 يهضبون: من هضب بِالْحَدِيثِ: إِذا أَفَاضَ فِيهِ.
الْقَامُوس.
3 عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان أَمِير الْمُؤمنِينَ،
وخامس الْخُلَفَاء الرَّاشِدين. الْعَالم الْحَافِظ
الزَّاهِد الْوَرع الْعَادِل، فضائله كَثِيرَة ولي
الْخلَافَة سنة 99 وَمَات سنة 101هـ.
4 أَي: هدفًا.
(1/115)
قَالَ: لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هُوَ
عَدَمٌ وَإِبْطَالٌ.
قَالَ لَهُ: وَمَا لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ، عَدَمٌ
وَإِبْطَالٌ.
قَالَ: "لَا شَيْءَ" هُوَ نَفْيٌ.
قَالَ لَهُ: وَمَا لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ نَفْيٌ.
قَالَ: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ
إِلَّا جَهْمًا وَأَصْحَابُهُ.
قَالَ: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّهُ مُتَنَاهٍ.
قَالَ: وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ مُتَنَاهٍ، مُحْدَثًا
مَصْنُوعًا عَاجِزًا؟
قَالَ: وَوَجَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ مُحْدَثًا مصنوعا عَاجِزا.
لَمَّا أَنْ وَجَدْتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَصْنُوعَةً،
عَلِمْتَ أَنَّ صَانِعَهَا شَيْءٌ؟
قَالَ: وَلَمَّا أَنْ وَجَدْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ
مُتَنَاهِيَةً، عَلِمْتُ أَنَّ صَانِعَهَا مُتَنَاهٍ.
قَالَ: لَوْ كَانَ مُتَنَاهِيًا، كَانَ مُحْدَثًا، إِذْ
وَجَدْتُ كُلَّ مُتَنَاهٍ مُحْدَثًا.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ شَيْئًا، كَانَ مُحْدَثًا عَاجِزًا،
إِذْ وَجَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ مُحْدَثًا عَاجِزًا وَإِلَّا
فَمَا الْفَرْقُ؟ فَأَمْسَكَ.
قَالَ: وَسَأَلَ آخرُ آخرَ عَنِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ:
أَتَقُولُ إِنَّ سَمِيعًا فِي مَعْنَى عَلِيمٍ؟ قَالَ:
نَعَمْ.
قَالَ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} 1 هَلْ سَمِعَهُ2 حِينَ قَالُوهُ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَهَلْ سَمِعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا؟ قَالَ:
لَا.
قَالَ: فَهَلْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ.
قَالَ لَهُ: فَأَرَى فِي "سَمِيعٍ" مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى
"عليم" فَلم يجب.
__________
1 الْآيَة 181 من سُورَة آل عمرَان.
2 وَفِي نُسْخَة: سمعهم.
(1/116)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
قُلْتُ لَهُ وَلِلْأَوَّلِ: قَدْ لَزِمَتْكُمَا
الْحُجَّةُ، فَلِمَ لَا تَنْتَقِلَانِ عَمَّا
تَعْتَقِدَانِ إِلَى مَا أَلْزَمَتْكُمَاهُ الْحُجَّةُ.
فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ،
لَانْتَقَلْنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ، وَكَفَى
بِذَلِكَ حَيْرَةً.
قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ إِنَّمَا يُعْرَفُ
بِالْقِيَاسِ وَالْحُجَّةِ، وَكُنْتَ لَا تَنْقَادُ
لَهُمَا بِالِاتِّبَاعِ، كَمَا تَنْقَادُ بِالْانْقِطَاعِ،
فَمَا تَصْنَعُ بِهِمَا؟ التَّقْلِيدُ أَرْبَحُ لَكَ
وَالْمُقَامُ عَلَى أَثَرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْلَى بِكَ.
اخْتِلَافُهُمْ فِي ثُبُوتِ الْخَبَرِ:
قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخَبَرِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: يَثْبُتُ الْخَبَرُ بِالْوَاحِدِ1 الصَّادِقِ.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِاثْنَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ بِإِشْهَادِ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} 2.
قَالُوا: وَأَقَلُّ مَا تكون الطَّائِفَة، ثَلَاثَة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد:
وَغَلِطُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ
تَكُونُ وَاحِدًا، وَاثْنَيْنِ، وَثَلَاثَةً، وَأَكْثَرَ،
لِأَنَّ الطَّائِفَةَ، بِمَعْنَى الْقِطْعَةِ،
وَالْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ قِطْعَةً مِنَ الْقَوْمِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3 يُرِيدُ الْوَاحِدَ
وَالِاثْنَيْنِ.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِأَرْبَعَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ} 4.
__________
1 أَي بِرِوَايَة الْوَاحِد.
2 الْآيَة 122 من سُورَة التَّوْبَة.
3 الْآيَة 2 من سُورَة النُّور.
4 الْآيَة 13 من سُورَة النُّور.
(1/117)
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِاثْنَيْ عَشَرَ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيبًا} 1.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِعِشْرِينَ رَجُلًا، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 2.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِسَبْعِينَ رَجُلًا، لِقَوْلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ
سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} 3.
فَجَعَلُوا كُلَّ عَدَدٍ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ، حُجَّةً
فِي صِحَّةِ الْخَبَرِ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْخَبَرَ لَا يَثْبُتُ
إِلَّا بِثَمَانِيَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَهُمُ الْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ
ذَلِكَ الزَّمَانِ {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} 4
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا ثَمَانِيَةً، حَتَّى يَكُونَ
الْكَلْبُ ثَامِنَهُمْ أَوْ قَالَ: لَا يَثْبُتُ الْخَبَرُ
إِلَّا بِتِسْعَةَ عَشَرَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي
خَزَنَةِ جَهَنَّمَ -حِينَ ذَكَرَهَا- فَقَالَ: {عَلَيْهَا
تِسْعَةَ عَشَر} 5 لَكَانَ أَيْضًا قَوْلًا وَعَدَدًا
مُسْتَخْرَجًا مِنَ الْقُرْآنِ.
وَهَذِهِ الْاخْتِيَارَاتُ، إِنَّمَا اخْتَلَفَتْ هَذَا
الِاخْتِلَافَ، لِاخْتِلَافِ عُقُولِ النَّاسِ، وَكُلٌّ
يَخْتَارُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ.
وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا
أَرْسَلَ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً رَسُولًا وَاحِدًا
وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ، وَأَنَّهُ
لَمْ يُرْسِلِ اثْنَيْنِ وَلَا أَرْبَعَةً، وَلَا
عِشْرِينَ وَلَا سَبْعِينَ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ،
لَدَلَّهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّادِقَ الْعَدْلَ،
صَادِقُ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ
الْمُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى صَادِقُ الْخَبَرِ،
وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُنَا لِهَذَا الْبَابِ، فَنُطِيلُ
فِيهِ.
__________
1 الْآيَة 12 من سُورَة الْمَائِدَة.
2 الْآيَة 65 من سُورَة الْأَنْفَال.
3 الْآيَة 155 من سُورَة الْأَعْرَاف.
4 الْآيَة 22 من سُورَة الْكَهْف.
5 الْآيَة 29 من سُورَة المدثر.
(1/118)
تَفْسِيرُهُمُ الْقُرْآنَ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَفَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَعْجَبِ تَفْسِيرٍ، يُرِيدُونَ
أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَيَحْمِلُوا
التَّأْوِيلَ عَلَى نِحَلِهِمْ.
فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 1 أَيْ عِلْمُهُ،
وَجَاءُوا عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ لَا يُعْرَفُ، وَهُوَ
قَوْلُ الشَّاعِرِ.
وَلَا يُكَرْسِئُ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ
كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ عِلْمَ اللَّهِ
مَخْلُوق.
والكرسي غير مَهْمُوز، و"يكرسئ" مَهْمُوزٌ،
يَسْتَوْحِشُونَ أَنْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ تَعَالَى
كُرْسِيًّا، أَوْ سَرِيرًا، وَيَجْعَلُونَ الْعَرْشَ
شَيْئًا آخَرَ.
وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ الْعَرْشَ إِلَّا السَّرِيرَ،
وَمَا عُرِشَ مِنَ السُّقُوفِ وَالْآبَارِ، يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}
2 أَيْ: عَلَى السَّرِيرِ.
وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ3 يَقُولُ:
مَجِّدُوا اللَّهَ وَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا
فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا
بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ ...
وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا
شَرْجَعًا4 مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ ... تَرَى
دُونَهُ الْمَلَائِكَ صُوَرًا5
وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} 6، إِنَّهَا
هَمَّتْ بِالْفَاحِشَةِ، وَهَمَّ هُوَ بِالْفِرَارِ
مِنْهَا أَوِ الضَّرْبِ لَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى
__________
1 الْآيَة 255 من سُورَة الْبَقَرَة.
2 الْآيَة 100 من سُورَة يُوسُف.
3 أُميَّة بن أبي الصَّلْت شَاعِر جاهلي حَكِيم من أهل
الطَّائِف، رغب بِالْإِسْلَامِ وَأثْنى على رَسُول الله
وَلكنه لم يسلم لما علم بمقتل أهل بدر وَفِيهِمْ ابْنا
خَال لَهُ.. وَتُوفِّي عَام 5هـ.
4 شرجعًا: أَي طَويلا.
5 صورًا: جَمْعُ أَصُورٍ، وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ.
6 الْآيَة 24 من سُورَة يُوسُف.
(1/119)
يَقُول: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ
رَبِّهِ} 1 أَفَتُرَاهُ أَرَادَ الْفِرَارَ مِنْهَا أَوِ
الضَّرْبَ لَهَا، فَلَمَّا رَأَى الْبُرْهَانَ أَقَامَ
عِنْدَهَا!.
وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ تَقُولَ: "هَمَمْتُ
بِفُلَانٍ، وَهَمَّ بِي" وَأَنْتَ تُرِيدُ اخْتِلَافَ
الْهَمَّيْنِ حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تَهُمُّ
بِإِهَانَتِهِ، وَيَهُمُّ هُوَ بِإِكْرَامِكَ، وَإِنَّمَا
يَجُوزُ هَذَا الْكَلَامُ إِذَا اتَّفَقَ الْهَمَّانِ.
وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؛ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} 2 إِنَّهُ أُتْخِمَ مِنْ
أَكْلِ الشَّجَرَةِ.
فَذَهَبُوا إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: "غَوَى الْفَصِيلُ
يغوَى غَوًى" إِذَا أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ،
حَتَّى يَبْشَمَ، وَذَلِكَ "غَوَى يَغْوِي غَيًّا".
وَهُوَ مِنَ الْبَشَمِ "غَوِيَ يغوَى غَوًى".
وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؛ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ
وَالْأِنْسِ} 3 أَيْ أَلْقَيْنَا فِيهَا. يَذْهَبُ إِلَى
قَوْلِ النَّاسِ "ذَرَتْهُ الرِّيحُ".
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَرَأْنَا مِنْ "ذَرَتْهُ
الرِّيحُ" لِأَنَّ "ذَرَأْنَا" مَهْمُوز، و"ذرته الرِّيحُ
تَذْرُوهُ" غَيْرُ مَهْمُوزٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ نَجْعَلَهُ مِنْ "أَذْرَتْهُ
الدَّابَّةُ عَنْ ظَهْرِهَا" أَيْ "أَلْقَتْهُ" لِأَنَّ
ذَلِكَ مِنْ "ذَرَأَتْ" تَقْدِيرُ "فَعَلَتْ" بِالْهَمْزِ،
وَهَذَا مِنْ "أَذْرَيْتُ" تَقْدِيرُ "أَفْعَلْتُ" بِلَا
هَمْزٍ.
وَاحْتج بقول المثقب4 الْعَبْدي:
__________
1 الْآيَة 24 من سُورَة يُوسُف.
2 الْآيَة 121 من سُورَة طه.
3 الْآيَة 179 من سُورَة الْأَعْرَاف.
4 المثقب الْعَبْدي "شَاعِر" هُوَ العائذ بن مُحصن بن
ثَعْلَبَة شَاعِر جاهلي من أهل الْبَحْرين اتَّصل
بِالْملكِ عَمْرو بن هِنْد وَله فِيهِ مدائح، ومدح
النُّعْمَان بن الْمُنْذر، وشعره جيد فِيهِ حِكْمَة ورقة
توفّي 35ق. هـ.
(1/120)
تَقولُ إِذا دَرَأتُ لَها وَضيني1 ...
أَهَذا دِينُهُ2 أَبَداً وَديني
وَهَذَا تَصْحِيفٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: تَقُولُ: "إِذَا
دَرَأْتُ" أَيْ "دَفَعْتُ" بِالدَّالِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ.
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَا النُّونِ
إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ
عَلَيْهِ} 3 أَنَّهُ4 ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ
اسْتِيحَاشًا مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهُ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ،
مَعَ عِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ.
فَجَعَلُوهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، حِينَ آمَنُوا،
فَفَرُّوا إِلَى مِثْلِ مَا اسْتَقْبَحُوا.
وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَغْضَبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمِهِ حِينَ آمَنُوا؟
وَبِذَلِكَ بُعِثَ، وَبِهِ أُمِرَ؟!
وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّ اللَّهِ، إِنْ
كَانَ يَغْضَبُ مِنْ إِيْمَانِ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، وَلَا
لِقَوْمِهِ؟ وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِي الْمُؤَلَّفِ
فِي "مُشْكَلِ الْقُرْآنِ".
وَلَمْ يَكُنْ قَصْدِي فِي هَذَا الْكِتَابِ، الْإِخْبَارُ
عَنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَأَشْبَاهِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ
الْقَصْدُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ جَهْلِهِمْ
وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِصَرْفِ
الْكِتَابِ إِلَى مَا يَسْتَحْسِنُونَ، وَحَمْلِ
التَّأْوِيلِ عَلَى مَا يَنْتَحِلُونَ.
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 5 أَيْ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِهِ.
وَجَعَلُوا مِنَ "الْخَلَّةِ" بِفَتْحِ الْخَاءِ،
اسْتِيحَاشًا مِنْ أَنْ يكون الله تَعَالَى
__________
1 الْوَضِين: بطان عريض منسوج من سيور أَو شعر.
2 دينه: أَي عَادَته.
3 الْآيَة 87 من سُورَة الْأَنْبِيَاء.
4 وَفِي نُسْخَة: أَي.
5 الْآيَة 125 من سُورَة النِّسَاء.
(1/121)
خَلِيلًا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ زُهَيْرٍ1.
وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لَا
غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمَ
أَيْ إِنْ أَتَاهُ فَقِيرٌ؛ فَأَيَّةُ فَضِيلَةٍ فِي هَذَا
الْقَوْلِ، لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟
أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا، فُقَرَاءٌ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟
وَهَلْ إِبْرَاهِيمُ فِي "خَلِيلِ اللَّهِ" إِلَّا كَمَا
قِيلَ "مُوسَى كِلِيمُ الله".
و"عِيسَى رَوْحُ اللَّهِ "؟
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} 2 إِن الْيَد، هَهُنَا
النِّعْمَةُ؛ لِقَوْلِ الْعَرَبِ "لِي عِنْدَ فُلَانٍ
يَدٌ" أَيْ نِعْمَةٌ وَمَعْرُوفٌ.
وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ، هَهُنَا
النِّعْمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} 3
مُعَارَضَةً عَمَّا قَالُوهُ فِيهَا4 ثُمَّ قَالَ: {بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 5.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ "غُلَّتْ نِعَمُهُمْ،
بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" لِأَنَّ النِّعَمَ لَا
تُغَلُّ، وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ لَا يُكَنَّى عَنْهُ
بِالْيَدَيْنِ، كَمَا يُكَنَّى عَنْهُ بِالْيَدِ، إِلَّا
أَنْ يُرِيدَ جِنْسَيْنِ مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَيَقُولَ:
لِي عِنْدَهُ يَدَانِ.
وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ
بِهَا.
تَفْسِيرُ الرَّوَافِضِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا
التَّفْسِيرِ تَفْسِيرُ الرَّوَافِضِ لِلْقُرْآنِ، وَمَا
__________
1 زُهَيْر: أَي زُهَيْر بن أبي سلمى الْمُزنِيّ من قصيدة
لَهُ يمدح فِيهَا هرم بن سِنَان المري.
ومطلعها:
قف بالديار الَّتِي لم يعفها الْقدَم ... بلَى وَغَيرهَا
الْأَرْوَاح والديم
2 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة.
3 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة.
4 أَي: فِي يَد الله، وَفِي نُسْخَة "فِيهِ" أَي "فِي
الله".
5 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة.
(1/122)
يَدعُونَهُ مِنْ عِلْمِ بَاطِنِهِ بِمَا
وَقَعَ إِلَيْهِمْ1 مِنَ الْجَفْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ
هَارُونُ2 بْنُ سَعْدٍ الْعِجْلِيُّ وَكَانَ رَأْسَ
الزَّيْدِيَّةِ فَقَالَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الرَّافِضِينَ تَفَرَّقُوا ...
فَكُلُّهُمْ فِي جَعْفَرٍ قَالَ مُنْكَرًا
فَطَائِفَةٌ قَالُوا إِمَامٌ وَمِنْهُمْ ... طَوَائِفُ
سَمَّتْهُ النَّبِيَّ الْمُطَهَّرَا
وَمِنْ عَجَبٍ لَمْ أَقْضِهِ جِلْدُ جَفْرِهِمْ ...
بَرِئْتُ إِلَى الرَّحْمَنِ مِمَّنْ تَجَفَّرَا
بَرِئْتُ إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ كُلِّ رَافِضٍ ...
بَصِيرٍ بِبَابِ الْكُفْرِ فِي الدِّينِ أَعَوَرَا
إِذَا كَفَّ أَهْلُ الْحَقِّ عَنْ بِدْعَةٍ مَضَى ...
عَلَيْهَا وَإِنْ يَمْضُوا عَلَى الْحَقِّ قَصَّرَا
وَلَوْ قَالَ إِنَّ الْفِيلَ ضَبٌّ لَصَدَّقُوا ... وَلَوْ
قَالَ زِنْجِيٌّ تَحَوَّلَ أَحَمَرَا
وَأَخْلَفَ مِنْ بَوْلِ الْبَعِيرِ فَإِنَّهُ ... إِذَا
هُوَ لِلْإِقْبَالِ وُجِّهَ أَدْبَرَا
فَقُبِّحَ أَقْوَامٌ رَمَوْهُ بِفِرْيَةٍ ... كَمَا قَالَ
فِي عِيسَى الْفِرَى مَنْ تَنَصَّرَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهُوَ جِلْدُ جَفْرٍ، ادَّعُوا أَنَّهُ كَتَبَ فِيهِ
لَهُمُ الْإِمَامُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِهِ،
وَكُلَّ مَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3 أَنَّهُ
الْإِمَامُ، وَوَرِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِلْمَهُ.
وَقَوْلُهُمْ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 4
أَنَّهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِهَا} 5 أَنه طَلْحَة وَالزُّبَيْر.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: عَن.
2 هَارُونُ بْنُ سَعْدٍ الْعِجْلِيُّ: وَكَانَ رَأس
الزيدية فِي أَيَّامه. من المتزهدين الْعلمَاء
بِالْحَدِيثِ لَهُ شعر، خرج وَهُوَ شيخ كَبِير مَعَ
إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْحسن الطَّالِبِيُّ، فولاه
إِبْرَاهِيم الْقِتَال بواسط وَاسْتَعْملهُ عَلَيْهَا،
وَاجْتمعَ عَلَيْهِ خلق كثير وَقَاتل جيوش الْمَنْصُور
وَثَبت إِلَى أَن توفّي بِالْبَصْرَةِ عَام 145هـ.
3 الْآيَة 16 من سُورَة النَّحْل.
4 الْآيَة 67 من سُورَة الْبَقَرَة.
5 الْآيَة 73 من سُورَة الْبَقَرَة.
(1/123)
وَقَوْلهمْ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ:
إِنَّهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا.
وَالْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ: إِنَّهُمَا مُعَاوِيَةُ1
وَعَمْرُو2 بْنُ الْعَاصِ، مَعَ عَجَائِبَ أَرْغَبُ3 عَنْ
ذِكْرِهَا، وَيَرْغَبُ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابُنَا هَذَا
عَنِ اسْتِمَاعِهِ.
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ يَقُولُ: مَا أَشْبَهُ
تَفْسِيرِ الرَّافِضَةِ لِلْقُرْآنِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ
رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِلشِّعْرِ، فَإِنَّهُ قَالَ
ذَاتَ يَوْمٍ: مَا سَمِعْتُ بِأَكْذَبَ مِنْ بَنِي
تَمِيمٍ، زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ:
بَيْتُ زُرَارَةَ مُحْتَبٍ بِفِنَائِهِ ... وَمُجَاشِعٌ
وَأَبُو الْفَوَارِسِ نَهْشَلُ
أَنَّهُ فِي رِجَالٍ مِنْهُمْ، قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ
أَنْتَ فِيهِمْ4! قَالَ: الْبَيْتُ بَيْتُ اللَّهِ،
وَزُرَارَةُ: الْحَجَرُ. قِيلَ: فَمُجَاشِعُ؟ قَالَ:
زَمْزَمُ، جَشِعَتْ بِالْمَاءِ.
قِيلَ: فَأَبُو الْفَوَارِسِ؟ قَالَ: أَبُو قُبَيْسٍ.
قِيلَ لَهُ: فَنَهْشَلُ؟ قَالَ: نَهْشَلُ أَشَدُّهُ،
وَفَكَّرَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: نَهْشَلُ مِصْبَاحُ
الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ طَوِيلٌ أَسْوَدُ، فَذَلِكَ
نَهْشَلُ.
وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبِدَعِ افْتِرَاقًا وَنِحَلًا.
بَعْضُ تَفَاسِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ:
فَمِنْهُمْ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ "الْبَيَانِيَّةُ"
يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ "بَيَانٌ" قَالَ
لَهُمْ: إِلَيَّ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ قَالَ:
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ} 5 وَهُمْ أول من قَالَ بِخلق الْقُرْآن.
__________
1 مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، أسلم زمن الْفَتْح، ولي
الشَّام عشْرين سنة وَملك عشْرين سنة، وَكَانَ حَلِيمًا
كَرِيمًا عَاقِلا حسن السياسة، وَكَانَ ذَا دهاء ورأي،
توفّي فِي رَجَب سنة 60هـ.
2 عَمْرو بن الْعَاصِ: ولد عَام 50ق. هـ. فاتح مصر وَأحد
عُظَمَاء الْعَرَب ودهاتهم وأولي الرَّأْي والحزم والمكيدة
فيهم، كَانَ من أُمَرَاء الجيوش فِي الْجِهَاد بِالشَّام
فِي زمن عمر، وَولي زمن مُعَاوِيَة على مصر. وَتُوفِّي
بِالْقَاهِرَةِ 43هـ.
3 وَفِي نُسْخَة: ترغب.
4 وَلَعَلَّ الصَّوَاب "فِيهِ".
5 الْآيَة 138 من سُورَة آل عمرَان.
(1/124)
وَمِنْهُم الْمَنْصُورِيَّةُ 1
أَصْحَابُ أَبِي مَنْصُورٍ الْكِسَفِ وَكَانَ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ: فيَّ نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} 2.
وَمِنْهُمُ الْخَنَّاقُونَ وَالشَّدَاخُونَ:
وَمِنْهُمُ الْغُرَابِيَّةُ:
وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرُوا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَانَ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ.
فَغَلِطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ بُعِثَ
إِلَى عَلِيٍّ لِشَبَهِهِ بِهِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ
أَحَدًا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ لِبِشْرٍ غَيْرَهُمْ.
فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ3 ادَّعَى
الرُّبُوبِيَّةَ لَعَلِيٍّ، فَأَحْرَقَ عَلِيٌّ
أَصْحَابَهُ بِالنَّارِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا
أَجَجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ فَنْبَرَا
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ
غَيْرَهُمْ.
فَإِن الْمُخْتَار4 ابْن أَبِي عُبَيْدٍ، ادَّعَى
النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ وَقَالَ: إِن جِبْرِيل5
__________
1 أَصْحَاب أبي مَنْصُور الْعجلِيّ، وَقد زعم هَذَا أَنَّ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الكسف السَّاقِط من
السَّمَاء، وَرُبمَا قَالَ هُوَ الله تَعَالَى، وَزعم أَن
الرُّسُل لَا تَنْقَطِع، وَزعم أَن الْجنَّة رجل أمرنَا
الله تَعَالَى بموالاته، وَالنَّار رجل أمرنَا بمعاداته
وَتَأَول الْفَرَائِض بِرِجَال أمرنَا بِمُوَالَاتِهِمْ
... إِلَخ.. من الضلال والمنكرات.
2 الْآيَة 44 من سُورَة الطّور.
3 عبد الله بن سبأ: رَأس الطَّائِفَة السبئية وَكَانَت
تَقول بألوهية عَليّ. أَصله من الْيمن، قيل كَانَ
يَهُودِيّا أظهر الْإِسْلَام، رَحل إِلَى الْحجاز فالبصرة
فالكوفة فدمشق فَأخْرجهُ أَهلهَا، فَانْصَرف إِلَى مصر
وجهر ببدعته. قَالَ ابْن حجر: هُوَ من غلاة الزَّنَادِقَة
أَحسب أَن عليًّا حرقه بالنَّار توفّي 40هـ.
4 الْمُخْتَار ابْن أبي عبيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ ولد
عَام 1هـ فِي الطَّائِف وَأحد الشجعان الأفذاذ وَمن زعماء
الثائرين على بني أُميَّة، وَقد انتقم من قاتلي الْحُسَيْن
بن عَليّ فَقتل مُعظم رؤوسهم وَقيل ادّعى النُّبُوَّة
وَقتل آخر الْأَمر عَام 67هـ.
5 وَفِي نُسْخَة: جِبْرِيل يأتيني، وَمِيكَائِيل، فَصدقهُ.
(1/125)
وَمِيكَائِيل يَأْتِيَانِ إِلَى جِهَتِهِ،
فَصَدَّقَهُ قَوْمٌ واتبعوه، وهم الكيسانية1.
__________
1 الكيسانية: أَصْحَاب كيسَان مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ
عَليّ بن أبي طَالب، يَزْعمُونَ لَهُ الْعلم بالأسرار
المقتبسة من مَوْلَاهُ، وَحَملهمْ ذَلِك على تَأْوِيل
الْأَركان الشَّرْعِيَّة وَالْقَوْل بالتناسخ والحلول
وَالرَّجْعَة بعد الْمَوْت.
(1/126)
|