تأويل مختلف
الحديث ذكر أَصْحَاب الحَدِيث:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمُ الْتَمَسُوا
الْحَقَّ مِنْ وِجْهَتِهِ، وَتَتَبَّعُوهُ مِنْ
مَظَانِّهِ، وَتَقَرَّبُوا إِلَى1 اللَّهِ تَعَالَى
بِاتِّبَاعِهِمْ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَلَبِهِمْ لِآثَارِهِ
وَأَخْبَارِهِ، بَرًّا وَبَحْرًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا.
يَرْحَلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ رَاجِلًا مُقَوِّيًا2 فِي
طَلَبِ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوِ السُّنَّةِ
الْوَاحِدَةِ، حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنَ النَّاقِلِ لَهَا
مُشَافَهَةً.
ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا فِي التَّنْقِيرِ عَنِ الْأَخْبَارِ
وَالْبَحْثِ لَهَا، حَتَّى فَهِمُوا صَحِيحَهَا
وَسَقِيمَهَا، وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوخَهَا، وَعَرَفُوا
مَنْ خَالَفَهَا مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى الرَّأْيِ.
فَنَبَهُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَجَمَ3 الْحَقُّ بَعْدَ
أَنْ كَانَ عَافِيًا، وَبَسَقَ4 بَعْدَ أَنْ كَانَ
دَارِسًا5، وَاجْتَمَعَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا،
وَانْقَادَ لِلسُّنَنِ مَنْ كَانَ عَنْهَا مُعْرِضًا،
وَتَنَبَّهَ عَلَيْهَا6 مَنْ كَانَ عَنْهَا غَافِلًا،
وَحُكِمَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ
فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَإِنْ7 كَانَ فِيهِ خِلَافٌ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: من الله.
2 أَي: نازلًا بالقفر من الأَرْض.
3 نجم: أَي ظهر.
4 بسق: أَي علا وارتفع.
5 دارسًا: مطموسًا لَا أثر لَهُ.
6 لَعَلَّ الْأَصَح: وتنبه لَهَا.
7 وَفِي نُسْخَة:؛ بِحَذْف "وَإِن".
(1/127)
تَمْيِيزُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ
لِلتَّحْذِيرِ فِيهَا:
وَقَدْ يَعِيبُهُمُ الطَّاعِنُونَ بِحَمْلِهِمُ
الضَّعِيفَ، وَطَلَبِهِمُ الْغَرَائِبَ، وَفِي الْغَرِيبِ
الدَّاءُ.
وَلَمْ يَحْمِلُوا الضَّعِيفَ وَالْغَرِيبَ، لِأَنَّهُمْ
رَأَوْهُمَا حَقًّا، بَلْ جَمَعُوا الْغَثَّ وَالسَّمِينَ
وَالصَّحِيحَ وَالسَّقِيمَ، لِيُمَيِّزُوا بَيْنَهُمَا،
وَيَدُلُّوا عَلَيْهِمَا، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ
فَقَالُوا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: "شُرْبُ الْمَاءِ
عَلَى الرِّيقِ، يَعْقِدُ الشَّحْمَ"1 هُوَ مَوْضُوعٌ،
وَضَعَهُ عَاصِمٌ الْكُوزِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ كَانَ يَبْصُقُ
فِي الدَّوَاةِ، وَيَكْتُبُ مِنْهَا". مَوْضُوعٌ، وَضَعَهُ
عَاصِمٌ الْكُوزِيُّ.
قَالُوا: وَحَدِيثُ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ يُجِزْ طَلَاقَ
الْمَرِيضِ" مَوْضُوعٌ وَضَعَهُ سَهْلٌ السَّرَّاجُ.
قَالُوا: وَسَهْلٌ كَانَ2 يُرْوَى أَنَّهُ رَأَى الْحَسَنَ
يُصَلِّي بَيْنَ سُطُورِ3 الْقُبُورِ.
وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْحَسَنَ رَوَى أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى
عَنِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْقُبُورِ"4.
قَالُوا: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَزَالُ الرَّجُلُ
رَاكِبًا مَا دَامَ مُنْتَعِلًا" بَاطِلٌ، وَضَعَهُ
أَيُّوبُ بْنُ خُوطٍ.
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ "رَأَيْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَارُ بَيْنَ
يَدَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ بِالْحِرَابِ" هُوَ بَاطِلٌ
وَضَعَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ زِيَادٍ.
__________
1 وَفِي إِسْنَاده: عَاصِم بن سُلَيْمَان، وَضاع.
"الْفَوَائِد الْمَجْمُوعَة فِي الْأَحَادِيث
الْمَوْضُوعَة للشوكاني ص 186 برقم 73".
2 وَفِي نُسْخَة: وَسَهل روى أَن الْحسن كَانَ يُصَلِّي.
3 سطور الْقُبُور: أَي صفوفها.
4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: صَلَاة 141 وَابْن ماجة: مَسَاجِد
4.
(1/128)
وَحَدِيث بن أَبِي أَوْفَى "رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَمَسُّ لِحْيَتَهُ فِي الصَّلَاةِ" وَضَعَهُ الْمُنْذِرُ
بْنُ زِيَادٍ.
وَحَدِيثُ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "نَهَى عَنِ عَشْرِ
كُنًى" مَوْضُوعٌ وَضَعَهُ أَبُو عِصْمَةَ، قَاضِي مَرْوَ.
وَقَالُوا فِي أَحَادِيثَ مَوْجُودَةٍ عَلَى أَلْسِنَةِ
النَّاسِ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ.
مِنْهَا: "مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ، خِفَّةُ
عَارِضَيْهِ".
وَمِنْهَا: "سَمُّوهُمْ بِأَحَبِّ الْأَسْمَاءِ
إِلَيْهِمْ" وَكَنُّوهُمْ بِأَحَبِّ الْكُنَى إِلَيْهِمْ".
وَمِنْهَا: "خَيْرُ تجاراتكم1 الْبَزُّ، وَخَيْرُ
أَعْمَالِكُمُ الْخَرْزُ".
وَمِنْهَا: "لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ، مَا أَفْلَحَ مَنْ
رَدَّهُ".
وَمِنْهَا: "النَّاسُ أَكْفَاءٌ إِلَّا حَائِكًا، أَوْ
حَجَّامًا" مَعَ حَدِيثٍ كَثِيرٍ، لَا يُحَاطُ بِهِ2، قَدْ
رَوُوهُ، وَأَبْطَلُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي أَحَادِيثِ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ كَذَا، فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ
قَرَأَ سُورَةَ كَذَا فَلَهُ كَذَا" أَظُنُّ
الزَّنَادِقَةَ، وَضَعَتْهُ.
وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يُشَنَّعُ بِهَا
عَلَيْهِمْ مِنْ عَرَقِ الْخَيْلِ، وَزَغَبِ الصَّدْرِ،
وَقَفَصِ الذَّهَبِ، وَعِيَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، هِيَ
كُلُّهَا بَاطِلٌ، لَا طُرُقَ لَهَا، وَلَا رُوَاةَ، وَلَا
نَشُكُّ فِي وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ لَهَا.
تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُشْكِلَةِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، مِثْلَ: "قَلْبُ
الْمُؤْمِنِ بَين أصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن"3.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: تجارتكم.
2 وَفِي نُسْخَة: لَا نحيط.
3 تقدم ص54.
(1/129)
و"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ
عَلَى صُورَتِهِ"1 وَ"كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين" "وَيحمل2
اللَّهُ الْأَرْضَ عَلَى أُصْبُعٍ وَيَجْعَلُ كَذَا عَلَى
أُصْبُعٍ"3.
وَ"لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِنَّهَا مِنْ نفَس
الرَّحْمَنِ"4،
وَ"كَثَافَةُ جِلْدِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ أَرْبَعُونَ
ذِرَاعًا، بِذِرَاعِ الْجَبَّارِ"5.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَخَارِجُ، سَنُخْبِرُ بِهَا فِي
مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَرُبَّمَا نَسِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ قَدْ
حَدَّثَ بِهِ، وَحُفِظَ عَنْهُ وَيُذَاكَرُ بِهِ، فَلَا
يَعَرِفُهُ، وَيُخْبَرُ بِأَنَّهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ،
فَيَرْوِيهِ عَمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُ، ضَنًا بِالْحَدِيثِ
الْجَيِّدِ، وَرَغْبَةً فِي السُّنَّةِ، كَرِوَايَةِ
رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ
بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ"6.
قَالَ رَبِيعَةُ: ثُمَّ ذَاكَرْتُ سُهَيْلًا بِهَذَا
الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَحْفَظْهُ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ،
يَرْوِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ.
وَكَرِوَايَةِ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ ابْنِ
عُيَيْنَةَ حَدِيثَيْنِ:
أَحدهمَا: عَن بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:
حدّثنَاهُ مُحَمَّد بن7 هَارُون
__________
1 تقدم ص54.
2 وَفِي نُسْخَة: وَيجْعَل.
3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "إِن الله يمسك السَّمَوَات على
أصْبع" فِي البُخَارِيّ: تَوْحِيد 19 و26 و36، وَمُسلم:
المُنَافِقُونَ 19 و21، وَالتِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة
39/ 2.
4 أخرجه أَحْمد: 2/ 250 و268 و409 و437، وَالتِّرْمِذِيّ:
فتن 65، وَابْن ماجة: أدب 29.
5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "وكثافة جلده اثْنَان
وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا" من مُسْند أَحْمد 2/ 334 و537.
6 أخرجه أَبُو دَاوُد: أقضية 21، وَالتِّرْمِذِيّ:
أَحْكَام 13، وَابْن ماجة: أَحْكَام 31، والموطأ: أقضية 5
و6 و7، وَأحمد 3/ 305 و5/ 285.
7 مُحَمَّد بن هَارُون: هُوَ أَبُو عِيسَى الْوراق باحث
معتزلي من أهل بَغْدَاد، ووفاته فِيهَا عَام 247هـ. لَهُ
تصانيف مِنْهَا: "المقالات فِي الإمامية"، وَكتاب
"الْمجَالِس" نقل عَنهُ المَسْعُودِيّ.
(1/130)
قَالَ: نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ
قَالَ: نَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة، عَن
بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ:
{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا، وَتَسِيرُ الْجِبَالُ
سَيْرًا} 1 قَالَ: تَدُورُ دَوْرًا.
وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} 2 قَالَ: الْحُصُونُ.
فَسُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْهُمَا، فَلَمْ
يَعْرِفْهُمَا، وَحَدَّثَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِهِمَا
عَنْهُمَا، عَنْ نَفْسِهِ,
وَرَوَى ابْنُ3 عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ4 دِينَارٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ الْمُكْرَهِ
شَيْئًا فَسَأَلَ عَنْهُ ابْنَ عُيَيْنَةَ، فَلَمْ
يَعْرِفْهُ، ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ بَعْدُ عَن بن عُلَيَّةَ
عَنْ نَفْسِهِ.
التَّنْبِيهُ إِلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَكَانَ مُعْتَمِرُ بْنُ5 سُلَيْمَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي
مُنْقِذٌ عَنِّي، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
"وَيْحُ" كَلِمَةُ رَحْمَةٍ.
وَقَدْ نَبَّهُوا عَلَى الطُّرُقِ الضِّعَافِ، كَحَدِيثِ
عَمْرِو بْنِ6 سَعِيدٍ، عَن
__________
1 الْآيَة 9 من سُورَة الطّور.
2 الْآيَة 26 من سُورَة الْأَحْزَاب.
3 ابْن علية: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مقسم الْأَسدي
بِالْوَلَاءِ، أَبُو بشر من أكَابِر حفاظ الحَدِيث كُوفِي
الأَصْل، ولد عَام 110 هـ تَاجر، كَانَ حجَّة فِي الحَدِيث
ثِقَة مَأْمُونا وَتُوفِّي بِبَغْدَاد فِي عَام 193هـ.
4 عَمْرو بن دِينَار بن شُعَيْب الْبَصْرِيّ أَبُو يحيى
الْأَعْوَر قهرمان آل الزبير، لَيْسَ بِثِقَة "تَهْذِيب
التَّهْذِيب" "8/ 30" "الْخُلَاصَة 345".
5 مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بن طرخان "من موَالِي بني مرّة"
مُحدث الْبَصْرَة فِي عصره. انْتقل إِلَيْهَا من الْيمن.
ولد عَام 106هـ وَكَانَ حَافِظًا ثِقَة، حدث عَنهُ
كَثِيرُونَ وَتُوفِّي عَام 187هـ.
6 حصل تَصْحِيف فِي الِاسْم، وَالصَّحِيح عَمْرو بن
شُعَيْب، وَهَذِه مَجْمُوعَة أَحَادِيث مَشْهُورَة تروى
بِهَذَا الْإِسْنَاد، وفيهَا إِشْكَال مَعْرُوف، أما
عَمْرو بن سعيد بن أُميَّة بن عبد شمس الْأمَوِي فَلَا
يجوز نِسْبَة هَذَا إِلَيْهِ، لِأَن جده الْعَاصِ قتل
كَافِرًا ببدر، وَأما أَبوهُ سعيد بن الْعَاصِ فقد كَانَ
تسع سِنِين عِنْد وَفَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مُحَمَّد بدير.
(1/131)
أَبِيه، عَنْ جَدِّهِ لِأَنَّهَا
مَأْخُوذَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ كِتَابٍ.
وَكَانَ مُغِيرَةُ، لَا يَعْبَأُ بِحَدِيثِ سَالِمِ بْنِ
أَبِي الْجَعْدِ، وَلَا بِحَدِيثِ خِلَاسٍ، وَلَا
بِصَحِيفَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو1.
وَقَالَ مُغِيرَةُ: كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
صَحِيفَةٌ، تُسَمَّى الصَّادِقَةَ مَا تَسُرُّنِي أَنَّهَا
لِي بِفِلْسَيْنِ.
وَقَالَ: حَدِيثُ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ عَلِيٍّ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ
عَنْهُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: لأنْ أَزْنِي كَذَا وَكَذَا زَنْيَةً،
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ أَبَانَ بْنِ
أبي عَيَّاش2.
__________
1 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ السَّهْمِي،
بَينه وَبَين أَبِيه إِحْدَى عشرَة سنة كَانَ يلوم أَبَاهُ
على الْقِتَال فِي الْفِتْنَة بأدب وتؤدة وَتُوفِّي سنة
65هـ روى كثيرا من الْأَحَادِيث.
2 ورد فِي الْأَسْرَار المرفوعة فِي الْأَخْبَار
الْمَوْضُوعَة للعلامة نور الدَّين عَليّ بن مُحَمَّد بن
سُلْطَان الْمَشْهُور بالملا عَليّ الْقَارِي، تَحْقِيق
الدكتور مُحَمَّد لطفي الصّباغ ص410 ط1971م - 1391هـ
"مؤسسة الرسَالَة" مَا يَلِي:
وَقد حكى السُّيُوطِيّ عَن ابْن الْجَوْزِيّ أَن من وَقع
فِي حَدِيثه الْمَوْضُوع وَالْكذب وَالْقلب أَنْوَاع:
- وَمِنْهُم: من غلب عَلَيْهِم الزّهْد فَغَفَلَ عَن
الْحِفْظ أَو ضَاعَت كتبه فَحدث من حفظه فغلط فِي نَقله.
- وَمِنْهُم: قمم ثِقَات، لَكِن اخْتلطت عُقُولهمْ
أَوَاخِر أعمارهم.
- وَمِنْهُم: من روى الْخَطَأ سَهوا، فَلَمَّا رأى
الصَّوَاب، وأيقن بِهِ لم يرجع أَنَفَة أَن ينسبوه إِلَى
الْغَلَط.
- وَمِنْهُم: زنادقة وضعُوا قصدا إِلَى إِفْسَاد
الشَّرِيعَة، وإيقاع الشَّك والتلاعب بِالدّينِ، وَقد
كَانَ بعض الزَّنَادِقَة يتغفل الشَّيْخ فيدس فِي كِتَابه
مَا لَيْسَ من حَدِيثه.
- وَمِنْهُم: من يضع لنصرة مذْهبه.
- وَمِنْهُم: من أجَاز وضع الْأَسَانِيد لكَلَام حسن.
- وَمِنْهُم: من قصد التَّقَرُّب إِلَى السُّلْطَان.
- وَمِنْهُم: الْقصاص لأَنهم يُرِيدُونَ أَحَادِيث ترقق
وتنفق.
وَمن الْقَوَاعِد الْكُلية أَن نقل الْأَحَادِيث
النَّبَوِيَّة والمسائل الْفِقْهِيَّة، والتفاسير القرآنية
لَا يجوز إِلَّا من الْكتب المتداولة لعدم الِاعْتِمَاد
على غَيرهَا من وضع الزَّنَادِقَة وإلحاق الْمَلَاحِدَة،
بِخِلَاف الْكتب المحفوظة فَإِن نسخهَا تكون صَحِيحَة
مُتعَدِّدَة.
(1/132)
ضعفهم بِاللُّغَةِ وَالْمَعْرِفَةِ:
وَأَمَّا طَعْنُهُمْ عَلَيْهِمْ بِقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ
لِمَا يَحْمِلُونَ، وَكَثْرَةِ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ،
فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَتَسَاوُونَ جَمِيعًا فِي
الْمَعْرِفَةِ وَالْفَضْلِ، وَلَيْسَ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ
إِلَّا وَلَهُ حَشْوٌ وَشَوْبٌ.
فَأَيْنَ هَذَا العائب لَهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ
النَّاسِ بِكُلِّ فَنٍّ، وَحَمَّادِ بْنِ1 سَلَمَةَ،
وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَوْنٍ، وَأَيُّوبَ،
وَيُونُسَ بْنِ2 عُبَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ،
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ3 سَعِيدٍ،
وَابْنِ جُرَيْجٍ4، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَشُعْبَةَ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَمْثَالِ
هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُتْقِنِينَ؟
الْمُنْفَرِدُ بِفَنٍّ لَا يُعَابُ بِالزَّلَلِ فِي
غَيْرِهِ:
عَلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِفَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ، لَا
يُعَابُ بِالزَّلَلِ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَلَى
الْمُحَدِّثِ عَيْبٌ أَنْ يَزِلَّ فِي الْإِعْرَابِ، وَلَا
عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَزِلَّ فِي الشِّعْرِ، وَإِنَّمَا
يَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ أَنْ يُتْقِنَ فَنَّهُ،
إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَانْعَقَدَتْ
لَهُ الرِّئَاسَةُ بِهِ.
وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْوَاحِدِ عُلُومٌ كَثِيرَةٌ،
وَاللَّهُ يُؤْتِي الْفضل من يَشَاء.
__________
1 حَمَّاد بن سَلمَة بن دِينَار الْبَصْرِيّ الربعِي
بِالْوَلَاءِ، أَبُو سَلمَة مفتي الْبَصْرَة، وَأحد رجال
الحَدِيث، وَمن النُّحَاة، كَانَ حفاظًأ ثِقَة مَأْمُونا
إِلَّا أَنه لما كبر سَاءَ حفظه فَتَركه البُخَارِيّ، أما
مُسلم فاجتهد وَأخذ من حَدِيثه بعض مَا سمع مِنْهُ قبل
تغيره، وَكَانَ فَقِيها فصيحًا مفوهًا شَدِيدا على المبتدع
توفّي 167هـ.
2 يُونُس بن عبيد بن دِينَار الْعَبْدي بِالْوَلَاءِ،
الْبَصْرِيّ. من حفاظ الحَدِيث الثِّقَات، من أَصْحَاب
الْحسن الْبَصْرِيّ، كَانَ من أهل الْبَصْرَة يَبِيع بهَا
الْخَزّ ونعته الذَّهَبِيّ بِأحد أَعْلَام الْهدى توفّي
139هـ.
3 يحيى بن سعيد بن قيس الْأنْصَارِيّ البُخَارِيّ قَاض من
أكَابِر أهل الحَدِيث من أهل الْمَدِينَة. قَالَ
الجُمَحِي: مَا رَأَيْت أقرب شبها من الزُّهْرِيّ من يحيى
بن سعيد، ولولاهما لذهب كثير من السّنَن. توفّي عَام
143هـ.
4 ابْن جريج: هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج
فَقِيه الْحرم الْمَكِّيّ كَانَ إِمَام أهل الْحجاز فِي
عصره، ولد عَام 80هـ وَهُوَ أول من صنف التصانيف فِي
الْعلم بِمَكَّة توفّي 150هـ.
(1/133)
وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ
فِي الْفُتْيَا وَلُطْفِ النَّظَرِ وَاحِدُ زَمَانِهِ1،
مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ تَنَاوَلَ صَخْرَةً فَضَرَبَ بِهِ
رَأْسَ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ، أَتَقِيدُهُ بِهِ؟
فَقَالَ: لَا، وَلَوْ رَمَاهُ بِأَبَا2 قُبَيْسٍ.
وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ:
قَضَى اللَّهُ لَكُمُ الْحَوَائِجَ، عَلَى أَحْسَنِ
الْأُمُورِ، وَأَهْنَؤُهَا3.
فَنَظَرَ قَاسِمٌ التَّمَّارُ قَوْمًا يَضْحَكُونَ، مِنْ
قَوْلِ بِشْرٍ4.
فَقَالَ: هَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهِ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ
بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا
وَبِشْرٌ رَأْسٌ فِي الرَّأْيِ، وَقَاسِمٌ التَّمَّارُ
مُتَقَدِّمٌ فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ وَاحْتِجَاجُهُ
لِبِشْرٍ أَعْجَبُ مِنْ لَحْنِ بِشْرٍ.
وَقَالَ بِلَالٌ لِشَبِيبِ بْنِ5 شَيْبَةَ، وَهُوَ
يَسْتَعْدِي6 عَلَى عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَامِرٍ: أَحْضِرْنِيهِ فَقَالَ: قَدْ دَعَوْتُهُ،
فكلَّ ذَلِكَ يَأْبَى عَلَي، قَالَ بِلَال: فالذنب لكل7.
__________
1 عَاد الْمُؤلف هُنَا إِلَى إنصاف أبي حنيفَة
وَالشَّهَادَة لَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أهل، وَهَذَا الْحق
الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، ويدحض مَا سبق من
انتقاص.
2 وَالصَّحِيح: بِأبي قيس. لِأَن الْأَسْمَاء الْخَمْسَة
تجر بِالْيَاءِ.
3 وَالصَّحِيح: وأهنئها، بِكَسْر الْهمزَة المتوسطة لعطفها
على مجرور.
4 بشر المريسي: ابْن غياث، فَقِيه معتزلي عَارِف بالفلسفة
يرْمى بالزندقة هُوَ رَأس طَائِفَة المريسية القائلة
بالإرجاء، وَقَالَ بِرَأْي الْجَهْمِية وأوذي فِي دولة
هَارُون الرشيد وَهُوَ من أهل بَغْدَاد توفّي عَام 218هـ.
5 شبيب بن شيبَة بن عبد الله التَّمِيمِي، أديب الْمُلُوك
وجليس الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من أهل الْبَصْرَة توفّي
170هـ.
6 يَسْتَعْدِي: أَي يَسْتَعِين عَلَيْهِ.
7 يَعْنِي بِهِ الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي التَّعْبِير
بِلَفْظ: "كل" فِي قَوْله: "فَكل ذَلِك" لِأَنَّهَا لَا
تدخل إِلَّا على ذِي أَفْرَاد أَو أَجزَاء، والحضور فِي
مجْلِس الحكم لَيْسَ كَذَلِك "قَالَه الأسعردي".
(1/134)
وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ إِلَّا وَقَدْ أَسْقَطَ1 فِي
عِلْمِهِ كَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَأَبِي
عُبَيْدَةَ، وَسِيبَوَيْهِ2، وَالْأَخْفَشِ3،
وَالْكِسَائِيِّ4، وَالْفَرَّاءِ5، وَأَبِي6 عَمْرٍو
الشَّيْبَانِيِّ، وَكَالْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَّاءِ
الْقُرْآنِ، وَالْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ عَلَى الشُّعَرَاءِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ الْخَطَأَ فِي الْمَعَانِي
وَفِي الْإِعْرَابِ، وَهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَبِهِمْ
يَقَعُ الْاحْتِجَاجُ.
فَهَلْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فِي سَقَطِهِمْ إِلَّا
كَصِنْفٍ مِنَ النَّاسِ؟
عَلَى أَنَّا لَا نُخَلِّي أَكْثَرَهُمْ مِنَ الْعَذْلِ7
فِي كُتُبِنَا، فِي تَرْكِهِمُ الْاشْتِغَالَ بِعِلْمِ مَا
قَدْ كَتَبُوا، وَالتَّفَقُّهَ بِمَا جَمَعُوا
وَتَهَافُتِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ عَشْرَةِ
أَوْجُهٍ، أوعشرين وَجْهًا.
وَقَدْ كَانَ فِي الْوَجْهِ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ،
وَالْوَجْهَيْنِ مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ بِعِلْمِهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ أَعْمَارُهُمْ،
وَلَمْ يَحِلُّوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَسْفَارٍ8
أَتْعَبَتِ الطَّالِب، وَلم تَنْفَع الْوَارِث.
__________
1 أسقط: أَي وَقع فِي السقط: أَي الْخَطَأ.
2 سِيبَوَيْهٍ: عَمْرو بن عُثْمَان بن قنبر الْحَارِث
بِالْوَلَاءِ ولد فِي إِحْدَى قرى شيراز عَام 148هـ،
وَهُوَ إِمَام النُّحَاة، وَأول من بسط علم النَّحْو وصنف
كِتَابه الْمُسَمّى "كتاب سِيبَوَيْهٍ فِي النَّحْو" توفّي
شَابًّا عَام 180هـ.
3 الْأَخْفَش: هَارُون بن مُوسَى بن شريك التغلبي، شيخ
الْقُرَّاء بِدِمَشْق ولد عَام 201هـ، كَانَ عَارِفًا
بالنحو وَالتَّفْسِير والمعاني والغريب وَالشعر وصنف كتبا
فِي الْقرَاءَات توفّي 292هـ.
4 الْكسَائي: عَليّ بن حَمْزَة بن عبد الله الْأَسدي
بِالْوَلَاءِ الْكُوفِي، إِمَام فِي النَّحْو واللغة
وَالْقِرَاءَة، ولد فِي إِحْدَى قراها سكن بَغْدَاد
وَتُوفِّي بِالريِّ عَام 189هـ.
5 الْفراء: يحيى بن زِيَاد بن عبد الله بن مَنْظُور
الديملي، إِمَام الْكُوفِيّين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون
الْأَدَب. كَانَ مَعَ تقدمه فِي اللُّغَة فَقِيها متكلمًا
عَالما بأيام الْعَرَب ولد عَام 144هـ وَتُوفِّي 207هـ.
6 أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: إِسْحَاق بن مرار
الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ. لغَوِيّ أديب، ولد
بِالْكُوفَةِ عَام 94هـ وَسكن بَغْدَاد، جمع أشعار نَيف
وَثَمَانِينَ قَبيلَة من الْعَرَب، أَخذ عَنهُ جمَاعَة من
كبار الْعلمَاء توفّي 206هـ.
7 العذل: اللوم.
8 جمع سفر: وَهُوَ الْكتاب.
(1/135)
فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ،
فَهُوَ عِنْدَنَا مُضَيِّعٌ لِحَظِّهِ، مُقْبِلٌ عَلَى مَا
كَانَ غَيْرُهُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْهُ.
وَقَدْ لَقَّبُوهُمْ بِالْحَشْوِيَّةِ، وَالنَّابِتَةِ،
وَالْمُجَبِّرَةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: الْجَبْرِيَّةَ.
وَسَمَّوْهُمُ الْغُثَاءَ1 وَالْغُثْرَ2.
عُيُوبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بَسِيطَةٌ لَا تُقَارَنُ
بِغَيْرِهِمْ:
وَهَذِهِ كُلُّهَا أَنْبَازٌ3 لَمْ يَأْتِ بِهَا خَبَرٌ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
كَمَا أَتَى عَنْهُ فِي الْقَدَرِيَّةِ: "أَنَّهُمْ
مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنْ مَرِضُوا فَلَا
تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوا
جَنَائِزَهُمْ" 4.
وَفِي الرَّافِضَةِ: بِرِوَايَةِ مَيْمُون بن مهْرَان عَن
بن عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَكُونُ قَوْمٌ فِي
آخِرِ الزَّمَانِ، يُسَمَّوْنَ الرَّافِضَةَ، يَرْفُضُونَ
الْإِسْلَامَ وَيَلْفِظُونَهُ، فَاقْتُلُوهُمْ،
فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ" 5.
وَفِي الْمُرْجِئَةِ: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي، لَا
تَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي، لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ
نَبِيًّا: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ"6.
وَفِي الْخَوَارِجِ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ، وَهُمْ كِلَابُ أهل
النَّار" 7.
__________
1 الغثاء: مَا يَجِيء فَوق السَّيْل من الزّبد والأوساخ،
وينصرف هُنَا -على الْمجَاز- إِلَى الوضيع من النَّاس
الَّذِي لَا قيمَة لَهُ.
2 الغثر: جمع أغثر وهم سفلَة النَّاس وَأَرَاذِلهمْ.
3 أنباز: أَي ألقاب.
4 أخرجه أَبُو دَاوُد: سنة 16، وَأحمد: 2/ 86 و5/ 407.
5 وجدنَا الحَدِيث فِي مُسْند أَحْمد 1/ 103 بِلَفْظ:
"يظْهر فِي آخر الزَّمَان قوم يسمون الرافضة يرفضون
الْإِسْلَام".
6 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 3495 وسلسلة
الْأَحَادِيث الضعيفة 662 للألباني.
7 أخرجه البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 6 ومناقب 25 وَمَغَازِي 61
وفضائل الْقُرْآن 36 وأدب 95 وتوحيد 23 و57 واستتابة 95،
وَمُسلم: زَكَاة 142 و144 و147 و148، وَسنَن أبي دَاوُد
سنة 28، وَسنَن التِّرْمِذِيّ: فتن 24، وَالنَّسَائِيّ:
زَكَاة 79 وَتَحْرِيم 26، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 12
والدارمي: مُقَدّمَة 21، والموطأ: مس الْقُرْآن 10.
(1/136)
فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتِلْكَ أَسْمَاءٌ
مَصْنُوعَةٌ.
وَقَدْ يَحْمِلُ بَعْضَهُمُ الْحَمِيَّةُ عَلَى أَنْ
يَقُولَ: الْجَبْرِيَّةُ، هُمُ الْقَدَرِيَّةُ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْاسْمُ يَلْزَمُهُمْ، لَاسْتَغْنَوْا
بِهِ عَنِ الْجَبْرِيَّةِ.
وَلَوْ سَاغَ هَذَا لِأَهْلِ الْقَدَرِ، لَسَاغَ مِثْلُهُ
لِلرَّافِضَةِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَقَالَ
كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ مِثْلَ
الَّذِي قَالَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ.
وَالْأَسْمَاءُ لَا تَقَعُ غَيْرَ مَوَاقِعِهَا، وَلَا
تَلْزَمُ إِلَّا أَهْلَهَا.
وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الصَّيَاقِلَةُ هُمُ
الْأَسَاكِفَةُ، وَالنَّجَّارُ هُوَ الْحَدَّادُ.
وَالْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرَ الناسُ عَلَيْهَا،
وَالنَّظَرُ، يُبْطِلُ مَا قَذَفُوهُمْ بِهِ1.
أَمَّا الْفِطَرُ، فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ دَخَلَ الْمِصَرَ،
وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِيهِ، أَوِ
الْمُرْجِئَةِ، لَدَلَّهَ الصَّبِيُّ وَالْكَبِيرُ،
وَالْمَرْأَةُ وَالْعَجُوزُ، وَالْعَامِّيُّ
وَالْخَاصِّيُّ، وَالْحَشْوَةُ وَالرَّعَاعُ، عَلَى
الْمُسَمِّينَ بِهَذَا الْاسْمِ، وَلَوِ اسْتَدَلَّ عَلَى
أَهْلِ السُّنَّةِ، لَدَلُّوهُ عَلَى أَصْحَابِ
الْحَدِيثِ.
وَلَوْ مَرَّتْ جَمَاعَةٌ فِيهِمُ الْقَدَرِيُّ،
وَالسُّنِّيُّ، وَالرَّافِضِيُّ، وَالْمُرْجِئُ،
وَالْخَارِجِيُّ، فَقَذَفَ رَجُلٌ الْقَدَرِيَّةَ، أَوْ
لَعَنَهُمْ، لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِالشَّتْمِ أَوِ
اللَّعْنِ عِنْدَهُمْ، أَصْحَابَ الْحَدِيثِ. هَذَا
أَمْرٌ، لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ، وَلَا يُنْكِرُهُ
مُنْكِرٌ.
وَأَمَّا النَّظَرُ، فَإِنَّهُمْ أَضَافُوا الْقَدَرَ
إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُهُ لِلَّهِ
تَعَالَى، دُونَ نَفْسِهِ. وَمُدَّعِي الشَّيْءَ
لِنَفْسِهِ، أَوْلَى بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ، مِمَّنْ
جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ.
وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَنَا: "بِأَنَّهُمْ مَجُوسُ
هَذِهِ الْأُمَّةِ"2 وهم أشبه قوم
__________
1 قذفوهم: أَي رموهم.
2 الحَدِيث: "إِن لكل أمة مجوسًا، وَإِن مجوس هَذِه
الْأمة: الْقَدَرِيَّة، فَلَا تعودوهم إِن مرضوا، وَلَا
تصلوا عَلَيْهِم إِن مَاتُوا" "الْفَوَائِد الْمَجْمُوعَة
فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة ص502" وَفِي إِسْنَاده:
جَعْفَر بن الْحَارِث، وَلَيْسَ بِشَيْء، وَله طرق أوردهَا
صَاحب اللآلئ وَأطَال الْكَلَام، ورد على ابْن الْجَوْزِيّ
حَيْثُ زعم أَنه مَوْضُوع فَليُرَاجع.
(1/137)
بالمجوس، لِأَنَّ الْمَجُوسَ تَقُولُ
بِإِلَهَيْنِ، وَإِيَّاهُمْ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:
{لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ
إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1.
هَفَوَاتُ الْقَدَرِيَّةِ وَضَلَالُهُمْ:
وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: نَحْنُ نَفْعَلُ مَا لَا
يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَقْدِرُ عَلَى مَا لَا
يَقْدِرُ.
وَبَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ،
قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ: "أَلَّا تُسْلِمُ
يَا فُلَانُ"؟
فَقَالَ: حَتَّى يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَرَادَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ إِبْلِيسَ
لَا يَدَعُكَ.
فَقَالَ لَهُ الذِّمِّيُّ: فَأَنَا مَعَ أَقْوَاهُمَا.
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ
بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ،
قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: يُؤْتَى
بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأُقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
فَيَقُولُ لِي: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي
النَّارِ؟
فَأَقُولُ: أَنْتَ قُلْتَهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} 2.
قُلْتُ لَهُ -وَمَا فِي الْبَيْتِ أَصْغَرُ مِنِّي:
أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ قَدْ قَلْتُ: {إِنَّ اللَّهَ
لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنِّي لَا
أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ؟
قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَرُدَّ عليَّ شَيْئًا.
حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: نَا دَاوُدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمفضل4
__________
1 الْآيَة 51 من سُورَة النَّحْل.
2 الْآيَة 93 من سُورَة النِّسَاء.
3 الْآيَة 116 من سُورَة النِّسَاء.
4 مُحَمَّد بن الْمفضل بن سَلمَة الضَّبِّيّ: فَقِيه
شَافِعِيّ من أهل بَغْدَاد لَهُ تصانيف توفّي عَام 390هـ.
(1/138)
عَن مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ
الْأَصْبَغِ بْنِ جَامِعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ
أَطُوفُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بِالْبَيْتِ، فَأَتَى الْمُلْتَزِمُ، بَيْنَ
الْبَابِ وَالْحِجْرِ، فَأَلْصَقَ بِهِ بَطْنَهُ، وَقَالَ:
"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَضَيْتَهُ عليَّ، وَلَا
تَغْفِرُ لِي مَا لَمْ تَقِضْهِ عليَّ".
وَحَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: نَا
الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ1، قَالَ:
سَمِعَ الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ2 رَجُلًا يَقُولُ:
"اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مُسْلِمًا".
فَقَالَ: هَذَا مُحَالٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: {رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا
أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 3.
وَحَدَّثَنِي سَهْلٌ قَالَ: نَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ
أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: "الْعِبَادُ أَذَلُّ مِنْ أَنْ
يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى
شَيْءٌ هُوَ كَارِهٌ أَنْ يَكُونَ".
وَحَدَّثَنِي سَهْلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ
قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلِلَّهِ
عَلَيْنَا الْحُجَّةُ، وَمَنْ قَالَ: تَعَالَ أُخَاصِمَكَ،
قُلْتُ لَهُ: أَعِزْ عَنَّا نَفْسَكَ.
وَحَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: نَا أَبُو دَاوُدَ،
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعت
الْحجَّاج يخْطب، وَهُوَ بـ "وَاسِط"، وَهُوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ أَرِنِي الْهُدَى هُدًى فَأَتْبَعُهُ،
وَأَرِنِي الضَّلَالَةَ ضَلَالَةً فَأَجْتَنِبُهَا، وَلَا
تُلُبِسْ عليَّ هُدَايَ فأضلَّ ضلالا بَعيدا.
__________
1 معَاذ بن معَاذ بن نصر بن حسان الْعَنْبَري التَّيْمِيّ
قَاض بَصرِي من الْأَثْبَات فِي الحَدِيث قَالَ ابْن
حَنْبَل: مَا رَأَيْت أَعقل من معَاذ كَأَنَّهُ صَخْرَة
ولد عَام 119هـ وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ عَام 196هـ.
2 الْفضل الرقاشِي: بن عبد الصَّمد بن الْفضل شَاعِر مجيد،
من أهل الْبَصْرَة، فَارسي الأَصْل انْتقل إِلَى بَغْدَاد
مدح الْخُلَفَاء وَكَانَت بَينه وَبَين أبي نواس مهاجاة
ومباسطة توفّي 200هـ.
3 الْآيَة 128 من سُورَة الْبَقَرَة.
(1/139)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا
عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 1.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الْقَيْسِيُّ -وَكَانَ مِنَ
الْبَكَّائِينَ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ- سَمِعْتُ سَعِيدَ
بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ يَقُولُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ
هِيَ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ قَوْلِ مُوسَى: {إِنْ هِيَ
إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي
مَنْ تَشَاءُ} 2.
فَقُلْتُ لَهُ: فَالْقُرْآنُ يَشْتَدُّ عَلَيْكَ،
وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً أَبَدًا، فَمَا
كَلَّمْتُهُ3 حَتَّى مَاتَ.
طَعْنُ الْقَدَرِيَّةِ بِالثِّقَاتِ:
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِيُّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
النَّضْرِ قَالَ: مَرَرْتُ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ
فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ شَيْئًا، فَقُلْتُ: مَا
هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا.
قَالَ: وَمَنْ أَصْحَابُكَ؟
قُلْتُ: أَيُّوبُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَيُونُسُ،
وَالتَّيْمِيُّ.
فَقَالَ: أُولَئِكَ أَرْجَاسٌ أَنْجَاسٌ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ
أَحْيَاءٍ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ، غُرَّةُ
أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فِي الْعِلْمِ، وَالْفِقْهِ،
وَالْاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَطِيبِ الْمَطْعَمِ،
وَقَدْ دَرَجُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ
مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ أَيْضًا عِنْدَهُ
أَرْجَاسٌ أَنْجَاسٌ.
فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ الَّذِينَ دَرَجُوا مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، لَمْ يَكُونُوا عَلَى مَا
كَانَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِمثل
مقالتهم فِي الْقدر.
__________
1 الْآيَة 9 من سُورَة الْأَنْعَام.
2 الْآيَة 155 من سُورَة الْأَعْرَاف.
3 وَفِي نُسْخَة: فَمَا كَلمه.
(1/140)
قُلْنَا لَهُمْ: فَلِمَ تَعَلَّقْتُمْ
بِالْحَسَنِ، وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَغَيْلَانَ؟
أَلَا تَعَلَّقْتُمْ بـ "عليّ" وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي
عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ فِي
الْقُدْوَةِ، وَأَثْبَتَ فِي الْحُجَّةِ، مِنْ قَتَادَةَ،
وَالْحَسَنِ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ
عَنْ رجال من مخالفيهم، كـ "قَتَادَة"، وَابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ1 وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ
الْكِتَابَةِ عَنْ مِثْلِهِمْ، مِثْلَ عَمْرِو بْنِ
عُبَيْدٍ، وَعَمْرِو2 بْنِ فَائِدٍ، وَمَعْبَدٍ3
الْجُهَنِيِّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا
عَنْهُمْ، أَهْلُ عِلْمٍ وَأَهْلُ صِدْقٍ فِي
الرِّوَايَةِ.
وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَلَا بَأْسَ
بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ، وَالْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، إِلَّا
فِيمَا اعْتَقَدَهُ مِنَ الْهَوَى، فَإِنَّهُ لَا يَكْتُبُ
عَنْهُ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ.
كَمَا أَنَّ الثِّقَةَ الْعَدْلَ، تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ،
وَلَا لِابْنِهِ، وَلَا لِأَبِيهِ، وَلَا فِيمَا جرَّ
إِلَيْهِ نَفَعًا، أَوْ دَفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا.
وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الصَّادِقِ، فِيمَا
وَافَقَ نِحْلَتَهُ، وَشَاكَلَ هَوَاهُ، لِأَنَّ نَفْسَهُ
تُرِيهِ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا اعتقده، وَأَن الْقرب إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَثْبِيتِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ،
وَلَا يُؤْمَنُ مَعَ ذَلِكَ، التَّحْرِيفُ،
وَالزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ.
فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ
الْمُخْتَلِفَةِ، يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّ
الْحَقَّ فِيمَا اعْتَقَدَهُ وَأَنَّ مُخَالِفَهُ عَلَى
ضَلَالٍ وَهَوًى، وَكَذَلِكَ أَصْحَاب الحَدِيث، فِيمَا
انتحلوا.
__________
1 ابْن أبي نجيح: هُوَ عبد الله بن يسَار، ثِقَة صَالح
الحَدِيث، ويذكرون أَنه كَانَ يَقُول بِالْقدرِ. وَذكره
النَّسَائِيّ فِيمَن كَانَ يُدَلس، وثقَّه أَحْمد وَابْن
معِين، وروى عَنهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، مَاتَ سنة
131هـ.
2 عَمْرو بن فائد. جَاءَ فِي الْمِيزَان: قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ:
ذَاك عندنَا ضَعِيف يَقُول بِالْقدرِ، وَقَالَ الْعقيلِيّ:
كَانَ يذهب إِلَى الْقدر والاعتزال وَلَا يُقيم الحَدِيث.
3 معبد الْجُهَنِيّ: قدري بَصرِي. وَجَاء فِي الْمِيزَان:
"صَدُوق فِي نَفسه وَلكنه سنّ سنة سَيِّئَة فَكَانَ أول من
تكلم فِي الْقدر، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، هُوَ ضالٌّ
مُضِلّ".
(1/141)
فَمِنْ أَيْنَ عَلِمُوا عِلْمًا يَقِينًا،
أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ؟
قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ، وَإِنِ
اخْتَلَفُوا، وَرَأَى كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ أَنَّ
الْحَقَّ فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ1
لَا يَخْتَلِفُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَصَمَ بِكِتَابِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَمَسَّكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِ
اسْتَضَاءَ بِالنُّورِ وَاسْتَفْتَحَ بَابَ الرُّشْدِ،
وَطَلَبَ الْحَقَّ مِنْ مَظَانِّهِ.
وَلَيْسَ يَدْفَعُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ
إِلَّا ظَالِمٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ شَيْئًا مِنْ
أَمْرِ الدِّينِ، إِلَى اسْتِحْسَانٍ، وَلَا إِلَى قِيَاسٍ
وَنَظَرٍ، وَلَا إِلَى كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ
الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَا إِلَى أَصْحَابِ الْكَلَامِ
الْمُتَأَخِّرِينَ.
فَإِنِ ادَّعَوْا عَلَيْهِمُ الْخَطَأَ بِحَمْلِهِمُ
الْكَذِبَ وَالْمُتَنَاقِضَ، قِيلَ لَهُمْ:
أَمَّا الْكَذِبُ وَالْغَلَطُ وَالضَّعِيفُ، فَقَدْ
نُبِّهُوا عَلَيْهِ، عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ.
وَأَمَّا الْمُتَنَاقِضُ، فَنَحْنُ مُخْبِرُوكَ
بِالْمَخَارِجِ مِنْهُ، وَمُنَبِّهُوكَ عَلَى مَا
تَأَخَّرَ عَنْهُ عِلْمُكَ، وَقَصُرَ عَنْهُ نَظَرُكَ،
وَبِاللَّهِ الثِّقَة، وَهُوَ الْمُسْتَعَان.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: مجتمعون.
(1/142)
|