تأويل مختلف الحديث

قَالُوا: أَحْكَامٌ قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهَا، يُبْطِلُهَا الْقُرْآنُ، وَيَحْتَجُّ بِهَا الْخَوَارِجُ:
1- حُكْمٌ فِي الرَّجْمِ، يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجَمَ وَرَجَمَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 1.
وَالرَّجْمُ إِتْلَافٌ لِلنَّفْسِ لَا يَتَبَعَّضُ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى الْإِمَاءِ نِصْفُهُ؟
وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ: ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ قَالُوا: وَفِي هَذَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَةَ حَدُّهَا الْجَلْدُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمُحْصَنَاتِ لَوْ كُنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ، لَكَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ صَحِيحًا، وَلَزِمَتْ بِهِ هَذِهِ الْحجَّة -وَلَيْسَ الْمُحْصنَات- هَهُنَا إِلَّا الْحَرَائِرُ.
وَسُمِّينَ مُحْصَنَاتٍ، وَإِنْ كُنَّ أَبْكَارًا، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ يَكُونُ لَهُنَّ وَبِهِنَّ، وَلَا يَكُونُ بِالْإِمَاءِ.
فَكَأَنَّهُ قَالَ: "فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْعَذَابِ" يَعْنِي: الْأَبْكَارَ.
وَقَدْ تُسَمِّي الْعَرَبُ الْبَقَرَةَ "الْمُثِيرَةَ" وَهِيَ لَمْ تُثِرْ مِنَ الأَرْض شَيْئا.
__________
1 الْآيَة 25 سُورَة النِّسَاء.

(1/277)


لِأَنَّ إِثَارَةَ الْأَرْضِ تَكُونُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَنْعَامِ.
وَتُسَمِّي الْإِبِلَ فِي مَرَاعِيهَا "هَدْيًا" لِأَنَّ الْهَدْيَ إِلَى الْكَعْبَةِ يَكُونُ مِنْهَا فَتُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنْ لَمْ تُهْدَ.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلْنَاهُ فِي الْمُحْصَنَاتِ، وَأَنَّهُنَّ -فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- الْحَرَائِرُ الْأَبْكَارُ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1 وَالْمُحصنَات -هَهُنَا- الْحَرَائِرُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُنَّ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ لِأَنَّ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ لَا ينكحن.
__________
1 الْآيَة 25 سُورَة النِّسَاء.

(1/278)


2- حُكْمٌ فِي الْوَصِيَّةِ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" 1.
وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 2.
وَالْوَالِدَانِ وَارِثَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا يَحْجُبُهُمَا أَحَدٌ عَنِ الْمِيرَاثِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ، خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ.
فَإِنْ قَالَ: وَمَا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ مِنْ نَسْخِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْأَبَوَانِ حَظَّهُمَا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَيُعْطَيَا أَيْضًا الْوَصِيَّةَ الَّتِي يُوصَى بِهَا لَهُمَا.
قُلْنَا لَهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَظَّهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْمِيرَاثِ، الْمِقْدَارَ الَّذِي نَالَهُمَا بِالْوِرَاثَةِ.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3.
__________
1 الدَّارمِيّ: وَصَايَا 28.
2 الْآيَة 180 سُورَة الْبَقَرَة.
3 الْآيَة 13-14 سُورَة النِّسَاء.

(1/279)


فَوَعَدَ عَلَى طَاعَتِهِ -فِيمَا حَدَّ مِنَ الْمَوَارِيثِ- أَعْظَمَ الثَّوَابِ، وَأَوْعَدَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ -فِيمَا حَدَّ مِنَ الْمَوَارِيثِ- بِأَشَدِّ الْعِقَابِ.
فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَن يُوصل إِلَى وَارِثٍ مِنَ الْمَالِ، أَكْثَرَ مِمَّا حَدَّ اللَّهُ تَعَالَى وَفَرَضَ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ".
وَسَنُبَيِّنُ نَسْخَ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ كَيْفَ يَكُونُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

(1/280)


3- حُكْمٌ فِي النِّكَاحِ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا"1 وَأَنَّهُ قَالَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ، مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" 2.
وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} 3 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا -وَلَمْ يُحَرِّمْ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا الْأُمَّ الْمُرْضِعَةَ، وَالْأُخْتَ بِالرَّضَاعِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 3 فَدخلت الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَكُلِّ رَضَاعٍ، سِوَى الْأُمِّ وَالْأُخْتِ فِيمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْفَرَائِضِ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ طَاعَتُهُمْ أَوْ مَعْصِيَتُهُمْ، وَلِيُجَازِيَ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ مِنْهُمْ، مَنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا أَحَلَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ عِلَّةٌ تُوجِبُ التَّحْلِيلَ أَوِ التَّحْرِيمَ.
وَإِنَّمَا يَقْبُحُ كُلُّ قَبِيحٍ، بِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَيَحْسُنُ الْحَسَنُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، خَلَا أَشْيَاءَ جَعَلَ اللَّهُ فِي الْفِطَرِ اسْتِقْبَاحَهَا، كَالْكَذِبِ، وَالسِّعَايَةِ، وَالْغِيبَةِ، وَالْبُخْلِ، وَالظُّلْمِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِك.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: نِكَاح 27، وَمُسلم: نِكَاح 37، 39، وَأَبُو دَاوُد: نِكَاح 12، وَالتِّرْمِذِيّ: نِكَاح 30، وَالنِّسَاء: نِكَاح 47، 48، وَابْن ماجة: نِكَاح 31، والدارمي: نِكَاح 8، وَأحمد: 1/ 78، 372.
2 أخرجه أَحْمد: 4/ 4.
3 الْآيَة 23 من سُورَة النِّسَاء.

(1/281)


فَإِذَا جَازَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولًا بِشَرِيعَةٍ، فَتُسْتَعْمَلُ حِقَبًا مِنَ الدَّهْرِ، وَيَكُونُ الْمُسْتَعْمِلُونَ لَهَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَبْعَثُ رَسُولًا ثَانِيًا بِشَرِيعَةٍ ثَانِيَةٍ، تَنْسَخُ تِلْكَ الْأُولَى وَيَكُونُ الْمُسْتَعْمِلُونَ لَهَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، كَبَعْثِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسَّبْتِ، وَنُسِخَ السَّبْتُ بِالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْثِهِ إِيَّاهُ بِالْخِتَانِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَنُسِخَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَازَ أَيْضًا أَنْ يَفْرِضَ شَيْئًا عَلَى عِبَادِهِ فِي وَقْتٍ، ثُمَّ يَنْسَخُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَالرَّسُولُ وَاحِدٌ.
وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 1 يُرِيدُ، بِخَيْرٍ مِنْهَا أَسْهَلَ مِنْهَا.
وَإِذَا جَازَ أَنْ يُنْسَخَ الْكِتَابُ بِالْكِتَابِ، جَازَ أَنْ يُنْسَخَ الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ يَأْتِيهِ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ قُرْآنٌ، بِنَاسِخٍ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي لَيْسَ بِقُرْآنٍ.
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" 2.
يُرِيدُ أَنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَابَ وَمِثْلَ الْكِتَابِ مِنَ السُّنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3.
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّا نَقْبَلُ مِنْهُ مَا بَلَغَنَا عَنْهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْسَخُ بَعْضَ الْقُرْآنِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ.
فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ، قَدَحَ فِي بَعْضِ الْقُلُوبِ، وَأَثَّرَ فِي بَعْضِ الْبَصَائِرِ فَقَالَ لَنَا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أَيْ: مَا آتَاكُمْ بِهِ الرَّسُولُ، مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ مِمَّا ينْسَخ الْقُرْآن، فاقبلوه.
__________
1 الْآيَة 106 من سُورَة الْبَقَرَة.
2 أخرجه أَحْمد: 2/ 129، 4/ 131.
3 الْآيَة 7 من سُورَة الْحَشْر.

(1/282)


قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَالسُّنَنُ -عِنْدَنَا- ثَلَاثٌ: "الْأُولَى" سُنَّةٌ أَتَاهُ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتهَا وخالتها" 1، و "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ، مَا يَحْرُمُ من النّسَب" 2.
و"لَا تحرم المصة وَلَا المصتان" 3، و"الدِّيَة عَلَى الْعَاقِلَةِ" 4 وَأَشْبَاهُ هَذِهِ مِنَ الْأُصُول.
و"السّنة الثَّانِيَةُ" سُنَّةٌ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَسُنَّهَا، وَأَمَرَهُ بِاسْتِعْمَالِ رَأْيِهِ فِيهَا فَلَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ فِيهَا لِمَنْ شَاءَ، عَلَى حَسَبِ الْعِلَّةِ وَالْعُذْرِ، كَتَحْرِيمِهِ الْحَرِيرَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِذْنِهِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِيهِ، لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِهِ.
وَكَقَوْلِهِ فِي مَكَّةَ: "لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا"5.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ6 فَإِنَّهُ لِقُيُونِنَا7 فَقَالَ: "إِلَّا الْإِذْخِرَ".
وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ جَمِيعَ شَجَرِهَا، لَمْ يَكُنْ يُتَابَعُ الْعَبَّاسُ عَلَى مَا أَرَادَ، مِنْ إِطْلَاقِ الْإِذْخِرِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ أَنْ يُطْلِقَ مِنْ ذَلِكَ مَا رَآهُ صَلَاحًا، فَأَطْلَقَ الْإِذْخِرَ لِمَنَافِعِهِمْ.
__________
1 سبق تَخْرِيجه ص281.
2 سبق تَخْرِيجه ص281.
3 أخرجه مُسلم: وَضاع 17، 20، 23، وَأَبُو دَاوُد: نِكَاح 10، وَالتِّرْمِذِيّ: رضَاع 3، وَالنَّسَائِيّ: نِكَاح 51، وَابْن ماجة: نِكَاح 31، والدرامي: نِكَاح 8، وَأحمد: 1/ 78، 372.
4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: كتاب 14 بَاب 1، وَابْن ماجة: كتاب 21 بَاب 7.
5 أخرجه البُخَارِيّ: جنائز 77، 76، علم 39، صيد 9-10 بُيُوع 28، لقطَة، جِزْيَة 22 مغازي 53، ديات 8، وَمُسلم: حج 445، والدرامي: بُيُوع 60، وَأحمد 1/ 119، 253، 259، 216-318-348. وَالنَّسَائِيّ: حج 110.
6 الْإِذْخر: نَبَات طيب الرَّائِحَة تسقف بِهِ الْبيُوت فَوق الْخشب.
7 القيون: جمع فين وَهُوَ الْحداد والصائغ.

(1/283)


وَنَادَى مُنَادِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ"1 ثُمَّ أَتَاهُ الْعَبَّاسُ شَفِيعًا، فِي أَخِي مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ، لِيَجْعَلَهُ مُهَاجِرًا بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ: "أُشَفِّعُ عَمِّي وَلَا هِجْرَةَ"2.
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ نَزَلَ لَمْ تَجُزْ فِيهِ الشَّفَاعَاتُ وَقَالَ: "عَادِيُّ الْأَرْضِ، لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي، فَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ"3.
وَقَالَ فِي الْعُمْرَةِ: "وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لأهللت بِعُمْرَة" 4.
__________
1 أخرجه: البُخَارِيّ صيد 10 جِهَاد 1-27-194، مَنَاقِب الْأَنْصَار 45، مغازي 53، وَمُسلم: إِمَارَة 86، وَالتِّرْمِذِيّ: سير 33، وَالنَّسَائِيّ: بيعَة 15، وَابْن ماجة: كَفَّارَات 12، والدرامي: 69، وَأحمد 1/ 226.
2 الرِّوَايَة الَّتِي سَاقهَا الْمُؤلف "أشفع عمي وَلَا هِجْرَة" لم يبين من رَوَاهَا حَتَّى يَبْنِي عَلَيْهَا كَلَامه، وَلم أَجدهَا بعد الْبَحْث. وَهِي متعارضة مَعَ مَا هُوَ أصح مِنْهَا بِكَثِير وَهُوَ مَجْمُوعَة أَحَادِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن إبِْطَال الْهِجْرَة بعد الْفَتْح عُمُوما. وَحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أخي مجاشع بن مَسْعُود الْمَذْكُور رَضِي الله عَنهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لم يبايعه على الْهِجْرَة فَقَالُوا لَهُ: على مَا بايعته يَا رَسُول الله قَالَ: "على الْإِسْلَام وَالْجهَاد وَالْخَيْر ". والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعًا وَهُوَ فِي اللُّؤْلُؤ المراجلان "برقم 1218 وَهُنَاكَ تعرف مَكَانَهُ فِي كل من الصَّحِيحَيْنِ" وَعَلِيهِ فَلَا نَتْرُك مَا نَعْرِف صِحَّته لما لَا نَدْرِي مَا هُوَ وَهَذَا كَفِعْلِهِ فِي ذكر حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا ص220 فِي التَّعْلِيق رقم 58 فِي الملاحظات فَإِنَّهُ أَتَى بِرِوَايَة لم نجدها وَلم يبين هُوَ مَا مصدرها وَهِي مناقضة لظَاهِر الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث الثَّابِتَة الصَّحِيحَة. فَيجب التَّنْبِيه إِلَى أَنه لَا نَخُوض مشكلة لَا وجود لَهَا وَلَا نتشاغل بِرِوَايَة قبل معرفَة مصدرها. لِأَنَّهَا لَو لم تثبت لكَانَتْ مُجَرّد فرض أَو إحْيَاء لشُبْهَة لَيْسَ لَهَا وجود صَحِيح. فَلَو كَانَ لَهَا وجود واه كَانَ يَكْفِي فِي ردهَا أَن يُقَال إِنَّهَا لم تثبت حَتَّى نهتم بمعارضتها. -للشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.د
3 ورد فِي الْأَحَادِيث الضعيفة للألباني برقم 553، والإرواء برقم 1547 وَهُوَ عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا.
وَقد ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 3671 عَن طَاوُوس بِزِيَادَة: "ثمَّ لكم من بعدِي فَمن أَحْيَا شَيْئا من موَات الأَرْض لَهُ رقبَتهَا".
وعادي الأَرْض: أَي قديم الأَرْض، نِسْبَة لقوم هود عَلَيْهِ السَّلَام "عَاد" على عَادَتهم نِسْبَة كل قديم إِلَى عَاد.
4 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "لَو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لم أسق الْهَدْي ولجعلتها عمْرَة، فَمن كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَه هدي فليحل وليجعلها عمْرَة" جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 17601 وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ.

(1/284)


وَقَالَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَجَعَلْتُ وَقْتَ هَذِهِ الصَّلَاةِ، هَذَا الْحِينَ" 1.
"وَنَهَى عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَعَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَعَنِ النَّبِيذِ فِي الظُّرُوفِ"2.
ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنَّ النَّاسَ يُتْحِفُونَ ضَيْفَهُمْ، وَيَحْتَبِسُونَ لِغَائِبِهِمْ فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُم" 3.
وَقَالَ: "وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا فَإِنَّهُ بَدَا لِي أَنَّهُ يُرِقُّ الْقُلُوبَ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ فِي الظُّرُوفِ فَاشْرَبُوا ولَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا" 4.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمِمَّا يَزِيدُ فِي وُضُوحِ هَذَا، حَدِيثٌ حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَرَأَى رَجُلًا مَعَهُ نَبِيذٌ فِي نَقِيرٍ، فَقَالَ: أَهْرِقْهُ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: أَو تَأذن لِي أَنْ أَشْرَبَهُ ثُمَّ لَا أَعُودُ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْرَبْهُ وَلَا تَعُدْ" 5.
__________
1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمرتهم أَن يصلوها هَكَذَا -يَعْنِي الْعشَاء نصف اللَّيْل".. جَامع الْأَحَادِيث برقم 17714 عَن ابْن عَبَّاس وَأخرجه أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وقريبًا من مَعْنَاهُ برقم 17713 فِي رِوَايَة عَن أبي هُرَيْرَة.
2 أخرجه الدَّارمِيّ: أضاحي 10، وَالنَّسَائِيّ: أضاحي 37، وَأحمد 6/ 51.
3 أخرجه ابْن ماجة: أضاحي 16.
4 هجرًا: فحشًا. والْحَدِيث أخرجه مُسلم جنائز 106، أضاحي 37، وَأَبُو دَاوُد: جنائز 77، أشربة 7، وَالتِّرْمِذِيّ: جنائز 7، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 10، ضحايا 39، أشربة 40، وَابْن ماجة: جنائز 47، وَأحمد 1/ 145، 452، 3/ 38-63-237-350، 5/ 350-355-357-359-361.
5 لم نجد هَذَا الحَدِيث فِيمَا لدينا من مراجع.

(1/285)


فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَطْلَقَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَحْظُرَ وَأَنْ يُطْلِقَ بَعْدَ أَنْ حَظَرَ، لِمَنْ شَاءَ.
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، لَتَوَقَّفَ عَنْهَا، كَمَا تَوَقَّفَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ، وَقَالَ لِلسَّائِلِ "هَذَا مَا أُوتِيتُ، وَلَسْتُ أَزِيدُكَ حَتَّى أُزَادَ"1.
وَكَمَا تَوَقَّفَ حِينَ أَتَتْهُ الْمُجَادِلَةُ2 فِي زَوْجِهَا، تَسْأَلُهُ عَنِ الظِّهَارِ، فَلَمْ يُرْجِعْ إِلَيْهَا قَوْلًا، وَقَالَ: "يَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ".
وَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَبِهِ أَثَرُ طِيبٍ فَاسْتَفْتَاهُ، فَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ قَوْلًا، حَتَّى تَغَشَّى ثَوْبَهُ وَغَطَّ غَطِيطَ الْفَحْلِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَفْتَاهُ،
"وَالسُّنَّةُ الثَّالِثَةُ" مَا سَنَّهُ لَنَا تَأْدِيبًا، فَإِنْ نَحْنُ فَعَلْنَاهُ، كَانَتِ الْفَضِيلَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ نَحْنُ تَرَكْنَاهُ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَأَمْرِهِ فِي الْعِمَّةِ بِالتَّلَحِّي، وَكَنَهْيِهِ عَنْ لُحُومِ الْجَلَالَةِ، وَكَسْبِ الْحَجَّامِ3.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي تَحْرِيمِهِ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، مَعَ قَوْلِ اللَّهِ عز: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 4.
__________
1 أخرجه مَالك فِي الْمُوَطَّأ: فَرَائض 7، والدارمي: فَرَائض 26، وَأحمد: 1/ 26، 38، 4/ 293. وَقد وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ.
عَن مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَن عمر بن الْخطاب سَأَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الْكَلَالَة؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "يَكْفِيك من ذَلِك الْآيَة الَّتِي أنزلت فِي الصَّيف آخر سُورَة النِّسَاء ".
2 هِيَ خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة: اشتكت زَوجهَا أَوْس بن الصَّامِت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم واستفتته فِي ظِهَاره لَهَا، وجادلته فِي ذَلِك فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهَا قَوْله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} سُورَة المجادلة.
3 الْحجام: المصاص، وحرفته الْحجامَة كالكتابة، وَكَانَ النَّاس قَدِيما يتداوون بهَا لإِخْرَاج الدِّمَاء الْفَاسِدَة من ظُهُورهمْ.
4 الْآيَة 145 من سُورَة الْأَنْعَام.

(1/286)


أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي التَّحْرِيمِ.
ثُمَّ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ، وَنَزَلَ فِيهَا تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقَةِ، وَالْمَوْقُوذَةِ، وَالْمُتَرَدِّيَةِ، وَالنَّطِيحَةِ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ.
فَزَادَنَا اللَّهُ تَعَالَى، فِيمَا حَرُمَ بِالْكِتَابِ، وَزَادَنَا فِي ذَلِكَ -عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْرِيمَ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمْنِ، مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1.
أَعْلَمَنَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْنَا فِي قَصْرِنَا مَعَ الْخَوْفِ.
وَأَعْلَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْقَصْرِ فِي الْأَمْنِ أَيْضًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} 2.
وَقَدْ رَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ.
أَرَادَ: أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ، مُنْبِئَةٌ عَمَّا أَرَادَ الله تَعَالَى فِيهِ.
__________
1 الْآيَة 101 من سُورَة النِّسَاء.
2 الْآيَة 6 من سُورَة الْمَائِدَة.

(1/287)


4- حُكْمٌ فِي الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُخْتَلِفٌ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلِيمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ" 2.
قَالُوا: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ فَرْضٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَجِبُ غُسْلُ الْعِيدَيْنِ، عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالِاخْتِيَارِ، لِيَشْهَدُوا الْمَجْمَعَ بِأَبْدَانٍ نَقِيَّةٍ مِنَ الدَّرَنِ3 سَلِيمَةً مِنَ التَّفْلِ4.
وَقَدْ أَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِالتَّطَيُّبِ، وَتَنْظِيفِ الثَّوْبِ، وَأَنْ يَلْبَسْ ثَوْبَيْنِ لَجُمْعَتِهِ سوى ثوبي مهنته.
__________
1 حَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ. اُنْظُرْهُ فِي اللُّؤْلُؤ والمرجان برقم 487.
2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: جُمُعَة 5، وَأَبُو دَاوُد: طَهَارَة 128، وَالنَّسَائِيّ: جُمُعَة 9، وَابْن ماجة: إِقَامَة 81، والدرامي: صَلَاة 190 وَأحمد 5/ 8-11-15-16-22-40.
3 الدَّرن: الْوَسخ.
4 التفل: تغير الرَّائِحَة.

(1/288)


وَهَذَا كُلُّهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ، وَإِيجَابٌ عَلَى الْفَضِيلَةِ، لَا عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِ.
ثُمَّ عَلِمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ الْعَلِيلُ وَالْمَشْغُولُ، وَيَكُونُ فِي الْبَلَدِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الْغُسْلُ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ، فَقَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ" أَيْ فَجَائِزٌ.
ثُمَّ بَيَّنَ -بَعْدَ ذَلِكَ- أَنَّ الْغُسْلَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ.
كَمَا نَهَى عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ: "بَدَا لِي أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُتْحِفُونَ ضَيْفَهُمْ، وَيُخَبِّئُونَ لِغَائِبِهِمْ، فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ"1.
وَنَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ قَالَ: "بدالي أَنَّ ذَلِكَ يُرِقُّ الْقُلُوبَ، فَزُورُوهَا وَلَا تَقولُوا هجرًا"2.
__________
1 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 9، 3/ 85،-368، 386، 5/ 277-281، 6/ 150.
2 كنز الْعمَّال برقم 42590، وَقد عزاهُ إِلَى مُسْند أَحْمد عَن أنس بل مَالك، وَلم أَجِدهُ فِي صَحِيح الْجَامِع وَلَا فِي ضعيفه. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.

(1/289)


5- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْعِيَانُ احْتِرَاقُ وَرَقِ الْمُصْحَفِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ بن لُهَيْعَةَ1 عَنْ مِشْرَحِ بْنِ عَاهَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ2 قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، مَا احْتَرَقَ" 3.
قَالُوا: وَهَذَا خَبَرٌ لَا نَشُكُّ فِي بُطْلَانِهِ، لِأَنَّا قَدْ نَرَى الْمَصَاحِفَ تَحْتَرِقُ، وَيَنَالُهَا مَا يَنَالُ غَيْرَهَا مِنَ الْعُرُوضِ وَالْكُتُبِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِهَذَا تَأْوِيلًا، ذَهَبَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، وَأَنَا مُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو4 قَالَ: سَأَلَتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: يَعْنِي لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِنْسَانٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّار، مَا احْتَرَقَ.
__________
1 ابْن لَهِيعَة: هُوَ عبد الله بن لَهِيعَة بن عقبَة الْحَضْرَمِيّ الغافقي الْمصْرِيّ، قَاضِي مصر وعالمها، قَالَ أَحْمد: احترقت كتبه فَمن كتب عَنهُ قَدِيما فسماعه صَحِيح. مَاتَ سنة 174هـ.
2 عقبَة بن عَامر بن عبس بن عَمْرو الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، روى كثيرا من الْأَحَادِيث، كَانَ قَارِئًا عَالما بالفرائط وَالْفِقْه، فصيح اللِّسَان شَاعِرًا كَاتبا وَهُوَ أحد من جمع الْقُرْآن، مَاتَ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنْهُمَا.
3 أخرجه الدَّارمِيّ: فَضَائِل الْقُرْآن 1، وَأحمد 4/ 151-155.
4 يزِيد بن عَمْرو بن ربيعَة من بني زيد مَنَاة، الْحَنْظَلِي التَّمِيمِي: من شعراء الْعَصْر الْأمَوِي، كَانَ لَهُ أَخَوان هما: صَخْر والمغيرة وَكِلَاهُمَا شَاعِر أَيْضا. فَرُبمَا اخْتَلَط على الروَاة شعر أحدهم بِشعر آخر. توفّي عَام 90هـ.

(1/290)


وَأَرَادَ الْأَصْمَعِيُّ، أَنَّ مِنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَفَّظَهُ إِيَّاهُ، لَمْ تَحْرِقْهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنْ أُلْقِيَ فِيهَا بِالذُّنُوبِ كَمَا قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: "احْفَظُوا الْقُرْآن، أَو اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ" وَجَعَلَ الْجِسْمَ ظَرْفًا لِلْقُرْآنِ كَالْإِهَابِ.
وَالْإِهَابُ: الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ.
وَلَوْ كَانَ الْإِهَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْبُوغًا، مَا جَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ كِنَايَةً عَنِ الْجِسْمِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -حِينَ خَطَبَتْ وَوَصَفَتْ أَبَاهَا فَقَالَتْ: "قَرَّرَ الرُّءُوس عَلَى كَوَاهِلِهَا، وَحَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا" تَعْنِي: فِي الْأَجْسَادِ.
وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ هَذَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَمًا لِلنُّبُوَّةِ، وَدَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ عِنْدِهِ نَزَلَ، أَبَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي وَقْتٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَعِنْدَ طَعْنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَكُونُ الْآيَاتُ فِي عُصُورِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنْ مَيِّتٍ يَحْيَا، وَذِئْبٍ يَتَكَلَّمُ، وَبَعِيرٍ يَشْكُو، وَمَقْبُورٍ تَلْفِظُهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ يُعْدَمُ ذَلِكَ بَعْدَهُمْ.
وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُرَدَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: "مَا احْتَرَقَ" إِلَى الْقُرْآنِ لَا إِلَى الْإِهَابِ.
يُرِيدُ: أَنَّهُ إِنْ كُتِبَ الْقُرْآنُ فِي جِلْدٍ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، احْتَرَقَ الْجِلْدُ وَالْمِدَادُ، وَلَمْ يَحْتَرِقِ الْقُرْآنُ، كَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْفَعُهُ مِنْهُ، وَيَصُونُهُ عَنِ النَّارِ. وَلَسْنَا نَشُكُّ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَا عَلَى الْمَجَازِ، كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُ الْكَلَامِ: "إِنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ، دَلِيلٌ عَلَى الْقُرْآن وَلَيْسَ بِهِ".

(1/291)


وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} 1.
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو" 2 يُرِيد الْمُصحف.
__________
1 الْآيَة 79 من سُورَة الْوَاقِعَة.
2 أخرجه البُخَارِيّ: جِهَاد 129، وَمُسلم: إِمَارَة 92-93-94، وَأَبُو دَاوُد: جِهَاد 81، وَابْن ماجة: جِهَاد 45، والموطأ: جِهَاد 7، وَأحمد 2/ 6-7-10 - 55.

(1/292)


6- قَالُوا: حَدِيثٌ يَنْقُضُهُ الْقُرْآنُ: هَلْ تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي الْأَجَلِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ" 1.
وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 2.
قَالُوا: فَكَيْفَ تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي أَجَلٍ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَلَا يَتَقَدَّمُ؟!!
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ، تَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: السَّعَةُ وَالزِّيَادَةُ فِي الرِّزْقِ، وَعَافِيَةِ الْبَدَنِ، وَقَدْ قِيلَ: الْفَقْرُ هُوَ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ.
وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُمِيتُ عَدُوَّهُ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدُ يَسَفُّ الْخُوصَ3.
فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي أَنْ تُمِيتَهُ.
قَالَ: "قَدْ فَعَلْتُ، قَدْ أَفْقَرْتُهُ" وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ... إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاء
يَعْنِي الْفَقِير.
__________
1 سبق تَخْرِيجه ص53.
2 الْآيَة 61 من سُورَة النَّمْل.
3 يسف الخوص: أَي ينسج ورق النّخل.

(1/293)


فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُسَمَّى الْفَقْرُ مَوْتًا، وَيُجْعَلَ نَقْصًا مِنَ الْحَيَاةِ، جَازَ أَنْ يُسَمَّى الْغِنَى حَيَاةً، وَيُجْعَلَ زِيَادَةً فِي الْعُمْرِ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْتُبُ أَجَلَ عَبْدِهِ عِنْدَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، وَيَجْعَلُ بِنْيَتَهُ وَتَرْكِيبَهُ وَهَيْئَتَهُ، لِتَعْمِيرِ ثَمَانِينَ سَنَةً، فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ، زَادَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ التَّرْكِيبِ وَفِي تِلْكَ الْبِنْيَةِ، وَوَصَلَ ذَلِكَ النَّقْصُ، فَعَاشَ عِشْرِينَ أُخْرَى حَتَّى يَبْلُغَ الْمِائَةَ، وَهِيَ الْأَجَلُ الَّذِي لَا مُسْتَأْخَرَ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدم.

(1/294)


7- قَالُوا حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ: الصَّدَقَةُ وَالْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1.
وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ2.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: إِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِالذُّنُوبِ قَضَاءً مِنَ الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا هُوَ تَصَدَّقَ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا قَدِ اسْتَحَقَّ مِنْ ذَلِكَ.
يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ"3 أَفَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ تَعَرَّضَ لِعِقَابِهِ، فَإِذَا أَزَالَ ذَلِكَ الْغَضَبَ بِصَدَقَتِهِ، أَزَالَ الْعِقَابَ.
وَمَثْلُ هَذَا، رَجُلٌ أَجْرَمْتُ4 عَلَيْهِ جُرْمًا عَظِيمًا، فَخِفْتُ بَوَائِقَهُ وَعَاجِلَ جَزَائِهِ، فَأَهْدَيْتُ لَهُ هَدِيَّةً كَفَفْتُهُ بِهَا، وَقُلْتُ الْهَدِيَّةُ تدفع الْعقَاب الْمُسْتَحق.
__________
1 الْآيَة 40 من سُورَة النَّحْل.
2 البُخَارِيّ: زَكَاة 13.
3 أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن مُعَاوِيَة بن حيدة، وَفِيه صَدَقَة بن عبد الله السمعين، وَلَا بَأْس بِهِ فِي الشواهد.
4 فِي نسختين "إِلَيْهِ".

(1/295)


8- قَالُوا حَدِيثٌ يُبْطِلُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ- طَاعَةُ الْأَئِمَّةِ:
قَالُوا: "رُوِّيتُمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ، إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ غَوَيْتُمْ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ ضَلَلْتُمْ"1.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَعْقُولِ، وَكَيْفَ يَكُونُونَ بِمَعْصِيَتِهِمْ ضَالِّينَ، وَبِطَاعَتِهِمْ غَاوِينَ؟!!
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَنَاقُضٌ مَعَ التَّأْوِيلِ.
وَمَعْنَاهُ فِيمَا يَرَى: أَنَّهُمْ إِنْ أُطِيعُوا فِي الَّذِي يأرون بِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَظُلْمِ الرَّعِيَّةِ؛ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، غَوَى مُطِيعُهُمْ،
وَإِنْ عُصُوا، فَخُرِجَ عَلَيْهِمْ، وَشُقَّتْ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ الْخَوَارِجُ، ضَلَّ عَاصِيهِمْ.
وَالَّذِي يَؤُولُ إِلَيْهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ، أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ لَهُمْ، وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ، أَرَادَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ عَلَى الْمَنَابِرِ مِنَ الْخَيْرِ، إِنْ عُصُوا فِيهِ ضَلَّ عَاصِيهِمْ وَمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، إِنْ أُطِيعُوا فِيهِ غوى مطيعهم.
__________
1 لم نجده بِهَذَا اللَّفْظ، وَوجدنَا فِي صَحِيح مُسلم حَدِيثا قَرِيبا مِنْهُ: كتاب الْإِمَارَة 16 مَا يَلِي: إِنَّه يسْتَعْمل عَلَيْكُم أُمَرَاء فتعرفون وتنكرون، فَمن كره فقد برِئ، وَمن أنكر فقد سلم، وَلَكِن من رَضِي وتابع" قَالُوا: يَا رَسُول الله! أَلا نقاتلهم؟ قَالَ: لَا مَا صلوا.

(1/296)


9- قَالُوا حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ- رُؤْيَةُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ" 1.
وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 2 وَيَقُولُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3.
قَالُوا: وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي حُجَّةِ الْعَقْلِ، أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَ، فِي شَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ، وَقَدْ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 4.
قَالُوا: فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحًا، فَالرُّؤْيَةُ فِيهِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} 5 وَقَالَ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: مَوَاقِيت 16 - 26، أَذَان 129، رقاق 53، تَوْحِيد؛ 24 وَذَلِكَ بِلَفْظ: "إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر" وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: جنَّة 16، بَاب مَا جَاءَ فِي رُؤْيَة الرب تبَارك وَتَعَالَى بِلَفْظ: "إِنَّكُم ستعرضون على ربكُم فترونه كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر لَا تضَامون فِي رُؤْيَته، فَإِن اسْتَطَعْتُم أَن لَا تغلبُوا على صَلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس وَصَلَاة قبل غُرُوبهَا فافعلوا، ثمَّ قَرَأَ: "فسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب ".
وَأخرجه أَحْمد 3/ 9، 17، 26.
2 الْآيَة 103 من سُورَة الْأَنْعَام.
3 الْآيَة 11 من سُورَة الشورى.
4 الْآيَة 143 من سُورَة الْأَعْرَاف.
5 الْآيَة 45 من سُورَة الْفرْقَان.
6 الْآيَة 106 من سُورَة الْبَقر. وجدنَا الْآيَة خطأ بِالْكتاب: "ألم تَرَ أَن الله.." فصححناها.

(1/297)


قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِ الْكَذِبُ، لِتَتَابُعِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ بِهِ، مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ كَذِبًا، جَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِنَا فِي التَّشَهُّدِ -الَّذِي لَمْ نَعْلَمْهُ إِلَّا بِالْخَبَرِ، وَفِي صَدَقَةِ النَّعَمِ، وَزَكَاةِ النَّاضِّ1 مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِتَاقِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْنَا عِلْمُهَا بِالْخَبَرِ، وَلَمْ يَأْتِ لَهَا بَيَانٌ فِي الْكِتَابِ -بَاطِلًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وَقَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي" فَلَيْسَ نَاقِضًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" لِأَنَّهُ أَرَادَ -جَلَّ وَعَزَّ- بِقَوْلِهِ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ" فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَنْ تَرَانِي" يُرِيدُ: فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ -جَلَّ وَعَزَّ- احْتَجَبَ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَيَوْمَ الْجَزَاءِ وَالْقِصَاصِ، فَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، كَمَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْقَمَرِ.
وَلَمْ يَقَعِ التَّشْبِيهُ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالَاتِ الْقَمَرِ، فِي التَّدْوِيرِ، وَالْمَسِيرِ وَالْحُدُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهَا، عَلَى أَنَّا نَنْظُرُ إِلَيْهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا نَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا يُخْتَلَفُ فِي الْقَمَرِ.
وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِالْقَمَرِ فِي الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا أَبْيَنُ مِنَ الشَّمْسِ، وَمِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَأَشْهَرُ مِنَ الْقَمَرِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَقَدْ بَهَرْتَ فَمَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ... إِلَّا عَلَى أَحَدٍ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "لَا تُضَامُّونَ 2 فِي رُؤْيَتِهِ" دَلِيلٌ؛ لِأَن التضام من
__________
1 الناض: إِذا تحول عينا بعد أَن كَانَ مَتَاعا "لقاموس الْمُحِيط 2/ 358".
2 "تضَامون" الرِّوَايَة الْمُشَدّدَة لِابْنِ ماجة فِي الْمُقدمَة بَاب 13 وَقد ورد فِي الْحَاشِيَة: تضَامون أَي تردحمون، وروى "تضَامون" أَي يلحقكم ضيم ومشقة.
وَكَذَلِكَ ورد فِي هَامِش الصفحة 139 من المجلد الأول من صَحِيح البُخَارِيّ للعلامة أَحْمد بن مُحَمَّد الْخَطِيب الْقُسْطَلَانِيّ فِي تَعْلِيقه على الحَدِيث قَوْله: "لَا تضَامون" بِضَم أَوله وَتَخْفِيف الْمِيم: أَي لَا ينالكم ضيم أَي تَعب أَو ظلم.

(1/298)


النَّاس يَكُونُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ -عِنْدَ طَلَبِهِمُ الْهِلَالَ- فَيَجْتَمِعُونَ، وَيَقُولُ وَاحِدٌ: "هُوَ ذَاكَ هُوَ ذَاكَ" وَيَقُولُ آخَرُ: "لَيْسَ بِهِ وَلَيْسَ الْقَمَرُ كَذَلِكَ" لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَرَاهُ بِمَكَانِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ لِطَلَبِهِ.
وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاضٍ عَلَى الْكِتَابِ، وَمُبَيِّنٌ لَهُ.
فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، وَجَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّحِيحِ مِنَ الْخَبَرِ: تَرَوْنَ1 رَبَّكُمْ تَعَالَى فِي الْقِيَامَةِ؛ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي فَهْمٍ وَنَظَرٍ وَلُبٍّ وَتَمْيِيزٍ، أَنَّهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ.
وَفِي قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أَبْيَنُ الدِّلَالَةِ2 عَلَى أَنَّهُ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ.
وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ. لَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى مَا عَلِمُوهُ.
وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ حَدَّهُ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ مَحْدُودًا، فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْمَخْلُوقِينَ، وَمَنْ شَبَّهَهُ عِنْدَهُمْ بِالْخَلْقِ فَقَدْ كَفَرَ.
فَمَا يَقُولُونَ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّأَهُ، وَكَلَّمَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ لَهُ فِيهِ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أَيَقْضُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ مُشَبِّهًا لِلَّهِ مُحَدِّدًا؟
لَا، لَعَمْرُ اللَّهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَ هَذَا، لَو كَانَ على تقديرهم.
__________
1 وَفِي نسختين: ترَوْنَ الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة.
2 وَفِي نُسْخَة: أبين الْأَدِلَّة.

(1/299)


وَلَكِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، يَرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، مَا أَجَّلَهُ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَقَالَ لَهُ: {لَنْ تَرَانِي} يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} .
أَعْلَمَهُ أَنَّ الْجَبَلَ لَا يَقُومُ لِتَجَلِّيهِ حَتَّى يَصِيرَ دَكًّا، وَإِنَّ الْجِبَالَ إِذَا ضَعُفَتْ عَنِ احْتِمَالٍ ذَلِكَ، فَابْنُ آدَمَ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ؛ إِلَى أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى النَّظَرِ، وَيَكْشِفَ عَنْ بَصَرِهِ الْغِطَاءَ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا.
وَالتَّجَلِّي: هُوَ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: "جَلَوْتُ الْعَرُوس" إِذا أبرزتها و"جلوت الْمِرْآةَ وَالسَّيْفَ" إِذَا أَظْهَرْتُهُمَا مِنَ الصَّدَأِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرُّؤْيَةَ فِي قَوْلِهِ: "تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: "ألم تَرَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يُرِيدُ: "أَلَمْ تَعْلَمْ" فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ، لِأَنَّا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا؛ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي الدُّنْيَا وَاحِدًا.
وَقَرَأْتُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ فَتَحَ فَاهُ بِالْوَحْيِ قَالَ: "طُوبَى لِلَّذِينِ يَرْحَمُونَ، فَعَلَيْهِمْ تَكُونُ الرَّحْمَةُ، طُوبَى لِلْمُخْلِصَةِ قُلُوبُهُمْ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى"، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1.
وَيَقُولُ فِي قَوْمٍ سَخِطَ عَلَيْهِمْ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} 2.
__________
1 الْآيَة 22 من سُورَة الْقِيَامَة.
2 الْآيَة 15 من سُورَة المطففين.

(1/300)


أَفَمَا فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوهَ النَّاضِرَةَ -الَّتِي هِيَ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ- هِيَ الَّتِي لَا تُحْجَبُ إِذَا حُجِبَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ؟
فَإِنْ قَالُوا لَنَا: كَيْفَ ذَلِكَ النَّظَرُ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ؟
قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَنْتَهِي فِي صِفَاتِهِ -جَلَّ جَلَالُهُ- إِلَّا إِلَى حَيْثُ انْتَهَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَدْفَعُ مَا صَحَّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ فِي أَوْهَامِنَا، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى نَظَرِنَا، بَلْ نُؤْمِنُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ فِيهِ بِكَيْفِيَّةٍ أَوْ حَدٍّ، أَوْ أَنْ نَقِيسَ عَلَى مَا جَاءَ مَا لَمْ يَأْتِ. وَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَقْدِ سَبِيلُ النَّجَاةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْأَهْوَاءِ كُلِّهَا غَدًا، إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى.

(1/301)


10- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ حَوْلَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ:
قَالُوا: "رُوِّيتُمْ أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله عز وَجل" 1.
فَإِن كنت أردتم بالأصابع هَهُنَا النِّعَمَ، وَكَانَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا فَهُوَ مَذْهَبٌ.
وَإِنْ كُنْتُمْ أَرَدْتُمُ الْأَصَابِعَ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَحِيلُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُوَصَفُ بِالْأَعْضَاءِ، وَلَا يُشَبَّهُ بِالْمَخْلُوقِينَ.
وَذَهَبُوا فِي تَأْوِيلِ الْأَصَابِعِ إِلَى أَنَّهُ النِّعَمُ لِقَوْلِ الْعَرَبِ "مَا أَحْسَنَ إِصْبَعَ قلان عَلَى مَالِهِ" يُرِيدُونَ أَثَرَهُ، وَقَالَ الرَّاعِي فِي وَصْفِ إِبِلِهِ:
ضَعِيفُ الْعَصَا بَادِي الْعُرُوقِ تَرَى لَهُ ... عَلَيْهَا إِذَا مَا أَمْحَلَ النَّاسُ أُصْبُعَا
أَيْ: تَرَى لَهُ عَلَيْهَا أَثَرًا حَسَنًا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَإِنَّ الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ الْإِصْبَعِ لَا يُشْبِهُ الْحَدِيثَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي دُعَائِهِ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" 2.
فَقَالَتْ لَهُ إِحْدَى أَزوَاجه: "أَو تخَاف -يَا رَسُولَ اللَّهِ- عَلَى نَفْسِكَ"؟
__________
1 سبق تَخْرِيجه الحَدِيث ص54.
2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: قدر 7، دعوات 89، 124، وَابْن ماجة: دُعَاء 2، وَأحمد: 4/ 182 - 418.

(1/302)


فَقَالَ: "إِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ، بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
فَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَحْفُوظٌ بِتَيْنِكَ النِّعْمَتَيْنِ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا بِالتَّثْبِيتِ؟ وَلِمَ احْتَجَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ لَهُ: "أَتَخَافُ عَلَى نَفْسِكَ" بِمَا يُؤَكِّدُ قَوْلَهَا؟ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافَ إِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَحْرُوسًا بِنِعْمَتَيْنِ.
فَإِنْ قَالَ لَنَا: مَا الإصبع عنْدك هَهُنَا؟
قُلْنَا: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ يَحْمِلُ الْأَرْضَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَكَذَا عَلَى أُصْبُعَيْنِ.
وَلَا يجوز أَن تكون الإصبع -هَهُنَا- نِعْمَةً.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 1 وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ.
وَلَا نَقُولُ أُصْبُعٌ كَأَصَابِعِنَا، وَلَا يَدٌ كَأَيْدِينَا، وَلَا قَبْضَةٌ كَقَبَضَاتِنَا، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يشبه شَيْئا منا.
__________
1 الْآيَة 67 من سُورَة الزمر.

(1/303)


11- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ "أَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ"1 وَهَذَا يَسْتَحِيلُ إِنْ كُنْتُمْ أَرَدْتُمْ بِالْيَدَيْنِ الْعُضْوَيْنِ، وَكَيْفَ تَعْقِلُ يَدَانِ كِلْتَاهُمَا يَمِينٌ؟ ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحِيلًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَعْنَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، لِأَنَّ كُلَّ2 شَيْءٍ؛ فَمَيَاسِرُهُ تَنْقُصُ عَنْ مَيَامِنِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَالتَّمَامِ.
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحِبُّ التَّيَامُنَ، وَتَكْرَهُ التَّيَاسُرِ، لِمَا فِي الْيَمِينِ مِنَ التَّمَامِ، وَفِي الْيَسَارِ مِنَ النَّقْصِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: "الْيُمْنُ وَالشُّؤْمُ".
فَالْيُمْنُ مِنَ الْيَدِ: الْيُمْنَى، وَالشُّؤْمُ مِنَ الْيَدِ: الشُّؤْمَى، وَهِيَ الْيَدُ الْيُسْرَى، وَهَذَا وَجْهٌ بَيِّنٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: الْعَطَاءَ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْيُمْنَى هِيَ الْمُعْطِيَةُ.
فَإِذَا كَانَتِ الْيَدَانِ يَمِينَيْنِ، كَانَ الْعَطَاءُ بِهِمَا.
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَمِينُ اللَّهِ سَحَّاءٌ لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"3.
أَيْ تَصُبُّ الْعَطَاءَ وَلَا يَنْقُصُهَا ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمِرَّارُ حِينَ قَالَ:
وَإِنَّ عَلَى الْأَوَانَةِ مِنْ عَقِيلِ ... فَتًى كِلْتَا الْيَدَيْنِ لَهُ يَمِين
__________
1 أخرجه مُسلم: فِي بَاب الْإِمَارَة حَدِيث رقم 18.
2 لَعَلَّ الْأَصَح: لَا كل شَيْء.
3 أخرجه التِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة 5/ 3 وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 13، وَأحمد 2/ 242، 312، 500.
سحاء: أَي دائمة الصب بالعطاء، لَا يغيضها: أَي لَا ينقصها، غاض المَاء، قل ونضب، وغاضه الله: يتَعَدَّى وَيلْزم "اللَّيْل وَالنَّهَار" ظرف لـ "سحاء".

(1/304)


12- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- عَجَبُ الرَّبِّ وَضَحِكُهُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ، وَسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ إِيَّاكُمْ"1 و"ضحك مِنْ كَذَا".
وَإِنَّمَا يَعْجَبُ وَيَضْحَكُ، مَنْ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ يَعْلَمُ فَيَعْجَبُ وَيَضْحَكُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعَجَبَ وَالضَّحِكَ، لَيْسَ عَلَى مَا ظَنُّوا، وَإِنَّمَا هُوَ "عَلَى حَلٍّ عِنْدَهُ كَذَا، بِمَحَلِّ مَا يَعْجَبُ مِنْهُ، وَبِمَحَلِّ مَا يَضْحَكُ مِنْهُ".
لِأَنَّ الضَّاحِكَ إِنَّمَا يَضْحَكُ لِأَمْرٍ مُعْجِبٍ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِيِّ الَّذِي ضَافَهُ ضَيْفٌ، وَلَيْسَ فِي طَعَامِهِ فَضْلٌ عَنْ كِفَايَتِهِ، فَأَمَرَ امْرَأَتَهُ بِإِطْفَاءِ السِّرَاجِ لِيَأْكُلَ الضَّيْفُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّ الْمُضِيفَ لَهُ لَا يَأْكُل.
__________
1 أخرج ابْن ماجة الحَدِيث فِي الْمُقدمَة بَاب "13" برقم 181 بِلَفْظ: عَن وَكِيع بن حرس عَن عَمه أبي رزين قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: "ضحك رَبنَا من قنوط عباده وَقرب غَيره" قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَو يضْحك الرب؟ قَالَ: "نعم" قلت: لن نعدم من رب يضْحك خيرا.
"والقنوط" كالجلوس وَهُوَ الْيَأْس، "غَيره" الْغَيْر بِمَعْنى تعير الْحَال وَهُوَ اسْم من قَوْلك غيرت الشرء فَتغير حَاله من الْقُوَّة إِلَى الضعْف وَمن الْحَيَاة إِلَى الْمَوْت. وَالْمعْنَى أَن الله تَعَالَى يضْحك من أَن العَبْد يصير مأيوسًا من الْخَيْر بِأَدْنَى شَرّ وَقع عَلَيْهِ مَعَ قرب تَغْيِيره تَعَالَى الْحَال من شَرّ إِلَى خير.
والإل: مشدة الْقنُوط، وَيجوز أَن يكون من رفع الصَّوْت بالبكاء، وَذكر فِي الْقَامُوس فِي مَعَاني الإل: الْجزع عِنْد الْمُصِيبَة.

(1/305)


"لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ صَنِيعِكُمَا الْبَارِحَةَ" أَيْ حَلَّ عِنْدَهُ مَحَلَّ مَا يَعْجَبُ النَّاسُ مِنْهُ.
وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} 1.
لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ عِنْدِي عَجَبٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّهُ عَجِيبٌ عِنْد من سَمعه.
__________
1 الْآيَة 5 من سُورَة الرَّعْد.

(1/306)


13- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- الرِّيحُ مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَنِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِنَّهَا مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَنِ" 1.
وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الرِّيحُ عِنْدَكُمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الرَّحْمَنِ، جَلَّ وَعَزَّ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنَّفَسِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الرِّيحَ مِنْ فَرَجِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرُوحِهِ.
يُقَالُ: اللَّهُمَّ نَفِّسْ عَنِّي الْأَذَى، وَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّيحِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} 2.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "إِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ رَبِّكُمْ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ" 3.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهَذَا مِنَ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي شِدَّةٍ وَكَرْبٍ وَغَمٍّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي بِالْأَنْصَارِ.
يَعْنِي: أَنَّهُ يَجِدُ الْفَرَجَ مِنْ قِبَلِ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ مِنَ الْيَمَنِ.
__________
1 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 250 - 268 - 409 - 437 - وَالتِّرْمِذِيّ فِي سنَنه: فتن 65، وَابْن ماجة: أدب 29.
2 الْآيَة 9 فِي سُورَة الْأَحْزَاب.
3 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 541.

(1/307)


فَالرِّيحُ مِنْ فَرَجِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَوْحِهِ، كَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ مِنْ فَرَجِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذَا فِي كِتَابِ "غَرِيبِ الْحَدِيثِ" بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ، وَلَمْ أَجِدْ بُدًّا من ذكره هَهُنَا، لِيَكُونَ الْكِتَابُ جَامِعًا لِلْفَنِّ الَّذِي قصدُوا.

(1/308)


14- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- آخَرُ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِوَجَّ
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ لِأَحَدِ ابْنَيِ ابْنَتِهِ:
"وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتُجَبِّنُونَ وَتُبَخِّلُونَ، وَإِنَّكُمْ مِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ، وَإِنَّ آخِرَ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِـ"وَجَّ" 1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَخْرَجًا حَسَنًا قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
قَالُوا: إِنَّ آخَرَ مَا أَوْقَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ بِالطَّائِفِ، وَكَانَتْ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِـ"وَجَّ". وَ"وَجَّ" وَادٍ قَبِلَ الطَّائِفِ.
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا -قَالَ: وَهُوَ مثل قَوْله فِي
__________
1أخرجه أَحْمد عَن أم حَكِيم: 6/ 409، وَالتِّرْمِذِيّ: بر11.
وَقد ذكر الفيروز آبادي فِي الْقَامُوس الْمُحِيط مَا نَصه: ""وَج" اسْم وَاد بِالطَّائِف لَا بلد بِهِ -وَغلط الْجَوْهَرِي- وَهُوَ مَا بَين جبلي المحترق والأحيحدين، وَمِنْه: "آخر وَطْأَة وطنها الله تَعَالَى بوج" يُرِيد غَزْوَة حنين لَا الطَّائِف، وحنين وَاد قبل وَج، وَأما غَزْوَة الطَّائِف فَلم يكن فِيهَا قتال.
ثمَّ أَشَارَ بالحاشية إِلَى غلط الْجَوْهَرِي فَقَالَ: أَي حَيْثُ قَالَ: يُرِيد غزَاة الطَّائِف قَالَ الشَّارِح: وَنقل عَن الْحَافِظ عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ فِي معنى الحَدِيث: أَي آخر غَزْوَة وطأ الله بهَا أهل الشّرك غَزْوَة الطَّائِف بإثر فتح مَكَّة، وَهَكَذَا فسره أهل الْغَرِيب وَقَالَ بعد قَوْله: فَلم يكن فِيهَا قتال: قد يُقَال: إِنَّه لَا يشْتَرط فِي الْغَزْوَة الْقِتَال". طبعه مؤسسة الرسَالَة 1986م صفحة 266.

(1/309)


دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ" 1.
فَتَتَابَعَ الْقَحْطُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْقَدَّ2 وَالْعِظَامَ.
وَتَقُولُ فِي الْكَلَامِ: اشْتَدَّتْ وَطْأَةُ السُّلْطَانِ عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَقَدْ وَطِئَهُمْ وَطْئًا ثَقِيلًا، وَوَطْءَ الْمُقَيَّدِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَوَطِئْتَنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ ... وَطْءَ الْمُقَيَّدِ ثَابِتَ الْهَرْمِ
وَالْمُقَيَّدُ أَثْقَلُ شَيْءٍ وَطْئًا، لِأَنَّهُ يَرْسُفُ فِي قَيده، فَيَضَع رجلَيْهِ مَعًا، و"الْهَرم" نَبْتٌ ضَعِيفٌ، فَإِذَا وَطِئَهُ كَسَرَهُ، وَفَتَّهُ.
وَهَذَا الْمَذْهَبُ بَعِيدٌ مِنَ الِاسْتِكْرَاهِ، قَرِيبٌ مِنَ الْقُلُوبِ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَقْضِي بِهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنِّي قَرَأْتُ فِي الْإِنْجِيلِ الصَّحِيحِ، أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: "أَلَمْ تَسْمَعُوا أَنَّهُ قِيلَ لِلْأَوَّلِينَ: لَا تَكْذِبُوا إِذَا حَلَفْتُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنِ اصْدُقُوا".
وَأَنَا أَقُولُ لَكُمْ: "لَا تَحْلِفُوا بِشَيْءٍ، لَا بِالسَّمَاءِ، فَإِنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلَا بِأُورْشَلِيمَ3 "بَيْتِ الْمَقْدِسِ" فَإِنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْأَكْبَرِ، وَلَا تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ شَعْرَةً سَوْدَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ، وَلَكِنْ، ليكن قَوْلكُم "نعم - نعم" و"لَا، لَا" وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
هَذَا مَعَ حَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ يزِيد بن عَمْرو، قَالَ: حَدثنَا
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: أَذَان 128 استسقاء جِهَاد 98 أَنْبيَاء 19 تَفْسِير سُورَة 3 - 4 - 9، وَمُسلم: مَسَاجِد 294، 295، وَأَبُو دَاوُد: صَلَاة 16، وتر 10، وَالنَّسَائِيّ: تطبيق 27، وَابْن ماجة: إِقَامَة 145.
2 الْقد: جلد السخلة.
3 ورد فِي الْقَامُوس الْمُحِيط صفحة 1455 "شلم" كبقم وككتف وجبل: اسْم بَيت الْمُقَدّس، مَمْنُوع من الصّرْف للعجمة، وَهُوَ بالعبرانية: أورشليم.

(1/310)


عبد اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ1 عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: "إِنَّ وَجًّا مُقَدَّسٌ، مِنْهُ عَرَجَ الرَّبُّ إِلَى السَّمَاءِ يَوْمَ قَضَاءِ خَلْقِ الأَرْض".
__________
1 عبد الله بن الْحَارِث: الْقرشِي الْأَسدي الْحميدِي الْمَكِّيّ أَبُو بكر ثِقَة حَافظ وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَمن شُيُوخه مَالك وَاللَّيْث بن سعد وطبقتهم. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.

(1/311)


15- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ "كَثَافَةُ جِلْدِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ"
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ضِرْسُ الْكَافِرِ فِي النَّارِ، مِثْلُ أُحُدٍ، وَكَثَافَةُ جلده أَرْبَعُونَ ذِرَاعا بباع الْجَبَّارِ" 1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَخْرَجًا حَسَنًا، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَهُ وَهُوَ أَن يكون الْجَبَّار -هَهُنَا- الْمَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} 2 أَيْ: بِمَلِكٍ مُسَلَّطٍ، وَالْجَبَابِرَةُ: الْمُلُوكُ.
وَهَذَا كَمَا يَقُولُ النَّاسُ: هُوَ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلِكِ.
يُرِيدُونَ: بِالذِّرَاعِ الْأَكْبَرِ. وَأَحْسَبُهُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، كَانَ تَامَّ الذِّرَاعِ، فنسب إِلَيْهِ.
__________
1 أخرجه مُسلم: جنَّة 44، وَأحمد: 2/ 328 - 334 - 357، وَلم يرد فِي صَحِيح مُسلم "وَكَثَافَةُ جِلْدِهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْجَبَّار" لَكِن هَذِه الرِّوَايَة للبزار عَن ثَوْبَان مَرْفُوعا، وَهِي الَّتِي صححها الألباني، وَرِوَايَة مُسلم ذكرت بعْدهَا "وَغلظ جلده مسيرَة ثَلَاثَة".
وَرِوَايَة أَحْمد: ... وكثافة جلده اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا بِذِرَاع الْجَبَّار".
وَقد أوردهُ الألباني فِي صَحِيح الْجَامِع الصَّغِير برقم 3888 وَفِي الصَّحِيحَة برقم 1105.
2 الْآيَة 45 من سُورَة ق.

(1/312)


16- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلِقِهِ"1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ.
وَأَصْلُهُ: أَنَّ الْمَلِكَ كَانَ إِذَا صَافَحَ رَجُلًا، قَبَّلَ الرَّجُلُ يَدَهُ، فَكَأَنَّ الْحَجَرَ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ لِلْمَلِكِ تُسْتَلَمُ وَتُلْثَمُ.
وَبَلَغَنِي عَنْ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَتَا: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى -حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ بَنَى آدَمَ وأشهدهم على أنفبسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى -جَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ.
وَقَالَ: أَمَا سَمِعْتُمْ إِذَا اسْتَلَمُوهُ2؟ يَقُولُونَ: إِيمَانًا بِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ"، أَيْ: قَدْ وَفَّيْنَا بِعَهْدِكَ، أَنَّكَ أَنْتَ رَبُّنَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ قَدِ اسْتَلَمُوهُ، وَكَانُوا مُشْرِكِينَ، لَمْ يَسْتَلِمُوهُ بِحقِّهِ لأَنهم كَانُوا كفَّارًا.
__________
1 انْظُر التَّمْيِيز 66 والكشف 1/ 348، وَضَعِيف الْجَامِع 3/ 109 برقمين 2770، 2771.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَانْظُر تَارِيخ بَغْدَاد 6/ 328، فَالْحَدِيث ضَعِيف جدا. ز
2 فِي نسختين: "المسوء".

(1/313)


17- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ "رُؤْيَةُ الرَّبِّ"
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيَّ" 1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا.
فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ.
وَقَدْ سَأَلَهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2.
يُرِيدُ أَنْ يَتَعَجَّلَ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ.
فَقَالَ: {لَنْ تَرَانِي} ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ قَوْمٌ: إِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَهُ إِلَّا فِي الْمَنَامِ، وَعِنْدَ تَغَشِّي الْوَحْيِ لَهُ، وَإِنَّ الْإِسْرَاءَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جِسْمِهِ، أَلَا تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآن} 3.
__________
1 أخرجه التِّرْمِذِيّ وَعبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 59، والدارمي: رُؤْيا 12، وَأحمد 1/ 368، 4/ 88.
وَقد أوردهُ الدَّارمِيّ بِلَفْظ: عَن عبد الرَّحْمَن بن عائش قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَ: فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ فَقلت: أَنْت أعلم يَا رب، قَالَ: فَوضع كَفه بَين كَتِفي فَوجدت بردهَا بَين ثديي فَعلمت مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض"، وتلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} .
2 الْآيَة: 143 من سُورَة الْأَعْرَاف.
3 الْآيَة: 60 من سُورَة الْإِسْرَاء.

(1/314)


يَعْنِي بِالرُّؤْيَا: مَا رَآهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فَارْتَدَّ بِهِ قَوَّمٌ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ يَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فِي لَيْلَةٍ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ ادَّعَى الْإِسْرَاءَ بِجِسْمِهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ صَدَّقَ بِذَلِكَ، وَحَاجَّ فِيهِ فَسُمِّيَ الصِّدِّيقَ.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَتْ إِحْدَى أَزْوَاجِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ: إِنَّا مَا فَقَدْنَا جِسْمَهُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو الْخطاب قَالَ: حَدثنَا مَالك بن سعيد قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْعَيْزَارِ، يَذْكُرُ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} 1، قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سَبْعُمِائَةُ2 جَنَاحٍ.
قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، حَدِيثٌ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أُمِّ الطُّفَيْلِ، امْرَأَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ: "أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فِي صُورَةِ شَابٍّ مُوَفَّرٍ فِي خُضْرَةٍ، عَلَى فِرَاشِهِ فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، فِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ ذَهَبٍ"3.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ لَمْ نَذْكُرْ قَوْلَ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّنَا رَأَيْنَاهُ صَوَابًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ تَأَوَّلَهُ قَوْمٌ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا.
وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا تَأَوَّلُوا، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ يَقُولُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} 4 الْآيَة؟
__________
1 الْآيَة: 23 من سُورَة التكوير.
2 وَفِي الدمشقية: "تِسْعمائَة".
3 انْظُر الحَدِيث فِي "اللآلئ" 1/ 28 - 31، والْحَدِيث مَوْضُوع كَمَا قَالَ ذَلِك الْأَئِمَّة الثِّقَات، وَسُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: مُنكر.
4 الْآيَة: 1 من سُورَة الْإِسْرَاء.

(1/315)


وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَأَوَّلَ فِيهِ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَلَا يُدْفَعَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَعَسَّفَ، فَنَتَأَوَّلَ فِيمَا جعله الله فَضِيلَة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَلَكنَّا نُسَلِّمُ لِلْحَدِيثِ، وَنَحْمِلُ الْكِتَابَ عَلَى ظَاهره1.
__________
1 فِي اللآلئ 1/ 30 ورد بشأن هَذِه الرُّؤْيَة مَا يَلِي: "قَالَ سُفْيَان بن زِيَاد: فَلَقِيت عِكْرِمَة بعد، فَسَأَلته الحَدِيث، فَقَالَ: نعم كَذَا حَدثنِي إِلَّا أَنه قَالَ: رَآهُ بفؤاده".
وَمن العجيب أَن يتَمَسَّك الْمُؤلف رَحمَه الله بِالْحَدِيثِ وَيسلم لَهُ، على الرغم من طعن الْعلمَاء بِهِ.

(1/316)


18- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- خَلْقُ آدَمَ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" 1.
وَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجِلُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صُورَةٌ، أَوْ مِثَالٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَهُ الْحَمْدُ، يَجِلُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صُورَةٌ أَوْ مِثَالٌ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ أَلِفُوا الشَّيْءَ وَأَنِسُوا بِهِ، فَسَكَتُوا عِنْدَهُ، وَأَنْكَرُوا مِثْلَهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي وَصْفِهِ نَفْسَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.
وَظَاهِرُ هَذَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ، فَقَدْ صَارَ -عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ- لِلَّهِ تَعَالَى مِثْلٌ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، أَنَّهُ يُقَامُ الْمِثْلُ مَقَامَ الشَّيْءِ نَفْسِهِ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ: مِثْلِي لَا يُقَالُ لَهُ هَذَا الْكَلَامُ، وَمِثْلِي لَا يُفْتَأَتُ عَلَيْهِ.
لَا يُرِيدُ: أَنَّ نَظِيرِي لَا يُقَالُ لَهُ وَلَا يُفْتَأَتُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ: أَنَا نَفْسِي لَا يُقَالُ لِي كَذَا وَكَذَا.
وَكَذَلِكَ قَوْله وَتَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، يُرِيدُ: لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ، فَخَرَجَ هَذَا مَخْرَجَ كَلَام الْعَرَب.
__________
1 سبق تَخْرِيجه صفحة: 54.
2 الْآيَة: 11 من سُورَة الشورى.

(1/317)


وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ زَائِدَةً، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: كَلَّمَنِي بِلِسَانٍ كَمِثْلِ السِّنَانِ، وَلَهَا بَنَانٌ كَمِثْلِ الْعَنَمِ1.
"وَكَقَوْلِ2 الرَّاجِزِ":
وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنَ
فَأَدْخَلَ الْكَافَ عَلَى الْكَافِ، وَهِيَ بِمَعْنَى مِثْلِ.
وَقَدِ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ ".
فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ: أَرَادَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا، مَا كَانَ فِي الْكَلَامِ فَائِدَةٌ.
وَمَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ، وَالسِّبَاعَ عَلَى صُوَرِهَا، وَالْأَنْعَامَ عَلَى صُوَرِهَا؟!
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةٍ عِنْدَهُ.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مِثَالٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ فِي الْحَدِيثِ: "لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صورته" 3.
__________
1 العنم: شَجَرَة حجازية لَهَا ثَمَرَة حَمْرَاء، يشبه بهَا البنان المخضوب، أَو أَطْرَاف الخروب الشَّامي. "الْقَامُوس الْمُحِيط" صفحة 1473.
2 هُوَ للخطام الْمُجَاشِعِي وَقَبله:
لم يبْق من آي بهَا بحلين ... غير حطام ورماد كتفين
وَغير عود جاذل أَو دين
وَالْوَاو وَاو الْعَطف أَي غير صاليات، والصاليات الأثافي المسودات قد صليت بالنَّار، وكـ" كَمَا" أَي كَمثل مَا يؤثفين، أَي يجعلن فِي مَوضِع الطَّبْخ أَي: كَأَنَّهَا كَمَا وَضعهَا أَهلهَا لم يتَغَيَّر مِنْهَا شَيْء. و"مَا" مَصْدَرِيَّة ويؤثفين: من أثفيت الْقدر: جعلت لَهَا أثافي، وَكَانَ الْقيَاس يثفين، كـ"يكرمن"، لكنه اسْتَعْملهُ على الأَصْل المرفوض اضطرارًا. ا. هـ. بِاخْتِصَار على شرح مَحل الشَّاهِد هُنَا، واختصار من شرح شَوَاهِد الْمُغنِي للسيوطي.
3 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 251، 434 عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: "إِذا ضرب أحدكُم فليجتنب الْوَجْه وَلَا تقل قبح الله وَجهك وَوجه من أشبه وَجهك، فَإِنَّهُ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صورته".
وَقد أوردهُ أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 244 بِصِيغَة أُخْرَى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا ضرب أحدكُم فليجتنب الْوَجْه، فَإِنَّهُ الله خلق آدم على صورته ".

(1/318)


يُرِيد أَنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَزَّ- خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الْوَجْهِ.
وَهَذَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ، عَلَى خَلْقِ وَلَدِهِ، وَوَجْهَهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
وَزَادَ قَوْمٌ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَرَّ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ وَجْهَ رَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ: "لَا تَضْرِبْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، خَلَقَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى صُورَتِهِ"، أَيْ صُورَةِ الْمَضْرُوبِ.
وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْخَلَلِ، مَا فِي الْأَوَّلِ.
وَلَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ الْمُسْتَكْرَهَةُ، وَكَثُرَ التَّنَازُعُ فِيهَا، حَمَلَ قَوْمًا اللَّجَاجُ عَلَى أَنْ زَادُوا فِي الْحَدِيثِ، فَقَالُوا: رَوَى بن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا1: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ".
يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ2 فِي "صُورَتِهِ" لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِأَنْ يَجْعَلُوا الرَّحْمَنَ مَكَانَ الْهَاءِ كَمَا تَقُولُ: "إِنَّ الرَّحْمَنَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ"، فَرَكِبُوا قَبِيحًا مِنَ الْخَطَأِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ" وَلَا على إِرَادَة الرَّحْمَن3.
__________
1 لَعَلَّ الْأَصَح: فَقَالَ بَدَلا من فَقَالُوا.
2 أَي: هَاء الضَّمِير الَّتِي تعود على لفظ الْجَلالَة الْمُتَقَدّمَة.
3 قَول ابْن قُتَيْبَة: "وَزَادَ قَوْمٌ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَرَّ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ وَجْهَ رَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ: "لَا تضربه فغن الله خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صورته"، أَي: صُورَة الْمَضْرُوب، قَالَ: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْخَلَلِ مَا فِي الأول".
أَقُول: أَخطَأ ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى فِي هَذَا الْمقَال من موضِعين وسع بهما بَاب الْمَحْذُور، وَلم يحسن جَوَابا بل أَضْعَف الْجَواب الصَّحِيح وهاك الْبَيَان.
أَولا: الْموضع الأول فِي خطأ ابْن قُتَيْبَة أَنه أورد أصل الحَدِيث نَاقِصا فِي اللَّفْظ حَيْثُ =

(1/319)


__________
= لَفظه الَّذِي أوردهُ هُوَ: "أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدم على صورته"، والْحَدِيث لَهُ بَقِيَّة توجه مَعْنَاهُ يَقِينا وَكَانَ يجب على ابْن قُتَيْبَة ذكرهَا، حَتَّى لَو لم يذكرهَا المعارضون كَانَ من واجبه ردهَا إِلَى الحَدِيث والتأكيد عَلَيْهَا، وَقد فعل الْعَكْس فَقَالَ مَا يوحي بِعَدَمِ ثُبُوتهَا حَيْثُ أصل الحَدِيث مَا ذكره وَزَاد قوم كَذَا وَكَذَا. وَأَقل مَا يُقَال فِي ذكل أَنه تَقْصِير بليغ مِنْهُ وَهَذَا مَعَ إِحْسَان الظَّن بِهِ؛ لِأَن أصل الحَدِيث كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من جَمِيع الرِّوَايَات مَذْكُور سَبَب هَذَا القَوْل. وَقد رَوَاهُ مُسلم من سبع طرق كلهَا تذكر ذَلِك: "إِذا قَاتل أحدكُم أَخَاهُ فليتق الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدم على صورته"، وَكَذَلِكَ رِوَايَة البُخَارِيّ بِنَفس اللَّفْظ، والملابسة قاضية بِعُود الضَّمِير على الْمَضْرُوب أَو الْمقَاتل قطعا. وَسبب الْقطع أَن الله تَعَالَى يَقُول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فَلَا يحوم حول التَّشْبِيه ذُو علم مُؤمن قطّ. إِمَّا أَن يكون لقلَّة علم أَو لنَقص يَقِين، فَالَّذِي أَشَارَ إِلَى توهِينه هُوَ حق صَحِيح وَهُوَ أصل الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاقْتصر عَلَيْهِ البُخَارِيّ، وَلم يرد: "إِن الله خلق آدم على صورته"، فَهِيَ لمُسلم وَحده فِي بعض أَلْفَاظه.
ثَانِيًا: الْموضع الثَّانِي من خطأ ابْن قُتَيْبَة قَوْله: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْخَلَلِ مَا فِي الأول، وَهَذَا تغفيل وَاضح. فَالْقَوْل الأول الَّذِي صرح بخطئه أَن يكون الْمَعْنى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ يَعْنِي عود الضَّمِير على نفس آدم، وَهَذَا فعلا لَا تتضح فَائِدَته. أما أَن يَقُول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "إِذا قَاتل أحدكُم أَخَاهُ فليجتنب الْوَجْه، فَإِن الله خلق آدم على صورته"، فَلَا يَسْتَقِيم فِي لُغَة الْعَرَب أَن يعود الضَّمِير إِلَّا على الْمَضْرُوب لِأَنَّهُ الرابط بَين الجملتين، وَإِلَّا كَانَ الْكَلَام غير مُفِيد، فَإنَّك إِذا قلت: رَأَيْت زيدا مَعَ أَبِيه يمشيان وَزيد يُشبههُ، لم يبْق أحد عِنْده قطّ من الْفَهم إِلَّا علم أَنَّك تَعْنِي أَن الضَّمِير من يُشبههُ يعود على أبي زيد لِأَنَّهُ الرابط بَين الجملتين، وَإِلَّا كَانَ الْكَلَام من الهذيان الَّذِي لَا يُفِيد معنى صَحِيحا. وَلَو قَالَ قَائِل: إِن هَذَا الضَّمِير فِي يُشبههُ يعود على زيد، قيل: ابْتَغوا لَهُ الطِّبّ فَإِنَّهُ مَجْنُون. أما إِذا شطر الحَدِيث وَقطعت مِنْهُ الْجُمْلَة الأولى وَاقْتصر فَقَط على هَذَا اللَّفْظ: "إِن الله خلق آدم على صورته"، فأقرب الْوُجُوه فِي لُغَة الْعَرَب هُوَ عود الضَّمِير على الله تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ يكون أمامنا الْمَانِع اليقيني الْقَاطِع الَّذِي لَا يرتاب فِيهِ مُؤمن قطّ، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يَسْتَحِيل أَن يكون لَهُ شَبيه أَو مثيل؛ لقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ....} ، وَيكون الْمَعْنى الضَّرُورِيّ لَو كَانَ الحَدِيث هَكَذَا أَنَّهَا هَاء الملكية، يعين خلق آدم على الصُّورَة الَّتِي شَاءَ الله تَعَالَى وَأَرَادَهَا لَهُ ... وَلَكِن تَتِمَّة الحَدِيث تقضي أَن الْهَاء عئدة على الْأَخ وَمَعْنَاهَا أوضح من الشَّمْس. وَقد أَخطَأ ابْن قُتَيْبَة يَقِينا فِيمَا قَالَ من أَن هَذَا الْمَعْنى فِيهِ مِنَ الْخَلَلِ مَا فِي الْأَوَّلِ، وَالَّذِي رَجحه من أَن الْمَقْصُود صورته فِي الدُّنْيَا كصورته فِي الْجنَّة لَيْسَ يراجح، بل فِيهِ تكلّف. وَمَا اسْتشْهد بِهِ من التَّوْرَاة لإِثْبَات الشُّبْهَة بَاطِل؛ لِأَن مَا فِي التَّوْرَاة أَو من أَن يستشهد بِهِ فِي الحكم تكليفي بله أصُول العقيدة، وَقد تعمد الْيَهُود تَحْرِيف العقيدة أَكثر مَا حرفوا وَإِلَّا فيستشهدج بمصارعة آدم لرَبه وَأَنه غلب الرب؛ تَعَالَى الله عَن كفرهم علوا كَبِيرا، وَغَيره من الشيطنة الَّتِي كتبوها عَن الله تَعَالَى وَرُسُله. وَلَا شكّ أَن هَذِه زلَّة من ابْن قُتَيْبَة، وَقد اتهمَ الجاحظ أَنه عِنْد محاورة أهل الْكتاب ذكر شبههم مستوفاة وَاسْتدلَّ لَهَا كالمنبه لَهُم إِلَيْهَا وَقصر فِي الرَّد عَلَيْهِم، فَكَانَ كَلَامه يوحي بتثبيت شبههم أَكثر من أَن يكون ردا عَلَيْهِم، وَهُوَ غفر الله لَهُ فعل ذَلِك هُنَا، عَفا الله عَنَّا وَعنهُ، وَالله تَعَالَى أعلم وَأحكم. "الْإِضَافَة للشَّيْخ مُحَمَّد بدير".

(1/320)


وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا، إِذَا كَانَ الِاسْمُ الثَّانِي غَيْرَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ، أَوْ لَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ: "لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ، فَإِنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ"، فَكَانَ الرَّحْمَنُ غَيْرَ اللَّهِ، أَوِ اللَّهُ غَيْرَ الرَّحْمَنِ.
فَإِن صحت رِوَايَة بن عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَأْوِيلَ، وَلَا تَنَازُعَ فِيهِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلَمْ أَرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ شَيْئًا أَقْرَبَ مِنَ الِاطِّرَادِ، وَلَا أَبْعَدَ مِنَ الِاسْتِكْرَاهِ، مِنْ تَأْوِيلِ بَعْضِ أَهْلِ النَّظَرِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: "أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى صُورَتِهِ فِي الْأَرْضِ".
كَأَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إِنَّ آدَمَ كَانَ مِنْ طُولِهِ فِي الْجَنَّةِ كَذَا، وَمِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا، وَمِنْ نُورِهِ كَذَا، وَمَنْ طِيبِ رَائِحَتِهِ كَذَا لِمُخَالَفَةِ مَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ" يُرِيدُ فِي الْجَنَّةِ "عَلَى صُورَتِهِ" يَعْنِي فِي الدُّنْيَا.
وَلَسْتُ أُحَتِّمُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا أَقْضِي بِأَنَّهُ مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، لِأَنِّي قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: "أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، لَمَّا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ قَالَ: نَخْلُقُ بَشَرًا بِصُورَتِنَا، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ أُدْمَةِ1 الْأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي وَجْهِهِ نَسَمَةَ الْحَيَاةِ"، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لَهُ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ.
وَكَذَلِكَ حَدِيث بن عَبَّاسٍ "أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضَرَبَ الْحَجَرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَفَجَّرَ2، وَقَالَ: اشْرَبُوا يَا حمير"3.
__________
1 أدمة الأَرْض: أَي بَاطِنهَا.
2 وَفِي نُسْخَة: فانجر.
3 لم نجده.

(1/321)


فَأَوْحَى اللَّهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِلَيْهِ: "عَمَدْتَ إِلَى خَلْقٍ مِنْ خَلْقِي، خَلَقْتُهُمْ عَلَى صُورَتِي، فَشَبَّهْتَهُمْ بِالْحَمِيرِ"، فَمَا بَرِحَ حَتَّى عُوقِبَ1. هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَالَّذِي عِنْدِي -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنَّ الصُّورَةَ لَيْسَتْ بِأَعْجَبَ مِنَ الْيَدَيْنِ، وَالْأَصَابِعِ، وَالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِلْفُ لِتِلْكَ، لِمَجِيئِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ مِنْ هَذِهِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِالْجَمِيعِ، وَلَا نَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِكَيْفِيَّةٍ وَلَا حَدٍّ.
__________
1 لَعَلَّ الصَّوَاب: "عوتب".

(1/322)


19- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- كَانَ فِي عَمَاءٍ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟
فَقَالَ: "كَانَ فِي عَمَاءٍ، فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ"1.
قَالُوا: وَهَذَا تَحْدِيدٌ وَتَشْبِيهٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ هَذَا، مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ بِأَلْفَاظٍ تُسْتَشْنَعُ أَيْضًا، وَالنَّقَلَةُ لَهُ أَعْرَابٌ، وَوَكِيعُ بْنُ حُدُسٍ الَّذِي رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا لَا يُعْرَفُ.
غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ. حَدَّثَنَا عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ اللِّحْيَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: "الْعَمَاءُ" السَّحَابُ، وَهُوَ كَمَا ذُكِرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِنْ كَانَ الْحَرْفُ مَمْدُودًا.
وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا كَأَنَّهُ كَانَ فِي عَمَى، فَإِنَّهُ أَرَادَ كَانَ فِي عَمَى عَنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ، كَمَا تَقُولُ: "عَمِيتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَأَنَا أَعْمَى عَنْهُ عَمًى" إِذَا أُشْكِلَ عَلَيْكَ فَلَمْ تَعْرِفْهُ وَلَمْ تَعْرِفْ جِهَتَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَفِيَ عَلَيْكَ، فَهُوَ فِي عَمًى عَنْكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ" فَإِنَّ قَوْمًا زَادُوا فِيهِ "مَا" فَقَالُوا: "مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ"، اسْتِيحَاشًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَيَكُونَ بَيْنَهُمَا -وَالرِّوَايَةُ هِيَ الْأَوْلَى-.
وَالْوَحْشَةُ لَا تَزُولُ بِزِيَادَةِ "مَا" لِأَنَّ "فَوْقَ" و"تَحت" باقيان، وَالله أعلم.
__________
1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة 11، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 13 وَقد ورد بِلَفْظ: "كَانَ فِي عماء مَا تَحْتَهُ هَوَاء وَمَا فَوْقه هَوَاء".

(1/323)


20- قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ "سَبُّ الدَّهْرِ"
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الدَّهْرُ" 1، فَوَافَقْتُمْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، الدَّهْرِيَّةَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَقُولُ: "أَصَابَنِي الدَّهْرُ فِي مَالِي بِكَذَا" وَنَالَتْنِي قوارع الدَّهْر وبواثقه وَمَصَايِبُهُ".
وَيَقُولُ الْهَرَمَ: "حَنَانِي2 الدَّهْرُ"، فَيَنْسُبُونَ كُلَّ شَيْءٍ تَجْرِي بِهِ أَقْدَارُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِمْ، مِنْ مَوْتٍ، أَوْ سَقَمٍ، أَوْ ثَكَلٍ، أَوْ هَرَمٍ، إِلَى الدَّهْرِ.
وَيَقُولُونَ: لَعَنَ اللَّهُ هَذَا الدَّهْرَ، وَيُسَمُّونَهُ الْمَنُونَ، لِأَنَّهُ جَالِبُ الْمَنُونِ عَلَيْهِمْ عِنْدَهُمْ، وَالْمَنُونُ: الْمَنِيَّةُ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ3:
أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
هَكَذَا أَنْشَدَنِيهِ الرِّيَاشِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، عَنِ بن أبي
__________
1 أخرجه أَحْمد: 5/ 299 - 311، والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ بِنَحْوِهِ، انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان رقم 1449، وهنالك مَكَانَهُ من الصَّحِيحَيْنِ.
2 حناني الدَّهْر: أَي عطفني فانحنيت، أَي بقوارعه ومصائبه.
3 أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ: خويلد بن خالج بن محرث، من بني هُذَيْل بن مدركة من مُضر، شَاعِر فَحل مخضرم أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَسكن الْمَدِينَة واشترك فِي الْغَزْو والفتوح. قَالَ الْبَغْدَادِيّ: هُوَ أشعر هُذَيْل من غير مدافعة توفّي 27هـ.

(1/324)


طرفَة الْهُذَلِيِّ، عَنْ أَبِي ذُؤَيْبِ1.
وَالنَّاسُ يَرْوُونَهُ "وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ" وَيَجْعَلُونَ الْمَنُونَ: الْمَنِيَّةَ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ"، كَأَنَّهُ قَالَ:
أَمِنَ الدَّهْرِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ، أَيْ رَيْبَ الدَّهْرِ وَحَوَادِثَهُ.
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ: "لَا أَلْقَاكَ آخِرَ الْمَنُونِ" أَيْ آخِرَ الدَّهْرِ.
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ نَسْبِ أَقْدَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَفْعَالِهِ إِلَى الدَّهْرِ، فَقَالَ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 2.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ إِذَا أَصَابَتْكُمُ الْمَصَايِبُ، وَلَا تَنْسُبُوهَا إِلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذَلِكَ لَا الدَّهْرُ فَإِذَا سَبَبْتُمُ الْفَاعِلَ وَقَعَ السَّبُّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ، إِذَا أَصَابَتْهُ نَائِبَةٌ، أَوْ جَائِحَةٌ فِي مَالٍ أَوْ وَلَدٍ، أَوْ بَدَنٍ، فَسَبَّ فَاعِلَ ذَلِكَ بِهِ -وَهُوَ يَنْوِي الدَّهْرَ- أَنَّ الْمَسْبُوبَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَسَأُمَثِّلُ لِهَذَا الْكَلَامِ مِثَالًا أُقَرِّبُ بِهِ عَلَيْكَ مَا تَأَوَّلْتُ، وَإِنْ كَانَ
__________
1 قَول ابْن قُتَيْبَة عَن بَيت الشّعْر الْمَذْكُور أَنْشَدَنِيهِ الرِّيَاشِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ عَنِ أبي طرفَة الْهُذلِيّ عَن أبي ذُؤَيْب، وَكَون أبي ذُؤَيْب صحابيًا توفّي سنة 27هـ، والأصمعي من الطَّبَقَة التَّاسِعَة ولد حوالي سنة 126، وَتُوفِّي سنة 216 عَن تسعين سنة فَيجب أَن يكون أَبُو طرفَة لَهُ سَماع وأهلية للتحمل قبل سنة 27هـ، وَأَن يكون مَاتَ بعد أَن صَار الْأَصْمَعِي أَهلا للتحمل وَالسَّمَاع وَذَلِكَ قريب من سنة 140هـ، وَيكون مولد أبي طرفَة حوالي 10هـ، وَفِي هَذَا نظر على أَنِّي لم أعثر لأبي طرفَة الْهُذلِيّ على تَرْجَمَة، إِنَّمَا التَّرْجَمَة لأبي طريف الْهُذلِيّ وَهُوَ من الطَّبَقَة الثَّالِثَة مِمَّا يؤكذ انْقِطَاع طَوِيل بَينه وَبَين الْأَصْمَعِي إِذا كَانَ هُوَ الْمَقْصُود، فَهَذَا تحفظ على سِيَاق هَذَا السَّنَد. "الشَّيْخ مُحَمَّد بدير".
2 الْآيَة: 24 من سُورَة الجاثية.

(1/325)


-بِحَمْد اللَّهِ تَعَالَى قَرِيبًا- كَأَنَّ رَجُلًا يُسَمَّى "زَيْدًا" أَمَرَ عَبْدًا لَهُ يُسَمَّى "فَتْحًا" أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَسَبَّ النَّاسُ فَتْحًا، وَلَعَنُوهُ.
فَقَالَ لَهُمْ قَائِلٌ: "لَا تَسُبُّوا فَتْحًا، فَإِنَّ زَيْدًا هُوَ فَتْحٌ".
يُرِيدُ أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْقَاتِلُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْقَاتِلَ زَيْدٌ، لَا فَتْحٌ.
وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ تَكُونُ فِيهِ الْمَصَايِبُ وَالنَّوَازِلُ، وَهِيَ بِأَقْدَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسُبُّ النَّاسُ الدَّهْرَ، لِكَوْنِ تِلْكَ الْمَصَايِبِ وَالنَّوَازِلَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ صُنْعٌ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْر".

(1/326)


21- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ أَبِي ذَرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" 1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: مَنْ أَتَانِي مُسْرِعًا بِالطَّاعَةِ، أَتَيْتُهُ بِالثَّوَابِ أَسْرَعَ مِنْ إِتْيَانِهِ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِالْمَشْيِ وَبِالْهَرْوَلَةِ.
كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ مُوضِعٌ فِي الضَّلَالِ -وَالْإِيضَاعُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ- لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَسِيرُ ذَلِكَ السَّيْرَ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَى الضَّلَالِ، فَكَنَّى بِالْوَضْعِ عَنِ الْإِسْرَاعِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} 2، وَالسَّعْيُ: الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، وَلَيْسَ يُرَادُ أَنَّهُمْ مَشَوْا دَائِمًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ: أَنَّهُمْ أَسْرَعُوا بِنِيَّاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالله أعلم.
__________
1 البُخَارِيّ: تَوْحِيد 15، 50، وَمُسلم: ذكر 20، 21، 22، تَوْبَة: 1، التِّرْمِذِيّ: دعوات 131، وَابْن ماجة: أدب 58، وَأحمد: 2/ 413 - 435 - 480 - 482 - 509 - 524 - 534، 3/ 40 - 122 - 130 - 373، 5/ 153 - 155 - 169 - 351.
2 الْآيَة: 51 من سُورَة الْحَج.

(1/327)


22- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْكِتَابُ- احْتِجَابُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَأَمَرَهُمَا بِالِاحْتِجَابِ، فَقَالَتَا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَعْمَى"، فَقَالَ: "أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا ". وَالنَّاسُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ يَنْظُرْنَ إِلَى الرِّجَالِ إِذَا اسْتَتَرْنَ، وَقَدْ كُنَّ يَخْرُجْنَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَيُصَلِّينَ مَعَ الرِّجَالِ.
وَقُلْتُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 2، إِنَّهُ الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاحْتِجَابِ؛ إِذَا أَمَرَنَا أَنْ لَا نُكَلِّمَهُنَّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَقَالَ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 3.
وَسَوَاءٌ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَكُونَانِ عَاصِيَيْنِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُنَّ أَيْضًا عَاصِيَاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى، إِذَا أَذِنَ لَهُمَا فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ.
وَهَذِهِ خَاصَّةٌ لِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا خُصِصْنَ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ عَلَى جَمِيع الْمُسلمين.
__________
1 أَبُو دَاوُد لِبَاس 34، وَالتِّرْمِذِيّ: أدب 29، وَأحمد 6/ 296.
2 الْآيَة: 31 من سُورَة النُّور.
3 الْآيَة: 35 من سُورَة الْأَحْزَاب.

(1/328)


فَإِذَا خَرَجْنَ عَنْ مَنَازِلِهِنَّ -لِحَجٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوضِ أَوِ الْحَوَائِجِ، الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ لَهَا- زَالَ فَرْضُ الْحِجَابِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ حِينَئِذٍ دَاخل؛ فيحجب أَنْ يَحْتَجِبْنَ مِنْهُ، إِذَا كُنَّ فِي السَّفَرِ بَارِزَاتٍ، وَكَانَ الْفَرْضُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْمَنَازِلِ، الَّتِي هن بهَا نازلات.

(1/329)


23- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ"1.
يُرِيدُ: الْعَبْدَ يَشْتَرِيهِ مُشْتَرِيهِ، فَيَسْتَغِلُّهُ حِينًا، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَى عَيْبٍ بِهِ، فَيَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ، أَنَّهُ لَا يَرُدُّ مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ، وَهُوَ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَلَوْ مَاتَ، مَاتَ مِنْ مَالِهِ.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَرَدَ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ" 2.
قَالُوا: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ لَبَنِهَا غَلَّةٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَا ضَامِنًا، لَوْ مَاتَتِ الشَّاةُ مَاتَتْ مِنْ مَالِهِ؛ فَهُوَ وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا بَيِّنًا؛ لِأَنَّ الْمُصراة3 من
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: بُيُوع 71، وَالتِّرْمِذِيّ: بُيُوع 53، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 15، وَابْن ماجة: تِجَارَات 43، وَأحمد: 6/ 49 - 208 - 237.
2 أخرجه البُخَارِيّ: بُيُوع 65، وَمُسلم: بُيُوع 23 - 26 - 28، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع 43، وَالتِّرْمِذِيّ: بُيُوع 29، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 14، وَابْن ماجة: تِجَارَات 43، والدارمي: بُيُوع 19، وَأحمد 3/ 248 - 259 - 273 - 317- 386 -394 - 406 - 410 - 417 - 420 - 430 - 463 - 469- 481 - 507، 4/ 314، وجامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 21322 و21333.
3 وأصل التصرية: حبس المَاء، والمصراة من الْبَهَائِم: هِيَ الَّتِي حبس لَبنهَا لتبدو للْمُشْتَرِي غزيرة اللَّبن كَمَا ذكر الْمُؤلف رَحمَه الله.

(1/330)


الشَّاة وَالْمُحَفَّلَةَ، شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهِيَ الَّتِي جُمِّعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا، فَلَمْ تُحْلَبْ أَيَّامًا، حَتَّى عَظُمَ الضَّرْعُ، لِاجْتِمَاعِ اللَّبَنِ فِيهِ.
فَإِذَا اشْتَرَاهَا مُشْتَرٍ، وَاحْتَلَبَ مَا فِي ضَرْعِهَا، اسْتَوْعَبَهُ فِي حَلْبَةٍ أَوْ حَلْبَتَيْنِ.
فَإِذَا انْقَطَعَ اللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَظَهَرَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُحَفَّلَةً، رَدَّهَا وَرَدَ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، لِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي ضَرْعِهَا، كَانَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لَا فِي مِلْكِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ1.
وَالْعَبْدُ إِذَا بِيعَ وَبِهِ عَيْبٌ -وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى ذَلِكَ الْعَيْبِ- لَا يُبَاعُ وَمَعَهُ غَلَّةٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْغَلَّةُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَجِبُ أَنْ يرد عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْئا.
__________
1 تَعْلِيل ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله فِي رد الْمُصراة وَمَعَهَا صَاع منتمر، ورد العَبْد بِالْعَيْبِ مَعَ حبس غَلَّته بِأَن اللَّبن الَّذِي كَانَ فِي الضَّرع حصل فِي ملك البَائِع. كَلَامه هَذَا غير وَاضح لِأَن الْمُصراة اشترها المُشْتَرِي من مَالِكهَا، فَوَقَعت الضفقة عَلَيْهَا وعَلى لَبنهَا المتجمع فِي الضَّرع، فاللبن من حَقه لِأَنَّهُ دَاخل فِي الضفقة وَهُوَ الْمَقْصُود فِي البيع أَرَادَ البَائِع بتجميعه بيعهَا وترويجها، وَأَرَادَ المُشْتَرِي شِرَاء الشَّاة من أجل كَثْرَة لَبنهَا وَكبر ضرْعهَا، فاللبن مَقْصُود فِي البيع لكل مِنْهُمَا، وعندما اكتشف المُشْتَرِي أَنَّهَا كَانَت مصراة وَأَن حَقِيقَتهَا لَيست كَمَا كَانَ ظَاهرهَا، فَإِن الشَّارِع أعطَاهُ مهلة ثَلَاثَة أَيَّام يختبر حَقِيقَة درها ويحتلبها وحلابها فِي الثَّلَاثَة أَيَّام هُوَ مُقَابل الضَّمَان كغلة العَبْد سَوَاء، فَإِذا استبان لَهُ أَنَّهَا كَانَت مصراة وأنلبنها قَلِيل وعزم على ردهَا، فَإِنَّهُ يردهَا بِغَيْر اللَّبن الَّذِي كَانَ فِيهَا وَوَقعت عَلَيْهِ الصَّفْقَة وَعَلِيهِ فَرده لَهَا بِدُونِهِ بخس. فَجعل الشَّارِع عوضه صَاع تمر؛ وَذَلِكَ لِأَن الْخِيَار محدد بِثَلَاثَة أَيَّام، وَلَو لم تكن مُدَّة الْخِيَار محددة بِثَلَاثَة أَيَّام لوسع المُشْتَرِي أَن يحبس لَبنهَا أَيَّامًا فَتكون كَمَا كَانَت مصراة ويردها كَمَا أَخذهَا، وَلَكِن ذَلِك يفوت مُدَّة الْخِيَار، فَلَزِمَ دفع الْبَدَل عَن اللَّبن الَّذِي هُوَ جُزْء من صَفْقَة البيع. أما كَون الْخراج بِالضَّمَانِ فَلم يتعارض مَعَ خبر الْمُصراة؛ لِأَن المُشْتَرِي فعلا احتلبها ثَلَاثَة أَيَّام وَأخذ غَلَّتهَا الَّتِي هِيَ بِمَثَابَة خراجها مُقَابل الضَّمَان وَلَكِن اللَّبن الأول الْمَجْمُوع لم يكن من غَلَّتهَا الْمُعْتَادَة بل هُوَ غلَّة أَيَّام مَجْمُوعَة، فَكَانَ الْقيَاس إِمَّا أنيردها مصراة كَمَا كَانَت وَهَذَا يَقْتَضِي حَبسهَا أَيَّامًا أُخْرَى، ويفضي إِلَى مشاكل ونزاعات من نوع آخر ويخول للْبَائِع أَن يَدعِي عجفها أَو مَرضهَا بِسَبَب سوء الرِّعَايَة، وَأَن قلَّة الدّرّ حصل بِسَبَب المُشْتَرِي لإهمالها، فَكَانَ لَا بُد من حسم مَادَّة النزاع فِي وَقت لَا يخول للْبَائِع ادِّعَاء سَبَب آخر، وَهَذَا وَالله أعلم هُوَ وَجه الْقَضِيَّة وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى. "الشَّيْخ مُحَمَّد مُحَمَّد بدير"

(1/331)


24- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- الشُّفْعَةُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ سَمِعَ أَبَا رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ" 1.
وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَارُ الدَّارِ، أَحَقُّ بِدَارِ الْجَارِ، أَوِ الْأَرْضِ" 2.
ثُمَّ رَوَيْتُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ"3.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَابِرًا سَمِعَ مَا قَالَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: "إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ"، فَهُوَ حُكْمٌ مِنْهُ، وَظَنٌّ مِنْهُ، أَوْ سَمَاعٌ مِنْ رَجُلٍ عَنْهُ.
وَالْحَدِيثَانِ الْأَوَّلَانِ مُتَّصِلَانِ، وَعَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا يرجعان إِلَى تَأْوِيل وَاحِد.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: شُفْعَة 2، حيل 14 - 15، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع 73، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 109، وَابْن ماجة: شُفْعَة 2، وَأحمد 6/ 10 - 390.
2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: أَحْكَام 31 - 33، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع 73، وَأحمد: 4/ 388 - 390، 5/ 8 - 12 - 13 - 18.
3 أخرجه البُخَارِيّ: شركَة 8- 9، حيل 14، والدارمي: بُيُوع 83.

(1/332)


أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَعْنَاهُ: الْجَارُّ أَحَقُّ بملاصقه1 من دَار جَاره.
و"الصقب" الدُّنُوُّ بِالْمُلَاصَقَةِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
كُوفِيَّةٌ نَازِحٌ2 مَحِلَّتُهَا ... لَا أَمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ
يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: "لَا أَمَمٌ دَارُهَا" أَيْ: لَا قَرِيبٌ، "وَلَا صقب" أَي: لَا مُلَاصَقَةٌ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: "إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، فَلَا شُفْعَةَ".
كَأَنَّ رَبْعًا فِيهِ مَنَازِلُ، وَهُوَ لِأَقْوَامٍ عَشَرَةٍ مُشْتَرِكِينَ فِيهِ، فَإِنْ بَاعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حِصَّةً مِنْ تِلْكَ الْمَنَازِلِ، كَانَتِ الشُّفْعَةُ لِجَمِيعِهِمْ فِي الْحِصَّةِ وَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُسْعُهَا، فَإِنْ قُسِّمَتْ تِلْكَ الْمَنَازِلُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَبِيعَ مَنْزِلَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ شُفْعَةٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِجَارِهِ الْمُلَاصِقِ لَهُ.
فَدَلَّنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ إِذَا وَقَعَتْ، زَالَ حكم الْمشَاع.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: بِمَا لَا صقه، وَلَعَلَّ هَذَا أصح.
2 نازح: أَي بعيد.

(1/333)


- 25- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الْإِنَاءِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ، وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ" 1.
قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، سُمٌّ وَشِفَاءٌ؟
وَكَيْفَ يَعْلَمُ الذُّبَابُ بِمَوْضِعِ السُّمِّ، فَيُقَدِّمُهُ، وَبِمَوْضِعِ الشِّفَاءِ فَيُؤَخِّرُهُ؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ.
حَدثنَا أَبُو الْخطاب: حَدثنَا أَبُو عَتَّابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ قَالَ: وَقَعَ ذُبَابٌ فِي إِنَاءٍ، فَقَالَ أَنَسٌ2 بِأُصْبُعِهِ، فَغَمَزَهُ فِي الْمَاءِ، وَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ"، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ إِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَقَالَ: "فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمٌّ، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءٌ ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ حَمَلَ أَمْرَ الدِّينِ عَلَى مَا شَاهَدَ، فَجَعَلَ الْبَهِيمَةَ لَا تَقُولُ، وَالطَّائِرَ لَا يُسَبِّحُ، وَالْبُقْعَةَ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ لَا تَشْكُو إِلَى أُخْتِهَا، وَالذُّبَابَ لَا يَعْلَمُ مَوْضِعَ السُّمِّ وَمَوْضِعَ الشِّفَاءِ، وَاعْتَرَضَ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، مِمَّا لَا يَفْهَمُهُ، فَقَالَ: "كَيْفَ يَكُونُ قِيرَاطٌ مثل أحد؟ "
__________
1 سبق تَخْرِيجه صفحة: 55.
2 قَالَ فِي النِّهَايَة: الْعَرَب تجْعَل القَوْل عبارَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال وتطلقه على غير الْكَلَام؛ فَتَقول "قَالَ بِيَدِهِ" أَي أَخذ، و"قَالَ بِرجلِهِ" أَي مَشى.

(1/334)


و"كَيفَ يتَكَلَّم بَيت الْمُقَدّس؟ " و"كَيفَ يَأْكُلُ الشَّيْطَانُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ؟ " و"أَي شمال لَهُ؟ " و"كَيفَ لَقِيَ آدَمُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، حَتَّى تَنَازَعَا فِي الْقدر، وَبَينهمَا أحقاب؟ " و"وَأَيْنَ تَنَازَعَا؟ 1" فَإِنَّهُ مُنْسَلِخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، مُعَطِّلٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَعِدُّ2 بِمِثْلِ هَذَا وَشِبْهِهِ، مِنَ الْقَوْلِ وَاللَّغْوِ وَالْجِدَالِ، وَدَفْعِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ -مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ مِنْ صَحَابَتِهِ وَالتَّابِعُونَ.
وَمَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ كَمَنْ كَذَّبَ بِهِ كُلِّهِ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى دِينٍ لَا يُؤْمِنُ فِيهِ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ، لَمْ يَجِدْ مُنْتَقَلًا؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالصَّابِئِينَ وَالْوَثَنِيَّةَ، يُؤْمِنُونَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ.
وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا قوم مِنَ الدَّهْرِيَّةِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَهْمِيَّةِ.
"وَبَعْدُ" فَمَا3 يُنْكَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الذُّبَابِ سُمٌّ وَشِفَاءٌ، إِذَا نَحْنُ تَرَكْنَا طَرِيقَ الدِّيَانَةِ، وَرَجَعْنَا4 إِلَى الْفَلْسَفَةِ؟
وَهَلِ الذُّبَابُ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَيَّةِ؟ فَإِنَّ الْأَطِبَّاءَ يَذْكُرُونَ أَنَّ لَحْمَهَا شِفَاءٌ مِنْ سُمِّهَا، إِذَا عُمِلَ مِنْهُ التِّرْيَاقُ الْأَكْبَرُ، وَنَافِعٌ مِنْ لَدْغِ الْعَقَارِبِ وَعَضِّ الْكِلَابِ الْكَلِبَةِ، وَالْحُمَّى الرِّبْعِ5، وَالْفَالِجِ وَاللَّقْوَةِ6، وَالِارْتِعَاشِ وَالصَّرَعِ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْعَقْرَبِ: إِنَّهَا إِذَا شُقَّ بَطْنُهَا، ثُمَّ شُدَّتْ عَلَى مَوْضِعِ اللَّسْعَةِ، نَفَعت.
__________
1 فِي نُسْخَة: وَأَيْنَ تلاقيا.
2 لَعَلَّ الصَّوَاب: يسْتَتر.
3 "مَا" استفهامية، و"يُنكر" بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول، وَفِي نُسْخَة "نكر" بالنُّون".
4 فِي نُسْخَة: "ودفعنا".
5 وَهِي الَّتِي تَجِيء فِي الرَّابِع من الْأَيَّام، فتأخذ يَوْمًا وَتَدَع يَوْمَيْنِ ثمَّ تَجِيء فِي الرَّابِع.
6 اللقوة: دَاء فِي الْوَجْه، يشل بعض عضلاته.

(1/335)


وَإِذَا أُحْرِقَتْ، فَصَارَتْ رَمَادًا، ثُمَّ سُقِيَ مِنْهَا مَنْ بِهِ الْحَصَاةُ، نَفَعَتْهُ.
وَرُبَّمَا لَسَعَتِ الْمَفْلُوجَ، فَأَفَاقَ.
وَتُلْقَى فِي الدُّهْنِ حِينًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الدُّهْنُ مُفَرِّقًا لِلْأَوْرَامِ الْغَلِيظَةِ.
وَالْأَطِبَّاءُ الْقُدَمَاءُ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الذُّبَابَ إِذَا أُلْقِيَ فِي الْإِثْمِدِ1، وَسُحِقَ مَعَهُ، ثُمَّ اكْتُحِلَ بِهِ زَادَ ذَلِكَ فِي نُورِ الْبَصَرِ، وَشَدَّ مَرَاكِزَ الشَّعْرِ مِنَ الْأَجْفَانِ، فِي حَافَّاتِ الْجُفُونِ.
وَحَكَوْا عَنْ صَاحِبِ الْمَنْطِقِ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْأُمَمِ، كَانُوا يَأْكُلُونَ الذُّبَابَ فَلَا يَرْمَدُونَ.
وَقَالُوا فِي الذُّبَابِ: إِذَا شُدِخَ، وَوُضِعَ عَلَى مَوْضِعِ لَسْعَةِ الْعَقْرَبِ، سَكَنَ الْوَجَعُ.
وَقَالُوا: مَنْ عَضَّهُ الْكَلْبُ، احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَسْتُرَ وَجْهَهُ مِنْ سُقُوطِ الذُّبَابِ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَقْتُلَهُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طبيعة شِفَاء فِيهِ أَوْ سُمٍّ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَكَيْفَ تَكُونُ الْبَهَائِمُ وَالْحَشَرَاتُ لَا تَفْهَمُ إِذَا نَحْنُ تَرَكْنَا طَرِيقَ الدِّيَانَةِ، وَقُلْنَا بِالْفَلْسَفَةِ، وَبِمَا يُلْحِقُهُ الْعِيَانُ، وَنَحْنُ نَرَى الذَّرَّةَ تَدَّخِرُ فِي الصَّيْفِ لِلشِّتَاءِ، فَإِذَا خَافَتِ الْعَفَنَ عَلَى مَا ادَّخَرَتْ مِنَ الْحَبِّ، أَخْرَجَتْهُ إِلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ، فَنَشَرَتْهُ لَيْلًا فِي الْقَمَرِ، وَإِذَا خَافَتْ نَبَاتَ الْحَبِّ، نَقَرَتْ2 وَسَطَ الْحَبَّةِ، لِئَلَّا تَنْبُتَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَيْسَ شَيْءٌ يَدَّخِرُ إِلَّا الْإِنْسَان، والنملة والفأرة3.
__________
1 الإثمد: حجر للكحل.
2 كَذَا بنسختين بالنُّون، وَفِي نُسْخَة: "بفرت" بِالْمُوَحَّدَةِ، وَمعنى "النقر" بالنُّون: النكت، وَمعنى: "الْبَقر" الشق.
3 تكلم ابْن قُتَيْبَة فِي رد شُبْهَة المعترضين على حَدِيث وُقُوع الذُّبَاب فِي الشَّرَاب وغمسه من نَاحيَة الشَّرْع فَأحْسن، وَمن نَاحيَة الفلسفة أَو الْوَاقِع أَو الْمُشَاهدَة وَضرب أَمْثِلَة كَثِيرَة =

(1/336)


وَهَذِهِ الْغِرْبَانُ، لَا تَقْرَبُ نَخْلَةٌ1، مُوقَرَةٌ فَإِذَا صُرِمَتِ النَّخْلَةُ سَقَطَتْ عَلَيْهَا، فَلَقَطَتْ مَا فِي الْقُلْبَةِ2، يَعْنِي: الْكَرْبَ.
وَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ: إِذَا نَهَشَتِ الْإِبِلَ حَيَّةٌ أَكَلَتِ السَّرَاطِينَ.
وَقَالَ بن مَاسَوَيْهِ: فَلِذَلِكَ نَظُنُّ السُّرَاطِينَ، صَالِحَةً لِلْمَنْهُوشِينَ.
قَالُوا: وَالسُّلَحْفَاةُ، إِذَا أَكَلَتْ أَفْعَى أكلت سعترًا جبليًا.
__________
= من ذَلِك على أَن بعض الدَّوَابّ والحشرات لَهَا شَيْء من الْفَهم، فَلَا يُنكر أَن يكون للذباب نوع تَمْيِيز بَين مَا تحمل من السم والشفاء، فَتقدم السم أَولا. وأضيف إِلَى هَذَا من الدرسات الحديثة على سلوكيات الحشرات كَمَا درسوها لنا فِي الجامعة قسم الحشرات، أَن كثيرا من الْحَيَوَانَات الْحَيَّة وَمِنْهَا الحشرات عِنْدهَا سلوكيات فطرية يسمونها فِي علم الْحَيَوَان بالغزائر.... وَهِي تَصَرُّفَات فطرية يعملها الْحَيَوَان بِدُونِ تَعْلِيم، لِأَنَّهَا مغروسة فِي فطرته وَلَا يملك التخلي عَنْهَا. وَهِي مَأْخُوذَة من الْمُشَاهدَة فعلا، فَلَو نظرت إِلَى أَوْلَاد القطة الصغار العميان إِذا بَال أحدهم ترَاهُ يتَنَحَّى عَن مَوضِع الْبَوْل أَو الْغَائِط بِقَلِيل جدا ويحفر من الأَرْض ليغطي بَوْله أَو برازه ثمَّ يلْتَفت فيشم الْموضع فَإِذا كَانَت الرَّائِحَة انْقَطَعت توقف، وَإِلَّا عَاد يحْفر ويردم. وَلَقَد رَأَيْته بنفسي يفعل ذَلِك على أَرض صلبة مبلطة، فيحفر بِرجلِهِ وطبعًا لَا يخرج مَعَه شَيْء ثمَّ يستدير فيشم الرَّائِحَة ثمَّ يعود فيحفر ويكرر ذَلِك وقتا طَويلا؛ لِأَن الرَّائِحَة لَا تَنْقَطِع لعدم وجود تُرَاب يغطيها، هَذَا كُله وَهُوَ أعمى لَا يُمكن أَن تكون عَلمته أمه. وَفِي الحشرات تتجلى ظَاهِرَة الغرائز الفطرية بِصُورَة وَاضِحَة، فحشرة كالصرصور مثلا لَو ألقِي عَلَيْهَا شَيْء من الدَّقِيق تقوم بعملية التَّنْظِيف وَلها قرنان وَثَلَاثَة أَزوَاج من الأرجل فتتبع نظامًا ثَابتا موحدًا فِي جَمِيع الْجِنْس لَا يتَغَيَّر، فتبدأ بتنظيف قرن معِين الْيَمين مثلا، ثمَّ تنظف الآخر تبدأ بِرَجُل مُعينَة ثمَّ بِرَجُل من النَّاحِيَة الْأُخْرَى، ثمَّ تعود فتنظف رجلا من الْجِهَة الْمُقَابلَة. وَيتبع الصرصور نفس التَّرْتِيب لَا يُخَالِفهُ أبدا. وَلَو وَقع التُّرَاب أَو الدَّقِيق على جَانب وَاحِد من جِسْمه وَأَرَادَ تنظيفه فَلَا بُد من اتِّبَاع تَرْتِيب تنظيف كل الْجِسْم بِنَفس التَّرْتِيب كل عُضْو فِي ترتيبه وَلَو كَانَ نظيفًا. وَهَذَا عَام فِي كل جنس الصراصير لَا يُخَالف وَاحِد مِنْهَا، ويستحيل أَن تكون تعلمت هَذَا من معلم يوحد صبغتها فِي عُمُوم الْجِنْس مَعَ كثرته وشيوعه. أفيبعد أَن تكون الذبابة قد غرس فِي فطرتها تَقْدِيم الدَّاء عِنْد الْخطر وَتَأْخِير الشِّفَاء؟ بل هَذَا أَمر عادي كَغَيْرِهِ مَعْلُوم بِالْمُشَاهَدَةِ. "الشَّيْخ مُحَمَّد مُحَمَّد بدير"
1 موقرة: من الوقر "بِكَسْر الْوَاو": الْحمل الثقيل. الْقَامُوس الْمُحِيط ص635.
2 القلبة: شحمة النّخل أَو أَجود خوصها، كَمَا فِي الْقَامُوس الْمُحِيط ص163.
وَالْكرب: مايتلقط من التَّمْر فِي أصُول السعف، كَمَا فِي الْقَامُوس.

(1/337)


وَابْنُ عُرْسٍ1 إِذَا قَاتَلَ الْحَيَّةَ أَكَلَ السَّذَابَ2.
وَالْكِلَابُ إِذَا كَانَ فِي أَجْوَافِهَا دُودٌ، أَكَلَتْ سُنْبُلَ الْقَمْحِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
فَأَرَى هَذِهِ عَلَى مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ، تُفْهَمُ وَتُحْسِنُ الطِّبَّ أَيْضًا، وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الذُّبَابِ بِالسُّمِّ وَالشِّفَاءِ فِي جَنَاحَيْهِ.
وَكَيْفَ لَا يَعْجَبُونَ مِنْ حَجَرٍ يَجْذِبُ الْحَدِيدَ مِنْ بُعْدٍ وَيُطِيعُهُ، حَتَّى يَذْهَبَ بِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا بِذَهَابِهِ، وَهَذَا حَجَرُ المغناطيس.
وَكَيف صدقُوا بقول أرسطاطا لَيْسَ فِي حَجَرِ السِّنْفِيلِ أَنَّهُ إِذَا رُبِطَ عَلَى بَطْنِ صَاحِبِ الِاسْتِسْقَاءِ نَشَّفَ مِنْهُ الْمَاءَ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُوزَنُ بَعْدَ أَنْ يُشَدَّ عَلَى بَطْنِهِ، فَيُوجَدَ قَدْ زَادَ فِي وَزْنِهِ.
وَذَاكَرْتُ أَيُّوبَ الْمُتَطَبِّبَ بِهَذَا، أَوْ حُنَيْنًا، فَعَرَفَهُ وَقَالَ: هَذَا الْحَجَرُ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ قَالَ فِي غَيْرِهَا، مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَبِقَوْلِهِ فِي حَجَرٍ يَسْبَحُ فِي الْخَلِّ كَأَنَّهُ سَمَكَةٌ -وَخَرَزَةٍ تَصِيرُ فِي حَقْوِ الْمَرْأَةِ فَلَا تَحْبَلُ- وَحَجَرٍ يُوضَعُ عَلَى حَرْفِ التَّنُّورِ، فَيَتَسَاقَطُ خُبْزُ التَّنُّورِ كُلُّهُ، وَحَجَرٍ يَقْبِضُ عَلَيْهِ الْقَابِضُ بِكَفَّيْهِ، فَيُلْقِي كُلَّ شَيْءٍ فِي جَوْفِهِ، وَبِالصَّعِيدِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ شَجَرَةٌ تُعْرَفُ بِالسَّنْطَةِ يُشْهُرُ عَلَيْهَا السَّيْفُ، وَتُتَوَعَّدُ بِالْقَطْعِ فَتَذْبُلُ.
وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ لَنَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا، إِنِّي اسْتَوْدَعْتُ هَذَا وَدِيعَةً، فَأَبَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيَّ.
فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: رد على الرجل وديعته.
__________
1 ابْن عرس: دويبة أشتر أصلم أسك؛ وَجمعه: بَنَات عرس. الْقَامُوس.
2 السذاب: الفيجن وَهُوَ بقل مَعْرُوف، الْقَامُوس الْمُحِيط ص123.

(1/338)


فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ، إِنَّهُ حَجَرٌ، إِذَا رَأَتْهُ الْحُبْلَى أَلْقَتْ وَلَدهَا، وَإِذا وَقع فِي الْحل غَلِيَ، وَإِذَا وُضِعَ فِي التَّنُّورِ بَرَدَ.
فَسَكَتَ شُرَيْحٌ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، حَتَّى قَامَا.
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ -رَحِمَكَ اللَّهُ- لَا يَضْبُطُهَا وَهْمٌ، وَلَا يُعْرَفُ أَكْثَرُهَا بِقِيَاسٍ.
وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مِثْلَ هَذَا مِنْ عَجَائِبِ الْخلق لكثر وَطَالَ.

(1/339)


26- قَالُوا: حَدِيثٌ يَحْتَجُّ بِهِ الرَّوَافِضُ فِي إكفار أَصْحَاب محد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَقْوَامٌ، ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي ".
فَيُقَالُ لِي: "إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ" 1.
قَالُوا: وَهَذِهِ حُجَّةٌ لِلرَّوَافِضِ فِي إِكْفَارِهِمْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا عَلِيًّا2، وَأَبَا ذَرٍ، وَالْمِقْدَادَ، وَسَلْمَانَ، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَحُذَيْفَةَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوا الْحَدِيثَ، وَفَهِمُوا أَلْفَاظَهُ، لَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلَ.
يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَقْوَامٌ".
وَلَوْ كَانَ أَرَادَهُمْ جَمِيعًا إِلَّا مَنْ ذُكِرُوا لَقَالَ: "لَتَرِدُنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ، ثُمَّ لَتَخْتَلِجُنَّ دُونِي".
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: "أَتَانِي الْيَوْمَ أَقْوَامٌ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَأَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ"، فَإِنَّمَا يُرِيدُ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ؟ وَلَوْ أَرَادَ أَنَّهُمْ أَتَوْهُ إِلَّا نَفرا
__________
1 سبق تَخْرِيجه صفحة: 51.
2 عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب "أَبُو الْحسن" ابْن عَم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم نَشأ فِي بَيت النَّبِي وآمن بِهِ وَهُوَ صَغِير، شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا عدا تَبُوك، فقد اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَة، وَهُوَ رَابِع الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، قتل غيلَة لَيْلَة الْجُمُعَة 17 رَمَضَان سنة 40هـ، وروى عَنهُ الحَدِيث: بنوه الْحسن وَالْحُسَيْن وَعمر وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة وَخلق كثير.

(1/340)


يَسِيرا قَالَ: أَتَانِي بَنُو تَمِيمٍ، وَأَتَانِي أَهْلُ الْكُوفَةِ"، وَلَمْ يَجِزْ أَنْ يَقُولَ "قَوْمٌ"؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا.
وَيَدُلُّكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: "يَا رَبِّ، أُصَيْحَابِي" بِالتَّصْغِيرِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَقْلِيلَ الْعَدَدِ، كَمَا تَقول: "مَرَرْت بِأَبْيَات مُتَفَرِّقَة" و"مَرَرْت بِجُمَيْعَةٍ".
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَشْهَدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ، وَيَحْضُرُ مَعَهُ الْمَغَازِيَ الْمُنَافِقُ؛ لِطَلَبِ الْمَغْنَمِ، وَالرَّقِيقُ الدِّينِ، وَالْمُرْتَابُ، وَالشَّاكُّ.
وَقَدِ ارْتَدَّ بَعْدَهُ أَقْوَامٌ، مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِطُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، حِينَ تَنَبَّأَ وَآمَنَ بِهِ، فَلَمَّا هُزِمَ طُلَيْحَةُ، هَرَبَ، فَأَسَرَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَثَاقٍ، فَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ غِلْمَانُ الْمَدِينَةِ يَنْخُسُونَهُ بِالْجَرِيدِ، وَيَضْرِبُونَهُ وَيَقُولُونَ: "أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، كَفَرْتَ بِاللَّهِ بَعْدَ إِيمَانِكَ؟ ".
فَيَقُولُ عَدُوُّ اللَّهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ آمَنْتُ.
فَلَمَّا كَلَّمَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَبِلَ مِنْهُ، وَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، وَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ رَقِيقَ الدِّينِ حَتَّى مَاتَ.
وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَغَارَ عَلَى لِقَاحِ1 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَابَةِ فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: مَا جَزَيْتَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَنْتَ2 فِي بِلَادِهِ، ثُمَّ غَزَوْتَهُ؟ فَقَالَ: هُوَ مَا تَرَى.
وَفِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ".
وَلِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ أَشْبَاهٌ، ارْتَدُّوا حِينَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى النِّفَاقِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} 3 الْآيَةَ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَخْتَلِجُونَ دونه.
__________
1 لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: أَي إيله.
2 أسمنت: أَي أسمنت مَا شيتك بالرعي فِي بِلَاده.
3 الْآيَة: 101 من سُورَة التَّوْبَة.

(1/341)


وَأَمَّا جَمِيعُ أَصْحَابِهِ، إِلَّا السِّتَّةَ الَّذِينَ ذُكِرُوا -فَكَيْفَ يَخْتَلِجُونَ؟
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1 إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 2.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، قَالَ: أَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، كَمْ كَانُوا فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً.
قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً.
قَالَ: أَوْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي حَدَّثَنِي، أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً3.
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرْضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَقْوَامٍ، وَيَحْمَدَهُمْ وَيَضْرِبَ لَهُمْ مَثَلًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا هُوَ شَرُّ الْكَافرين.
__________
1 الْآيَة: 29 من سُورَة الْفَتْح.
2 الْآيَة: 18 من سُورَة الْفَتْح.
3 أخرجه البُخَارِيّ: الْمَغَازِي 35.

(1/342)


27- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي الْقَدَرِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدَرِيًّا، وَحَاجَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَجَّهُ1، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ قَدَرِيًّا، وَحَاجَّ عُمَرَ، فَحَجَّهُ عُمَرُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَخَرُّصٌ وَكَذِبٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ جَاءَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدَرِيًّا، وَلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَدَرِيًّا.
حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَقِيَ مُوسَى آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ، الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَلَسْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَلَيِسَ تَجِدُ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَنَّهُ سَيُخْرِجُنِي مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَنِيهَا؟ قَالَ: بلَى، قَالَ فَخص م 2 آدَمُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ" 3.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ على أَن مُوسَى عَلَيْهِ
__________
1 حجه: أَي غَلبه بِالْحجَّةِ.
2 خَصمه: غَلبه بِالْحجَّةِ وَالْخُصُومَة.
3 أخرجبه البُخَارِيّ: تَوْحِيد 19 - 24 - 37، أَنْبيَاء 3 رقاق 51، وَالتِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 10، قدر 3، وَابْن ماجة: زهد 37، وَأحمد 2/ 435.

(1/343)


السَّلَام كَانَ قَدَرِيًّا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، غَيْرَ أَنَّا نَنْسُبُ الْأَفْعَالَ إِلَى فَاعِلِيهَا، وَنَحْمَدُ الْمُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَنَلُومُ الْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَنَعْتَدُّ عَلَى الْمُذْنِبِ بِذُنُوبِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَدَرِيًّا"، فَهُوَ أَيْضًا تَحْرِيفٌ وَزِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ.
وَإِنَّمَا تَنَازَعَا فِي الْقَدَرِ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ، فَلَمَّا عَلِمَا كَيْفَ ذَلِكَ؟ اجْتَمَعَا فِيهِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، كَمَا كَانَا لَا يَعْلَمَانِ أُمُورًا كَثِيرَةً مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَأَمْرِ التَّوْحِيدِ، حَتَّى أَعْلَمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ الْكِتَابُ وحدت السُّنَنُ، فَعَلِمَا بَعْدَ ذَلِكَ.
عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ- ضَعِيفٌ، يَرْوِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَيَرْوِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَهَؤُلَاءِ لَا يعرف أَكْثَرهم.

(1/344)


28- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- الْحَيَاءُ شُعْبَةُ مِنَ الْإِيمَانِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" 1.
قَالُوا: وَالْإِيمَانُ اكْتِسَابٌ، وَالْحَيَاءُ غَرِيزَةٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الْمَرْءِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْغَرِيزَةُ اكْتِسَابًا؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمُسْتَحْيِيَ يَنْقَطِعُ بِالْحَيَاءِ عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا يَنْقَطِعُ بِالْإِيمَانِ عَنْهَا فَكَأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْهُ، وَالْعَرَبُ تُقِيمُ الشَّيْءَ، مَقَامَ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، أَوْ شَبِيهًا بِهِ، أَوْ كَانَ سَبَبًا لَهُ.
أَلَّا تَرَاهُمْ سَمَّوُا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ صَلَاةً؟ وَأَصْلُ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ.
وَسَمَّوُا الدُّعَاءَ صَلَاةً؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} 2، أَيِ: ادْعُ لَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} 3، أَيْ: لَوْلَا صَلَاتُكُمْ.
وَقَالَ بن عُمَرَ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا دُعِيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى وَلِيمَةٍ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا أَكَلَ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا صَلَّى، أَيْ: دَعَا.
وَأَصْلُ الصَّلَاةِ: الدُّعَاءُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 4، أَي: ادْع لَهُم.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: 1/ 11، وَمُسلم 1/ 46، وَالْأَدب الْمُفْرد 190، والمقاصد 195، والدرر برقم 196، والتمييز 70، والكشف 1/ 369.
2 الْآيَة: 103 من سُورَة التَّوْبَة.
3 الْآيَة: 77من سُورَة الْفرْقَان، وَالْآيَة من بدايتها: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} .
4 الْآيَة: 103 من سُورَة التَّوْبَة.

(1/345)


وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1، أَيِ: ادْعُوا لَهُ، وَمَا جَاءَ فِي هَذَا كَثِيرٌ.
فَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ، سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَهِيَ تَطْهِيرُ الْمَالِ وَنَمَاؤُهُ، فَلَمَّا كَانَ النَّمَاءُ يَقَعُ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ عَنِ الْمَالِ سُمِّيَ زَكَاةً -وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ بْنَ أَبِي سُلَيْمٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ بن مَسْعُودٍ: قَالَ كَانَ آخِرُ مَا حُفِظَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ: "إِذَا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"2.
يُرَادُ بِهِ أَنه من لم يستحي، وَكَانَ فَاسِقًا، رَكِبَ كُلَّ فَاحِشَةٍ، وَقَارَفَ كُلَّ قَبِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ دِينٌ، وَلَا حَيَاءٌ.
أَفَمَا تَرَى أَنَّ الْحَيَاءَ قَدْ صَارَ وَالْإِيمَانُ يَعْمَلَانِ عَمَلًا وَاحِدًا، فكأنهما شَيْء وَاحِد؟!
__________
1 الْآيَة: 56 من سُورَة الْأَحْزَاب.
2 حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ 9/ 25، وَانْظُر الدُّرَر رقم 7، وَالْأَدب الْمُفْرد 88 و190.

(1/346)


-29- قَالُوا: أَحَادِيثُ فِي الصَّلَاةِ مُتَنَاقِضَةٌ- إِعَادَةُ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا رَجُلَانِ لَمْ يُصَلِّيَا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِد، فَدَعَا بهَا فَجَاءَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا1.
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ " قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا.
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَةٌ" 2.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ الطَّائِفِيِّ، عَنْ نُوحِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: جِئْتُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، فَجَلَسْتُ وَلَمْ أَدْخُلْ مَعَهُمْ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَلَمْ تُسْلِمْ يَا يَزِيدُ"؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: "فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَعَ النَّاسِ فِي صَلَاتِهِمْ؟ ".
قُلْتُ: إِنِّي كُنْتُ صَلَّيْتُ فِي مَنْزِلِي، وَأَنَا أَحْسَبُ أَنْ قَدْ صَلَّيْتُمْ.
فَقَالَ: "إِذَا جِئْتَ لِلصَّلَاةِ، فَوَجَدْتَ النَّاسَ يُصَلُّونَ، فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَة، وَهَذِه مَكْتُوبَة" 3.
__________
1 كِنَايَة عَن الْخَوْف، والفرائض جمع فرْصَة وَهِي أوداج الْعُنُق.
2 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: صَلَاة 49، وَالنَّسَائِيّ: إِمَامَة 54، وَقَالَ الألباني: صَلَاة 97، وَأحمد: 4/ 161.
3 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 545، وَقَالَ الألباني: وَهُوَ ضَعِيف جدا. وَكَذَا أوردهُ فِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 2126.

(1/347)


ثُمَّ رُوِّيتُمْ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى مَيْمُونَة قَالَ: أتيت بن عُمَرَ وَهُوَ عَلَى الْبَلَاطِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَقُلْتُ: أَلَا تُصَلِّي مَعَهُمْ؟
قَالَ: قَدْ صَلَّيْتُ، أَوَمَا1 سَمِعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؟ ".
قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ، وَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا يُوجِبُ غَيْرَ مَا يُوجِبُهُ الْآخَرُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ.
أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ قَالَ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَةٌ ".
يُرِيدُ: أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ نَافِلَةٌ، وَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ تَقَدَّمَتْ بِأَدَائِهَا حَتَّى كَمَلَتْ وَتَقَضَّتْ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي، فَقَالَ: "إِذَا جِئْتَ لِلصَّلَاةِ، فَوَجَدْتَ النَّاسَ يُصَلُّونَ، فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً، وَهَذِهِ مَكْتُوبَةٌ ".
كَأَنَّهُ قَالَ: تَكُنْ لَكَ هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ مَعَ الْإِمَامِ نَافِلَةً، وَهَذِهِ الْأُخْرَى الَّتِي صَلَّيْتَهَا فِي بَيْتِكَ مَكْتُوبَةٌ.
وَلَوْ جُعِلَ مَكَانَ2 قَوْلِهِ "هَذِهِ" وَ"تِلْكَ" مَكْتُوبَةٌ، كَانَ أَوْضَحَ لِلْمَعْنَى وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يُشْكَلُ بِقَوْلِهِ: "وَهَذِهِ" فَأَغْفَلَ بَعْضُ الرُّوَاةِ "هَذِهِ" فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ، وَذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، وَجَعَلَهُ مَكَانَ "تِلْكَ".
__________
1 وَفِي نسختين: إِنِّي سَمِعت.
2 أَي أبدل اسْم إِشَارَة الْقَرِيب باسم إِشَارَة الْبعيد.

(1/348)


وَقَدْ ذَكَرْتُ لَكَ مِثْلَ هَذَا مِنْ إِغْفَالِ النَّقَلَةِ لِلْحَرْفِ، وَالشَّيْءُ الْيَسِيرُ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ"؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُصَلُّوا فَرِيضَةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ"؛ كَأَنَّكَ صَلَّيْتَ فِي مَنْزِلِكَ الظُّهْرَ مَرَّةً، ثُمَّ صَلَّيْتَهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ صَلَّيْتَهَا مَعَ إِمَامٍ، ثُمَّ أَعَدْتَهَا مَعَ إِمَامٍ آخَرَ.
فَاسْتَعْمِلْ مَا سُمِعَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَطْلَقَ فِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَيَجْعَلَهُ نَافِلَةً -وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ هَذَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ.
وَمَنْ صَلَّى فِي مَنْزِلِهِ الْفَرِيضَةَ، وَصَلَّى مَعَ الْإِمَامِ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَجَعَلَهَا نَافِلَةً، لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، إِحْدَاهمَا فَرِيضَة، وَالْأُخْرَى نافة.

(1/349)


-30- قَالُوا: أَحَادِيثُ فِي الْوُضُوءِ مُتَنَاقِضَةٌ- الْوُضُوءُ مِنَ الْجَنَابَةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ، تَوَضَّأَ وَضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ"1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ، تَوَضَّأَ، تَعْنِي وَهُوَ جُنُبٌ"2.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً"3.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ جَائِزٌ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الْجِمَاعِ ثُمَّ يَنَامُ.
وَمَنْ شَاءَ غَسَلَ يَدَهُ وَذَكَرَهُ وَنَامَ.
وَمَنْ شَاءَ نَامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً، غَيْرَ أَنَّ الْوُضُوءَ أَفْضَلُ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ هَذَا مَرَّةً، لِيَدُلَّ عَلَى الْفَضِيلَةِ، وَهَذَا مَرَّةً لِيَدُلَّ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَيَسْتَعْمِلَ النَّاسُ ذَلِكَ.
فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَفْضَلِ، أَخَذَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِالرُّخْصَةِ أَخذ.
__________
1 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 16183، من جَامع الْأَحَادِيث "ق، د، ن، ح" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِلَفْظ: "كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جنب غسل فرجه وَتَوَضَّأ للصَّلَاة".
2 رَوَاهُ الدِّرَامِي: كتاب الْأَطْعِمَة 36، وَفِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 16183 وبرقم 16182.
3 رَوَاهُ ابْن ماجة: طَهَارَة 98، وَأحمد 6/ 43 و111 و171 و260 و298.

(1/350)


-31- قَالُوا حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- بَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ"، أَوْ قَالَ: "ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: "خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ، فَأَلْقُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى مَكَانِهِ مَاءً"2.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي هَذَا مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ حَضَرَ الْأَمْرَ وَرَآهُ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ، لَيْسَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا نَجْعَلُ قَوْلَهُ مُكَافِئًا لِقَوْلِ مَنْ حَضَرَ وَرَأَى.
وَكَانَ أَبُوهُ مَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ، أَبُو عَمْرَةَ الْمُزَنِيُّ، يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ ابْنه، فَلَا نعلمهُ.
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: وضوء 58، أدب 80، طَهَارَة 136، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 112، وَأحمد: 2/ 239، 283، 503، 3/ 111.
2 رَوَاهُ ابْن ماجة: طَهَارَة 78، وَأحمد 1/ 76، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف.

(1/351)


32- قَالُوا: حَدِيثَانِ فِي الصَّوْمِ مُتَنَاقِضَانِ- الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ أُسَامَة بن زيد2، عَن بن شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صِيَامُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، كَفِطْرِهِ فِي الْحَضَرِ" 3.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِقَوْمٍ رَغِبُوا عَنْ رُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا وُهِبَ لَهُمْ مِنَ الرَّفَاهَةِ فِي السَّفَرِ، وَتَجَشَّمُوا الْمَشَقَّةَ وَالشِّدَّةَ.
فَأَعَلَمَهُمْ أَنَّ إِثْمَهُمْ فِي الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ كَإِثْمِهِمْ فِي الْفِطْرِ فِي الْحَضَرِ.
وَسَمَّاهُمْ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عُصَاةً، لِتَرْكِهِمْ قَبُولَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَيسر فِيهِ.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: 4/ 179 بَاب الصَّوْم فِي السّفر، وَمُسلم 2/ 789، وَأَبُو دَاوُد 2/ 793، وَالتِّرْمِذِيّ: 3/ 397، وَالنَّسَائِيّ: 4/ 158، وَابْن ماجة: 1/ 531، وَمَالك فِي الْمُوَطَّأ: 1/ 295.
2 أُسَامَة بن زيد اللَّيْث مَوْلَاهُم، يروي عَن الزُّهْرِيّ، وَهُوَ رجل صَدُوق، كَمَا قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بحَديثه بَأْس، وَقَالَ ابْن حبَان فِي الثِّقَات: يُخطئ وَهُوَ مُسْتَقِيم الْأَمر صَحِيح الْكتاب، وَمَات سنة "153هـ".
3 النَّسَائِيّ: صِيَام 53.

(1/352)


وَمَنْ رَغِبَ عَنْ يُسْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَانَ كَمَنْ قَصَّرَ فِي عَزَائِمِهِ.
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَائِمِ الدَّهْرِ: "لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ" 1.
وَقَالَ: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ" 2.
وَأَمَّا مَنْ سَافَرَ فِي الزَّمَنِ الْبَارِدِ وَالْأَيَّامِ الْقِصَارِ، أَوْ كَانَ فِي كِنٍّ وَسَعَةٍ، وَكَانَ مَخْدُومًا، فَالصَّوْمُ عَلَيْهِ سَهْلٌ، فَذَلِكَ الَّذِي خَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصم، وَإِن شِئْت فَأفْطر ".
__________
1 أخرجه مُسلم: فِي كتاب الصّيام 13 و36، وَأَبُو دَاوُد: فِي كتاب الصَّوْم 14 و53، وَالنَّسَائِيّ: 22 كتاب الصّيام، قَالَ أَبُو يحيى: وَهُوَ حَدِيث حسن.
2 رَوَاهُ أَحْمد: 4/ 25 و26 و214.

(1/353)


33- قَالُوا: حَدِيثَانِ فِي الصَّوْمِ مُتَنَاقِضَانِ- التَّقْبِيلُ فِي الصِّيَامِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ"1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ2، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الضَّبِّيِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ: "قَدْ أَفْطَرَ"3.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْقُبْلَةَ لِلصَّائِمِ تُفْسِدُ الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهَا تَبْعَثُ الشَّهْوَةَ وَتَسْتَدْعِي الْمَذْيَ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْمُبَاشَرَةِ.
فَأَمَّا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ، وَتَقْبِيلُهُ فِي الصَّوْمِ أَهْلَهُ، كَتَقْبِيلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ، وَالْأَخِ أَخَاهُ.
وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يملك إربه؟ "4.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: 30 كتاب الصَّوْم و24 بَاب الْقبْلَة للصَّائِم حَدِيث رقم 981، وَمُسلم: 13 كتاب الصَّوْم و12 بَاب بَيَان أَن الْقبْلَة فِي الصَّوْم لَيست مُحرمَة على من لم تحرّك شَهْوَته، حَدِيث رقم62.
2 أَبُو نعيم: أَحْمد بن عبد الله الْأَصْبَهَانِيّ، كَانَ من أَعْلَام الْمُحدثين، وأكابر الْحفاظ، ترك كتبا عديدة، وَتُوفِّي بأصبهان سنة 430هـ.
3 أخرجه ابْن ماجة: كتاب الصّيام رقم1686، وَفِي الزَّوَائِد: إِسْنَاده ضَعِيف، وَقَالَ الزبيرِي: حَدِيث مُنكر.
4 أخرجه البُخَارِيّ: حيض 5 صَوْم 33، وَمُسلم: حيض2، وَصِيَام 64 و66 و68، وَأَبُو دَاوُد: طَهَارَة 106 وَصَوْم 33، وَالتِّرْمِذِيّ: صَوْم 33، وَابْن ماجة: طَهَارَة 121 وَصِيَام 219، وَأحمد 6/ 40 و42.

(1/354)


وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي نَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ لِقَوْلِهِ: "إِنَّ عَيْنِي تَنَامُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي" 1.
وَلِذَلِكَ كَانَ يَنَامُ حَتَّى يُسْمَعَ فَخِيخُهُ2، ثُمَّ يُصَلِّي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَضَّأَ.
وَأَحْكَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُخَالِفُ أَحْكَامَ أُمَّتِهِ فِي غَيْرِ مَوضِع.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: تهجد 16 تراويح 1 ومناقب 24، وَمُسلم: مسافرين 125، وَأَبُو دَاوُد: طَهَارَة 79 وتطوع 26، وَالتِّرْمِذِيّ: مَوَاقِيت 208 وَفتن63، وَالنَّسَائِيّ: ليل 36، والموطأ: ليل 9، وَأحمد: 1/ 220، 217 و2/ 251.
2 فخيخه: من فخ النَّائِم يفخ فخًا وفخيخًا: غط.

(1/355)


34- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ النَّظَرُ- الْمِعْزَى مَالٌ رَقِيقٌ مِنَ الْجَنَّةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اسْتَوْصُوا بِالْمِعْزَى خَيْرًا، فَإِنَّهُ مَالٌ رَقِيقٌ، وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ"1.
قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا يُولَدُ؟
وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ مِعْزَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَقَرٌ، وَإِبِلٌ، وَحَمِيرٌ، وَخَيْلٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْمِعْزَى بِأَعْيَانِهَا فِي الْجَنَّةِ، وَكَيْفَ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ عِنْدَنَا؟
وَإِنَّمَا أَرَادَ فِي الْجَنَّةِ مِعْزَى، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ فِي الدُّنْيَا لَهَا مِثَالًا.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا الضَّأْنُ وَالْإِبِلُ، وَالْخَيْلُ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا وَلَهَا فِي الْجَنَّةِ مِثَالٌ.
وَإِنَّمَا تَخْلُو الْجَنَّةُ مِنَ الْخَبَائِثِ، كالقرود، والخنازير، والعقارب، والحيات.
__________
1 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث برقم "44" ح1 من الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة و"ابْن طب عد" قَالَ "عد" فِيهِ حَمْزَة البضي كَذَّاب، وَقد ورد بِلَفْظ: "اسْتَوْصُوا بالمعزى خيرا فَإِنَّهَا مَال رَقِيق وَهُوَ من الْجنَّة وَأحب المَال إِلَى الله الضَّأْن، وَعَلَيْكُم بالبياض فَإِن الله خلق الْجنَّة بَيْضَاء فليلبسه أحياءكم وكفنوا فِيهِ مَوْتَاكُم، وَإِن دم الشَّاة الْبَيْضَاء أعظم عِنْد الله من دم السَّوْدَاء".

(1/356)


وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ لَحْمٌ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مِعْزَى وَضَأْنٌ.
وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا طَيْرٌ يُؤْكَلُ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَعَمٌ يُؤْكَلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} 1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد:
حَدثنِي أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ2 بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ3 إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيِّدُ إِدَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ، وَسَيِّدُ رَيْحَانِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَهْلِ الْجَنَّةِ الْفَاغِيَةُ"4.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "امْسَحُوا الرَّغَامَ عَنْ أُنُوفِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ" 5.
يُرِيدُ: أَنَّهَا مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي خُلِقَتْ فِي الْجنَّة.
__________
1 الْآيَة: 21 من سُورَة الْوَاقِعَة:
2 عبد الله بن بُرَيْدَة: ولد عَام 14هـ فِي الْكُوفَة وَسكن الْبَصْرَة وَولي الْقَضَاء بمرو إِلَى أَن توفّي عَام 115هـ.
3 بُرَيْدَة بن الْحصيب بن عبد الله الْأَسْلَمِيّ غزا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم 16 غَزْوَة، وَاسم بُرَيْدَة عَامر، وَبُرَيْدَة لقب، مَاتَ سنة 63هـ.
4 رَوَاهُ ابْن ماجة 2/ 1099، وَفِي الْمَقَاصِد 244، والتمييز 88، والكشف 1/ 461، والأسرار 220، وَفِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير للألباني برقم 3326 وَقَالَ فِيهِ: ضَعِيف جدا وَأوردهُ فِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 3724.
5 رَوَاهُ أَحْمد 2/ 436، وَفِي الْمُوَطَّأ: صفة النَّبِي 31.

(1/357)


35- قَالُوا حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ مِنْ جِهَتَيْنِ- هَلْ يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ؟
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ" 1.
وَهَذَا يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
"أَحَدُهُمَا": بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2.
"وَالْآخَرُ": بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 3.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى، يَذْكُرُ أَحْوَالَ الْمَخْلُوقِ مُنْذُ كَانَ طِينًا إِلَى أَنْ يَبْعَثَهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 4.
قَالُوا: وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِيهِ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْتِ والبعث، وَلَا أَنه
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: كتاب 23 بـ33 و34 و45 وَكتاب 64 بـ8، وَفِي صَحِيح مُسلم: كتاب 11 حَدِيث رقم 16 - 28، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 20 ب24 وَالتِّرْمِذِيّ كتاب 8 ب23 - 25، وَالنَّسَائِيّ: كتاب 21 ب14 و15.
2 الْآيَة: 18 من سُورَة فاطر.
3 الْآيَة: 26 من سُورَة الجاثية.
4 الْآيَة: 12 - 16 من سُورَة الْمُؤْمِنُونَ.

(1/358)


يعذبه، وَلَا أَنَّهُ يُثِيبُهُ حِينَ أَجْمَلَ، وَلَا حِينَ فَصَّلَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، يَأْتِي بِالْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، وَبِالْإِشَارَةِ، وَالْإِيمَاءِ، وَيَأْتِي بِالصِّفَةِ فِي مَوْضِعٍ، وَلَا يَأْتِي بِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى حَذْفِهَا مِنْ أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ بِظُهُورِهَا فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ.
وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنٌ لِلْكِتَابِ، وَدَالٌّ عَلَى مَا أُرِيدُ فِيهِ.
فَمِنَ الْمَحْذُوفِ فِي كِتَابِ -اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1.
وَظَاهِرُ هَذَا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ، صَامَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَإِنْ صَامَ فِي السَّفَرِ، وَعَلَى حَالِ الْمَرَضِ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ: "فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ"، فَحَذَفَ "فَأَفْطَرَ".
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 2.
وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ أَوِ الْقَمِلَ3 فِي رَأْسِهِ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ: مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَمِمَّا أَتَتْ فِيهِ الصِّفَةُ، وَلَمْ تَأْتِ فِي مَثَلِهِ، فَاسْتُدِلَّ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4.
__________
1 الْآيَة: 184 من سُورَة الْبَقَرَة.
2 الْآيَة: 196 من سُورَة الْبَقَرَة.
3 وصف من قمل رَأسه: إِذا كثر عَلَيْهِ الْقمل.
4 الْآيَة: 2 من سُورَة الطَّلَاق.

(1/359)


وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 1.
وَلَمْ يَقُلْ عَدْلَيْنِ، اقْتِصَارًا عَلَى مَا وَصَفَ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 2، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 3، وَلَمْ يَقُلْ مُؤْمِنَةٍ.
وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصِفَاتُ الصَّلَوَاتِ، وَكَيْفَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَالتَّشَهُّدُ، وَكَمِ الْعَدَدُ. وَمَا فِي الْمَالِ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمِقْدَارُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، أَنَّهُ يُعَذِّبُ قَوْمًا، قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ إِذْ يَقُولُ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 4.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَضَ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّارِ، غُدُوًّا وَعَشِيًّا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
وَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَ فِيهَا غُدُوٌّ وَلَا عَشِيٌّ، إِلَّا عَلَى مَجَازٍ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 5،يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَقَدْ أَخْبَرْتُ بِهِ، فِي كِتَابِي الْمُؤَلَّفِ فِي: "تَأْوِيلِ مُشْكَلِ الْقُرْآنِ".
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ
__________
1 الْآيَة: 282 من سُورَة الْبَقَرَة.
2 الْآيَة: 92 من سُورَة النِّسَاء.
3 الْآيَة: 3 من سُورَة المجادلة.
4 الْآيَة: 46 من سُورَة غَافِر.
5 الْآيَة: 62 من سُورَة مَرْيَم.

(1/360)


ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 1.
قد تَتَابَعَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ، بِنَقْلِ الثِّقَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ، حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ2، عَنْ طَاوُسٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ" 3.
وَمِنْ ذَلِكَ، حَدِيثُ شُعْبَةَ، عَنْ بَدِيلِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ" 4.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَمَاتِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ" 5، هَذَا مَعَ أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ فِي "مُنكر" و"نَكِير" وَمَسْأَلَتِهِمَا.
مِنْهَا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ6 عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُجْلَسُ فِي قَبْرِهِ إِجْلَاسًا، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: "صَدَقْتَ"، فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَيَرَى مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ".
"وَأَمَّا الْآخَرُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَال لَهُ: لَا
__________
1 الْآيَة: 47 من سُورَة الطّور.
2 أَبُو الزبير: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الْأَسدي الْمَكِّيّ أَحْمد الْأَئِمَّة، مَاتَ سنة 128هـ.
3 رَوَاهُ النَّسَائِيّ: استعاذة 47، وَأحمد 6/ 200 - 201.
4 رَوَاهُ أَحْمد: 6/ 53.
5 أخرجه النَّسَائِيّ: استعاذة 47، وَأحمد 6/ 200 و201.
6 حَمَّاد بن سَلمَة بن دِينَار الْبَصْرِيّ الربعِي بِالْوَلَاءِ مفتي الْبَصْرَة، وَأحد رجال الحَدِيث وَمن النُّحَاة كَانَ حَافِظًا ثِقَة مَأْمُونا فَقِيها فصيحًا مفوهًا شَدِيدا على المبتدعة، توفّي عَام 167هـ.

(1/361)


دَريت، فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أضلاعه"1.
وَهَذَا مِمَّا لَا يعمله إِلَّا نَبِيٌّ، وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ لِيَحْكِيَهُ إِلَّا وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ، أَنَّ الْمَلَكَ يَأْتِي الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ.
قَالَ: فَإِنْ كَانَ كَافِرًا، أَوْ مُنَافِقًا، فَيُقَالُ لَهُ: "مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ"، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ".
فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ، وَلَا ائتليت، وَلَا اهتديت".
قَالَ أَبُو مُحَمَّد:
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ لِلْكَافِرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "كَيْفَ يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ؟ " وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، فَإِنَّا أَيْضًا نَظُنُّ أَنَّ التَّعْذِيبَ لِلْكَافِرِ بِبُكَاءِ أَهله عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ بن عَبَّاسٍ إِنَّهُ مَرَّ بِقَبْرِ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: إِنَّه ليعذب، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ كَذَلِك، فَهَذَا مَالا يُوحِشُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يُعَذَّبُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمُسْلِمَ الْمُقَصِّرَ؛ كَمَا قَالَ فِي الْمُعَذَّبِ بِالْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ، فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، إِنَّمَا هُوَ فِي أَحْكَام الدُّنْيَا.
__________
1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي عَذَاب الْقَبْر، حَدِيث رقم 1071.
2 الْآيَة: 164 من سُورَة الْأَنْعَام.

(1/362)


وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطْلُبُونَ بِثَأْرِ الْقَتِيلِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ، أَوْ أَبَاهُ، أَوْ ذَا رَحِمٍ بِهِ.
فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عَصَبَتِهِ، وَلَا ذَوِي الرَّحِمِ بِهِ، قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
وَأُخْبِرْنَا أَيْضًا أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ رَأَى مَعَهُ ابْنَهُ: "لَا تَجْنِي عَلَيْهِ، وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ" 1.
فَأَمَّا عِقَابُ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا هُوَ أَتَى، فَيَعُمُّ وَيَنَالُ الْمُسِيءَ وَالْمُحْسِنَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 2.
يُرِيدُ: أَنَّهَا تَعُمُّ، فَتُصِيبُ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} 3.
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟
فَقَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" 4.
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَرَّقَ أُمَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّهَا، وَفِيهِمُ الْأَطْفَالُ والبهائم، بذنوب الْبَالِغين.
__________
1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: ديات 2 ترجل 18، وَالنَّسَائِيّ: قسَامَة 42، وَابْن ماجة: ديات 26، والدرامي: ديات 25، وَأحمد: 3/ 499، 4/ 163 - 345، 5/ 81.
2 الْآيَة: 25 من سُورَة الْأَنْفَال.
3 الْآيَة: 41 من سُورَة الرّوم.
4 رَوَاهُ البُخَارِيّ: فتن 4/ 28، ومناقب 25 وأنبياء 7، وَمُسلم: قتن 1، وَالتِّرْمِذِيّ: قتن 21 و23، وَابْن ماجة: قتن 9، والموطأ: كَلَام 22، وَأحمد 6/ 428 - 429، وَقد أَخطَأ ابْن قُتَيْبَة -رَحمَه الله- فِي جعل السائلة أم سَلمَة، وَإِنَّمَا هِيَ زَيْنَب بنت جحش، وحديثها مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي اللُّؤْلُؤ والمرجان برقم 1829، وهنالك بَيَان مَوْضِعه من الصَّحِيحَيْنِ -الِاسْتِدْرَاك من عمل الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.

(1/363)


وَأَهْلَكَ قَوْمَ عَادٍ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَثَمُودَ بِالصَّاعِقَةِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْحِجَارَةِ، وَمَسَخَ أَصْحَابَ السَّبْتِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَعَذَّبَ بِعَذَابِهِمُ الْأَطْفَالَ.
وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، قَرَأَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَدَ فِي كِتَابٍ مِنْهَا: "أَنَا اللَّهُ الْحَقُودُ آخُذُ الْأَبْنَاءَ بِذُنُوبِ الْآبَاء"1.
__________
1 هَذَا الْمِثَال يتناقض مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْأَنْعَام: 31] . وَلَا يعْتد بِمَا ورد فِي كتب الْمُتَقَدِّمين إِذا خَالَفت الْقُرْآن الْكَرِيم.
نقل ابْن قُتَيْبَة عَن مَجْهُول من كتاب مَجْهُول يزْعم أَنه مِمَّا نزل من السَّمَاء فوصف الله تَعَالَى بِوَصْف نجزم يَقِينا أَنه بَاطِل وعلق عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيقِ رقم 5 بِمَا يردهُ، وَأَرَدْت تَفْصِيل ذَلِك لأهمية وخطورة مَا قَالَ.
فَأَقُول: إِن مَا نَقله ابْن قُتَيْبَة واه سندًا بَاطِل يَقِينا متْنا. فَأَما عَن السَّنَد فَلَو كَانَ يعزوه إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيقه هَذَا الْمَجْهُول مَا كَانَ لَهُ وزن وَلَا اعْتِبَار لِأَنَّهُ حَدِيث مَجَاهِيل وَسَنَد مظلم لم يسم فِيهِ غير ابْن قُتَيْبَة وَحده وشيوخه وَسَنَده مَجَاهِيل. وَابْن قُتَيْبَة نَفسه مُخْتَلف فِي توثيقه من جِهَة الْحِفْظ وإتقان الرِّوَايَة، وَإِن كَانَ الْجُمْهُور على أَنه كَانَ فَاضلا دينا وَلم يكن من المتمكنين فِي رِوَايَة الحَدِيث، وَفِيه طعون من بعض الْعلمَاء. والمهم أَن هَذَا النَّقْل الَّذِي نَقله هُنَا من سقطاته المريبة كَيفَ يقبل وصف الله الْعلي الْعَظِيم الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى وَالصِّفَات الْعليا كَيفَ يقبل من مَجْهُول وصف رب الْعَالمين بِوَصْف خَبِيث مصادم لنصوص الْكتاب الْحَكِيم وَالسّنة المطهرة، الَّتِي تَنْفِي عَن رب الْعِزَّة كل شين وعيب، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَاف: 180] ، وَقَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الأسراء: 110] ، فَهَل الحقود اسْم حسن أم قَبِيح؟ وَهل يطيب لعبد أَن يُوصف بِهَذِهِ الصّفة أَو أَنه يهجر من وَصفه بهَا ويعاديه؟ ش فَكيف طَابَ لِابْنِ قُتَيْبَة أَن يقبل من مَجْهُول عَن مَجْهُول وصف رب الْعِزَّة بِهَذَا الشين الْعَظِيم وَالْفُحْش الْبَالِغ وَلم يلْتَفت إِلَى نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنة المتوافرة ويعارضها بباطل أَتَى بِهِ مَجْهُول من زبالة الْكفَّار الَّذين بدلُوا كتبهمْ وَكَفرُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ؟ هَذِه وَالله سقطة عَظِيمَة لَا يقوم لَهَا الكتا كُله وَلَا كل كتبه. وَكَيف يرد إشكالات الحَدِيث واختلافه ويدافع عَن السّنة من أَرَادَ الطعْن فِيهَا ويغفل عَن هَذِه الطَّاقَة حَتَّى يسْقط هَذِه السقطة الَّتِي تدل على خفَّة قدمه فِي الرِّوَايَة لِأَنَّهَا لَا سَنَد لَهَا يقوم لَهُ وزن عِنْد النّظر وَهِي من أفحش مَا يكون من الْمعَانِي، إِلَّا أَن تكون مدسوسة فِي كِتَابه وَهُوَ مِنْهَا بَرِيء، =

(1/364)


وروى بن عَبَّاسٍ، أَنَّ دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "يَحِقُّ لَكُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي بِذُنُوبِكُمْ أُعَذَّبُ".
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: "إِنَّ الضَّبَّ فِي جُحْرِهِ، لَيَمُوتُ هَزِلًا، بِذَنْبِ بن آدَمَ".
وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُضَرَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ" 1.
فَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِمُ الْجُدُوبَةُ وَالْقَحْطُ، سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْقد وَالْعِظَام
__________
= فو الله مَا يَقُول مثلهَا تَقِيّ وَلَا ورع وَلَا ذُو علم صَحِيح.
ثمَّ كَيفَ ألغى الشَّيْخ نُصُوص الْقُرْآن المتوافرة فِي عدم أَخذ الْمَرْء بجريمة غَيره، وَهِي كَثِيرَة وَقدم عَلَيْهَا هَذَا الْبُهْتَان وَهُوَ أَنه تَعَالَى يُؤَاخذ الْأَبْنَاء بذنوب الْآبَاء، فَأَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْبَقَرَة: 141] ،
وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْمَائِدَة: 105] ن وَقَوله تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى....} الْآيَة [فاطر: 18] ، وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ... } [لُقْمَان: 34] ، والآيات فِي هَذَا كَثِيرَة وَلَا يتَّفق مَعَ عدل الله تَعَالَى إِلَّا هَذَا.
وَأما تَأْوِيله بِأَن اللَّهَ تَعَالَى لَهُ كُلُّ شَيْءٍ فمهما فعل لَا يكون ظلما فَهُوَ تمويه، وَلَو كَانَ فعل لَا يكون ظلما مَا حرم الله تَعَالَى الظُّلم على نَفسه وَجعله محرما بَين عباده، والمادة وَاحِدَة وَهِي الظُّلم كَمَا فِي حَدِيث أبي ذَر عِنْد مُسلم رقم 3577، وَكَيف فهم هَذَا مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ... } الْآيَة [الْبَقَرَة: 286] ، وَهل فِي وسع الْأَبْنَاء تَقْوِيم الْآبَاء الَّذِي خلو وَلم يروهم؟ وَهل جرم الْآبَاء مِمَّا اكْتسب الْأَبْنَاء؟ وَمَا حاجتنا إِلَى خرم ميزَان الْعدْل وتقويض قَوَاعِد الْحق ونصوص الدَّين بقرية شيطانية كهذه؟ وَلَقَد روى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي رمثة الصَّحَابِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ وَمَعَهُ ابْنه: "أما إِن ابْنك هَذَا لَا يجني عَلَيْك وَلَا تجني عَلَيْهِ"، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 1317. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: أَذَان 128 واستسقاء 2 وَجِهَاد 98 وأنبياء 19 وأدب 110، وَمُسلم: مَسَاجِد 294 - 295، وَأَبُو دَاوُد: صَلَاة: 216 وتر 10، وَالنَّسَائِيّ: تطبيق 27، وَابْن ماجة: إِقَامَة 145.

(1/365)


وَالْعِلْهِز1، فَنَالَ ذَلِكَ الْجَدَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَبِدُعَائِهِ عُوقِبُوا، حَتَّى شَدَّ وَشَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بُطُونِهِمُ الْحِجَارَةَ مِنَ الْجُوعِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ رَأَيْنَا بِعُيُونِنَا، مَا أَغْنَى عَنِ الْأَخْبَارِ، فَكَمْ مِنْ بَلَدٍ فِيهِ الصَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَالْأَطْفَالُ وَالصِّغَارُ، أَصَابَتْهُ الرَّجْفَةُ، فَهَلَكَ بِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُسِيءُ وَالْمُحْسِنُ، وَالطِّفْلُ وَالْكَبِيرُ كَـ"قومس"2 ومهرجان، و"قذق" و"الرّيّ"، وَمُدُنٍ كَثِيرَةٍ مِنْ مُدُنِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ.
وَهَذَا شَيْءٌ يَعْرِفُهُ، كُلُّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمَنْصُورَ سَمَرَ3 ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَذَكَرَ خُلَفَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ وَسِيرَتَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، حَتَّى أَفْضَى أَمْرُهُمْ إِلَى أَبْنَائِهِمُ الْمُتْرَفِينَ، فَكَانَ هَمُّهُمْ مِنْ عَظِيمِ شَأْنِ الْمُلْكِ، وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ قَصْدَ الشَّهَوَاتِ وَإِيثَارَ4 اللَّذَّاتِ، وَالدُّخُولَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَسَاخِطِهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِاسْتِدْرَاجِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْنًا مِنْ مَكْرِهِ تَعَالَى، فَسَلَبَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى الْمُلْكَ وَالْعِزَّ، وَنَقَلَ عَنْهُمُ النِّعْمَةَ.
فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ5: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَرْوَانَ، لَمَّا دَخَلَ أَرْضَ النُّوبَةِ هَارِبًا، فِيمَنِ اتَّبَعَهُ، سَأَلَ مَلِكُ النُّوبَةِ عَنْهُمْ، فَأُخْبِرَ فَرَكِبَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَكَلَّمَهُ بِكَلَامٍ عَجِيبٍ فِي هَذَا النَّحْوِ، لَا أَحْفَظُهُ، وَأَزْعَجَهُ عَنْ بَلَدِهِ.
__________
1 العلهز: القراد الضخم، وَطَعَام من الدَّم والوبر كَانَ يتَّخذ فِي المجاعة.
2 قومس: صقع كَبِير بَين خُرَاسَان وبلاد الْجَبَل، وإقليم بالأندلس.
3 السمر: سهر اللَّيْل وَحَدِيثه، وظل الْقَمَر، والدهر "الْقَامُوس".
4 وَفِي نُسْخَة: وإتيان.
5 صَالح بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس الْهَاشِمِي الْأَمِير عَم السفاح والمنصور، ولد عَام 96هـ، وَأول من ولي مصر من قبل الْخُلَفَاء العباسيين تعقب مَرْوَان بن مُحَمَّد لما فر من الشَّام وَقَتله ببوصير سنة 132هـ، فولاه السفاح مصر ثمَّ ولاه أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور بِلَاد الشَّام، وَكَانَ شجاعًا حازمًا وَتُوفِّي بِقِنِّسْرِينَ عَام 151هـ.

(1/366)


فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ مِنَ الْحَبْسِ بِحَضْرَتِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَيَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ.
فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِإِحْضَارِهِ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْقِصَّةِ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدِمْتُ أَرْضَ النُّوبَةِ1 بِأَثَاثِ سَلَمٍ لِي، فَافْتَرَشْتُهُ بِهَا، وَأَقَمْتُ ثَلَاثًا، فَأَتَانِي مَلِكُ النُّوبَةِ وَقَدْ خُبِّرَ أَمْرَنَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ طُوَالٌ، أَقْنَى2، حَسَنُ الْوَجْهِ، فَقَعَدَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَقْرَبِ الثِّيَابَ.
فَقُلْتُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَقْعُدَ عَلَى ثِيَابِنَا؟
فَقَالَ: إِنِّي مَلِكٌ، وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مَلِكٍ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِعَظَمَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، إِذْ رَفَعَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ لِي: لِمَ تَشْرَبُونَ الْخُمُورَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ؟
فَقُلْتُ: اجْتَرَأَ عَلَى ذَلِكَ عبيدنا وسفهاؤنا.
قَالَ: فَلم تطؤون الزَّرْعَ بِدَوَابِّكُمْ! وَالْفَسَادُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ؟
قُلْتُ: يَفْعَلُ ذَلِكَ جُهَّالُنَا.
قَالَ فَلِمَ تَلْبَسُونَ الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ، وَتَسْتَعْمِلُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ؟
فَقُلْتُ: زَالَ عَنَّا الْمُلْكُ، وَقَلَّ أَنْصَارُنَا، فَانْتَصَرْنَا بِقَوْمٍ مِنَ الْعَجَمِ دَخَلُوا فِي دِينِنَا، فَلَبِسُوا ذَلِكَ عَلَى الْكُرْهِ مِنَّا.
فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، وجلع يُقَلِّبُ يَدَهُ، وَيَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ.
__________
1 النّوبَة: بِلَاد وَاسِعَة للسودان بجنوب الصَّعِيد، مِنْهَا بِلَاد الحبشي والمحدثان: عبد الصَّمد بن أَحْمد النوبي، وَهبة الله بن أَحْمد بن نوبا النوبي. "الْقَامُوس الْمُحِيط".
2 أقنى: ارْتِفَاع أَعلَى الْأنف، وَاحِد يداب وَسطه وسبوغ طرفه، أَو نتوسط القصبة، وضيق المنخرين، هُوَ أقنى، وَهِي قنواء، فِي الْفرس عيب، وف الصَّقْر والبازي مدح.

(1/367)


ثُمَّ قَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْتَ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ اسْتَحْلَلْتُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَرَكِبْتُمْ مَا عَنْهُ نُهِيتُمْ، وَظَلَمْتُمْ فِيمَا مَلَكْتُمْ فَسَلَبَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْعِزَّ، وَأَلْبَسَكُمُ الذُّلَّ بِذُنُوبِكُمْ، وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيكُمْ نِقْمَةٌ لَمْ تَبْلُغْ نِهَايَتَهَا، وَأَخَافُ أَنْ يَحِلَّ بِكُمُ الْعَذَابُ، وَأَنْتُمْ بِبَلَدِي، فَيُصِيبُنِي مَعَكُمْ وَإِنَّمَا الضِّيَافَةُ ثَلَاثٌ، فَتَزَوَّدُوا مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، وَارْتَحِلُوا عَنْ بَلَدِي"، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يَحْفَظُ الْأَبْنَاءَ فِي الْآبَاءِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةًرَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} 1.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ -يَوْمَ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ-: اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَّةِ آبَائِهِ وَكُبَرَاءِ رِجَالِهِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ وَقَوْلُكُ الْحَقُّ: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} ، فَحَفِظْتَهُمَا لِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، فَاحْفَظِ اللَّهُمَّ نَبِيَّكَ فِي عَمِّهِ، فَقَدْ دَلَوْنَا بِهِ إِلَيْكَ، مُسْتَشْفِعِينَ وَمُسْتَغْفِرِينَ.
وَقَدْ يَجُوزُ كَمَا حَفِظَ أَبْنَاءَ أَوْلِيَائِهِ لِآبَائِهِمْ، أَنْ لَا يَحْفَظَ أَبْنَاءَ أَعْدَائِهِ لِآبَائِهِمْ2، وَهُوَ الْفَعَّالُ لما يَشَاء.
__________
1 الْآيَة: 83 من سُورَة الْكَهْف.
2 وَأما قَول ابْن قُتَيْبَة: "وَقَدْ يَجُوزُ كَمَا حَفِظَ أَبْنَاءَ أَوْلِيَائِهِ لِآبَائِهِمْ أَنْ لَا يَحْفَظَ أَبْنَاءَ أَعْدَائِهِ لِآبَائِهِمْ وَهُوَ الْفَعَّالُ لما يَشَاء"، أَقُول: حقًّا إِن الله تَعَالَى هُوَ الفعال لما يَشَاء، وَلكنه تَعَالَى لَا يفعل الظُّلم وَلَا يَلِيق بجلاله الْكَرِيم فَإِن كَانَ أَبنَاء أعدائه من الْكفَّار فيعذبهم بكفرهم وجرمهم وَإِن كَانُوا مُؤمنين فَالله تَعَالَى أجل وَأكْرم وَأَعْدل وأقسط من أنم يُؤَاخذ مُؤمنا بجريرة كَافِر وَإِلَّا فخليله ومصطفاه كِلَاهُمَا أَبوهُ كَافِر وَلَا ينالهما من كفر أبويهما شَيْء قطّ، وَكَذَا كل أحد لَا يحمل من عمل أَبِيه شَيْئا وَقد مَضَت الْآيَات فِي ذَلِك الملحوظة السَّابِقَة ص364 رقم "1"، وَمَعْلُوم أَن مجازاة الْمُحْسِنِينَ يجْرِي فِيهَا جَانب الْفضل فَيعْطى المحسن أَضْعَاف مَا يسْتَحق وَأَقل ذَلِك عشرَة أَمْثَاله إِلَى سَبْعمِائة إِلَى مَا هُوَ أَكثر وَلَا يجْرِي مضاعفة عِقَاب الْمُجْرمين وَلَا مرّة وَاحِدَة بل لَا يعاقبون إِلَّا بِمَا يُقَابل جرمهم =

(1/368)


وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَتَقُولُ: "مَنْ قَالَ بِهِ فَقَدْ فَجَرَ".
وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَائِشَةَ، وَتَأْوِيلٌ، وَلَا يجوز حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِظَنِّهَا.
وَلَوْ كَانَتْ حَكَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فِي مُخَالَفَتِهِ، كَانَ قَوْلُهَا مَقْبُولًا.
وَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ نَقَلَهُ وَحْدَهُ تُوُهِّمَ عَلَيْهِ -كَمَا قَالَتِ- الْغَلَطُ.
وَلَكِنْ قَدْ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عُمَرُ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ1.
فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ، وَقَدْ تَبَرَّأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الظُّلْمِ؛ إِذْ يَقُولُ: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 2.
أَجَبْنَاهُمْ بِقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِبَعْضِهِمْ، مَا الظُّلْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؟
فَقَالَ: أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مَا لَيْسَ لَهُ.
قُلْتُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ كل شَيْء.
__________
= فَقَط، فافترق أَمر المجازاة بِالنِّسْبَةِ للمحسنين والمجرمين فَلَا يُقَاس أَحدهمَا على الآخر، فَلَو حفظ الله تَعَالَى أَوْلَاد الْمُحْسِنِينَ بفضله وبدعائهم فَلَا يهْلك وَلَا يعذب أَبنَاء الْكفَّار بِمُجَرَّد كفر آبَائِهِم إِلَّا أَن يستوجبوا هم الْعَذَاب بأعمالهم. أما الإهلاك فِي الدُّنْيَا بالمجاورة وشؤم الصُّحْبَة فَهَذَا يجْرِي على الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار ثمَّ يبعثون على نياتهم، كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "يَغْزُو جَيش الْكَعْبَة فَإِذا كَانُوا ببيداء من الأَرْض يخسف بأولهم وَآخرهمْ، قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله كَيفَ يخسف بأولهم وَآخرهمْ وَفِيهِمْ أسواقهم وَمن لَيْسَ مِنْهُم؟ قَالَ: يخسف بأولهم وَآخرهمْ ثمَّ يبعثون على نياتهم"، فإهلاك المحسن مَعَ المسيئين فِي الدُّنْيَا بشؤم الْمُجَاورَة لَيْسَ خَاصّا بالكفار بل هُوَ جَار على الْمُؤمنِينَ أَيْضا. -مُحَمَّد بدير-.
1 أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: هُوَ عبد الله بن قيس بن سليم، أسلم وَرجع إِلَى بِلَاده، وَقدم الْمَدِينَة بعد فتح خَيْبَر، اسْتَعْملهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعض الْيمن، وَاسْتَعْملهُ عمر على الْبَصْرَة فَافْتتحَ الأهواز ثمَّ أَصْبَهَان، وَاسْتَعْملهُ عُثْمَان على الْكُوفَة، ثمَّ كَانَ أحد الْحكمَيْنِ بصفين، ثمَّ اعتزل الْفَرِيقَيْنِ، كَانَ من عُلَمَاء الصَّحَابَة، وَكَانَ حسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ توفّي سنة 44هـ.
2 الْآيَة: 29 من سُورَة ق.

(1/369)


36- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ النَّظَرُ- الْأَجْرُ فِي مُبَاضَعَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ أَبَا ذَرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُبَاضَعَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ: "يَلَذُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَيُؤْجَرُ؟ ".
قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعْتَهُ فِي حَرَامٍ، أَلَسْتَ تَأْثَمُ؟ " قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: "فَكَذَلِكَ تُؤْجَرُ فِي وَضْعِكَ إِيَّاهُ فِي الْحَلَالِ"1.
قَالُوا: وَالْوَضْعُ فِي الْحَرَامِ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَضْعُ فِي الْحَلَالِ إِبَاحَةٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ فِي الْإِبَاحَةِ؟ وَلَوْ جَازَ هَذَا، لَجَازَ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى أَكْلِ الطَّعَامِ إِذَا جَاعَ، وَعَلَى شُرْبِ الْمَاءِ إِذَا عَطِشَ.
وَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْكَلَامِ وَبِمَا يَجُوزُ، وَبِمَا لَا يَجُوزُ؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ أَوِ الْقَبِيحَةُ، فَتَطْمَحُ نَفْسُهُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ لَهُ مُعْتَرِضٌ وَمُمْكِنٌ، فَيَدَعُهُ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكُونُ فِي إِتْيَانِ الْحَلَالِ -وَهُوَ لَهُ غَيْرُ مُشْتَهٍ- مَأْجُورًا.
وَتَكُونُ لَهُ الْمَرْأَتَانِ، إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ شوهاء، وَالْأُخْرَى بَيْضَاء حسناء.
__________
1 رَوَاهُ مُسلم: زَكَاة 52، وَأَبُو دَاوُد: تطوع 12، أدب 160، وَأحمد 5/ 167 و168 و178، وَلَا يُوجد لفظ الحَدِيث كَمَا ورد فِي صَحِيح مُسلم وَلكنه حَدِيث آخر بِمَعْنَاهُ.

(1/370)


فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا، وَهُوَ فِي الْوَاحِدَةِ مِنْهُمَا رَاغِبٌ، وَلِمَا يَأْتِيهِ إِلَى الْأُخْرَى مُتَجَشِّمٌ فَيُؤْجَرُ فِي ذَلِكَ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ خُبْزَ الشَّعِيرِ الْحَلَالَ وَتَرَكَ النَّقِيَّ الْحَرَامَ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، كَانَ عِنْدَ النَّاسِ مَأْجُورًا عَلَى أَكْلِ خُبْزِ الشَّعِيرِ.
بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْجُورٌ عَلَى أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَجِمَاعِهِ، مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي رَفْعِ اللُّقْمَةِ إِلَى فِيهِ" 1، مَا كَانَ -فِيمَا أرى- إِلَّا مصيبًا.
__________
1 لقد فحصت صَحِيح الْجَامِع وضعيفه فَلم أَجِدهُ وفحصت كنز الْعمَّال فَلم أَجِدهُ بِهَذَا اللَّفْظ، وأخشى أَن يكون ابْن قُتَيْبَة ذكره بِالْمَعْنَى مَعَ نِسْيَان لفظ الحَدِيث الْأَصْلِيّ. والْحَدِيث فِي البُخَارِيّ مُخَالف لهَذَا جدا وَهُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن خباب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "إِن الْمُسلم ليؤجر فِي كل شَيْء يُنْفِقهُ إِلَّا فِي شَيْء يَجعله فِي هَذَا التُّرَاب"، رَوَاهُ البُخَارِيّ رقم 5672، وَلَا يشابهه فِي اللَّفْظ إِلَّا حَدِيث سعد بن أبي وَقاص فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ تبَاين الْمَعْنى، فَفِيهِ: "إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله إِلَّا أجرت بهَا حَتَّى مَا تجْعَل فِي امْرَأَتك ... " الحَدِيث، وَلمُسلم: "حَتَّى اللُّقْمَة تجعلها فِي فِي امْرَأَتك"، وعَلى كل حَال فَهُوَ مُخْتَلف عَنهُ. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.

(1/371)


37- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- رَجْمُ قردة فِي زنى:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ قُرُودًا رَجَمَتْ قردة فِي زنى.
فَإِنْ كَانَتِ الْقُرُودُ إِنَّمَا رَجَمَتْهَا فِي الْإِحْصَان، فَذَلِك أظرف للْحَدِيث.
وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ، لَعَلَّ الْقُرُودَ تُقِيمُ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَلَعَلَّ دِينَهَا الْيَهُودِيَّةُ بَعْدُ.
وَإِنْ كَانَتِ الْقُرُودُ يَهُودًا، فَلَعَلَّ الْخَنَازِيرَ نَصَارَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ فِي جَوَابِ هَذَا الِاسْتِهْزَاءِ، إِنَّ حَدِيثَ الْقُرُودِ لَيْسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ ذُكِرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: زَنَتْ قِرْدَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَجَمَتْهَا الْقُرُودُ، وَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْقُرُودَ تَرْجُمَ قِرْدَةً، فَظَنَّ أَنَّهَا تَرْجُمُهَا لِأَنَّهَا زَنَتْ، وَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا ظَنًّا لِأَنَّ الْقُرُودَ لَا تُنْبِئُ عَنْ أَنْفُسِهَا وَالَّذِي يَرَاهَا تَتَسَافَدُ، لَا يَعْلَمُ أَزَنَتْ، أَمْ لَمْ تَزْنِ؟ هَذَا ظَنٌّ.
وَلَعَلَّ الشَّيْخَ عَرَفَ أَنَّهَا زَنَتْ بِوَجْهٍ مِنَ الدَّلَائِل لَا نعلمهُ، فَإِن القرود
__________
1 من الْمَعْلُوم أَن التَّكْلِيف مُرْتَبِط بِالْعقلِ وبلوغ سنّ الرشد، وَذَلِكَ غير مُتَحَقق بالحيوانات.

(1/372)


أزنى الْبَهَائِمِ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِهَا الْمَثَلَ، فَتَقُولُ: أَزَنَى مِنْ قِرْدٍ، وَلَوْلَا أَنَّ الزِّنَا مِنْهُ مَعْرُوفٌ، مَا ضُرِبَتْ بِهِ الْمَثَلَ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَشْبَهَ بِالْإِنْسَانِ فِي الزَّوَاجِ وَالْغَيْرَةِ مِنْهُ.
وَالْبَهَائِمُ قَدْ تَتَعَادَى، وَيَثِبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيُعَاقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
فَمِنْهَا مَا يَعَضُّ، وَمِنْهَا مَا يَخْدِشُ، وَمِنْهَا مَا يَكْسِرُ وَيُحَطِّمُ. وَالْقُرُودُ تَرْجُمُ بِالْأَكُفِّ، الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهَا، كَمَا يَرْجُمُ الْإِنْسَانُ.
فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا رَجَمَ بَعْضهَا بَعْضًا لغير زنى، فتوهمه الشَّيْخ لزنى، فَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ.
وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ اسْتَدَلَّ عَلَى الزِّنَا مِنْهَا بِدَلِيلٍ، وَعَلَى أَنَّ الرَّجْمَ، كَانَ مِنْ أَجْلِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا بِبَعِيدٍ، لِأَنَّهَا -عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ- أَشَدُّ الْبَهَائِمِ غَيْرَةً، وَأَقْرَبُهَا مِنْ بَنِي آدَمَ أَفْهَامًا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهَا الْمَمْسُوخُ بِأَعْيَانِهَا تَوَالَدَتْ.
وَاسْتَدْلَلْتُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير} 1.
فَدُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي "القردة" و"الْخَنَازِير" يَدُلُّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا هِيَ القردة الَّتِي نعاين2.
__________
1 الْآيَة: 60 من سُورَة الْمَائِدَة.
2 وَلم يُؤَيّد ابْن كثير فِي تَفْسِيره لهَذِهِ الْآيَة "ج2 ص66"، مَا ذكره الْمُؤلف رَحمَه الله بل أورد مَا يَلِي: "وَقد قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَلْقَمَة بن يزِيد عَن الْمُغيرَة بن عبد الله عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوِيدٍ عَنْ ابْن مَسْعُود قَالَ: سُئِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن القردة والخناذير أُمِّي مِمَّا مسخ الله فَقَالَ: "إِن الله لم يهْلك قوما أَو قَالَ: لم يمسخ قوما فَيجْعَل لَهُم نَسْلًا وَلَا عقبًا، وَإِن القردة والخناذير كَانَت قبل ذَلِك ". وَقد رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ ومسعر كِلَاهُمَا عَن مُغيرَة بن عبد الله الْيَشْكُرِي بِهِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا دَاوُد بن أبي الْفُرَات عَن مُحَمَّد بن زيد عَن أبي الْأَعْين المعبدي عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: "سَأَلنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن القردة والخناذير: أَهِي من نسل الْيَهُود، فَقَالَ: لَا، إِن الله يلعن قوما قطّ فيمسخهم فَكَانَ لَهُم نسل وَلَكِن هَذَا خلق كَانَ فَلَمَّا غضب الله على الْيَهُود فمسخهم جعلهم مثلهم"، وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث دَاوُد بن أبي الْفُرَات بِهِ".

(1/373)


وَلَوْ كَانَ أَرَادَ شَيْئًا انْقَرَضَ وَمَضَى، لَقَالَ: "وَجَعَلَ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ".
إِلَّا أَنْ يَصِحَّ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي الْمَمْسُوخِ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَسْنَا نَقُولُ إِنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا عَلِمَتْ1 بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ كَمَا يَقُولُ الْمُسْتَهْزِئُ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّهَا عَاقَبَتْ بِالرَّجْمِ، إِمَّا على الزِّنَى، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَكُفِّهَا، كَمَا يَخْدِشُ غَيْرُهَا وَيَعَضُّ وَيَكْسِرُ، إِذَا كَانَتِ أَكُفُّهَا كأكف بني آدام، وَكَانَ بن آدَمَ لَا يَنَالُ مَا يُرِيدُ أَذَاهُ إِذَا بَعُدَ عَنْهُ إِلَّا بِالرَّجْمِ.
وَمِمَّا يَزِيدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرُودَ هِيَ الْمَمْسُوخُ بِأَعْيَانِهَا، إِجْمَاعُ النَّاسِ عَلَى تَحْرِيمِهَا بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا أَثَرٍ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ لُحُومِ النَّاسِ بِغَيْر كتاب وَلَا أثر.
__________
1 فِي نسختين: عملت، بِتَقْدِيم الْمِيم على اللَّام.

(1/374)


38- قَالُوا: أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ- قَلْبُ الْقُرْآنِ وَسَنَامُهُ ... :
قَالُوا: رُوِّيتُمْ "قَلْبُ الْقُرْآنِ يس، وَسَنَامُ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ، وَتَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مَنْ طير صواف"1.
و"يَأْتِي الْقُرْآنُ الرَّجُلَ، فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولُ لَهُ: كَيْتَ وَكَيْتَ".
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ.
وَلَا يجوز أَن يكون مَاله قَلْبٌ وَسَنَامٌ، وَمَا كَانَ غَمَامَةً أَوْ غَيَايَةً، غَيْرَ مَخْلُوقٍ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ -إِذَا كَانُوا أَصْحَابَ كَلَامٍ وَقِيَاسٍ- أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ حسمًا وَلَا ذَا حُدُود وأقطار.
__________
1 الغيايتان: تَثْنِيَة غياية وَهِي كل مَا أظل الْإِنْسَان من فَوق رَأسه كالسحابة وَنَحْوهَا، وَالْفرْقَان: قطيعان وجماعتان. وَالطير الصَّواف: جمع صافة، وَهِي الطُّيُور مَا يبسط أَجْنِحَتهَا فِي الْهَوَاء.
وَقد رَوَاهُ مُسلم: مُخْتَصر الألباني برقم 2097، وَأحمد 5/ 26.
الشّطْر الْأَخير من الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: "تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غمامتان.." إِلَخ، أما الشّطْر الأول فقد ذكر جُزْء مِنْهُ التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: "لكل شَيْء سَنَام وَإِن سَنَام الْقُرْآن سُورَة الْبَقَرَة"، الحَدِيث، وَهُوَ ضَعِيف. انْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 4728 والسلسلة الضعيفة رقم 1328، وَالزِّيَادَة من قَوْله "والشطر الْأَخير ... إِلَخ، من تَخْرِيجه الشَّيْخ مُحَمَّد بدير".

(1/375)


وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "سَنَامُ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ" أَعْلَاهُ، كَمَا أَنَّ السَّنَامَ مِنَ الْبَعِيرِ أَعْلَاهُ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "قَلْبُ الْقُرْآنِ يس" أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، كَمَحَلِّ الْقَلْبِ مِنَ الْبَدَنِ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ" أَنَّ ثَوَابَهُمَا يَأْتِي قَارِئَهُمَا، حَتَّى يُظِلَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَأْتِيَ ثَوَابُهُ الرَّجُلَ فِي قَبْرِهِ، وَيَأْتِي الرَّجُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُجَادِلَ عَنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ لَهُ مِثَالًا، يُحَاجُّ عَنْهُ وَيَسْتَنْقِذَهُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ زِيَادٍ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ1، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ2، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ، وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ كَانَ يُضَيِّعُ فَرَائِضَهُ، وَيَتَعَدَّى حُدُودَهُ، وَيُخَالِفُ طَاعَتَهُ، وَيَرْكَبُ مَعْصِيَتَهُ ".
قَالَ: "فَيَنْتَتِلُ3 خَصْمًا لَهُ -فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، حَمَّلْتَ إِيَّايَ شَرَّ حَامِلٍ، تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَتَرَكَ طَاعَتِي، وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي".
فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ بِالْحُجَجِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُقَالَ لَهُ: فَشَأْنَكَ بِهِ.
قَالَ: فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ، فَلَا يُفَارِقُهُ، حَتَّى يَكُبَّهُ عَلَى مَنْخَرِهِ فِي النَّارِ.
وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ كَانَ يَحْفَظُ حُدُوده، وَيعْمل بِفَرَائِضِهِ، وَيَأْخُذ
__________
1 مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار المطلبي بِالْوَلَاءِ الْمدنِي من أقدم مرخي الْعَرَب من أهل الْمَدِينَة، لَهُ السِّيرَة النَّبَوِيَّة رَوَاهَا عَنهُ ابْن هِشَام، وَكتاب الْخُلَفَاء وَكتاب المبدأ، وَكَانَ قدريًا من حفاظ الحَدِيث. وَسكن بَغْدَاد وَتُوفِّي فِيهَا عَام 151هـ.
2 عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، نزيل الْمَدِينَة ومعظم رواياته عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ الْقطَّان: إِذا روى عَن الثِّقَات فَهُوَ ثِقَة يحْتَج بِهِ، نزل فِي الطَّائِف وَتُوفِّي عَام 118هـ.
3 فيتنقل: يتَقَدَّم ويستعد لخصامه.

(1/376)


بِطَاعَتِهِ، وَيَجْتَنِبُ مَعْصِيَتَهُ، فَيَنْتَتِلُ خَصْمًا لَهُ فَيَقُولُ: "أَيْ رَبِّ حَمَّلْتَ إِيَّايَ خَيْرَ حَامِلٍ، اتَّقَى حُدُودِي، وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي، وَاتَّبَعَ طَاعَتِي، وَتَرَكَ مَعْصِيَتِي".
فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ لَهُ بِالْحُجَجِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُقَالَ: "فَشَأْنَكَ بِهِ".
قَالَ: "فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ، فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يَكْسُوَهُ حُلَّةَ الْإِسْتَبْرَقِ، وَيَعْقِدَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجَ الْمُلْكِ وَيَسْقِيَهَ بِكَأْسِ الْخُلْدِ"1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
أَفَمَا فِي قَوْلِهِ: "يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُجْعَلُ لَهُ مِثَالٌ، لِيَعْلَمَ صَاحِبُهُ التَّالِي لَهُ وَالْعَامِلُ بِهِ، أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُسْتَنْقِذُ لَهُ.
وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ رَجُلًا وَلَا جِسْمًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ2.
وَلَوْ أَمْعَنَ هَؤُلَاءِ النَّظَرَ، وَأُوتُوا طَرَفًا مِنَ التَّوْفِيقِ، لَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامُ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ.
وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِرَدِّ الْأَمْرِ إِلَى مَا يَفْهَمُونَ مِنْ كَلَامِنَا، لِأَنَّ كَلَامَنَا لَيْسَ عَمَلًا لَنَا، إِنَّمَا هُوَ صَوْتٌ وَحُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِعْلًا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا خَلْقُ اللَّهِ.
وَإِنَّمَا لَنَا مِنَ الْعَمَلِ فِيهِمَا الْأَدَاءُ، وَالثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَقَعُ عَلَيْهِ.
وَمَثَلُ ذَلِكَ، مِثْلُ رَجُلٍ أَوْدَعْتَهُ مَالًا، ثُمَّ اسْتَرْجَعْتَهُ مِنْهُ، فأداه إِلَيْك بِيَدِهِ.
__________
1 رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه، وَابْن الغويسي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيه عَن جده. انْظُر نَصه فِي كنز الْعمَّال 1/ 2444، وَيشْهد لمعناه حَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد مُسلم الَّذِي جَاءَ فِيهِ: "اقرؤوا الْقُرْآن فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة شَفِيعًا لأَصْحَابه"، وَكَذَا حَدِيث أنس فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ حَدِيث الشَّفَاعَة: "حَتَّى مَا يبْق فِي النَّار إِلَّا من حَبسه الْقُرْآن"، اللؤل والمرجان رقم 118 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
2 فِي نُسْخَة: لِأَنَّهُ كَلَام الله تَعَالَى غير مَخْلُوق.

(1/377)


فَلَيْسَ لَهُ فِي الْمَالِ، وَلَا فِي الْيَدِ ثَوَابٌ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ، فِي تَأْدِيَةِ الْمَالِ.
وَكَذَلِكَ الثَّوَابُ لَكَ، فِي تَأْدِيَةِ الْقُرْآنِ بِالصَّوْتِ، وَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ.
وَالْقُرْآنُ -بِهَذَا النَّظْمِ، وَهَذَا التَّأْلِيفِ -كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ بَدَا.
وَكُلُّ مَنْ أَدَّاهُ فَهُوَ مُؤَدٍّ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَارِئُ لَهُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَلَّفَ خُطْبَةً، أَوْ عَمِلَ قَصِيدَةً، ثُمَّ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ، لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ، وَلَا الشِّعْرُ، عَمَلًا لِلنَّاقِلِ.
وَإِنَّمَا يَكُونُ الشِّعْرُ لِلْمُؤَلِّفِ، وَلَيْسَ لِلنَّاقِلِ مِنْهُ إِلَّا الْأَدَاء.

(1/378)


39- قَالُوا: أَحَادِيثُ يُخَالِفُهَا الْإِجْمَاعُ- الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ أَيُّوب، عَن بن سِيرِينَ1، عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ2 شُعْبَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى عِمَامَتِهِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ"3.
وَرُوِّيتُمْ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ بِلَالٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخِمَارِ"4.
وَرُوِّيتُمْ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ، فَمَسَحَ عَلَى الْعِمَامَة"5.
__________
1 مُحَمَّد بن سِيرِين الْبَصْرِيّ، إِمَام وقته فِي عُلُوم الدينك بِالْبَصْرَةِ ولد عَام 33هـ، تَابِعِيّ من أشرف الْكتاب مولده ووفاته بِالْبَصْرَةِ نَشأ بزازًا تفقه وروى الحَدِيث واشتهر بالورع وتعبير الرُّؤْيَا، واستكتبه أنس بن مَالك بِفَارِس توفّي سنة 110هـ.
2 الْمُغيرَة بن شُعْبَة بن أبي عَامر مَسْعُود الثَّقَفِيّ ولد 20ق. هـ، أحد دهاة الْعَرَب وَقَادَتهمْ وولاتهم صَحَابِيّ يُقَال لَهُ "مُغيرَة الرَّأْي"، ولد فِي الطَّائِف أسلم 5هـ، ولاه عمر بن الْخطاب الْبَصْرَة ثمَّ الْكُوفَة وأقزه عُثْمَان ثمَّ عَزله ثمَّ ولاه مُعَاوِيَة الْكُوفَة، فَلم يزل فِيهَا إِلَى أَن مَاتَ عَام 50هـ.
3 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: ك1 بَاب 58 و60، وَالتِّرْمِذِيّ: ك1 بَاب 75، وَالنَّسَائِيّ: ك1 بَاب85 و86.
4 رَوَاهُ مُسلم: طَهَارَة 84، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 75، وَالنَّسَائِيّ: طَهَارَة 85، وَابْن ماجة: طَهَارَة 89، وَأحمد 4/ 135 و281 - 288 - 439 - 440 و6/ 12 - 13.
5 رَوَاهُ ابْن ماجة: ك1 بَاب 99، والدرامي: ك1 بَاب38، والموطأ: ك2 ح38 - 40، وَالْبُخَارِيّ: وضوء 48، وَأحمد 2/ 244 - 248 - 250 -251 و6/ 13 - 14.

(1/379)


قَالُوا: وَهَذِهِ طُرُقٌ جِيَادٌ عِنْدَكُمْ، وَقَدْ تَرَكْتُمُ الْعَمَلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْوُوا لِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخًا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِالْإِجْمَاعِ، أَكْثَرَ مِنْ ثُبُوتِهِ بِالرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ تَعْتَرِضُ فِيهِ عَوَارِضُ مِنَ السَّهْوِ وَالْإِغْفَالِ، وَتَدْخُلُ عَلَيْهِ الشُّبَهُ وَالتَّأْوِيلَاتُ وَالنَّسْخُ، وَيَأْخُذُهُ الثِّقَةُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَةِ.
وَقَدْ يَأْتِي بِأَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَهُمَا -جَمِيعًا- جَائِزَانِ، كَالتَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالتَّسْلِيمَتَيْنِ.
وَقَدْ يَحْضُرُ الْأَمْرَ -يَأْمُرُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ ثُمَّ يَأْمُرُ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَحْضُرُهُ هُوَ، فَيَنْقُلُ إِلَيْنَا الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، وَلَا يَنْقُلُ إِلَيْنَا الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ.
وَالْإِجْمَاعُ سَلِيمٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَقُولُ: "وَالْعَمَلُ بِبَلَدِنَا، عَلَى كَذَا؛ لِأَمْرٍ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، لِأَنَّ بَلَدَهُ، بَلَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ فِي عَصْرِهِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، صَارَ الْعَمَلُ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ جَمِيعًا يَنْتَقِلُونَ عَنْ شَيْءٍ كَانُوا عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ وَعَصْرِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَرْنٌ عَنْ قَرْنٍ، أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَنْ وَاحِدٍ. وَقَدْ رَوَى النَّاسُ أَحَادِيثَ مُتَّصِلَةً، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا.
مِنْهَا: حَدِيثُ سُفْيَانَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَار، عَن جَابر، عَن بن عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، آمِنًا لَا يَخَافُ"1.
وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا، عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَذَا، إِمَّا لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، أَوْ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ ضَرُورَةٍ -إِمَّا لِمَطَرٍ أَو شغل.
__________
1 البُخَارِيّ: تَقْصِير الصَّلَاة 14 و6 و13، ومواقيت 18، والدامي: مَنَاسِك 56 و64، وَالنَّسَائِيّ: مَوَاقِيت 43 - 45، وَابْن ماجة: إِقَامَة 74.

(1/380)


وَمِنْهَا: حَدِيثُ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَوْسَجَةَ، عَنِ بن عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا مَوْلًى هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ"1.
وَالْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِ ذَلِك، إِمَّا لاتهامهم عَوْسَجَة هَذَا، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ.
وَإِمَّا لِتَحْرِيفٍ فِي التَّأْوِيلِ، كَأَنَّ تَأْوِيلَهُ: "لَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا مَوْلًى هُوَ أَعْتَقَ الْمَيِّتَ".
فَيَجُوزُ -عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ- أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، لِأَنَّهُ مَوْلَى الْمُتَوَفَّى. وَإِمَّا النَّسَخُ.
وَمِنْهَا: حَدِيثُ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ2 مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ: "أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنَتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ"3.
وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي تَرْكِهِ فِي الْمَغْرِبِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْخِمَارِ -وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى ذَلِكَ- مَعَ مَجِيئِهِ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُرْتَضَى عِنْدَهُمْ- إِلَّا لِنَسْخٍ، أَوْ لِأَنَّهُ رُئِيَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ.
فَنَقَلَ النَّاقِلُ أَغْرَبَ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الرَّأْسِ، لَا يُنْكَرُ وَلَا يُسْتَغْرَبُ؛ إِذْ كَانَ النَّاسُ جَمِيعًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يستغرب الْخمار.
__________
1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: فَرَائض 8، وَالتِّرْمِذِيّ: فَرَائض 14، وَابْن ماجة: فَرَائض 11، وَأحمد: 1/ 28 - 46، 4/ 131.
2 عَمْرو بن مرّة بن صعصعة من سلول من عدنان جد جاهلي من نَسْله "قردة بن نفاثة" من الصَّحَابَة، وَعبد الله بن همام من الشُّعَرَاء.
3 رَوَاهُ مُسلم: مَسَاجِد 306.

(1/381)


وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثٍ آخَرَ لِلْمُغِيرَةِ، رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ1 مُسْلِمٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ وَرَّادٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ"2.
وَالْمَسْحُ بِالنَّاصِيَةِ فَرْضٌ فِي الْكِتَابِ، فَلَا يَزُولُ بِحَدِيثٍ مُخْتَلِفٍ فِي لَفْظِهِ، وَنَحْوُ هَذَا رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ، وَرِوَايَةُ آخَرَ، أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَإِنَّمَا مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ، فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ، أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ.
__________
1 الْوَلِيد بن مُسلم الْأمَوِي بِالْوَلَاءِ الدِّمَشْقِي أَبُو الْعَبَّاس عَالم الشَّام فِي عصره ولد عَام 119هـ، من حفاظ الحَدِيث، لَهُ 70 تصنيفًا فِي الحَدِيث والتاريخ توفّي بِذِي الْمَرْوَة قَافِلًا من الْحَج سنة 195هـ.
2 مشكاة المصابيح بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ رقم الحَدِيث 518، والْحَدِيث أخرجه مُسلم.

(1/382)


-40- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ "فِي ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ"
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ1 جَثَّامَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ تَطَؤُهُمْ خَيْلُنَا فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْغَارَةِ، قَالَ: "هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ" 2.
قَالُوا: ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ بَعَثَ سَرِيَّةً فَقَتَلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْكَارًا شَدِيدًا.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ ذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ: "أَو لَيْسَ خياركم، ذَرَارِي الْمُشْركين؟ " 3.
__________
1 الصعب بن جثامة بن قيس اللَّيْثِيّ صَحَابِيّ من شجعانهم شهد الوقائع فِي عصر النُّبُوَّة وَحضر فتح اصطخر وَفَارِس. وَفِي الحَدِيث يَوْم حنين: لَوْلَا الصعب بن جثامة لفضحت الْخَيل. مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، وَقيل قبلهَا، وَله أَحَادِيث فِي الصَّحِيح توفّي سنة 25هـ.
2 أخرجه البُخَارِيّ: جِهَاد 146،كم وَأَبُو دَاوُد: جِهَاد 121 الحَدِيث رقم 2672.
3 أخرجه مُسلم: النَّهْي عَن قتل صبيانمك الْمُشْركين ضمنك حَدِيث بُرَيْدَة الطَّوِيل فِي وَصِيَّة الْقَائِد رقم 1731، وَابْن قُتَيْبَة لم يعز شَيْئا من ذَلِك إِلَى مصدر. وَقد نَص الْقُرْآن الْكَرِيم على وجوب التبين عِنْد قتل الْمُشرك إِذا أبدى قرينَة توهم إِسْلَامه، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النِّسَاء: 94] ، فَالْمَعْنى غير مستنكر لَكِن اللَّفْظ غير مَوْجُود فِيمَا عزى إِلَيْهِ، وَمن النكارة فِيهِ لفظ: "أَو لَيْسَ خياركم.."؛ لِأَن الْوَاقِع أَن جلّ الصَّحَابَة إِلَّا الْقَلِيل جدا كَانَ آباؤهم مُشْرِكين، لِأَن الْخطاب للمجاهدين الْكِبَار وَلَيْسَ لمُطلق الصَّحَابَة، فَكَانَ ينْدر فِي الْكِبَار من أَبوهُ مُسلم، فَلَو قَالَ: "أَو لَيْسَ آباؤكم مُشْرِكين" لَكَانَ أولى، غير أَن الحكم للرواية إِذا ثبتَتْ، فالقصد الْخِيَار الْكِبَار وَلَا مُنَافَاة. -للشَّيْخ مُحَمَّد بدير-

(1/383)


قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ اخْتِلَافٌ.
لِأَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ، أَعْلَمَهُ أَنَّ خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ تَطَؤُهُمْ فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْغَارَةِ، فَقَالَ: "هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ".
يُرِيدُ: أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حُكْمُ آبَائِهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَكَانَتِ الْغَارَةُ، وَوَقَعَتِ الْفُرْصَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَلَا تَكُفُّوا مِنْ أَجْلِ الْأَطْفَالِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَعَمَّدُوا قَتْلَهُمْ.
ثُمَّ أَنْكَرَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي عَلَى السَّرِيَّةِ، قَتْلَهُمُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، لِأَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ لِشِرْكِ آبَائِهِمْ، فَقَالَ: "أَوَلَيَسَ خِيَارُكُمْ ذَرَارِيَّ الْمُشْرِكِينَ".
يُرِيدُ: فَلَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ يُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ وَيحسن إِسْلَامه.

(1/384)


-41- قَالُوا: حَدِيثٌ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا "مَوْتُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ"
قَالَ: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَعْدِ بْنِ1 مُعَاذٍ: "لَقَدِ اهْتَزَّ لِمَوْتِهِ الْعَرْشُ، وَلَقَدْ تَبَادَرَ إِلَى غُسْلِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَمَا كِدْتُ أَصِلُ إِلَى جِنَازَتِهِ" 2.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ، أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، لَنَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَلَقَدْ ضُغِطَ ضَغْطَةً اخْتَلَفَتْ لَهَا أَضْلَاعُهُ" 3.
قَالُوا: كَيْفَ يَتَحَرَّكُ عَرْشُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَوْتِ أَحَدٍ؟ وَإِنْ كَانَ هَذَا جَائِزًا، فَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى بِهِ.
وَقَدْ رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ" 4.
وَإِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ وَكَانَ الْقَمَرُ1، وهما -على مَا رويتم- ثوران
__________
1 سعد بن معَاذ بن النُّعْمَان بن امْرِئ الْقَيْس، الأوسي الْأنْصَارِيّ: صَحَابِيّ من الْأَبْطَال من أهل الْمَدِينَة، كَانَت لَهُ سيادة الْأَوْس، وَحمل لؤاءهم يَوْم بدر، وَشهد أحدا فَكَانَ مِمَّن ثَبت فِيهَا. وَكَانَ من أطول النَّاس وأعظمهم جسمًا، وَرمي بِسَهْم يَوْم الخَنْدَق فَمَاتَ من أثر جرحه وَدفن بِالبَقِيعِ سنة 5هـ.
2 رَوَاهُ البُخَارِيّ: مَنَاقِب الْأَنْصَار 12، وَمُسلم: فَضَائِل الصَّحَابَة 123 - 125، وَالتِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 50، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 11، وَأحمد 3/ 234 - 296 - 316 - 349، 4/ 352، 6/ 329، وَالَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ"، أما بَقِيَّة الحَدِيث فَلَا يُوجد فِي الصَّحِيحَيْنِ. هـ -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
3 رَوَاهُ أَحْمد 6/ 55 - 98.
4 رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، اللُّؤْلُؤ والمرجان رقم 520، وَابْن عَبَّاس رقم 525، وَابْن مَسْعُود رقم 527، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رقم 528، وَابْن عمر رقم 529، وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رقم 530، وَذكره الألباني فِي صَحِيح الْجَامِع رقم 1644 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.

(1/385)


مكوران فِي النَّارِ، فَكَيْفَ بِالْعَرْشِ الْمَجِيدِ؟ وَعَلَى أَنَّ الْعَرْشَ لَوْ تَحَرَّكَ، لَتَحَرَّكَ بِحَرَكَتِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ -وَكَيْفَ يَتَحَرَّكُ الْعَرْشُ لِمَوْتِ مَنْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَضُمُّ عَلَيْهِ قَبْرَهُ، حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ؟
وَكَيْفَ يُعَذِّبُ مَنْ يُغَسِّلُهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ، وَلَا يَصِلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِنَازَتِهِ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ تَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْمٌ.
فَذَهَبُوا فِيهِ، إِلَى أَنَّ الِاهْتِزَازَ مِنَ الْعَرْشِ إِنَّمَا هُوَ الْحَرَكَةُ، كَمَا يَهْتَزُّ الرُّمْحُ، وَكَمَا تَهْتَزُّ الشَّجَرَةُ، إِذَا حَرَّكَتْهَا الرِّيحُ.
وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا، وَقَعْتِ الشَّنَاعَةُ، وَوَجَبَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ قوم: الْعَرْش -هَهُنَا- السَّرِيرُ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، تَحَرَّكَ.
وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا، لَمْ يَكُنْ لِسَعْدٍ -فِي هَذَا الْقَوْلِ- فَضِيلَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ كُلَّ سَرِيرٍ مِنْ سُرُرِ الْمَوْتَى، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَحَرَّكَ، لِتَجَاذُبِ النَّاسِ إِيَّاهُ.
وَبَعْدُ: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ السَّرِيرُ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لمَوْته " 1.
__________
1 "اهتز ... "، أخرجه البُخَارِيّ عَن جَابر وَهُوَ فِي الْفَتْح "7/ 123" 3803 بَاب مَنَاقِب سعد بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ، وَمُسلم أَيْضا فِي فَضَائِل الصَّحَابَة "4/ 1915" رقم 123 و125، وَالتِّرْمِذِيّ فِي المناقب "5/ 289" 3848، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَابْن ماجة "1/ 55"، وَأحمد "3/ 234" وَفِي مَوَاطِن أخر. وَقَالَ ابْن حجر فِي الْفَتْح "7/ 124": وَقد جَاءَ حَدِيث "اهتز الْعَرْش لسعد بن معَاذ" عَن عشرَة من الصَّحَابَة أَو أَكثر، وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم "16/ 22": اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيله، فَقَالَت طَائِفَة: هُوَ على ظَاهره، وَقَالَ الْحَرْبِيّ: هُوَ كِنَايَة عَن تَعْظِيم شَأْن وَفَاته، وَالْعرب تنْسب الشَّيْء الْمُعظم إِلَى أعظم الْأَشْيَاء فَيَقُولُونَ: أظلمت بِمَوْت فلَان الأَرْض، وَقَامَت لَهُ الْقِيَامَة. انْظُر فتح الْبَارِي "7/ 124".

(1/386)


وَلَيْسَ الِاهْتِزَازُ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَلَا الْعَرْشُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْآخَرُونَ.
بَلِ الِاهْتِزَازُ: الِاسْتِبْشَارُ وَالسُّرُورُ، يُقَالُ: "إِنَّ فُلَانًا لَيَهْتَزُّ لِلْمَعْرُوفِ" أَيْ يَسْتَبْشِرُ وَيُسَرُّ.
"إِن فُلَانًا لَتَأْخُذُهُ لِلثَّنَاءِ هِزَّةٌ"، أَيِ ارْتِيَاحٌ وَطَلَاقَةٌ.
وَمِنْهُ قِيلَ فِي الْمَثَلِ: "إِنْ فُلَانًا إِذَا دُعِيَ اهْتَزَّ، وَإِذَا سُئِلَ، ارْتَزَّ"1.
وَالْكَلَامُ لأبي الْأسود الدؤَلِي، يُرِيد: أَنَّهُ إِذَا دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ يَأْكُلُهُ اهْتَزَّ، أَيِ: ارْتَاحَ وَسُرَّ.
وَإِذَا سُئِلَ الْحَاجَةَ، ارْتَزَّ: أَيْ ثَبَتَ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يَطْلُقْ.
فَهَذَا مَعْنَى الِاهْتِزَازِ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا الْعَرْشُ، فَعَرْشُ الرَّحْمَنِ، جَلَّ وَعَزَّ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِاهْتِزَازِهِ، اسْتِبْشَارَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُ وَيَحُفُّونَ حَوْلَهُ، بِرُوحِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
فَأَقَامَ الْعَرْشَ مَقَامَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَيُحِيطُ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} 2.
يُرِيدُ: مَا بَكَى عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَلَا أَهْلُ الْأَرْضِ.
فَأَقَامَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، مَقَامَ أَهْلِهِمَا.
وَكَمَا قَالَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 3، أَيْ: سَلْ أَهْلَهَا.
__________
1 ارتز: الْبَخِيل عِنْد الْمَسْأَلَة: بَقِي وبخل، والسهم فِي القرطاس: ثَبت. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص658".
2 الْآيَة: 29 من سُورَة الدُّخان.
3 الْآيَة: 82 من سُورَة يُوسُف. الْآيَة: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ... } .

(1/387)


وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُحُدٍ: "هَذَا جَبَلٌ، يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" 1.
يُرِيدُ: "يُحِبُّنَا أَهْلُهُ" يَعْنِي: الْأَنْصَارَ، "وَنُحِبُّهُ" أَيْ: نُحِبُّ أَهْلَهُ2.
كَذَلِكَ أَقَامَ الْعَرْشَ، مَقَامَ حَمَلَتِهِ وَالْحَافِّينَ مِنْ حَوْلِهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَبْشِرُ بِرُوحِ الْمُؤْمِنِ، وَأَنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بَابًا فِي السَّمَاءِ، يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ وَيَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، وَيُعْرَجُ فِيهِ بِرُوحِهِ إِذَا مَاتَ، ثُمَّ يُرَدُّ" 3.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ تَبَادَرَ إِلَى غُسْلِهِ، سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ".
وَهَذَا التَّأْوِيلُ -بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى- سَهْلٌ قَرِيبٌ.
كَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدِ اسْتَبْشَرَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ، بِرُوحِ سَعْدٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يُعَذَّبُ مَنْ تَبَادَرَ إِلَى غسله سَبْعُونَ ألف ملك؟
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: اعتصام 16، وَجِهَاد 71 - 74، وأطعمة 38، وَزَكَاة 54، وأنبياء 10، وَرَوَاهُ مُسلم: فَضَائِل 10 وَحج 363 و503 و504، وَرَوَاهُ ابْن ماجة: مَنَاسِك 104، الْمُوَطَّأ: مَدِينَة 10 و20، وَرَوَاهُ أَحْمد 3/ 140-149-159-140-243-443.
2 قَول ابْن قُتَيْبَة فِي معنى حَدِيث أَن أحدا جبل يحبنا ونحبه، يَعْنِي أَهله الْأَنْصَار. هُوَ قَول بَاطِل، ومخالف لظَاهِر النَّص ولنصوص عديدة، قَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرحه مَا نَصه: "الصَّحِيح الْمُخْتَار أَن مَعْنَاهُ أَن أحدا يحبنا حَقِيقَة جعل الله فِيهِ تمييزًا يحب بِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، وكما حن الْجذع الْيَابِس، وكما سبح الْحَصَى، وكما فر الْحجر يثوب مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عَليّ" "رَوَاهُ مُسلم"، وكما دَعَا الشجرتين المفترقتين فَاجْتَمَعْنَا "رَوَاهُ مُسلم أَيْضا"، وكما رجف حراء ... وَذكر أَشْيَاء كَثِيرَة كلهَا صَحِيحَة. رَاجع مُسلم بشرح النَّوَوِيّ 9/ 139-140، وَمَا بَين المعكوفتين من كَلَامي، وَهُوَ "رَوَاهُ مُسلم". "الشَّيْخ مُحَمَّد مُحَمَّد بدير".
3 روى التِّرْمِذِيّ الحَدِيث فِي كتاب تَفْسِير الْقُرْآن بَاب 46 بِحَدِيث رقم 3255 بِلَفْظ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: مَا من مُؤمن إِلَّا وَله بَابَانِ، بَاب يصعد مِنْهُ عمله، وَبَاب ينزل مِنْهُ رزقه، فَإِذا مَاتَ بكيا عَلَيْهِ، فَذَلِك قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، ومُوسَى بن عُبَيْدَة وَيزِيد بن أبان الرقاشِي يُضعفَانِ الحَدِيث.

(1/388)


فَإِنَّ لِلْمَوْتِ وَلِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، زَلَازِلًا شِدَادًا، وَأَهْوَالًا، لَا يَسْلَمُ مِنْهَا نَبِيٌّ وَلَا وَلِيٌّ.
يَدُلُّكَ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
وَلَوْ كَانَ يَسْتَحِيلُ مَا تَعَوَّذَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ خَافَ مَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ، وَأَخْفَاهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَجْعَلْ مِنْهُمْ أَحَدًا عَلَى أَمْنٍ وَلَا طُمَأْنِينَةٍ،
وَيَدُلُّكَ قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "يَا رَبِّ، نَفْسِي نَفْسِي".
وَقَوْلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي" 1.
وَيَدُلُّكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وَجل: {إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} 2.
علمنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا يرد النَّار ثمَّ يُنجي الله الَّذين اتَّقوا، ويذر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.
وَقَالَ عُمَرُ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ كَانَ لِي طِلَاعُ الْأَرْضِ3 ذَهَبًا، لَافْتُدِيَتْ بِهِ مِنْ هَوْلِ المطلع"4.
وَقَالَ بن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 5، تَدْخُلُهُمْ دَهْشَةٌ مِنْ أَهْوَالِ يَوْم الْقِيَامَة.
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: تَوْحِيد 36، وَتَفْسِير سُورَة 17/ 5، وَفتن1، وَمُسلم: إِيمَان 326 و327 و346، وَالتِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 10، والدارمي: مُقَدّمَة 8.
2 الْآيَة: 71 من سُورَة مَرْيَم.
3 طلاع الأَرْض: ملؤُهَا.
4 هول المطلع: مَا يشرف عَلَيْهِ من أُمُور الْآخِرَة، رَوَاهُ البُخَارِيّ: قضائل الصَّحَابَة 6.
5 الْآيَة: 109 من سُورَة الْمَائِدَة.

(1/389)


42- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- أَكْلُ الضَّبِّ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن بن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الضَّبِّ: "لَا آكُلُهُ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ، وَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ" 1.
وَقَالُوا: إِذَا كَانَ هُوَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَأْكُلُ وَلَا يَنْهَى، وَلَا يُحَلِّلُ وَلَا يُحَرِّمُ، فَإِلَى مَنِ الْمَفْزَعُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ؟ وَالْأَعْرَابُ تَأْكُلُ الضِّبَابَ وَتُعْجَبُ بِهَا؟
قَالَ أَبُو وَائِلٍ ضَبَّةٌ مُكَوِّنٌ2 أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ دَجَاجَةٍ سَمِينَةٍ.
__________
1 ورد فِي صَحِيح مُسلم: "لَا آكله وَلَا أحرمهُ"، أما لفظ ابْن قُتَيْبَة وَالَّذِي فِيهِ: "وَلَا أحله وَلَا أحرمهُ"، فَهُوَ فِي غَايَة النكارة لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم معلم ومبين عَن الله تَعَالَى وَإِذا سُئِلَ عَن حل شَيْء أَو حرمته فَلَا بُد من جَوَاب، وَلَا يجوز أَن يتْرك النَّاس بِلَا بَيَان فَلَا يعلمُونَ هَل الشَّيْء حَلَال أم حرَام إِذا سَأَلُوهُ عَن شَيْء معِين، ثمَّ إِن هَذَا اللَّفْظ معَارض للأحاديث الصَّحِيحَة، فقد نَص النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حلّه لما قدم لَهُ ضَب هُوَ وَأَصْحَابه فَكف يَده فكفوا أَيْديهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَلكنه لَيْسَ من طَعَامي" رَوَاهُ مُسلم رقم 1944، وَقدم لَهُ ضَب أَو ضباب مشوية وَمَعَهُ خَالِد بن الْوَلِيد فَلَمَّا أخبر أَنَّهَا ضباب رفع رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَده، فَقَالَ خَالِد: أحرام هُوَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: "لَا وَلكنه لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه"، قَالَ خَالِد: فاجتررته فأكلته، وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر. وَلَقَد راجعت بضعًا وَثَلَاثِينَ حَدِيثا فِي الضَّب فِي كنز الْعمَّال وَفِي صَحِيح مُسلم وَفِي الْجَامِع فَلم أجد هَذَا اللَّفْظ الَّذِي أوردهُ ابْن قُتَيْبَة، وَإنَّهُ لمشكل فِي مَتنه حقًّا، وَحَدِيث خَالِد بن الْوَلِيد الْمَذْكُور رَوَاهُ مُسلم رقثم 1945. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
2 الضبة الَّتِي جمعت بيضها فِي بَطنهَا.

(1/390)


وَقَدْ أَكَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَهُ، وَأَكَلَهُ عُمَرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ، أَقْدَمُوا عَلَى الشُّبْهَةِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ وَقَعَ فِيهِ سَهْوٌ مِنْ بَعْضِ النَّقَلَةِ، وَكَانَ1: "لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ" حَسْبُ.
فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّهُ وَلَا يُحَرِّمُهُ، كَمَا أَنه لايأكله وَلَا يَنْهَى عَنْهُ، وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُ مِنْ جِهَةِ التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ، لِأَنَّهُ عَافَهُ2.
وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أُتِيَ بِضَبٍّ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي كُشْيَتِهِ3 وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْهُ وَلَكِنَّهُ قَذِرَهُ4.
وَيُوَضِّحُ لَكَ هَذَا أَيْضًا أَنَّ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ، رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، عَن الشّعبِيّ، عَن بن عُمَرَ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُونَ شَيْئًا، وَفِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، فَنَادَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ ضَبٌّ"، فَأَمْسَكُوا.
فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا، فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي" 5.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى غلط النَّاقِل عَن بن عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ.
وَأَمَّا تَرْكُهُ أَكْلَهُ وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَهُ، فَلَيْسَ كُلُّ الْحَلَالِ تَطِيبُ النُّفُوسُ بِهِ، وَلَا يَحْسُنُ بِالْمَرْءِ أَنْ يَفْعَلَهُ.
فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الشَّاءَ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا مِنْهَا إِلَّا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ.
__________
1 وَكَانَ: أَي هَذَا الحَدِيث.
2 عافه: كرهه فَلم يَأْكُلهُ.
3 الكشية: شحمة بطن الضَّب.
4 قذره كرهه تقذرًا: ويتقذر الشَّيْء فَلَا يَأْكُلهُ. "الْقَامُوس الْمُحِيط" ص592.
5 الحَدِيث: أخرجه البُخَارِيّ فِي الذَّبَائِح بَاب الضَّب، وَمُسلم حَدِيث رقم 1946، وَالنَّسَائِيّ رقم 4322، وَابْن ماجة رقم 3241.

(1/391)


وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَكْرَهُ مِنْهَا الْمَثَانَةَ وَالْغُدَّةَ، وَالْمُصْرَانَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالطِّحَالَ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ"، وَالنُّفُوسُ لَا تَطِيبُ بِأَكْلِهِ.
وَمِنَ الْمُحَرَّمِ شَيْءٌ لَمْ يَنْزِلْ بِتَحْرِيمِهِ تَنْزِيلٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَكُلُّ النَّاسِ فِيهِ إِلَى فِطَرِهِمْ وَمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ، كَلَحْمِ الْإِنْسَانِ، وَلَحْمِ الْقِرْدِ، وَلُحُومِ الْحَيَّاتِ، وَالْأَبَارِصِ، وَالْعِظَاءِ، وَالْفَأْرِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ إِلَّا وَالنُّفُوسُ تَعَافُهُ وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّمُ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ1، وَهَذِهِ كُلُّهَا خَبِيثَةٌ فِي الْفِطَرِ.
وَأَمَّا مَا لَا يَحْسُنُ بِالْمَرْءِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنَ الْحَلَالِ، فَعَدْوُ الْكَهْلِ فِي الطَّرِيقِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْفِزَهُ2 أَمْرٌ وَالْخُصُومَةُ فِي مَهْرِ الْأُمِّ، وَإِلْقَاءُ الرِّدَاءِ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَغَزْلُ الْقُطْنِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَالتَّحَلِّي بِالشَّيْءِ مِنْ حُلِيِّ الْمَرْأَةِ، وَالْأَكْلُ فِي الْأَسْوَاقِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ لُقْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ" 3.
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سِفْسَافَهَا" 4.
__________
1 قَالَ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الْآيَة 157 من سُورَة الْأَعْرَاف".
2 يحفزه: يدفعهم من خَلفه، وبالرمح: طعنه، وَعَن الْأَمر: أعجله وأزعجه.
3 رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن الْفُرَات، كَذَّاب وَرَوَاهُ الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ فِيهِ الْهَيْثَم بن سهل، وَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ العقيقي: لَا يثبت فِي هَذَا الْبَاب شَيْء.
4 ورد الحَدِيث فِي صَحِيح الْجَامِع الصَّغِير برقم 1889 بِلَفْظ: "إِن الله يحب معالى الْأَخْلَاق، وَيكرهُ سفسافها"، وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة للألباني برقم 1378.

(1/392)


43- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ- يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ نُزُولُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَقُولُ: "هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ أَوْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ"؟ 1.
وَيَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إِلَى أَهْلِ عَرَفَةَ، وَيَنْزِلُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ.
وَهَذَا خِلَافٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2.
وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 3.
وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} : إِنَّهُ مَعَهُمْ بِالْعِلْمِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ وَجَّهْتَهُ إِلَى بَلَدٍ شَاسِعٍ، وَوَكَّلْتَهُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ: احْذَرِ التَّقْصِيرَ والإغفال لشَيْء مِمَّا
__________
1 رَوَاهُ الدَّارمِيّ: صَلَاة 168، البُخَارِيّ: تهجد 14، وَمُسلم: مسافرين 168-170، وَأَبُو دَاوُد: سنة 19، وَالتِّرْمِذِيّ: صَلَاة 211 دعوات 78، وَابْن ماجة: إِقَامَة 182، والموطأ: قُرْآن 30.
2 الْآيَة: 7 من سُورَة المجادلة.
3 الْآيَة: 84 من سُورَة الزخرف.

(1/393)


تقدّمت فِيهِ إِلَيْكَ فَإِنِّي مَعَكَ. تُرِيدُ: أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ تَقْصِيرُكَ أَوْ جِدُّكَ لِلْإِشْرَافِ عَلَيْكَ، وَالْبَحْثِ عَنْ أُمُورِكَ.
وَإِذَا جَازَ هَذَا فِي الْمَخْلُوقِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَهُوَ فِي الْخَالِقِ الَّذِي يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَجْوَزُ.
وَكَذَلِكَ "هُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ"، يُرَادُ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْأَمَاكِنِ، فَهُوَ فِيهَا بِالْعِلْمِ بِهَا وَالْإِحَاطَةِ.
وَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ عَلَى الْحُلُولِ مَعَ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، أَيِ: اسْتَقَرَّ؛ كَمَا قَالَ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 2، أَي: استقررت.
وَمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3.
وَكَيْفَ يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ هُوَ مَعَهُ؟ أَوْ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلٌ وَهُوَ عِنْدُهُ؟ وَكَيْفَ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
وَتَعْرُجُ بِمَعْنَى تَصْعَدُ -يُقَالُ: عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ إِذَا صَعِدَ. وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "ذُو المعارج"، و"المعارج": الدَّرَجُ.
فَمَا هَذِهِ الدَّرَجُ؟ وَإِلَى مَنْ تُؤَدِّي الْأَعْمَالَ الْمَلَائِكَةُ، إِذَا كَانَ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى، مِثْلَهُ بِالْمَحَلِّ الْأَدْنَى؟
وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَجَعُوا إِلَى فِطَرِهِمْ وَمَا رُكِّبَتْ عَلَيْهِ خِلْقَتُهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْعَلِيُّ، وَهُوَ الْأَعْلَى، وَهُوَ بِالْمَكَانِ الرَّفِيعِ، وَإِنَّ الْقُلُوبَ عِنْدَ الذِّكْرِ تَسْمُو نَحْوَهُ، وَالْأَيْدِي تُرْفَعُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ.
وَمِنَ الْعُلُوِّ يُرْجَى الْفَرَجُ، ويتوقع النَّصْر، وَينزل الرزق.
__________
1 الْآيَة: 5 من سُورَة طه.
2 الْآيَة: 28 من سُورَة الْمُؤْمِنُونَ.
3 الْآيَة: 10 من سُورَة فاطر.

(1/394)


وَهُنَالِكَ الْكُرْسِيُّ وَالْعَرْشُ وَالْحُجُبُ وَالْمَلَائِكَةُ.
يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 1.
وَقَالَ فِي الشُّهَدَاءِ: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 2.
قيل لَهُمْ شُهَدَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَلَكُوتَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاحِدُهُمْ "شَهِيدٌ" كَمَا يُقَال "عليم" و"عُلَمَاء" و"كَفِيل" و"كفلاء".
وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} 3، أَيْ: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ امْرَأَةً وَوَلَدًا، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ عِنْدَنَا لَا عِنْدَكُمْ؛ لَأَنَّ زَوْجَ الرَّجُلِ وَوَلَدَهُ، يَكُونَانِ عِنْدَهُ وَبِحَضْرَتِهِ، لَا عِنْدَ غَيْرِهِ.
وَالْأُمَمُ كُلُّهَا -عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا- تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ مَا تُرِكَتْ عَلَى فِطَرِهَا وَلَمْ تُنْقَلْ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ لِلْعِتْقِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَ اللَّهُ تَعَالَى؟ ".
فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: "فَمَنْ أَنَا؟ " قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "هِيَ مُؤْمِنَةٌ وَأَمَرَهُ بِعِتْقِهَا" 4، هَذَا أَوْ نَحوه.
__________
1 الْآيَة: 206 من سُورَة الْأَعْرَاف، قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ، وَقد ورد فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء الْآيَة 19-20 نصف آيَة مَعَ آيَة أُخْرَى، قَوْله تَعَالَى: { ... وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ....، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} ، وَقد أَخطَأ ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله، فلفق بَين آيَتَيْنِ. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
2 الْآيَة: 169 من سُورَة آل عمرَان.
3 الْآيَة: 17 من سُورَة الْأَنْبِيَاء.
4 رَوَاهُ مُسلم: مَسَاجِد 33، وَأَبُو دَاوُد: صَلَاة 167 وأيمان 16، وَالنَّسَائِيّ: وَصَايَا 8 وَصَوْم 20، والموطأ: عتق 9، وَأحمد: 3/ 291 و3/ 451 و4/ 222 و388 و389 و5/ 447-449.

(1/395)


وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
مَجِّدُوا اللَّهَ وَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا
بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ ... وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا
شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ ... تَرَى دونه الملائك صورا
و"صور" جَمْعُ "أَصُورٍ"، وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ.
وَهَكَذَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ صُوَرٌ"، وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ شَيْئًا ثَقِيلًا عَلَى كَاهِلِهِ أَوْ عَلَى مَنْكِبِهِ، لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمِيلَ عُنُقُهُ.
وَفِي الْإِنْجِيلِ الصَّحِيحِ، أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "لَا تَحْلِفُوا بِالسَّمَاءِ، فَإِنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ تَعَالَى".
وَقَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: "إِنْ أَنْتُمْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ رَبَّكُمُ2 الَّذِي فِي السَّمَاءِ، يَغْفِرُ لَكُمْ ظُلْمَكُمْ، انْظُرُوا إِلَى طَيْرِ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَزْرَعْنَ وَلَا يَحْصُدْنَ وَلَا يَجْمَعْنَ فِي الْأَهْوَاءِ، وَرَبُّكُمُ2 الَّذِي فِي السَّمَاءِ، هُوَ يَرْزُقُهُنَّ، أَفَلَسْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُنَّ".
وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الشَّوَاهِدِ كَثِيرٌ، يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 3، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُلُولِ بِهِمَا.
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: أَنَّهُ إِلَهُ السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِيهَا، وَإِلَهُ الْأَرْضِ وَإِلَهُ مَنْ فِيهَا.
وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ قَوْلُكُ: "هُوَ بِخُرَاسَانَ أَمِيرُ، وَبِمِصْرَ أَمِيرُ".
فَالْإِمَارَةُ تَجْتَمِعُ لَهُ فِيهِمَا، وَهُوَ حَالٌّ بِإِحْدَاهُمَا أَوْ بِغَيْرِهِمَا، وَهَذَا وَاضح لَا يخفى.
__________
1 الشرجع: الطَّوِيل.
2 ربكُم: فِي نسختين: فَإِنَّهُ أَبَاكُم.
3 الْآيَة: 84 من سُورَة الزخرف.

(1/396)


فَإِنْ قِيلَ لَنَا: كَيْفَ النُّزُولُ مِنْهُ جَلَّ وَعَزَّ؟
قُلْنَا: لَا نُحَتِّمِ عَلَى النُّزُولِ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنَّا نُبَيِّنُ كَيْفَ النُّزُولُ مِنَّا، وَمَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ.
وَالنُّزُولُ مِنَّا يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ:
"أَحَدُهُمَا":
لانتقال عَنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ؛ كَنُزُولِكَ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْحَضِيضِ، وَمِنَ السَّطْحِ إِلَى الدَّارِ.
"وَالْمَعْنَى الْآخَرُ":
إِقْبَالُكَ عَلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْهُبُوطُ وَالِارْتِقَاءُ، وَالْبُلُوغُ وَالْمَصِيرُ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ،
وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَكَ سَائِلٌ عَنْ مَحَالِّ قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْمَصِيرَ إِلَيْهِمْ، فَتَقُولُ لَهُ: "إِذَا صِرْتَ إِلَى جَبَلِ كَذَا، فَانْزِلْ مِنْهُ وَخُذْ يَمِينًا، وَإِذَا صِرْتَ إِلَى وَادِي كَذَا، فَاهْبِطْ فِيهِ، ثُمَّ خُذْ شِمَالًا، وَإِذَا صِرْتَ إِلَى أَرْضِ كَذَا، فَاعْتَلِ هَضْبَةً هُنَاكَ، حَتَّى تُشْرِفَ عَلَيْهِمْ".
وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ فِي شَيْءٍ، مِمَّا تَقُولُهُ، افْعَلْهُ بِبَدَنِكَ إِنَّمَا تُرِيدُ افْعَلْهُ بِنِيَّتِكَ وَقَصْدِكَ.
وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: "بَلَغْتَ إِلَى الْأَحْرَارِ تَشْتُمُهُمْ، وَصِرْتَ إِلَى الْخُلَفَاءِ تَطْعَنُ عَلَيْهِمْ، وَجِئْتَ إِلَى الْعِلْمِ تَزْهَدُ فِيهِ، وَنَزَلْتَ عَنْ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ إِلَى الدَّنَاءَةِ".
وَلَيْسَ يُرَادُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، انْتِقَالُ الْجِسْمِ.
وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1.
__________
1 الْآيَة: 128 من سُورَة النَّحْل.

(1/397)


لَا يُرِيدُ أَنَّهُ مَعَهُمْ بِالْحُلُولِ، وَلَكِنْ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْحِيَاطَةِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" 1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد:
وَحدثنَا عَن عَبْدُ الْمُنْعِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ: "اخْلَعْ نَعْلَيْكَ" أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ، وَتَابَعَ التَّلْبِيَةَ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا اسْتِئْنَاسًا مِنْهُ بِالصَّوْتِ، وَسُكُونًا إِلَيْهِ.
وَقَالَ: "إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ، وَأُحِسُّ وَجْسَكَ2 وَلَا أَرَى مَكَانَكَ، فَأَيْنَ أَنْتَ؟ ".
فَقَالَ: "أَنَا فَوْقَكَ، وَأَمَامَكَ، وَخَلْفَكَ، وَمُحِيطٌ بِكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ".
يُرِيدُ: إِنِّي أَعْلَمُ بِكَ مِنْكَ بِنَفْسِكَ، لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، خَفِيَ عَنْكَ مَا وَرَاءَكَ، وَإِذَا سَمَوْتَ بِطَرْفِكَ إِلَى مَا فَوْقَكَ، ذَهَبَ عَنْكَ عِلْمُ مَا تَحْتَكَ، وَأَنَا لَا تَخْفَى عَلَيَّ خَافِيَةٌ مِنْكَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكَ.
وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ رَابِعَةَ الْعَابِدَةِ: "شَغَلُوا قُلُوبَهُمْ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِحُبِّ الدُّنْيَا، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَجَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ بِطُرَفِ الْفَوَائِدِ ".
وَلَمْ تَرِدْ أَنَّ أَبْدَانَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ، تَجُولُ فِي السَّمَاءِ بِالْحُلُولِ، وَلَكِنْ تَجُولُ هُنَاكَ بِالْفِكْرَةِ وَالْقَصْدِ وَالْإِقْبَالِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مَهْدِيَّةَ الْأَعْرَابِيِّ: "اطَّلَعْتُ فِي النَّارِ، فَرَأَيْتُ الشُّعَرَاءَ لَهُمْ كَصِيصٌ"3، يَعْنِي الْتِوَاءً وَأَنْشَدَ:
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: تَوْحِيد 15 و50، وَمُسلم: ذكر 20 و21 و22 وتوبة 1، وَالتِّرْمِذِيّ: دعوات 131، وَابْن ماجة: أدب 58، وَأحمد: 2/ 413-435، 480، 484-509-524- 3/ 40-122-127-130-373-5/ 153-155-169-351.
2 الوجس: الصَّوْت الْخَفي.
3 كصيص: رعدة وتحرك والتواء من الْجهد والانقباض والذعر.

(1/398)


جَنَادِبُهَا صَرْعَى لَهُنَّ كَصِيصُ
أَيِ: الْتِوَاءٌ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْبُلْهَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ"1، إِنَّ اطِّلَاعَهُ فِيهِمَا كَانَ بِالْفِكْرِ وَالْإِقْبَالِ، كَانَ تَأْوِيلًا حَسَنًا.
__________
1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: جَهَنَّم 11.
عَن ابْن عَبَّاس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا الْفُقَرَاء، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهلهَا النِّسَاء" ... ورد فِي "الْأَسْرَار المرفوعة فِي الْأَخْبَار الْمَوْضُوعَة" رقم 53 لملا عَليّ الْقَارِي، تَحْقِيق د. مُحَمَّد لطفي الصّباغ: "أَكثر أهل الْجنَّة البله"، وَرَوَاهُ الْبَزَّار مضعفًا والقرطبي مصححًا، وَقَالَ ابْن عدي: إِنَّه مُنكر.

(1/399)


44- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- لَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَلَكَ الْمَوْتِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَطَمَ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَأَعْوَرَهُ" 1، فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى مَلَكِ الْمَوْتِ الْعَوَرُ، جَازَ عَلَيْهِ الْعَمَى.
وَلَعَلَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ لَطَمَ الْأُخْرَى فَأَعْمَاهُ؛ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ أَشَدَّ لِلْمَوْتِ كَرَاهِيَةً مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ صَارِفًا هَذِهِ الْكَأْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَاصْرِفْهَا عَنِّي".
قَالَ أَبُو مُحَمَّد:
نَحن نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَسَنُ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَحْسَبُ لَهُ أصلا فِي الْأَخْبَارِ الْقَدِيمَةِ، وَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيح لَا يَدْفَعهُ النّظر.
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: جنائز 69 أَنْبيَاء 31، وَمُسلم: فَضَائِل 157، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 121، وَأحمد 2/ 269-315-351.
قَول الْمُؤلف: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَن أبي هُرَيْرَة وَذكر قصَّة ملك الْمَوْت مَعَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ علق عَلَيْهِ بعد ذَلِك بِأَنَّهُ حَدِيث حسن.
أَقُول: فِي سِيَاق الْمُؤلف تَقْصِير وَفِي رده عَلَيْهِ تَقْصِير أكبر، فَالْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي موضِعين من طَرِيق معمر عَن ابْن طَاوس عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعا، وَهَذِه طَرِيق صَحِيحَة كَالشَّمْسِ، وَرَوَاهُ مِنْهَا مُسلم وَذكر لَهُ طَرِيقا أخر عَن معمر عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ذكر طَرِيق حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بن أبي عمار الَّتِي ذكرهَا ابْن قُتَيْبَة، والْحَدِيث لَيْسَ كَمَا قَالَ إِنَّه حسن بل هُوَ صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ وتأويله سَائِغ مَعْقُول لَا إِشْكَال فِيهِ، انْظُر: فتح الْبَارِي. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.

(1/400)


وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِيهِ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ تَعَالَى رُوحَانِيُّونَ، وَالرُّوحَانِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الرُّوحِ، نِسْبَةَ الْخِلْقَةِ، فَكَأَنَّهُمْ أَرْوَاحٌ لَا جُثَثَ لَهُمْ، فَتَلْحَقُهَا الْأَبْصَارُ، وَلَا عُيُونَ لَهَا كَعُيُونِنَا، وَلَا أَبْشَارَ كَأَبْشَارِنَا.
وَلَسْنَا نَعْلَمُ كَيْفَ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا شَاهَدْنَا، وَإِلَّا مَا رَأَيْنَا لَهُ مِثَالًا، وَكَذَلِكَ الْجِنُّ، وَالشَّيَاطِينُ، وَالْغِيلَانُ هِيَ أَرْوَاحٌ، وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا.
وَإِنَّمَا تَنْتَهِي فِي صِفَاتِهَا إِلَى حَيْثُ مَا وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَنَا، وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 1.
ثُمَّ قَالَ: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ، كَأَنَّهُ يَزِيدُ فِي تِلْكَ الْأَجْنِحَةِ مَا يَشَاءُ وَفِي غَيْرِهَا.
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَدْعُو الْمَلَائِكَةَ جِنًّا؛ لِأَنَّهُمُ اجْتَنُّوا عَنِ الْأَبْصَارِ، كَمَا اجْتَنَّتِ الْجِنُّ.
قَالَ الْأَعْشَى يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ:
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرٍ
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ، أَنْ تَتَمَثَّلَ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَأَتَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَفِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَرَآهُ مَرَّةً قَدْ سَدَّ بِجَنَاحَيْهِ مَا بَيْنَ الْأُفُقَيْنَ.
وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِلْجِنِّ أَنْ تَتَمَثَّلَ وَتَتَخَيَّلَ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا جَعَلَ للْمَلَائكَة.
__________
1 الْآيَة: 1 من سُورَة فاطر.

(1/401)


قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 1.
لَيْسَ مَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْحَقَائِقِ، إِنَّمَا هِيَ تَمْثِيلٌ وَتَخْيِيلٌ، لِتَلْحَقَهَا الْأَبْصَارُ.
وَحَقَائِقُ خَلْقِهَا، أَنَّهَا أَرْوَاحٌ لَطِيفَةٌ، تَجْرِي مَجْرَى الدَّمِ، وَتَصِلُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَتَدْخُلُ فِي الثَّرَى، وَتَرَى وَلَا تُرَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِبْلِيسَ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} 2، يُرِيدُ: أَنَّا لَا نَرَاهُمْ فِي حَقَائِقِ هَيْئَاتِهِمْ.
وَقَالَ أَيْضًا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} 3.
يُرِيدُ: لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا، لَمْ تُدْرِكْهُ حَوَاسُّهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَلْحَقُ حَقَائِقَ هَيْئَاتِ الْمَلَائِكَةِ، فَكُنَّا نَجْعَلُهُ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لِيَرَوْهُ، وَيَفْهَمُوا عَنهُ.
وَقد ذكر بن عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الزُّهْرَةِ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ الْمَلَكَيْنِ إِلَى الْأَرْضِ لِيَحْكُمَا بَيْنَ أَهْلِهَا، نَقَلَهُمَا إِلَى صُوَرِ النَّاسِ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ يَرَوْنَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، وَإِلَّا مَنْ شَاكَلَهُمْ وَأَشْبَهَهُمْ" 4.
وَلَمَّا تَمَثَّلَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا مَلَكُ اللَّهِ، وَهَذَا نَبِيُّ اللَّهِ، وَجَاذَبَهُ لَطَمَهُ مُوسَى لَطْمَةً أَذْهَبَتِ الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ تَخْيِيلٌ وَتَمْثِيلٌ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً، وَعَادَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى حَقِيقَةِ خِلْقَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ كَمَا كَانَ، لَمْ ينتقص مِنْهُ شَيْء.
__________
1 الْآيَة: 17 من سُورَة مَرْيَم.
2 الْآيَة: 27 من سُورَة الْأَعْرَاف.
3 الْآيَة: 8، 9 من سُورَة الْأَنْعَام.
4 رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه مطولا عَن أبي زَكَرِيَّا الْعَنْبَري عَن مُحَمَّد بن عبد السَّلَام عَن إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ عَن حكام بن سَالم الرَّازِيّ، وَكَانَ ثِقَة عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.

(1/402)


45- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- قَصَصٌ وَأَخْبَارٌ قَدِيمَةٌ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ عِوَجًا اقْتَلَعَ جَبَلًا، قَدْرُهُ فَرْسَخٌ، فِي فَرْسَخٍ عَلَى قَدْرِ عَسْكَرِ مُوسَى، فَحَمَلَهَ عَلَى رَأْسِهِ لِيُطْبِقَهُ عَلَيْهِمْ، فَصَارَ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ حَتَّى مَاتَ.
وَأَنَّهُ كَانَ يَخُوضُ الْبَحْرَ، فَلَا يُجَاوِزُ رُكْبَتَيْهِ.
وَكَانَ يَصِيدُ الْحِيتَانَ مِنْ لُجَجِهِ، وَيَشْوِيهَا فِي عَيْنِ الشَّمْسِ.
وَأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ، وَقَعَ عَلَى نِيلِ مِصْرَ، فَجَسَرَ لِلنَّاسِ سَنَةً "أَيْ صَارَ جِسْرًا لَهُمْ يَعْبُرُونَ عَلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ".
وَأَنَّ طُولَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَطُولَ عَصَاهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، ووثب من الأَرْض عشرَة لِيَضْرِبَهُ، فَلَمْ يَبْلُغْ عُرْقُوبَهُ.
قَالُوا: وَهَذَا كَذِبٌ بَيِّنٌ، لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، وَلَا عَلَى جَاهِلٍ.
وَكَيْفَ صَارَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ الزَّمَانِ هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ؟
وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، مَنْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ هَذَا التَّفَاوُتُ؟!!
وَكَيْفَ يُطِيقُ آدَمِيٌّ، حَمْلَ جَبَلٍ عَلَى رَأْسِهِ، قَدْرُهُ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ؟!!
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَأْتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ صَحَابَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الْقَدِيمَةِ، الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الْكُتُبِ، سَمِعَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ عَلَى قَدِيمِ الْأَيَّامِ، فَتَحَدَّثُوا بِهِ.

(1/403)


وَالْحَدِيثُ يَدْخُلُهُ الشَّوْبُ وَالْفَسَادُ، مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ.
أَمْثِلَةٌ مِنْ فُسَّادِ الْحَدِيثِ:
مِنْهَا: الزَّنَادِقَةُ وَاجْتِيَالُهُمْ لِلْإِسْلَامِ، وَتَهْجِينُهُ بِدَسِّ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَشْنَعَةِ وَالْمُسْتَحِيلَةِ:
كَالْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا1 مِنْ عَرَقِ الْخَيْلِ، وَعِيَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَفَصِ الذَّهَبِ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، وَزَغَبِ الصَّدْرِ، وَنُورِ الذِّرَاعَيْنِ، مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، لَيْسَتْ تَخْفَى عَلَى أَهْلِ الحَدِيث.
مِنْهُم بن أَبِي الْعَوْجَاءِ الزِّنْدِيقُ، وَصَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ الدَّهْرِيُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
الْقُصَّاصُ عَلَى قَدِيمِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّهُمْ يُمِيلُونَ وُجُوهَ الْعَوَامِّ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَدِرُّونَ2 مَا عِنْدَهُمْ:
بِالْمَنَاكِيرِ، وَالْغَرِيبِ، وَالْأَكَاذِيبِ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
وَمِنْ شَأْنِ الْعَوَامِّ، الْقُعُودُ عِنْدَ الْقَاصِّ، مَا كَانَ حَدِيثُهُ عَجِيبًا، خَارِجًا عَنْ فِطَرِ الْعُقُولِ، أَوْ كَانَ رَقِيقًا يُحْزِنُ الْقُلُوبَ، وَيَسْتَغْزِرُ الْعُيُونَ.
فَإِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ، قَالَ فِيهَا الْحَوْرَاءُ مِنْ مِسْكٍ، أَوْ زَعْفَرَانٍ، وَعَجِيزَتُهَا مِيلٌ فِي مِيلٍ. وَيُبَوِّئُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِيَّهُ قَصْرًا مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ، فِيهِ سَبْعُونَ أَلِفَ مَقْصُورَةٍ، فِي كُلِّ مَقْصُورَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ قُبَّةٍ ... فِي كُلِّ قُبَّةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ فِرَاشٍ عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ سَبْعُونَ أَلْفَ كَذَا، فَلَا يَزَالُ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ كَذَا، وَسَبْعِينَ أَلْفًا؛ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فَوْقَ السَّبْعِينَ وَلَا دونهَا.
__________
1 يَقُول إِسْمَاعِيل الأسعردي: أَنه نظر فِي ملل الشهرستاني فِي الْكَلَام على المشبهة فَوجدَ مَا نَصه: -فِي أثْنَاء كَلَامه على مشبهة الحشوية:"وَزَادُوا فِي الْأَخْبَار أكاذيب وضعوها ونسبوها إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وأكثرها مقتبسة من الْيَهُود، فَإِن التَّشْبِيه فيهم طباع، حَتَّى قَالُوا: اشتكت عَيناهُ فعادته الْمَلَائِكَة" ا. هـ. كتبه إِسْمَاعِيل الأسعردي.
أَقُول: وَمثل هَذَا من تلفيق الزَّنَادِقَة واقتباسهم عَن الْكفَّار من أهل الْكتاب وَعَبدَة الْأَوْثَان.
2 أَي: يستنزلون.

(1/404)


وَيَقُولُ: لَأَصْغَرُ مَنْ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ، مَنْ يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ الدُّنْيَا كَذَا وَكَذَا ضِعْفًا، وَكُلَّمَا كَانَ مِنْ هَذَا أَكْثَرَ، كَانَ الْعَجَبُ أَكْثَرَ، وَالْقُعُودُ عِنْدَهُ أَطْوَلَ، وَالْأَيْدِي بِالْعَطَاءِ إِلَيْهِ أَسْرَعَ.
كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنِ الْجَنَّةِ:
وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُخْبِرُنَا فِي كِتَابِهِ، بِمَا فِي جَنَّتِهِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ عَنْ أَخْبَارِ الْقَصَّاصِ، وَسَائِرِ الْخَلْقِ، حِينَ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَنَّ عَرْضَهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، يُرِيدُ: سِعَتَهَا.
وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ السِّعَةِ بِالْعَرْضِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا اتَّسَعَ عَرُضَ، وَإِذَا دَقَّ وَاسْتَطَالَ ضَاقَ. وَتَقُولُ: "ضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ الْعَرِيضَةُ" أَيِ: الْوَاسِعَةُ، وَفِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ مَذْهَبٌ "أَيِ الْوَاسِعَةُ".
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ: "لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً" "أَيْ وَاسِعَةً".
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيض} 1 أَيْ "كَثِيرٍ".
فَكَيْفَ يَكُونُ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيُعْطِي اللَّهُ تَعَالَى أَخَسَّ مَنْ فِيهَا مَنْزِلَةً فِيهَا مِثْلَ الدُّنْيَا أَضْعَافًا؟!!
وَيَقُولُ تَعَالَى، حِينَ شَوَّقَنَا إِلَيْهَا: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} 2.
وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الْمُقَرَّبِينَ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ، وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 3.
__________
1 الْآيَة: 51 سُورَة فصلت.
2 الْآيَة: 71 من سُورَة الزخرف.
3 الْآيَة: 18-26 من سُورَة الْوَاقِعَة.

(1/405)


وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} 1.
وَقَالَ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} 2.
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا يَنَالُهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا، وَيَتَنَعَّمُ بِهِ الْمُتْرَفُونَ، خَلَا مَا فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَا فِي الْجنَّة، وخلا الخلود.
عود إِلَى الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ:
ثُمَّ يَذْكُرُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَصِفُهُ، فَيَقُولُ: "كَانَ رَأْسُهُ يَبْلُغُ السَّحَابَ أَوِ السَّمَاءَ، وَيُحَاكُّهَا، فَاعْتَرَاهُ لِذَلِكَ الصَّلَعُ، وَلَمَّا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ، بَكَى عَلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى بَلَغَتْ دُمُوعُهُ الْبَحْرَ، وَجَرَتْ فِيهَا السُّفُنُ".
وَيَذْكُرُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: "سَجَدَ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَبَكَى حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ زَفَرَ زَفْرَةً، هَاجَ لَهُ ذَلِكَ النَّبَاتُ".
وَيَذْكُرُ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولُ: "كَانَ نَابُهَا كَنَخْلَةِ سَحُوقٍ، وَعَيْنُهَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، وَعُرْفُهَا كَذَا".
وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} 3، و"الجان" خَفِيفُ الْحَيَّاتِ.
وَذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ: {ثُعْبَانٌ مُبِين} ، {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} 4.
وَيَذْكُرُ عِبَادًا أَتَاهُمْ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَبَلِ لبنان، فيخبرهم عَن
__________
1 الْآيَة: 28 من سُورَة الْوَاقِعَة.
2 الْآيَة: 33 من سُورَة فاطر.
3 الْآيَة: 10 من سُورَة النَّمْل.
4 الْآيَة: 107 من سُورَة الْأَعْرَاف، وجدناها خطأ بِلَفْظ "فَإِذا هِيَ ثعبان"، وَالصَّوَاب: فَإِذا.

(1/406)


الرجل مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَرْكَعُ رَكْعَةً فِي سَنَةٍ، وَيَسْجُدُ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا فِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الزَّمَانِ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِينَ قَبْلَنَا، فَقَالَ: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا} 1.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} 2، وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} 3.
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ قَبْلَنَا، مَا يُقَارِبُ هَذَا الْإِفْرَاطَ.
وَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ مِنَّا أَجْسَامًا، وَأَشَدَّ قُوَّةً، غَيْرَ أَنَّ الْمِقْدَارَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِقْدَارُ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَعْمَارِنَا وَأَعْمَارِهِمْ.
فَهَذَا آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا عَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ بِذَلِكَ تَتَابَعَتِ الْأَخْبَارُ، وَوَجَدْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ.
وَهَذَا نُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا.
ثُمَّ انْتَقَصَتِ الْأَعْمَارُ بَعْدَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ فِي عُمُرِ لُقْمَانَ، صَاحِبِ النُّسُورِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ عَاشَ أَعْمَارَ سَبْعَةِ أَنْسُرٍّ.
وَكَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ ألفي سنة، وَأَرْبع مائَة سَنَةٍ وَنَيِّفًا، وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَهَذَا شَيْءٌ مُتَقَادِمٌ، لَمْ يَأْتِ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا ثِقَةٌ4، وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَحْكِيهِ عُبَيْدُ بْنُ شَرِيَّةَ الْجُرْهُمِيُّ5 وَأَشْبَاهُهُ من النساب،
__________
1 الْآيَة: 69 من سُورَة التَّوْبَة.
2 الْآيَة: 347 من سُورَة الْبَقَرَة.
3 الْآيَة: 128 من سُورَة الشُّعَرَاء.
4 لَعَلَّ الْأَصَح: وَلَا سنة.
5 عبيد الله بن شرية الجرهمي: راوية من المعمرين، إِن صَحَّ خَبره فَهُوَ أول من صنف الْكتب من الْعَرَب. قيل فِي تَرْجَمته: من الْحُكَمَاء والخطباء فِي الْجَاهِلِيَّة أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، واستحضره مُعَاوِيَة فَسَأَلَهُ عَن أَخْبَار الأقدمين فأملى كتابين، وعاش إِلَى أَيَّام عبد الْملك بن مَرْوَان، توفّي سنة 67هـ.

(1/407)


وَكَذَلِكَ أَعْمَارُ مُلُوكِ الْيَمَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ مُلُوكُ الْعَجَمِ.
وَقَدْ عُمِّرَ قَوْمٌ قَرَبُوا مِنْ زَمَانِنَا، أَعْمَارًا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا صَحَّ مِنْ عُمُرِ آدَمَ وَنُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ تَفَاوُتٌ شَدِيدٌ، كَتَفَاوُتِ هَذَا الْخَلْقِ.
حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ1، قَالَ: مَرَّ الْمُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ2 فِي سوق عكاظ، وَمَعَهُ بن ابْنِهِ خَرِفًا3، وَمُسْتَوْغِرٌ يَقُودُهُ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: يَا هَذَا أَحْسِنْ إِلَيْهِ، فَطَالَمَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ.
قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَبُوكَ أَوْ جَدُّكَ.
فَقَالَ الْمُسْتَوْغِرُ: هُوَ -وَاللَّهِ- ابْنُ ابْنِي.
فَقَالَ الرَّجُلُ: تَاللَّهِ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا مُسْتَوْغِرِ بْنِ رَبِيعَةَ.
قَالَ: فَأَنَا مُسْتَوْغِرٌ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو: عَاشَ مُسْتَوْغِرٌ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مُعْتَبَرًا بِآثَارِهِمْ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا بَنَوْهُ مِنْ مُدُنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَنَقَبُوهُ4 فِي الْجِبَالِ الصُّمِّ مِنْ أَبْوَابِهِمْ، وَنَحَتُوهُ مِنْ دَرَجِهِمْ.
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، إِلَّا كَمَا بَيْنَ أعمارنا وأعمارهم، وَكَذَلِكَ الْخلق.
__________
1 أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: هُوَ زيان بن عمار التَّمِيمِي الْمَازِني الْبَصْرِيّ ولد عَام 70هـ من أَئِمَّة اللُّغَة وَالْأَدب، وَأحد الْقُرَّاء السَّبْعَة، ولد بِمَكَّة وَنَشَأ بِالْبَصْرَةِ وَمَات بِالْكُوفَةِ سنة 154هـ.
2 المستوغر بن ربيعَة: هُوَ عَمْرو بن ربيعَة بن كَعْب التَّمِيمِي السَّعْدِيّ أَبُو بيهس: شَاعِر من المعمرين الفرسان فِي الْجَاهِلِيَّة، قيل: أدْرك الْإِسْلَام، وَأمر بهدم الْبَيْت الَّذِي كَانَت تعظمه ربيعَة فِي الْجَاهِلِيَّة.
3 الخرف: فَسَاد الْعقل.
4 النقب: الثقب.

(1/408)


وَلَا أَعْلَمُنِي سَمِعْتُ فِي التَّفَاوُتِ بِأَشَدَّ مِنْ شَيْءٍ حَدَّثَنِيهِ الرِّيَاشِيُّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: وَلَّانِي خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ1 "حَفْرَ الْمَبَارِكِ"2، فَجَاءَنِي الْعُمَّالُ بِضِرْسٍ، فَوَزَنْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ، وَلَسْنَا نَدْرِي أَهْوَ ضِرْسُ إِنْسَانٍ أَوْ ضِرْسُ جَمَلٍ، أَوْ فِيلٍ؟
وَحَدَّثَنِي الرِّيَاشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: وُجِدَ فِي حَجَاجِ3 رَجُلٍ مِنَ الْعَمَالِيقِ ضَبْعٌ وَجِرَاؤُهَا4.
قَالَ: وَهَذَا قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَجَاجَ جَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَظَنَّهُ الرَّائِي لَهُ أَنَّهُ حَجَاجُ رَجُلٍ.
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَجَاجُ رَجُلٍ، مَا وَقَعَ فِيهِ التَّفَاوُتُ؛ لَأَنَّ الْحَجَاجَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا خَلَا وَاسِعٌ، ثُمَّ هُوَ يُفْضِي إِلَى الْقِحْفِ5، وَلَا يُنْكَرُ -فِي قَدْرِ أَجْسَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ- أَنْ يَكُونَ فِي الْحَجَاجِ وَالْقِحْفِ، مَا ذُكِرَ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
الَّذِي يَقَعُ فِيهِ فَسَادُ الْحَدِيثِ فَأَخْبَارٌ مُتَقَادِمَةٌ كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَرْوُونَهَا:
تُشْبِهُ أَحَادِيثَ الْخُرَافَةِ، كَقَوْلِهِمْ: "إِنَّ الضَّبَّ كَانَ يَهُودِيًّا عَاقًّا، فَمَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى ضَبًّا"، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّاسُ: "أَعَقُّ مِنْ ضَبٍّ".
وَلَمْ تَقُلِ الْعَرَبُ: "أَعَقُّ مِنْ ضَبٍّ" لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ حُسُولَهُ6 إِذا جَاع، قَالَ الشَّاعِر:
__________
1 خَالِد بن عبد الله بن يزِيد بن أَسد الْقَسرِي من بجيلة أَبُو الْهَيْثَم أَمِير العراقين، وَأحد خطباء الْعَرَب وأجوادهم يماني الأَصْل ولد عَام 66هـ، استوطن دمشق ولي مَكَّة سنة 89هـ، ثمَّ الْكُوفَة وَالْبَصْرَة ثمَّ عزل وسجن وَقتل فِي أَيَّام الْوَلِيد 126هـ، وَكَانَ يرْمى الزندقة.
2 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "حفر الْمنَازل".
3 الْحجَّاج: عظمم ينْبت عَلَيْهِ الْحَاجِب.
4 الجراء: جمع جرو وَهُوَ صَغِير الْحَيَوَانَات.
5 القحف: بِكَسْر الْقَاف: الْعظم فَوق الدِّمَاغ، وَمَا انْفَلق من الجمجمة فَبَان، وَلَا يدعى قحفًا حَتَّى يبين أَو ينكسر مِنْهُ شَيْء. ج: أقحاف وقحوف وقحفة.
6 حُصُول: جمع حسل، وَهُوَ ولد الضَّب حَيْثُ يخرج من بيضته.

(1/409)


أَكَلْتَ بَنِيكَ أَكْلَ الضَّبِّ حَتَّى ... تَرَكْتَ بَنِيكَ لَيْسَ لَهُمْ عَدِيدُ
وَكَقَوْلِهِمْ فِي الْهُدْهُدِ: "إِنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ" فَدَفَنَهَا فِي رَأْسِهِ، فَلِذَلِكَ أُنْتِنَتْ رِيحُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، فَقَالَ:
غَيْمٌ وَظَلْمَاءُ وَفَضْلُ سَحَابَةٍ ... أَيَّامَ كُفِّنَ وَاسْتَزَادَ الْهُدْهُدُ
يَبْغِي الْقَرَارَ لِأُمِّهِ لِيُجِنَّهَا ... فَبَنَى عَلَيْهَا فِي قَفَاهُ يُمَهِّدُ
فَيَزَالُ يُدْلِجُ مَا مَشَى بِجَنَازَةٍ ... مِنْهَا وَمَا اخْتَلَفَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ
وَكَقَوْلِهِمْ فِي الدِّيكِ وَالْغُرَابِ: إِنَّهُمَا كَانَا مُتَنَادِمَيْنِ، فَلَمَّا نَفِدَ شَرَابُهُمَا، رَهَنَ الْغُرَابُ الدِّيكَ عِنْدَ الْخَمَّارِ، وَمَضَى فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَبَقِيَ الدِّيكُ عِنْدَ الْخَمَّارِ حَارِسًا.
قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
بِآيَةٍ قَامَ يَنْطِقُ كُلُّ شَيْءٍ ... وَخَانَ أَمَانَهُ الدِّيكَ الْغُرَابُ
وَكَقَوْلِهِمْ فِي السِّنَّوْرِ إِنَّهَا عَطْسَةُ الْأَسَدِ، وَفِي الْخِنْزِيرِ إِنَّهُ عَطْسَةُ الْفِيلِ، وَفِي الْإِرْبِيَانَةِ1 إِنَّهَا خَيَّاطَةٌ كَانَتْ تَسْرِقُ الْخُيُوطَ فَمُسِخَتْ، وَإِنَّ الْجَرِيَّ2 كَانَ يَهُودِيًّا فَمُسِخَ، وَحَدِيثُ عِوَجٍ عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ عِوَجًا هَذَا، كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ، وَلَهُ هَذَا الطُّولُ الْعَجِيبُ.
وَفِرْعَوْنُ فِي زَمَنِهِ، وَهُوَ ضِدُّهُ فِي الْقَصَرِ، عَلَى مَا ذَكَرَ الْحَسَنُ.
حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، أَوْ رَجُلٌ عِنْدَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّحْوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا كَانَ طُولُ فِرْعَوْنَ إِلَّا ذِرَاعًا، وَكَانَتْ لحيته ذِرَاعا.
__________
1 الإربيانة: سَمَكَة كالدودة.
2 الجري: نوع من السّمك.

(1/410)


46- قَالُوا: أَحَادِيث متناقضة- كِتَابَة الحَدِيث:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ1 أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ، فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا فَلْيَمْحُهُ" 2.
ثمَّ رويتم عَن بن جريج، عَن عَطاء عَن بن عَمْرٍو، قَالَ: قَلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَيِّدُ الْعِلْمَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قِيلَ وَمَا تَقْيِيدُهُ؟ قَالَ: "كِتَابَتُهُ" 3.
وَرُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ ".
قُلْتُ: فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا الْحَقَّ" 4.
قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا مَعْنيين:
__________
1 زيد بن أسلم الْعَدوي الْعمريّ مَوْلَاهُم أَبُو أُسَامَة أَو أَبُو عبد الله فَقِيه مُفَسّر من أهل الْمَدِينَة، كَانَ مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز أَيَّام خِلَافَته. واستقدمه الْوَلِيد بن يزِيد فِي جمَاعَة من فُقَهَاء الْمَدِينَة إِلَى دمشق مستفتيًا فِي أَمر، وَكَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، توفّي 136هـ.
2 رَوَاهُ مُسلم: زهد72، والدارمي: مُقَدّمَة 42، وَأحمد 3/ 12-21-39.
3 رَوَاهُ الدَّارمِيّ: مُقَدّمَة 43.
4 رَوَاهُ الدِّرَامِي: مُقَدّمَة43، وَأَبُو دَاوُد: علم3، وَأحمد 2/ 1962، 192.

(1/411)


أحداهما:
أَنْ يَكُونَ مِنْ مَنْسُوخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، كَأَنَّهُ نَهَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ أَنْ يُكْتَبَ قَوْلُهُ، ثُمَّ رَأَى بَعْدُ -لَمَّا عَلِمَ أَنَّ السُّنَنَ تَكْثُرُ وَتَفُوتُ الْحِفْظَ- أَنْ تُكْتَبَ وَتُقَيَّدَ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ:
أَنْ يَكُونَ خَصَّ بِهَذَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، لِأَنَّهُ كَانَ قَارِئًا لِلْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيَكْتُبُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَكَانَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أُمِّيِّينَ، لَا يَكْتُبُ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، وَإِذَا كَتَبَ لَمْ يُتْقِنْ، وَلَمْ يُصِبِ التَّهَجِّيَ. فَلَمَّا خَشِيَ عَلَيْهِمُ الْغَلَطَ فِيمَا يَكْتُبُونَ نَهَاهُمْ، وَلَمَّا أَمِنَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ذَلِكَ، أَذِنَ لَهُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَن يفِيض المَال، وَيظْهر الْعلم، وَيَفْشُوَ التُّجَّارُ"1.
قَالَ عَمْرٌو: إِنْ كُنَّا لَنَلْتَمِسُ فِي الْحِوَاءِ2 الْعَظِيمِ الْكَاتِبَ، وَيَبِيعُ الرَّجُلُ الْبَيْعَ فَيَقُولُ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ تَاجِرَ بَنِي فُلَانٍ.
__________
1 أخرجه ابْن ماجة: فتن 25، وَأحمد 2/ 313-417-457-530، وَقد أخرجه النَّسَائِيّ "7/ 215" فِي بَاب التِّجَارَة بِلَفْظ: "إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يفشو المَال وَيكثر، وتفشو التِّجَارَة، وَيظْهر الْعلم، وَيبِيع الرجل البيع فَيَقُول لَا حَتَّى أَسْتَأْمِرَ تَاجِرَ بَنِي فُلَانٍ، ويلتمس فِي الْحَيّ الْعَظِيم الْكَاتِب فَلَا يُوجد"، وَرِجَاله كلهم ثِقَات، وَأخرجه أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَهُوَ فِي منحة المعبود "2/ 212" برقم2763 قَالَ: حَدثنَا ابْن فضَالة عَن الْحسن بِهِ نَحوه، وَقد ضعفه الأرناؤوط فِي جَامع الْأُصُول برقم7935 عَن عَمْرو بن تغلب 10/ 415ط. الأوناؤوط.
2 الحواء: أَي الْحَيّ فِيهِ جمَاعَة الْبيُوت المتدانية.

(1/412)


47- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ"1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّ بن الْحَنَفِيَّةِ سُئِلَ عَنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ"، قَالُوا: وَهَذَا اخْتِلَافٌ.
وَبُعْدٌ: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى حَجَرًا مِنَ الْجَنَّةِ؟ وَهَلْ فِي الْجَنَّةِ حِجَارَةٌ؟ وَإِنْ كَانَتِ الْخَطَايَا سَوَّدَتْهُ فَقَدْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْيَضَّ، لَمَّا أَسْلَمَ النَّاسُ، وَيَعُودَ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى.
الِاخْتِلَافُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، أَن يُخَالف بن الْحَنَفِيَّة بن عَبَّاسٍ، وَيُخَالِفَ عَلِيٌّ عُمَرَ، وَزَيْدُ بن ثَابت بن مَسْعُودٍ فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الْأَحْكَامِ. وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ أَنْ يَحْكُوا عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَكَثِيرٌ.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ سَمِعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ ظَنَّهُ وَمِنْهُم من يجْتَهد رَأْيه.
__________
1 انْظُر التَّمْيِيز66، والكشف: 1/ 348، وَضَعِيف الْجَامِع 3/ 109 برقمين 2770، 2771، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَانْظُر تَارِيخ بَغْدَاد 6/ 328، الحَدِيث ضَعِيف جدا.

(1/413)


وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ.
غَيْرَ أَنَّ بن عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْحَجَرِ بِقَوْلٍ سَمِعَهُ، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُولَ: "كَانَ أَبْيَضَ، وَهُوَ مِنَ الْجَنَّةِ" بِرَأْيِ نَفسه.
وَإِنَّمَا الظَّان بن الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهُ رَآهُ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ، فَقَضَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ حَيْثُ أُخِذَتْ.
وَالْأَخْبَار المقوية لقَوْل بن عَبَّاسٍ فِي الْحَجَرِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ، يَشْهَدُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا.
وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ لُؤْلُؤَةً بَيْضَاءَ، فَسَوَّدَهُ الْمُشْرِكُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "هَلْ فِي الْجَنَّةِ حِجَارَةٌ"؟
فَمَا الَّذِي أَنْكَرُوهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ حِجَارَةٌ، وَفِيهَا الْيَاقُوتُ، وَهُوَ حَجَرٌ، وَالزُّمُرُّدُ حَجَرٌ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مِنَ الْحِجَارَةِ؟
وَمَا الَّذِي أَنْكَرُوهُ مِنْ تَفْضِيلِ اللَّهِ تَعَالَى حَجَرًا، حَتَّى لُثِمَ وَاسْتُلِمَ؟
وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَعْبِدُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ من الْعَمَل وَالْقَوْل، وَيُفَضِّلُ بَعْضَ مَا خَلَقَ عَلَى بَعْضٍ.
فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، لَيْسَتْ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
وَالسَّمَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْكُرْسِيُّ أَفْضَلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْعَرْشُ أَفْضَلُ مِنَ الْكُرْسِيِّ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالشَّامُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِرَاقِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مُبْتَدَأٌ بِالتَّفْضِيلِ، لَا بِعَمَلٍ عَمِلَهُ، وَلَا بِطَاعَةٍ كَانَتْ مِنْهُ.
كَذَلِكَ الْحَجَرُ أَفْضَلُ مِنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ.

(1/414)


وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ أَفْضَلُ مِنْ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ، وَالْمَسْجِدُ أَفْضَلُ مِنَ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ أَفْضَلُ مِنْ بِقَاعِ تِهَامَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنْ كَانَتِ الْخَطَايَا سَوَّدَتْهُ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَبْيَضَّ لَمَّا أَسْلَمَ النَّاسُ.
فَمَنِ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ يَبْيَضَّ بِإِسْلَامِ النَّاسِ؟ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَفَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ.
وَبَعْدُ: فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ وَفَلْسَفَةٍ، فَكَيْفَ ذَهَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ السَّوَادَ يَصْبُغُ وَلَا يَنْصَبِغُ، وَالْبَيَاضَ يَنْصَبِغُ وَلَا يصْبغ.

(1/415)


48- قَالُوا أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ- مَزْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِدُّهُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الْدَّدُ مِنِّي" 1.
وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ لَهُ: "أَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ؟ ".
فَقَالَ: "نَعَمْ، إِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا الْحَقَّ" 2.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ كَانَ يَمْزَحُ، وَأَنَّهُ اسْتَدْبَرَ رَجُلًا مِنْ وَرَائِهِ فَأَخَذَ بِعَيْنَيْهِ وَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ" 3، وَوَقَفَ عَلَى وَفْدِ الْحَبَشَةِ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَزْفِنُونَ4، وَعَلَى أَصْحَابِ الدِّرْكِلَةِ5 وَهُمْ يَلْعَبُونَ.
وَسَابَقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَسَبَقَهَا تَارَةً، وَسَبَقَتْهُ أُخْرَى.
__________
1 غَرِيب الحَدِيث لِابْنِ الْأَثِير، والدد: اللَّهْو واللعب، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد وَالْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى، وَابْن عَسَاكِر عَن أنس وَهُوَ ضَعِيف. ضَعِيف الْجَامِع رقم 4676 و4677. -مُحَمَّد بدير-.
2 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: علم3، وَأحمد: 2/ 207، والدارمي: مُقَدّمَة 43، ومشكاة المصابيح: بَاب المزاح برقم 4885، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 1196، والصحيحة رقم 1532.
3 مشكاة المصابيح: كتاب الْآدَاب، بَاب المزاح حَدِيث رقم 4889.
4 يزفنون: أَي يرقصون من زفن يزفن: رقص. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص1553".
5 الدركلة: لعبة الْعَجم أَو ضرب من الرقص. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص1291".

(1/416)


جَاءَ النَّبِيُّ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَوَضَعَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ الْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي دِينِهِمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي عَدَّدَهَا، وَأَوْجَبَ الشُّكْرَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مَنْ أَحَدٍ فِيهِ غَرِيزَةٌ، إِلَّا وَلَهَا ضِدٌّ فِي غَيْرِهِ. فَمِنَ النَّاسِ الْحَلِيمُ، وَمِنْهُمُ الْعَجُولُ، وَمِنْهُمُ الْجَبَانُ، وَمِنْهُمُ الشُّجَاعُ، وَمِنْهُمُ الْحَيِيُّ، وَمِنْهُمُ الْوَقَاحُ، وَمِنْهُمُ الدَّمِثُ، وَمِنْهُمُ الْعَبُوسُ.
وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي حِينَ خَلَقْتُ آدَمَ، رَكَّبْتُ جَسَدَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَسُخْنٍ وَبَارِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنِّي خَلَقْتُهُ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ، ثُمَّ جَعَلْتُ فِيهِ نَفْسًا وَرُوحًا.
فَيُبُوسَةُ كُلِّ جَسَدٍ خَلَقْتُهُ مِنَ التُّرَابِ، وَرُطُوبَتُهُ مِنْ قِبَلِ الْمَاءِ، وَحَرَارَتُهُ مِنْ قِبَلِ النَّفَسِ، وَبُرُودَتُهُ مِنْ قِبَلِ الرُّوحِ.
وَمِنَ النَّفْسِ حِدَّتُهُ وَخِفَّتُهُ، وَشَهْوَتُهُ وَلَهْوُهُ، وَلَعِبُهُ وَضَحِكُهُ، وَسَفَهُهُ وَخِدَاعُهُ، وَعُنْفُهُ وَخَرْقُهُ.
وَمِنَ الرُّوحِ، حِلْمُهُ وَوَقَارُهُ، وَعَفَافُهُ وَحَيَاؤُهُ، وفهمه وتكرمه، وَصدقه صبره.
أَفَمَا تَرَى أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ مِنْ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ! وَالْغَرَائِزَ لَا تُمْلَكُ!
وَإِنْ مَلَكَهَا الْمَرْءُ بِمُغَالَبَةِ النَّفْسِ وَقَمْعِ الْمُتَطَلِّعِ مِنْهَا، لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الطَّبْعِ.
الطَّبْعُ أَمْلَكُ:
وَكَانَ يُقَالُ: "الطَّبْعُ أَمْلَكُ"، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ يَبْتَدِعْ مَا لَيْسَ مِنْ سُوسِ1 نَفْسِهِ ... يَدَعْهُ وَيَغْلِبْهُ عَلَى النَّفس خيمها
__________
1 سوس نَفسه: من سجيته أَو طَبِيعَته.

(1/417)


"وَقَالَ آخَرُ":
يَا أَيُّهَا الْمُتَحَلِّي غَيْرَ شِيمَتِهِ ... وَمَنْ خَلِيقَتُهُ الْإِقْصَادُ1 وَالْمَلَقُ
ارْجِعْ إِلَى خُلْقِكَ الْمَعْرُوفِ دَيْدَنُهُ ... إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْبَى2 دُونَهُ الْخُلُقُ
وَقَالَ آخَرُ:
كُلُّ امْرِئٍ رَاجِعٌ يَوْمًا لِشِيمَتِهِ ... وَإِنْ تَخَلَّقَ أَخْلَاقًا إِلَى حِينِ
"وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ":
لَا تصحبن امْرَءًا عَلَى حَسَبٍ ... إِنِّي رَأَيْتُ الْأَحْسَابَ قد دُخِلَتْ3
مَالك مِنْ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لَهُ ... أَبًا كَرِيمًا فِي أُمَّةٍ سَلَفَتْ
بَلْ فَاصْحَبْنَهُ عَلَى طَبَائِعِهِ ... فَكُلُّ نَفْسٍ تَجْرِي كَمَا طُبِعَتْ
وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} 4.
وَقَالَ تَعَالَى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 5.
النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ:
وَكَانَ النَّاسُ يَأْتَسُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَشَكْلِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} 6.
فَلَوْ تَرَكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرِيقَ الطَّلَاقَةِ وَالْهَشَاشَةِ وَالدَّمَاثَةِ، إِلَى الْقُطُوبِ وَالْعُبُوسِ وَالزَّمَاتَةِ7 أَخَذَ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، عَلَى مَا فِي مُخَالَفَةِ الْغَرِيزَةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ والعناء.
__________
1 كَذَا وَجَدْنَاهُ بالأصول، وَلَعَلَّ الصَّحِيح: الْإِفْسَاد.
2 وبالدمشقية: يَأْبَى من الإباء: وَهُوَ الِامْتِنَاع، وَفِي نسختين: يَأْتِي، وَالْأولَى أصح.
3 دُخلت: أَصبَحت مدخولة أَي مطعون بهَا.
4 الْآيَة: 19 من سُورَة المعارج.
5 الْآيَة: 37 من سُورَة الْأَنْبِيَاء.
6 الْآيَة: 21 من سُورَة الْأَحْزَاب.
7 الزماتة: أَي الوقر، والزميت: الوقور. "الْقَامُوس الْمُحِيط ص195".

(1/418)


فَمَزَحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَمْزَحُوا، وَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الدِّرْكِلَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ: "خُذُوا يَا بَنِي أَرْفِدَةَ " 1، لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً.
يُرِيدُ مَا يَكُونُ فِي الْعُرُسَاتِ، لِإِعْلَانِ النِّكَاحِ، وَفِي الْمَآدِبِ، لِإِظْهَارِ السُّرُورِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا الْدَّدُ مِنِّي"، فَإِنَّ الْدَّدَ: اللَّهْوُ وَالْبَاطِلُ.
وَكَانَ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ فِي مِزَاحِهِ إِلَّا حَقًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمِزَاحُ دَدًا وَلَا بَاطِلًا.
قَالَ لِعَجُوزٍ: "إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعُجُزُ" 2، يُرِيدُ أَنَّهُنَّ يَعُدْنَ شَوَابَّ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُخْرَى: "زَوْجُكِ فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ"، يُرِيدُ: مَا حَوْلَ الْحَدَقَةِ مِنْ بَيَاضِ الْعَيْنِ، فَظَنَّتْ هِيَ أَنَّهُ الْبَيَاضُ الَّذِي يَغْشَى الْحَدَقَةَ.
وَاسْتَدْبَرَ رَجُلًا مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ"؟
يَعْنِي: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ.
وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ لَيْسَ فِيهِ -بِحَمْدِ اللَّهِ، وَنِعْمَتِهِ- حَرَجٌ، وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ.
تَكْلِيفُ النَّفْسِ بِمَا تُطِيقُ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنَا الزِّيَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن طحلا، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قل" 3.
__________
1 أرفدة: لقب لأبناء الْحَبَشَة وَقيل هُوَ اسْم لجد من جدودهم الأقدمين، ذكره فِي النِّهَايَة.
2 مشكاة المصابيح: بَاب المزاح رقم الحَدِيث 4888.
3 رَوَاهُ البُخَارِيّ: كتاب 19 بَاب 18 و20 وَكتاب 30 بَاب20 و48 و55 و57، وَمُسلم: كتاب 6 ح219 و223، وَكتاب 13 ح181 و182، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 5 بَاب 29 وَكتاب 14 بَاب 54.
وكلف بِهِ: أولع، والتكليف: الْأَمر بِمَا يشق، وتكلفه: تجشمه.

(1/419)


وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ، عَنْ مَعْنٍ الْغِفَارِيِّ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا" 1.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رُفْقَةً مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ كَانُوا فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ فُلَانٍ، يَصُومُ النَّهَارَ، فَإِذَا نَزَلْنَا، قَامَ يُصَلِّي حَتَّى نَرْتَحِلَ.
قَالَ: "مَنْ كَانَ يَمْهُنُ لَهُ، وَيَكْفِيهُ، أَوْ يَعْمَلُ لَهُ"؟
قَالُوا: نَحْنُ، قَالَ: "كُلُّكُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ" 2.
وَقَدْ دَرَجَ الصَّالِحُونَ وَالْخِيَّارُ، عَلَى أَخْلَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّبَسُّمِ وَالطَّلَاقَةِ وَالْمِزَاحِ، بِالْكَلَامِ الْمُجَانِبِ للقدع3 وَالشَّتْمِ وَالْكَذِبِ.
فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكْثِرُ الدُّعَابَةَ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَضْحَكُ حَتَّى يَسِيلَ لُعَابُهُ، وَقَالَ جَرِيرٌ فِي الْفَرَزْدَقِ:
لَقَدْ أَصْبَحَتْ عِرْسُ4 الْفَرَزْدَقِ نَاشِزًا ... وَلَوْ رَضِيَتْ رُمْحَ اسْتِهِ لَاسْتَقَرَّتِ
"وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ، وَتَمَثَّلَ بِهِ ابْنُ سِيرِينَ":
نُبِّئْتُ أَنَّ فَتَاةً كُنْتُ أَخْطُبُهَا ... عُرْقُوبُهَا مِثْلُ شَهْرِ الصَّوْمِ فِي الطُّولِ
أَسْنَانُهَا مِائَةٌ أَوْ زِدْنَ وَاحِدَةً ... وَسَائِرُ الْخَلْقِ مِنْهَا بعد مبطول5
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: إِيمَان 29، وَالنَّسَائِيّ: إِيمَان 28، وَأحمد 5/ 69.
2 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مراسيله عَن أبي قلَابَة.
3 القذع: أَي الْخَنَا وَالْفُحْش.
4 الْعرس: الزَّوْجَة.
5 لَعَلَّ الْأَصَح: "بعد بالطول"، أَي أقل بالطول أسنانًا، وَلم نجده فِي ديوَان الفرزدق.

(1/420)


وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ1، فَقَالَ: "تُوُفِّيَ الْبَارِحَةَ، أَمَا شَعَرْتَ؟ "
فَجَزَعَ الرَّجُلُ وَاسْتَرْجَعَ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعَهُ قَرَأَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} 2.
وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَزْمَتِ3 النَّاسِ إِذَا خَرَجَ، وَأَفْكَهِهِمْ فِي بَيْتِهِ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنِّي لَأَسْتَجِمُّ4 نَفْسِي بِبَعْضِ الْبَاطِلِ، كَرَاهَةَ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ مَا يُمِلُّهَا.
وَكَانَ شُرَيْحٌ يَمْزَحُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ، وَكَانَ صُهَيْبٌ مَزَّاحًا، وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ مَزَّاحًا.
وَكُلُّ هَؤُلَاءِ إِذَا مَزَحَ لَمْ يُفْحِشْ، وَلَمْ يَشْتُمْ، وَلَمْ يَغْتَبْ، وَلَمْ يَكْذِبْ.
وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنَ الْمِزَاحِ مَا خَالَطَتْهُ هَذِهِ الْخِلَالُ، أَوْ بَعْضُهَا.
وَأَمَّا الْمَلَاعِبُ، فَلَا بَأْسَ بِهَا فِي الْمَآدِبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ" 5.
اللَّعِبُ وَالْغِنَاءُ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: خَتَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَنِيهِ، فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ اللَّعَّابِينَ، فَلَعِبُوا فَأَعْطَاهُمْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِم.
__________
1 هِشَام بن حسان الْأَزْدِيّ: مُحدث من أهل الْبَصْرَة، وَكَانَ يكْتب حَدِيثه وَهُوَ من المكثرين عَن الْحسن الْبَصْرِيّ توفّي سنة 147هـ.
2 الْآيَة: 42 من سُورَة الزمر.
3 أزمت النَّاس: أَي أوقرهم.
4 أستجم نَفسِي: أريحها من التَّعَب. من جم الْفرس: ترك فَلم يركب فَعَفَا من تَعبه، "الْقَامُوس الْمُحِيط ص1408".
5 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: كتاب 9 بَاب6، وَالنَّسَائِيّ: كتاب26 بَاب72، وَابْن ماجة: كتاب9 بَاب20، ومسند أَحْمد 4/ 5 و77، وَانْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 1065، وَأما صدر الحَدِيث وَحده فَهُوَ صَحِيح، وَهُوَ قَوْله: "أعْلنُوا النِّكَاح ".

(1/421)


وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: هَلْ كَانَ الْغِنَاءُ يَكُونُ فِي الْعُرُسَاتِ؟
قَالَ: قَدْ كَانَ ذَاكَ، وَلَا يَحْضُرُ بِمَا يَحْضُرُ بِهِ الْيَوْمَ مِنَ السَّفَهِ، دَعَانَا أَخْوَالُنَا بَنُو نَبِيطٍ فِي مَدْعَاةٍ لَهُمْ، فَشَهِدَ الْمَدْعَاةَ، حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَإِذَا جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ:
انْظُرْ خَلِيلِي بِبَابِ جَلِّقَ هَلْ ... تُونِسُ دُونَ الْبَلْقَاءِ مِنْ أَحَدٍ
فَبَكَى حَسَّانُ وَهُوَ مَكْفُوفٌ وَجَعَلَ يَوْمِي إِلَيْهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ زِيدَا، فَلَا أَدْرِي مَاذَا يُعْجِبُهُ مِنْ أَنْ يُبْكِيَا أَبَاهُ.
حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: كَانَ طُوَيْسٌ1 يَتَغَنَّى فِي عُرْسٍ، فَدَخَلَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْعُرْسَ2، وَطُوَيْسٌ يَقُولُ:
أَجَدَّ بِعَمْرَةَ غُنْيَانُهَا3 ... فَتَهْجُرَ أَمْ شَأْنُنَا شَأْنُهَا
وَعَمْرَةُ أُمُّ النُّعْمَانِ فَقِيلَ لَهُ: اسْكُتِ اسْكُتْ.
فَقَالَ النُّعْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، إِنَّمَا قَالَ:
وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ4 النِّسَا ... ء تنفح5 بالمسك أردانها
__________
1 طويس: مخنث كانك يُسمى طاووسًا، فَلَمَّا تخنث أسمي بطويس، وَهُوَ أول من غنى بِالْإِسْلَامِ، وَيُقَال: أشأم من طويس، فقد كَانَ يَقُول: إِن أُمِّي كَانَت تمشي بالتمائم بَين نسَاء الْأَنْصَار ثمَّ ولدتني فِي اللَّيْلَة الَّتِي مَاتَ فِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، وفطمتني يَوْم مَاتَ أَبُو بكر، وَبَلغت الْحلم يَوْم مَاتَ عمر، وَتَزَوَّجت يَوْم قتل عُثْمَان، وَولد لي يَوْم قتل عَليّ، فَمن مثلي؟!
2 النُّعْمَان بن بشير بن سعد الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَهُوَ وَأَبوهُ صحابيان، كَانَ أول مَوْلُود فِي الْإِسْلَام من الْأَنْصَار بعد الْهِجْرَة، اسْتَعْملهُ مُعَاوِيَة على الْكُوفَة، وَكَانَ أول مَوْلُود مفوهًا، ثمَّ دا النُّعْمَان إِلَى ابْن الزبير، ثمَّ دَعَا إِلَى نَفسه، فواقعه مَرْوَان بن الحكم فَقتل النُّعْمَان سنة 65هـ.
3 أَي استفتاؤها.
4 سروات: سيدان.
5 تنفح: تهدي وَتُعْطِي.

(1/422)


49- قَالُوا أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ- الْحَيَاءُ وَالْبَيَانُ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَيِيَّ الْعَيِيَّ الْمُتَعَفِّفَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَهُ، فَقَالَ: مَا الْجَمَالُ؟ فَقَالَ: "فِي اللِّسَانِ".
وَأَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا" 2، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 3، فَجَعَلَ الْبَيَانَ، نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي عَدَّدَهَا.
وَذَكَرَ النِّسَاءَ بِقِلَّةِ الْبَيَانِ فَقَالَ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 4، فَدَلَّ عَلَى نَقْصِ النِّسَاءِ، بِقِلَّةِ الْبَيَانِ، وَهَذِه أَشْيَاء مُخْتَلفَة.
__________
1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "الْحيَاء والعي شعبتان من الْإِيمَان، وَالْبذَاء وَالْبَيَان شعبتان من النِّفَاق" رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: بر 80، وَأحمد: 5/ 269، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع برقم 3201 عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، إِنَّمَا نعرفه من حَدِيث أبي غَسَّان مُحَمَّد بن مطرف، قَالَ: والعي: قلَّة الْكَلَام، وَالْبذَاء: هُوَ الْفُحْش فِي الْكَلَام. وَالْبَيَان: هُوَ كَثْرَة الْكَلَام مثل هَؤُلَاءِ الخطباء الَّذِي يخطبون فيرسعون فِي الْكَلَام ويتفصحون فِيهِ من مدح النَّاس فِيمَا لَا يُرْضِي الله.
وَقد وجدنَا الحَدِيث أَيْضا بِلَفْظ: "إِن اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ" منفضلًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: أدب 86، وَالتِّرْمِذِيّ: أدب 72، وَأحمد: 2/ 165 و187.
2 ذكره الألباني فِي صَحِيح الْجَامِع الصَّغِير برقم 2216 -مُحَمَّد بدير-.
3 الْآيَة: 3 من سُورَة الرَّحْمَن.
4 الْآيَة: 18 من سُورَة الزخرف.

(1/423)


قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ -هَهُنَا- اخْتِلَافٌ، بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعٌ، فَإِذَا وُضِعَ بِهِ زَالَ الِاخْتِلَافُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَيِيَّ الْعَيِيَّ الْمُتَعَفِّفَ"، فَإِنَّهُ يُرِيدُ: السَّلِيمَ الصَّدْرِ، الْقَلِيلَ الْكَلَامِ، الْقَطِيعَ1 عَنِ الْحَوَائِجِ، لِشِدَّةِ الْحَيَاءِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بِعَقِبِ هَذَا الْكَلَامِ: "وَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ السأَّال الْمُلْحِفَ"، وَهَذَا ضِدُّ الْأَوَّلِ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ عِبَادَهُ عَلَى فَضْلِ اللَّدِّ2 وَطُولِ اللِّسَانِ، وَلُطْفِ الْحِيلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَنَافِعُ، وَفِي بَعْضِهِ زِينَةٌ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ"3، يُرَادُ: الَّذِينَ سَلِمَتْ صُدُورُهُمْ لِلنَّاسِ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْغَفْلَةُ.
وَأَنْشَدْنَا لِلنَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ:
وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ مَيَّالَةٍ ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا
وَذَكَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَمَانًا فَقَالَ: "خَيْرُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كُلُّ نُوَّمَةٍ" يَعْنِي: الْمَيِّتَ الدَّاءِ "أُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ، لَيْسُوا بِالْعُجُلِ الْمَذَايِيعِ البُذُر"5.
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ6، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِن الله يحب الأخفياء
__________
1 القطيع: أَي الْمَقْطُوع.
2 اللد: أَي زِيَادَة الْخُصُومَة، وَلَده: أَي خَصمه.
3 حَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ الْبَزَّار عَن أنس، انْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 1194، وتأ, يل ابْن قُتَيْبَة للْحَدِيث متكلف بعيد. -مُحَمَّد مُحَمَّد بدير-
4 وَفِي نُسْخَة: "مَرَرْت".
5 المذابيع الْبذر: الَّذين يذيعون أَي يفشون الْكَلَام بَين النَّاس وينقلون الحَدِيث على وَجه النميمة، وَذَلِكَ كَمَا تبذر الْحُبُوب.
6 معَاذ بن جبل الْأنْصَارِيّ الخزرجي، الإِمَام الْمُقدم فِي علم الْحَلَال وَالْحرَام، شهد الْمشَاهد كلهَا، أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم على الْيمن، كَانَ من أفضل الْأَنْصَار حلمًا وحياة وسخاة، قدم من الْيمن فِي خلَافَة أبي بكر، كَانَت وَفَاته بالطاعون فِي الشَّام سنة 17هـ.

(1/424)


الأتقياء الْأَبْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا" 1.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَةِ لَهُ: "أَلَا إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا، كَمَنْ رَأَى أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ، وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ، شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، وَحَوَائِجُهُمْ خَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّامًا يَسِيرَةً، لِعُقْبَى رَاحَةٍ طَوِيلَةٍ. أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، مِمَّا يَجْأَرُونَ2 إِلَى رَبِّهِمْ "رَبَّنَا رَبَّنَا". وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ، كَأَنَّهُمُ الْقِدَاحُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَقُولُ: مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، وَخُولِطُوا، وَلَقَدْ خَالَطَ الْقَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ".
وَذكر بن عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْفَتَى الَّذِي كَلَّمَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَلَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ عَيٍّ بِهِمْ، وَلَا بَكَمٍ، وَأَنَّهُمْ لَهُمُ النُّبَلَاءُ النُّطَقَاءُ الْفُصَحَاءُ، الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَيَّامِهِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ فَرَقًا3 مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَيْبَةً لَهُ".
فَهَذِهِ الْخِلَالُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يُنْكَرُ -مَعَ هَذَا- أَنْ يَكُونَ الْجَمَالُ فِي اللِّسَانِ، وَلَا أَنْ تَكُونَ الْمُرُوءَةُ فِي الْبَيَانِ، وَلَا أَنَّهُ زِينَةٌ مِنْ زِيَنِ الدُّنْيَا، وَبَهَاءٌ مِنْ بَهَائِهَا، مَا صَحِبَهُ الِاقْتِصَادُ، وَسَاسَهُ الْعَقْلُ، وَلَمْ يَمِلْ بِهِ الِاقْتِدَارُ عَلَى الْقَوْلِ إِلَى أَنْ يُصَغِّرَ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُعَظِّمَ صَغِيرًا، أَوْ يَنْصُرَ الشَّيْءَ وَضِدُّهُ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ.
وَهَذَا هُوَ الْبَلِيغُ الَّذِي يَبْغَضُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْغَضُكُمْ إِلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ" 4.
__________
1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "إِن الله يحب الْأَبْرَار الأتقياء الأخفياء"، رَوَاهُ ابْن ماجة: فتن 16، وَأحمد: 3/ 462.
2 يجأرون: يَتَضَرَّعُونَ بِالدُّعَاءِ وَذَلِكَ بِرَفْع الصَّوْت والاستغاثة.
3 فرقا: أَي خوفًا وفزعًا.
4 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: بر 71، وَأحمد 3/ 369، 4/ 193، 194، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع برقم 535 =

(1/425)


وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِلِسَانِهِ.
وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"، يُرِيدُ: أَنَّ مِنْهُ مَا يُقَرِّبُ الْبَعِيدَ، وَيُبَاعِدُ الْقَرِيبُ، وَيُزَيِّنُ الْقَبِيحَ وَيُعَظِّمُ الصَّغِيرَ، فَكَأَنَّهُ سِحْرٌ وَمَا قَامَ مَقَامَ السِّحْرِ، أَوْ أَشْبَهَهُ، أَوْ ضَارَعَهُ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا أَنَّ السِّحْرَ مُحَرَّمٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُخْتَارِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "إِذَا شِئْتَ لَقِيتَهُ أَبْيَضَ بَضًّا1، حَدِيدَ النَّظَرِ، مَيِّتَ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ، أَنْتَ أَبْصَرَ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ، تَرَى أَبْدَانًا وَلَا قُلُوبَ، وَتَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا أَنِيسَ، أَخْصَبُ أَلْسِنَة، وأجدب قلوبًا".
__________
= والصحيحة برقم 791، وَقد رَوَاهُ ابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان كلهم عَن ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيب عَن جَابر فَلَعَلَّ طرقه عِنْد غير التِّرْمِذِيّ أصح، وَالله أعلم.
وَقد رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: "إِن من أحبكم إِلَى وأقربكم مني مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة أحاسنكم أَخْلَاقًا، وَإِن أبغضكم إِلَيّ وأبعدكم مني مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قَالُوا: يَا رَسُول الله قد علمنَا الثرثارون والمتشدقون، فَمَا المتفيهقون؟ قَالَ: المتكبرون".
قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وروى بَعضهم هَذَا الحَدِيث عَن الْمُبَارك بن فضَالة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم. والثرثار: هُوَ الْكثير الْكَلَام. والمتشدق: الَّذِي يَتَطَاوَل على النَّاس فِي الْكَلَام ويبدو عَلَيْهِم.
1 البض: الرُّخص الْجَسَد، الرَّقِيق الْجلد، الممتلئ.

(1/426)


50- قَالُوا: حَدِيثٌ يَنْقُضُهُ الْقُرْآنُ- مِيرَاثُ النُّبُوَّةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّا -مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ- لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ" 1.
وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} 2.
خلاف قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3.
قَالُوا: "وَقَدْ طَالَبَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِيرَاثِ أَبِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يُعْطِهَا إِيَّاهُ، حَلَفَتْ لَا تُكَلِّمُهُ أَبَدًا، وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ لَيْلًا، لِئَلَّا يَحْضُرَهَا، فَدُفِنَتْ لَيْلًا"4.
وَاخْتَصَمَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لَمْ يُوَرِّثِ الْأَنْبِيَاءُ مَالًا:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: "إِنَّا -معشر
__________
1 رَوَاهُ أَحْمد: 3/ 462.
2 الْآيَة: 5 من سُورَة مَرْيَم.
3 الْآيَة: 16 من سُورَة النَّمْل.
4 رَوَاهُ البُخَارِيّ: خمس 1 وفضائل أَصْحَاب النَّبِي12 وَمَغَازِي 38، وَالنَّسَائِيّ: جِهَاد 52 و54، وَأحمد: 1 و6 و2/ 353.

(1/427)


الْأَنْبِيَاء- لَا نُورَثُ"، لَيْسَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ:
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ؛ لِأَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُرِدْ: "يَرِثُنِي مَالِي"، فَيَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
وَأَيُّ مَالٍ كَانَ لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَضِنُّ بِهِ عَنْ عَصَبَتِهِ، حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا يَرِثُهُ؟
لَقَدْ جَلَّ هَذَا الْمَالُ إِذًا، وَعَظُمَ -عِنْدَهُ- قَدْرُهُ وَنَافَسَ عَلَيْهِ مُنَافَسَةَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا الَّذِينَ لَهَا يَعْمَلُونَ، وَلِلْمَالِ يَكْدَحُونَ.
وَإِنَّمَا كَانَ زَكَرِيَّا بْنُ آذَنِ نَجَّارًا، وَكَانَ حَبْرًا كَذَلِكَ.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ.
زُهْدُ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ:
وَكَذَلِكَ الْمَشْهُورُ عَنْ يَحْيَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمْوَالٌ، وَلَا مَنَازِلُ يَأْوِيَانِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا كَانَا سَيَّاحَيْنِ فِي الْأَرْضِ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ يَحْيَى لَمْ يَرِثْهُ مَالًا، أَنَّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ -وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ- فَكَانَ يَخْدُمُ فِيهِ، ثُمَّ اشْتَدَّ خَوْفُهُ فَسَاحَ وَلَزِمَ أَطْرَافَ الْجِبَالِ وَغِيرَانَ الشِّعَابِ1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَبَلَغَنِي عَنِ اللَّيْثِ2 بْنِ سعد عَن بن لَهِيعَةَ3 عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: دَخَلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بَيت
__________
1 غيران: مَعَ غَار وَهُوَ الفجوة فِي الْجَبَل المنخفض فِيهِ أَو كل مطمئن من الأَرْض أَو الْحجر يأوي إِلَيْهِ الوحشي.
2 اللَّيْث بن سعد بن عبد الرَّحْمَن، ك ولد عَام 94هـ، وَهُوَ إِمَام أهل مصر فِي عصره حَدِيثا وفقهًا، أَصله من خُرَاسَان، ومولده فِي قلقشنده، ووفاته فِي الْقَاهِرَة 175هـ، وَكَانَ من الكرماء الأجواد. وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: اللَّيْث أفقه من مَالك إِلَّا أَن أَصْحَابه لم يقومُوا بِهِ.
3 هُوَ عبد الله بن لَهِيعَة بن عقبَة الْحَضْرَمِيّ الغافقي المصرىي، قَاضِي مصر وعالمها، قَالَ أَحْمد: احترقت كتبه فَمن كتب عَنهُ قَدِيما فسماعه صَحِيح، مَاتَ سنة 174هـ.

(1/428)


الْمُقَدّس، وَهُوَ بن ثَمَانِي حِجَجٍ، فَنَظَرَ إِلَى عُبَّادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَدْ لَبِسُوا مِنْ مَدَارِعِ الشَّعَرِ، وَبَرَانِسِ الصُّوفِ، وَنَظَرَ إِلَى مُتَهَجِّدِيهِمْ قَدْ خَرَقُوا التَّرَاقِيَ، وَسَلَكُوا فِيهَا السَّلَاسِلَ، وَشَدُّوهَا إِلَى حَنَايَا بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَهَالَهُ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى أَبَوَيْهِ فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ.
فَقَالُوا: يَا يَحْيَى، هَلُمَّ، فَلْنَلْعَبْ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِلَّعِبِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} 1.
فَأَتَى أَبَوَيْهِ فَسَأَلَهُمَا أَنْ يُدَرِّعَاهُ الشَّعَرَ فَفَعَلَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ يَخْدُمُ فِيهِ نَهَارًا، وَيُسَبِّحُ فِيهِ لَيْلًا، حَتَّى أَتَتْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ حِجَّةً وَأَتَاهُ الْخَوْفُ، فَسَاحَ، وَلَزِمَ أَطْرَافَ الْأَرْضِ2 وَغِيرَانَ الشِّعَابِ.
وَخَرَجَ أَبَوَاهُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَاهُ، حِينَ نَزَلَا مِنْ جِبَالِ الْبَثْنِيَّةِ عَلَى بُحَيْرَةِ الْأُرْدُنِّ، وَقَدْ قَعَدَ عَلَى شَفِيرِ الْبُحَيْرَةِ، وَأَنْقَعَ قَدَمَيْهِ فِي الْمَاءِ، وَقَدْ كَادَ الْعَطَشُ يَذْبَحُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: "وَعِزَّتُكَ، لَا أَذُوقُ بَارِدَ الشَّرَابِ، حَتَّى أَعْلَمَ أَيْنَ مَكَانِي مِنْكَ".
فَسَأَلَهُ أَبَوَاهُ أَنْ يَأْكُلَ قُرْصًا مِنَ الشَّعِيرِ كَانَ مَعَهُمَا، وَيَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَمُدِحَ بِالْبِرِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} 3،وَرَدَّهُ أَبَوَاهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
فَكَانَ إِذَا قَامَ فِي صِلَاتِهِ بَكَى، وَيَبْكِي زَكَرِيَّا لِبُكَائِهِ، حَتَّى يُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، حَتَّى خَرَقَتْ دُمُوعُهُ لَحْمَ خَدَّيْهِ.
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا يَحْيَى، لَوْ أَذِنْتَ لِي لَاتَّخَذْتُ لَكَ لِبْدًا، يُوَارِي هَذَا الْخَرْقَ.
قَالَ: أَنْتِ وَذَاكَ، فَعَمَدَتْ إِلَى قِطْعَتَيْ لُبُودٍ، فَأَلْصَقَتْهُمَا عَلَى خديه،
__________
1 الْآيَة: 12 من سُورَة مَرْيَم.
2 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "أَطْرَاف الْجبَال".
3 الْآيَة: 14 من سُورَة مَرْيَم.

(1/429)


فَكَانَ إِذَا بَكَى، اسْتَنْقَعَتْ دُمُوعُهُ فِي الْقِطْعَتَيْنِ فَتَقُومُ أُمُّهُ فَتَعْصِرُهُمَا، فَكَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى دُمُوعِهِ تَجْرِي عَلَى ذِرَاعَيْ أُمِّهِ قَالَ:
"اللَّهُمَّ هَذِهِ دُمُوعِي، وَهَذِهِ أُمِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنْتَ الرَّحْمَنُ.
فَأَيُّ مَالٍ عَلَى مَا تَسْمَعُ وَرِثَهُ يَحْيَى؟ وَأَيُّ مَالٍ وَرِثَهُ زَكَرِيَّا؟ وَإِنَّمَا كَانَ نجارًا وحبرًا.
قَول ابْن عَبَّاس فِي مِيرَاث يحيى:
وَقد قَالَ بن عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ؛ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} ، أَيْ: يَرِثُنِي الْحُبُورَةَ، وَكَانَ حَبْرًا.
{وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، أَيْ: يَرِثُ الْمُلْكَ، وَكَانَ مِنْ وَلَدِ دَاوُدَ، مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَى وِرَاثَةِ الْحُبُورَةِ، وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى وِرَاثَةِ الْمُلْكِ.
وَكَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَرِهَ أَنْ يَرِثَهُ ذَلِكَ عَصَبَتُهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَهَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلَدًا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَرِثُهُ عِلْمَهُ.
وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} 1.
وِرَاثَةُ سُلَيْمَانَ لِدَاوُدَ:
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 5، فَإِنَّهُ أَرَادَ وِرْثَهُ3 الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَبِيًّا وَمَلِكًا، وَالْمُلْكُ: السُّلْطَانُ وَالْحُكْمُ وَالسِّيَاسَةُ، لَا المَال.
__________
1 الْآيَة: 89 من سُورَة الْأَنْبِيَاء.
2 الْآيَة: 16 من سُورَة النَّمْل.
3 وَفِي نُسْخَة: "وَرَثَة الْملك".

(1/430)


وَلَوْ كَانَ أَرَادَ وِرَاثَةَ مَالِهِ، مَا كَانَ فِي الْخَبَرِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَبْنَاءَ يَرِثُونَ الْآبَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَن كل بن يَقُومُ1 مَقَامَ أَبِيهِ فِي الْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُورَثُ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرِثُ بَعْدَ أَنْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ وِرَاثَتُهُ أَبَوَيْهِ قَبْلَ الْوَحْيِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، قَالَ: حَدثنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، أَنَّ أُمَّ أَيْمَنَ مِمَّا وَرِثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن أمه، و"شقران" مِمَّا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ.
وَكَيْفَ يَأْكُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَاثَ، وَهُوَ يَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، يَذُمُّ قَوْمًا فَقَالَ: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} 3.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ3، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فِي مِيرَاثِ مَوْلًى لَهُ وَقَعَ مِنْ نَخْلَةٍ، فَسَأَلَ: "هَلْ تَرَكَ وَلَدًا؟ " قَالُوا: لَا.
قَالَ: "فَهَلْ تَرَكَ حَمِيمًا"؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ: "فَأَعْطُوهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ".
وَكَأَنَّهُ تَنَزَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ مِيرَاثِهِ، فَآثَرَ بِهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ"4.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: "يُقَام".
2 الْآيَة: 18 من سُورَة الْفجْر.
3 عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام ولد عَام 22هـ، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ، كَانَ عَالما بِالدّينِ صَالحا كَرِيمًا لم يدْخل فِي شيؤ من الْفِتَن، وانتقل إِلَى الْبَصْرَة، ثمَّ إِلَى مصر فَتزَوج وَأقَام بهَا سبع سِنِين، وَعَاد إِلَى الْمَدِينَة فَتوفي فِيهَا عَام 93هـ.
4 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: فَرَائض 8، وَأحمد: 6/ 175، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن، انْظُر جَامع الْأُصُول رقم 7432.

(1/431)


وَأَمَّا مُنَازَعَةُ فَاطِمَةَ، أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مِيرَاثِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَنَّتْ أَنَّهَا تَرِثُهُ كَمَا يَرِثُ الْأَوْلَادُ آبَاءَهُمْ.
فَلَمَّا أَخْبَرَهَا بِقَوْلِهِ، كَفَّتْ.
وَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَنَعَ فَاطِمَةَ حَقَّهَا مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهَا، وَهُوَ يُعْطِي الْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ حُقُوقَهُمْ؟
وَمَا مَعْنَاهُ1 فِي دَفْعِهَا عَنْهُ، وَهُوَ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِوَلَدِهِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ؟ وَإِنَّمَا أَجْرَاهُ مَجْرَى الصَّدَقَةِ، وَكَانَ دَفْعُ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ أَوْلَى بِهِ.
وَكَيْفَ يَرْكَبُ مِثْلَ هَذَا وَيَسْتَحِلُّهُ مِنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ يَرُدُّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مَا بَقِيَ فِي يَدَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مُذْ وَلِيَ؟ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى جِهَةِ الْأُجْرَةِ، فَجَعَلَ قِيَامَهُ لَهُمْ صَدَقَةً عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: انْظُرِي يَا بُنَيَّةُ، فَمَا زَادَ فِي مَالِ أَبِي بَكْرٍ، مُذْ وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ، فَرُدِّيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَاللَّهِ مَا نِلْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مَا أَكَلْنَا فِي بُطُونِنَا مِنْ جَرِيشِ2 طَعَامِهِمْ، وَلَبِسْنَا عَلَى ظُهُورِنَا مِنْ خَشِنِ ثِيَابِهِمْ.
فَنَظَرَتْ فَإِذْ بِكُرٍّ وَجَرْدٍ قَطِيفَةٍ، لَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَحَبَشِيَّةٍ3.
فَلَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ كَلَّفَ مَنْ بَعْدَهُ تَعَبًا".
وَلَوْ كَانَ مَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ ظُلْمًا لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لَرَدَّهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -حِينَ وَلِيَ- عَلَى وَلَدهَا.
__________
1 مَعْنَاهُ: مَقْصُوده.
2 الجرشِي: الْحُبُوب الَّتِي لم ينعم دقها.
3 الحبشية: النَّاقة شَدِيدَة السوَاد.

(1/432)


وَأَمَّا مُخَاصَمَةُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ يَصِحُّ لِي مَعْنَاهُ.
وَكَيْفَ يَتَخَاصَمَانِ فِي شَيْءٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِمَا؟ أَوْ يَتَحَاقَّانِ شَيْئًا قَدْ مُنِعَاهُ؟
وَكِلَاهُمَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهُمَا إِذَا وَرِثَا، كَانَ بَعْدَ ثَمَنِ نِسَائِهِ لِعَلِيٍّ مِنْ حَقِّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا النِّصْفُ، وَلِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّصْفُ1 مَعَ فَاطِمَةَ فَفِي أَيِّ شَيْءٍ اخْتَصَمَا؟
وَإِنَّمَا كَانَ الْوَجْهُ فِي هَذَا، أَنْ يُخَاصِمَا أَبِي بَكْرٍ، وَقَدِ اخْتَصَمَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَلَّاهُمَا الْقِيَامَ بِذَلِكَ، وَإِلَى عُثْمَانَ بَعْدُ. وَهَذَا تَنَازُعٌ، لَهُ وَجْهٌ وَسَبَبٌ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: وللعباس رَضِي الله عَنهُ مَا بَقِي.

(1/433)


51- قَالُوا أَحَادِيثُ مُتَنَاقِضَةٌ- الرَّضَاعُ بَعْدَ الْفِصَالِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ" 1.
وَقَالَ: "انْظُرْنَ، مَا إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ" 2.
يُرِيدُ مَا رَضَعَهُ الصَّبِيُّ، فَعَصَمَهُ مِنَ الْجُوعِ.
ثمَّ رويتم عَن بن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ3، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ4 مِنْ دُخُولِ "سَالِمٍ" عَلَيَّ كَرَاهَةً.
فَقَالَ: "أَرْضِعِيهِ، قَالَتْ: أُرْضِعُهُ، وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟! " فَضَحِكَ -ثُمَّ قَالَ: "أَلَسْتُ أعلم أَنه رجل كَبِير؟ " 5.
__________
1 رَوَاهُ ابْن ماجة: نِكَاح 37.
2 رَوَاهُ مُسلم: كتاب 18 حَدِيث 32، وَأَبُو دَاوُد كتاب 12 بَاب8، وَالنَّسَائِيّ: كتاب26 بَاب 51، وَابْن ماجة: كتاب9 بَاب 37، وَأحمد: 6/ 93 و138 و174 و214، وَالطَّيَالِسِي برقم 1412، والموطأ: رضَاع 6 و15 و10، والْحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان برقم921.
3 عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق الْقرشِي، أَبُو مُحَمَّد: من سَادَات أهل الْمَدِينَة فقهًا وعلمًا وحفظًا للْحَدِيث وإتقانًا، توفّي فِي الشَّام 126هـ.
4 أَبُو حُذَيْفَة بن عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شمس صَحَابِيّ هَاجر إِلَى الْحَبَشَة ثمَّ إِلَى الْمَدِينَة وَشهد بَدْرًا وأحدًا وَالْخَنْدَق والمشاهد كلهَا وَقتل يَوْم الْيَمَامَة 12هـ.
5 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير: الرَّضَاع2، وَمُسلم: كتاب الرَّضَاع بَاب رضاعة الْكَبِير7.

(1/434)


وَقُلْتُمْ: قَالَ مَالِكٌ عَنِ الزَّهْرِيِّ: إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُفْتِي: بِأَنَّ الرَّضَاعَ يُحَرِّمُ بَعْدَ الْفِصَالِ حَتَّى مَاتَتْ"1، تَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ سَالِمٍ.
قَالُوا: وَهَذَا طَرِيقٌ -عِنْدَكُمْ- مُرْتَضًى صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ وَلَا يُدْفَعَ.
حَدِيثُ رَضَاعِ سَالِمٍ وَهُوَ كَبِيرٌ خَاصٌّ بِهِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ.
وَقَدْ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ كَانَ ل"سَالم" خَاصَّةً، غَيْرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُبَيِّنَّ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا ل"سَالم".
وَنَحْنُ مُخْبِرُونَ عَنْ قِصَّةِ أَبِي حُذَيْفَة و"سَالم" وَالسَّبَبِ بَيْنَهُمَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
أما أَبُو حُذَيْفَة، فَهُوَ بن عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَتَيْنِ جَمِيعًا. وَهُنَاكَ وُلِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَقِيلَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَلَا عَقِبَ لَهُ.
وَأَمَّا "سَالِمٌ" مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فَإِنَّهُ بَدْرِيٌّ، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا. وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ: "لَوْ كَانَ سَالِمٌ حَيًّا، مَا تَخَالَجَنِي فِيهِ الشَّكُّ".
يُرِيدُ: لَقَدَّمْتُهُ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ إِلَى أَنْ يَتَّفِقَ أَصْحَابُ الشُّورَى عَلَى تَقْدِيمِ رَجُلٍ مِنْهُم، ثمَّ قدم صهيبًا.
__________
1 وَقَالَ الإِمَام النَّوَوِيّ رَحمَه الله: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَقَالَت: عَائِشَة وَدَاوُد: تثبت حُرْمَة الرَّضَاع برضاع الْبَالِغ، كَمَا تثبت برضاع الطف لهذ االحَدِيث. وَقَالَ سَائِر الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وعلماء الْأَمْصَار إِلَى الْآن: لَا يثبت إِلَى بإرضاع من لَهُ دون سنتَيْن إِلَّا با حنيفَة فَقَالَ: سنتَيْن وَنصف. وَاحْتج الْجُمْهُور بقوله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، والْحَدِيث الَّذِي ذكره مُسلم: "إِنَّمَا الرَّضَاع من المجاعة"، وحملوا حَدِيث سهلة على أَنه مُخْتَصّ بهَا وَسَالم. وَقد روى مُسلم عَن أم سَلمَة وَسَائِر أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُنَّ خالفن عَائِشَة فِي هَذَا.

(1/435)


وَكَانَ "سَالِمٌ" عَبْدًا لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهَا.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ سَلْمَى مِنْ بَنِي خَطْمَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ ثُبَيْتَةُ1.
وَكُلُّهُمْ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ، فَأَعْتَقَتْهُ، فَتَوَلَّى أَبَا حُذَيْفَةَ وَتَبَنَّاهُ، فَنُسِبَ إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ.
وَاسْتُشْهِدَ "سَالِمٌ" يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَوَرِثَتْهُ الْمُعْتِقَةُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ وَلَا وَارِثٌ غَيْرَهَا.
وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُ بِهِ، دَلِيلٌ على تقدم أبي حُذَيْفَة، و"سَالم" فِي الْإِسْلَامِ، وَجَلَالَتِهِمَا، وَلُطْفِ مَحَلِّهِمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا ذَكَرَتْ لَهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ مَا تَرَاهُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، مِنْ دُخُول "سَالم" عَلَيْهَا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى مَوْلَاتِهِ الْمُعْتِقَةُ لَهُ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهَا كَمَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ النَّاشِئُ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ يُعْتَقُ، فَيَدْخُلُ أَيْضًا بِالْإِلْفِ الْمُتَقَدّم والتربية.
الترخيص فِي الدُّخُول لبَعض الرِّجَال بِأَسْبَاب:
وَهَذَا مَالا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مِنْ مَثَلِ "سَالِمٍ" وَمِمَّنْ هُوَ دُونَ سَالِمٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي دُخُول من ملكهن عَلَيْهِنَّ، وَدُخُولِ مَنْ لَا إِرْبَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالطِّفْلِ، وَالْخَصِيِّ، وَالْمَجْبُوبِ، وَالْمُخَنَّثِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَبَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِم، فَقَالَ تَعَالَى:
__________
1 بِهَامِش الدمشقية مَا نَصه: قَوْله ثبيته كجهينة، وشاهدته فِي أصل الْحَافِظ أبي بكر الْخَطِيب" بثينة"، وَقد كتب الْحَافِظ أَبُو الْفضل بن نَاصِر بِخَطِّهِ مَا صورته، قَالَ ابْن نَاصِر الْبَغْدَادِيّ: كَذَا وَقع فِي الرِّوَايَة "بثينة" وَهُوَ خطأ وتصحيف، وَالصَّوَاب "ثبيته". ذكر ذَلِك الدَّارَقُطْنِيّ الْحَافِظ وَغَيره من الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين. وَالْعجب من أبي بكر الْخَطِيب كَيفَ ذهب عَلَيْهِ هَذَا؟ وَقد قَرَأَ هَذَا الْكتاب مرَارًا كَثِيرَة، وَهِي مَعْرُوفَة مَشْهُورَة، كَذَا بِهَامِش ا. هـ، بالحروف -"الاسعردي".

(1/436)


{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} يَعْنِي الْمُسْلِمَاتِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يَعْنِي الْعَبِيدَ {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} 1، يَعْنِي مَنْ يَتْبَعُ الرَّجُلَ وَيَكُونُ فِي حَاشِيَتِهِ كَالْأَجِيرِ، وَالْمَوْلَى، وَالْحَلِيفِ، وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ يَخْلُو "سَالِمٌ" مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فِي النِّسَاءِ.
وَلَعَلَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْقِبْ، أَوْ يَكُونُ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، مِنَ الْوَرَعِ وَالدِّيَانَةُ وَالْفَضْلِ، وَمَا خَصَّهُ بِهِ، حَتَّى رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ أَهْلًا لِأُخُوَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَأْمُونًا عِنْدَهُ، بَعِيدًا عَنْ تَفَقُّدِ النِّسَاءِ وَتَتَبُّعِ مَحَاسِنِهِنَّ بِالنَّظَرِ.
وَقَدْ رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُسْفِرْنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِنَّ لِلْقَاضِي وَالشُّهُودِ، وَصُلَحَاءِ الْجِيرَانِ. وَرُخِّصَ لِلْقَوَاعِدِ مِنَ النِّسَاءِ، وَهُنَّ الطَّاعِنَاتُ فِي السِّنِّ، أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ، غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ.
وَقَدْ كَانَ "سَالِمٌ" يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَتَرَى هِيَ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَلَوْلَا أَنَّ الدُّخُولَ كَانَ جَائِزًا مَا دَخَلَ، وَلَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَنْهَاهُ.
فَأَرَادَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بِمَحَلِّهَا عِنْدَهُ، وَمَا أَحَبَّ مِنَ ائْتِلَافِهِمَا، وَنَفْيِ الْوَحْشَةِ عَنْهُمَا -أَنْ يُزِيلَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ، وَيُطَيِّبَ نَفْسَهُ بِدُخُولِهِ فَقَالَ لَهَا: "أَرْضِعِيهِ"، وَلَمْ يُرِدْ: ضَعِي ثَدْيَكِ فِي فِيهِ، كَمَا يُفْعَلُ بِالْأَطْفَالِ، وَلَكِنْ أَرَادَ: احْلِبِي لَهُ مِنْ لَبَنِكِ شَيْئًا، ثُمَّ ادْفَعِيهِ إِلَيْهِ لِيَشْرَبَهُ.
لَيْسَ يَجُوزُ غَيْرُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِسَالِمٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ثَدْيَيْهَا، إِلَى أَنْ يَقَعَ الرَّضَاعُ، فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ، مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَمَا لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنَ الشَّهْوَةِ؟
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرْضِعُهُ، وَهُوَ كَبِيرٌ؟! فَضَحِكَ وَقَالَ: "أَلَسْتُ أَعْلَمُ أَنه كَبِير"؟
__________
1 الْآيَة: 31 من سُورَة النُّور.

(1/437)


وَضَحِكُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَلَطَّفَ بِهَذَا الرَّضَاعِ، لِمَا أَرَادَ مِنَ الِائْتِلَافِ وَنَفْيِ الْوَحْشَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَكُونَ دُخُولُ سَالِمٍ، كَانَ حَرَامًا، أَوْ يَكُونُ هَذَا الرَّضَاعُ أَحَلَّ شَيْئًا كَانَ مَحْظُورًا، أَوْ صَارَ سَالِمٌ لَهَا بِهِ ابْنًا.
وَمِثْلُ هَذَا، مِنْ تَلَطُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الْحَسَنِ: "أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ بِرَجُلٍ قَدْ قَتَلَ حَمِيمًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَفَتَعْفُو؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَاذْهَبْ فَاقْتُلْهُ". قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزَ بِهِ الرَّجُلُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" 1، فَخُبِّرَ الرَّجُلُ بِمَا قَالَ، فَتَرَكَهُ، فَوَلَّى وَهُوَ يَجُرُّ نِسْعَهُ2 فِي عُنُقِهِ.
وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ، وَاسْتِيجَابِ النَّارِ، إِنْ قَتَلَهُ. وَكَيْفَ يُرِيدُ هَذَا، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَهُ بِالْقِصَاصِ؟!! وَلَكِنَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَأَحَبَّ لَهُ الْعَفْوَ، فَأَوْهَمَهُ أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْإِثْمِ لِيَعْفُوَ عَنْهُ.
وَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ نَفْسًا، كَمَا قَتَلَ الْأَوَّلُ نَفْسًا، فَهَذَا قَاتِلٌ، وَذَاكَ قَاتِلٌ.
فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي قَاتِلٍ وَقَاتِلٍ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ ظَالِمٌ، وَالْآخَرَ مُقْتَصٌّ.
__________
1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: سفر20، وَالنَّسَائِيّ: تَحْرِيم 1 قسَامَة7، وَابْن ماجة ديات 34، والدرامي: سير10، وَأحمد: 3/ 15، 4/ 8، والْحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم برقم 1680 فِي كتاب: الْقسَامَة.
2 وَالتسع: سير ينسج عريضًا على هَيْئَة أَعِنَّة النِّعَال تشد بِهِ الرّحال، وَسمي نسعًا لطوله. "الْقَامُوس ص990".
قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح فِي تَأْوِيله أَنه مثله فِي أَنه لَا فضل وَلَا منَّة لأَحَدهمَا على الآخر؛ لِأَنَّهُ يسْتَوْف حَقه مِنْهُ بِخِلَاف مَا لَو عَفا عَنهُ، فَإِنَّهُ يكون لَهُ الْفضل والْمنَّة وجزيل ثَوَاب الْآخِرَة وَجَمِيل الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا. أَو المُرَاد كنت مثله إِن كَانَ الْقَاتِل صَادِقا فِي دَعْوَى أَن الْقَتْل لم يكن عمدا، وَالله تَعَالَى أعلم.

(1/438)


53- قَالُوا: حَدِيثٌ يَدْفَعُهُ الْكِتَابُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ- دَاجِنٌ تَأْكُلُ صَحِيفَةً مِنَ الْكِتَابِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "لَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ، وَرَضَاعِ الْكَبِيرِ عَشْرًا، فَكَانَتْ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَشُغِلْنَا بِهِ، دَخَلَتْ دَاجِنٌ لِلْحَيِّ، فَأَكَلَتْ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ"1.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 2، فَكَيْفَ يَكُونُ عَزِيزًا، وَقَدْ أَكَلَتْهُ شَاةٌ، وَأَبْطَلَتْ فَرْضَهُ، وَأَسْقَطَتْ حُجَّتَهُ؟
وَأَيُّ أَحَدٍ يَعْجَزُ عَنْ إِبْطَالِهِ، وَالشَّاةُ تُبْطِلُهُ؟
وَكَيْفَ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3، وَقَدْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ مَا يَأْكُلُهُ؟
وَكَيْفَ عَرَّضَ الْوَحْيَ لِأَكْلِ شَاةٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِحْرَازِهِ وَصَوْنِهِ؟
وَلِمَ أَنْزَلَهُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْعَمَلَ بِهِ؟
__________
1 أخرجه ابْن ماجة: فِي كتاب النِّكَاح بَاب رقم36 بَاب رضاعة الْكَبِير رقم الحَدِيث 1944، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، وَقد رَوَاهُ مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن بِدُونِ ذكر أَن داجنا أكلت الصَّحِيفَة، وَالَّتِي هِيَ مَحل الشَّاهِد. والداجن: هِيَ الشَّاة يعلفها النَّاس فِي مَنَازِلهمْ، وَقد يَقع على غير الشَّاة من كل مَا يألف الْبيُوت من الطير وَغَيرهَا.
2 الْآيَة: 42 من سُورَة فصلت.
3 الْآيَة: 3 من سُورَة الْمَائِدَة.

(1/439)


الصُّحُفُ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي عَجِبُوا مِنْهُ كُلِّهِ، لَيْسَ فِيهِ عَجَبٌ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا اسْتَفْظَعُوا مِنْهُ فَظَاعَةٌ.
فَإِنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنَ الصَّحِيفَةِ، فَإِنَّ الصُّحُفَ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى مَا كُتِبَ بِهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَهُ فِي الْجَرِيدِ، وَالْحِجَارَةِ، وَالْخَزَفِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا ذَلِك.
قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَمَرَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَمْعِهِ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ والعسب، واللخاف. و"العسب" جمع عسيب، النّخل، و"اللخاف": حِجَارَةٌ رِقَاقٌ، وَاحِدُهَا "لِخْفَةٌ".
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ فِي العسب، والقضم، والكرانيف. و"القضم" جمع قضيم: وَهِي الْجُلُود، و"الكرانيف": أُصُولِ السَّعَفِ الْغِلَاظِ، وَاحِدُهَا "كِرْنَافَةٌ".
وَكَانَ الْقُرْآنُ مُتَفَرِّقًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كُتَّابٌ، وَلَا آلَاتٌ.
يَدُلُّكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ إِلَى مُلُوكِ الْأَرْضِ فِي أَكَارِعِ الْأَدِيمِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنْ وَضْعِهِ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا مُلُوكًا، فَتَكُونَ لَهُمُ الْخَزَائِنُ وَالْأَقْفَالُ، وَصَنَادِيقُ الْآبَنُوسِ، وَالسَّاجِ1.
وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا إِحْرَازَ شَيْءٍ، أَوْ صَوْنَهُ، وَضَعُوهُ تَحْتَ السَّرِيرِ لِيَأْمَنُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَطْءِ، وَعَبَثِ الصَّبِيِّ، وَالْبَهِيمَةِ.
وَكَيْفَ يُحْرِزُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِهِ حِرْزٌ، وَلَا قُفْلٌ، وَلَا خِزَانَةٌ، إِلَّا بِمَا يُمْكِنُهُ وَيَبْلُغُهُ وُجْدُهُ، وَمَعَ النُّبُوَّة التقلل والبذاذة2؟
__________
1 الساج: شجر، والطيلسان الْأَخْضَر وَالْأسود.
2 البذاذة: رثائة الْهَيْئَة.

(1/440)


كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُصْلِحُ خُفَّهُ، وَيَمْهُنُ أَهْلَهُ، وَيَأْكُلُ بِالْأَرْضِ، وَيَقُولُ: "إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ"1، وَعَلَى ذَلِكَ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ -وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ، مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ- يَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَيُطْعِمُ النَّاسَ صُنُوفَ الطَّعَامِ.
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مَنْ شَعَرٍ، أَوْ صُوفٍ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ، فَقِيلَ لَهُ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 2.
وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْتَبِلُ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ.
وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نُحْصِيَهُ، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ نُطِيلَ الْكِتَابَ بِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنَ الشَّاةِ، فَإِنَّ الشَّاةَ أَفْضَلُ الْأَنْعَامِ.
وَقَرَأْتُ فِي مُنَاجَاةِ عُزَيْرٍ رَبَّهُ أَنَّهُ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ اخْتَرْتَ مِنَ الْأَنْعَامِ الضَّائِنَةَ3، وَمِنَ الطَّيْرِ الْحَمَامَةَ، وَمِنَ النَّبَاتِ الْحُبْلَةَ4، وَمِنَ الْبُيُوتِ بَكَّةَ "وَإِيلْيَاءَ" وَمِنْ "إِيلْيَاءَ" بَيْتَ الْمَقْدِسِ".
وَرَوَى وَكِيعٌ عَنِ الْأُسُودِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَقَ اللَّهُ دَابَّةً أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْجَةِ".
فَمَا يُعْجَبُ مِنْ أَكْلِ الشَّاةِ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ.
وَهَذَا الْفَأْرُ شَرُّ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ، يَقْرِضُ الْمَصَاحِفَ، وَيَبُولُ عَلَيْهَا، وَهَذَا العث يأكلها.
__________
1 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 2052 عَن أنس، وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 3219.
2 الْآيَة: 12 من سُورَة طه.
3 الضائنة: خلاف الماعز من الْغنم.
4 الحبلة: بِضَم الْحَاء: الْكَرم، وَالْحَبل: شجر الْعِنَب.

(1/441)


وَلَوْ كَانَتِ النَّارُ أَحْرَقَتِ الصَّحِيفَةَ، أَوْ ذَهَبَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ، كَانَ الْعَجَبُ مِنْهُمْ أَقَلَّ. وَاللَّهُ تَعَالَى يُبْطِلُ الشَّيْءَ إِذَا أَرَادَ إِبْطَالَهُ بِالضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ. فَقَدْ أَهْلَكَ قَوْمًا بِالذَّرِّ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمًا بِالطُّوفَانِ، وَعَذَّبَ قَوْمًا بِالضَّفَادِعِ، كَمَا عَذَّبَ آخَرِينَ بِالْحِجَارَةِ وَأَهْلَكَ نَمْرُوذَ بِبَعُوضَةٍ، وَغَرَّقَ الْيَمَنَ بِفَأْرَةٍ.
إِكْمَالُ الدِّينِ بِظُهُورِهِ عَلَى الشِّرْكِ:
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "كَيْفَ يَكْمُلُ الدِّينُ، وَقَدْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ مَا أَبْطَلَهُ؟ ".
فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، نَزَلَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، حِينَ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ، وَأَذَلَّ الشِّرْكَ، وَأَخْرَجَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مَكَّةَ، فَلَمْ يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَبِهَذَا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّينَ، وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَصَارَ كَمَالُ الدَّيْنِ -هَهُنَا- عزه وظهوره، وذل الشّرك ودروسه.
لَا تَكَامُلَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَنْزِلُ إِلَى أَنْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ الْإِكْمَالُ لِلدِّينِ، بِرَفْعِ النَّسْخِ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ.
وَأَمَّا إِبْطَالُهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْزَلَهُ قُرْآنًا، ثُمَّ أَبْطَلَ تِلَاوَتَهُ، وَأَبْقَى الْعَمَلَ بِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آيَةِ الرَّجْمِ، وَكَمَا قَالَ غَيْرُهُ فِي أَشْيَاءَ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَذَهَبَتْ.
وَإِذَا جَازَ أَنْ يَبْطُلَ الْعَمَلُ بِهِ وَتَبْقَى تِلَاوَتُهُ، جَازَ أَنْ تَبْطُلَ تِلَاوَتُهُ وَيَبْقَى الْعَمَلُ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْزَلَهُ وَحْيًا إِلَيْهِ كَمَا كَانَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قُرْآنًا كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّةِ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَالْخَالَةِ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا وَالْقِطَعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا قَوْدَ عَلَى وَالِدٍ وَلَا عَلَى سيد، وَلَا مِيرَاث لقَاتل.

(1/442)


وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي جَمِيعًا حُنَفَاءَ" 1.
وَكَقَوْلِهِ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا" 2، وَأَشْبَاهِ هَذَا.
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" 3، يُرِيدُ: مَا كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِيهِ بِهِ مِنَ السُّنَنِ.
وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمَ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ.
رَضَاعُ الْكَبِيرِ:
فَأَمَّا رُضَاعُ الْكَبِيرِ عَشْرًا، فَنَرَاهُ غَلَطًا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
وَلَا نَأْمَنُ أَيْضًا أَنَّ يَكُونَ الرَّجْمُ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ، قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، فَكَيْفَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى؟
وَلِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:
كَانَ فِيمَا أُنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ: "عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، يُحَرِّمْنَ" 4، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَجَعَلُوا الْخَمْسَ حَدًّا بَيْنَ مَا يُحَرِّمُ وَمَا لَا يُحَرِّمُ، كَمَا جَعَلُوا الْقُلَّتَيْنِ حَدًّا بَيْنَ مَا يَنْجُسُ مِنَ الْمَاءِ، وَمَا لَا يَنْجُسُ.
__________
1 رَوَاهُ مُسلم: جنَّة63، وَأحمد: 4/ 102.
2 الحَدِيث: سبق تَخْرِيجه ص327، 398.
3 رَوَاهُ أَحْمد: 2/ 129، 4/ 131.
4 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: نِكَاح49، وَمُسلم: رضَاع 15، وَأَبُو دَاوُد: نِكَاح 10 وَالتِّرْمِذِيّ: رضَاع3، والموطأ: رضَاع 18.

(1/443)


وَأَلْفَاظُ حَدِيثِ مَالِكٍ، خِلَافُ أَلْفَاظِ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
وَمَالِكٌ أَثْبَتَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: لَا تَأْخُذَنَّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ كَذَّابٌ.
وَقَدْ كَانَ يُرْوِي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهِيَ امْرَأَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ هِشَامًا، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: "أَهُوَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَتِي، أَمْ أَنَا؟ ".
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} ، فَإِنَّهُ تَعَالَى، لَمْ يُرِدْ بِالْبَاطِلِ، أَنَّ الْمَصَاحِفَ لَا يُصِيبُهَا مَا يُصِيبُ سَائِرَ الْأَعْلَاقِ وَالْعُرُوضِ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، قَبْلَ الْوَحْي وَبعده.

(1/444)


53- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ- يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ: "أَنَّ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ"1، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} 2.
لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَنْ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ وَبِدَرَاهِمَ تُعَدُّ مِنْ قِلَّتِهَا، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي لَهُ -مَعَ قِلَّةِ هَذَا الثَّمَنِ أَيْضًا- زَاهِدًا فِيهِ.
وَيَقُولُ فِي رُجُوعِ إِخْوَتِهِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ "إِنَّهُ عَرَفَهُمْ، وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ".
وَكَيْفَ يُنْكَرُ مَنْ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ فِي الْعَالِمِ نَظِيرٌ؟ وَهُمْ كَانُوا بِأَنْ يَعْرِفُوهُ وَيُنْكِرَهُمْ هُوَ أَوْلَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ يَذْهَبُونَ فِي نِصْفِ الْحُسْنِ الَّذِي أُعْطِيَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ نِصْفُ الْحُسْنِ، وَأَعْطَى الْعِبَادَ أَجْمَعِينَ النِّصْفَ الْآخَرَ، وَفَرَّقَهُ بَيْنَهُمْ.
وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ إِذَا فَهِمَ مَا قُلْنَاهُ.
وَالَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، جَعَلَ لِلْحُسْنِ غَايَةً وَحَدًّا، وَجَعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، إِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِلْحُورِ الْعين؛ فَجعل
__________
1 رَوَاهُ أَحْمد: 3/ 286.
2 الْآيَة: 20 من سُورَة يُوسُف.

(1/445)


ليوسف عَلَيْهِ السَّلَامُ نِصْفَ ذَلِكَ الْحُسْنِ، وَنِصْفَ ذَلِكَ الْكَمَالِ.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ لِغَيْرِهِ ثُلُثَهُ، وَلِآخَرَ رُبُعَهُ، وَلِآخَرَ عُشْرَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لِآخَرَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ أُعْطِيَ نِصْفَ الشَّجَاعَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنَّ يَكُونَ أُعْطِيَ نِصْفَهَا، وَجُعِلَ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمُ النِّصْفَ الْآخَرَ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى؛ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُعْطِيَ نِصْفَ الشَّجَاعَةِ، يُقَاوِمُ الْعِبَادَ جَمِيعًا وَحْدَهُ.
وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: أَنْ لِلشَّجَاعَةِ حَدًّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَجْعَلُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُعْطِي غَيْرَهُ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْطِي لِآخَرَ الثُّلُثَ، أَوِ الرُّبُعَ، أَوِ الْعُشْرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يَشْتَرُونَهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَيَكُونُونَ أَيْضًا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الْحُسْنِ؟
فَإِنَّ الْحُسْنَ إِذَا كَانَ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، لَا يَتَفَاوَتُ التَّفَاوُتَ الَّذِي ظَنُّوهُ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُقَارِبًا لِمَا عَلَيْهِ الْحِسَانُ الْوُجُوهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَزَعَ فِي الْحُسْنِ إِلَى سَارَّةَ، وَهَذَا شَاهِدٌ لِمَا تَأَوَّلْنَاهُ فِي نِصْفِ الْحُسْنِ.
فَإِنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} 1.
وَقَالُوا: لَمْ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حِينَ رَأَيْنَهُ، وَلَمْ يَقُلْنَ إِنَّهُ مَلَكٌ كَرِيمٌ، إِلَّا لِتَفَاوُتِ حُسْنِهِ، وَبُعْدِهِ مِمَّا عَلَيْهِ حُسْنُ النَّاسِ.
قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: إِنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ بقول النسْوَة، أَن امْرَأَة الْعَزِيز
__________
1 الْآيَة: 30 من سُورَة يُوسُف.

(1/446)


تراود فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ، قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، أَرَادَتْ أَنْ يَرَيْنَهُ لِيَعْذُرْنَهَا فِي الْفِتْنَةِ بِهِ، فَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، أَيْ طَعَامًا، وَقَدْ قُرِئَ مُتُكًا وَهُوَ طَعَامٌ يُقْطَعُ بِالسِّكِّينِ، وَقِيلَ فِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ إِنَّهُ الأترج، وَفِي بعضه الزماورد1، وأيا مَا كَانَ فَإِنَّهُ لَا يُأْكَلُ حَتَّى يَقْطَعَ.
وَأَصْلُ الْمَتْكِ وَالْبَتْكِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْمِيمُ تُبْدَلُ مِنَ الْبَاءِ كَثِيرًا، وَتُبْدَلُ الْبَاءُ مِنْهَا، لِتَقَارُبِ الْمَخْرَجَيْنَ.
ثُمَّ قَالَتْ لِيُوسُفَ: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} .
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أَيْ أَعْظَمْنَ أَمْرَهُ، وَأَجْلَلْنَهُ، وَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِنَّ مِثْلُ الَّذِي وَقَعَ فِي قَلْبِهَا مِنْ مَحَبَّتِهِ؛ فَبُهِتْنَ وَتَحَيَّرْنَ، وَأَدَمْنَ النَّظَرَ إِلَيْهِ؛ حَتَّى حَزَزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِتِلْكَ السَّكَاكِينِ، الَّتِي كُنَّ يُقَطِّعْنَ بِهَا طَعَامَهُنَّ، وَقُلْنَ: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} .
وَلَمْ يُرِدْنَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَهُ عَلَى التَّشْبِيهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي رَجُلٍ يَصِفُهُ بِالْجَمَالِ: مَا هُوَ إِلَّا الشَّمْسُ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْقَمَرُ.
وَفِي آخَرَ يَصِفُهُ بِالشَّجَاعَةِ -مَا هُوَ إِلَّا الْأَسَدُ.
وَكَيْفَ يُرِدْنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُنَّ يُرِدْنَ مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَيُشِرْنَ بِحَبْسِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَطَأُ النِّسَاءَ، وَلَا تُحْبَسُ فِي السُّجُونِ.
وَلَيْسَ بِعَجِيبٍ أَنْ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِذَا رَأَيْنَ وَجْهًا حَسَنًا رَائِعًا، مَعَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ، وَأَنْ يَتَحَيَّرْنَ وَيُبْهَتْنَ، فَقَدْ يُصِيبُ النَّاسَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ.
__________
1 الزماورد: طَعَام من الْبيض وَاللَّحم "مُعرب".

(1/447)


أَمْثِلَةٌ عَنْ أَحْوَالِ الْعُشَّاقِ:
قَالَ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ1:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ رَوْعَةٌ ... لَهَا بَيْنَ جِلْدِي وَالْعِظَامِ دَبِيبُ
وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتُ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
وَأُصْرَفُ عَنْ رَأْيِي الَّذِي كُنْتُ أَرْتَئِي ... وَأَنْسَى الَّذِي عددت حِينَ تَغِيبُ2
وَقَدْ جُنَّ قَيْسُ3 بْنُ الْمُلَوَّحِ الْمَعْرُوفُ بِالْمَجْنُونِ، وَذَهَبَ عَقْلُهُ، وَهَامَ مَعَ الْوَحْشِ، وَكَانَ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ تُذْكَرَ لَيْلَى، وَقَالَ:
أَيَا وَيْحَ مَنْ أَمْسَى تُخُلِّسَ4 عَقْلُهُ ... فَأَصْبَحَ مَذْهُوبًا بِهِ كُلَّ مَذْهَبِ
إِذَا ذُكِرَتْ لَيْلَى عَقَلْتُ وَرَاجَعْتُ ... رَوَائِعَ عَقْلِي5 مِنْ هَوًى مُتَشَعِّبِ
وَلَمَّا خَرَجَ بِهِ أَبُوهُ إِلَى مَكَّةَ لِيَعُوذَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَشْفِي لَهُ بِهِ، سمع ب"منى" قَائِلًا يَقُولُ: "يَا لَيْلَى" فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ:
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى ... فَهَيَّجَ أَحْزَانَ الْفُؤَادِ وَمَا يَدْرِي
دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرِهَا فَكَأَنَّمَا ... أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي
وَقَدْ مَاتَ بِالْوَجْدِ أَقْوَامٌ، مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ، وَالنَّهْدِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَجْلَانَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن قريب، قَالَ:
__________
1 عُرْوَة بن حزَام بن مهَاجر الضني من بني عذرة، شَاعِر من متيمي الْعَرَب، كَانَ يحب ابْنة عَم لَهُ اسْمهَا "عفراء" نَشأ مَعهَا فِي بَيت وَاحِد، لِأَن أَبَاهُ خَلفه صَغِيرا، فَكَفَلَهُ عَمه، وَلم يسْتَطع دفع الْمهْر الَّذِي طلبته أمهَا فَتزوّجت غَيره، فضنى حبا فَمَاتَ 30هـ.
2 قَوْله: "وأصرف" الْبَيْت أنْشدهُ المرتضى فِي أماله هَكَذَا:
وأصرف عَن دَاري الَّذِي كنت عَارِفًا ... ويعزب عني علمه ويغيب
ويضمر قلبِي غدرها ويعينها ... عَليّ فَمَا لي فِي الْفُؤَاد نصيب
3 قيس بن الملوح بن مُزَاحم العامري شَاعِر غزل من أهل نجد لم يكن مَجْنُونا، وَإِنَّمَا لقب بذلك لهيامه فِي حب ليلى بنت سعد، وَوجد ملقى بَين أَحْجَار وَهُوَ ميت عَام 68هـ.
4 تخلس: اسْتَلَبَ: أَخذ مِنْهُ.
5 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "قلبِي".

(1/448)


حَدَّثَنِي عَمِّي الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ1 عَجْلَانَ: مِنْ عُشَّاقِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورِينَ، الَّذِينَ مَاتُوا عِشْقًا وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
إِنْ مُتُّ مِنَ الْحُبِّ ... فَقَدْ مَاتَ بن عَجْلَانَ
وَحَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَجْلَانَ، صَاحِبُ هِنْدٍ:
أَلَا إِنَّ هِنْدًا أَصبَحت مِنْك محرما2 ... وأصحبت مِنْ أَدْنَى حَمَوَّتِهَا حَمَا3
وَأَصْبَحْتَ كَالْمَغْمُودِ جَفْنُ سِلَاحِهِ ... يُقَلِّبُ بِالْكَفَّيْنِ قَوْسًا وَأَسْهُمًا
قَالَ: وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ، ثُمَّ خَرَّ فَمَاتَ.
وَفِيمَا رَوَى نَقْلَةُ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِيَّ، قَامَ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ
ين يَدَيْ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ ارْتِجَالًا، وَكَانَتْ كَالْخُطْبَةِ، فَارْتَزَّتِ الْعَنَزَةُ،4 الَّتِي كَانَ يَتَوَكَّأُ وَيَخْطُبُ عَلَيْهَا فِي صَدْرِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْ قَطْعِهِنَّ أَيْدِيَهُنَّ.
وَالسَّبَبُ الَّذِي قَطَّعْنَ لَهُ أَيْدِيَهُنَّ، أَوْكَدُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي ارْتَزَّتْ لَهُ الْعَنَزَةُ4، فِي صَدْرِ الْحَارِثِ بْنِ حلزة.
__________
1عبد الله بن العجلان بن عبد الأجب ابْن عَامر النَّهْدِيّ من قضاعة شَاعِر جاهلي من العشاق المتيمين، وَسيد من سَادَات قومه فِي شعره طلاوة، طلق زَوجته بإكراه من وَالِده لِأَنَّهَا لم تَلد لَهُ فتزودت غَيره فدنف وَمَات أسفا 50ق. هـ.
2 الْمحرم: ذَات الرَّحِم الْقَرَابَة الَّتِي لَا يحل تزَوجهَا.
3 الحما: أَبُو زوج الْمَرْأَة، أَو الْوَاحِد من أقَارِب الزَّوْج أَو الزَّوْجَة.
وَالْكَلَام على تَقْدِير مُضَاف، أَي ذِي حموتها. وَيظْهر أَن هندًا تزوجت بقريب هَذَا الشَّاعِر، فو يَقُول خطابا لنَفسِهِ تحسرصا وتأسفًا: إِنَّك قد أَصبَحت الْيَوْم حمًا من أحمائها، فَلَا يتأتي لَك مَا كنت تتمناه من وصالها.
4 العنزة: وَهُوَ بَين الْعَصَا وَالرمْح.

(1/449)


أَسبَاب بخس ثمن يُوسُف:
وَأَمَّا شِرَاءُ السَّيَّارَةِ لَهُ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ، وَزُهْدُهُمْ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمُ اشْتَرَوْهُ عَلَى الْإِبَاقِ، وَبِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ جَوْفِ بِئْرٍ قَدْ أَلْقَاهُ سَادَتُهُ فِيهَا بِذُنُوبٍ كَانَتْ مِنْهُ، وَجِنَايَاتٍ عِظَامٍ ادَّعَوْهَا، وَشَرَطُوا عَلَيْهِمْ -مَعَ ذَلِكَ- أَنْ يُقَيِّدُوهُ، وَيُغِلُّوهُ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِصْرَ، وَفِي دُونِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يُخَسِّسُ الثَّمَنَ، وَيُزْهِدُ الْمُشْتَرِي.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "كَيْفَ تنكره إِخْوَتُهُ مَعَ مَا أُعْطِيَ مِنَ الْحُسْنِ؟ ".
فَقَدْ أَعْلَمْتُكَ أَنَّ الَّذِي أُعْطِيَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ مَا أُعْطِيَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِمَّا عَلَيْهِ الْحُسْنُ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْحُسْنِ، فَقَدْ أُعْطِيَ غَيْرُهُ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ، وَمَا قَارَبَ النِّصْفَ، وَلَيْسَ يَقَعُ فِي هَذَا تَفَاوُتٌ شَدِيدٌ.
وَكَانُوا فَارَقُوهُ طِفْلًا، وَرَأَوْهُ كَهْلًا، وَدَفَعُوهُ أَسِيرًا ضَرِيرًا1، وَأَلْفَوْهُ مَلِكًا كَبِيرًا.
وَفِي أَقَلِّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ تَتَغَيَّرُ الْحُلَى، وَتَخْتَلِفُ المناظر.
__________
1 الضَّرِير: الذَّاهِب الْبَصَر، وَالْمَرِيض المهزول، وَالْمعْنَى الثَّانِي هُوَ الْمَقْصُود؛ لِأَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن أعمى كَمَا هُوَ مَعْلُوم.

(1/450)


54- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ النَّظَرُ- كَسْبُ الْإِمَاءِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَن مُحَمَّد بن حمادة، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْإِمَاءِ" 1.
قَالُوا: وَكَسْبُ الْإِمَاءِ حَلَالٌ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا آجَرَ أَمَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ، فَعَمِلَا لَمْ يَكُنْ مَا كَسَبَا حَرَامًا بِإِجْمَاعِ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَنْهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْكَسْبَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ أَجْرُ الْبِغَاءِ2، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْمُرُونَ إِمَاءَهُمْ بِالْبِغَاءِ، وَيَأْخُذُونَ أُجُورَهُنَّ وَكَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ إِمَاءٌ يُسَاعِينَ3، وَهُوَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَيِّدُ تَيْمٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4.
وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الزَّمَّارَةِ5، وَهِيَ الزَّانِيَةُ، يَعْنِي هَذِهِ الْأَمَةَ الَّتِي يَغْتَلُّهَا6 سَيِّدهَا.
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: إِجَارَة 20، وَأَبُو دَاوُد: ببوع 39، والدرامي: بيُوت 78، وَأحمد: 2/ 382 و438.
2 الْبغاء: الزِّنَا.
3 يساعين: من المساعاة أَي الزِّنَا، وَلَا مساعاة فِي الْإِسْلَام.
4 الْآيَة: 33 من سُورَة النُّور.
5 الزمارة: رُبمَا كَانَ من الزمير: وَهُوَ الْغناء، أَو من الزمر: وَهِي الْإِشَارَة بِالْعينِ أَو الْحَاجِب أَو الشّفة، والزواني يفعلن ذَلِك.
6 أَي: تَأتيه بالغلة وَهِي أُجْرَة بغائها.

(1/451)


قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الْخطاب، قَالَ نَا أَبُو بَحْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَأَجْرُ الزَّمَّارَةِ، مِنَ السُّحت"1.
__________
1 رَوَاهُ مُسلم: مُسَاقَاة 41 و43، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع 38، وَالتِّرْمِذِيّ: بُيُوع 46، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 91، والدرامي: بُيُوع 78، وَأحمد 3/ 464 و465.

(1/452)


55- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- هَلِ الْفَخْذُ مِنَ الْعَوْرَةِ؟
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَن بن جَرْهَدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ وَهُوَ كَاشِفٌ فَخْذَهُ، فَقَالَ: "غَطِّهَا، فَإِنَّ الْفَخْذَ مِنَ الْعَوْرَةِ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ2، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ، كَاشِفًا فَخْذَهُ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ. ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَلَسَ وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَلَمَّا خَرَجَ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ" 2
قَالُوا: وَهَذَا خلاف الحَدِيث الأول.
__________
1 جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 14641، وَعبد الرَّزَّاق فِي الْجَامِع وَالْمُصَنّف وَابْن حبَان والخرائطي، وَرَوَاهُ أَيْضا الْحَاكِم عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن جحش، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. انْظُر: صَحِيح الْجَامِع رقم 4157، 4158.
2 إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن أبي كثير الْأنْصَارِيّ ولد سنة 130هـ، قَارِئ أهل الْمَدِينَة فِي عصره من موَالِي بني زُرَيْق من الْأَنْصَار رَحل إِلَى بَغْدَاد وَتُوفِّي بهَا سنة 180هـ.
3 رَوَاهُ البُخَارِيّ: صَلَاة 12 بعد قَوْله: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَة"، وَلكنه من إِفْرَاد مُسلم رقم 2401، وَأَبُو دَاوُد: حمام1، وَالتِّرْمِذِيّ: أدب 40، والدرامي: اسْتِئْذَان 22، وَأحمد 3/ 478، 5/ 290.

(1/453)


قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مَوضِع، فَإذْ وُضِعَ بِمَوْضِعِهِ زَالَ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ.
أَمَّا حَدِيثُ جَرْهَدٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ كَاشِفٌ فَخْذَهُ عَلَى طَرِيقِ النَّاسِ وَبَيْنَ مَلَئِهِمْ1، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: "وَارِ2 فَخْذَكَ، فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ"، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ، لِأَنَّ الْعَوْرَةَ غَيْرُهَا.
وَالْعَوْرَةُ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا فَرْجُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالدُّبُرُ مِنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْعَوْرَةِ، وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتُرَاهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكُلِّ مَوْضِعٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَالْعَوْرَةُ الْأُخْرَى: مَا دَانَاهُمَا مِنَ الْفَخْذِ، وَمِنْ مَرَاقِّ3 الْبَطْنِ؛ وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَوْرَةً، لِإِحَاطَتِهِ بِالْعَوْرَةِ، وَدُنُوِّهِ مِنْهَا.
وَهَذِهِ الْعَوْرَةُ، هِيَ الَّتِي يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُبْدِيَهَا فِي الْحَمَّامِ، وَفِي الْمَوَاضِعِ الْخَالِيَةِ، وَفِي مَنْزِلِهِ، وَعِنْدَ نِسَائِهِ، وَلَا يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يُظْهِرَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي جَمَاعَاتِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ حَلَّ لِلرَّجُلِ، يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يُظْهِرَهُ فِي الْمَجَامِعِ.
__________
1 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "مطبهم".
2 وار: فعل أَمر من المواراة: وَهِي السّتْر.
يرد على ابْن قُتَيْبَة فِي قَوْله عَن نَص حَدِيث ابْن جرهد أَن الْفَخْذ من الْعَوْرَة، وَادّعى أَنه لم يقل أَنَّهَا عَورَة. أَن الْحَاكِم روى ذَلِك بِسَنَد صَحِيح بِلَفْظ: "غط فخذك فَإِن الْفَخْذ عَورَة" صَحِيح الْجَامِع رقم 4157. وَيرد على ابْن قُتَيْبَة أَيْضا فِي تَأْوِيله أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا غطى فَخذه لما صَارُوا ثَلَاثَة، لأَنهم صَارُوا جمَاعَة، أَن هَذَا يناف مَا علل بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ غطاه حَيَاء من عُثْمَان لكَون الْمَلَائِكَة تَسْتَحي مِنْهُ، ولس لصيرورتهم ثَلَاثَة، وَالله تَعَالَى أعلم.
وَأما السائغ من ذَلِك أَنه حَيْثُ نهى عَن كشف الْفَخْذ فَلِأَنَّهُ من قبيل كَرَاهَة التَّنْزِيه وَحَيْثُ أبدى فلبيان الْجَوَاز عِنْد الْحَاجة؛ لِأَنَّهُ تكَرر مِنْهُ فِي مَوَاضِع مِنْهَا يَوْم خَيْبَر حَيْثُ أجْرى مطيته بزقاق خَيْبَر، وَقد حسر عَن فَخذه حَتَّى أَن أنس لينْظر إِلَيْهِ أَو ليمسه بركبته لما فِي الصَّحِيحَيْنِ. اُنْظُرْهُ فِي اللُّؤْلُؤ والمرجان برقم1180، وهنالك ترى مَكَانَهُ من البُخَارِيّ وَمُسلم، هَذَا وَالله تعلى أعلم بِالصَّوَابِ. -مُحَمَّد مُحَمَّد بدير-
3 مراق الْبَطن: مارق مِنْهُ.

(1/454)


فَإِنَّ الْأَكْلَ عَلَى الطَّرِيقِ وَفِي السُّوقِ حَلَالٌ، وَهُوَ قَبِيحٌ، وَوَطْءَ الرَّجُلِ أَمَتَهُ حَلَالٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ النَّاسُ وَالْعُيُونُ.
وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْوَجْسَ1، وَهُوَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ، بِحَيْثُ تُحِسُّ أَهْلُهُ الْأُخْرَى الْحَرَكَةَ وَتَسْمَعُ الصَّوْتَ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ خَالِيًا، فَأَظْهَرَ فَخْذَهُ لِنِسَائِهِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ يَأْنَسُ بِهِ فَلَمْ يَسْتُرْهُ، فَلَمَّا صَارُوا ثَلَاثَةً، كَرِهَ بِاجْتِمَاعِهِمْ مَا كَرِهَهُ لِجَرْهَدٍ، مِنْ إِبْدَائِهِ لِفَخْذِهِ بَيْنَ عَوَامِّ النَّاسِ، واستتر مِنْهُم.
__________
1 الوجس: الصَّوْت الْخَفي.

(1/455)


56- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْكِتَابُ- حُكْمُ مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ بِالْحَجِّ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ، فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى" 1.
قَالَ: فَحَدَّثْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ، فَقَالَا: صَدَقَ.
قَالُوا: وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 2.
فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، دُونَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيَ، وَيَنْحَرَ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا، فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُهِلُّ بِالْحَجِّ مِنْهَا، وَيَطُوفُ، وَيَسْعَى، ثُمَّ يُكْسَرُ، أَوْ يُعْرَجُ، أَوْ يَمْرَضُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ حُضُورَ الْمَوَاقِفِ، إِنَّهُ يَحِلُّ فِي وَقْتِهِ، وَعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ.
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَقْضِي عمرته، ثمَّ
__________
1 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 22984، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا بِلَفْظ: "من كسر أَو عرج أَو مرض أَو حبس فلينحر مثلهَا، وَقد حل"، وَقد رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن والحاحكم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن الْحجَّاج بن عَمْرو بن غزيَّة الْأنْصَارِيّ، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 6521.
2 الْآيَة: 196 من سُورَة الْبَقَرَة.

(1/456)


يهل بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَيُكْسَرُ، أَوْ يُصِيبُهُ أَمْرٌ، لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَحْضُرَ مَعَ النَّاسِ الْمَوَاقِفَ: إِنَّهُ يَحُلُّ، وَعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ.
وَالَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى -إِذَا أُحْصِرُوا- بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَأَنْ لَا يَحْلِقُوا رُءُوسَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، هُمُ الَّذِينَ أُحْصِرُوا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ.
وَحُكْمُ أُولَئِكَ خِلَافُ حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمُهِلِّينَ بِالْحَجِّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الَّذِي كُسِرَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ عُرِجَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السَّفَرِ، أَوْ مَرِضَ -وَقَدْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ- أَنْ لَا يَحِلَّ إِلَّا بِالْبَيْتِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَالَّذِي كُسِرَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا، أَوِ الْمُتَمَتِّعِينَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، وَعِنْدَ الْبَيْتِ فَيَحِلُّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابَلٍ.

(1/457)


57- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ- أَكْلُ الشَّيْطَانِ بِشِمَالِهِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: "كُلْ بِيَمِينِكَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ" 1.
قَالُوا: وَالشَّيْطَانُ رُوحَانِيٌّ كَالْمَلَائِكَةِ، فَكَيْفَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ يَدٌ، يَتَنَاوَلُ بِهَا؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَزَّ- لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا جَعَلَ لَهُ ضِدًّا، كَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّمَامِ وَالنُّقْصَانِ، وَالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ.
وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْخَيْرِ وَالتَّمَامِ وَالْعَدْلِ وَالنُّورِ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، جَلَّ وَعَزَّ، لِأَنَّهُ أَحَبَّهُ، وَأَمَرَ بِهِ.
وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الشَّرِّ وَالنَّقْصِ وَالظَّلَامِ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ الدَّاعِي إِلَى ذَلِك والمسول لَهُ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْيَمِينِ الْكَمَالَ وَالتَّمَامَ، وَجَعَلَهَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالسَّلَامِ وَالْبَطْشِ.
وَجَعَلَ فِي الشِّمَالِ الضَّعْفَ وَالنَّقْصَ، وَجَعَلَهَا للاستنجاء والاستنثار، وإماطة الأقذار.
__________
1 أخرجه مُسلم: أشربة 105 و106، وَأَبُو دَاوُد: أَطْعِمَة 19، وَالتِّرْمِذِيّ: أَطْعِمَة 9، وَابْن ماجة: أَطْعِمَة 8، والدرامي: أَطْعِمَة 9، والموطأ: صفة النَّبِي 6، وَأحمد 3/ 8 و33 و80 و106 و108.

(1/458)


وَجَعَلَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَأَهْلَ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ الْيَمِينِ.
وَطَرِيقَ النَّارِ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَأَهْلَ النَّارِ أَصْحَابَ الشِّمَالِ.
وَجَعَلَ الْيُمْنَ مِنَ الْيَمِينِ، وَالشُّؤْمَ مِنَ الْيَدِ الشُّؤْمَى وَهِيَ الشِّمَالُ.
وَقَالُوا: فُلَانٌ مَيْمُونٌ وَمَشْئُومٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ.
تَأْوِيلُ أَكْلِ الشَّيْطَانِ:
وَلَيْسَ يَخْلُو الشَّيْطَانُ فِي أَكْلِهِ بِشِمَالِهِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُ عَلَى حَقِيقَةٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْأَكْلُ تَشَمُّمًا وَاسْتِرْوَاحًا، لَا مَضْغًا وَبَلْعًا، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ وَرُوِيَ أَنَّ طَعَامَهَا الرِّمَّةُ، وَهِيَ: الْعِظَامُ، وَشَرَابَهَا الْجَدَفُ1 وَهُوَ الرَّغْوَةُ وَالزَّبَدُ، وَلَيْسَ يَنَالُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الرَّوَائِحَ فَتَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْمَضْغِ وَالْبَلْعِ، لِذَوِي الْجُثَثِ، وَيَكُونُ اسْتِرْوَاحُهُ مِنْ جِهَةِ شِمَالِهِ، وَتَكُونُ بِذَلِكَ مُشَارَكَتُهُ مَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ، أَوْ لَمْ يَغْسِلْ يَدَهُ، أَوْ وَضَعَ طَعَامًا مَكْشُوفًا فَتَذْهَبُ بَرَكَةُ الطَّعَامِ وَخَيْرُهُ.
وَأَمَّا مُشَارَكَتُهُ فِي الْأَمْوَالِ فَبِالْإِنْفَاقِ فِي الْحَرَامِ، وَفِي الْأَوْلَادِ فَبِالزِّنَا.
أَوْ يَكُونُ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ عَلَى الْمَجَازِ -يُرَادُ أَنَّ أَكْلَ الْإِنْسَانِ بِشَمَالِهِ إِرَادَةُ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَتَسْوِيلُهُ. فَيُقَالُ لِمَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ: هُوَ يَأْكُلُ أَكْلَ الشَّيْطَانِ؛ لَا يُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْأَكْلَ الَّذِي يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ.
كَمَا قِيلَ فِي الْحُمْرَةِ: إِنَّهَا زِينَةُ الشَّيْطَانِ، لَا يُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَلْبَسُ الْحُمْرَةَ، وَيَتَزَيَّنُ بِهَا.
وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي يُخَيِّلُ بهَا الشَّيْطَان2.
__________
1 الجدف: بِالتَّحْرِيكِ نَبَات يكون بِالْيَمِينِ، لَا يحْتَاج أكله مَعَه إِلَى شرب مَاء، وَقيل: أَصله من الجدف: الْقطع، أَرَادَ مَا يرْمى بِهِ عَن الشَّرَاب من زبد أَو رغوة أَو قذى؛ كَأَنَّهُ قطع من الشَّرَاب فَرمى بِهِ هَكَذَا.
2 تَأْوِيل أكل الشَّيْطَان الَّذِي سَاقه ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى المتضمن إِخْرَاج الحَدِيث عَن ظَاهره وَأَن الشَّيْطَان لَيْسَ لَهُ يَد وَلَا يَأْكُل، وَإِنَّمَا يشم ريح الطَّعَام إِلَى غير ذَلِك مِمَّا قَالَ =

(1/459)


عِمَّةُ الشَّيْطَانِ وَرَكَضَتُهُ:
وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي الِاقْتِعَاطِ، وَهُوَ أَنْ يَلْبَسَ الْعِمَامَةَ، وَلَا يَتَلَحَّى بِهَا أَنَّهَا عِمَّةُ الشَّيْطَانِ، لَا يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَعْتَمُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهَا الْعِمَّةُ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ وَيَدْعُو إِلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْلِهِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: "إِنَّهَا رَكْضَةُ الشَّيْطَانِ" وَالرَّكْضَةُ: الدَّفْعَةُ، إِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ يَدْفَعُ ذَلِكَ الْعِرْقَ، فَيَسِيلُ مِنْهُ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ، لِيُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ صَلَاتَهَا بِنَقْضِ1 طُهُورِهَا؛ وَلَيْسَ بِعَجِيبٍ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ الدَّمَ بِدَفْعَتِهِ، مَنْ يجْرِي من بن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ.
أَوْ تَكُونُ تِلْكَ الدَّفْعَةُ مِنَ الطَّبِيعَةِ، فَنُسِبَتْ2 إِلَى الشَّيْطَان؛ لِأَنَّهَا من
__________
= كُله خطأ وَلَيْسَ هُنَاكَ أَي مَانع من إِجْرَاء الحَدِيث على ظَاهره، بل هُوَ مُتَعَيّن لنصوص أُخْرَى كَثِيرَة مِنْهَا مَا روى مُسلم من حَدِيث حُذَيْفَة عَن الْجَارِيَة الَّتِي دَفعهَا الشَّيْطَان إِلَى الطَّعَام ليستحل بهَا فَأخذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهَا، وَقَالَ: "إِن الشَّيْطَان يسْتَحل الطَّعَام أَن لَا يذكر اسْم الله عَلَيْهِ، وَإنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَة ليستحل بهَا فَأخذت بِيَدِهَا، فجَاء بِهَذَا الْأَعرَابِي ليستحل بِهِ فَأخذت بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن يَده فِي يَدي مَعَ يَدهَا" مُسلم رقم 2017، هَذَا مَعَ حَدِيث جَابر فِي مُسلم وَنَصه: "إِذا أكل أحدكُم فَليَأْكُل بِيَمِينِهِ، وَإِذا شرب فليشرب بِيَمِينِهِ، فَإِن الشَّيْطَان بِأَكْل بِشمَالِهِ" مُسلم رقم 2020، وَحَدِيث خنق الشَّيْطَان الَّذِي تعرض لَهُ فِي صَلَاة اللَّيْل حَتَّى سَالَ لعابه على يَده فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَول الله تَعَالَى: {أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الْجِنّ] ، فنص الْقُرْآن الْكَرِيم أَن مِنْهُم رجَالًا ونصت السّنة أَن مِنْهُم ذُكُورا وإناثًا لما فِي حَدِيث التَّعَوُّذ من الْخبث والخبائث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس مَرْفُوعا، وَحَدِيث سَرقَة الشَّيْطَان من الزَّكَاة وَأَنه جَاءَ يحثو من الطَّعَام فَأخذ أَبُو هُرَيْرَة بِيَدِهِ كَمَا ذكره البُخَارِيّ تَعْلِيقا بِصِيغَة الْجَزْم. وروى التِّرْمِذِيّ نَحوه عَن أبي أَيُّوب أَن غولًا جَاءَت تسرق من تمر لَهُ فَأَخذهَا فَحَلَفت لَا تعود، وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث كثير فِي كَون الْجِنّ يتمثلون فِي أشخاص وأجسام وَلم أَيدي وَأَوْلَاد ودواب ويأكلون وَيَشْرَبُونَ، وَعَلِيهِ كَلَام الْعلمَاء فِي شرح الصَّحِيحَيْنِ النَّوَوِيّ وَغَيره، وَكَلَام ابْن قُتَيْبَة فِي هَذَا. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
1 وَفِي نُسْخَة: وينقض ظُهُورهَا.
2 وَفِي نسختين: فتنسب.

(1/460)


الْأُمُور الَّتِي تُفْسِدُ الصَّلَاةَ، كَمَا نُسِبَ إِلَيْهِ الْأَكْلُ بِالشِّمَالِ، وَالْعِمَّةُ عَلَى الرَّأْس، دون التلحي، والحمرة.
الْحمرَة من زِينَة الشَّيْطَان:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحُمْرَةُ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ"1.
وَلِهَذَا "كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُعَصْفَرَ لِلرِّجَالِ" 2.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي لِأَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ زِينَةُ الشَّيْطَانِ.
وَأَتَخَتَّمُ الْحَدِيدَ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ.
وَجَعَلَ الْحَدِيدَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ، وَأَهْلُ النَّارِ لَا يَتَحَلَّوْنَ بِالْحُلِيِّ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ لَهُمْ مَكَانَ الْحِلْيَةِ السَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ وَالْقُيُودَ، فَالْحَدِيدُ حِلْيَتُهُمْ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ إِخْفَاءَ نَفْسِهِ، وَسَتْرَ عَمَلِهِ.
__________
1 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 2792 عَن الْحسن مُرْسلا، قَالَ: وَانْظُر الْمُقدمَة ص22.
2 رَوَاهُ مُسلم: لِبَاس 29 و31، وَأَبُو دَاوُد: لِبَاس 8، وَالتِّرْمِذِيّ: مَوَاقِيت 80 ولباس5 و13، وَالنَّسَائِيّ: زِينَة 43 و76 و95 وتطبيق 7 و61، وَابْن ماجة: لِبَاس 31، وَأحمد: 1/ 81 و93 و105 و114 و123 و126 و133.

(1/461)


58- قَالُوا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ- الْكَيُّ وَالْحِجَامَةُ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنِ اكْتَوَى وَاسْتَرْقَى" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ2، وَقَالَ: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تُدَاوُونَ بِهِ خَيْرٌ، فَفِي بَزْغَةِ حَجَّامٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ" 3.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الأول.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ -هَهُنَا- خِلَافٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَوْضِعٌ، فَإِذَا وُضِعَ بِهِ زَالَ الِاخْتِلَافُ، وَالْكَيُّ جِنْسَانِ، أَحَدُهُمَا: كَيُّ الصَّحِيحِ لِئَلَّا يَعْتَلَّ، كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنْ أُمَمِ الْعَجَمِ، فَإِنَّهُمْ يَكْوُونَ وِلْدَانَهُمْ وَشُبَّانَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ بِهِمْ، يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَيَّ، يَحْفَظُ لَهُمُ الصِّحَّةَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْأَسْقَامَ.
__________
1 رَوَاهُ أَحْمد: 4/ 251 و252 و253.
2 أسعد بن زُرَارَة بن عدس النجاري من الْخَزْرَج أحد الشجعان الْأَشْرَاف فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام من سكان الْمَدِينَة، قدم مَكَّة فِي عصر النُّبُوَّة وَمَعَهُ ذكْوَان بن عبد قيس فَأَسْلمَا وعادا إِلَى الْمَدِينَة وَهُوَ أحد النُّقَبَاء الاثنى عشر وَمَات قبل وقْعَة بدر ا. هـ.
3 رَوَاهُ البُخَارِيّ: كتاب 76 بَاب 9 و11 و15، وَمُسلم: كتاب 39 حَدِيث 70 و73 و76 و77، وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 26 بَاب9 و12، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 27 بَاب 3 و5. والبزغ والتبزيغ: الشَّرْط بالمبزغ: هُوَ المشرط، ويزغ دَمه: أسأله.

(1/462)


الْكَيُّ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَرَأَيْتُ بِخُرَاسَانَ رَجُلًا مِنْ أَطِبَّاءِ التُّرْكِ، مُعَظَّمًا عِنْدَهُمْ، يُعَالِجُ بِالْكَيِّ.
وَأَخْبَرَنِي وَتَرْجَمَ ذَلِكَ عَنْهُ مُتَرْجِمُهُ، أَنَّهُ يَشْفِي بِالْكَيِّ مِنَ الْحُمَّى وَالْبِرْسَامِ1.
وَالصُّفَّارِ2 وَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْعِظَامِ، وَأَنَّهُ يَعْمَدُ إِلَى الْعَلِيلِ فَيَشُدُّهُ بِالْقِمْطِ شَدًّا شَدِيدًا، حَتَّى يَضْطَرَّ الْعِلَّةَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْجَسَدِ، ثُمَّ يَضَعُ الْمَكْوَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَيَلْذَعُهُ بِهِ وَأَنَّهُ أَيْضًا يَكْوِي الصَّحِيحَ لِئَلَّا يَسْقَمَ فَتَطُولُ صِحَّتُهُ.
وَكَانَ -مَعَ هَذَا- يَدَّعِي أَشْيَاءَ مِنِ اسْتِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْشَاءِ السَّحَابِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَإِثَارَةِ الرِّيحِ مَعَ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ، وحماقات ظَاهِرَة بَيِّنَة، وَأَصْحَاب يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، وَيَشْهَدُونَ لَهُ عَلَى صِدْقِ مَا يَقُولُ.
وَقَدِ امْتَحَنَّاهُ فِي بَعْضِ مَا ادَّعَى، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ إِلَى قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ.
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، وَتَفْعَلُ شَبِيهًا بِذَلِكَ فِي الْإِبِلِ إِذَا وَقَعَتِ النُّقَبَةُ فِيهَا، وَهُوَ جَرَبٌ، أَوِ الْعُرُّ3، وَهُوَ قُرُوحٌ تَكُونُ فِي وُجُوهِهَا وَمَشَافِرِهَا، فَتَعْمَدُ إِلَى بَعِيرٍ مِنْهَا صَحِيحٍ، فَتَكْوِيهِ لِيَبْرَأَ مِنْهَا مَا بِهِ الْعَرُّ أَوِ النُّقَبَةُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّابِغَةُ فِي قَوْلِهِ لِلنُّعْمَانِ:
فَحَمَّلْتَنِي ذَنْبَ امْرِئٍ وَتَرَكْتَهُ ... كَذِي الْعُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وَهُوَ رَاتِعُ
وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أَبْطَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ فِيهِ: "لم يتوكل من
__________
1 البرسام: عِلّة يهذي فِيهَا.
2 الصفار والصفر: دَاء فِي الْبَطن يصفر الْوَجْه، أَو دَاوُد فِيهِ يصفر الْوَجْه. الْقَامُوس 545.
3 العر والعر والعرة: الجرب، وبالضم قُرُوح فِي أَعْنَاق الفصلان، وداء يتمعط مِنْهُ وبر الْإِبِل. "الْقَامُوس".

(1/463)


اكتوى1، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اكْتِوَاءَهُ، وَإِفْزَاعَهُ الطَّبِيعَةَ بِالنَّارِ -وَهُوَ صَحِيحٌ- يَدْفَعُ عَنْهُ قَدَرَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَوْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنْ لَا مَنْجَى مِنْ قَضَائِهِ، لَمْ يَتَعَالَجْ -وَهُوَ صَحِيحٌ- وَلَمْ يَكْوِ مَوْضِعًا لَا عِلَّةَ بِهِ، لِيَبْرَأَ الْعَلِيلُ.
الْكَيُّ الْمُبَاحُ:
وَأَمَّا الْجِنْسُ الْآخَرُ فَكَيُّ الْجُرْحِ إِذَا نَغِلَ2، وَإِذَا سَأَلَ دَمُهُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ.
وَكَيُّ الْعُضْوِ إِذَا قُطِعَ، أَوْ حَسَمَهُ3، وَكَيُّ عُرُوقِ مَنْ سَقَى بَطْنَهُ وبدنه.
قَالَ بن أَحْمَرَ يَذْكُرُ تَعَالُجَهُ حِينَ شُفِيَ4:
شَرِبْتُ الشُّكَاعَى5 وَالْتَدَدْتُ أَلِدَّةً6 ... وَأَقْبَلْتُ أَفْوَاهَ الْعُرُوقِ الْمُكَاوِيَا7
وَهَذَا هُوَ الْكَيُّ الَّذِي قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِيهِ الشِّفَاءَ".
وَكَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، لِعِلَّةٍ كَانَ يَجِدُهَا فِي عُنُقِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
__________
1 رَوَاهُ أَحْمد: 4/ 251 و252 و253.
2 نغل الْجرْح: فسد -وَنِيَّته: ساءت -وَقَلبه عَليّ: ضغن. "الْقَامُوس 1374".
3 حسمه: قطعه، والعرق: قطعه ثمَّ كواه لِئَلَّا يسيل دَمه.
4 وَفِي نسختين: سقِِي، وَهُوَ تَحْرِيف وَاضح، وَالصَّحِيح مَا أَثْبَتْنَاهُ.
5 الشكاعي: بِضَم الشين وَفتحهَا: دق النَّبَات وَهُوَ نَافِع من الحميات العتيقة أَي البلغمية واللهاة الوارمة ووجع الْأَسْنَان، ثمَّ إِن هَذِه الْخَواص الْمَذْكُورَة لَيست فِيهَا وَإِنَّمَا هِيَ فِي بزرها فَهِيَ من نَبَات دَقِيق العيدان صَغِيرَة خضراء وَالنَّاس يتداوون قَدِيما بهَا.
6 التد: ابتلع الدَّوَاء.
7 المكاوي: جمع المكواة وَهِي مَا يكون بِهِ. أَي جعلت أَفْوَاه الْعُرُوق تلِي قبالة المكاوي.

(1/464)


وَلَا يُقَالُ لِمَنْ يُعَالَجُ عِنْدَ نُزُولِ الْعِلَّةِ بِهِ، لَمْ يَتَوَكَّلْ، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّعَالُجِ، وَقَالَ: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ" 1.
لَا عَلَى أَنَّ الدَّوَاءَ2 شَافٍ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا يُشْرَبُ عَلَى رَجَاءِ الْعَافِيَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، إِذْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.
وَمِثْلُ هَذَا الرِّزْقِ، قَدْ تَضَمَّنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ، إِذْ يَقُولُ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 3.
ثُمَّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِهِ، وَبِالِاكْتِسَابِ، وَالِاحْتِرَافِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} 4.
وَمِثْلُهُ تَوَقِّي الْمَهَالِكِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّوَقِّيَ لَا يَدْفَعُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ.
وَحِفْظُ الْمَالِ فِي الْخَزَائِنِ، وَبِالْأَقْفَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا ضَيْعَةَ عَلَى مَا حَفِظَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا حِفْظَ لِمَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَنْظُرَ فِيهِ إِلَى الْمَغِيبِ عَنَّا، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْحَزْمُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ " 5.
وَقَالَ لِرَجُلٍ سَمِعَهُ يَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ: "أَبْلَى عُذْرًا فَإِذَا أَعْجَزَكَ أَمْرٌ فَقل حسبي الله".
__________
1 الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، وروى البُخَارِيّ مَعْنَاهُ، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 5164 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
2 فِي نسختين: "لَا على الْإِيمَان بِأَن الدَّوَاء".
3 الْآيَة: 6 من سُورَة هود.
4 الْآيَة: 267 من سُورَة الْبَقَرَة، وجدناها خطأ بِلَفْظ "وكلوا من طَيّبَات ... ".
5 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 60 بِلَفْظ: " اغفلها وتوكل"، وَهُوَ حَدِيث حسن، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 1068.

(1/465)


التِّرْيَاقُ:
وَمِمَّا يُشْبِهُ الْكَيَّ فِي حَالَتَيْهِ، التِّرْيَاقُ1، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ، إِنْ أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا، أَوْ تَعَلَّقْتُ تَمِيمَةً، أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ نَفْسِي"2.
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَسْمَعُ بِالتِّرْيَاقِ الْأَكْبَرِ وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي خَزَائِنِ مُلُوكِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَة وَأَصْلَحهَا الْعِظَام الْأَدْوَاءِ، فَقَضَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ شِفَاءٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَنَّوْا بِهِ عَنْ كُلِّ نَفْعٍ وَقَضَوْا بِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَنِيَّةَ حِينًا، وَيَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَيَقِي الْعَاهَاتِ.
قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ خَمْرًا:
سَقَتْنِي بِصَهْبَاءَ دِرْيَاقَةٍ3 ... مَتَى مَا تَلِينُ عِظَامِي تَلِنْ
فَكَنَّى عَنِ الشِّفَاءِ بِالدِّرْيَاقِ، كَأَنَّهُ قَالَ: سَقَتْنِي بِخَمْرٍ شِفَاءٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ كَأَنَّهَا دِرْيَاقٌ.
وَشَبَّهَ الْمُتَشَبِّبُونَ رِيقَ النِّسَاءِ بِالدَّرْيَاقِ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنَ الْوَجْدِ، كَالدِّرْيَاقِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، أَنَّهُ قَرَنَ شُرْبَ الدِّرْيَاقِ بِتَعْلِيقِ التَّمَائِمِ، وَالتَّمَائِمُ خَرَزُ رُقُطٍ، كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَجْعَلُهَا فِي الْعُنُقِ وَالْعَضُدِ، تَسْتَرِقِي بِهَا، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنِ الْمَرْءِ الْعَاهَاتِ، وَتَمُدُّ فِي الْعُمُرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَاتَ لَمْ تُفْلِحْ مُزَيْنَةُ بَعْدَهُ ... فَنُوطِيَ عَلَيْهِ يَا مُزَيْنُ التَّمَائِمَا
يَقُولُ: عَلِّقِي عَلَيْهِ هَذَا الخرز، لتقيه الْمنية.
__________
1 الترياق: بِالْكَسْرِ دَوَاء مركب، اخترعه مَا غنيس وتممه أندروماخس الْقَدِيم بِزِيَادَة لُحُوم الأفاعي فِيهِ، وبا كمل الْغَرَض، وَهُوَ مسمية بِهَذَا لِأَنَّهُ من لدغ الْهَوَام السبعية، وَهِي باليوانانية ترياء، نَافِع من الْأَدْوِيَة المشروبة السمية.
2 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 4978، عَن ابْن عَمْرو وَتَخْرِيج الْمشكاة برقم 4554.
3 الدرياق: هُوَ الترياق وَالْخمر. "الْقَامُوس".

(1/466)


وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ:
جَعَلْتُ لِعَرَّافِ الْيَمَامَةِ حِكْمَةً ... وَعَرَّافِ نَجْدٍ1 إِنْ هُمَا شَفَيَانِي
فَمَا تَرَكَا مِنْ رُقْيَةٍ يَعْلَمَانِهَا ... وَلَا سَلْوَةٍ إِلَّا بِهَا سَقَيَانِي
فَقَالَا شَفَاكَ الله وَالله مالنا ... بِمَا حَمَلَتْ مِنْكَ الضُّلُوعُ يُدَانِ
وَالسَّلْوَةُ حَصَاةٌ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَاشِقَ إِذَا سُقِيَ الْمَاءَ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ، سَلَا وَذَهَبَ عَنْهُ مَا هُوَ بِهِ.
فَهَذَا هُوَ التِّرْيَاقُ الَّذِي كَرِهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا نَوَى فِيهِ هَذِهِ النِّيَّةَ، وَذَهَبَ بِهِ هَذَا الْمَذْهَبَ.
فَأَمَّا مَنْ شَرِبَهُ، وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنَ الدَّوَاءِ، يُؤَمِّلُ نَفْعَهُ وَيَخَافُ ضُرَّهُ، وَيَسْتَشْفِي اللَّهَ تَعَالَى بِهِ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي التِّرْيَاقِ لُحُومُ الْحَيَّاتِ فَإِن بن سِيرِينَ كَانَ يَكْرَهُهُ، إِذَا كَانَتْ فِيهِ الْحُمَّةُ، يَعْنِي: السُّمَّ الَّذِي يَكُونُ فِي لُحُومِهَا.
وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ الرُّقَى، يُكْرَهُ مِنْهَا مَا كَانَ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَبِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ وَكَلَامِهِ فِي كُتُبِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا نَافِعَةٌ لَا مَحَالَةَ.
وَإِيَّاهَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "مَا تَوَكَّلَ مَنِ اسْتَرْقَى".
وَلَا يُكْرَهُ مَا كَانَ مِنَ التَّعَوُّذِ بِالْقُرْآنِ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنْ صَحَابَتِهِ رَقَى قَوْمًا بِالْقُرْآنِ، وَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا: "مَنْ أَخَذَ أَجْرًا بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أخذت برقية حق"2.
__________
1 وَفِي نسختين: "وعراف حجر".
2 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: بُيُوع 37 وطب 19، وَأحمد 3/ 2 و10 و44.

(1/467)


59- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- فِي شُرْبِ الْمَاءِ قَائِمًا:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ بن الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا، قُلْتُ: فَالْأَكْلُ؟ قَالَ: "الْأَكْلُ أَشَدُّ مِنْهُ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِع، عَن بن عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِم" 2.
__________
1 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 6056 بِلَفْظ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الشّرْب قَائِما وَالْأكل قَائِما"، وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 1770.
2 الَّذِي فِي البُخَارِيّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شرب قَائِما وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله كَمَا روى البُخَارِيّ فِي بَاب مَا جَاءَ فِي زَمْزَم فروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه سقى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زَمْزَم فَشرب وَهُوَ قَائِم، يَعْنِي فِي حجَّة الْوَدَاع، والْحَدِيث رقم 1937 من فتح الْبَارِي، وَزَاد البُخَارِيّ أَن عِكْرِمَة حلف مَا كَانَ يؤمئذ إِلَّا على بعير. وَذهب ابْن حجر أَن حلف عِكْرِمَة من قبيل مَا علم من نَهْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشّرْب قَائِما. والحقيقة أَن كَلَام عِكْرِمَة لَهُ وَجه يَسْتَقِيم من لفظ الحَدِيث وَهُوَ أَن الرَّاكِب على بعير إِذا وقف على شَيْء أَو قوم يُقَال قَامَ عَلَيْهِم، وَلَقَد وقف رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة على الْقَصْوَاء طوال الْوَقْت، وَرويت أَحَادِيث عَن منااولته قدحًا من اللَّبن وَهُوَ وَاقِف أَو قَائِم بعرفه ليعلم أهوَ صَائِم أم مفطر. وَالْخُلَاصَة أَن الرَّاكِب على بعير أَو نَحوه إِذا وقف لشأن يُقَال لَهُ قَائِم وَيُقَال لَهُ وَاقِف، وَالَّذِي وقصته نَاقَته وَهُوَ قَائِم بِعَرَفَة كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا، فَلَيْسَ معنى قَامَ على بعيره أَو وقف على رَاحِلَته أَنه وَاقِف عَلَيْهَا، بل هِيَ الواقفة وَهُوَ قَاعد عَلَيْهَا، وَلَا يفهم مِنْهَا إِلَّا هَذَا. وَعَلِيهِ فَيُصْبِح قَول عِكْرِمَة وَقَول ابْن عَبَّاس جَمِيعًا، فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب من زَمْزَم وَهُوَ قَائِم، يَعْنِي على رَاحِلَته، بِمَعْنى أَنه كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا وَهِي قَائِمَة، وَعَلِيهِ لَا يُفِيد الحَدِيث مَا دلّ عَلَيْهِ الظَّاهِر أَنه شرب قَائِما على رجلَيْهِ بل جَالِسا على بعيره. وَهَذَا تَخْرِيجه صَحِيح يتَّفق مَعَ نَهْيه فِي صَحِيح مُسلم فِي أَكثر من حَدِيث عَن الشّرْب قَائِما، وَيبقى بعد ذَلِك حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ يُعَكر على هَذَا لِأَنَّهُ صَرِيح فِي شربه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا على رجلَيْهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك لبَيَان الْجَوَاز عِنْد الْحَاجة، وَالله تَعَالَى أعلم. -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.

(1/468)


وَهَذَا نَقْضٌ لِذَاكَ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ، هَهُنَا، تَنَاقَضٌ.
لِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ أَوْ يَأْكُلَ مَاشِيًا.
يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ وَأَكْلُهُ عَلَى طُمَأْنِينَةٍ، وَأَنْ لَا يَشْرَبَ -إِذَا كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي سَفَرٍ أَوْ حَاجَةٍ وَهُوَ يَمْشِي- فَيَنَالَهُ مِنْ ذَلِكَ شَرَقٌ، أَوْ تَعَقُّدٌ مِنَ الْمَاءِ فِي صَدْرِهِ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: "قُمْ فِي حَاجَتِنَا"، لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَقُومَ حَسْبُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ "امْشِ فِي حَاجَتِنَا، اسْعَ فِي حَاجَتِنَا".
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْأَعْشَى:
يَقُومُ عَلَى الْوَغْمِ1 قَوْمَهُ ... فَيَعْفُو إِذَا شَاءَ أَوْ يَنْتَقِمْ
يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: "يَقُومُ عَلَى الْوَغْمِ" أَنَّهُ يُطَالِبُ بِالذَّحْلِ2، وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ.
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 3.
يُرِيدُ: مَا دُمْتَ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ بِالِاخْتِلَافِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْمُطَالَبَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْقِيَامَ وَحْدَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: "كَانَ يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ"، يُرَادُ: غَيْرَ مَاشٍ وَلَا سَاعٍ.
وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى طُمَأْنِينَةٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاعِدِ.
__________
1 الوعم: الحقد الثَّابِت فِي الصَّدْر، والقهر "كَمَا فِي الْقَامُوس".
2 الذحل: الثأر، أَو طلب مُكَافَأَة بِجِنَايَة جنيت عَلَيْهِ.
3 الْآيَة: 75 من سُورَة آل عمرَان.

(1/469)


60- قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ- فِيمَا يَنْجُسُ مِنَ الْمَاءِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا" 2.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ حَمَلَ النَّجَسَ، وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِخِلَافٍ لِلْأَوَّلِ.
وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" عَلَى الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى الْآبَارِ وَالْغُدْرَانِ3 أَنْ يَكْثُرَ مَاؤُهَا، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ: "السَّيْلُ لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ مَا يَرُدُّهُ الْجِدَارُ"، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْكَثِيرَ مِنْهُ لَا الْقَلِيلَ.
وَكَمَا يَقُولُ: "النَّارُ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ"، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ نَارَ الْمِصْبَاحِ الَّذِي يُطْفِئُهُ النَّفْخُ وَلَا الشَّرَارَةَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ نَارَ الْحَرِيقِ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا بَعْدَ هَذَا بِالْقُلَّتَيْنِ، مِقْدَارَ مَا تَقْوَى عَلَيْهِ4 النَّجَاسَةُ مِنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْء.
__________
1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 34، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 49، وَالنَّسَائِيّ: مياه 1 و2، وَابْن ماجة: طَهَارَة 76، وَأحمد: 1/ 235 و284 و308، و3/ 16 و31 و86 و6/ 172.
2 أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 518-146 عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد: 56.
3 الغدران: جمع "غَدِير" وَهُوَ النَّهر.
4 وَلَعَلَّ الْأَصَح: مَا لَا تقوى عَلَيْهِ النَّجَاسَة.

(1/470)


61- قَالُوا: حَدِيثَانِ فِي الْحَجِّ مُتَنَاقِضَانِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: "أَهْلَلْتُ بِحَجٍّ".
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَحَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّهَا قَالَتْ: "أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِهَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مَخْرَجًا، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ مِنَ الْقَاسِمِ، أَوْ عُرْوَةَ.
وَذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمُوا مَكَّةَ، وَقَدْ لَبَّوْا بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطُوفُوا وَيَسْعَوْا، ثُمَّ يُحِلُّوا، وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَحَلَّ الْقَوْمُ وَتَمَتَّعُوا1.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْي، لَحللت" 2.
__________
1 أخرجه أَحْمد "1/ 253 و259" عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: "قدمنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم حجاجًا، فَأَمرهمْ عمْرَة، ثمَّ قَالَ: لَو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لفَعَلت كَمَا فعلو، وَلَكِن دخلت الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ أنشب أَصَابِعه بَعْضهَا فِي بعض، فَحل النَّاس إِلَّا من كَانَ مَعَه هدى، وَقدم عَليّ من الْيمن.."، وَقَالَ فِي إرواء الغليل فِي تَخْرِيج أَحَادِيث منار السَّبِيل للألباني ط الْمكتب الإسلامي: جـ4 ص153 مَا يَلِي "قلت وَهُوَ حَدِيث صَحِيح بِهَذَا التَّمام ... " إِلَخ.
2 رَوَاهُ البُخَارِيّ: حج 32 و81 وَعمرَة 6 وَشركَة 15 وَتمنى 3 واعتصام 27، وَمُسلم: حج 141 و142 و214، وَأَبُو دَاوُد: مَنَاسِك 23، وَالتِّرْمِذِيّ: حج 109، وَالنَّسَائِيّ: مَنَاسِك 77 و143 و188، وَابْن ماجة: مَنَاسِك 41، وَأحمد: 3/ 185 و302 و305 و317 و366.

(1/471)


وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ، لَهُمْ خَاصَّةً"، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَهَلَّتْ، أَوَّلًا بِالْحَجِّ فَقَالَتْ لِلْقَاسِمِ: "إِنِّي أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ"، ثُمَّ فَسَخَتْهُ وَجَعَلَتْهُ عُمْرَةً.
وَقَالَتْ لِعُرْوَةَ: "إِنِّي أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ".
وَهِيَ صَادِقَةٌ فِي الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَهَلَّتْ بِهِ، صَارَ عُمْرَةً بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(1/472)


62- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ فِي الْعَيْنِ وَالرُّقَى:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كَادَتِ الْعَيْنُ تَسْبِقُ الْقَدَرَ" 1.
وَدُخِلَ عَلَيْهِ بِابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُمَا ضَارِعَانِ2.
فَقَالَ: "مَالِي أَرَاهُمْ ضَارِعَيْنَ؟ " قَالُوا: تُسْرِعُ إِلَيْهِمَا الْعَيْنُ، فَقَالَ: "اسْتَرْقُوا لَهُمَا"3، وَقَدْ نَهَى فِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنِ الرُّقَى"4.
قَالُوا: وَكَيْفَ تَعْمَلُ الْعَيْنُ مِنْ بُعْدٍ، حَتَّى تُعِلَّ وَتُسْقِمَ؟
هَذَا لَا يَقُومُ فِي وَهْمٍ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى نَظَرٍ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَائِمٌ فِي الْوَهْمِ، صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ مِنْ جِهَةِ الدِّيَانَةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي يَرْتَضُونَ بِهَا، وَيَرُدُّونَ الْأُمُورَ إِلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي طَبَائِعِهِمْ.
فَمِنْهُمْ مَنْ تَضُرُّ عَيْنُهُ إِذَا أَصَابَ بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرُّ عَيْنُهُ.
__________
1 أخرجه مُسلم: سَلام 42، وَالتِّرْمِذِيّ: طب 17، 19، وَابْن ماجة: طب 33، والموطأ: عين 3، وَأحمد: 6/ 438.
2 الضارع: النحيل.
3 والْحَدِيث معضل. رَوَاهُ ابْن وهب فِي جَامعه عَن مَالك عَن حميد بن قيس عَن عِكْرِمَة بن خَالِد بِهِ مُرْسلا، وَأخرجه مَالك فِي الْمُوَطَّأ: كتاب الْعين -50 ص939، وَالتِّرْمِذِيّ: 26 كتاب الطِّبّ، وَابْن ماجة: 31 كتاب الطِّبّ.
4 أخرجه مُسلم: سَلام 62، 63، وَابْن ماجة: طب34.

(1/473)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَعَضُّ، فَتَكُونُ عَضَّتُهُ كَعَضَّةِ الْكَلْبِ الْكَلِبَ1 فِي الْمَضَرَّةِ، أَوْ كَنَهْشَةِ الْأَفْعَى، لَا يَسْلَمُ جَرِيحُهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَلْسَعُهُ الْعَقْرَبُ، فَلَا تُؤْذِيهِ وَتَمُوتُ الْعَقْرَبُ.
وَقَدْ جِيءَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ2 بِأَسْوَدَ3 مِنْ بَعْضِ الْبَوَادِي يَأْكُلُ الْأَفَاعِيَ، وَهِيَ أَحْيَاءُ، وَيَتَلَقَّاهَا بِالنَّهْشِ مِنْ جِهَةِ رؤوسها وَيَأْكُل بن عُرْسٍ، وَهُوَ حَيٌّ، وَيَتَلَقَّاهُ بِالْأَكْلِ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ.
وَأُتِيَ بِآخَرَ يَأْكُلُ الْجَمْرَ، كَمَا يَأْكُلُهُ الظَّلِيمُ4 فَلَا يَمُضُّهُ5 وَلَا يَحْرِقُهُ.
وَفُقَرَاءُ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَبْعُدُونَ عَنِ الرِّيفِ، يَأْكُلُونَ الْحَيَّاتِ، وَكُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ مِنَ الْحَشَرَاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْكُلُ الْأَبَارِصَ، وَلَحْمُهَا أَقْتَلُ مِنَ الْأَفَاعِي وَالتِّنِّينِ6.
وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ:
وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ لِهَذَا خَالِصًا ... لَكُنْتُ عَبْدًا يَأْكُلُ7 الْأَبَارِصَا
فَأَخْبَرَكَ أَنَّ الْعَبِيدَ يَأْكُلُونَهَا.
فَمَا الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ ذُو طَبِيعَةٍ فِي نَفْسِهِ، ذَاتِ سُمٍّ وَضَرَرٍ؟
فَإِذَا نَظَرَ بِعَيْنِهِ، فَأَعْجَبَهُ مَا يَرَاهُ، فَصَلَ مِنْ عَيْنِهِ فِي الْهَوَاءِ شَيْءٌ من
__________
1 الْكَلْب: جنونك الْكلاب، وصياح من عضه فعقبره. "الْقَامُوس 169".
2 المتَوَكل: الْخَلِيفَة العباسي جَعْفَر بن مُحَمَّد "ابْن المعتصم"، ولد بِبَغْدَاد 206هـ، وَنقل مقرّ الْخلَافَة إِلَى دمشق ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد واغتيل فِيهَا سنة 247هـ.
3 بأسود: بِرَجُل أسود.
4 الظليم: الذّكر من النعام، وتراب الأَرْض.
5 يمضه: يؤلمه ويسيئه.
6 التنين: حَيَّة عَظِيمَة.
7 وَفِي نسختين "أكل" بِهَمْزَة ممدودة.

(1/474)


تِلْكَ الطَّبِيعَةِ أَوْ ذَلِكَ السُّمِّ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَرْئِيِّ1 فَيُعِلُّهُ2؟
وَقَدْ زَعَمَ صَاحِبُ الْمَنْطِقِ: "أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ حَيَّةً بِعَصَا، فَمَاتَ الضَّارِبُ، وَإِنَّ مِنَ الْأَفَاعِي مَا يَنْظُرُ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَيَمُوتُ الْإِنْسَانُ بِنَظَرِهِ، وَمَا يُصَوِّتُ فَيَمُوتُ السَّامِعُ بِصَوْتِهِ"، فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ.
وَقَدْ حُدِّثْنَا مَعَ هَذَا، عَنِ النَّضِرِ بْنِ شُمَيْلٍ عَنْ أَبِي خَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: "الْأَبْتَرُ مِنَ الْحَيَّاتِ، خَفِيفٌ أَزْرَقُ، مَقْطُوعُ الذَّنَبِ، يَفِرُّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ، وَلَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ حَامِلٌ إِلَّا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَهُوَ الشَّيْطَانُ مِنَ الْحَيَّاتِ"، وَهَذَا قَوْلٌ يُوَافِقُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمَنْطِقِ.
أَفَمَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَّةَ إِذَا قَتَلَتْ مِنْ بُعْدٍ، فَإِنَّمَا تَقْتُلُ بِسُمٍّ فَصَلَ مِنْ عَيْنِهَا فِي الْهَوَاءِ، حَتَّى أَصَابَ مَنْ رَأَتْهُ؟
وَكَذَلِكَ الْقَاتِلَةُ بِصَوْتِهَا، تَقْتُلُ بِسُمٍّ فَصَلَ مِنْ صَوْتِهَا، فَإِذَا دَخَلَ السَّمْعَ، قَتَلَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ مِثْلَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي الَّذِي يَعْتَانُ3.
وَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا عَيُونًا، فَدُعِيَ عَلَيْهِ فَعَوِرَ.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّيْءَ يُعْجِبُنِي، وَجَدْتُ حَرَارَةً تَخْرُجُ مِنْ عَيْنِي.
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ الطَّامِثَ، تَدْنُو مِنْ إِنَاءِ اللَّبَنِ لِتُسَوِّطَهُ4 وَهِيَ مُنَظِّفَةُ الْكَفِّ وَالثَّوْبِ؛ فَيَفْسَدُ اللَّبَنُ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ فَصَلَ عَنْهَا حَتَّى وَصَلَ إِلَى اللَّبن.
__________
1 فِي نسختين: "إِلَى الْمَرْء".
2 فِي نسختين: "فيقتله".
3 يعتان: يُصِيب بِالْعينِ، وَاسم الْفَاعِل مِنْهُ معيان وعيون: وَهُوَ شَدِيد الْإِصَابَة بِالْعينِ. "الْقَامُوس 1572".
4 لتسوطه: أَي لتخلطه، وَالسَّوْط: الْخَلْط بَين شَيْئَيْنِ فِي إِنَاء. "الْقَامُوس 868".

(1/475)


وَقَدْ تَدْخُلُ الْبُسْتَانَ فَتُضَرُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُرُوسِ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهَا.
وَقَدْ يَفْسَدُ الْعَجِينُ إِذَا قُطِّعَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الْبِطِّيخُ.
وَنَاقِفُ1 الْحَنْظَلِ، تَدْمَعُ عَيْنَاهُ وَكَذَلِكَ مُوخِفُ2 الْخَرْدَلِ، وَقَاطِعُ الْبَصَلِ.
وَقَدْ يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ إِلَى الْعَيْنِ الْمُحْمَرَّةِ، فَتَدْمَعُ عَيْنُهُ وَرُبَّمَا احْمَرَّتْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ وَصَلَ فِي الْهَوَاءِ إِلَيْهَا مِنَ الْعَيْنِ الْعَلِيلَةِ.
وَقَدْ يَتَثَاءَبُ الرَّجُلُ، فَيَتَثَاءَبُ غَيْرُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَسْرَعُ مِنْ عَدْوَى الثُّؤَبَاءِ3.
وَمَا أَكْثَرَ مَا يَخْتَدِعُ الرَّاقُونَ بِالتَّثَاؤُبِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا رَقَوْا عَلِيلًا تَثَاءَبُوا، فَتَثَاءَبَ الْعَلِيلُ بِتَثَاؤُبِهِمْ، وَأَكْثَرُوا، وَأَكْثَرَ.
فَيُوهِمُونَ الْعَلِيلَ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الرُّقْيَةِ وَأَنَّهُ تَحْلِيلُ مِنْهَا لِلْعِلَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي الدَّارِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَيَجْدَرُ أَحَدُهُمْ، فَيَجْدَرُ الْبَاقُونَ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ فَصَلَ مِنَ الْعَلِيلِ فِي الْهَوَاءِ إِلَى مَنْ كَانَ مِثْلَهُ مِمَّنْ لَمْ يَجْدُرْ قَطُّ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْعَدْوَى فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ سُمٌّ يَنْفُذُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ، وَهَذَا مِنْ أَمْرِ الْعَيْنِ صَحِيح.
وَأما من يَدَّعِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ: أَنَّ الْعَائِنَ مِنْهُمْ يَقْتُلُ مَنْ أَرَادَ، وَيُسْقِمُ مَنْ أَرَادَ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَقِفُ عَلَى مَخْرَفَةِ النَّعَمِ، وَهُوَ طَرِيقُهَا إِلَى الْمَاءِ، فَيُصِيبُ مَا أَرَادَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ بِعَيْنِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَقَدْ قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ
__________
1 ناقف الحنظل: الَّذِي يفصل حبه بعد شقَّه.
2 وخف الخطمي يخفه: ضربه حَتَّى تلزج. "الْقَامُوس 1110".
3 الثؤباء والتثاؤب: كسل وفترة كفترة النعاس.

(1/476)


بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} 1، أَرَادَ: يَعْتَانُونَكَ.
أَيْ: يُصِيبُونَكَ بِعُيُونِهِمْ، كَمَا يَعْتَانُ الرَّجُلُ الْإِبِلَ إِذَا صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ.
وَلَيْسَ هُوَ -عِنْدَنَا- عَلَى مَا تَأَوَّلَ- وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، نَظَرًا يَكَادُ يُزْلِقُكَ مِنْ شِدَّتِهِ، حَتَّى تَسْقُطَ.
وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَتَقَارَضُونَ2 إِذَا الْتَقَوْا فِي مَوْطِنٍ ... نَظَرًا يُزِيلُ مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ
أَيْ: يَكَادُ يُزِيلُهَا عَنْ مَوَاطِئِهَا، مِنْ شِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ، وَهَذَا نَظَرُ الْعَدُوِّ الْمُبْغِضُ.
تَقُولُ النَّاسُ: نَظَرَ إِلَيَّ شَزْرًا3 وَنَظَرَ إِلَيَّ مُحَدِّقًا4، وَأَرَيْتُهُ لَمْحًا بَاصِرًا.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} 5.
لِأَنَّ الْمَغْشِيَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، يشخص ببصره، وَلَا يَطْرِفُ6.
وَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَر} 7 فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، يُرِيد: بريقه.
__________
1 الْآيَة: 51 من سُورَة الْقَلَم.
2 يتقارضون: من القريض للشعر، والقرنان يتقارضان النّظر: ينظر كل مِنْهُمَا إِلَى صَاحبه شزرًا، والتقريض: الْمَدْح والذم.
3 شزرًا: أَي نظر فِيهِ إِعْرَاض، أَو نظر الغضبان بمؤخر الْعين، أَو النّظر عَن يَمِين وشمال. "الْقَامُوس 532".
4 محدقًا: من التحديث: هُوَ شدَّة النّظر. "الْقَامُوس 1127".
5 الْآيَة: 20 من سُورَة مُحَمَّد.
6 يطرف: يطبق أحد جفنيه على الآخرى. "الْقَامُوس 1075".
7 الْآيَة: 7 من سُورَة الْقِيَامَة.

(1/477)


وَلَوْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ الْأَعْرَابُ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحًا، لَأَمْكَنَهُمْ قَتْلُ مَنْ أَرَادُوا قَتْلَهُ، وَإِسْقَامُ مَنْ أَرَادُوا إِسْقَامَهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ الْعَيِّنَ إِذَا خَافَ أَنْ يُصِيبَ الْآخَرَ بِعَيْنِهِ إِذَا أَعْجَبَهُ، أَرْدَفَهَا التَّبْرِيكَ وَالدُّعَاءَ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَعْجَبَ أَحَدَكُمْ أَخُوهُ، فَلْيُبَرِّكْ عَلَيْهِ" 2.
وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنَ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَائِنُ يُصِيبُ بِعَيْنِهِ، إِذَا تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ أَوِ اسْتَحْسَنَهُ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ لِنَفْسِهِ بِعَيْنِه.
لذَلِك سَمَّوُا الْعَيْنَ نَفْسًا؛ لِأَنَّهَا تَفْعَلُ بِالنَّفْسِ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ أَوْ نَمْلَةٍ، أَوْ نَفْسٍ" 3.
فَالنَّفْسُ: الْعَيْنُ -وَالْحُمَّةُ الْحَيَّاتُ وَالْعَقَارِبُ وَأَشْبَاهُهَا، مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ- وَالنَّمْلَةُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ.
وَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّفَّاءَ: "عَلِّمِي حَفْصَةَ، رُقْيَةَ النَّمْلَةِ وَالنَّفس وَالْعين ".
وَقَالَ بن عَبَّاسٍ فِي الْكِلَابِ: "إِنَّهَا مِنَ الحن وَهِيَ ضَعَفَةُ الْجِنِّ، فَإِذَا غَشِيَتْكُمْ عِنْدَ طَعَامِكُمْ، فَأَلْقُوا لَهَا، فَإِنَّ لَهَا أَنْفُسًا".
يُرِيدُ أَنَّ لَهَا عُيُونًا تَضُرُّ بِنَظَرِهَا إِلَى مَنْ يطعم بحضرتها.
__________
1 فِي نسختين: ضَرَره.
2 وجدنَا حَدِيثا بِهَذَا الْمَعْنى رُوِيَ فِي الْمُوَطَّأ: كتاب الْعين 1، 2، بِلَفْظ: "علام يقتل أحدكُم أَخَاهُ؟ أَلا بَركت إِن الْعين حق تَوَضَّأ لَهُ". بَركت: أَي قلت بَارك الله فِيك، إِن الْعين حق: أَي الْإِصَابَة بهَا شَيْء ثَابت بِهِ فِي الْوَضع الإلهي، لَا شُبْهَة فِي تَأْثِيره فِي النُّفُوس وَالْأَمْوَال.
3 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طب18، وَأحمد: 4/ 372.
والحمة: بِالتَّخْفِيفِ السم، وَقد يشدد وَيُطلق على إبرة الْعَقْرَب للمجاورة؛ لِأَن السم مِنْهَا يخرج.

(1/478)


63- قَالُوا: حَدِيثَانِ فِي الْبُيُوعِ مُتَنَاقِضَانِ- بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حبيب، عَن مُسلم ابْن جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرو بن حُرَيْث، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا، فَنَفِدَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ"2.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ اخْتِلَافٌ، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ، لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ بَيْعُ الْمُوَاصَفَةِ.
وَإِذَا أَنْتَ بِعْتَ حَيَوَانًا بِحَيَوَانٍ نَسِيئَةً، فَقَدْ دَفَعْتَ ثَمَنًا لِشَيْءٍ، لَيْسَ هُوَ عِنْدَ صَاحِبِكَ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ.
__________
1 رَوَاهُ أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة والضياع بِسَنَد صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 6930 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
2 رَوَاهُ أَحْمد 2/ 171 و216.

(1/479)


وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: "أَمَرَنِي أَنْ آخُذَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ".
يُرِيدُ: سَلَفًا وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةَ فِي السَّلَفِ بِأَنْ يَدْفَعَ الْوَرَقَ. أَوِ الذَّهَبَ، أَوِ الْحَيَوَانَ سَلَفًا فِي طَعَامٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ حَيَوَانٍ، عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَإِلَى وَقْتٍ مَحْدُودٍ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْتَسْلِفِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي دَفَعْتَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَكَ بِهِ عِنْدَ مَحِلِّ الْأَجَلِ، فَصَارَ حُكْمُ السَّلَفِ خِلَافَ حُكْمِ الْبَيْعِ؛ إِذْ كَانَ الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَنْ تَشْتَرِيَ مَا لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِكَ، فِي وَقْتِ الْمُبَايَعَةِ.
وَكَانَ السَّلَفُ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ تُسْلِفَ فِيمَا لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِكَ، فِي وَقْتِ الِاسْتِسْلَافِ.
وَلَمَّا نَفِدَتِ الْإِبِلُ، أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الْبَعِيرَ الْبَازِلَ1، وَالْعَظِيمَ وَالْقَوِيَّ مِنَ الْإِبِلِ، بِالْبَعِيرَيْنِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ الْحِقَاقِ2، وَالْجِذَاعِ3 الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلْغَزْوِ، وَلَا لِلسَّفَرِ.
وَرُبَّمَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْإِبِلِ الْبَوَازِلِ الشِّدَادِ خَيْرًا مِنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ مِنْ إبل الصَّدَقَة.
__________
1 البازل من الْإِبِل: وَذَلِكَ فِي تَاسِع سنيه وَلَيْسَ بعده سنّ تسمى. "الْقَامُوس".
2 الحقاق: النوق الَّتِي سَقَطت أسنانها هرمًا. "الْقَامُوس".
3 الجذاع: الْإِبِل فِي الْخَامِسَة. "الْقَامُوس".

(1/480)


64- قَالُوا: حَدِيثَانِ- فِي الْحَيْضِ مُتَنَاقِضَانِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ جَرِيرٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا فِي فَوْحِ حَيْضِنَا، أَنْ نَأْتَزِرَ، ثُمَّ يُبَاشِرُنَا، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُهُ؟ "1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ أُمِّ ذَرَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كُنْتُ إِذَا حِضْتُ، نَزَلْتُ عَنِ الْمِثَالِ إِلَى الْحَصِيرِ، فَلَمْ نَقْرَبْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ نَدْنُ مِنْهُ، حَتَّى نَطْهُرَ"2.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ إِحْدَانَا، إِذَا كَانَت حَائِضًا، أَن تأتزر، ثمَّ يضاجعها.
__________
1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 107 حَدِيث رقم 273، وفوح حيضنا: أَوله ومعظمه.
2 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 107 حَدِيث رقم 271، وَقد تفرد بِهِ أَبُو دَاوُد والمثال: الْفراش وزنا وَمعنى، وَجمعه مثل؛ كفرش.

(1/481)


وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ، خِلَافُ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ أُمِّ ذَرَّةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَلَا يَجُوزُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَقُولَ: "كُنْتُ أُبَاشِرُهُ فِي الْحَيْضِ مَرَّةً"، ثُمَّ تَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى: "كُنْتُ لَا أُبَاشِرُهُ فِي الْحَيْضِ، وَأَنْزِلُ عَنِ الْفِرَاشِ إِلَى الْحَصِيرِ، فَلَا أَقْرَبُهُ حَتَّى أَطْهُرَ".
لِأَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ يَكُونُ كَذِبًا، وَالْكَاذِبُ لَا يُكَذِّبُ نَفْسَهُ.
فَكَيْفَ يُظَنُّ ذَلِكَ بِالصَّادِقِ الطَّيِّبِ الطَّاهِرِ!!؟
وَلَيْسَ فِي مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ إِذَا ائْتَزَرَتْ، وَكَفٌ1 وَلَا نَقْصٌ، وَلَا مُخَالَفَةٌ لِسُنَّةٍ2 وَلَا كِتَابٍ.
وَإِنَّمَا يَكْرَهُ هَذَا مِنَ الْحَائِضِ وَأَشْبَاهَهُ من المعاطاة3 -الْمَجُوس.
__________
1 وكف: أَي عيب أَو إِثْم. الْقَامُوس "ص1113" ط. مؤسسة الرسَالَة.
2 وَفِي نُسْخَة: "ككتاب الله وَلَا سنته".
3 لم أجد لهَذَا الْكَلَام معنى وَاضحا.

(1/482)


65- قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ حُجَّةُ الْعَقْلِ- تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ، مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ" 1.
قَالُوا: كَيْفَ تَكُونُ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ؟ وَكَيْفَ تَتَأَخَّرُ عَمَّا تُبَشِّرُ بِهِ أَوْ تُنْذِرُ مِنْهُ بِتَأَخُّرِ الْعِبَارَةِ لَهَا، وَتَقَعُ إِذَا عُبِّرَتْ؟
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنْ لَمْ تُعَبَّرْ، لَمْ تَقَعْ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُمْ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ، إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ: "هُوَ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ وَبَيْنَ مَخَالِيبِ طَائِرٍ، وَعَلَى قَرْنِ ظَبْيٍ"، يُرِيدُونَ: أَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ وَلَا يَقِفُ.
قَالَ رَجُلٌ فِي الْحَجَّاجِ بْنِ2 يُوسُفَ:
كَأَنَّ فُؤَادِي بَيْنَ أَظْفَارِ طَائِرٍ ... مِنَ الْخَوْفِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مُحَلِّقِ
حِذَارَ امْرِئٍ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ ... مَتَى مَا يعد من نَفسه الشَّرّ يصدق
__________
1 انْظُر: ابْن ماجة 2/ 1288، وَأَبُو دَاوُد 4/ 417، وَالتِّرْمِذِيّ 3/ 249 وَصَححهُ، والدرر برقم 235، والفوائد للشوكاني 216، وصحيح الْجَامِع 3/ 185 برقم 3529، والدرامي: 2/ 126، والمستدرك 4/ 390-391، والمقاصد 230، والتمييز83، والكشف 1/ 429.
2 الْحجَّاج بن يُوسُف بن الحكم الثَّقَفِيّ ولد سنة 40هـ، وَنَشَأ فِي الطَّائِف، قَلّدهُ عبد الْملك أَمر عسكره وَكَانَ واليًا لَهُ على بَغْدَاد وقمع عددا من الثورات وَكَانَ داهية خَطِيبًا سفاكًا، توفّي 95هـ.

(1/483)


وَقَالَ الْمَرَّارُ، يَذْكُرُ فَلَاةً تَنْزُو1 مِنْ مَخَافَتِهَا قُلُوبَ الْأَدِلَّاءِ:
كَأَنَّ قُلُوبَ أَدِلَّائِهَا2 ... مُعَلَّقَةٌ بِقُرُونِ الظِّبَاءِ
يُرِيدُ: أَنَّهَا تَنْزُو وَتَجِبُ3، فَكَأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِقُرُونِ الظِّبَاءِ؛ لِأَنَّ الظِّبَاءَ لَا تَسْتَقِرُّ، وَمَا كَانَ عَلَى قُرُونِهَا، فَهُوَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ4:
وَلَا مِثْلَ يَوْمٍ فِي قَدَارٍ5 ظَلَلْتُهُ ... كَأَنِّي وَأَصْحَابِي عَلَى قَرْنِ أَعْفَرَا6
يُرِيدُ: أَنَّا لَا نَسْتَقِرُّ وَلَا نَطْمَئِنُّ، فَكَأَنَّا عَلَى قَرْنِ ظَبْيٍ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، يُرَادُ أَنَّهَا تَجُولُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى تُعَبَّرَ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ.
وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَبَّرَهَا مِنَ النَّاسِ وَقَعَتْ كَمَا عَبَّرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْعَالِمَ بِهَا، الْمُصِيبَ الْمُوَفَّقَ.
وَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاهِلُ الْمُخْطِئُ فِي عِبَارَتِهَا، لَهَا عَابِرًا، وَهُوَ لَمْ يُصِبْ وَلَمْ يُقَارِبْ؟ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَابِرًا لَهَا، إِذَا أَصَابَ.
يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 7، يُرِيدُ: إِن كُنْتُم تعلمُونَ عبارتها.
__________
1 تنزو: تثب. "الْقَامُوس ص1724".
2 أدلاتها: جمع دَلِيل.
3 تجب: تسْقط.
4 امْرُؤ الْقَيْس بن حجر بن الْحَارِث الْكِنْدِيّ أشهر شعراء الْعَرَب على الْإِطْلَاق مولده بِنَجْد نَحْو 130ق. هـ، طلب بثأر أَبِيه من بني أَسد حَتَّى أدْركهُ، وَله شهرة كَبِيرَة، توفّي سنة 80ق. هـ.
5 قدار: اسْم مَوضِع.
6 على قرن أعفرا: الأعفر من الظباء: مَا يَعْلُو بياضه حمرَة، أَو الَّذِي فِي سراته حمرَة، أَو الْأَبْيَض لَيْسَ بالشديد الْبيَاض، وَهِي عفراء.
7 الْآيَة: 43 من سُورَة يُوسُف.

(1/484)


وَلَا أَرَادَ أَنَّ كُلَّ رُؤْيَا تُعَبَّرُ وَتُتَأَوَّلُ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، فَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ غَلَبَةِ الطَّبِيعَةِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَإِنَّمَا تَكُونُ الصَّحِيحَةُ، الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمَلَكُ مَلَكُ الرُّؤْيَا عَنْ نُسْخَةِ أُمِّ الْكِتَابِ، فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمجِيد الْحَنَفِيّ، قَالَ نَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ، فَرُؤْيَا بُشْرَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، فَيَرَاهَا فِي النَّوْمِ" 1.
وَحَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ، أَوْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كُنْتُ أحضر بن سِيرِينَ يُسْأَلُ عَنِ الرُّؤْيَا، فَكُنْتُ أَحْزِرُهُ2 يُعَبِّرُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةً، أَوْ قَالَ: أَحَزُوَهُ3.
وَهَذِهِ الصَّحِيحَةُ هِيَ الَّتِي تَجُولُ حَتَّى يُعَبِرَّهَا الْعَالِمُ بِالْقِيَاسِ الْحَافِظُ لِلْأُصُولِ، الْمُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ، فَإِذَا عَبَّرَهَا وَقَعَتْ كَمَا عبر.
__________
1 رَوَاهُ البُخَارِيّ: تَعْبِير 26، وَمُسلم: رُؤْيا6، وَالتِّرْمِذِيّ: رُؤْيا 6 و7 و10، وَابْن ماجة: رُؤْيا2، والدارمي: رُؤْيا 6، وَأحمد 2/ 395.
2 أحرزه: أقدره. "الْقَامُوس 479".
3 أحزره: أتكهن. "الْقَامُوس 1644". ط. مؤسسة الرسَالَة 1986م.

(1/485)


66- قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ- اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَمَلُّ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" 1.
فَجَعَلْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى يَمَلُّ إِذَا مَلُّوا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَمَلُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يَكِلُّ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، كَانَ عَظِيمًا مِنَ الْخَطَأِ فَاحِشًا.
وَلَكِنَّهُ أَرَادَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَمَلُّ إِذَا مَلَلْتُمْ، وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُكُ فِي الْكَلَامِ:
هَذَا الْفَرَسُ لَا يَفْتُرُ، حَتَّى تَفْتُرَ الْخَيْلُ.
لَا تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَفْتُرُ، إِذَا فَتَرَتْ وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، مَا كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَفْتُرُ مَعَهَا، فَأَيَّةُ فَضِيلَةٍ لَهُ؟ وَإِنَّمَا تُرِيدُ، أَنَّهُ لَا يفتر إِذا افترت.
وَكَذَلِكَ تَقُولُ فِي الرَّجُلِ الْبَلِيغِ فِي كَلَامِهِ، وَالْمِكْثَارِ الْغَزِيرِ: فُلَانٌ لَا يَنْقَطِعُ، حَتَّى تَنْقَطِعَ خُصُومُهُ.
تُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ إِذَا انْقَطَعُوا.
__________
1 الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الْإِيمَان، بَاب: أحب الدَّين إِلَى الله أَدْوَمه، وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه رقم 782 -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.

(1/486)


وَلَوْ أَرَدْتَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إِذَا انْقَطَعُوا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَضْلٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا وَجَبت لَهُ بِهِ بِهِ مَدْحَةٌ.
وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي الشِّعْرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى بن أُخْتِ تَأَبَّطَ شَرًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ:
صَلِيَتْ مِنِّي هُذَيْلُ بِخِرْقٍ1 ... لَا يَمَلُّ الشَّرَّ حَتَّى يَمَلُّوا
لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَمَلُّ الشَّرَّ إِذَا مَلُّوهُ.
وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ، مَا كَانَ فِيهِ مَدْحٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ يَمَلُّونَ الشَّرَّ، وَهُوَ لَا يمله.
"تمّ الْكتاب بِحَمْد الله وعونه"
__________
1 خرق: شُجَاع.
يَقُول: إِن هذيلًا قاست الشدائد من شُجَاع قريب مِنْهُ لَا يسأم حَتَّى يجد السَّآمَة من أعدائه.

(1/487)