تأويل مختلف
الحديث ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ادَّعَوْا
عَلَيْهَا التَّنَاقُض:
قَالُوا: حَدِيثٌ يُخَالِفُ آيَةً
1- أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ:
فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ، ذَكَرُوا أَنَّهُ يُخَالِفُ
كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالُوا: رَوَيْتُمْ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ
عَلَى ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ 1، وَأَخْرَجَ
مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمْثَالَ
الذَّرِّ، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ".
وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى} 2 لِأَنَّ الْحَدِيثَ يُخْبِرُ أَنَّهُ
أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَالْكِتَابُ يُخْبِرُ أَنَّهُ
أَخَذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ
لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوا، بَلِ الْمَعْنَيَانِ
مُتَّفِقَانِ، بِحَمْدِ اللَّهِ ومنِّه، صَحِيحَانِ
لِأَنَّ الْكِتَابَ يَأْتِي بِجُمَلٍ، يَكْشِفُهَا
الْحَدِيثُ، واختصارٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ.
أَلَّا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ مَسَحَ ظَهَرَ
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا جَاءَ
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: ج5 رقم 4703، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِي التَّفْسِير حَدِيث 3076 تَفْسِير سُورَة الْأَعْرَاف
وَقَالَ: "هَذَا حَدِيث حسن" وَنسبه الْمُنْذِرِيّ للنسائي
أَيْضا، وَقد صَححهُ الألباني: انْظُر صَحِيح الْجَامِع
رقم 5208.
غير أَن مَا وَجَدْنَاهُ فِي سنَن أبي دَاوُد بِلَفْظ:
"أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدم ثمَّ مسح على
ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة، فَقَالَ:
خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ ".
2 الْآيَة 172 من سُورَة الْأَعْرَاف.
(1/145)
فِي الْحَدِيثِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ
ذُرِّيَّتَهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، أَنَّ فِي تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ
الْأَبْنَاءَ، وَأَبْنَاءَ الْأَبْنَاءِ، وَأَبْنَاءَهُمْ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَإِذَا أَخَذَ مِنْ جَمِيعِ أُولَئِكَ الْعَهْدَ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ أَخَذَ مِنْ
بَنِي آدَمَ جَمِيعًا، مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} 1 فَجَعَلَ
قَوْلَهُ لِلْمَلَائِكَةِ: "اسجدوا لآدَم" بعد
"خَلَقْنَاكُمْ" و"صورناكم".
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى "خَلَقْنَاكُمْ"
وَ"صَوَّرْنَاكُمْ" خَلَقْنَا آدَمَ، وَصَوَّرْنَاهُ،
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.
وَجَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ حِينَ خَلَقَ آدَمَ، خَلَقَنَا
فِي صُلْبِهِ، وَهَيَّأَنَا كَيْفَ شَاءَ.
فَجَعَلَ خَلْقَهُ لِآدَمَ، خَلْقَهُ لَنَا، إِذْ كُنَّا
مِنْهُ.
وَمِثْلُ هَذَا، مِثْلُ رَجُلٍ أَعْطَيْتَهُ مِنَ
الشَّاءِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى، وقلتَ لَهُ: قَدْ وَهَبْتُ
لَكَ شَاءً كَثِيرًا -تُرِيدُ أَنِّي وَهَبْتُ لَكَ
بِهِبَتِي هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ، مِنَ النِّتَاجِ، شَاءً
كَثِيرًا.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهَبَ لِدُكَيْنٍ
الرَّاجِزِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى بِهِ دُكَيْنٌ
عِدَّةً مِنَ الْإِبِلِ، فَرَمَى اللَّهُ تَعَالَى فِي
أَذْنَابِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَنَمَتْ وَكَثُرَتْ.
فَكَانَ دُكَيْنٌ يَقُولُ: هَذِهِ مَنَائِحُ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَلَمْ تَكُنْ كُلُّهَا عَطَاءَهُ، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ
الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ، فَنَسَبَهَا إِلَيْهِ؛ إِذْ
كَانَتْ نَتَائِجَ مَا وَهَبَ لَهُ.
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا، قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
مِن قَبلِها طِبتَ فِي الظِلالِ وَفي ... مُستَودَعٍ حَيثُ
يُخصَفُ الوَرَقُ
__________
1 الْآيَة 11 من سُورَة الْأَعْرَاف.
(1/146)
يُرِيد: طِبْتَ فِي ظِلَالِ الْجَنَّةِ،
وَفِي مُسْتَوْدَعٍ، يَعْنِي: الْمَوْضِعَ الَّذِي
اسْتُودِعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ،
أَيْ: حَيْثُ خَصَفَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ، طَيِّبًا
فِي صُلْبِ آدَمَ، ثُمَّ قَالَ:
ثُمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لَا بَشَرٌ ... أَنتَ وَلا
نُطفَةٌ وَلا عَلَقُ
يُرِيدُ أَنَّ آدَمَ هَبَطَ الْبِلَادَ، فَهَبَطْتَ فِي
صُلْبِهِ، وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ، لَا بَشَرٌ وَلَا
مُضْغَةٌ، وَلَا دَمٌ. ثُمَّ قَالَ:
بَلْ نُطْفَةٌ تَركَبُ السَفينَ وَقَد ... أَلجَمَ
نَسْرًا1 وَأَهلَهُ الغَرَقُ
يُرِيدُ أَنَّكَ نُطْفَةٌ فِي صُلْبِ نُوحٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ رَكِبَ الْفُلْكَ ثُمَّ قَالَ:
تُنْقَلُ مِن صالِبٍ إِلى رَحِم ... إِذَا مَضى عَلَمٌ
بَدا طَبَقُ
يُرِيدُ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي الْأَصْلَابِ
وَالْأَرْحَامِ:
فَجَعَلَهُ طَيِّبًا وَهَابِطًا لِلْبِلَادِ، وَرَاكِبًا
لِلسُّفُنِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ.
وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ آبَاءَهُ، الَّذِينَ
اشْتَمَلَتْ أَصْلَابُهُمْ عَلَيْهِ.
__________
1 النَّسْر: صنم من أصنام قوم نوح عَلَيْهِ السَّلَام.
(1/147)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
2- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا تَسْتَقْبِلُوا
الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ" 1.
وَرَوَيْتُمْ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي
عَوَانَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحِذَّاءِ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا
قَالَتْ: "ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قَوْمًا يَكْرَهُونَ أَنْ
يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ،
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِخَلَائِهِ، فَاسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ" 2.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ ذَاكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا
الْحَدِيثَ، يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّسْخُ، لِأَنَّهُ مِنَ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَكَيْفَ لَمْ يَذْهَبُوا إِلَى
أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ، وَالْآخَرَ مَنْسُوخٌ؟ إِذْ
كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَلَيْهِمُ الْمَعْنَى فِيهِمَا.
وَلَيْسَا عِنْدَنَا مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ،
وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعٌ يُسْتَعْمَلُ
فِيهِ.
فَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةُ فِيهِ بِالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، هِيَ
الصَّحَارِي والبراحات3.
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 4، وَابْن ماجة طَهَارَة
18، وَأحمد 5/ 415 و430 و438 و439، وأصل الحَدِيث فِي
الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي أَيُّوب، وَفِي مُسلم من
حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي.
2 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 6/ 183.
3 البراحات: الْأَرَاضِي الَّتِي لَا شجر فِيهَا وَلَا
زرع.
(1/148)
وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا فِي
أَسْفَارِهِمْ لِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ، اسْتَقْبَلَ
بَعْضُهُمُ الْقِبْلَةَ بِالصَّلَاةِ، وَاسْتَقْبَلَهَا
بَعْضُهُمْ بِالْغَائِطِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا
يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ
إِكْرَامًا لِلْقِبْلَةِ، وَتَنْزِيهًا لِلصَّلَاةِ.
فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا أَيْضًا، يُكْرَهُ فِي
الْبُيُوتِ وَالْكُنُفِ الْمُحْتَفَرَةِ.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِخَلَائِهِ، فَاسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ.
يُرِيدُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ
فِي الْبُيُوتِ، وَالْآبَارِ الْمُحْتَفَرَةِ، الَّتِي
تَسْتُرُ الْحَدَثَ، وَفِي الْخَلَوَاتِ فِي الْمَوَاضِعِ
الَّتِي لَا يجوز فِيهَا الصَّلَاة.
(1/149)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
3- الْمَشْيُ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا
انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَمْشِ فِي
نَعْلٍ وَاحِدَة" 1.
ورويتم عَن منْدَل، عَن اللَّيْث، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَمَشَى فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ، حَتَّى يُصْلِحَ
الْأُخْرَى" 2.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَنحن نقُول: لَيْسَ هَهُنَا
خِلَافٌ، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الرَّجُلَ
كَانَ يَنْقَطِعُ شِسْعُ نَعْلِهِ، فَيَنْبِذُهَا، أَوْ
يُعَلِّقُهَا بِيَدِهِ، وَيَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ،
إِلَى أَنْ يَجِدَ شِسْعًا.
وَهَذَا يَفْحُشُ وَيَقْبُحُ فِي النَّعْلَيْنِ
وَالْخُفَّيْنِ، وَكُلِّ زَوْجَيْنِ مِنَ اللِّبَاسِ
يُسْتَعْمَلُ فِي اثْنَيْنِ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي وَاحِدٍ
وَيُتْرَكُ الْآخَرُ.
وَكَذَلِكَ الرِّدَاءُ، يُلْقَى عَلَى أَحَدِ
الْمَنْكِبَيْنِ، وَيُتْرَكُ الْآخَرُ.
فَأَمَّا أَنْ يَنْقَطِعَ شِسْعُ الرَّجُلِ، فَيَمْشِي
خُطْوَةً أَو خطوتين أَو ثَلَاثًا، إِلَى
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: لِبَاس 41، وَمُسلم: لِبَاس 69 و71،
وَالنَّسَائِيّ: زِينَة 116، ومسند أَحْمد: 2/ 245 و314
و434 و443 و477 و480 و3/ 293 و327.
2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: لِبَاس 36.
(1/150)
أَن يُصْلِحَ الْآخَرَ1 فَإِنَّ هَذَا
لَيْسَ بِمُنْكِرٍ وَلَا قَبِيحٍ.
وَحُكْمُ الْقَلِيلِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْكَثِيرِ فِي
كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَمْشِيَ
خُطْوَةً، وَخُطْوَتَيْنِ، وَخُطُوَاتٍ، وَهُوَ رَاكِعٌ
إِلَى الصَّفِّ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ؟
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْشِيَ -وَهُوَ رَاكِعٌ-
مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ؟
وَيجوز لَهُ أَن يردئ الرِّدَاءَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ،
إِذَا سَقَطَ عَنْهُ.
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطْوِيَ ثَوْبَهُ فِي
الصَّلَاةِ، وَلَا أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يَتَطَاوَلُ.
وَيَبْتَسِمُ فَلَا تَنْقَطِعُ صَلَاتُهُ، وَيُقَهْقِهُ
فَتَنْقَطِعُ؟
__________
1 وَفِي نُسْخَة "ذَلِك".
(1/151)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
4- الْبَوْلُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ:
"مَا بَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَائِمًا قَطُّ"1.
ثُمَّ رَوَيْتُمْ عَنْ حُذَيْفَةَ "أَنَّهُ بَالَ
قَائِمًا" وَهَذَا خِلَافُ ذَاكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَنحن نقُول: لَيْسَ هَهُنَا
-بِحَمْدِ اللَّهِ- اخْتِلَافٌ، وَلَمْ يَبْلُ قَائِمًا
قَطُّ فِي مَنْزِلِهِ وَالْمَوْضِعِ3 الَّذِي كَانَتْ
تَحْضُرُهُ فِيهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَبَالَ قَائِمًا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ
أَنْ يَطْمَئِنَّ فِيهَا، إِمَّا لِلَثَقٍ4 فِي الْأَرْضِ
وَطِينٍ، أَوْ قَذِرٍ.
وَكَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي رَأَى فِيهِ حُذَيْفَةُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَبُولُ قَائِمًا، كَانَ مَزْبَلَةً لِقَوْمٍ، فَلَمْ
يُمْكِنْهُ الْقُعُودُ فِيهِ، وَلَا الطُّمَأْنِينَةُ.
وَحُكْمُ الضَّرُورَةِ خلاف حكم الِاخْتِيَار.
__________
1 أخرجه النَّسَائِيّ: طَهَارَة 24، وَالتِّرْمِذِيّ:
طَهَارَة 8، وَابْن ماجة: طَهَارَة 14، وَأحمد: 6/ 192
و213.
2 أخرجه أَحْمد: 5/ 382 وَقد ورد بِلَفْظ: "رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى
سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَال وَهُوَ قَائِم، ثمَّ دَعَاني
فَأَتَيْته فَتَوَضَّأ وَمسح عل خفيه "، وَهُوَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ، ورقمه فِي اللُّؤْلُؤ المرجان 5208.
3 وَفِي نُسْخَة: والمواضع الَّتِي.
4 اللثق: البلل والندى، وطائر لثق: أَي مبتل.
"الْقَامُوس".
(1/152)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الزِّيَادَيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي
عِيسَى عَنْ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى
سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا، فَذَهَبْتُ
أَتَنَحَّى. فَقَالَ: "ادْنُ مِنِّي" فَدَنَوْتُ مِنْهُ،
حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ
عَلَى خُفَّيْهِ.
وَالسُّبَاطَةُ: المزبلة، وَكَذَلِكَ الكساحة،
وَالْقُمَامَة.
(1/153)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُخَالِفُ كِتَابَ
اللَّهِ تَعَالَى
5- رَجْمُ الزَّانِي:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ1 عُيَيْنَةَ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ2، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ3 عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ
بْنِ4 خَالِدٍ، وَشِبْلٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، إِلَّا
قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ:
صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي.
فَقَالَ: قُلْ.
قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى
بامرأته فَأخْبرت أَن على ابْني الرَّجْم، فَافْتَدَيْتُ
مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثمَّ سَأَلت رجَالًا من
أهل
__________
1 سُفْيَان بن عُيَيْنَة: أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام، قَالَ
ابْن وهب: مَا رَأَيْت أعلم بِكِتَاب الله من ابْن
عُيَيْنَة، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَوْلَا مَالك وسُفْيَان
لذهب علم الْحجاز، توفّي بِمَكَّة سنة 198هـ.
2 الزُّهْرِيّ: هُوَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُسلم بن
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن شهَاب
الزُّهْرِيّ الْمدنِي أول من دون الحَدِيث، وَأحد أكَابِر
الْحفاظ وَالْفُقَهَاء، تَابِعِيّ من أهل الْمَدِينَة
اسْتَقر بِالشَّام وَتُوفِّي 124هـ.
3 عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبَة بن
مَسْعُود الْهُذلِيّ، مفتي الْمَدِينَة من أَعْلَام
التَّابِعين لَهُ شعر جيد، وَهُوَ مؤدب عمر بن عبد
الْعَزِيز. قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة عَالما فَقِيها
كثير الحَدِيث مَاتَ بِالْمَدِينَةِ 98هـ.
4 زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الْمدنِي: صَحَابِيّ شهد
الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ مَعَه لِوَاء جُهَيْنَة يَوْم
الْفَتْح لَهُ 81 حَدِيثا. توفّي فِي الْمَدِينَة عَام
78هـ.
(1/154)
الْعلم، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي
جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ
هَذَا الرَّجْمَ.
فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ
بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْمِائَةُ شَاةٍ،
وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ
مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا
الرَّجْمَ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا،
فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" 1.
فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَكَذَا حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ
بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
لِأَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ: "وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ".
ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ، وَلَيْسَ
لِلرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى.
وَلَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
بَاطِلًا، أَوْ يَكُونَ حَقًّا.
وَقَدْ نَقَصَ مِنْ كِتَابِ تَعَالَى، ذِكْرُ الرَّجْمِ
وَالتَّغْرِيبِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ
بِقَوْلِهِ: "لَأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله"
هَهُنَا، الْقُرْآنَ وَإِنَّمَا أَرَادَ: "لَأَقْضِيَنَّ
بَيْنَكُمَا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى" وَالْكِتَابُ
يُتَصَرَّفُ على وُجُوه.
مِنْهَا للْحكم، وَالْفَرْضُ، كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} 3 أَي: فرض
عَلَيْكُم.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: صلح 5 وشروط 9 وأيمان 3 وحدود 30 و34
و38 و46 وَأَحْكَام 39 وآحادًا واعتصام 2، وَمُسلم: حُدُود
25، وأو دَاوُد: أقضية 11 وحدود 24، وَالتِّرْمِذِيّ:
أَحْكَام 3، وَالنَّسَائِيّ: قَضَاء 22، وَابْن ماجة:
حُدُود 7، والدارمي: مُقَدّمَة 20 وحدود 12، والموطأ:
حُدُود 6.
2 الْآيَة 24 من سُورَة النِّسَاء.
3 الْآيَة 178 من سُورَة الْبَقَرَة.
(1/155)
وَقَالَ: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ
كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} 1 أَيْ: فَرَضْتَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 2 أَيْ: حَكَمْنَا، وَفَرَضْنَا.
وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
وَمَالَ الْوَلَاءُ بِالْبَلَاءُ فَمِلْتُمْ ... وَمَا
ذَاكَ قَالَ الْلَّه إِذْ هُوَ يَكْتُبُ
أَرَادَ: مَالَتِ الْقَرَابَةُ بِأَحْسَابِنَا إِلَيْكُمْ،
وَمَا ذَاكَ أَوْجَبَ اللَّهُ إِذْ هُوَ يحكم.
__________
1 الْآيَة 77 من سُورَة النِّسَاء.
2 الْآيَة 45 من سُورَة الْمَائِدَة.
(1/156)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ
6- لَا قطع على الْمُسْتَعِير:
الوا: رَوَيْتُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ امْرَأَةً
كَانَتْ تَسْتَعِيرُ حُلِيًّا مِنْ أَقْوَامٍ، فَتَبِيعُهُ
فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا"1.
قَالُوا: وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ2 عَلَى أَنَّهُ لَا
قَطْعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ.
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: فِي كتاب الْحُدُود برقم "4395" عَن
ابْن عمر ورقم "4396" بِلَفْظ: كَانَ عُرْوَة يحدث إِنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: "استعارت
امْرَأَة، تَعْنِي حُلِيًّا على السّنة أنَاس يُعْرَفُونَ
وَلَا تُعْرَفُ هِيَ، فباعته، فَأخذت، فَأتي بهَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأمر بِقطع
يَدهَا، وَهِي الَّتِي شفع فِيهَا أُسَامَة بن زيد،
وَقَالَ فِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسلم مَا قَالَ". وَأخرجه النَّسَائِيّ "منذري".
2 مَذْهَب أهل الْعلم أَن الْمُسْتَعِير إِذا جحد
الْعَارِية لم يقطع؛ لِأَن الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أوجب
الْقطع على السَّارِق، وَهَذَا خائن لَيْسَ بسارق، وَقد
قيل: إِن الْقطع إِنَّمَا سقط عَن الخائن، لِأَن صَاحب
المَال قد أعَان على نَفسه فِي ذَلِك بإتمانه إِيَّاه.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم:
"لَيْسَ على الخائن قطع" أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب
الْحُدُود رقم 4392.
وَقد ذهب الإِمَام أَحْمد وَإِسْحَاق وَزفر وَأهل
الظَّاهِر إِلَى إِيجَاب الْقطع عملا بِظَاهِر الحَدِيث.
أما مَا ورد فِي الحَدِيث بشأن الْمَرْأَة المخزومية
الَّتِي أَمر بِقطع يَدهَا لِأَنَّهَا استمرت بِهَذَا
الصَّنِيع حَتَّى ترقت إِلَى السّرقَة وتجرأت حَتَّى سرقت
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بقطعها
... "وَإِنَّمَا خلا بعض الرِّوَايَات عَن ذكر السّرقَة،
لِأَن الْقَصْد إِنَّمَا كَانَ فِي سِيَاق هَذَا الحَدِيث
إِلَى إبِْطَال الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود والتغليظ فِيهَا
لمن رام تعطيلها، وَلم تقع الْعِنَايَة بِذكر السّرقَة
وَبَيَان حكمهَا، وَمَا يجب على السَّارِق الْقطع -إِذْ
كَانَ من الْعلم الْمَشْهُور المتسفيض فِي الْخَاص
وَالْعَام- وَقد أَتَى مَا يجب على السَّارِق من الْقطع،
إِذْ كَانَ قد أَتَى الْكتاب على بَيَانه فَلم يضر ترك
ذكره وَالسُّكُوت عَنهُ هَهُنَا. وَالله أعلم" "خطابي".
(1/157)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ:
إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا
يُوجِبُ حُكْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: إِنَّهُ
قَطَعَهَا، وَإِنَّمَا قِيلَ أَمَرَ بِقَطْعِهَا.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَفْعَلَ، وَهَذَا
قَدْ يَكُونُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ
وَالتَّرْهِيبِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ إِيقَاعُ الْفِعْلِ.
وَمِثْلُهُ: الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ الْحَسَنُ، عَنْ
سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ1 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ
قَتَلْنَاهُ، وَمن تجدع عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ"2.
وَالنَّاسُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ رَجُلٌ
بِعَبْدِهِ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِعَبْدِهِ،
وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ.
وَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرْهِيبَ
السَّيِّدِ وَتَحْذِيرَهُ، أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ، أَوْ
يُمَثِّلَ بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ إِيقَاعَ الْفِعْلِ.
وَكَانَ الْحُكْمُ، يَجِبُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ
رَجُلًا بِعَبْدِهِ، أَوِ اقْتَصَّ مِنْهُ لِعَبْدِهِ،
فَأَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ فَعَلَ فَعَلْنَا بِهِ، فَإِنَّ
ذَلِكَ تَحْذِيرٌ وَتَرْهِيبٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ
فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ
فَاقْتُلُوهُ" 3 إِنَّمَا هُوَ تَرْهِيبٌ، لِئَلَّا
يُعَاوِدَهُ.
وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ فِي
الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ.
وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْوَعِيدِ كُلِّهِ: أَنَّهُ
جَائِزٌ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ لَا يَقَعَ، عَلَى حَدِيثِ4
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ
ثَوَابًا، فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ
عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ"5.
__________
1 سَمُرَة بن جُنْدُب الْفَزارِيّ، صَحَابِيّ من صغَار
الصَّحَابَة، وَنزل الْبَصْرَة وَكَانَ شَدِيدا على
الْخَوَارِج قَالَ ابْن عبد الْبر سقط فِي قدر مَمْلُوء
مَاء حارًّا فَمَاتَ سنة 58هـ.
2 ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير رقم 5761-948 عَن سَمُرَة،
وتحرير الْمشكاة 3473.
3 سنَن أبي دَاوُد: حُدُود 36، وَالتِّرْمِذِيّ: حُدُود
15، وَالنَّسَائِيّ: أشربة 43، وَابْن ماجة: حُدُود 17
و18، والدارمي: أشربة 10، وَأحمد 2/ 136، 166، 191، 211،
214، 280.
4 أبي بِنَاء على مَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
5 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 23245 وَقَالَ:
أخرجه أَبُو يعلى فِي مُسْنده والخرائطي فِي مَكَارِم
الْأَخْلَاق، وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث، وَابْن
عَسَاكِر عَن أنس وَضعف.
(1/158)
قَالُوا: الطعْن بالأنبياء
7- حَدِيثٌ يَدْفَعُهُ النَّظَرُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا أَحَقُّ
بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَرَحِمَ اللَّهُ
لُوطًا، إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ،
وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ يُوسُفُ
لَأَجَبْتُ" 1.
قَالُوا: وَهَذَا طَعْنٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَطَعْنٌ
عَلَى لُوطٍ، وَطَعْنٌ عَلَى نَفْسِهِ2 عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوا، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَنِعْمَتِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: "أَنَا أَحَقُّ
بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 3 قَالَ قَوْمٌ سَمِعُوا الْآيَةَ:
شَكَّ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَمْ يَشُكُّ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم
".
__________
1 البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 11 تَفْسِير سُورَة 3/ 46
وَمُسلم: إِيمَان 238، فَضَائِل 153، وَابْن ماجة: فتن 23،
وَأحمد 3/ 326.
وَقد ورد الحَدِيث فِي البُخَارِيّ بِلَفْظ: "نَحن أَحَق
من إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، وَيرْحَم الله لوطًا لقد كَانَ
يأوي إِلَى ركن شَدِيد، وَلَو لبثتُ فِي السجْن طول مَا
لبث يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي" ج4 ص119.
2 وَالأَصَح: وَطعن على يُوسُف.
3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 260.
(1/159)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " تَوَاضُعًا مِنْهُ،
وَتَقْدِيمًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ.
يُرِيدُ: أَنَّا لَمْ نَشُكُّ، وَنَحْنُ دُونَهُ، فَكَيْفَ
يَشُكُّ هُوَ؟
وَتَأْوِيلُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .
أَيْ: يَطْمَئِنَّ بِيَقِينِ النَّظَرِ -وَالْيَقِينُ
جِنْسَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقِينُ السَّمْعِ، وَالْآخَرُ يَقِينُ
الْبَصَرِ.
وَيَقِينُ الْبَصَرِ أَعْلَى الْيَقِينَيْنِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَيْسَ المخبَر كَالْمُعَايِنِ" 1 حِينَ ذَكَرَ قَوْمَ
مُوسَى وَعُكُوفَهُمْ عَلَى الْعِجْلِ.
قَالَ: أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَوْمَهُ
عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا
عَايَنَهُمْ عَاكِفِينَ، غَضِبَ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ،
حَتَّى انْكَسَرَتْ.
وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْقِيَامَةِ، وَالْبَعْثِ،
وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، مُسْتَيْقِنُونَ أَنَّ ذَلِكَ
كُلَّهُ حَقٌّ، وَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ -عِنْدَ النَّظَرِ
وَالْعَيَانِ- أَعْلَى يَقِينًا.
فَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ
يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِالنَّظَرِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى
الْيَقِينَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا إِنْ كَانَ
لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" فَإِنَّهُ أَرَادَ
قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ
آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 2 يُرِيدُ: سَهْوَهُ3 فِي
هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي ضَاقَ فِيهِ صَدْرُهُ، وَاشْتَدَّ
جَزَعُهُ، بِمَا دَهَمَهُ مِنْ قَوْمِهِ، حَتَّى قَالَ:
{أَوْ آوِِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وَهُوَ يَأْوِي إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى، أَشَدِّ الْأَركان.
__________
1 الْمَقَاصِد 351، والتمييز: 135، والكشف 2/ 168، وصحيح
الْجَامِع: 5/ 87 والدرر برقم 352، والتدريب 370
والْحَدِيث بِلَفْظ: "لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة ".
2 سُورَة هود: الْآيَة 80.
3 أَي: هُوَ لوط عَلَيْهِ السَّلَام.
(1/160)
قَالُوا1: فَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا
بَعْدَ لُوطٍ، إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ2 مِنْ قَوْمِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى مَا دُعِيَ
إِلَيْهِ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ"، يَعْنِي حِينَ دُعِيَ
لِلْإِطْلَاقِ مِنَ الْحَبْسِ، بَعْدَ الْغَمِّ
الطَّوِيلِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ} 3 وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَبْسِ فِي
وَقْتِهِ يَصِفُهُ بِالْأَنَاةِ وَالصَّبْرِ.
وَقَالَ: "لَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ، ثُمَّ دُعِيتُ إِلَى مَا
دُعِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْحَبْسِ،
لَأَجَبْتُ، وَلَمْ أَتَلَبَّثُ ".
وَهَذَا أَيْضًا جِنْسٌ مِنْ تَوَاضُعِهِ، لَا أَنَّهُ
كَانَ عَلَيْهِ، لَوْ كَانَ مَكَانَ يُوسُفَ فَبَادَرَ
وَخَرَجَ، أَوْ عَلَى يُوسُفَ لَوْ خَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ
مَعَ الرَّسُولِ، نَقْصٌ وَلَا إِثْمٌ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَثْقِلُ
مِحْنَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فَيُبَادِرُ
وَيَتَعَجَّلُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ صَابِرًا محتسبًا.
__________
1 أَي: أَئِمَّة فقه الحَدِيث.
2 كَثْرَة عدد وَقُوَّة شكيمة.
3 سُورَة يُوسُف: الْآيَة 50.
(1/161)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْعَيَانُ
8- لَا تَبْقَى نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ1 الْخُدْرِيِّ،
وَجَابِرِ2 بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسِ3 بْنِ مَالِكٍ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ، وَذَكَرَ سَنَةَ مِائَةٍ: "إِنَّهُ لَا يَبْقَى
عَلَى ظهرهَا يَوْمئِذٍ، نفس منفوسة" 4.
__________
1 أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: هُوَ سعد بن مَالك بن سِنَان
الْخُدْرِيّ، بَايع تَحت الشَّجَرَة، وَشهد مَا بعد أحد
وَكَانَ من عُلَمَاء الصَّحَابَة، وروى أَحَادِيث
كَثِيرَة، توفّي سنة 74هـ.
2 جَابر بن عبد الله بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ
صَحَابِيّ شهد الْعقبَة وغزا تسع عشرَة غَزْوَة توفّي فِي
الْمَدِينَة سنة 78هـ.
3 أنس بن مَالك صَحَابِيّ جليل، من الْخَزْرَج، ظلّ خَادِم
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَن
قبض ثمَّ رَحل إِلَى دمش، وانتقل إِلَى الْبَصْرَة فَمَاتَ
سنة 93هـ وَهُوَ آخر من مَاتَ بِالْبَصْرَةِ من
الصَّحَابَة.
4 وَجَدْنَاهُ فِي مُسْند أَحْمد 3/ 326 بِلَفْظ: "مَا
أعلم الْيَوْم نفسا منفوسة يَأْتِي عَلَيْهَا مائَة سنة ".
يَقُول ابْن قُتَيْبَة: قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَذَكَرَ سَنَةَ مِائَةٍ:
"إِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِهَا يَوْمَئِذٍ نَفْسٌ
منفوسة ". قَالُوا: وَهَذَا بَاطِل بَين للعيان ... إِلَخ.
وَجعل يرد على هَذَا الْكَلَام بِأَن الروَاة نسوا مِنْهُ
حرفا أَو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم
أخفاه فَلم يسمعوه ثمَّ نرَاهُ بَلْ لَا نَشُكُّ أَنَّهُ
قَالَ: "لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مِنْكُمْ يَوْمئِذٍ
نفس منفوسة ".
أَقُول: هَذَا الْكَلَام من ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله
تَعَالَى فِيهِ تَقْصِير وَاضح، وَيُشِير إِلَى أَن
محفوظاته من الحَدِيث لم تكن وَاسِعَة؛ لِأَن الْأَحَادِيث
فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا بِالذَّاتِ فِي صَحِيح مُسلم
لَفظهَا وَاضح بِمَا يدْفع الْإِشْكَال وَلَا يحْتَاج
إِلَى افتراض نسيانهم أَو أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أخْفى كلمة أَو أَن المنسي لفظ مِنْكُم كل هَذَا
مُخَالف لنَصّ الْأَحَادِيث، وَلَو ذكر وَاحِدًا مِنْهَا
لتم الْجَواب بِنَصّ كَلَام النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير هَذَا التَّطْوِيل بِغَيْر
طائل. وَإِلَيْك نُصُوص الْأَحَادِيث: روى مُسلم عَن جَابر
بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا. سَمِعَتِ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُول -قبل أَن يَمُوت
بِشَهْر: "تَسْأَلُونِي عَن السَّاعَة؟ وَإِنَّمَا علمهَا
عِنْد الله. وَأقسم بِاللَّه مَا على الأَرْض من نفس
منفوسة تَأتي عَلَيْهَا مائَة سنة ". مُسلم رقم 2538-
وَفِي لفظ آخر فِي =
(1/162)
قَالُوا: وَهَذَا بَاطِلٌ، بَيِّنٌ
لِلْعَيَانِ، وَنَحْنُ طَاعِنُونَ فِي سِنِيِّ
ثَلَاثِمِائَةٍ، وَالنَّاسُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانُوا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا
حَدِيثٌ قَدْ أَسْقَطَ الرُّوَاةُ مِنْهُ حَرْفًا.
إِمَّا لِأَنَّهُمْ نَسَوْهُ، أَوْ لِأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْفَاهُ،
فَلَمْ يَسْمَعُوهُ. وَنَرَاهُ -بَلْ لَا نَشُكُّ- أَنَّهُ
قَالَ: "لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ
نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ ".
يَعْنِي، مِمَّنْ حَضَرَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَوْ
يَعْنِي الصَّحَابَةَ فَأَسْقَطَ الرَّاوِي "مِنْكُم".
وَهَذَا مثل قَول بن مَسْعُودٍ فِي لَيْلَةِ الْجِنِّ "مَا
شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا غَيْرِي"1 فَأَسْقَطَ الرَّاوِي
"غَيْرِي".
__________
= مُسلم أَيْضا نَصه: "مَا من نفس منفوسة الْيَوْم تَأتي
عَلَيْهَا مائَة سنة وَهِي حَيَّة يَوْمئِذٍ ".
وَهَذَا لفظ وَاضح فِي غَايَة الْبَيَان رَوَاهُ مُسلم من
عدَّة طرق وَهُوَ أوضح جَوَاب وأخصره. وَأما حَدِيث أبي
سعيد فَهَذَا نَصه لما رَوَاهُ مُسلم برقم 1519.
"لَا تَأتي مائَة سنة وعَلى الأَرْض نفس منفوسة الْيَوْم
".
كَمَا روى البُخَارِيّ وَمُسلم جَمِيعًا عَن عُمَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
"أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه؟ فَإِن على رَأس مائَة سنة
مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أحد ".
مُسلم رقم 2537 وَفِي اللُّؤْلُؤ 1648 وَفِي لفظ لمُسلم
هَذَا نَصه: "لَا يبْقى مِمَّن هُوَ الْيَوْم على ظهر
الأَرْض أحد يُرِيد بذلك أَن ينخرم ذَلِك الْقرن ".
-أَقُول: الإدراج الَّذِي فِي عجز الحَدِيث من قَول ابْن
عمر نَفسه رَاوِي الحَدِيث؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَهل النَّاس
فِي مقَالَة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
فِيمَا يتحدثون من هَذِه الْأَحَادِيث. ثمَّ سَاقه يُرِيد
تَفْسِير الْمَعْنى وَلَا شكّ أَن قَول الصَّحَابِيّ وفهمه
أَحَق لِأَنَّهُ الَّذِي سمع وروى ووعى مَا لم نَعِ.
وَلذَلِك فسر الْعلمَاء هَذِه الْأَحَادِيث على تَفْسِير
ابْن عمر. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نَص الحَدِيث ونصوص
الْأَحَادِيث الْأُخْرَى وَهِي فِي غَايَة الوضوح وَهِي
مُخَالفَة لكَلَام ابْن قُتَيْبَة كُله ولرده واقتراحاته
رَحمَه الله تَعَالَى. فَأَي إِنْسَان يقْرَأ وَاحِدًا من
هَذِه النُّصُوص لَا يبْقى عِنْده سُؤال وَلَا اعْتِرَاض
وَلَا أَي إِشْكَال. لِأَن الْمَقْصُود أَن ينقرض كل
الْبشر الَّذِي كَانُوا أَحيَاء على الارض فِي تِلْكَ
اللَّيْلَة قبل تَمام مائَة سنة. فَهُوَ إِخْبَار عَن
ذَلِك الْقرن بِالذَّاتِ. عامًّا فِي كل الْبشر وَلَيْسَ
كَمَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَقَوْلِي إِنَّه قصر
لِأَنَّهُ لَو رَجَعَ إِلَى صَحِيح مُسلم لوجد الرَّد
الصَّحِيح الْوَاضِح الْكَافِي الشافي الْمقنع. -الشَّيْخ
مُحَمَّد مُحَمَّد بدير.
1 مُسلم: صَلَاة 150، 152، 153، البُخَارِيّ: مَنَاقِب
الْأَنْصَار 32، سنَن أبي دَاوُد: طَهَارَة 43،
التِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 14 -تَفْسِير سُورَة 46- سُورَة
55، ابْن ماجة: طَهَارَة 27، وَأحمد 1/ 398، 402، 449،
455، 457، 458.
(1/163)
وَمِمَّا يَشْهَدُ عَلَى مَا أَقُولُ:
أَنَّ أَبَا كُدَيْنَةَ، رَوَى عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ: إِنَّكَ تُفْتِي
النَّاسَ؟
قَالَ: أَجَلْ وَأُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْآخَرَ شَرٌّ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي، هَلْ سَمِعَتْ مِنْهُ؟
قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ
سَنَةُ مِائَةٍ، وَعَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تطْرِف ".
فَقَالَ عليٌّ: أخطأتْ أُسْتُكَ الحفرةَ، إِنَّمَا قَالَ
ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ لِمَنْ حَضَرَهُ، وَهَلِ الرَّجَا1
إِلَّا بَعْدَ الْمِائَةِ.
ونحوٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ
الْغَلَطُ، حَدِيثٌ حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ
بْنِ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ صَخْرِ بْنِ
قُدَامَةَ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُولَدُ بَعْدَ
سَنَةِ مِائَةٍ مَوْلُودٌ، لِلَّهِ فِيهِ حَاجَةٌ"2.
قَالَ أَيُّوبُ: فَلَقِيتُ صَخْرَ بْنَ قُدَامَةَ،
فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ3.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا هُوَ ذَاكَ الْحَدِيثُ
وَقَعَ فِيهِ الْغَلَط، وَاخْتلفت فِيهِ الرِّوَايَات.
__________
1 "وَهل الرجا" لَعَلَّ الْمَقْصُود بِهَذَا القَوْل:
الرجا فِي تَكْمِيل الْفتُوح الإسلامية وَنشر الدَّين.
2 انْظُر تَنْزِيه الشَّرِيعَة 2/ 354، وَقد ورد فِي
الْأَسْرَار الْمَوْضُوعَة فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة
ص470 بِلَفْظ: "لَا يُولد بعد الستمائة مَوْلُود لله فِيهِ
حَاجَة".
3 وَفِي نُسْخَة "فَلم يعرفهُ".
(1/164)
قَالُوا: حَدِيثٌ يَدْفَعُهُ النَّظَرُ
وَحُجَّةُ النّظر
9- الشَّمْس وَالْقَمَر ثوران:
الوا: رَوَيْتُمْ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
الْمُخْتَارِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
الدَّانَاجِ1 قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ. وَجَاءَ الْحَسَنُ
فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ
مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 2.
فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا؟
قَالَ: إِنِّي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَكَتَ.
قَالُوا: قَدْ صَدَقَ الْحَسَنُ "مَا ذَنْبُهُمَا".
وَهَذَا مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ رَدٌّ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى
أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لم يعذبا بالنَّار حِين
__________
1 كلمة فارسية معربة "دانا عرب" بِزِيَادَة الْجِيم،
كنظائره من صغائر التَّابِعين. وَاسم أَبِيه: "فَيْرُوز
الْبَصْرِيّ" ا. هـ. من هَامِش الدمشقية.
2 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث رقم "5103" للسيوطي بِلَفْظ:
"إِن الشَّمْس وَالْقَمَر ثوران عقيران فِي النَّار"
وَأخرجه الطَّيَالِسِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ: لَا يَصح، وَقَالَ اللآلئ: لم يتهم
بكذب، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَوَثَّقَهُ ابْن عدي فَقَالَ:
أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بتوثيق،
وَابْن عدي يذكر مُنكرَات الرَّاوِي ثمَّ يَقُول: "أَرْجُو
أَنه لَا بَأْس بِهِ" يَعْنِي بالبأس تعمد الْكَذِب، ودرست
واهٍ جدًّا وَالله أعلم.
والْحَدِيث ورد فِي صَحِيح البُخَارِيّ بِلَفْظ: "الشَّمْس
وَالْقَمَر مكوران يَوْم الْقِيَامَة" بَدْء الْخلق4.
(1/165)
أدخلاها، فَيُقَالُ مَا ذَنْبُهُمَا،
وَلَكِنَّهُمَا خُلِقَا مِنْهَا، ثُمَّ رُدَّا إِلَيْهَا.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشَّمْسِ -حِينَ غَرَبَتْ فِي نَارِ
اللَّهِ الْحَامِيَةِ: "لَوْلَا مَا يَزَعُها مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ تَعَالَى لَأَهْلَكَتْ مَا عَلَى الْأَرْضِ" 1.
وَقَالَ: "مَا تَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ قَصْمَةً 2
إِلَّا فُتِحَ لَهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ،
فَإِذَا قَامَتِ الظَّهِيرَةَ، فُتِحَتِ الْأَبْوَابُ
كُلُّهَا ".
وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ شِدَّةَ حَرِّهَا مِنْ
فَوْحِ جَهَنَّمَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ:
"أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ
فَوْحِ جَهَنَّمَ" 3.
فَمَا كَانَ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى النَّارِ
لَمْ يُقَلْ: إِنَّهُ يُعَذَّبُ.
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُسَخَّرِ الْمَقْصُورِ عَلَى فِعْلٍ
وَاحِدٍ، كَالنَّارِ، وَالْفُلْكِ الْمُسَخَّرِ
الدَّوَّارِ4، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَأَشْبَاهِ
ذَلِكَ، لَا يَقَعُ بِهِ تعذيبٌ، وَلَا يَكُونُ لَهُ
ثوابٌ.
وَمَا مِثْلُ هَذَا إِلَّا مِثْلُ رَجُلٍ سَمِعَ بِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 5 فَقَالَ: مَا ذَنْب
الْحِجَارَة؟.
__________
1أخرجه أَحْمد جـ2 ص207.
2 مَا ترْتَفع: أَي الشَّمْس، والقصمة: الدرجَة.
3 أخرجه البُخَارِيّ: كتاب 9 بَاب 9 و10 و12 وَكتاب 59
بَاب 10.
وَمُسلم: كتاب 5 حَدِيث 180-187، وَأَبُو دَاوُد كتاب 2
بَاب 4، وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 2 بَاب 5، وَالنَّسَائِيّ
كتاب 6 بَاب 4 و5، وَابْن ماجة كتاب 2 بَاب 4.
فوح: شدَّة الْحر.
4 فِي نُسْخَة أُخْرَى: للدوران.
5 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 24.
(1/166)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
10- الْعَدْوَى وَالطِّيَرَةُ:
الوا: رَوَيْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا عَدْوَى، وَلَا
طِيَرَةَ" 1.
وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النُّقْبَةَ2 تَقَعُ
بِمِشَفَرِ الْبَعِيرِ، فَتَجْرَبُ لِذَلِكَ الْإِبِلُ.
فَقَالَ: "فَمَا أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ قَالَ: هَذَا أَوْ
مَعْنَاهُ.
ثُمَّ رَوَيْتُمْ فِي خِلَافِ ذَلِكَ: "لَا يُورِدَنَّ ذُو
عاهة على مصحّ" 3.
"وفر مِنَ الْمَجْذُومِ، فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ" 4.
وَأَتَاهُ رَجُلٌ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ بَيْعَةَ
الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْبَيْعَةِ،
وَأَمَرَهُ بِالْانْصِرَافِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ
عَلَيْهِ.
وَقَالَ: "الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ،
وَالدَّابَّةِ" 5.
قَالُوا: وَهَذَا كُلُّهُ مُخْتَلِفٌ، لَا يشبه بعضه
بَعْضًا.
__________
1 البُخَارِيّ: طب 19، 43، 44، 54، وَمُسلم 102 و107 و110
وَأَبُو دَاوُد: طب 24، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 10، طب 43،
55، وَأحمد 1/ 174، 180.
2 النقبة: الْبقْعَة الصَّغِيرَة.
3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "لَا يوردن ممرض على مصح"
البُخَارِيّ طب 53، وَمُسلم: سَلام 104، وَأَبُو دَاوُد:
طب 24، وَأحمد 2/ 406.
4 البُخَارِيّ: 7/ 109، ومسند أَحْمد: 2/ 443، والمقاصد:
299، والتمييز: 110، والأسرار: 79، والكشف: 2/ 85، والدرر
برقم 313.
5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "الشؤم فِي الدَّار وَالْمَرْأَة
وَالْفرس" أَبُو دَاوُد: 4/ 3922 وَالْبُخَارِيّ: طب 7/
174 وَفِي النِّكَاح 7/ 10، وَمُسلم: فِي السَّلَام حَدِيث
2225 بَاب الطَّيرَة.
(1/167)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ،
وَلِكُلِّ مَعْنًى مِنْهَا وَقْتٌ وَمَوْضِعٌ، فَإِذَا
وُضِعَ بِمَوْضِعِهِ زَالَ الْاخْتِلَافُ.
وَالْعَدْوَى جِنْسَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَدْوَى الْجُذَامِ، فَإِنَّ الْمَجْذُومَ،
تَشْتَدُّ رَائِحَتُهُ حَتَّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ
مُجَالَسَتَهُ وَمُؤَاكَلَتَهُ.
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ، تَكُونُ تَحْتَ الْمَجْذُومِ،
فَتُضَاجِعُهُ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ، فَيُوَصِّلُ إِلَيْهَا
الْأَذَى، وَرُبَّمَا جُذِمَتْ.
وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ ينزِعُون -فِي الْكَثِيرِ1- إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ سُلٌّ2 وَدَقٌّ، ونَقْب.
وَالْأَطِبَّاءُ تَأْمُرُ بِأَنْ لَا يُجَالَسَ
الْمَسْلُولُ ُولا الْمَجْذُومُ.
لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَعْنَى الْعَدْوَى، إِنَّمَا
يُرِيدُونَ بِهِ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ
تُسْقِمُ مَنْ أطالَ اشْتِمَامَهَا.
وَالْأَطِبَّاءُ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ الْإِيْمَانِ
بِيُمْنٍ أَوْ شُؤْمٍ.
وَكَذَلِكَ النُّقْبَةُ، تَكُونُ بِالْبَعِيرِ، وَهِيَ
جربٌ رَطْبٌ، فَإِذَا خَالَطَهَا الْإِبِلُ، وَحَاكَهَا،
وَأَوَى فِي مُبَارِكِهَا، أَوْصَلَ إِلَيْهَا، بِالْمَاءِ
الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ وَالنُّطَفُ نَحْوًا مِمَّا بِهِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا
يُورِدَنَّ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ".
كَرِهَ أَنْ يُخَالِطَ الْمَعْيُوهُ3 الصَّحِيحَ،
فَيَنَالُهُ مِنْ نَطفه وحِكَّته، نَحْو مِمَّا بِهِ.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: فِي الْكبر.
2 السل: بِالْكَسْرِ وَالضَّم: قرحَة تحدث فِي الرئة
بتأثير جرثوم، وَقد تنْتَقل بعدوى المخالطة.
3 المعيوه: الْمُصَاب بالعاهة.
(1/168)
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ
أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُظَنَّ أَنَّ الَّذِي نَالَ
إِبِلَهُ مِنْ ذَوَاتِ الْعَاهَةِ، فَيَأْثَمَ.
قَالَ: وَلَيْسَ لِهَذَا -عِنْدِي- وَجْهٌ، لِأَنَّا
نَجِدُ الَّذِي أَخْبَرْتُكَ بِهِ عَيَانًا.
وَأَمَّا الْجِنْسُ الْآخَرُ مِنَ الْعَدْوَى: فَهُوَ
الطَّاعُونُ، يَنْزِلُ بِبَلَدٍ، فَيُخْرَجُ مِنْهُ،
خَوْفًا مِنَ الْعَدْوَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ1
هَرَبَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَرَكِبَ حِمَارًا، وَمَضَى
بِأَهْلِهِ نَحْوَ سفوان2 فَسمع حَادِيًا يَحْدُو
خَلْفَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
لَنْ يُسْبَقَ اللَّهُ عَلَى حِمَارِ ... وَلَا عَلَى ذِي
مَيْعَةٍ3 مُطَارِ
أَوْ يَأْتِيَ الْحَتْفُ عَلَى مِقْدَارِ ... قَدْ
يُصْبِحُ اللَّهُ أَمَامَ السَّارِي
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ بِالْبَلَدِ الَّذِي أَنْتُمْ
بِهِ، فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ" 4.
وَقَالَ أَيْضًا: "إِذَا كَانَ بِبَلَدٍ، فَلَا
تُدْخُلُوهُ".
يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْبَلَدِ إِذَا
كَانَ فِيهِ كَأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الْفِرَارَ مَنْ
قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، يُنْجِيكُمْ مِنَ اللَّهِ.
وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ: "وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا
تَدْخُلُوهُ" أَنَّ مُقَامَكُمْ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا
طَاعُونَ فِيهِ، أَسْكَنُ لِأَنْفُسِكُمْ، وَأَطْيَبُ
لِعَيْشِكُمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ تُعْرَفُ الْمَرْأَةُ بِالشُّؤْمِ، أَوِ
الدَّارُ، فَيَنَالُ الرَّجُلَ مَكْرُوهٌ، أَوْ جَائِحَةٌ،
فَيَقُولُ: "أَعْدَتْنِي بِشُؤْمِهَا" فَهَذَا هُوَ
الْعَدْوَى، الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا عَدْوَى ".
__________
1 فِي الدمشقية: أَن رجلا.
2 سفوان: مَوضِع بِالْبَصْرَةِ.
3 ذِي ميعة: أَي ذِي جَرَيَان، كالفرس سريع الجريان.
4 البُخَارِيّ: طب 30، وَمُسلم: سَلام 92، 93، 94، 98،
100.
(1/169)
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ
وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ" 1.
فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ، يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْغَلَطُ عَلَى
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ
يَعِهِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ: أَنَّ
رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، فَقَالَا إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ،
وَالدَّابَّةِ، وَالدَّارِ".
فَطَارَتْ شَفَقًا- ثُمَّ قَالَتْ: "كَذِبَ -وَالَّذِي
أَنْزَلَ الْقُرْآنَ- عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ، مَنْ
حَدَّثَ بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ:
إِنَّ الطِّيَرَةَ فِي الدَّابَّةِ وَالْمَرْأَةِ
وَالدَّارِ" ثُمَّ قَرَأَتْ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} 2.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ قَالَ: حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ النَّهْدَيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ
عَمَّارٍ، عَن إِسْحَاق عَن بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ
رَجُلٌ مِنَّا إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا
نَزَلْنَا دَارًا، فَكَثُرَ فِيهَا عَدَدُنَا وَكَثُرَتْ
فِيهَا أَمْوَالُنَا، ثُمَّ تَحَوَّلْنَا عَنْهَا إِلَى
أُخْرَى، فَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا، وَقَلَّ فِيهَا
عَدَدُنَا.
فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "ارْحَلُوا عَنْهَا، وَذَرُوهَا، وَهِيَ
ذَمِيمَةٌ" 3،
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلَيْسَ هَذَا ينْقض للْحَدِيث الْأَوَّلُ بِنَقْضٍ
لِهَذَا.
وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ
كَانُوا مُقِيمِينَ فِيهَا على استثقال
__________
1 سبق تَخْرِيجه ص167.
2 سُورَة الْحَدِيد: الْآيَة 22.
3 أَبُو دَاوُد: طب 34، والموطأ: اسْتِئْذَان 23.
(1/170)
لظلها، وَاسْتِيحَاشٍ بِمَا نَالَهُمْ
فِيهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَرَائِزِ النَّاسِ
وَتَرْكِيبِهِمُ، اسْتِثْقَالَ مَا نَالَهُمُ السُّوءُ
فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا سَبَبَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَحُبَّ
مَنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ الْخَيْرُ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ
يُرِدْهُمْ بِهِ، وَبُغْضَ مَنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ
الشَّرُّ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُمْ بِهِ.
وَكَيْفَ يَتَطَيَّرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالطِّيَرَةُ مِنَ الْجِبْتِ.
وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا
يَرَوْنَهَا شَيْئًا، وَيَمْدَحُونَ مَنْ كَذَّبَ بِهَا.
قَالَ الشَّاعِرُ1 يَمْدَحُ رَجُلًا:
وليسَ بهيَّابٍ إِذَا شّدَّ رحلَه ... يقولُ عَدَانِي
اليومَ واقٌ وحاتِمُ
وَلَكِنَّهُ يَمْضِي عَلَى ذَاكَ مُقْدِما ... إِذَا صَدَّ
عَنْ تِلْكَ الهَناتِ الخُثارِمُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
الْخُثَارِمُ، هُوَ الَّذِي يَتَطَيَّرُ، وَالَوَاقُ
الصَّرْدُ، وَالْحَاتِمُ: الْغُرَابُ.
وَقَالَ الْمُرَقِّشُ2:
وَلَقدْ غدوتُ وكنتُ لَا ... أغدُو عَلَى واقٍ وحاتمْ
فَإِذا الأشائمُ كالأيا ... مِنِ والأيامنُ كالأشائمْ
وَكَذَاكَ لَا خيرٌ وَلَا ... شرٌّ عَلَى أحدٍ بدائمْ
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثلاثةٌ لَا يَسلمُ
مِنْهُنَّ أحدٌ، الطِّيَرَةُ، وَالظَّنُّ، وَالْحَسَدُ"3.
__________
1 هُوَ الرقاص الْكَلْبِيّ على الصَّحِيح، قَالَه ابْن
السيرافي والمخاطب هُوَ مَسْعُود بن بَحر.
2 وتروي الأبيات: لخزز بن لوذان السدُوسِي.
3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "ثَلَاث لم تسلم مِنْهَا هَذِه
الْأمة: الْحَسَد وَالظَّن والطيرة" ضَعِيف الْجَامِع رقم
2526 رُوِيَ عَن الْحسن مُرْسلا.
(1/171)
قِيلَ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهُنَّ؟
قَالَ: "إِذَا تَطَيَّرْتَ فَلَا تَرْجِعُ، وَإِذَا
ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقُ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ"
هَذِهِ الْأَلْفَاظُ1 أَوْ نَحْوُهَا.
وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَعْجَبُ، مِمَّنْ يُصَدِّقُ
بِالطِّيَرَةِ، وَيَعِيبُهَا أَشَدَّ الْعَيْبِ.
وَقَالَ: فَرَقَتْ2 لَنَا نَاقَةٌ: وَأَنَا بِالطَّفِّ،
فَرَكِبْتُ فِي أَثَرِهَا، فَلَقِيَنِي هَانِئُ بْنُ
عُبَيْدٍ مِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَهُوَ مُسْرِعٌ يَقُولُ:
وَالشَّرُّ يُلْفَى3 مطالعَ الْأَكَمْ
ثُمَّ لَقِيَنِي رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْحَيِّ فَقَالَ:
وَلَئِنْ بغيتَ لَنَا4 بُغَاةً ... مَا البغاةُ
بِوَاجِدِينَا5
ثُمَّ دَفَعْنَا إِلَى غُلَامٍ قَدْ وَقَعَ فِي صِغَرِهِ
فِي نَارٍ، فَأَحْرَقَتْهُ، فَقَبُحَ وَجْهُهُ، وَفَسَدَ،
فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ ذَكَرْتَ مِنْ نَاقَةٍ فَارِقٍ؟
قَالَ: هَهُنَا أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَعْرَابِ،
فَانْظُرْ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هِيَ عِنْدَهُمْ وَقَدْ
أَنْتَجَتْ، فَأَخَذْتُهَا وَوَلَدَهَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
الْفَارِقُ: الَّتِي قَدْ حَمَلَتْ، فَفَارَقَتْ
صَوَاحِبَهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ ابْنِ
عَبَّاسٍ، فَمَرَّ طَائِرٌ يَصِيحُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
الْقَوْمِ: "خَيْرٌ خَيْرٌ".
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ، وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
يَسْتَحِبُّ الْاسْمَ الْحَسَنَ والفأل الصَّالح.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: "هَذِه أَلْفَاظ الحَدِيث".
2 فرقت: أَي أَخذهَا الْمَخَاض فجرت.
3 وَفِي نُسْخَة: "يلقى".
4 وَفِي نُسْخَة: "لَهُم".
5 قيل إِنَّه من شعر: لبيد.
(1/172)
وَحَدَّثَنِي الرِّيَاشَيُّ1 قَالَ:
حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ سَأَلت بن عَوْنٍ عَنِ
الْفَأْلِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا،
فَيُسْمَعَ "يَا سَالِمُ" أَوْ يَكُونَ بَاغِيًا2
فَيُسْمَعُ "يَا وَاجِدُ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهَذَا أَيْضًا، مِمَّا جُعِلَ فِي غرائز النَّاس تستحبه
وتأنس بِهِ، كَمَا جُعِلَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ
التَّحِيَّةِ بِالسَّلَامِ، وَالْمَدِّ فِي الْأُمْنِيَةِ،
وَالتَّبْشِيرِ بِالْخَيْرِ.
وَكَمَا يُقَالُ: "انْعَمْ وَاسْلَمْ" وَ"انْعَمْ
صَبَاحًا" وَكَمَا تَقُولُ الْفُرْسُ: "عِشْ أَلْفَ
نوروز".
وَالسَّامِعُ لِهَذَا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ
وَلَا يُؤَخِّرُ، وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَلَكِنْ
جُعِلَ فِي الطِّبَاعِ مَحَبَّةُ الْخَيْرِ
وَالْارْتِيَاحُ لِلْبُشْرَى، وَالْمَنْظَرِ الْأَنِيقِ،
وَالْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَالْاسْمِ الْخَفِيفِ.
وَقَدْ يَمُرُّ الرَّجُلُ بِالرَّوْضَةِ الْمُنَوِّرَةِ3
فَتَسُرُّهُ، وَهِيَ لَا تَنْفَعُهُ، وَبِالْمَاءِ
الصَّافِي فَيُعْجَبُ بِهِ4 وَهُوَ لَا يَشْرَبُهُ وَلَا
يُورِدُهُ5.
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ يُعْجَبُ
بِالْأُتْرُجِّ، وَيُعْجِبُهُ الْحَمَامُ الْأَحْمَرُ"6.
"وَتُعْجِبُهُ الْفَاغِيَةُ"7 وَهِيَ نَوْرُ الْحِنَّاءِ.
وَهَذَا مِثْلُ إِعْجَابِهِ بِالْاسْمِ الْحَسَنِ،
وَالْفَأْلِ الْحَسَنِ.
وَعَلَى مِثْلِ هَذَا، كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِلْاسْمِ
الْقَبِيحِ، كَـ"بَنِي النَّارِ" وَ"بَنِي حِرَاقٍ"
وَ"بَنِي زِنْيَةٍ" وَ"بَنِي حزن" وَأَشْبَاه هَذَا.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: الرقاشِي.
2 بَاغِيا: أَي يطْلب ضَالَّة.
3 المنورة: المزهرة.
4 وَفِي نُسْخَة: فيعجب بِهِ.
5 وَلَا يُورِدهُ: من الْإِيرَاد، من أوردت الْإِبِل
المَاء: إِذا جَعلتهَا وَارِدَة عَلَيْهِ لتشرب.
6 ورد بِلَفْظ: "كَانَ يُعجبهُ النّظر إِلَى الأترج
وَكَانَ يعجه النّظر إِلَى الْحمام الْأَحْمَر" وَهُوَ
مَوْضُوع كَمَا ذكر الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع برقم
4584 وَفِي سلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة 1393.
7 ضَعِيف: ذكره الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع برقم 4583
وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة 4278.
(1/173)
قَالُوا: حديثان متناقضان
11- الْإِيرَاد فِي الصَّلَاةِ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ
قَالَ: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّمْضَاءَ، فَلَمْ يُشْكِنَا"1.
يَعْنِي أَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ شِدَّةَ الْحَرِّ
وَمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَسَأَلُوهُ
الْإِبْرَادَ بِالصَّلَاةِ، فَلَمْ يُشْكِهِمْ، أَيْ "لَمْ
يُجِبْهُمْ إِلَى تَأْخِيرِهَا".
ثُمَّ رَوَيْتُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ،
فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ" 2.
قَالُوا: وَهَذَا اخْتِلَافٌ، لَا خَفَاءَ بِهِ،
وَتَنَاقُضٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا -بِنِعْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى- اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ.
لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَوْقَاتِ، رِضْوَانُ اللَّهِ. وَآخِرَ
الْأَوْقَاتِ، عَفْوُ اللَّهِ، وَالْعَفْوُ لَا يَكُونُ
إِلَّا عَنْ تَقْصِيرٍ.
فَأَوَّلُ الْأَوْقَاتِ أَوْكَدُ أَمْرًا، وَآخِرُهَا
رُخْصَةٌ.
وَلَيْسَ يَجُوزُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ فِي نَفْسِهِ إِلَّا
بِأَعْلَى الْأُمُورِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى.
__________
1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة فِي الرمضاء فَلم
يشكنا" مُسلم: مَسَاجِد 189، 190، النَّسَائِيّ: مَوَاقِيت
2، وَابْن ماجة: صَلَاة 3 وَأحمد: 5/ 108، 110.
2 سبق تَخْرِيجه ص166.
(1/174)
وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي نَفْسِهِ
بِالرُّخْصَةِ، مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، لِيَدُلَّ
بِذَلِكَ النَّاسَ عَلَى جَوَازِهَا.
فَأَمَّا أَنْ يَدُومَ عَلَى الْأَمْرِ الْأَخَسِّ،
وَيَتْرُكَ الْأَوْكَدَ وَالْأَفْضَلَ، فَذَلِكَ مَا لَا
يَجُوزُ.
فَلَمَّا شَكَا إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ
مَعَهُ الرَّمْضَاءَ، وَأَرَادُوا مِنْهُ التَّأْخِيرَ
إِلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحُرُّ، لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى
ذَلِكَ، إِذْ كَانُوا مَعَهُ.
ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِبْرَادِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ،
تَوْسِعَةً عَلَى أُمَّتِهِ، وَتَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ تَغْلِيسُهُ بِالْفَجْرِ، وَقَوْلُهُ:
"أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ" 1.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ
لِلزَّوَالِ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا، حَدِيث إِسْمَاعِيل بن
عُلَيَّةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي
بَرْزَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي
يُسَمُّونَهَا الْأُولَى، حِينَ تَدْحَضُ2 الشَّمْسُ"
يَعْنِي: حِين تَزُول.
__________
1 التِّرْمِذِيّ: صَلَاة3، النَّسَائِيّ: مَوَاقِيت 27،
الدَّارمِيّ: صَلَاة 31، وَأحمد 5/ 429.
2 ورد فِي سنَن أبي دَاوُد ج1 ص285 مَا نَصه: "أَن
بِلَالًا كَانَ يُؤذن الظّهْر إِذا دحضت الشَّمْس"،
وَأَصله فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَهُمَا عَن جَابر نَحوه:
انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان -الْأَحَادِيث رقم 378 - 379
وَمعنى دحضت الشَّمْس: أَي زَالَت، وأصل الدحض، الزلق،
يُقَال: دحضت رجله: أَي زلت عَن موضعهَا.
(1/175)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
12- هَلْ كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ قَبْلَ الْبِعْثَةِ؟
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا كَفَرَ بِاللَّهِ نَبِيٌّ
قَطُّ، وَأَنَّهُ بُعِثَ إِلَيْهِ مَلَكَانِ،
فَاسْتَخْرَجَا مِنْ قَلْبِهِ -وَهُوَ صَغِيرٌ- عَلَقَةً
ثُمَّ غَسَلَا قَلْبَهُ، ثُمَّ رَدَّاهُ إِلَى مَكَانِهِ"
1.
ثُمَّ رَوَيْتُمْ، أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَتَيْهِ:
عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ، وَأَبَا الْعَاصِ بْنَ
الرَّبِيعِ، وَهُمَا كَافِرَانِ.
قَالُوا: وَفِي هَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ، وَتَنَقُّصٌ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ،
بِنِعْمَةِ اللَّهِ، مُتَعَلَّقٌ وَلَا مَقَالٌ، إِذَا
عَرَفَ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ جَمِيعًا، مِنْ
وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، خَلَا الْيَمَنَ. وَلَمْ يَزَالُوا عَلَى
بَقَايَا مِنْ دَيْنِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ حَجُّ
الْبَيْتِ وَزِيَارَتُهُ، وَالْخِتَانُ، وَالنِّكَاحُ،
وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ، إِذَا كَانَ ثَلَاثًا،
وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ فِي الْوَاحِدَةِ
وَالْاثْنَتَيْنِ، وَدِيَةُ النَّفْسِ مِائَةٌ مِنَ
الْإِبِلِ2، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَاتِّبَاعُ
الْحُكْمِ فِي الْمُبَالِ فِي الْخُنْثَى، وَتَحْرِيمُ
ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ
وَالنَّسَبِ -وَهَذِهِ أُمُور مَشْهُورَة عَنْهُم.
__________
1 رَوَاهُ أَبُو نعيم وَالْإِمَام أَحْمد وَصَححهُ
الْحَاكِم عَن عتبَة بن عبد الله. وَجَاءَت قصَّة الشق فِي
الصَّحِيحَيْنِ، وَأما ذكر اسْتِخْرَاج الْعلقَة فلمسلم من
حَدِيث أنس بن مَالك رقم 162 الراوية الثَّالِثَة مِنْهُ
رِوَايَة مُطَوَّلَة جدًّا من حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس،
رَوَاهَا أَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل وَرَوَاهَا
الطَّبَرِيّ فِي التَّارِيخ والقسطلاني فِي الْمَوَاهِب
وَجمع غَيرهم.
2 وَفِي نُسْخَة زِيَادَة: "وتفريق الْفراش، فِي وَقت
الْحيض".
(1/176)
وَكَانُوا -مَعَ ذَلِكَ- يُؤْمِنُونَ
بِالْمَلَكَيْنِ الْكَاتِبَيْنِ.
قَالَ الْأَعْشَى1 وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
فَلَا تَحْسَبَنِّي كَافِرًا لَكَ نِعْمَةً ... عَلَى
شَاهِدِي يَا شَاهِدَ اللَّهِ فَاشْهَدِ
يُرِيدُ: عَلَى لِسَانِي، يَا مَلَكَ اللَّهِ،، فَاشْهَدْ
بِمَا أَقُولُ.
وَيُؤْمِنُ بَعْضُهُمْ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ. -قَالَ
زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى2، وَهُوَ جَاهِلِيٌّ لَمْ
يَلْحَقِ الْإِسْلَامَ- فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ،
الَّتِي تُعَدُّ مِنَ السَّبْعِ:
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ ... لِيَوْمِ
الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ
وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي الْبَلِيَّةِ -وَهِيَ النَّاقَةُ
تُعْقَلُ عِنْدَ قَبْرِ صَاحِبِهَا، فَلَا تُعْلَفُ وَلَا
تُسْقَى حَتَّى تَمُوتَ-: "إِنَّ صَاحِبَهَا يَجِيءُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَاكِبَهَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
أَوْلِيَاؤُهُ ذَلِكَ بَعْدَهُ، جَاءَ حَافِيًا رَاجِلًا".
وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو زُبَيْدٍ فَقَالَ:
كَالْبَلَايَا رُءُوسُهُا فِي الولايا ... مانحات
السُّمُومِ حَرَّ الْخُدُودِ
وَالْوَلَايَا: الْبَرَاذِعُ.
وَكَانُوا يُقَوِّرُونَ الْبَرْذعَةَ، وَيُدْخِلُونَهَا
فِي عُنُقِ تِلْكَ النَّاقَةِ، فَقَالَ النَّابِغَةُ:
مَحَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ
فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ
يُرِيدُ الْجَزَاء بأعمالهم، ومحلتهم الشَّام3.
__________
1 الْأَعْشَى: عَامر بن الْحَارِث النميري شَاعِر وصاف
أدْرك الْإِسْلَام وَسمع الْقُرْآن واقتبس مِنْهُ
كَلِمَات.
2 زُهَيْر بن أبي سلمى: من مُضر حَكِيم الشُّعَرَاء فِي
الْجَاهِلِيَّة، وَفِي أَئِمَّة الْأَدَب من يفضله على
شعراء الْعَرَب كَافَّة. ولد فِي بِلَاد "مزينة" بنواحي
الْمَدِينَة، كَانَ ينظم القصيدة فِي شهر وينقحها ويهذبها
فِي سنة فَكَانَت قصائده تسمى "الحوليات" وَترْجم كثير من
شعره إِلَى الألمانية. توفّي 13 ق. هـ.
3 قَالَ أَبُو مُحَمَّد: ويروى "مجلتهم" بِالْجِيم،
فالمحلة بِالْحَاء: الأَرْض، والمجلة: الصَّحِيفَة الَّتِي
فِيهَا الْحِكْمَة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: مَعْنَاهُ أَنهم
يحجون فيملون مَوَاضِع مُقَدَّسَة.
(1/177)
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ؛ يُرَادُ: عَلَى
مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيْمَانِ بِاللَّهِ،
وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِمْ: فِي الْخِتَانِ،
وَالْغُسْلِ، وَالْحَجِّ، وَالْمَعْرِفَةِ بِالْبَعْثِ،
وَالْقِيَامَةِ وَالْجَزَاءِ وَكَانَ -مَعَ هَذَا- لَا
يقرب الْأَوْثَان، ويعيبها، وَقَالَ: "بُغِّضَتْ إِلَيَّ"
غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ فَرَائِضَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَالشَّرَائِعَ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ،
عَلَى لِسَانِهِ حَتَّى أُوحِيَ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} 1.
يُرِيدُ: ضَالًّا عَنْ تَفَاصِيلِ الْإِيْمَانِ
وَالْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، فَهَدَاكَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} 2 يُرِيدُ مَا كُنْتَ
تَدْرِي، مَا الْقُرْآنُ، وَلَا شَرَائِعُ الْإِيْمَانِ.
وَلَمْ يُرِدِ الْإِيْمَانَ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ،
لِأَنَّ آبَاءَهُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ
وَالشِّرْكِ، كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى،
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَحُجُّونَ لَهُ، وَيَتَّخِذُونَ
آلِهَةً مِنْ دُونِهِ، يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَيْهِ
تَعَالَى وتقربه فِيمَا ذَكَرُوا مِنْهُ، ويَتَوَقّوْنَ
الظُّلْمَ، وَيَحْذَرُونَ عَوَاقِبَهُ، وَيَتَحَالَفُونَ
عَلَى أَنْ لَا يُبغى عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يُظْلَمَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ3 لِمَلِكِ الْحَبَشَةِ، حِينَ
سَأَلَهُ حَاجَتَهُ فَقَالَ: "إِبِلٌ ذَهَبَتْ لِي".
فَعَجِبَ مِنْهُ، كَيْفَ لَمْ يَسْأَلْهُ الْانْصِرَافَ
عَنِ الْبَيْتِ.
فَقَالَ: "إِنَّ لِهَذَا الْبَيْتِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْهُ"
أَوْ كَمَا قَالَ.
__________
1 سُورَة الضُّحَى: الْآيَة 7.
2 سُورَة الشورى: الْآيَة 52.
3 عبد الْمطلب: جد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسلم لِأَبِيهِ، وَكَانَ سيد قومه واسْمه
الْكَامِل: عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف، مولده فِي
الْمَدِينَة 127ق. هـ. ومنشأه بِمَكَّة، وَكَانَ أَبيض
مديد الْقَامَة ذَا أَنَاة ونجده فصيح اللِّسَان حَاضر
الْقلب مَاتَ بِمَكَّة عَام 45ق. هـ.
(1/178)
فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاللَّهِ
تَعَالَى، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ
الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ الْمُطَهَّرُ يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ
الْوَحْيِ؟! وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَلَا
يَذْهَبُ عَلَيْهِ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى فِي
قَوْلِهِ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا
الْإِيمَانُ} أَنَّ الْإِيْمَانَ، شَرَائِعُ الْإِيْمَانِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَوْمِهِ هَؤُلَاءِ، لَا أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ مِنَ
الْكُفَّارِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ
إِبْرَاهِيمَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
وَقَالَ لِنُوحٍ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} 2
يَعْنِي: ابْنَهُ، لَمَّا كَانَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ.
وَأَمَّا تَزْوِيجُهُ ابْنَتَيْهِ كَافِرَيْنَ، فَهَذَا
أَيْضًا مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي كَانَ لَا يَعْلَمُهَا.
وَإِنَّمَا تَقْبُحُ الْأَشْيَاءُ بِالتَّحْرِيمِ،
وَتَحْسُنُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّحْلِيلِ.
وَلَيْسَ فِي تَزْوِيجِهِمَا كَافِرَيْنَ، قَبْلَ أَنْ
يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ إنكاح الْكَافرين،
وَقيل أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، مَا يُلْحِقُ
بِهِ كُفْرًا بِاللَّهِ تَعَالَى.
__________
1 سُورَة إِبْرَاهِيم: الْآيَة 36.
2 سُورَة هود: الْآيَة 46.
(1/179)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
13- خَيْرُ الْقُرُونِ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ أُمَّتِي، مَثَلُ
الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ، أَمْ آخِرُهُ"1.
ثُمَّ رَوَيْتُمْ "إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا،
وَسَيَعُودُ غَرِيبًا" 2.
وَأَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ أُمَّتِي، الْقَرْنُ الَّذِي
بُعِثْتُ فِيهِ" 3.
قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ
وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ
الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا" أَنَّ
أَهْلَ الْإِسْلَامِ حِينَ بَدَأَ قَلِيلٌ، وَهُمْ فِي
آخِرِ الزَّمَانِ قَلِيلٌ إِلَّا أَنَّهُمْ خِيَارٌ.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا، مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ
عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ،
عَنْ يَحْيَى، أَو عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"خِيَارُ أُمَّتِي أَوَّلُهُا وَآخِرُهَا"، وَبَيْنَ
ذَلِكَ ثَبَجٌ أَعْوَجُ، لَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ"4
وَالثَّبَجُ: الْوَسَطُ.
__________
1 مُسْند أَحْمد 3/ 143، وَالتِّرْمِذِيّ 4/ 40، والفوائد
للكرمي 74، والدرر برقم 364، وفتاوى النَّوَوِيّ 121،
والمقاصد 374، والتمييز 147، والكشف 2/ 197 وَهُوَ حَدِيث
حسن. وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع للألباني رقم 5854.
2 مُسلم: ك1 ح232، وَالتِّرْمِذِيّ: ك38 ب13، والدارمي ك20
ب42، وَابْن ماجة: ك36 ب15 ومسند أَحْمد 1/ 398، 4/ 73.
3 الْمَقَاصِد الْحَسَنَة ص104 وَهُوَ حَدِيث صَحِيح.
4 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "خِيَار أمتِي أَولهَا، وَآخِرهَا
نهج أَعْوَج، لَيْسُوا مني وَلست مِنْهُم" ضَعِيف
الْجَامِع الصَّغِير للألباني برقم 2866 وسلسلة
الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 3559.
وَقد ورد فِي مَكَان آخر بِلَفْظ: "خير أمتِي أَولهَا
وَآخِرهَا، وَفِي سوطها الكدر ". عَن أبي الدَّرْدَاء.
ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير للألباني برقم 2902
وَالْأَحَادِيث الضعيفة برقم 3572.
(1/180)
وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذَا آثَارٌ.
مِنْهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ آخِرَ الزَّمَانِ، فَقَالَ:
"الْمُتَمَسِّكُ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ،
كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ" 1.
وَمِنْهَا حَدِيثٌ آخَرُ، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الشَّهِيدَ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، كَشَهِيدِ بَدْرٍ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغُرَبَاءِ،
فَقَالَ: "الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ مِنْ
سُنَّتِي" 2.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "خَيْرُ أُمَّتِي، الْقَرْنُ الَّذِي
بُعِثْتُ فِيهِ" 3 فَلَسْنَا نَشُكُّ فِي أَنَّ
صَحَابَتَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ،
وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، مِثْلُ
الْفَضْلِ الَّذِي أُوتُوهُ.
وَإِنَّمَا قَالَ: "مَثَلُ أُمَّتِي، مَثَلُ الْمَطَرِ،
لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ" 4 عَلَى
التَّقْرِيبِ لَهُمْ مِنْ صَحَابَتِهِ كَمَا يُقَالُ: مَا
أَدْرِي، أَوَجْهُ هَذَا الثَّوْبِ أَحْسَنُ أَمْ
مُؤَخَّرُهُ.
وَوَجْهُهُ أَفْضَلُ إِلَّا أَنَّكَ أَرَدْتَ التَّقْرِيبَ
مِنْهُ.
وَكَمَا تَقُولُ: مَا أَدْرِي، أَوَجْهُ هَذِهِ
الْمَرْأَةِ أَحْسَنُ، أَمْ قَفَاهَا.
وَوَجْهُهَا أَحْسَنُ إِلَّا أَنَّكَ أَرَدْتَ تَقْرِيبَ
مَا بَيْنَهُمَا فِي الْحُسْنِ.
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ فِي تِهَامَةَ: إِنَّهَا
كَبَدِيعِ الْعَسَلِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ
آخِرُهُ، وَالْبَدِيعُ: الزِّقُّ.
وَإِذَا كَانَ الْعَسَلُ فِي زِقٍّ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ
اخْتِلَافَ اللَّبَنِ فِي الْوَطْبِ5 فَيَكُونُ أَوَّلُهُ
خَيْرًا مِنْ آخِرِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَقَارَبُ فَلَا
يَكُونُ لِأَوَّلِهِ كَبِيرُ فضل، على آخِره.
__________
1 التِّرْمِذِيّ: فتن 73، وَأحمد 2/ 390، 391.
2 التِّرْمِذِيّ: إِيمَان13، وَابْن ماجة: فتن15، والدارمي
رقاق 42، وَأحمد 1/ 184، 398، 2/ 177، 389، 4/ 73، وَقد
ورد فِي صَحِيح مُسلم أصل الحَدِيث "طُوبَى للغرباء" برقم
145.
3 حَدِيث صَحِيح، مَقَاصِد ص 104.
4 حَدِيث حسن، أَحْمد؛ 3/ 143، وَالتِّرْمِذِيّ: 4/ 40،
والفوائد للكرمي 74 والدرر برقم 364، وفتاوى النَّوَوِيّ
121 والمقاصد 374 والتمييز: 147، والكشف 2/ 197.
5 الوطب: سقاء اللَّبن، وَهُوَ جلد الْجذع فَمَا فَوْقه.
(1/181)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
14- تَفْضِيلُ النَّبِيِّ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُفَضِّلُونِي
عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَلَا تُخَايِرُوا بَيْنَ
الْأَنْبِيَاءِ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ
آدَمَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ
عَنْهُ الْأَرْضُ، وَلَا فَخْرَ" 2.
قَالُوا: وَهَذَا، اخْتِلَافٌ وَتَنَاقُضٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ
وَلَا تَنَاقُضٌ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ الشَّافِعُ يَوْمَئِذٍ،
وَالشَّهِيدُ، وَلَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَالْحَوْضُ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُس"
طَرِيقِ التَّوَاضُعِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
"وُلِّيتُكُمْ، وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ".
وَخَصَّ يُونُسَ لِأَنَّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ، مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَعِيسَى
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ.
يُرِيدُ فَإِذَا كُنْتُ لَا أُحِبُّ أَنْ أُفَضَّلَ عَلَى
يُونُسَ، فَكَيْفَ غَيْرُهُ، مِمَّنْ هُوَ فَوْقه
__________
1 البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 35، وَمُسلم: فَضَائِل 159.
2 طَبَقَات ابْن سعد جـ1 ق1 ص1، 3. وَهُوَ فِي صَحِيح
مُسلم رقم 2278.
(1/182)
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} 1
أَرَادَ أَنَّ يُونُسَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْرٌ كَصَبْرِ
غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا دَلَّكَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ
مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: لَا
تَكُنْ مِثْلَهُ.
وَذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "لَا تُفَضِّلُونِي
عَلَيْهِ" طَرِيقَ التَّوَاضُعِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: لَا تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ فِي
الْعَمَلِ، فَلَعَلَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا مِنِّي، وَلَا
فِي الْبَلْوَى وَالِامْتِحَانِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ
مِنِّي مِحْنَةً.
وَلَيْسَ مَا أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيُّنَا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ
السُّؤْدُدِ، وَالْفَضْلِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالرُّسُلِ بِعَمَلِهِ، بَلْ بِتَفْضِيلِ اللَّهِ
تَعَالَى إِيَّاهُ، وَاخْتِصَاصِهِ لَهُ، وَكَذَلِكَ
أُمَّتُهُ أَسْهَلُ الْأُمَمِ مِحْنَةً.
بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا بِالْحَنِيفِيَّةِ
السَّهْلَةِ2، وَوَضَعَ عَنْهَا الْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
فَرَائِضِهِمْ.
وَهِيَ -مَعَ هَذَا- خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس،
بِفضل الله تَعَالَى.
__________
1 سُورَة الْقَلَم: الْآيَة 48.
2 وَفِي نُسْخَة: السمحة.
(1/183)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
15- دُخُولُ الْجَنَّةِ وَدُخُولُ النَّارِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ
كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ
إِيمَانٍ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" 2.
وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ
مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ.
قَالُوا: وَهَذَا اخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ وَهَذَا
الْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحُكْمِ.
يُرِيدُ: لَيْسَ حُكْمَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، أَنْ يَدْخُلَ
النَّارَ، وَلَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ؛ أَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ، لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَلَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ.
فَإِذَا نَازَعَهَا اللَّهَ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ
حُكْمُهُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى
يَفْعَلُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ.
__________
1 مُسلم: إِيمَان 147، 148، 149، وَأَبُو دَاوُد: لِبَاس
26، وَالتِّرْمِذِيّ بر 61، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 29،
زهد 16، ومسند أَحْمد 1/ 399، 412-416.
2 البُخَارِيّ: جنائز 1، بَدْء الْخلق 6، لِبَاس 24،
اسْتِئْذَان 30، رقاق 13، 14، تَوْحِيد 3533، وَمُسلم:
إِيمَان 153، 154، زَكَاة 33، وَالتِّرْمِذِيّ: إِيمَان 18
وَأحمد 5/ 152، 159، 161، 385، 6/ 166، 442.
(1/184)
وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، قَوْلُكَ
-فِي دَارٍ رَأَيْتَهَا صَغِيرَةً- لَا يَنْزِلُ فِي هَذَا
الدَّارِ أَمِيرٌ.
تُرِيدُ: حُكْمَهَا وَحُكْمَ أَمْثَالِهَا أَنْ لَا
يَنْزِلَهَا الْأُمَرَاءُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ
يَنْزِلُوهَا.
وَقَوْلُكَ: هَذَا بَلَدٌ لَا يَنْزِلُهُ حُرٌّ؛ تُرِيدُ
لَيْسَ حُكْمُهُ أَنْ يَنْزِلَهُ الْأَحْرَارُ وَقَدْ
يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلُوهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ
عَلَيْهِ جَهَنَّمُ" 1 لِأَنَّهُ رَغِبَ عَنْ هَدِيَّةِ
اللَّهِ تَعَالَى وَصَدَقَتِهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ
بِرُخْصَتِهِ وَيُسْرِهِ.
وَالرَّاغِبُ عَنِ الرُّخْصَةِ، كَالرَّاغِبِ عَنِ
الْعَزْمِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، إِنْ
عَاقَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 2.
أَيْ: حُكْمُهُ أَنْ يَجْزِيَهُ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ: "مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَمَلٍ
ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى
عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ"3.
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِيُّ،
قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ
عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: يُؤْتَى بِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَأُقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَيَقُولُ لِي: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْقَاتِلَ
فِي النَّارِ؟
فَأَقُولُ: أَنْتَ قُلْتَهُ يَا رَبِّ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ
الْآيَةَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} .
فَقُلْتُ لَهُ -وَمَا فِي الْبَيْتِ أَصْغَرُ مِنِّي-
أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ: فَإِنِّي قَدْ قَلْتُ: {إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ
أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ؟
قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا.
__________
1 أَحْمد: 4/ 25، 26، 414.
2 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 93.
3 سبق تَخْرِيجه ص 158.
4 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 48.
(1/185)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ
16- الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِبَنِيهِ: "
إِذَا أَنَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي
الْيَمِّ، لَعَلِّي أُضِلُّ اللهَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ،
فَجَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ -أَوْ
كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ- عَلَى مَا فعلتَ؟ قَالَ:
مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ" 1.
قَالُوا: وَهَذَا كَافِرٌ، وَاللَّهُ لَا يَغْفِرُ
لِلْكَافِرِ، وَبِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ فِي: "أُضِلُّ اللَّهَ"2 إِنَّهُ
بِمَعْنَى "أَفُوتُ اللَّهَ" تَقُولُ: ضَلَلْتُ كَذَا
وَكَذَا وَأَضْلَلْتُهُ. -وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}
3 أَيْ لَا يَفُوتُ رَبِّي.
وَهَذَا رجل مُؤمن بِاللَّه، مقربه، خَائِفٌ لَهُ، إِلَّا
أَنَّهُ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُ
إِذْ أحرق وذري الرِّيحِ أَنَّهُ يَفُوتُ اللَّهَ
تَعَالَى، فَغَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِمَعْرِفَتِهِ
مَا بِنِيَّتِهِ وَبِمَخَافَتِهِ مِنْ عَذَابِهِ جَهْلَهُ
بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ صِفَاتِهِ.
وَقَدْ يَغْلَطُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، قَوْمٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ
بِالنَّارِ، بَلْ تُرْجَأُ أُمُورُهُمْ إِلَى مَنْ هُوَ
أَعْلَمُ بهم وبنياتهم.
__________
1 البُخَارِيّ: تَوْحِيد 35، أَنْبيَاء 54، رقاق 35،
وَمُسلم: تَوْبَة 35، 37، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 117،
وَابْن ماجة: زهد 30، والدارمي: رقاق 93، والموطأ: جنائز
53، ومسند أَحْمد: 1/ 5، 298، 2/ 269، 304.
2 وَقد وَجَدْنَاهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ بِلَفْظ: عَن
حُذَيْفَة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: "كَانَ رجل مِمَّن كَانَ قبلكُمْ يسيء الظَّن
بِعَمَلِهِ فَقَالَ لأَهله: إِذا أَنا مت فخذوني فذروني
فِي الْبَحْر فِي يَوْم صَائِف، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمعه
الله، ثمَّ قَالَ: مَا حملك على الَّذِي صنعت. قَالَ: مَا
حَملَنِي عَلَيْهِ إِلَّا مخافتك. فغفر لَهُ ".
وَقد تتبعنا رِوَايَات البُخَارِيّ الثَّلَاث فَلم نجد
عبارَة: "لعَلي أضلّ الله" والْحَدِيث بروايات البُخَارِيّ
لَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل، وَالله أعلم.
3 سُورَة طه: الْآيَة 52.
(1/186)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ
17- مَفْهُومُ الْكُفْرِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
"مَنْ تَرَكَ قَتْلَ الْحَيَّاتِ مَخَافَةَ الثَّأْرِ
فَقَدْ كَفَرَ" 1.
وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ
مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}
2.
وَهَذَا إِنْ كَانَ ذَنْبًا، فَهُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ،
فَكَيْفَ نُكَفِّرُهُ3؟ وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ مَنْ زَنَى،
وَمَنْ سَرَقَ إِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ"4 ثُمَّ
تَكْفُرُونَ بِتَرْكِ قَتْلِ الْحَيَّاتِ؟ وَفِي هَذَا
اخْتِلَافٌ وَتَنَاقُضٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ وَلَا
تَنَاقُضٌ.
وَلَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ لِتَرْكِ قَتْلِ الْحَيَّاتِ
وَلَا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَظِيمًا مِنَ الذُّنُوبِ،
يَخْرُجُ بِهِ الرَّجُلُ إِلَى الْكُفْرِ.
وَإِنَّمَا الْعَظِيمُ، أَنْ يَتْرُكَهَا خَشْيَةَ
الثَّأْرِ. وَكَانَ هَذَا أَمْرًا مِنْ أُمُورِ
الْجَاهِلِيَّةِ.
وَكَانُوا يَقُولُونَ إِن الْجِنّ تطلب بثأر الجان إِذا
قتل.
__________
1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "من ترك الْحَيَّات مَخَافَة طلبهن
فَلَيْسَ منا" أَبُو دَاوُد: أدب 162 ومسند أَحْمد 1/ 230،
348.
2 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 31.
3 وَفِي نُسْخَة: لَا يكفره.
4 سبق تَخْرِيجه ص49.
(1/187)
فَرُبَّمَا قَتَلَتْ قَاتِلَهُ، وَرُبَّمَا
أَصَابَتْهُ بِخَبَلٍ، وَرُبَّمَا قَتَلَتْ وَلَدَهُ.
فَأَعْلَمَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وَقَالَ: "مَنْ صَدَّقَ
بِهَذَا فَقَدْ كَفَرَ" يُرِيدُ بِمَا أَتَيْنَا بِهِ1
مِنْ بُطْلَانِهِ.
وَالْكُفْرُ عِنْدَنَا صِنْفَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكُفْرُ بِالْأَصْلِ كَالْكُفْرِ بِاللَّهِ
تَعَالَى أَوْ بِرُسُلِهِ، أَوْ مَلَائِكَتِهِ أَوْ
كُتُبِهِ، أَوْ بِالْبَعْثِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ
الَّذِي مَنْ كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ
جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ مَاتَ، لَمْ يَرِثْهُ ذُو
قَرَابَتِهِ الْمُسْلِمُ2 وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ.
وَالْآخَرُ: الْكُفْرُ بِفَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ، عَلَى
تَأْوِيلِ: الْكُفْرِ بِالْقَدَرِ، وَالْإِنْكَارِ
لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَتَرْكِ إِيقَاعِ
الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَأَشْبَاهِ هَذَا.
وَهَذَا لَا يُخْرَجُ بِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَا
يُقَالُ لِمَنْ كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ: كَافِرٌ. كَمَا
أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُنَافِقِ آمِنٌ، وَلَا يُقَالُ
مُؤمن.
__________
1 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى "بِمَا أنبأناه بِهِ".
2 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى "من الْمُسلمين".
(1/188)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ
وَالْعِيَانُ، وَالْخَبَرُ وَالْقُرْآنُ
18- مَوْضِعُ الْجَنَّةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْبَرِي هَذَا، عَلَى
تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ" 1 " وَمَا بَيْنَ
قَبْرِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ"
2.
وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} 3.
وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 4.
وَرُوِّيتُمْ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "أَنَّ الْجَنَّةَ فِي
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ" 5.
قَالُوا: وَهَذَا، اخْتِلَافٌ وَتَنَاقُضٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ وَلَا
تَنَاقُضٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِقَوْلِهِ: "مَا بَيْنَ
قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ"
أَنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ رَوْضَةٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
أَنَّ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالذِّكْرَ
فِيهِ، يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ، فَهُوَ قِطْعَةٌ
مِنْهَا، وَمِنْبَرِي هَذَا هُوَ عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ ترع
الْجنَّة، والترعة بَاب المشرعة إِلَى الْمَاءِ، أَيْ:
إِنَّمَا هُوَ بَاب إِلَى الْجنَّة.
__________
1 ابْن ماجة: مَنَاسِك 104، ومسند أَحْمد 2/ 360، 406،
412، 450، 534، 3/ 399.
3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "مَا بَين بَيْتِي ومنبري"
البُخَارِيّ 2/ 54، وَمُسلم 4/ 123 والمقاصد 364، والتمييز
140، والكشف 2/ 183.
3 سُورَة النَّجْم: الْآيَة 14.
4 سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 133.
5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: " الْجنَّة فِي السَّمَاء،
وَالنَّار فِي الأَرْض" الديلمي عَن عبد الله بن سَلام،
جَامع الْأَحَادِيث.
(1/189)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَحَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ
بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، مَوْلَى غُفْرَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ
الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيُّ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "ارْتَعُوا فِي
رِيَاضِ الْجَنَّةِ" قَالُوا: وَأَيْنَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَجَالِسُ الذِّكْرِ" 1.
وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "عَائِدُ
الْمَرِيضِ، عَلَى مَخَارِفِ الْجَنَّةِ" 2
وَالْمَخَارِفُ: الطُّرُقُ، وَأَحَدُهَا: مَخْرَفَةٌ.
وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ مَخْرَفَةِ النَّعَمِ"
أَيْ طَرِيقِهَا.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ تُؤَدِّي
إِلَى الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ مَجَالِسُ الذِّكْرِ، تُؤَدِّي إِلَى رِيَاضِ
الْجَنَّةِ، فَهِيَ مِنْهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ3: "الْجَنَّةُ
تَحْتَ الْبَارِقَةِ" -يَعْنِي السُّيُوفَ، وَ "الْجَنَّةُ
تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ" 4.
يُرِيدُ أَنَّ الْجِهَادَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ،
فَكَأَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَهُ.
وَقَدْ يَذْهَبُ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا بَيْنَ قَبْرِهِ
وَمِنْبَرِهِ، حِذَاءَ رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ،
وَأَنَّ مِنْبَرَهُ حِذَاءَ تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ
الْجَنَّةِ،
فَجَعَلَهُمَا مِنَ الْجنَّة، إِذْ كَانَا فِي الْأَرْضِ،
حِذَاءَ ذَيْنِكَ فِي السَّمَاءِ.
وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ -عِنْدِي- وَالله أعلم.
__________
1 ورد فِي التِّرْمِذِيّ دعوات 83 بِلَفْظ: عَن أنس بن
مَالك رَضِي الله عَنهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "إِذا مررتم برياض الْجنَّة
فارتعوا" قَالَ: وَمَا رياض الله؟ قَالَ: " حلق الذّكر ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من هَذَا
الْوَجْه من حَدِيث ثَابت عَن أنس. وَأحمد 3/ 150.
2 مُسلم ك6 ب2 وَمَالك 50 ح17،، ومسند زيد بن عَليّ: ح347
و348، وَأحمد 1/ 81 و91 و118 و119 و120 و121 و138 و195
و196، 2/ ص326.
3 عمار بن يَاسر من السَّابِقين الْأَوَّلين هُوَ وَأَبوهُ
وَأمه، وَكَانُوا مِمَّن عُذِّبَ فِي الله شَهِدَ
الْمشَاهد كلهَا، ثمَّ شهد الْيَمَامَة فَقطع أُذُنه،
وَاسْتَعْملهُ عمر على الْكُوفَة، وَقد اسْتشْهد مَعَ
عَليّ بصفين سنة 87هـ وعمره "93" سنة.
4 رَوَاهُ مُسلم برقم 1902.
(1/190)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
19- الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْأَئِمَّةُ مِنْ
قُرَيْشٍ" 1 وَرُوِّيتُمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ
احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى الْأَنْصَارِ، يَوْمَ سَقِيفَةِ
بَنِي سَاعِدَةَ.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: "لَوْ كَانَ سَالِمٌ،
مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا، مَا تَخَالَجَنِي فِيهِ
الشَّكُّ".
وَسَالِمٌ لَيْسَ مَوْلًى لِأَبِي حُذَيْفَةَ، وَإِنَّمَا
هُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهِيَ
أَعْتَقَتْهُ وَرَبَّتْهُ2 وَنُسِبَ إِلَى أَبِي
حُذَيْفَةَ بِحِلْفٍ.
فَجَعَلْتُمُ الْإِمَامَةَ3، تَصْلُحُ لِمَوَالِي
الْأَنْصَارِ، وَلَوْ كَانَ مَوْلًى لِقُرَيْشٍ،
لَأَمْكَنَ أَنْ تَحْتَجُّوا بِأَنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ
مِنْهُمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ.
قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ
تَنَاقُضٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ4 تَنَاقُضًا، لَوْ
قَالَ عُمَرُ: "لَوْ كَانَ سَالِمٌ حَيًّا مَا
تَخَالَجَنِي الشَّكُّ فِي تَوْلِيَتِهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ
فِي تَأْمِيرِهِ".
فَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَا تَخَالَجَنِي الشَّكُّ فِيهِ"
فَقَدْ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
__________
1 مُسْند الطَّيَالِسِيّ: رقم 926، 2133.
2 وَفِي نُسْخَة: وورثته.
3 وَفِي نُسْخَة: الْخلَافَة.
4 لَعَلَّ الْأَفْضَل أَن يُقَال: وَإِنَّمَا يكون تناقضًا
بِحَذْف "كَانَ".
(1/191)
وَكَيْفَ يُظَنُّ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ يَقِفُ فِي خِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ
وَالَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، فَلَا يَخْتَارُ
مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَلَا
يَتَخَالَجُهُ الشَّكُّ فِي تَوْلِيَتِهِ سَالِمًا
عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟
هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَضَعْفٌ فِي الرَّأْيِ.
وَلَكِنَّ عُمَرَ لَمَّا جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ
هَؤُلَاءِ، ارْتَادَ لِلصَّلَاةِ مَنْ يَقُومُ بِهَا أَنْ
يَخْتَارُوا الْإِمَامَ مِنْهُمْ وَأَجَّلَهُمْ فِي
الِاخْتِيَارِ ثَلَاثًا، وَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ1 ابْنَهُ
أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ سَالِمًا فَقَالَ:
لَوْ كَانَ حَيًّا، مَا تَخَالَجَنِي فِيهِ الشَّكُّ.
وَذَكَرَ الْجَارُودَ الْعَبْدِيَّ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ
أُعَيْمِشُ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ حَيًّا،
لَقَدَّمْتُهُ".
وَقَوْلُهُ: "لَقَدَّمْتُهُ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ
أَرَادَ فِي سَالِمٍ مِثْلَ ذَلِكَ، مِنْ تَقْدِيمِهِ
لِلصَّلَاةِ بِهِمْ.
ثُمَّ أَجْمَعَ عَلَى صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ فَأَمَرَهُ
بِالصَّلَاةِ، إِلَى أَنْ يَتَّفِقَ الْقَوْمُ، على
اخْتِيَار رجل مِنْهُم2.
__________
1 عبد الله بن عمر هَاجر مَعَ أَبِيه كَانَ إِمَامًا
عَظِيم الْقدر شهد الخَنْدَق وبيعة الرضْوَان وَكَانَ
مكثرًا من الحَدِيث إِمَامًا متينًا وَاسع الْعلم كثير
الِاتِّبَاع كَبِير الْقدر عَظِيم الْحُرْمَة وافر النّسك
كثير الْعِبَادَة توفّي سنة 74هـ.
2 وجدنَا فِي المخطوطة الَّتِي قابلنا عَلَيْهَا الْكتاب
الزِّيَادَة التالية:
قَالَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن عبد الله بن مُسلم:
إِنَّمَا جعل عمر صُهَيْب الرُّومِي إِمَامًا يُصَلِّي بهم
إِلَى أَن يجمعوا على خلَافَة رجل مِنْهُم أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
الْأَئِمَّة من قُرَيْش، وَلَو جعل الْإِمَامَة فِي
الصَّلَاة إِلَى قُرَيْش يجوز لَهُ أَن يكون خَليفَة
لقَالَ قوم: إِنَّه يجوز أَن يكون خَليفَة إِذْ كَانَ
قرشيًا، وَكَانَ عمر قد اخْتَارَهُ للصَّلَاة، فَفعل عمر
ذَلِك لِأَن لَا يَقُولُوا هَذَا.
(1/192)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ
وَالْخَبَرُ
20- الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ
تَطْلُعُ مِنْ بَيْنِ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، فَلَا تُصَلُّوا
لِطُلُوعِهَا"1.
قَالُوا: فَجَعَلْتُمْ لِلشَّيْطَانِ قُرُونًا تَبْلُغُ
السَّمَاءَ، وَجَعَلْتُمُ الشَّمْسَ الَّتِي هِيَ مِثْلُ
الْأَرْضِ مَرَّاتٍ، تَجْرِي بَيْنَ قَرْنَيْهِ.
وَأَنْتُمْ -مَعَ هَذَا- تَزْعُمُونَ أَنَّ: "الشَّيْطَان
يجْرِي من بن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ" 2 فَهُوَ فِي هَذِهِ
الْحَالِ، أَلْطَفُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ فِي تِلْكَ
الْحَالِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَجَعَلْتُمْ عِلَّةَ تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ
طُلُوعِ الشَّمْسِ، طُلُوعَهَا مِنْ بَيْنِ قَرْنَيْهِ.
وَمَا عَلَى الْمُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا جَرَتِ
الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ؟
وَمَا فِي هَذَا، مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ لِلَّهِ
تَعَالَى؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ إِنْكَارَهُمْ لِهَذَا
الْحَدِيثِ، إِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ بِخَلْقِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ، وَبِأَن
الله تَعَالَى جعل فِي
__________
1 مُسْند أَحْمد: 2/ 86، وَمُسلم ك1 حَدِيث 81 و6/ 290
وَالطَّيَالِسِي رقم 896، 1117 وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، ورد
فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 1472-443.
2 البُخَارِيّ: أَحْكَام 21، اعْتِكَاف 11، 12، بَدْء
الْخلق 11، أدب 121، وَمُسلم: سَلام 23، 25 وَأَبُو
دَاوُد: سنة 17، 18، أدب 81، صَوْم: 79، وَابْن ماجة:
صِيَام 65، والدارمي: رقاق 66، وَأحمد 3/ 156، 285، 309،
6/ 337.
(1/193)
تركيبها أَنْ تَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ إِلَى
حَالٍ، فَتَتَمَثَّلَ مَرَّةً فِي صُورَةِ شَيْخٍ،
وَمَرَّةً فِي صُورَةِ شَابٍّ، وَمَرَّةً فِي مِثَالِ
نَارٍ، وَمَرَّةً فِي مِثَالِ كَلْبٍ، وَمَرَّةً فِي
مِثَالِ جَانٍّ، وَمَرَّةً تَصِلُ إِلَى السَّمَاءِ
وَمَرَّةً تَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، وَمَرَّةً تَجْرِي
مَجْرَى الدَّمِ.
فَهَؤُلَاءِ مُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ، وَبِمَا
تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَنْبِيَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ وَكُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى
الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ
الشَّيَاطِينَ يَقْعُدُونَ مِنَ السَّمَاءِ مَقَاعِدَ
لِلسَّمْعِ، وَأَنَّهُمْ يُرْمَون بِالنُّجُومِ.
وَأَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ
قَالَ: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} 1
وَهُوَ لَا يَظْهَرُ لَنَا.
فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لَوْلَا
أَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْقُلُوبِ، بِالسُّلْطَانِ الَّذِي
جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، فَيُوَسْوِسُ بِذَلِكَ
وَيُزَيِّنُ وَيُمَنِّي، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ
وَعَزَّ؟
وَكَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ رُئِيَ مَرَّةً،
فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ، وَمَرَّةً فِي صُورَةِ
ضُفْدَعٍ، وَمَرَّةً فِي صُورَةِ جَانٍّ.
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجِنَّ رِجَالًا، كَمَا
سَمَّانَا رِجَالًا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ
رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ
الْجِنِّ} 2.
وَقَالَ فِي الْحُورِ الْعِينِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} 3.
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ تَطْمِثُ كَمَا
يَطْمِثُ الْإِنْس. والطمث: الْوَطْء بالتدمية4.
__________
1 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة 119.
2 سُورَة الْجِنّ: الْآيَة 6.
3 سُورَة الرَّحْمَن: الْآيَة 74.
4 أَي بِإِخْرَاج الدَّم؛ وَهُوَ وَطْء الْأَبْكَار من
النِّسَاء.
(1/194)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ لَمْ نُرِد فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَنْ نَرُدّ
عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَلَا الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرُسُلِهِ.
وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُنَا الرَّدَّ عَلَى مَنِ ادَّعَى
عَلَى الْحَدِيثِ التَّنَاقُضَ وَالِاخْتِلَافَ،
وَاسْتِحَالَةَ الْمَعْنَى مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى
الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ
رَآهُ لَا يَقُومُ فِي وَهْمِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى
لِتَرْكِ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ
بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، فَنَحْنُ نُرِيهِ الْمَعْنَى،
حَتَّى يَتَصَوَّرَ فِي وَهْمِهِ لَهُ -بِإِذْنِ اللَّهِ
تَعَالَى- وَيُحْسِنَ عِنْدَهُ، وَلَا يَمْتَنِعَ عَلَى
نَظَرِهِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ، لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ
عَبَدَةُ الشَّمْسِ، يَسْجُدُونَ فِيهِ لِلشَّمْسِ.
وَقَدْ دَرَجَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، عَلَى
عِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالسُّجُودِ لَهَا.
فَمِنْ ذَلِكَ، مَا قَصَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
عَلَيْنَا فِي نَبَأِ مَلِكَةِ سَبَأٍ: أَنَّ الْهُدْهُدَ
قَالَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: {وَجَدْتُهَا
وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} 1.
وَكَانَ فِي الْعَرَبِ، قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ،
وَيُعَظِّمُونَهَا، وَيُسَمُّونَهَا، الْإِلَاهَةَ، قَالَ
الْأَعْشَى:
فَلَمْ أَذْكُرِ الرُّهْبَ حَتَّى انفتَلْتُ ... قُبَيْلَ
الْإِلَاهَةِ مِنْهَا قَرِيبَا
يَعْنِي الشَّمْسَ.
وَكَانَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ يَقْرَأُ: {أَتَذَرُ مُوسَى
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَإِلاهَتَكَ} 2 يُرِيدُ: وَيَذَرُكَ، وَالشَّمْسَ الَّتِي
تَعْبُدُ.
فَكَرِهَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْجُدُ
فِيهِ عَبدة الشَّمْس للشمس.
__________
1 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 14.
2 سُورَة الْأَعْرَاف: الْآيَة 127.
(1/195)
وَأَعْلَمَنَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ
حِينَئِذٍ -أَوْ أَنَّ إِبْلِيسَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ-
فِي جِهَةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ، فَهُمْ يَسْجُدُونَ لَهُ
بِسُجُودِهِمْ لِلشَّمْسِ، ويؤمُّونه.
وَلَمْ يُرِدْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقَرْنِ: مَا
تَصَوَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، مِنْ قُرُونِ الْبَقَرِ،
وَقُرُونِ الشَّاءِ.
وَإِنَّمَا الْقرن -هَهُنَا- حَرْفُ الرَّأْسِ،
وَلِلرَّأْسِ قَرْنَانِ: أَيْ حَرْفَانِ وَجَانِبَانِ.
وَلَا أَرَى الْقَرْنَ الَّذِي يَطْلُعُ فِي ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ، سُمِّيَ قَرْنًا إِلَّا بِاسْمِ مَوْضِعِهِ،
كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الشَّيْءَ، بِاسْمِ مَا كَانَ
لَهُ مَوْضِعًا أَوْ سَبَبًا.
فَيَقُولُونَ: "رَفَعَ عَقِيرَتَهُ" يُرِيدُونَ: صَوْتَهُ،
لِأَنَّ رَجُلًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَرَفَعَهَا،
وَاسْتَغَاثَ مِنْ أَجْلِهَا، فَقِيلَ لِمَنْ رَفَعَ
صَوْتَهُ: "رَفَعَ عَقِيرَتَهُ".
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي الْمَشْرِقِ: "من هَهُنَا، يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ". لَا يُرِيدُ بِهِ، مَا يَسْبِقُ إِلَى
وَهْمِ السَّامِعِ مِنْ قُرُونِ الْبَقَرِ، وَإِنَّمَا
يُرِيد "من هَهُنَا يَطْلُعُ رَأْسُ الشَّيْطَانِ".
وَكَانَ وَهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَقُولُ؛ فِي ذِي
الْقَرْنَيْنِ: إِنَّهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَاسْمُهُ "الْإِسْكَنْدَرُوسُ"
وَأَنَّهُ كَانَ حَلَمَ حُلْمًا، رَأَى فِيهِ أَنَّهُ
دَنَا مِنَ الشَّمْسِ، حَتَّى أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا فِي
شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا.
فَقَصَّ رُؤْيَاهُ على قومه، فَسَموهُ ذِي الْقَرْنَيْنِ،
وَأَرَادَ بِأَخْذِهِ بِقَرْنَيْهَا، أَنَّهُ أَخَذَ
بِجَانِبَيْهَا.
وَالْقُرُونُ أَيْضًا، خُصَلُ الشَّعْرِ، كُلُّ خُصْلَةٍ
قَرْنٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرُّومِ: "ذَاتُ الْقُرُونِ".
يُرَادُ: أَنَّهُمْ يُطَوِّلُونَ الشُّعُورَ.
فَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُعَلِّمَنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ، فِي وَقْتِ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَعِنْدَ سُجُودِ عَبَدَتِهَا لَهَا، مَائِلٌ
مَعَ الشَّمْسِ؛ فَالشَّمْسُ تَجْرِي مِنْ قِبَلِ
رَأْسِهِ، فَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُصَلِّيَ فِي هَذَا
الْوَقْتِ الَّذِي يَكْفُرُ فِيهِ هَؤُلَاءِ، وَيُصَلُّونَ
لِلشَّمْسِ وَلِلشَّيْطَانِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَذَا أَمْرٌ مُغَيَّبٌ عَنَّا،
لَا نَعْلَمُ مِنْهُ، إِلَّا مَا عَلِمْنَا.
(1/196)
وَالَّذِي أَخْبَرْتُكَ بِهِ، شَيْءٌ
يَحْتَمِلُهُ التَّأْوِيلُ، وَيُبَاعِدُهُ عَنِ
الشَّنَاعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَأْتِ أَهْلُ التَّكْذِيبِ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ،
إِلَّا لِرَدِّهِمُ الْغَائِبَ عَنْهُمْ، إِلَى الْحَاضِرِ
عِنْدَهُمْ، وَحَمْلِهِمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا
يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ
وَالْمَوَاتِ، وَاسْتِعْمَالِهِمْ حُكْمَ ذَوِي الْجُثَثِ1
فِي الرُّوحَانِيِّينَ.
فَإِذَا سَمِعُوا بِمَلَائِكَةٍ عَلَى كَوَاهِلِهَا
الْعَرْشُ، وَأَقْدَامُهَا فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى،
اسْتَوْحَشُوا مِنْ ذَلِكَ، لِمُخَالَفَتِهِ مَا شَاهَدُوا
-وَقَالُوا: كَيْفَ تَخْرِقُ جُثَثُ هَؤُلَاءِ
السَّمَاوَاتِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَالْأَرْضِينَ وَمَا
فَوْقَهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نَرَى لِذَلِكَ أَثَرًا؟
وَكَيْفَ يَكُونُ خَلْقٌ لَهُ هَذِهِ الْعَظَمَةُ؟
وَكَيْفَ تكون أرواحًا وَلها كواهل وأقدام2.
وَإِذَا سَمِعُوا بِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
مَرَّةً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَمَرَّةً فِي
صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَمَرَّةً فِي صُورَةِ
شَابٍّ، وَمَرَّةً سَدَّ بِجَنَاحَيْهِ مَا بَيْنَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
قَالُوا: كَيْفَ يَتَحَوَّلُ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ؟
وَكَيْفَ يَكُونُ مَرَّةً فِي غَايَةِ الصِّغَرِ؟
وَمَرَّةً فِي غَايَةِ الْكِبَرِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يُزَادَ فِي جِسْمِهِ وَلَا جُثَّتِهِ وَأَعْرَاضِهِ؟
لِأَنَّهُمْ لَا يُعَايِنُونَ إِلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَإِذَا سَمِعُوا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَصِلُ إِلَى
قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، حَتَّى يُوَسْوِسَ لَهُ وَيَخْنِسَ.
قَالُوا: مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ؟ وَهَلْ يَجْتَمِعُ
رُوحَانِ فِي جِسْمٍ؟ وَكَيْفَ يَجْرِي مَجْرَى الدَّمِ؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلَوِ اعْتَبَرُوا مَا غَابَ عَنْهُمْ، بِمَا رَأَوْهُ
مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، لَعَلِمُوا أَنَّ
الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يُفَجِّرَ مِيَاهَ الْأَرْضِ
كلهَا إِلَى الْبَحْر،
__________
1 وَفِي نُسْخَة: الْخبث.
2 وَفِي نُسْخَة: وأقدار.
(1/197)
مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَا
عَلَيْهَا، فَهِيَ تُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ.
وَلَوْ جُعِلَ لِنَهْرٍ مِنْهَا مِثْلِ "دِجْلَةَ" أَوِ
"الْفُرَاتِ" أَوِ "النِّيلِ" سَبِيلٌ إِلَى مَا عَلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى
وَالْعِمَارَاتِ وَالْخَرَابِ شَهْرًا، لَمْ يَبْقَ عَلَى
ظَهْرِهَا شَيْءٌ إِلَّا هَلَكَ، هُوَ الَّذِي قَدَرَ
عَلَى مَا أَنْكَرُوا، وَأَنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ
يُحَرِّكَ هَذِهِ الْأَرْضَ، عَلَى عِظَمِهَا
وَكَثَافَتِهَا، وَبِحَارِهَا، وَأَطْوَادِهَا،
وَأَنْهَارِهَا حَتَّى تَتَصَدَّعَ الْجِبَالُ، وَحَتَّى
تَغِيضَ الْمِيَاهُ، وَحَتَّى يَنْتَقِلَ جَبَلٌ مِنْ
مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ -هُوَ الَّذِي لَطَفَ لِمَا
قَدَّرَ.
وَأَنَّ الَّذِي وَسَّعَ إِنْسَانَ الْعَيْنِ، مَعَ
صِغَرِهِ وَضَعْفِهِ، لِإِدْرَاكِ نِصْفِ الْفَلَكِ عَلَى
عِظَمِهِ، حَتَّى رَأَى النَّجْمَ مِنَ الْمَشْرِقِ،
وَرَقِيبَهُ مِنَ الْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَحَتَّى
خَرَقَ مِنَ الْجَوِّ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ؛ هُوَ
الَّذِي خَلَقَ مَلَكًا، مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ
إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ.
فَهَلْ مَا أَنْكَرَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَا عَرَفَ؟
وَهَلْ مَا رَأَى إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَرَهُ؟
فَتَعَالَى اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.
(1/198)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
21- الْفِطْرَةُ وَالشَّقَاءُ وَالسَّعَادَةُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ، حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ، يُهَوِّدَانِهِ،
وَيُنَصِّرَانِهِ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمُ "الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ
أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بطن أمه" 2.
"وَأَن النُّطْفَةَ إِذَا انْعَقَدَتْ، بَعَثَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهَا مَلَكًا يَكْتُبُ أَجَلَهُ
وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ" 3.
وَأَنه مَسَحَ عَلَى ظَهْرِ آدَمَ، فَقَبَضَ قَبْضَةً،
فَقَالَ: "إِلَى الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي" وَقَبَضَ أُخْرَى
فَقَالَ: "إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي" 4.
قَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ، فَرَّقَ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْقَدَرِ،
وَأَهْلُ الْإِثْبَاتِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ
هَهُنَا تَنَاقُضٌ، وَلَا اخْتِلَافٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ
تَعَالَى.
__________
1 صَحِيح مُسلم: قدر 25 ص2048.
2 صَحِيح مُسلم: قدر 3، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 7،
والدارمي: مُقَدّمَة 23، وَأحمد 3/ 176.
3 صَحِيح البُخَارِيّ: تَوْحِيد 28، قدر، بَدْء الْخلق 6،
أَنْبيَاء1، وصحيح مُسلم: قدر1، وَأَبُو دَاوُد: سنة 16،
وَالتِّرْمِذِيّ، قدر 4، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 10،
وَأحمد: 5/ 197.
4 رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك،
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع برقم 1758
والسلسلة الصَّحِيحَة برقم 48. -مُحَمَّد بدير-.
(1/199)
وَلَو عرفت الْمُعْتَزلَة معنى ذَلِك، مَا
فَارَقَتِ الْمُثْبِتَةَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ الِاخْتِلَافُ
إِلَّا لِهَذَا الْحَدِيثِ.
والفطرة -هَهُنَا- الِابْتِدَاءُ وَالْإِنْشَاءُ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1 أَي مبتدئهما.
وَكَذَلِكَ قَوْله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا} 2 يُرِيدُ جِبِلَّتَهُ الَّتِي جَبَلَ
النَّاسَ عَلَيْهَا.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ" أَخَذَ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ
عَلَيْهِمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ {وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}
3.
فَلَسْتُ وَاجِدًا أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّ
لَهُ صَانِعًا وَمُدَبِّرًا، وَإِنْ سَمَّاهُ بِغَيْرِ
اسْمِهِ، أَوْ عَبَدَ شَيْئًا دُونَهُ، لِيُقَرِّبَهُ
مِنْهُ عِنْدَ نَفْسِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ،
أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ مَا تَعَالَى عَنْهُ عُلُوًّا
كَبِيرًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 4.
فَكُلُّ مَوْلُودٍ فِي الْعَالَمِ عَلَى ذَلِكَ الْعَهْدِ
وَالْإِقْرَارِ، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي وَقَعَتْ
فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ، وَجَرَتْ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنِّي خَلَقْتُ
عِبَادِي جَمِيعًا حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ
الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ يُهَوِّدُ الْيَهُودُ
أَبْنَاءَهُمْ، وَيُمَجِّسُ الْمَجُوسَ أَبْنَاءَهُمْ" 5
أَيْ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ.
__________
1 سُورَة فاطر: الْآيَة 1.
2 سُورَة الرّوم: الْآيَة 30.
3 سُورَة الْأَعْرَاف: الْآيَة 172.
4 سُورَة الزخرف: الْآيَة 87.
5 مُسلم: جنَّة 63، وَأحمد 4/ 162 وَقد وَجَدْنَاهُ
بِلَفْظ: "إِنِّي خلقت عبَادي حنفَاء كلهم، وَأَنَّهُمْ
أَتَتْهُم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم،
وحرَّمَت عَلَيْهِم مَا أحللتُ لَهُم، وأمرتهم أَن يشركوا
بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا، وَإِن الله نظر إِلَى أهل
الأَرْض فمقتهم عربهم وعجمهم إِلَّا بقايا من أهل الْكتاب.
وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت
عَلَيْك كتابا لَا يغسلهُ المَاء، تقرؤه نَائِما
ويقظان...." إِلَخ.
(1/200)
وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ مِمَّا
يَقَعُ بِهِ حُكْمٌ، أَوْ عَلَيْهِ ثَوَابٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الطِّفْلَ مِنْ أَطْفَالِ
الْمُشْرِكِينَ، مَا كَانَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَهُوَ
مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِدِينِهِمَا، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ
إِنْ مَاتَ.
ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ كَنَفِهِمَا إِلَى مَالِكٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِدِينِ مَالِكِهِ،
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ؟! وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ
علمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ.
وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْقَدَرِ وَأَهْلِ
الْإِثْبَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ أَنَّ الْفِطْرَةَ
-عِنْدَ أَهْلِ الْقَدَرِ- الْإِسْلَامُ، فَتَنَاقَضَ
عِنْدَهُمُ الْحَدِيثَانِ.
وَالْفِطْرَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْعَهْدُ
الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ فُطِرُوا.
فَاتَّفَقَ الْحَدِيثَانِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا، وَصَارَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوضِع.
(1/201)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُفْسِدُ أَوَّلُهُ
آخِرَهُ
22- غَسْلُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنَ
النّوم:
الوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ
مَنَامِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى
يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ
بَاتَتْ يَدُهُ" 1.
قَالُوا: وَهَذَا حَدِيثٌ جَائِزٌ، لَوْلَا قَوْلُهُ:
"فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ".
وَمَا مَنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ دَرَى أَنَّ يَدَهُ
بَاتَتْ حَيْثُ بَاتَ بَدَنُهُ، وَحَيْثُ بَاتَتْ رِجْلُهُ
وَأُذُنُهُ وَأَنْفُهُ، وَسَائِرُ أَعْضَائِهِ، وَأَشَدُّ
الْأُمُورِ أَنْ يَكُونَ مَسَّ بِهَا فَرْجَهُ فِي
نَوْمِهِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَسَّ فَرْجَهُ فِي يَقَظَتِهِ،
لَمَا نَقَضَ ذَلِكَ طَهَارَتَهُ.
فَكَيْفَ بِأَنْ يَمَسَّهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ؟ وَاللَّهُ
لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ.
فَإِنَّ النَّائِمَ قَدْ يَهْجُرُ2 فِي نَوْمِهِ،
فَيُطَلِّقُ، وَيَكْفُرُ، وَيَفْتَرِي، وَيَحْتَلِمُ عَلَى
امْرَأَةِ جَارِهِ، وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ فِي نَوْمِهِ
زَانٍ ثُمَّ لَا يَكُونُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُؤَاخَذًا
فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا فِي أَحْكَامِ
الْآخِرَةِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِن هَذَا النظار، عَلِمَ شَيْئًا
وَغَابَتْ عَنْهُ أَشْيَاءُ.
أَمَا عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ، قَدْ
ذَهَبُوا إِلَى أَن الْوضُوء يجب على
__________
1 صَحِيح مُسلم: طَهَارَة 87، وَسنَن أبي دَاوُد: طَهَارَة
49، وَالتِّرْمِذِيّ: طَاهِرَة 19 وَالنَّسَائِيّ:
طَهَارَة 1، وَأحمد: 2/ 241، 289، 405، 471، 471، 507.
2 يهجر فِي نَومه: أَي يهذي بِكَلَام سيء.
(1/202)
من مَسَّ الْفَرْجَ فِي الْمَنَامِ
وَالْيَقَظَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِالْحَدِيثِ
الْآخَرِ: "مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ" 1.
وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَنَرَى
أَنَّ الْوُضُوءَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ
غَسْلُ الْيَد، لِأَن الْفروج مخارج الْحَدَثِ
وَالنَّجَاسَاتِ.
وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ عِنْدَنَا، مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ
إِنَّمَا هُوَ غَسْلُ الْيَدِ مِنَ الزَّهَمِ2
وَالْأَطْبِخَةِ وَالشِّوَاءِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأَتَيْنَا
بِالدَّلَائِلِ عَلَيْهِ.
فَإِذَا كَانَ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ هُوَ
غَسْلَ الْيَدَيْنِ، تَبَيَّنَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُسْتَيْقِظَ
مِنْ مَنَامِهِ أَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ، قَبْلَ أَنْ
يُدْخِلَهَا الْإِنَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ
بَاتَتْ يَدُهُ.
يَقُولُ: لَعَلَّهُ فِي مَنَامِهِ مَسَّ بِهَا فَرْجَهُ،
أَوْ دُبُرَهُ، وَلَيْسَ يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَ يَدَهُ
قَاطِرُ بَوْلٍ، أَوْ بَقِيَّةُ مَنِيٍّ، إِنْ كَانَ
جَامَعَ قَبْلَ الْمَنَامِ.
فَإِذَا أَدْخَلَهَا فِي الْإِنَاءِ -قَبْلَ أَنْ
يَغْسِلَهَا- أَنْجَسَ الْمَاءَ3 وَأَفْسَدَهُ.
وَخُصَّ النَّائِمُ بِهَذَا، لِأَنَّ النَّائِمَ قَدْ
تَقَعُ يَدُهُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَعَلَى
دُبُرِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.
فَأَمَّا الْيَقْظَانُ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمَسَ شَيْئًا
مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، فَأَصَابَ يَدَهُ مِنْهُ أَذًى،
عَلِمَ بِهِ، وَلَمْ يذهب عَلَيْهِ غسلهَا قَبْلَ أَنْ
يُدْخِلَهَا فِي الْإِنَاءِ، أَو يَأْكُل أَو يُصَافح.
__________
1 صَحِيح البُخَارِيّ: علم53، صَلَاة9، حج21، وَسنَن أبي
دَاوُد: طَهَارَة 69، وَسنَن التِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 61،
وَالنَّسَائِيّ: طَهَارَة 117، غسل 70، وَابْن ماجة:
طَهَارَة 63، والدارمي: وضوء 50، والموطأ: طَهَارَة 60،
61.
2 أَي من الدسومة.
3 ونجاسة الْمَنِيّ مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة، وَمذهب
الشَّافِعِي وَأحمد على القَوْل بِطَهَارَتِهِ.
(1/203)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُفْسِدُ أَوَّلُهُ
آخِرَهُ
23- الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل:
الوا: رُوِّيتُمْ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ
الْإِبِلِ، لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ"1.
وَنَهْيُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ لَا
يُنْكَرُ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي التَّعَبُّدِ، فَلَمَّا
وَصَلْتُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ
الشَّيَاطِينِ، عِلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِبِلَ خُلِقَتْ
مِنَ الْإِبِلِ، كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ خُلِقَتْ مِنَ
الْبَقَرِ، وَالْخَيْلَ مِنَ الْخَيْلِ وَالْأُسْدَ مِنَ
الْأُسْدِ، وَالذُّبَابَ مِنَ الذُّبَابِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرَ النَّبِيِّ، يَعْلَمُ أَنَّ
الْبَعِيرَ تَلِدُهُ النَّاقَةُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةٌ تَلِدُ جَمَلًا، وَلَا أَنَّ
نَاقَةً تَلِدُ شَيْطَانًا.
وَإِنَّمَا أَعْلَمَنَا أَنَّهَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ
خُلِقَتْ مِنْ جِنْسٍ، خُلِقَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِين.
__________
1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 142، وَالنَّسَائِيّ
مَسَاجِد 41، وَابْن ماجة مَسَاجِد 12، والدارمي: صَلَاة
112، وَأحمد 3/ 404-405، 4/ 85، 86، 150، 303، 5/ 54، 55.
وَقد ورد الحَدِيث بِلَفْظ: "صلوا فِي مرابض الْغنم، وَلَا
تصلوا فِي أعطان الْإِبِل فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين
" ابْن ماجة مَسَاجِد12.
وَفِي الزَّوَائِد: إِسْنَاد المُصَنّف فِيهِ مقَال.
و"أعطان الْإِبِل" أَي مباركها حول المَاء.
قَالَ فِي النِّهَايَة؛ "لم ينْه عَن الصَّلَاة فِيهَا من
جِهَة النَّجَاسَة فَإِنَّهَا مَوْجُودَة فِي مرابض
الْغنم، وَقد أَمر بِالصَّلَاةِ فِيهَا، وَإِنَّمَا
أَرَادَ أَن الْإِبِل تزدحم فِي المنهل، فَإِذا شربت رفعت
رؤسها، وَلَا يُؤمن من تقاربها وتفرقها فِي ذَلِك الْموضع
فتؤذي الْمُصَلِّي عِنْدهَا، أَو تلهيه عَن صلَاته، أَو
تنجسه برشاش أبوالها". وَهَذَا التَّعْلِيل أقرب
للصَّوَاب، وَالله أعلم.
(1/204)
وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُهُ فِي
حَدِيثٍ آخَرَ: "إِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ أَعَنَانِ
الشَّيَاطِينِ" يُرِيدُ: مِنْ جَوَانِبِهَا وَنَوَاحِيهَا،
كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ فَلَانٌ أَعَنَانَ السَّمَاءِ، أَيْ
نَوَاحِيَهَا وَجَوَانِبَهَا.
وَلَوْ كَانَتْ مِنْ نَسْلِهَا، لَقَالَ: فَإِنَّهَا
خُلِقَتْ مِنْ نَسْلِهَا، أَوْ بطونها أَو أصلابها، وَأما
يُشْبِهُ هَذَا.
وَلَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ تَنْسُبُ جِنْسًا مِنَ الْإِبِلِ
إِلَى الْحُوشِ، فَتَقُولُ: نَاقَةٌ حُوشِيَّةٌ، وَإِبِلٌ
حُوشِيَّةٌ، وَهِيَ أَنْفَرُ الْإِبِلِ وَأَصْعَبُهَا.
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْجِنِّ نَعَمًا، بِبِلَادِ
الْحُوشِ1 وَأَنَّهَا ضَرَبَتْ فِي نَعَمِ النَّاسِ،
فَنَتَجَتْ هَذِهِ الْحُوشِيَّةَ، قَالَ رُؤْبَةُ:
جَرَتْ رَحَانَا2 مِنْ بِلَادِ الْحُوشِ
وَقَدْ يَجُوزُ -عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ- أَنْ تَكُونَ
فِي الْأَصْلِ، مِنْ نِتَاجِ نَعَمِ الْجِنِّ، لَا مِنَ
الْجِنِّ أَنْفُسِهَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: "مِنْ أَعْنَانِ
الشَّيَاطِينِ". أَيْ: مِنْ نَوَاحِيهَا.
وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مَنْ أَنْكَرَ
الْجِنَّ أَنْفُسَهَا وَالشَّيَاطِينَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ
إِلَّا بِمَا رَأَتْهُ عَيْنُهُ، وَأَدْرَكَتْهُ
حَوَاسُّهُ، وَهُوَ مَنْ عَقْد قَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ
وَالْفَلَاسِفَةِ، يُقَالُ لَهُمُ: الدَّهْرِيَّةُ،
وَلَيْسَ من عقد الْمُسلمين.
__________
1 بِلَاد الحوش: بِلَاد الْجِنّ، والحوش والحوشية: إبل
الْجِنّ وَقيل هِيَ الْإِبِل المتوحشة، وَقيل: هم حَيّ من
الْجِنّ، وَأنْشد لرؤبة: إِلَيْك سَارَتْ من بِلَاد الحوش.
"لِسَان الْعَرَب".
2 الرَّحَى: الْكثير من الْإِبِل.
(1/205)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُفْسِدُ بَعْضُهُ
بَعْضًا
24- قتل الْكلاب:
الوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ
أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ، لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، وَلَكِنِ
اقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدٍ بَهِيمٍ" 1.
وَقَالَ: "الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ" 2.
قَالُوا: فَكَأَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ
أَسْوَدُ، أَوْ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ، مَعَ عَفْوِهِ عَنْ
جَمَاعَةِ الْكِلَابِ، لِأَنَّهَا أُمَّةٌ، وَلَيْسَ فِي
كَوْنِهَا أُمَّةً عِلَّةٌ تَمْنَعُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا
تُوجِبُهُ.
قَالُوا: ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ
بِالْمَدِينَةِ كَلْبٌ فَكَيْفَ قَتَلَهَا، وَهِيَ
أُمَّةٌ، أَوَلا مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهَا؟.
قَالُوا: وَقَدْ صَارَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي بِهَا عَفَا
عَنْهَا، هِيَ الْعِلَّةَ الَّتِي قَتَلَهَا لَهَا.
قَالَ: أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ كُلَّ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللَّهُ
تَعَالَى مِنَ الْحَيَوَانِ أُمَّةٌ، كَالْكِلَابِ،
والأسُد، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالنَّمْلِ،
وَالْجَرَادِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، كَمَا أَنَّ النَّاسَ
أُمَّةٌ.
وَكَذَلِكَ الْجِنُّ أُمَّةٌ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ
__________
1 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 17724 وَقَالَ
أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن عبد الله بن
مُغفل، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم
"5321، 5322".
2 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 16091 مَا
يَلِي:
"الْكَلْب الْأسود البهيم شَيْطَان" وَقد أخرجه أَحْمد
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَرَاه مُسلم عَن
أبي ذَر برقم 510.
(1/206)
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ
أَمْثَالُكُمْ} 1 يُرِيد: أَنَّهَا مِثْلُنَا فِي طَلَبِ
الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، وَابْتِغَاءِ الرِّزْقِ2،
وَتَوَقِّي الْمَهَالِكِ.
وَكَذَلِكَ الْجِنُّ، قَدْ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
كَمَا خَاطَبَنَا، إِذْ يَقُولُ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} 3.
وَلَوْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ عَلَى كُلِّ حَالٍ،
لَأَفْنَى أُمَّةً، وَقَطَعَ أَثَرَهَا.
وَفِي الْكِلَابِ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فِي حِرَاسَةِ
مَنَازِلِهِمْ، وَحِفْظِ نَعَمِهِمْ، وَحَرْثِهِمْ مَعَ
الِارْتِفَاقِ بِصَيْدِهَا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْأَعْرَابِ وَنَازِلَةِ الْقَفْرِ، لَا غِذَاءَ لَهُمْ
وَلَا مَعَاشَ إِلَّا بِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 4 وَفِي ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لِمَنَافِعِنَا.
وَقَدْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلَيْنِ
سَافَرَا، وَمَعَ أَحَدِهِمَا كَلْبٌ لَهُ، فَوَقَعَ
عَلَيْهِمَا اللُّصُوصُ، فَقَاتَلَ أَحَدُهُمَا حَتَّى
غُلِبَ وَأُخِذَ فَدُفِنَ، وَتُرِكَ رَأْسُهُ بَارِزًا،
وَجَاءَتِ الْغِرْبَانُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ، فَحَامَتْ
حَوْلَهُ تُرِيدُ أَنْ تَنْهَشَهُ وَتَقْلَعَ عَيْنَيْهِ،
وَرَأَى ذَلِكَ كَلْبٌ كَانَ مَعَهُ، فَلَمْ يَزَلْ
يَنْبُشُ التُّرَابَ عَنْهُ، حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، وَمِنْ
قَبْلِ ذَلِكَ، قَدْ فَرَّ صَاحِبُهُ وَأَسْلَمَهُ5.
قَالَ: فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
يُعَرِّدُ عَنْهُ جارُه ورفيقُه ... وَيَنْبُشُ عَنْهُ
كلبُه وَهُوَ ضاربُه
وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ مِثْلُ مُحَامَاتِهِ
عَلَى أَهْلِهِ، وَذَبِّهِ عَنْهُمْ مَعَ الْإِسَاءَةِ
إِلَيْهِ، وَالطَّرْدِ وَالضَّرْب.
__________
1 سُورَة الْأَنْعَام: الْآيَة 38.
2 وَفِي نُسْخَة: وابتغاء الذَّر.
3 سُورَة الْأَنْعَام: الْآيَة 130.
4 سُورَة الْمَائِدَة: الْآيَة 4.
5 أسلمه: خذله وَترك نصرته.
6 يعرد: أَي يهرب.
(1/207)
وَالْأَخْبَارُ عَنِ الْكِلَابِ فِي هَذَا
كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ -وَنَكْرَهُ الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا.
وَلَيْسَتْ تَخْلُو الْكِلَابُ مِنْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةً
مِنْ أُمَمِ السِّبَاعِ، أَوْ تَكُونَ أُمَّةً مِنَ
الْجِنِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْكِلَابُ
أُمَّةٌ مِنَ الْجِنِّ1 وَهِيَ ضَعَفَةُ الْجِنِّ، فَإِذَا
غَشِيَتْكُمْ عِنْدَ طَعَامِكُمْ، فَأَلْقُوا لَهَا،
فَإِنَّ لَهَا أَنْفُسًا، يَعْنِي: أَنَّ لَهَا عُيُونًا،
تُصِيبُ بِهَا".
وَالنَّفْسُ: الْعَيْنُ، يُقَالُ: أَصَابَتْ فَلَانَا
نَفْسٌ، أَيْ: عَيْنٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: "الْجَانُّ مَسِيخُ الْجِنِّ، كَمَا
مُسِخَتِ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ".
وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا، أَنْ تَكُونَ الْكِلَابُ
كَذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ، لَا تُدْرَكُ بِالنَّظَرِ
وَالْقِيَاسِ وَالْعُقُولِ، وَإِنَّمَا يُنتهى فِيهَا
إِلَى مَا قَالَهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَوْ مَا قَالَهُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ
وَشَاهَدَهُ.
فَإِنَّهُمْ لَا يَقْضُونَ عَلَى مَثَلِهِ إِلَّا
بِسَمَاعٍ مِنْهُ أَوْ سَمَاعٍ مِمَّنْ سَمِعَهُ، أَوْ
بِخَبَرٍ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أُمُورِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ.
وَلَيْسَ عَلَيْنَا وَكْفٌ2 وَلَا نَقْصٌ، مِنْ أَنْ
تَكُونَ الْكِلَابُ مِنَ السِّبَاعِ، أَوِ الْجِنِّ، أَوِ
الْمَمْسُوخِ.
فَإِنْ كَانَتْ مِنَ السِّبَاعِ، فَإِنَّمَا أُمِرَ
بِقَتْلِ الْأَسْوَدِ مِنْهَا، وَقَالَ: "هُوَ شَيْطَانٌ"؛
لِأَنَّ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ مِنْهَا أَضَرُّهَا
وَأَعْقَرُهَا، وَالْكَلْبُ إِلَيْهِ أَسْرَعُ مِنْهُ
إِلَى جَمْعِهَا، وَهُوَ -مَعَ هَذَا أَقَلُّهَا نَفْعًا
وَأَسْوَؤُهَا حِرَاسَةً، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الصَّيْدِ،
وَأَكْثَرُهَا نُعَاسًا.
وَقَالَ: "هُوَ شَيْطَانٌ" يُرِيدُ: أَنَّهُ أَخْبَثُهَا،
كَمَا يُقَالُ فَلَانٌ شَيْطَانٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا
شَيْطَانٌ مَارِدٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا أَسَدٌ عَادٍ، وَمَا
هُوَ إِلَّا ذِئْبٌ عَادٍ -يُرَادُ: أَنَّهُ شَبيه بذلك.
__________
1 الْجِنّ: بِالْكَسْرِ، حَيّ من الْجِنّ، مِنْهُم الْكلاب
السود البهم، أَو سفلَة الْجِنّ وضعفاؤهم، أَو كلابهم، أَو
خلق من الْجِنّ وَالْإِنْس "الْقَامُوس الْمُحِيط".
2 وكف: أَي عيب أَو إِثْم أَو جور "الْقَامُوس الْمُحِيط".
(1/208)
وَإِنْ كَانَتِ الْكِلَابُ مِنَ الْجِنِّ،
أَوْ كَانَتْ مَمْسُوخًا مِنَ الْجِنِّ، فَإِنَّمَا
أَرَادَ أَنَّ الْأَسْوَدَ مِنْهَا شَيْطَانُهَا،
فَاقْتُلُوهُ لِضُرِّهِ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ: مَارِدُ
الْجِنِّ. وَالْجِنُّ هُمُ الضَّعَفَةُ، وَالْجِنُّ1
أَضْعَفُ مِنَ الْجِنِّ.
وَأَمَّا قَتْلُهُ كِلَابَ الْمَدِينَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ
نَقْضٌ لِقَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ
مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا"، لِأَنَّ
الْمَدِينَةَ فِي وَقْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ
مَلَائِكَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا
فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَة، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمْ
يَمْنَعْنِي مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْكَ الْبَارِحَةَ،
إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى بَابِ بَيْتِكَ سِتْرٌ، فِيهِ
تَصَاوِيرُ، وَكَانَ فِي بَيْتِكَ كَلْبٌ، فَمُرْ بِهِ،
فَلْيَخْرُجْ" 2.
وَكَانَ الْكَلْبُ جَرْوًا لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ،
تَحْتَ نَضَدٍ لَهُمْ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَمَا تُكْرَهُ الْكِلَابُ
فِي الْبُيُوتِ، تُكْرَهُ أَيْضًا فِي الْمِصْرِ.
فَأَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَتْلِهَا، أَوْ بِالتَّخْفِيفِ مِنْهَا، فِيمَا قَرُبَ
مِنْهَا، وَأَمْسَكَ عَنْ سَائِرِهَا، مِمَّا بَعُدَ مِنْ
مَهْبِطِ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْزِلِ الْوَحْيِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
النضد3 السرير، لِأَن الثِّيَاب تنضدد فَوْقه.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: والجان أَضْعَف من الشَّيْطَان.
2 أخرجه مُسلم: لِبَاس 81، وَأحمد 2/ 478.
3 النضد: مَا نضد من مَتَاع، أَو خِيَار الْمَتَاع. ونضد
مَتَاعه ينضده جعل بعضه فَوق بعض. "الْقَامُوس الْمُحِيط".
(1/209)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُفْسِدُ أَوَّلُهُ
آخِرَهُ
25- قَتْلُ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "خَمْسٌ فَوَاسَقُ،
يُقْتَلْنَ فِي الْحل وَالْحرم الْغُرَابُ، وَالْحِدْأَةُ،
وَالْكَلْبُ، وَالْحَيَّةُ، وَالْفَأْرَةُ" 1.
قَالَ: فَلَوْ قَالَ: اقْتُلُوا هَذِهِ الْخَمْسَةَ
وَخَمْسَةً مَعَهَا، لَجَازَ ذَلِكَ فِي التَّعَبُّدِ.
فَأَمَّا أَنْ تُقْتَلَ لِأَنَّهَا فَوَاسَقُ، فَهَذَا لَا
يَجُوزُ، لِأَنَّ الْفِسْقَ وَالْهُدَى، لَا يَجُوزُ عَلَى
شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَالْهَوَامُّ، وَالسِّبَاعُ، وَالطَّيْرُ، غَيْرُ
الشَّيَاطِينِ، وَغَيْرُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، الَّذِينَ
يَكُونُ مِنْهُمُ الْفِسْقُ وَالْهِدَايَةُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ
الْمُعْتَقِدَ أَنَّ الْهَوَامَّ وَالسِّبَاعَ
وَالطَّيْرَ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا عِصْيَانٌ وَلَا
طَاعَةٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ،
وَأَنْبِيَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَكُتُبِ اللَّهِ
الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
أَخْبَرَنَا عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّهُ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ: {وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ
كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا
شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} 2 أَيْ بِعُذْرٍ بَيِّنٍ، وَحُجَّةٍ
فِي غَيْبَتِهِ وَتَخَلُّفِهِ.
__________
1 مُسلم: حج 67، 68، 69، وَالنَّسَائِيّ: مَنَاسِك 113،
114، 118، 119، وَابْن ماجة: مَنَاسِك 91، والموطأ: حج
290، وَأحمد: 6/ 23، 87، 97، 122، 164، 259، 261.
2 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 20.
(1/210)
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَهُ إِلَّا
عَلَى ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَالذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي
تُسَمَّى فُسُوقًا وَمَا جَازَ أَنْ يُسَمَّى عَاصِيًا،
جَازَ أَنْ يُسَمَّى فَاسِقًا.
ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْهُدْهُدِ، بَعْدَ
أَنِ اعْتَذَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ: {أَحَطْتُ
بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ
يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ،
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا
تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} 1.
وَهَذَا لَوْ كَانَ مِنْ أَقَاوِيلِ الْحُكَمَاءِ، بَلْ
لَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، لَكَانَ كَلَامًا
حَسَنًا، وَعِظَةً بَلِيغَةً، وَحُجَّةً بَيِّنَةً،
فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا مُطِيعٌ وَعَاصٍ،
وَفَاسِقٌ وَمُهْتَدٍ.
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا عَنِ النَّمْلِ مَا
حَكَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: {وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} 2 فَجَعَلَهَا تَنْطِقُ
كَمَا يَنْطِقُ النَّاسُ.
وَقَالَ: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ
قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} 3 الْآيَةَ
فَجَعَلَهَا تَنْطِقُ كَمَا يَنْطِقُ النَّاسُ.
وَقَالَ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 4.
وَقَالَ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} 5
أَيْ سَبِّحِي.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، فَتَحَ كُوَّةَ الْفُلْكِ الَّتِي صنع.
__________
1 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 22.
2 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 16.
3 سُورَة النَّمْل: الْآيَة 18.
4 سُورَة الْإِسْرَاء: الْآيَة 44.
5 سُورَة سبأ: الْآيَة 10.
(1/211)
ثُمَّ أَرْسَلَ الْغُرَابَ، فَخَرَجَ
وَلَمْ يَرْجِعْ، حَتَّى يَبِسَ الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ.
وَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ،
فَرَجَعَتْ حِينَ أَمْسَتْ وَفِي مِنْقَارِهَا وَرَقَةُ
زَيْتُونٍ، فَعَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ قَلَّ عَنْ
وَجْهِ الْأَرْضِ.
فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى لَهَا بِالطَّوْقِ فِي
عُنُقِهَا، وَالْخِضَابِ فِي رِجْلَيْهَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَرَأَتُ أَيْضًا فِي التَّوْرَاةِ: "أَنَّ اللَّهَ
جَلَّ وَعَزَّ، قَالَ لِآدَمَ -حِينَ خَلَقَهُ- كُلْ مَا
شِئْتَ مِنْ شَجَرِ الْفِرْدَوْسِ، وَلَا تَأْكُلْ مِنْ
شَجَرَةِ عِلْمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَإِنَّكَ يَوْمَ
تَأْكُلُ مِنْهَا تَمُوتُ، يُرِيدُ: "أَنَّكَ تَتَحَوَّلُ
إِلَى حَالِ مَنْ يَمُوتُ".
وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَعْزَمَ1 دَوَابِّ الْبَرِّ،
فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ، إِنَّكُمَا لَا تَمُوتَانِ. إِنْ
أَكَلْتُمَا مِنْهَا، وَلَكِنْ أَعْيُنُكُمَا تَنْفَتِحُ،
وَتَكُونَانِ كَالْإِلَهِ، تَعْلَمَانِ الْخَيْرَ
وَالشَّرَّ.
فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَمَرَتِهَا فَأَكَلَتْ،
وَأَطْعَمَتْ بَعْلَهَا، فَانْفَتَحَتْ أَبْصَارُهُمَا،
وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ.
فَوَصَلَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ، وَاصْطَنَعَاهُ إِزَارًا،
ثُمَّ سَمِعَا صَوْتَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ،
حِينَ تَوَرَّكَ2 النَّهَارُ فَاخْتَبَأَ آدَمُ
وَامْرَأَتُهُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ فَدَعَاهُمَا.
فَقَالَ آدَمُ: سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْفِرْدَوْسِ،
وَرَأَيْتَنِي عُرْيَانًا، فَاخْتَبَأْتُ مِنْكَ.
فَقَالَ: وَمَنْ أَرَاكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ، لَقَدْ
أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكَ عَنْهَا.
فَقَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ أَطْعَمَتْنِي.
وَقَالَتِ الْمَرْأَة: إِن الْحَيَّة أطغتني.
__________
1 أعزم: أقوى عَزِيمَة وَأكْثر جدية فِي الْأَمر.
2 تورك النَّهَار: بسط ضوءه، وَتمّ جلاؤه.
(1/212)
فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ
لِلْحَيَّةِ: مِنْ أَجْلِ فِعْلِكِ هَذَا، فَأَنْتِ
مَلْعُونَةٌ، وَعَلَى بَطْنِكِ تَمْشِينَ، وَتَأْكُلِينَ
التُّرَابَ، وَسَأُغْرِي بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَوَلَدِهَا، فَيَكُونُ يَطَأُ رَأْسَكِ، وَتَكُونِينَ
أَنْتِ تَلْدَغِينَهُ بِعَقِبِهِ1.
وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: وَأَمَّا أَنْتِ فَأُكْثِرُ
أَوْجَاعَكِ وَإِحْبَالَكِ، وَتَلِدِينَ الْأَوْلَادَ
بِالْأَلَمِ، وَتُرَدِّينَ إِلَى بَعْلِكِ حَتَّى يَكُونَ
مُسَلَّطًا عَلَيْكِ.
وَقَالَ لِآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَلْعُونَةٌ الْأَرْضُ مِنْ أَجْلِكَ وَتُنْبِتُ
الْحَاجَّ2 وَالشَّوْكَ، وَتَأْكُلُ مِنْهَا بِالشَّقَاءِ
وَرَشْحِ جَبِينِكَ، حَتَّى تَعُودَ إِلَى التُّرَابِ مِنْ
أَجْلِ أَنَّكَ تُرَابٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَفَمَا تَرَى أَنَّ الْحَيَّةَ
أَطْغَتْ وَاخْتَدَعَتْ، فَلَعَنَهَا اللَّهُ تَعَالَى،
وَغَيَّرَ خَلْقَهَا، وَجَعَلَ التُّرَابَ رِزْقَهَا3.
أَفَمَا يَجُوزُ أَنَّ تُسَمَّى هَذِهِ فَاسِقَةً
وَعَاصِيَةً، وَكَذَلِكَ الْغُرَابُ بِمَعْصِيَتِهِ نُوحًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَرَى أَهْلُ النَّظَرِ أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ
غُرَابَ الْبَيْنِ، لِأَنَّهُ بَانَ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَذَهَبَ، وَلِذَلِكَ تَشَاءَمُوا بِهِ،
وَزَجَرُوا فِي نَعِيقِهِ بِالْفِرَاقِ وَالِاغْتِرَابِ،
وَاسْتَخْرَجُوا مِنَ اسْمِهِ الْغُرْبَةَ، وَقَالُوا:
"قَذَفته نوى غربَة" و"هَذَا شَاءَ مغرب" و"هَذِه
عَنْقَاءُ مُغْرِبٌ" أَيْ: جَائِيَةٌ مِنْ بُعْدٍ؛
يَعْنُونَ: الْعُقَابَ.
وَكُلُّ هَذَا مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْغُرَابِ،
لِمُفَارَقَتِهِ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمُبَايَنَتِهِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا، حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَان
الْعَوْفِيّ،
__________
1 لَا نستحسن مثل هَذِه الاستشهادات بأقوال التَّوْرَاة،
وَنحن نعلم التحريف الَّذِي أوجده أَتْبَاعه فِيهَا؛ إِذْ
كَيفَ يستساغ قَول آدم: "اخْتَبَأْت مِنْك"، وَهُوَ يعلم
أَنه لَا يغيب عَن علم الله شَيْء، وَلَا يخفي عَلَيْهِ
أمرا.. "الْمُحَقق".
2 الْحَاج: أَي الشوك. وَفِي النِّهَايَة: ضرب من الشوك،
واحده: حَاجَة.
3 لَا أجد مناسبًا أَن نعتبر مَا فِي التَّوْرَاة حقائق
نَبْنِي عَلَيْهَا حجَّة ونتخذ مِنْهَا دَلِيلا؛
وَالْأَظْهَر مِنْهُ عِنْدِي: أَن يستشهد الْمُؤلف بِمَا
ورد فِي الْقُرْآن الْكَرِيم من قصَّة سُلَيْمَان عَلَيْهِ
السَّلَام والهدهد. "الْمُحَقق".
(1/213)
عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
أَبْزَى الْمَكِّيِّ، عَنْ أُمِّهِ رَائِطَةَ بِنْتِ
مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حُنَيْنًا فَقَالَ لِي: "مَا اسْمُكَ"؟ قُلْتُ: غُرَابٌ.
فَقَالَ: "أَنْتَ مُسْلِمٌ" كَرِهَ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ
غُرَابًا، لِفِسْقِ الْغُرَابِ وَمَعْصِيَتِهِ1،
فَسَمَّاهُ مُسْلِمًا، ذَهَبَ إِلَى ضِدِّ مَعْنَى
الْغُرَابِ؛ لِأَنَّ الْغُرَابَ عَاصٍ وَالْمُسْلِمَ
مُطِيعٌ، مَأْخُوذٌ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ وَهُوَ
الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ.
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ،
وَيَكْرَهُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ
الْقَوْلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَلَوْ أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْمَذْهَبَ -الَّذِي
عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ- فِي تَجْوِيزِ الطَّاعَةِ
وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى الْحَيَّةِ وَالْغُرَابِ
وَالْفَأْرَةِ، إِلَى مَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
وَفِي اللُّغَةِ، لَجَازَ لَنَا أَنَّ نُسَمِّيَ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ فَاسِقًا، لِأَنَّ الْفِسْقَ
الْخُرُوجُ عَلَى النَّاسِ وَالْإِيذَاءُ عَلَيْهِمْ.
يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ عَنْ
قِشْرِهَا، وَكُلُّ خَارِجٍ عَنْ شَيْءٍ، فَهُوَ فَاسِقٌ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} 2 أَيْ: خَرَجَ
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ.
فَالْحَيَّةُ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ مِنْ جُحْرِهَا،
فَتَعْبَثُ بِطَعَامِ النَّاسِ، وَتَنْهَشُ وَتَكْرَعُ فِي
شَرَابِهِمْ، وَتَمُجُّ فِيهِ رِيقَهَا.
وَالْفَأْرَةُ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنْ جُحْرِهَا،
فَتُفْسِدُ أَطْعِمَتَهُمْ، وَتَقْرِضُ ثِيَابَهُمْ
وَتُضْرِمُ بِالذُّبَالَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ
بَيْتَهُمْ، وَلَا شَيْءَ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ
أَعْظَمُ مِنْهَا ضَرَرًا.
وَالْغُرَابُ، يَقَعُ عَلَى دَآءِ الْبَعِيرِ الدُّبُرِ3
فَيَنْقُرُهُ حَتَّى يقْتله، وَلذَلِك
__________
1 رُبمَا كَانَ تَبْدِيل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام اسْم
الرجل بِسَبَب مَا اعْتَادَ النَّاس عَلَيْهِ من التشاؤم
بالغراب، لَا لسَبَب مَعْصِيّة الْغُرَاب لِأَنَّهُ غير
مُكَلّف شرعا فَكيف تنْسب إِلَيْهِ الْمعْصِيَة؟!
"الْمُحَقق" وَالله أعلم.
2 سُورَة الْكَهْف: الْآيَة 50.
3 الدبر: قرحَة الدَّابَّة، وَمِنْه الْمثل: "هان على
الأملس مَا لَاقَى الدبر" "الْقَامُوس الْمُحِيط".
(1/214)
تسميه الْعَرَب: بن دَايَةَ، وَيَنْزِعُ
عَنِ الْخَيْرِ، وَيَخْتَلِسُ أَطْعِمَةَ النَّاسِ.
وَالْكَلْبُ: يَعْقِرُ وَيَجْرَحُ، وَكَذَلِكَ السِّبَاعُ
الْعَادِيَّةُ.
وَكُلُّ هَذِهِ، قَدْ يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى فَوَاسِقَ،
لِخُرُوجِهَا عَلَى النَّاسِ، وَاعْتِرَاضِهَا
بِالْمَضَارِّ عَلَيْهِمْ.
فَأَيْنَ كَانُوا عَنْ هَذَا الْمَخْرَجِ، إِذْ قَبُحَ
-عِنْدَهُمْ- أَنْ يَنْسُبُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ إِلَى
طَاعَة أَو مَعْصِيّة؟!!
(1/215)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ
26- رَهْنُ دِرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ
مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِأَصْوَاعٍ مِنْ
شَعِيرٍ"1.
فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ
مُوَاسٍ، وَلَا مُؤْثِرٌ، وَلَا مُقْرِضٌ.
وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَيْرَ،
وَفَتَحَ عَلَيْهِمُ الْبِلَادَ، وَجَبَوْا مَا بَيْنَ
أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى أَقْصَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَقْصَى
عُمَانَ، ثُمَّ بَيَاضِ نَجْدٍ وَالْحِجَازِ، وَهَذَا مَعَ
أَمْوَالِ الصَّحَابَةِ، كَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ
الرَّحْمَنِ، وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَأَيْنَ كَانُوا؟
قَالُوا: وَهَذَا كَذِبٌ. وَقَائِلُهُ أَرَادَ مَدْحَهُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالزُّهْدِ، وَبِالْفَقْرِ، وَلَيْسَ هَكَذَا تُمْدَحُ
الْأَنْبِيَاء.
وَكَيْفَ يَجُوعُ مَنْ يُجَهِّزُ الْجُيُوشَ، وَمَنْ
يَسُوقُ الْمِئِينَ مِنَ الْبُدْنِ، وَلَهُ مِمَّا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَيْهِ، مِثْلُ "فَدَكٍ"2 وَغَيْرِهَا؟!!
وَذَكَرَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ،
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "نَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً،
كُلَّ بَدَنَةٍ عَنْ سَبْعَةٍ"3 وَاسْتَاقَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ مَكَانَ عُمْرَتِهِ الَّتِي صَدَّهُ
الْمُشْرِكُونَ سِتِّينَ بَدَنَة.
__________
1 البُخَارِيّ: جِهَاد 89، مغازي 86، وَالتِّرْمِذِيّ:
بُيُوع 7، وَالنَّسَائِيّ: بُيُوع 58، 83 وَابْن ماجة:
رهون 1، والدارمي: بُيُوع 44، وَأحمد: 1/ 326، 300، 301،
361.
2 فدك على ثَلَاث مراحل من الْمَدِينَة -الشَّيْخ مُحَمَّد
بدير-.
3 وَجَدْنَاهُ بالدارمي: كتاب الْأَضَاحِي 5 بِلَفْظ:
عَن جَابر قَالَ: "نحرنا يَوْم الْحُدَيْبِيَة سبعين
بَدَنَة الْبَدنَة عَن سَبْعَة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "اشْتَركُوا فِي الْهَدْي
".
(1/216)
وَكَيْفَ يَجُوعُ، مَنْ وَقَفَ سَبْعَ
حَوَائِطَ مُتَجَاوِرَةٍ بِالْعَالِيَةِ1.
ثُمَّ لَا يَجِدُ -مَعَ هَذَا- مِنْ يُقْرِضُهُ أَصْوَاعًا
مِنْ شَعِيرٍ، حَتَّى يَرْهَنَ دِرْعَهُ؟!!
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا مَا
يُسْتَعْظَمُ، بَلْ مَا يُنْكَرُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى
نَفْسِهِ بِأَمْوَالِهِ، وَيُفَرِّقُهَا عَلَى
الْمُحِقِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَلَى الْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينَ، وَفِي النَّوَائِبِ الَّتِي تَنُوبُ
الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَلَا يُعْطِي
إِذَا وَجَدَ إِلَّا كَثِيرًا، وَلَا يَضَعُ دِرْهَمًا
فَوْقَ دِرْهَمٍ، وَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ سَاهِمَ2 الْوَجْهِ، أَمِنْ
عِلَّةٍ؟ فَقَالَ: "لَا، وَلَكِنَّهَا السَّبْعَةُ
الدَّنَانِيرُ، الَّتِي أَتَيْنَا بِهَا أَمْسِ،
نَسِيتُهَا فِي خصم 3 الفراس فَبِتُّ وَلَمْ أُقَسِّمْهَا"
4.
وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ فِي
بُكَائِهَا عَلَيْهِ: "بِأَبِي، مَنْ لَمْ يَنَمْ عَلَى
الْوَثِيرِ5 وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ"6.
وَلَيْسَ يَخْلُو قَوْلُهَا هَذَا، مِنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ يُؤْثِرُ بِمَا عِنْدَهُ، حَتَّى لَا
يَبْقَى عِنْدَهُ مَا يُشْبِعُهُ -وَهَذَا بَعْضُ
صِفَاتِهِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} 7، أَوْ يَكُونُ لَا يَبْلُغُ الشِّبَعَ مِنَ
الشَّعِيرِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ
يَكْرَهُ إِفْرَاطَ الشِّبَعِ، وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ
كَثِيرٌ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْلَاهُمْ
بِالْفَضْلِ، وأحراهم بِالسَّبقِ،
__________
1 الْعَالِيَة: مَا فَوق نجد إِلَى أَرض تهَامَة إِلَى مَا
وَرَاء مَكَّة، وقرى بِظَاهِر الْمَدِينَة وَهِي: العوالي.
"قَامُوس الْمُحِيط".
2 ساهم الْوَجْه: متغير لون الْوَجْه لعَارض.
3 الْخصم: الْجَانِب.
4 مُسْند أَحْمد 6/ 293، 314.
5 الوثير: اللَّبن.
6 البُخَارِيّ: أَطْعِمَة 23.
7 سُورَة الْحَشْر: الْآيَة 9.
(1/217)
وَحَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ:
أَنَا أَبُو عَاصِمٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: أَنَا الْمُحَبِّرُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ أَبِي
يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْمُرَقَّعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَخْلُقْ وِعَاءً مُلِئَ شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، فَإِنْ كَانَ
لَا بُدَّ فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ، وَثُلُثًا
لِلشَّرَابِ، وَثُلُثًا لِلرِّيحِ" 1.
وَقَدْ قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ2: إِنَّمَا مَثَلُ
الْمُؤْمِنِ، مَثَلُ الْمَأْبُورَةِ؟
يُرِيدُ أَكَلَتْ فِي الْعَلَفِ إِبْرَةً، فَهِيَ لَا
تَأْكُلُ إِذَا أَكَلَتْ فِي الْعَلَفِ إِلَّا قَلِيلًا،
وَلَا يَنْجَعُ فِيهَا الْعَلَفُ.
وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ فِي الْجُوَارِشْنِ3 شَيْءٌ؟
فَقَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِهِ، وَأَنَا لَمْ أَشْبَعْ
مُنْذُ كَذَا؟! يُرِيدُ: أَنَّهُ كَانَ يَدَعُ الطَّعَامَ،
وَبِهِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ لِرَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ
يَأْكُلُ "كُلْ". فَقَالَ: قَدْ أَكَلْتُ، فَمَا أَشْتَهِي
شَيْئًا.
قَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهَلْ يَأْكُلُ أَحَدٌ،
حَتَّى لَا يَشْتَهِيَ شَيْئًا؟!
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، أَوْ غَيْرُهُ:
"لَوَدِدْتُ أَنَّ رِزْقِي فِي حَصَاةٍ أَمُصُّهَا،
وَلَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ
دُخُولِي إِلَى الْخَلَاءِ".
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ أَجِدْ طَعْمَ
الْعَيْشِ، حَتَّى اسْتَبْدَلْتُ الْخَمْصَ4 بِالْكِظَّةِ5
وَحَتَّى لَمْ أَلْبَسْ مِنْ ثِيَابِي، مَا
يَسْتَخْدِمُنِي، وَحَتَّى لَمْ آكُلْ إِلَّا مَا لَا
أَغْسِلُ يَدي مِنْهُ.
__________
1 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: عَن مِقْدَام بن معد يكر قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول؛ "مَا مَلأ آدَمِيّ وعاة شرا من بطن، بِحَسب ابْن
آدم أكلات يقمن صلبه، فَإِن كَانَ لَا محَالة فثلث لطعامه
وَثلث لشرابه وَثلث لنَفسِهِ ".
التِّرْمِذِيّ: زهد 47، وَأحمد: 4/ 132.
2 مَالك بن دِينَار السّلمِيّ: هُوَ أَبُو يحيى
الْبَصْرِيّ الزَّاهِد، كَانَ أَبوهُ من سبي سجستان قَالَ
النَّسَائِيّ فِيهِ: ثِقَة، وَكَانَ يكْتب الْمَصَاحِف
بِالْأُجْرَةِ ويتقوت من ذَلِك توفّي سنة 127هـ.
3 الجوارشن: دَوَاء يسْتَعْمل لعلاج الهضم. مُعرب.
4 الخمص: الْجُوع.
5 الكظة: امتلاء الْمعدة.
(1/218)
فَلَمَّا بَكَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ:
"بِأَبِي، مَنْ يَشْبَعُ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ". وَقَدْ
كَانَ يَأْكُلُ خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَخُبْزَ الشَّعِيرِ،
غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الشِّبَعَ مِنْهُ، إِمَّا
لِلْحَالِ الْأُولَى، أَوْ لِلْحَالِ الْأُخْرَى.
فَذَكَرَتْ أَخَسَّ الطَّعَامَيْنِ، وَأَرَادَتْ أَنَّهُ
إِذَا كَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ، عَلَى خَسَاسَتِهِ
فَغَيْرُهُ أَحْرَى أَنْ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ شِئْتُ
لَدَعَوْتُ بِصِلَاءٍ وَصِنَابٍ وَكَرَاكِرَ1
وَأَسْنِمَةٍ".
وَقَالَ: لَوْ شِئْتُ لَأَمَرَتُ بِفَتِيَّةٍ2 فَذُبِحَتْ،
وَأَمَرْتُ بِدَقِيقٍ فَنُخِلَ، وَأَمَرْتُ بِزَبِيبٍ
فَجُعِلَ فِي سَعْنٍ3 حَتَّى يَصِيرَ كَدَمِ الْغَزَالِ،
هَذَا وَأَشْبَاهُهُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ لِقَوْمٍ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ
فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} 4.
وَقَدْ يَأْتِي على الْبَخِيل الموسى تَارَاتٌ، لَا
يَحْضُرُهُ فِيهَا مَالٌ، وَلَهُ الضَّيْعَةُ وَالْأَثَاثُ
وَالدُّيُونُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَقْتَرِضَ، وَإِلَى
أَنْ يَرْهَنَ.
فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَبْقَى لَهُ دِرْهَمٌ، وَلَا
يَفْضُلُ عَنْ مُوَاسَاتِهِ وَنَوَائِبِهِ -زَادٌ؟!!
وَكَيْفَ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَهْلُ الْيَسَارِ
مِنْ صَحَابَتِهِ، بِحَاجَتِهِ إِلَى الطَّعَامِ، وَهُوَ
لَا يَعْلَمُهُمْ، وَلَا يَنْشَطُ5 فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ
إِلَيْهِمْ.
وَقَدْ نَجِدُ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي أَنْفُسِنَا
وَأَشْبَاهِنَا مِنَ النَّاسِ.
وَنَرَى الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّيْءِ، فَلَا
يَنْشَطُ فِيهِ إِلَى وَلَده، وَلَا إِلَى
__________
1 الصلاء: الشواء، وَالصِّنَاب: من الْخَرْدَل
وَالزَّبِيب، والكراكر: صدد كل ذِي خف.
2 الْفتية: الصَّغِير من الدَّوَابّ.
3 السعن: الودك: أَي الدسم.
4 سُورَة الْأَحْقَاف: الْآيَة 20.
5 وَفِي نُسْخَة: ينبسط.
(1/219)
أَهله وَلَا إِلَى جَاره وَيَبِيعُ
الْعَلَقَ1 وَيَسْتَقْرِضُ مِنَ الْغَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.
وَإِنَّمَا رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، لِأَنَّ
الْيَهُودَ فِي عَصْرِهِ، كَانُوا يَبِيعُونَ الطَّعَامَ
وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يَبِيعُونَهُ، لِنَهْيِهِ
عَنْ الِاحْتِكَارِ.
فَمَا الَّذِي أَنْكَرُوهُ مِنْ هَذَا، حَتَّى أَظْهَرُوا
التَّعَجُّبَ مِنْهُ، وَحَتَّى رَمَى بَعْضُ الْمَرَقَةِ2
الْأَعْمَشَ بِالْكَذِبِ من أَجله؟!
__________
1 العلق: النفيس من كل شَيْء، جمع أعلاق وعلوق.
2 المرقة: الخارجين عَن الدَّين.
(1/220)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْقِيَاسُ
27- الِاجْتِهَادُ فِي الْقَضَاءِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ قَوْمٍ، وَأَنَّ عَمْرًا قَالَ لَهُ:
أَقْضِي -يَا رَسُولَ اللَّهِ- وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟!
فَقَالَ لَهُ: "اقْضِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ أَصَبْتَ فَلَكَ
عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ
وَاحِدَةٌ" 1.
قَالُوا: وَهَذَا الْحُكْمُ، لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الَّذِي يُوَافِقُ
الصَّوَابَ مِنْ عَمْرٍو، هُوَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي
يُوَافِقُ الْخَطَأَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَ،
إِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَلَيْسَ يَنَالُهُ
فِي مُوَافَقَةِ الصَّوَابِ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْقَصْدِ،
وَالْعِنَايَةِ، وَاحْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ، إِلَّا مَا
يَنَالُهُ مِثْلُهُ، فِي مُوَافَقَتِهِ الْخَطَأَ.
فَبِأَيِّ مَعْنًى يُعْطَى فِي أَحَدِ الِاجْتِهَادَيْنِ
حَسَنَةً، وَفِي الْآخَرِ عَشْرًا؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الِاجْتِهَادَ مَعَ مُوَافَقَةِ
الصَّوَابِ، لَيْسَ كَالِاجْتِهَادِ مَعَ مُوَافَقَةِ
الْخَطَأِ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا عَلَى مَا أُسِّسَ؛ كَانَ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس،
__________
1 ابْن ماجة: أَحْكَام 3، وَالنَّسَائِيّ: قُضَاة 3،
وَأحمد: 3/ 187، 4/ 205.
وَقد رَوَاهُ ابْن ماجة بِلَفْظ: عَن عَمْرو بن الْعَاصِ:
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: "إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأصَاب فَلهُ
أَجْرَانِ، وَإِذا حكم فاجتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر ".
وَقد ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي رقم 3805 عَن
ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا بِلَفْظ: "اقْضِ بَينهمَا
على أَنَّك إِن أصبت فلك عشر وَإِن اجتهدت فأخطأت فلك أجر
".
(1/221)
والمسلمون سَوَاءً، وَأَهْلُ الْآرَاءِ
الْمُخْتَلِفَةِ سَوَاءٌ إِذا اجتهدوا، وآراءهم وأنفسهم،
فأدتهم عُقُولُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ
مُخَالِفِيهِمْ عَلَى الْخَطَأِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ مِنْ وَرَاء اجْتِهَاد كل امرء
تَوْفِيقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا كَلَامٌ يَطُولُ
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا، وَجَّهَ رَسُولَيْنِ فِي بِغَاءِ1
ضَالَّةٍ لَهُ، وَأَمْرَهُمَا بِالِاجْتِهَادِ وَالْجِدِّ
فِي طَلَبِهَا، وَوَعَدَهُمُ الثَّوَاب، إِن وجداها، فَمضى
أَحدهَا خَمْسِينَ فَرْسَخًا فِي طَلَبِهَا، وَأَتْعَبَ
نَفْسَهُ، وَأَسْهَرَ لَيْلَهُ، وَرَجَعَ خَائِبًا.
وَمَضَى الْآخَرُ فَرْسَخًا وَادِعًا2 وَرَجَعَ واجدًا، لم
يَكُنْ3 أَحَقَّهُمَا بِأَجْزَلِ الْعَطِيَّةِ وَأَعْلَى
الْحِبَاءِ الْوَاجِدُ. وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ قَدِ
احْتَمَلَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا
احْتَمَلَهُ الْآخَرُ.
فَكَيْفَ بِهِمَا إِذَا اسْتَوَيَا؟!
وَقَدْ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي الْأَعْمَالِ، وَيُفَضِّلُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يَشَاءُ فَإِنَّهُ لَا دَيْنَ
لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ قِبَلَهُ4.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَرَأْتُ فِي الْإِنْجِيلِ: أَنَّ الْمَسِيحَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: "مَثَلُ مَلَكُوتِ
السَّمَاءِ، مَثَلُ رَجُلٍ، خَرَجَ غَلَسًا5 يَسْتَأْجِرُ
عُمَّالًا لِكَرْمِهِ، فَشَرَطَ لِكُلِّ عَامِلٍ دِينَارًا
فِي الْيَوْمِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ.
ثُمَّ خَرَجَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ، فَرَأَى قَوْمًا
بَطَّالِينَ فِي السُّوقِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ
أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ، فَإِنِّي سَوْفَ أُعْطِيكُمُ
الَّذِي يَنْبَغِي لَكُمْ، فَانْطَلَقُوا.
ثُمَّ خَرَجَ فِي سِتِّ سَاعَاتٍ، وَفِي تِسْعِ سَاعَاتٍ،
وَفِي إِحْدَى عَشَرَ سَاعَةٍ، فَفعل مثل ذَلِك.
__________
1 بغاء: طلب.
2 وادعًا: أَي براحة وَعدم مشقة.
3 وَفِي نُسْخَة: لم يَك.
4 قبله: أَي جهه وناحيته.
5 غلسًا: فِي ظلمَة اللَّيْل.
(1/222)
فَلَمَّا أَمْسَى، قَالَ لِأَمِينِهِ:
"أَعْطِ الْعُمَّالَ أُجُورَهُمْ، ثُمَّ ابْدَأْ
بِآخِرِهِمْ، حَتَّى تَبْلُغَ أَوَّلَهُمْ. فَأَعْطَاهُمْ
فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ".
فَلَمَّا أَخَذُوا حُقُوقَهُمْ، سَخِطُوا عَلَى رَبِّ
الْكَرْمِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا عَمِلَ هَؤُلَاءِ سَاعَةً
وَاحِدَةً، فَجَعَلْتَهُمْ أُسْوَتَنَا1 فِي الْأُجْرَةِ.
فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَظْلِمْكُمْ، أَعْطَيْتُكُمُ
الشَّرْطَ، وَجُدْتُ2 لِهَؤُلَاءِ، وَالْمَالُ مَالِي،
أَصْنَعُ بِهِ مَا أَشَاءُ.
كَذَلِكَ يَكُونُ الْأَوَّلُونَ الْآخِرِينَ، والاخرون
الْأَوَّلين.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: أسوتنا.
2 جدت: من الْجُود: وَهُوَ الْكَرم والسخاء.
(1/223)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ
28- النِّيَّةُ وَالْعَمَلُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ
يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً، وَمَنْ
عَمِلَهَا، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ "نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ
عَمَلِهِ" 2.
فَصَارَتِ النِّيَّةُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ دُونَ
الْعَمَلِ، وَصَارَتْ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي خَيْرًا
مِنَ الْعَمَلِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا تَنَاقُضٌ بِحَمْدِ
اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْهَامُّ بِالْحَسَنَةِ إِذَا لَمْ يَعْمَلْهَا خِلَافُ
الْعَامِلِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْهَامَّ لَمْ يَعْمَلْ،
وَالْعَامِلَ لَمْ يَعْمَلْ حَتَّى هَمَّ ثُمَّ عَمِلَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ" فَإِنَّ الله
تَعَالَى تخلد الْمُؤْمِنَ فِي الْجَنَّةِ بِنِيَّتِهِ لَا
بِعَمَلِهِ.
وَلَوْ جُوزِيَ بِعَمَلِهِ، لَمْ يَسْتَوْجِبِ
التَّخْلِيدَ، لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي سِنِين مَعْدُودَة.
__________
1 البُخَارِيّ: رقاق 31، وَمُسلم: إِيمَان 203، 204، 206،
207، والدارمي: رقاق 70 وَأحمد: 1/ 227، 279، 310، 361، 2/
234، 410.
2 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "نِيَّة الْمُؤمن خير من عمله"
وَهُوَ حسن لغيره. انْظُر: الْمَقَاصِد 450 والدرر برقم
426، والتمسسز 180، والأسرا: 375، والكشف: 2/ 324،
والفوائد للكرمي: 87، والفوائد للشوكاني: 250، وَضَعِيف
الْجَامِع 6 برقم 5188.
(1/224)
وَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا يَقَعُ بِمِثْلِهَا
وَبِأَضْعَافِهَا.
وَإِنَّمَا يُخَلِّدُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنِيَّتِهِ،
لِأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا، أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى
أَبَدًا لَوْ أَبْقَاهُ أَبَدًا فَلَمَّا اخْتَرَمَهُ1
دُونَ نِيَّتِهِ جَزَاهُ عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ نِيَّتُهُ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ،
لِأَنَّهُ كَانَ نَاوِيا أَن يُقيم على كفره، لَوْ
أَبْقَاهُ أَبَدًا، فَلَمَّا اخْتَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
دُونَ نِيَّتِهِ، جَزَاهُ عَلَيْهَا.
__________
1 اخترامه: أَمَاتَهُ.
(1/225)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْكِتَابُ
وَالنَّظَرُ
29- سَمَاعُ الْمَوْتَى:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ1 بَدْرٍ،
فَقَالَ: "يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ
بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا فُلَانُ، وَيَا فُلَانُ، هَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَقَدْ
وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا"2 فَقِيلَ لَهُ
فِي ذَلِكَ
فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ
لَيَسْمَعُونَ كَمَا تَسْمَعُونَ" وَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ؛ {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي
الْقُبُورِ} 3وَيَقُولُ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ
الْمَوْتَى} 4.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ -يَوْمَ الْأَحْزَابِ-:
"اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ
وَالْأَرْوَاحِ الْفَانِيَةِ ".
وَأَن بن عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنِ الْأَرْوَاحِ: أَيْنَ
تَكُونُ إِذَا فَارَقَتِ الْأَجْسَادَ؟ وَأَيْنَ تَذْهَبُ
الْأَجْسَادُ إِذَا بَلِيَتْ؟
فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ السِّرَاجُ إِذَا طُفِئَ،
وَأَيْنَ يَذْهَبُ الْبَصَرُ إِذَا عَمِيَ، وَأَيْنَ
يَذْهَبُ لَحْمُ الصَّحِيحِ إِذَا مَرِضَ؟
قَالَ: لَا أَيْنَ، قَالَ: فَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ، إِذَا
فَارَقَتِ الْأَجْسَادَ.
وَهَذَا لَا يُشْبِهُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ كَمَا تَسْمَعُونَ"
وَمَا تروونه5 فِي عَذَاب الْقَبْر.
__________
1 قليب: بِئْر.
2 البُخَارِيّ: جنائز 87، مغازي 8، 12، وَمُسلم: جنَّة 76،
77، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 117.
3 سُورَة فاطر: الْآيَة 22.
4 سُورَة الرّوم: الْآيَة 52.
5 أَي وَلَا يشبه مَا تَرَوْنَهُ.
(1/226)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا جَازَ فِي الْمَعْقُولِ،
وَصَحَّ فِي النَّظَرِ، وَبِالْكِتَابِ وَالْخَبَرِ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، بَعْدَ
أَنْ تَكُونَ الْأَجْسَادُ قَدْ بَلِيَتْ، وَالْعِظَامُ
قَدْ رَمَّتْ1، جَازَ أَيْضًا فِي الْمَعْقُولِ، وَصَحَّ
فِي النَّظَرِ، وَبِالْكِتَابِ وَالْخَبَرِ، أَنَّهُمْ
يُعَذَّبُونَ بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي الْبَرْزَخِ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ} 2.
فَهُمْ يُعْرَضُونَ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ عَلَى النَّارِ،
غُدُوًّا وَعَشِيًّا، قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَدْخُلُونَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3.
وَهَذَا شَيْءٌ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ شُهَدَاءَ
بَدْرٍ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أُخْرِجُوا
عِنْدَ حَفْرِ الْقَنَاةِ رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ، حَتَّى
قَالَ قَائِلٌ: لَا نُنْكِرُ4 بَعْدَ هَذَا شَيْئًا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
لَمَّا أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُجْرِيَ الْعَيْنَ
الَّتِي حَفَرَهَا -قَالَ سَفِينٌ: تُسَمَّى عَيْنُ أَبِي
زِيَادٍ بِالْمَدِينَةِ- نَادَوْا بِالْمَدِينَةِ: مَنْ
كَانَ لَهُ قَتِيلٌ، فَلْيَأْتِ قَتِيلَهُ.
قَالَ جَابِرٌ: فَأَتَيْنَاهُمْ فَأَخْرَجْنَاهُمْ
رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ، وَأَصَابَتِ الْمِسْحَاةُ رِجْلَ
رَجُلٍ مِنْهُمْ، فانفطرت دَمًا.
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: لَا يُنْكِرُ
بَعْدَهَا مُنْكِرٌ أَبَدًا.
وَرَأَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ أَبَاهَا فِي
الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ5 حَوِّلِينِي
مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، فقد أضرّ بِي الندى.
__________
1 رمت: أَصبَحت رميمًا.
2 سُورَة غَافِر: الْآيَة 46.
3 سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 196.
4 وَفِي نُسْخَة: لَا تنكروا.
5 وَفِي نُسْخَة: يَا بِنْتي.
(1/227)
فَأَخْرَجَتْهُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً
أَوْ نَحْوِهَا، فَحَوَّلَتْهُ مِنْ ذَلِكَ النَّزِّ1
وَهُوَ طَرِيٌّ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَدُفِنَ
بِالْهَجَرِيِّينَ2 بِالْبَصْرَةِ.
وَتَوَلَّى إِخْرَاجَهُ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
سَلَامَةَ التَّيْمِيُّ.
وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مَشْهُورَةٌ، كَأَنَّهَا عِيَانٌ
فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ،
أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَجَازَ أَنْ
يَكُونُوا فَرِحِينَ وَمُسْتَبْشِرِينَ، فَلِمَ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْدَاؤُهُمُ الَّذِينَ
حَارَبُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، أَحْيَاءً فِي النَّارِ
يُعَذَّبُونَ؟
وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً، فَلِمَ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَ؟ وَقَدْ أَخْبَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَوْلُهُ الْحَقُّ؟
وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ3
"إِنَّهُ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ" 4
وَتَسْمِيَتُهُ لَهُ ذَا الْجَنَاحَيْنِ، وَكَثْرَةُ
الْأَخْبَارِ عَنْهُ فِي مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَفِي
عَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِي دُعَائِهِ: "أَعُوذُ بِكَ مِنْ
فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ
الدَّجَّالِ" 5.
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ صِحَاحٌ، لَا يَجُوزُ عَلَى
مِثْلِهَا التَّوَاطُؤُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِثْلُهَا،
لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ دِينِنَا، وَلَا شَيْءَ
أَصَحُّ مِنْ أَخْبَارِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ
الْمَوْتَى} {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي
__________
1 النز: الندى أَو الرُّطُوبَة.
2 بالهجريين: أَي مَعَ موتى الْمُهَاجِرين، نِسْبَة إِلَى
الْهِجْرَة.
3 جَعْفَر بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم:
صَحَابِيّ هاشمي من شجعانهم. يُقَال لَهُ جَعْفَر الطيار
لِأَنَّهُ فقد يَدَيْهِ وَهُوَ يحمل الرَّايَة فِي وقْعَة
مُؤْتَة ثمَّ اسْتشْهد عَام 8هـ، من السَّابِقين
الْأَوَّلين هَاجر إِلَى الْحَبَشَة فِي الْهِجْرَة
الثَّانِيَة ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَقيل إِن الله
عوضه عَن يَدَيْهِ جناحين فِي الْجنَّة.
4 التِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 29.
5 البُخَارِيّ: دعوات 37، 38، 39، 41، 44، 45، 46، 57،
مُسلم: ذكر 48، 76، التِّرْمِذِيّ: دعوات 76،
النَّسَائِيّ: استعاذة 17، 26، 51، 52، 56، ابْن ماجة:
دُعَاء 3، وَأحمد: 1/ 305، 2/ 314، 6/ 57 وَفِي جَامع
الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 3431 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا.
(1/228)
الْقُبُورِ} فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي
شَيْءٍ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بالموتى هَهُنَا الْجُهَّالَ،
وَهُمْ أَيْضًا أَهْلُ الْقُبُورِ.
يُرِيدُ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِفْهَامِ مَنْ
جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَاهِلًا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى
إِسْمَاعِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصَمَّ عَنِ
الْهُدَى.
وَفِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، دَلِيلٌ عَلَى مَا
نَقُولُ، لِأَنَّهُ قَالَ: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ} 2 يُرِيدُ بِالْأَعْمَى: الْكَافِرَ،
وَبِالْبَصِيرِ: الْمُؤْمِنَ.
{وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّور} 3 يَعْنِي
بِالظُّلُمَاتِ: الْكُفْرَ، وَبِالنُّورِ: الْإِيمَانَ.
{وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُور} 4 يَعْنِي بِالظِّلِّ:
الْجَنَّةَ، وَبِالْحَرُورِ: النَّارَ.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} 4
يَعْنِي بِالْأَحْيَاءِ: الْعُقَلَاءَ، وَبِالْأَمْوَاتِ:
الْجُهَلَاءَ.
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا
أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 5 يَعْنِي:
أَنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْجُهَلَاءَ، الَّذِينَ كَأَنَّهُمْ
مَوْتَى فِي الْقُبُورِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي
الْقُرْآنِ.
وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَوْتَى، الَّذِينَ ضَرَبَهُمْ مَثَلًا
للجهلاء شَهدا بَدْرٍ6، فَيُحْتَجَّ بِهِمْ عَلَيْنَا
أُولَئِكَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَجْسَادِ
الْبَالِيَةِ، وَالْأَرْوَاحِ الْفَانِيَةِ" فَإِنَّهُ
قَالَه
__________
1 سُورَة فاطر: الْآيَة 19.
2 سُورَة فاطر: الْآيَة 20.
3 سُورَة فاطر: الْآيَة 21.
4 سُورَة فاطر: الْآيَة 22.
5 سُورَة فاطر: الْآيَة 22.
6 وَفِي نُسْخَة: شُهَدَاء أحد.
(1/229)
على مَا يَعْرِفُ النَّاسُ، وَعَلَى مَا
شَاهَدُوا، لِأَنَّهُمْ يَفْقِدُونَ الشَّيْءَ فَيَكُونُ
مُبْطَلًا عِنْدَهُمْ وَفَانِيًا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
مَعْلُومٌ، وَغَيْرُ فَانٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ السَّمِينَ الضَّخْمَ
الْعَظِيمَ الصَّحِيحَ، يَعْتَلُّ يَوْمًا أَوْ
يَوْمَيْنِ، فَيَذْهَبُ مِنْ جِسْمِهِ نِصْفُهُ، أَوْ
ثُلُثَاهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَيْنَ ذَهَبَ ذَلِكَ، فَهُوَ
عِنْدَنَا فَانٍ مُبْطَلٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ
أَيْنَ ذَهَبَ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ صَارَ.
وَأَنَّ الْإِنَاءَ الْعَظِيمَ مِنَ الزُّجَاجِ يَكُونُ
فِيهِ الْمَاءُ أَيَّامًا؛ فَيَذْهَبُ بِالْحَرِّ
بَعْضُهُ. وَإِنْ تَطَاوَلَتْ بِهِ الْمُدَّةُ، ذَهَبَ
كُلُّهُ، وَالزُّجَاجُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّشَفُ1
وَلَا الرَّشْحُ، وَلَا نَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَ مَا فِيهِ،
وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُ.
وَأَنَّا نُطْفِئُ بِالنَّفْخَةِ نَارَ الْمِصْبَاحِ،
فَتَذْهَبُ وَتَكُونُ عِنْدَنَا فَانِيَةً، وَلَا نَدْرِي
أَيْنَ ذَهَبَتْ وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كَيْفَ
ذَهَبَتْ، وَأَيْنَ حَلَّتْ.
كَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ -عِنْدَنَا- فَانِيَةٌ وَهِيَ
-بِقَولِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ، وَفِي عِلِّيِّينَ، وَفِي
سِجِّينٍ، وَتُشَامُّ2 فِي الْهَوَاء، وَأَشْبَاه ذَلِك.
__________
1 النشف: ذهَاب المَاء.
2 تشائم: لَعَلَّهَا من الشمامات: وَهُوَ مَا يتشمم من
الْأَرْوَاح الطّيبَة. وَفِي نُسْخَة: تسام فِي الْهوى.
(1/230)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
30- الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لِيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ،
فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَصَلَاتُكُمْ
قُرْبَانُكُمْ، وَلَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ
إِلَّا خِيَارَكُمْ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: "صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ،
وَلَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ"2.
وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا -بِنِعْمَةِ اللَّهِ-
اخْتِلَافٌ.
وَلِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مَوْضِعٌ، وَلِلثَّانِي
مَوْضِعٌ.
وَإِذَا وُضِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ، زَالَ
الِاخْتِلَافُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: "لِيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ فَإِنَّهُمْ
وَفْدُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ إِلَّا خِيَارَكُمْ" فَإِنَّهُ أَرَادَ
أَئِمَّةَ الْمَسَاجِدِ فِي الْقَبَائِلِ وَالْمَحَالِّ،
وَأَنْ لَا تُقَدِّمُوا3 مِنْهُمْ إِلَّا الْخَيِّرَ
التَّقِيَّ الْقَارِئَ، وَلَا تقدمُوا الْفَاجِر
الْأُمِّي.
__________
1 لم نجد الحَدِيث بنصه هَذَا فِي الْكتب التِّسْعَة
وَلَكنَّا وجدنَا حَدِيثا بِلَفْظ: "يؤم الْقَوْم أقرؤهم
لكتاب الله فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأقدمهم
فِي الْهِجْرَة، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَة سَوَاء
فأعلمهم بِالسنةِ، فَإِن كَانُوا فِي السّنة سَوَاء
فأقدمهم سنا وَلَا تؤم الرجل فِي سُلْطَانه وَلَا تقعد على
تكرمته إِلَّا أَن يَأْذَن لَك" النَّسَائِيّ ج2/ ص76 بَاب
من أَحَق بِالْإِمَامَةِ.
2 رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان عَن أبي
هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِسَنَد ضَعِيف، وَمَعْنَاهُ صَحِيح
لصَلَاة ابْن عمر، وَبَعض عُلَمَاء السّلف خَالف
الْحجَّاج، وَلَيْسَ هَذَا فِي حَال الِاخْتِيَار بل
الِاخْتِيَار تَقْدِيم الْأَقْرَاء والأورع والأعلم
-الشَّيْخ مُحَمَّد بدير.
3 وَفِي نُسْخَة: وَلَا يقدم.
(1/231)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ
بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ بَرٍّ أَوْ
فَاجِرٍ" فَإِنَّهُ يُرِيدُ السُّلْطَانَ، الَّذِي
يَجْمَعُ النَّاسَ وَيَؤُمُّهُمْ فِي الْجُمَعِ
وَالْأَعْيَادِ يُرِيدُ: لَا تَخْرُجُوا عَلَيْهِ، وَلَا
تَشُقُّوا الْعَصَا، وَلَا تُفَارِقُوا جَمَاعَةَ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ سُلْطَانُكُمْ1 فَاجِرًا،
فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ،
وَلَا يَصْلُحُ النَّاسُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا
يَنْتَظِمُ أَمْرُهُمْ.
وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْحَسَنِ: "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ
مِنْ وَزَعَةٍ"2 يُرِيدُ سُلْطَانًا يَزَعُهُمْ عَنِ
التَّظَالُمِ وَالْبَاطِلِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ
الْأَمْوَالِ بِغَيْر حق.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: سلطانهم.
2 وزعة: من الْوَازِع وَهُوَ الَّذِي يمْنَع من وُقُوع
الشَّرّ وَالْمَقْصُود هُنَا السُّلْطَان.
(1/232)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
31- قِتَالُ الْمُسْلِمِ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ
فَهُوَ شَهِيدٌ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ "كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ، فَإِنْ دُخِلَ
عَلَيْكَ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ،
فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ
الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ لَكُمْ -يَا بَنِي آدَمَ-
مَثَلًا، فَخُذُوا خَيْرَهُمَا، وَدَعُوا شَرَّهُمَا" 2.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ حَدِيثٍ مَوْضِعًا،
غَيْرَ مَوْضِعِ الْآخَرِ، فَإِذَا وُضِعَا
بِمَوْضِعَيْهِمَا، زَالَ الِاخْتِلَافُ.
لِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ
فَهُوَ شَهِيدٌ" مَنْ قَاتَلَ اللُّصُوصَ عَنْ مَالِهِ،
حَتَّى يُقْتَلَ فِي مَنْزِلِهِ، وَفِي أَسْفَاره.
__________
1 أَحْمد 2/ 221، 223، وَأَصْحَاب السّنَن عَن سعد بن زيد
وَهُوَ صَحِيح، كَمَا أَنه فِي الصَّحِيحَيْنِ من رِوَايَة
عبد الله بن عَمْرو، وَقد رُوِيَ فِي دواوين السّنة عَن
غَيرهمَا أَيْضا -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
2 وَجَدْنَاهُ فِي مُسْند أَحْمد 4/ 226 بِلَفْظ: "
أَوْصَانِي خليلي أَبُو الْقَاسِم إِن أدْركْت شَيْئا من
هَذِه الْفِتَن فاعمد إِلَى أحد فاكسر بِهِ حد سَيْفك ثمَّ
اقعد فِي بَيْتك، قَالَ: فَإِن دخل عَلَيْك أحد إِلَى
الْبَيْت فَقُمْ إِلَى المخدع فَإِن دخل عَلَيْك المخدع
فاجث على ركبتك وَقل بؤ بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب
النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين، قد كسرت حد سَيفي
وَقَعَدت فِي بَيت ".
(1/233)
وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ:
"إِذَا رَأَيْتَ سَوَادًا فِي مَنْزِلِكَ، فَلَا تَكُنْ
أَجْبَنَ السَّوَادَيْنِ ".
يُرِيدُ: تَقَدَّمْ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ، فَهَذَا
مَوْضِعُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ، فَإِنْ
دُخِلَ عَلَيْكَ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ، فَإِنْ دُخِلَ
عَلَيْكَ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَكُنْ
عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ
الْقَاتِلَ" أَيِ: افْعَلْ هَذَا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ،
وَاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَتَنَازُعِ
سُلْطَانَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ
الْأَمْرَ، وَيَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ بِحُجَّةٍ،
يَقُولُ: فَكُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ،
وَلَا تَسُلَّ سَيْفًا، وَلَا تَقْتُلْ أَحَدًا، فَإِنَّكَ
لَا تَدْرِي مَنِ الْمُحِقُّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَنِ
الْمُبْطِلُ، وَاجْعَلْ دَمَكَ دُونَ دِينِكَ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَالَ: "الْقَاتِلُ
وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ ".
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 1
فَإِنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ الْجَمِيعَ مِنَّا، بَعْدَ
الْإِصْلَاحِ، وَبَعْدَ الْبَغْيِ -وَأَمَرَ الْوَاحِدَ
وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، إِذَا لم يجْتَمع ماؤنا
عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، أَنْ نَلْزَمَ
مَنَازِلَنَا، وَنَقِيَ أَدْيَانَنَا بِأَمْوَالِنَا،
وَأَنْفُسِنَا.
__________
1 سُورَة الحجرات: الْآيَة 9.
(1/234)
قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ النَّظَرُ
وَالْخَبَرُ
32- دُعَاءُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِعَلِيٍّ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَى، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، أَنَّ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَعَثَنِي رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْيَمَنِ لِأَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ
لَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ صَدْرِي
وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ، وَثَبِّتْ
لِسَانَهُ" 1 فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ، حَتَّى جَلَسْتُ
مَجْلِسِي هَذَا.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّهُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي
أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَقَالَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ
عَنْهُ.
وَقَضَى فِي الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ، مَعَ
قَوْلِهِ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَقَحَّمَ 2 جَرَاثِيمَ
جَهَنَّمَ، فَلْيَقُلْ فِي الْجَدِّ".
وَنَدِمَ عَلَى إِحْرَاقِ الْمُرْتَدِّينَ، بَعْدَ الَّذِي
بَلَغَهُ مِنْ فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَجَلَدَ رَجُلًا فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، فَمَاتَ،
فواده3 وَقَالَ: "وَدَيْتُهُ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ
جَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا".
وَهُوَ كَانَ أَشَارَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِجَلْدِ ثَمَانِينَ فِي الْخَمْرِ.
وَرَأَى الرَّجْمَ عَلَى مَوْلَاةِ حَاطِبٍ، فَلَمَّا
سَمِعَ قَوْلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: أقضية 6، وَأحمد 1/ 83 و136 و149
و150.
2 يتقحم: يدْخل.
3 وداه: دفع دينه.
(1/235)
"إِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ
يَعْرِفُهُ" وَهَذِهِ لَا تَعْرِفُهُ، وَكَانَتْ
أَعْجَمِيَّةً، تَابَعَهُ.
وَنَازَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الْمُكَاتِبِ،
فَأَفْحَمَهُ.
وَقَالَ فِي أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ"
لَقَدْ عَثَرْتُ عَثْرَةً لَا أَجْتَبِرْ ... سَوْفَ
أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرْ
وَأَجْمَعُ الرَّأْيَ الشَّتِيتَ الْمُنْتَشِرْ
قَالَ: وَذَكَرَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الْحَرَامِ "إِنَّهَا ثَلَاثٌ"
وَقَطَعَ الْيَدَ مِنْ أُصُولِ الْأَصَابِع، وحك أَصَابِعَ
الصِّبْيَانِ فِي السَّرَقِ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ
الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ يَقُولُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1
وَقَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2.
وَجَهَرَ فِي قُنُوتِ الْغَدَاةِ بِأَسْمَاءِ رِجَالٍ،
وَأَخَذَ نِصْفَ دِيَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَوْلِيَاءِ
الْمَقْتُولِ.
وَأَخَذَ نِصْفَ دِيَةِ الْعَيْنِ مِنَ الْمُقْتَصِّ مِنَ
الْأَعْوَرِ.
وَخَلَّفَ رَجُلًا يُصَلِّي الْعِيدَ بِالضُّعَفَاءِ، فِي
الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَى
الْمُصَلَّى.
وَقَالُوا: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، خِلَافٌ3 عَلَى جَمِيعِ
الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، وَجَمِيعِ الْأُمَرَاءِ مِنْ
نُظَرَائِهِ.
وَلَا يُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ: مَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ،
حَتَّى جَلَسْتُ مَجْلِسِي هَذَا.
وَلَا يُشْبِهُ دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، أَنْ يُثَبِّتَ اللَّهُ
لِسَانَهُ وَقَلْبَهُ، بَلْ يُشْبِهُ دُعَاءَهُ عَلَيْهِ،
بِضِدِّ مَا قَالَ.
__________
1 سُورَة الطَّلَاق: الْآيَة 2.
2 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 282.
3 خلاف عَليّ: لَعَلَّ الْأَصَح: خَالف عَليّ فِيهَا.
(1/236)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا لَهُ بِتَثْبِيتِ
اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، لَمْ يُرِدْ أَنْ لَا يَزَلَّ
أَبَدًا، وَلَا يَسْهُوَ، وَلَا يَنْسَى، وَلَا يَغْلَطَ
فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ،
لَا تَكُونُ لِمَخْلُوقٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ
الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَزَّ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ
بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَبِمَا
لَا يَجُوزُ مِنْ1 أَنْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ بِأَنْ لَا
يَمُوتَ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى الْمَوْتَ عَلَى
خَلْقِهِ وَبِأَنْ لَا يَهْرَمَ إِذَا عَمَّرَهُ، وَقَدْ
جَعَلَ الْهَرَمَ فِي تَرْكِيبِهِ، وَفِي أَصْلِ
جِبِلَّتِهِ.
وَكَيْفَ يَدْعُو لَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَنَالُهَا
بِدُعَائِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَفْسُهُ رُبَّمَا سَهَا وَكَانَ يَنْسَى
الشَّيْءَ مِنَ الْقُرْآنِ، حَتَّى قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} 2 وَقَبِلَ
الْفِدْيَةَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فَنَزَلَ: {لَوْلا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 وَقَالَ: "لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مَا
نَجَا إِلَّا عُمَرُ" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ
بِالْقَتْلِ، وَتَرْكِ أَخْذِ الْفِدَاءِ.
وَأَرَادَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ أَنْ يَتَّقِيَ
الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، حَتَّى
قَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ مَا قَالَ.
وَكَادَ يُجِيبُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا
أَرَادُوهُ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا
لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ
ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} 4.
وَهَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ، فِي السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ.
وَتَعْدَادُ هَذَا يَطُولُ، وَيَكْثُرُ وَلَيْسَ بِهِ
خَفَاءٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ.
وَإِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَهُ، بِأَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ أَغْلَبَ
عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الْقَضَاء أَكثر
مِنْهُ.
__________
1 بنسخة أُخْرَى: لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَدْعُو.
2 سُورَة الْأَعْلَى: الْآيَة 6.
3 سُورَة الْأَنْفَال: الْآيَة 68.
4 سُورَة الْإِسْرَاء: الْآيَة 74-75.
(1/237)
وَمثل هَذَا، دُعَاؤُهُ لِابْنَ عَبَّاسٍ
بِأَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ، وَيُفَقِّهَهُ
فِي الدَّين.
وَكَانَ بن عَبَّاسٍ -مَعَ دُعَائِهِ- لَا يَعْرِفُ كُلَّ
الْقُرْآنِ، وَقَالَ: لَا أَعْرِفُ "حَنَانًا" وَلَا
"الْأَوَّاهُ" وَلَا "الْغِسْلِينَ" وَلَا "الرَّقِيمَ".
وَلَهُ أَقَاوِيلُ فِي الْفِقْهِ مَنْبُوذَةٌ، مَرْغُوبٌ
عَنْهَا، كَقَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ، وَقَوْلِهِ فِي
الصَّرْفِ، وَقَوْلِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
الْأَمَتَيْنِ.
وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا دَعَا بِهِ
الْأَنْبِيَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ
وَسَأَلُوهُ، أَعْطوهُ أجِيبُوا إِلَيْهِ.
فَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدْعُو لِأَبِي طَالِبٍ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ،
حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 1.
وَكَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ:
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2.
وَبَعْدُ، فَإِنَّ أَقَاوِيلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ هَذِهِ كُلُّهَا، لَيْسَتْ مَنْبُوذَةً، يُقْضَى
عَلَيْهِ بِالْخَطَأِ فِيهَا.
وَمِنْ أَغْلَظِهَا، بَيْعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ،
وَقَدْ كُنَّ يُبَعْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي خِلَافَةِ أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدَّيْنِ، وَعَلَى
حَالِ الضَّرُورَةِ.
حَتَّى نَهَى عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مِنْ أَجْلِ أَوْلَادِهِنَّ، وَلِئَلَّا تَلْحَقَهُمُ
السُّبَّةُ، وَيَرْجِعَ عَلَيْهِمُ الشَّيْنُ بِأَسْبَابٍ
كَثِيرَةٍ، من الْأُمَّهَات جِهَة إِذا ملكن.
__________
1 سُورَة التَّوْبَة: الْآيَة 113.
2 سُورَة الْقَصَص: الْآيَة 56.
(1/238)
وَالنَّاسُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ
الْأَمَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهَا إِلَّا
بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ.
وَأُمُّ الْوَلَدِ لَمْ يَنَلْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ،
وَأَحْكَامُ الْإِمَاءِ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ
يَمُوتَ سَيِّدُهَا.
فَبِأَيِّ مَعْنًى يُزِيلُ الْوَلَدُ عَنْهَا الْبَيْعَ،
وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ، اسْتَحْسَنَهُ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِمَا1 أَرَادَ النَّظَرِ لِلْأَوْلَادِ.
وَلَسْنَا نَذْهَبُ إِلَى هَذَا وَلَا نَعْتَقِدُهُ،
وَلَكِنَّا أَرَدْنَا بِهِ التَّنْبِيهَ، عَلَى حُجَّةِ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ، وَحُجَّةِ مَنْ
تَقَدَّمَهُ، فِي إِطْلَاقِ ذَلِكَ، وَتَرْكِ النَّهْيِ
عَنْهُ.
فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَضَايَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ اللَّطِيفَةِ، الَّتِي تَغْمُضُ وَتَدِقُّ،
وَتَعْجَزُ عَنْ أَمْثَالِهَا جُلَّةُ الصَّحَابَةِ،
كَقَضَائِهِ فِي الْعَيْنِ إِذَا لُطِمَتْ، أَوْ بُخِصَتْ2
أَوْ أَصَابَهَا مُصِيبٌ، بِمَا يَضْعُفُ مَعَهُ
الْبَصَرُ3 بِالْخُطُوطِ عَلَى الْبَيْضَةِ.
وَكَقَضَائِهِ فِي اللِّسَانِ إِذَا قُطِعَ، فَنَقَصَ مِنَ
الْكَلَامِ شَيْءٌ، فَحَكَمَ فِيهِ بِالْحُرُوفِ
الْمُقَطَّعَةِ.
وَكَقَضَائِهِ فِي الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ
وَالْوَاقِصَةِ، وَهُنَّ ثَلَاثُ جَوَارٍ، كُنَّ
يَلْعَبْنَ، فَرَكِبَتْ إِحْدَاهُنَّ صَاحِبَتَهَا،
فَقَرْصَتْهَا الثَّالِثَةُ، فَقَمَصَتِ4 الْمَرْكُوبَةُ،
فَوَقَعَتِ الرَّاكِبَةُ، فَوُقِصَتْ5 عُنُقُهَا.
فَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالدِّيَةِ
أَثْلَاثًا، وَأَسْقَطَ حِصَّةَ الرَّاكِبَةِ لِأَنَّهَا
أَعَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا.
__________
1 فِي نُسْخَة "لما".
2 بخصت الْعين: أَدخل الْأصْبع فِيهَا وفقأها.
3 وَفِي نُسْخَة "النّظر".
4 قمص: وثب.
5 وقص: دق.
(1/239)
وَكَقَضَائِهِ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا
إِلَيْهِ فِي ابْنِ امْرَأَةٍ وَقَعَا عَلَيْهَا فِي
طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا أَنَّهُ
ابْنُهُمَا جَمِيعًا، يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، وَهُوَ
لِلْبَاقِي1 مِنْهُمَا.
وَقَدْ رَوَى حَمَّادٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ:
أَنَّهُ قَضَى بِمِثْلِ ذَلِكَ، مُوَافِقًا لَهُ عَلَيْهِ.
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَنْزِلُ
الْقُرْآنُ بِحُكْمِهِ، وَيَفْرَقُ2 الشَّيْطَانُ مِنْ
حِسِّهِ، وَالسَّكِينَةُ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ.
وَذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،
فَقَالَتْ: "كَانَ -وَاللَّهِ- أَحْوَذِيَّا3، نَسِيجَ
وَحْدِهِ4 قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا" تُرِيدُ
حَسَنَ السياسة.
وَذكر الْمُغِيرَةُ فَقَالَ: كَانَ -وَاللَّهِ- أَفْضَلَ
مِنْ أَنْ يَخْدَعَ، وَأَعْقَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ.
وَقَالَ فِيهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ" "وَاللَّهِ،
لَهْوَ بِمَا يَكُونُ، أَعْلَمُ مِنَّا بِمَا كَانَ".
يُرِيدُ أَنَّهُ يُصِيبُ بِظَنِّهِ، فَلَا يُخْطِئُ.
وَقَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مُحَدَّثِينَ 5 أَوْ
مُرَوَّعِينَ 6 فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أحد
مِنْهُم، فَهُوَ عمر "7.
__________
1 أَي بعد مَوته أَحدهمَا.
2 يفرق: يخَاف.
3 الأحوذي: الحاذق، المشمر للأمور القاهر لَهَا، لَا يشذ
عَلَيْهِ شَيْء كالحويذا "الْقَامُوس الْمُحِيط".
4 نَسِيج وَحده: أَي لَا نَظِير لَهُ فِي الْعلم وَغَيره،
وَذَلِكَ لِأَن الثَّوْب إِذا كَانَ رفيعًا لم ينسج على
منواله، غَيره "الْقَامُوس الْمُحِيط".
5 محدثين: أَي ملهمين.
6 مروعين: أَي مِمَّن يلقى فِي روعه، وهم الَّذين تصدق
فراستهم.
7 أخرجه البُخَارِيّ: فَضَائِل الصَّحَابَة 6 وأنبياء 54،
وَمُسلم: فَضَائِل الصَّحَابَة 23 وَالتِّرْمِذِيّ:
مَنَاقِب 17، وَأحمد 6/ 55.
(1/240)
وَقَالَ لِسَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ
الدُّؤَلِيِّ: "يَا سَارِيَةَ، الْجَبَلَ الْجَبَلَ".
وَسَارِيَةُ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ
سَارِيَةَ مَا قَالَ، فَاسْتَنَدَ إِلَى الْجَبَلِ،
فَقَاتَلَ الْعَدُوَّ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ.
وَعُمَرُ مَعَ هَذَا يَقُولُ فِي قَضِيَّةٍ1 نَبَّهَهُ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا: "لَوْلَا قَوْلُ
عَلِيٍّ، لَهَلَكَ عُمَرُ".
وَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مُعْضِلَةٍ،
لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ.
حَدَّثَنَا الزِّيَادِيُّ قَالَ: أَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ،
عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ وَقَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ
أَشْهُرٍ، فَهَمَّ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَدْ يَكُونُ هَذَا، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} 2
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 3.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: فِي قَضِيَّة -شبهت عَلَيْهِ- نبهه.
2 سُورَة الْأَحْقَاف: الْآيَة 15.
3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 223.
(1/241)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
33- كَرَاهَةُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمُسَافِرِ
وَحْدَهُ شَيْطَانٌ، وَفِي الِاثْنَيْنِ شَيْطَانَانِ،
وَفِي الثَّلَاثَةِ رَكْبٌ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ وَحْدَهُ،
وَأَنَّهُ خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ، مُهَاجِرَيْنِ.
قَالُوا: كَيفَ يكون الْوَاحِد شَيْطَان إِذَا سَافَرَ؟
وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِمَنْزِلَةِ
الشَّيْطَانِ، أَوْ يَتَحَوَّلَ شَيْطَانًا، وَهَذَا لَا
يَجُوزُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ:
"الْمُسَافِرُ وَحْدَهُ شَيْطَانٌ" مَعْنَى الْوَحْشَةِ
بِالِانْفِرَادِ وَبِالْوَحْدَةِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ
يَطْمَعُ فِيهِ، كَمَا يَطْمَعُ فِيهِ اللُّصُوصُ،
وَيَطْمَعُ فِيهِ السَّبُعُ. فَإِذَا خَرَجَ وَحْدَهُ،
فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلشَّيْطَانِ، وَتَعَرَّضَ لِكُلِّ
عَادٍ عَلَيْهِ مِنَ السِّبَاعِ أَوِ اللُّصُوصِ،
كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ.
ثُمَّ قَالَ: "وَالِاثْنَانِ شيطانان" لِأَن كل واح
مِنْهُمَا مُتَعَرِّضٌ لِذَلِكَ، فَهُمَا شَيْطَانَانِ،
فَإِذا تناموا ثَلَاثَةً، زَالَتِ الْوَحْشَةُ، وَوَقَعَ
الْأُنْسُ، وَانْقَطَعَ طَمَعُ كُلِّ طَامِعٍ فِيهِمْ،
وَكَلَامُ الْعَرَبِ إِيمَاءٌ وَإِشَارَةٌ وَتَشْبِيهٌ.
يَقُولُونَ: "فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ" وَالنِّجَادُ:
حمائل السَّيْف، وَهُوَ لم
__________
1 التِّرْمِذِيّ: الاسْتِئْذَان 14، وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِي 15 كتاب الْجِهَاد، 79 -بَاب الرجل يُسَافر وَحده،
وَالتِّرْمِذِيّ فِي: 21 -كتاب الْجِهَاد، 4- بَاب مَا
جَاءَ فِي كَرَاهِيَة أَن يُسَافر الرجل وَحده، وَانْظُر
صَحِيح الْجَامِع رقم 3524.
(1/242)
يتقلد سَيْفًا قَطُّ، وَإِنَّمَا
يُرِيدُونَ: أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ، فَيَدُلُّونَ
بِطُولِ نِجَادِهِ عَلَى طُولِهِ، لِأَنَّ النِّجَادَ
الْقَصِيرُ لَا يَصْلُحُ عَلَى الرَّجُلِ الطَّوِيلِ.
وَيَقُولُونَ: "فُلَانٌ عَظِيمُ الرَّمَادِ" وَلَا رَمَادَ
فِي بَيْتِهِ وَلَا عَلَى بَابِهِ؛ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ
أَنَّهُ كَثِيرُ الضِّيَافَةِ، فَنَارُهُ وَارِيَةٌ
أَبَدًا، وَإِذَا كَثُرَ وَقُودُ النَّارِ كَثُرَ
الرَّمَادُ.
وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {مَا
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا
يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 2.
فَدَلَّنَا بِأَكْلِهِمَا الطَّعَامَ، عَلَى مَعْنَى
الْحَدَثِ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَلَا بُدَّ
لَهُ مِنْ أَنْ يُحْدِثَ.
وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فِي
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَقَالُوا
مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي
الْأَسْوَاقِ} 2.
فَكَنَّى بِمَشْيِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، عَنِ الْحَوَائِجِ
الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّاسِ، فَيَدْخُلُونَ لَهَا
الْأَسْوَاقَ.
كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
أَغْنَاهُ عَنِ النَّاسِ، وَعَنِ الْحَوَائِجِ إِلَيْهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ
وَحْدَهُ" وَالْبَرِيدُ الرَّسُولُ، يَبْعَثُ بِهِ مِنْ
بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيَكْتُبُ مَعَهُ، وَهُوَ الْفَيْجُ3
فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ
وَحْدَهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَنْضَمَّ فِي الطَّرِيقِ،
إِلَى الرَّفِيقِ يَكُونُ مَعَهُمْ، وَيَأْنَسُ بِهِمْ.
وَهَذَا شَيْءٌ يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي كُلِّ زَمَانٍ.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا، وَيُنْفِذَهُ مَعَ
رَسُولٍ إِلَى بَلَدٍ شَاسِعٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَكْتَرِيَ ثَلَاثَةً؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَاحِدُ
شَيْطَانٌ، وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَة
ركب" 4.
__________
1 سُورَة الْمَائِدَة: الْآيَة 75.
2 سُورَة الْفرْقَان: الْآيَة 7.
3 الفيج: رَسُول السُّلْطَان.
4 سبق تَخْرِيجه ص242.
(1/243)
وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا عَلَى الرَّسُولِ
-إِذَا هُوَ خَرَجَ- أَنْ يَلْتَمِسَ الصُّحْبَةَ،
وَيَتَوَقَّى الْوِحْدَةَ.
وَأَمَّا خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، حِينَ هَاجَرَ، فَإِنَّهُمَا
كَانَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَائِفَيْنِ عَلَى
أَنْفُسِهِمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَجِدَا بُدًّا
مِنَ الْخُرُوجِ.
وَلَعَلَّهُمَا أَمَلَا أَنْ يُوَافِقَا رَكْبًا، كَمَا
أَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ وَحْدَهُ، عَلَى
تَأْمِيلِ وِجْدَانِ الصَّحَابَةِ فِي الطَّرِيقِ.
فَلَمَّا أَمْكَنَهُمَا أَنْ يستزيدًا فِي الطَّرِيق عددا،
اسْتَأْجَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَادِيًا،
مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَاسْتَصْحَبَ عَامِرَ بْنَ
فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَهُمْ
أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَة.
(1/244)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
34- حَدُّ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ
يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ
الْحَبْلَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ" 1.
وَرُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "لَا قَطْعَ إِلَّا فِي
رُبْعِ دِينَارٍ" 2.
هَذَا، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حُجَّةٌ لِلْخَوَارِجِ،
لِأَنَّهَا تَقُولُ: إِنَّ الْقَطْعَ عَلَى السَّارِقِ فِي
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، لَمَّا
أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ
اللَّهِ} 3 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ
الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ" عَلَى ظَاهِرِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ الْقَطْعَ لَا
يَكُونُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ.
وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا
مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَا كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُعَرِّفُهُ
ذَلِكَ جُمْلَةً، بَلْ يُنَزِّلُهُ شَيْئًا بعد شَيْء.
__________
1 مُسلم: حُدُود 7، وَابْن ماجة: حُدُود 22،
وَالنَّسَائِيّ: سَارِق 1، وَأحمد 2/ 253، انْظُر
اللُّؤْلُؤ والمرجان 1099.
2 أَبُو دَاوُد: حُدُود 12، وَالنَّسَائِيّ: سَارِق 9، 10،
والموطأ: حُدُود 24-25، وَانْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان
1097.
3 سُورَة الْمَائِدَة: الْآيَة 38.
(1/245)
ويأتيه جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِالسُّنَنِ، كَمَا كَانَ يَأْتِيهِ بِالْقُرْآنِ،
وَلِذَلِكَ قَالَ: "أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ
مَعَهُ" يَعْنِي مِنَ السُّنَنِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ -فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ- قَطَعَ
أَيْدِيَ الْعُرَنِيِّينَ1 وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ2
أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بِالْحَرَّةِ، حَتَّى مَاتُوا
-ثُمَّ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ
الْحُدُودَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ
عَلَيْهِ، فَاقْتَصَّ مِنْهُمْ بِأَشَدِّ الْقِصَاصِ
لِغَدْرِهِمْ، وَسُوءِ مُكَافَأَتِهِمْ بِالْإِحْسَانِ
إِلَيْهِمْ، وَقَتْلِهِمْ رِعَاءَهُ وَسَوْقِهِمُ
الْإِبِلَ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْحُدُودُ، وَنُهِيَ عَنِ
الْمُثْلَةِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ، مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ
الْبَيْضَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بَيْضَةُ الْحَدِيدِ،
الَّتِي تَغْفِرُ الرَّأْسَ فِي الْحَرْبِ، وَأَنَّ
الْحَبْلَ مِنْ حِبَالِ السُّفُنِ.
قَالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنَ، يَبْلُغُ
دَنَانِيرَ كَثِيرَةً.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ
اللُّغَةَ، وَمَخَارِجَ كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ هَذَا
لَيْسَ مَوْضِعَ تَكْثِيرٍ لِمَا يَسْرِقُ السَّارِقُ،
فَيُصْرَفُ إِلَى بَيْضَةٍ تُسَاوِي دَنَانِيرَ، وَحَبْلٍ
عَظِيمٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ السَّارِقُ.
وَلَا مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، أَنْ
يَقُولُوا: قَبَّحَ اللَّهُ فَلَانًا، فَإِنَّهُ عَرَّضَ
نَفْسَهُ لِلضَّرْبِ فِي عِقْدِ جَوْهَرٍ، وَتَعَرَّضَ3
لِعُقُوبَةِ الْغُلُولِ فِي جِرَابِ مِسْكٍ.
وَإِنَّمَا الْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا، أَنْ يُقَالَ:
لَعَنَهُ اللَّهُ، تَعَرَّضَ لِقَطْعِ الْيَدِ فِي حَبْلٍ
رَثٍّ، أَوْ كُبَّةِ شَعْرٍ، أَوْ إداوة4 خلق، وَكلما
كَانَ من هَذَا أَحْقَر، كَانَ أبلغ.
__________
1 العرنيين: نِسْبَة إِلَى قَبيلَة عرينة وَقد ارْتَدُّوا
عَن الْإِسْلَام.
2 سمل: فَقَأَ.
3 وَفِي نُسْخَة: وَعرض نَفسه.
4 وَفِي نُسْخَة: أَو إِزَار.
(1/246)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
35- التَّعَوُّذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفَقْرِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ
الْفَقْرِ1، وَقَالَ: "أَسْأَلُكَ غِنَايَ، وَغِنَى
مَوْلَايَ"2.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَحْيِنِي
مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي
زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ" 3.
وَقَالَ: "الْفَقْرُ بِالْمُؤْمِنِ، أَحْسَنُ مِنَ
الْعِذَارِ الْحَسَنِ، عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ"4.
وَقَالُوا: وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا اخْتِلَافٌ -بِحَمْدِ
اللَّهِ تَعَالَى-.
وَقَدْ غَلَطُوا فِي التَّأْوِيلِ، وَظَلَمُوا فِي
الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُمْ عَارَضُوا الْفَقْرَ
بِالْمَسْكَنَةِ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَلَوْ كَانَ
قَالَ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي فَقِيرًا، وَأَمِتْنِي
فَقِيرًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْفُقَرَاءِ" كَانَ
ذَلِكَ تَنَاقُضًا، كَمَا ذَكَرُوا.
وَمَعْنَى الْمَسْكَنَةِ فِي قَوْلِهِ: "احْشُرْنِي
مِسْكِينًا" التَّوَاضُع والإخبات.
__________
1 أَبُو دَاوُد: أدب 101، وَأحمد 6/ 57، 207، وَانْظُر
صَحِيح الْجَامِع رقم 1287.
2 رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن أبي صرمة
مَرْفُوعا، وَإِسْنَاده ضَعِيف، انْظُر ضَعِيف الْجَامِع
رقم 1295، والسلسلة الضعيفة رقم 1912 -الشخ مُحَمَّد
بدير-.
3 التِّرْمِذِيّ: زهد 37، وَابْن ماجة: زهد 7، وَهُوَ
حَدِيث صَحِيح عَن عبَادَة بن الصَّامِت، صَحِيح الْجَامِع
برقم 1261 والصحيحة برقم 308.
4 وَجَدْنَاهُ فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 4033
وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 564 عَن شَدَّاد بن
أَوْس وَعَن سعيد بن مَسْعُود بِلَفْظ: "الْفقر بِالرجلِ
الْمُؤمن أزين على الْمُؤمن من الْعذر الْحسن على خد
الْفرس".
(1/247)
كَأَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى، أَنْ
لَا يَجْعَلَهُ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ،
وَلَا يَحْشُرَهُ فِي زُمْرَتِهِمْ.
وَالْمَسْكَنَةُ، حَرْفٌ مَأْخُودٌ مِنَ "السُّكُونِ"
يُقَالُ: "تَمَسْكَنَ الرِّجْلُ" إِذَا لَانَ وَتَوَاضَعَ،
وَخَشَعَ، وَخَضَعَ.
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْمُصَلِّي: "تبأس وَتَمَسْكَنْ وَتُقَنِّعْ
رَأْسَكَ" 1.
يُرِيدُ: تَخَشَّعْ، وَتَوَاضَعْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بِي الْمِسْكِينَ2 نَزَلَ الْأَمْرُ،
لَا يُرِيدُونَ مَعْنَى الْفَقْرِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ
مَعْنَى الذِّلَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِقَيْلَةَ: "يَا مِسْكِينَةُ " لَمْ يُرِدْ:
يَا فَقِيرَةُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ، مَعْنَى الضَّعْفِ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا أَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ كَانَ
سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الْمَسْكَنَةَ، الَّتِي هِيَ
الْفَقْرُ، لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ مَنَعَهُ مَا
سَأَلَهُ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ غَنِيًّا مُوسِرًا، بِمَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ
لَمْ يَضَعْ دِرْهَمًا عَلَى دِرْهَمٍ.
وَلَا يُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ مِثْلَ بَسَاتِينِهِ
بِالْمَدِينَةِ، وأمواله، وَمثل فدك: إِنَّه
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: تطوع 17 وَأخرجه ابْن مَاجَه،
إِقَامَة 172 بِلَفْظ: "صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، وَتشهد
فِي كل رَكْعَتَيْنِ وتباءس وتمسكن وتقنع، وَتقول:
اللَّهُمَّ اغْفِر لي فَمن يفعل ذَلِك فَهِيَ خداج".
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْعِرَاقِيّ فِي شرح
التِّرْمِذِيّ: الْمَشْهُور فِي هَذِه الرِّوَايَة
أَنَّهَا أَفعَال مضارعة حذف مِنْهَا إِحْدَى
التَّاءَيْنِ.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْعِرَاقِيّ فِي شرح
التِّرْمِذِيّ: الْمَشْهُور فِي هَذِه الرِّوَايَة
أَنَّهَا أَفعَال مضارعة حذف مِنْهَا أحدى التَّاءَيْنِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التباؤس: التفاقر، وَأَن يرى من
نَفسه تخشع الْفُقَرَاء إخباتا وتضرعًا.
والتمسكن: من الْمِسْكِين وَهُوَ مفعيل من السّكُون
لِأَنَّهُ يسكن إِلَى النَّاس كثيرا. وَزِيَادَة الْمِيم
فِي الْفِعْل شَاذَّة لم يروها سِيبَوَيْهٍ إِلَّا فِي
هَذَا الْموضع وَفِي تمدرع وتجندل. وَكَانَ الْقيَاس تسكن
وتدرع.
وتقنع: من الْإِقْنَاع وَهُوَ رفع الْيَدَيْنِ فِي
الدُّعَاء قبل الرّفْع بعد الصَّلَاة لأَخِيهَا.
2 وَفِي نُسْخَة: بالمسكين نزل الْأَمر، وَلَعَلَّ أصح.
(1/248)
مَاتَ فَقِيرًا، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ
ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} 1.
وَالْعَائِلُ: الْفَقِيرُ كَانَ لَهُ عِيَالٌ أَوْ لَمْ
يَكُنْ -وَالْمُعيِلُ: ذُو الْعِيَالِ، كَانَ لَهُ مَالٌ
أَوْ لَمْ يَكُنْ.
فَحَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ مَبْعَثِهِ وَحَالُهُ عِنْدَ مَمَاتِهِ؛ يَدُلَّانِ
عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ
فَقِيرًا، وَقُبِضَ غَنِيًّا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكَنَةَ الَّتِي كَانَ
يَسْأَلُهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَيْسَتْ بِالْفَقْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إِنَّ الْفَقْرُ بِالْمُؤْمِنِ
أَحْسَنُ مِنَ الْعِذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ
الْفَرَسِ" فَإِنَّ الْفَقْرَ مُصِيبَةٌ مِنْ مَصَائِبِ
الدُّنْيَا عَظِيمَةٌ وَآفَةٌ مِنْ آفَاتِهَا أَلِيمَةٌ2،
فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَرَضِيَ بِقَسْمِهِ3 زَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ
فِي الدُّنْيَا، وَأَعْظَمَ لَهُ الثَّوَابَ فِي
الْآخِرَةِ.
وَإِنَّمَا مَثَلُ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، مَثَلُ السُّقْمِ
وَالْعَافِيَةِ.
فَمَنِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالسُّقْمِ فَصَبَرَ،
كَانَ كَمَنِ ابْتُلِيَ بِالْفَقْرِ فَصَبَرَ.
وَلَيْسَ مَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ
الثَّوَابِ بِمَانِعِنَا مِنْ أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ
الْعَافِيَةَ، وَنَرْغَبَ إِلَيْهِ فِي السَّلَامَةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ يُفَضِّلُونَ الْفَقْرَ عَلَى
الْغِنَى، إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ
تَعَالَى مِنْ فَقْرِ النَّفْسِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّاسِ: "فُلَانٌ فَقِيرُ
النَّفْسِ" وَإِنْ كَانَ حسن الْحَال و"غَنِي النَّفْسِ"
وَإِنْ كَانَ سَيِّءَ الْحَالِ، وَهَذَا غَلَطٌ.
وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا
مِنْ صحابتهم، وَلَا الْعباد، وَلَا
__________
1 سُورَة الضُّحَى: الْآيَة 6.
2 أليمة: مؤلمة.
3 قسمه: قسمته.
(1/249)
الْمُجْتَهدين، كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ
أَفْقِرَنِي، وَلَا أَزْمِنِّي"1 وَلَا بِذَلِكَ
اسْتَعْبَدَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بَلِ
اسْتَعْبَدَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا: "اللَّهُمَّ
ارْزُقْنِي، اللَّهُمَّ2 عَافِنِي".
وَكَانُوا يَقُولُونَ: "اللَّهُمَّ لَا تَبْلُنَا إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".
يُرِيدُونَ: لَا تَخْتَبِرْنَا إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَلَا
تَخْتَبِرْنَا بِالشَّرِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِهِمَا، لِيَعْلَمَ كَيْفَ شكرهم
وصبرهم.
وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} 3 أَيِ:
اخْتِبَارًا.
وَكَانَ مُطَرِّفٌ يَقُولُ: لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا فِي كِتَابِ
"غَرِيبِ الْحَدِيثِ" بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ
وَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ إِيدَاعِهِ فِي هَذَا
الْكِتَابِ أَيْضًا، لِيَكُونَ جَامِعًا، لِلْفَنِّ
الَّذِي قصدنا لَهُ.
__________
1 أزمني: أَمْرَضَنِي.
2 فِي نُسْخَة: اللَّهُمَّ ارزقنا، اللَّهُمَّ عافنا.
3 سُورَة الْأَنْبِيَاء: الْآيَة 35.
(1/250)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
36- هَلْ يَجْتَمِعُ إِيمَان مَعَ ارْتِكَاب الْكَبَائِر؟:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ
يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ
يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى
وَإِنْ سَرَقَ" 2.
وَفِي هَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا -بِنِعْمَةِ
اللَّهِ- تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ
فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ.
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا
وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 3 أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا.
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ: "مَا أُومِنُ بِشَيْءٍ مِمَّا
تَقُولُ" أَيْ: مَا أُصَدِّقُ بِهِ.
وَالْمَوْصُوفُونَ بِالْإِيمَانِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
1- رَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ،
كَالْمُنَافِقِينَ، فَيَقُول: قد آمن؛ كَمَا
__________
1 البُخَارِيّ: مظالم 30 حُدُود 1، 6، 19، ابْن ماجة: فتن
3 وَأَبُو دَاوُد: كتاب السّنة 15 برقم 4689.
2 البُخَارِيّ: جنائز 1 وبدء الْخلق 6 ولباس 24، واستئذان
30 ورقاق 13، 14، تَوْحِيد 33، وَمُسلم: إِيمَان 153، 154،
زَكَاة 33.
وَالتِّرْمِذِيّ: إِيمَان 18، وَأحمد: 3/ 357، و4/ 360، 5/
152، 159، 162.
3 سُورَة يُوسُف: الْآيَة 17.
(1/251)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ
الْمُنَافِقِينَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا} 1، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} 2.
ثُمَّ قَالَ: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ} 3 لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِالَّذِينِ آمنُوا -هَهُنَا-
الْمُسلمُونَ، لم يقل: "من آمن بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ" لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى.
وَلَا نَقُولُ لَهُ مُؤْمِنٌ؛ كَمَا أَنَّا لَا نَقُولُ
لِلْمُنَافِقِينَ: مُؤْمِنُونَ، وَإِنْ قُلْنَا: قَدْ
آمَنُوا، لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَقْدٍ
وَلَا نِيَّةٍ.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ لِعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "عَصَى وَغَوَى" وَلَا نَقُولُ:
"عَاصٍ وَلَا غَاوٍ"؛ لِأَنَّ ذَنْبَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ
إِرْهَاصٍ وَلَا عَقْدٍ، كَذُنُوبِ أَعْدَاءِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ.
2- وَرَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، مَعَ
تَدَنُّسٍ بِالذُّنُوبِ، وَتَقْصِيرٍ فِي الطَّاعَاتِ مِنْ
غَيْرِ إِصْرَارٍ فَنَقُولُ: "قَدْ آمَنَ" وَهُوَ مُؤْمِنٌ
مَا تَنَاهَى عَنِ الْكَبَائِرِ، فَإِذَا لَابَسَهَا لَمْ
يَكُنْ فِي حَالِ الملابسة مؤمنصا؛ "يُرِيدُ" مُسْتَكْمِلَ
الْإِيمَانِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ
مُؤْمِنٌ" يُرِيدُ فِي وقته ذَلِك؛ لِأَنَّهُ قيل ذَلِكَ
الْوَقْتِ غَيْرُ مُصِرٍّ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَبَعْدَ
ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ مُصِرٍّ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ
تَائِبٌ.
وَمِمَّا يَزِيدُ فِي وُضُوحِ هَذَا، الْحَدِيثُ الْآخَرُ:
"إِذَا زَنَى الزَّانِي، سُلِبَ الْإِيمَان، فَإِن تَابَ
ألبسهُ" 4.
__________
1 سُورَة المُنَافِقُونَ: الْآيَة 3.
2 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 62.
3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة. وَردت الْآيَة خطأ
بِزِيَادَة "مِنْهُم" من آمن مِنْهُم ... " فحذفناها من
النَّص.
4 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة: كتاب السّنة
15، برقم 4690 بِلَفْظ: "إِذا زنى الرجل خرج مِنْهُ
الْإِيمَان وَكَانَ عَلَيْهِ كالظلة، فَإِذا انقلع رَجَعَ
إِلَيْهِ الْإِيمَان".
وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 586، والسلسلة الصَّحِيحَة
رقم 509.
(1/252)
وَرَجُلٌ صَدَّقَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ،
وَأَدَّى الْفَرَائِضَ، وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ،
فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا، الْمُسْتَكْمِلُ شَرَائِطَ
الْإِيمَانِ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَمْ يُؤْمِنْ، مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ
بَوَائِقَهُ" 1 يُرِيدُ: لَيْسَ بِمُسْتَكْمِلِ
الْإِيمَانِ.
وَقَالَ: "لَمْ يُؤْمِنْ، مَنْ لَمْ يَأْمَنِ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" 2 أَيْ لَيْسَ
بِمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ.
وَقَالَ: "لَمْ يُؤْمِنْ، مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَبَاتَ
جَارُهُ طَاوِيًا" 3 أَيْ: لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ.
وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ
يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ" 4.
يُرِيدُ: لَا كَمَالَ وُضُوءٍ، وَلَا فَضِيلَةَ وُضُوءٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَا
إِيمَانَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ"؛ يُرِيدُ: لَا كَمَالَ
إِيمَانٍ.
وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: "فُلَانٌ لَا عَقْلَ لَهُ"؛
يُرِيدُونَ: لَيْسَ هُوَ مُسْتَكْمِلَ الْعَقْلِ.
و"لَا دِينَ لَهُ" أَيْ: لَيْسَ بِمُسْتَكْمَلِ الدِّينِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهُوَ فِي
الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ" فَإِنَّهُ لَا
يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ:
__________
1 سبق تَخْرِيجه ص50.
2 سبق تَخْرِيجه ص51.
3 رَوَاهُ الْبَزَّار عَن أنس مَرْفُوعا، وَهُوَ صَحِيح،
انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 5505، والصحيحة 149 -الشَّيْخ
مُحَمَّد بدير.- وَقد وَجَدْنَاهُ فِي مُسْند الإِمَام
أَحْمد: 1/ 55 بِلَفْظ: "لَا يشْبع الرجل دون جَاره".
4 الدَّارمِيّ: وضوء 25، وَأَبُو دَاوُد: طَهَارَة 48،
وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 20 وَابْن ماجة: طَهَارَة 41.
وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 7573.
(1/253)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى
الْعَاقِبَةِ؛ يُرِيدُ: أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ إِلَى
الْجَنَّةِ، وَإِنَّ عُذِّبَ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ.
وَالْآخَرُ أَنْ تَلْحَقَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى،
وَشَفَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَيَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ، بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ
لَا اللَّهُ.
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
الشَّهِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْحَسَنِ
أَنَّهُ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثَمَنُ
الْجَنَّةِ".
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، قَالَ:
أَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُوسَى بْنِ الْمُسَيَّبِ
الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي
الْجَعْدِ، يُحَدِّثُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوِيدٍ،
عَنْ أَبِي ذَرٍّ1، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَقُول ربكُم: بن آدَمَ
إِنَّكَ إِنْ تَأْتِنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً،
بَعْدَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، جَعَلْتُ لَكَ
قُرَابَهَا مَغْفِرَةً، وَلَا أُبَالِي" 2.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ الدَّارِمِيُّ، هُوَ مِنْ
وَلَدِ خِرَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ،
وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ شَطْرُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ،
فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ،
لَعَلَّكُمْ تَرَوْنَ أَنَّ شَفَاعَتِي لِلْمُتَّقِينَ
لَا، وَلَكِنَّهَا لِلْمُتَلَطِّخِينَ بِالذُّنُوبِ" 3.
__________
1 أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ: هُوَ جُنْدُب بن جُنَادَة.
قَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أظلت
الخضراء وَلَا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذَر" ومناقبه
كَثِيرَة قَالَ ابْن الْمَدَائِنِي: مَاتَ بالربذة سنة
32هـ.
2 أَحْمد: 5/ 147، 148، 153، وَمُسلم: ذكر 22،
وَالتِّرْمِذِيّ: دعوات 98، وَابْن ماجة: أدب 58.
3 التِّرْمِذِيّ: كتاب 35 بَاب 13، ومسند أَحْمد 2/ 75، 4/
404، 415، 5/ 232، 325، 413، 6/ 23، 28، 427،
وَالطَّيَالِسِي: حَدِيث 998، وَقد رَوَاهُ ابْن ماجة عَن
أبي مُوسَى وَرَوَاهُ أَحْمد عَن ابْن عمر. انْظُر صَحِيح
الْجَامِع رقم 3335.
(1/254)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
37- فَرْكُ الْمَنِيِّ وَغَسْلُهُ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ،
عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،
أَنَّهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ
ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَيُصَلِّي فِيهِ"1.
فَاسْتَجَازَ بِرِوَايَتِكُمْ هَذِهِ قَوْمٌ فَرْكَ
الْمَنِيِّ مِنَ الثَّوْبِ، وَالصَّلَاةَ فِيهِ،
وَجَعَلُوهُ سُنَّةً.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ
مِهْرَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ:
"إِنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ أَثَرَ الْمَنِيِّ، مِنْ
ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَتْ: ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ
بُقَعًا"2.
فَأَبَى قَوْمٌ فَرْكَ الْمَنِيِّ، بِرِوَايَتِكُمْ
هَذِهِ، وَلَمْ يَسْتَجِيزُوا إِلَّا غَسْلَهُ مِنَ
الثَّوْبِ إِذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ فِيهِ وَهَذَا
تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا تَنَاقُضٌ وَلَا
اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
كَانَتْ تَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَ يَابِسًا،
وَالْفَرْكُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى يَابِسٍ، وَكَانَ
رُبَّمَا بَقِيَ فِي شِعَارِهِ حَتَّى يَيْبَسَ وَهُوَ
يَيْبَسُ، فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ لَا سِيَّمَا فِي
الصَّيْفِ.
وَكَانَتْ تَغْسِلُهُ إِذَا رَأَتْهُ رَطْبًا، وَالرَّطْبُ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَكَ، وَلَا بَأْسَ عَلَى مَنْ
تَرَكَهُ إِلَى أَنْ يَجِفَّ، ثُمَّ فَرَكَهُ.
أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ رَاهَوَيْهِ؛ أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِفَرْكِ
الْمَنِيِّ.
__________
1 أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 134، أَحْمد 6/ 125، 132، 213،
239، 263.
2 البُخَارِيّ: وضوء 65، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 86
وَأحمد 6/ 47، 142، 162.
(1/255)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
38- جِلْدُ الْمَيْتَةِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ
فَقَدْ طَهُرَ" 1.
وَأَنَّهُ مَرَّ بِشَاةٍ مَيْتَةٍ فَقَالَ: "أَلَا
انْتَفِعُوا بِإِهَابِهَا" 2 فَأَخَذَ قَوْمٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ بِذَلِكَ، وَأَفْتَوْا بِهِ.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ
الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ"3.
فَأَخَذَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِهَذَا وَأَفْتَوْا
بِهِ.
وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا -بِحَمْدِ
اللَّهِ- تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ الْإِهَابَ
فِي اللُّغَةِ: الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ، فَإِذَا
دُبِغَ، زَالَ عَنهُ هَذَا الِاسْم.
__________
1 صَحِيح مُسلم: حيض 105، وَأَبُو دَاوُد: لِبَاس 38،
وَالتِّرْمِذِيّ: لِبَاس 7، وَالنَّسَائِيّ: فرع 4،
والدارمي: أضاحي 20، والموطأ: صيد 17.
2 أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه: كتا 3 رقم الحَدِيث 100
بِلَفْظ:
عَن ان عَبَّاس قَالَ: تصدق على مولاة لميمونة بِشَاة،
فَمَاتَتْ، فَمر بهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: "هلا أَخَذْتُم إهابها فدبغتموه
فانتفعتم بِهِ؟ " فَقَالُوا: إِنَّا ميتَة. فَقَالَ:
"إِنَّمَا حرم أكلهَا" وَأخرجه البُخَارِيّ: كتاب 72 بَاب
30، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 31 بَاب 38 وَالتِّرْمِذِيّ:
كتاب 22 بَاب 7 وَابْن ماجة: 32 بَاب 25.
3 أخرجه التِّرْمِذِيّ: لِبَاس 7، وَالْبُخَارِيّ: بُيُوع
151، ذَبَائِح 30 وَأَبُو دَاوُد: لِبَاس 38، 39،
وَالنَّسَائِيّ: فرع 4، 5، 10، وَابْن ماجة: لِبَاس 25،
26، والدارمي: أضاحي: 20، وَأحمد 4/ 210، 211.
(1/256)
وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ أُهُبٌ
عَطِنَةٌ"1 يُرِيدُ: جُلُودٌ مُنْتِنَةٌ لَمْ تُدْبَغْ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي أَبِيهَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "قَرَّرَ الرُّءُوس عَلَى
كَوَاهِلِهَا، وَحَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا" يَعْنِي
فِي الْأَجْسَادِ.
فَكَنَّتْ عَنِ الْجَسَدِ بِالْإِهَابِ، وَلَوْ كَانَ
الْإِهَابُ مَدْبُوغًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُكَنِّيَ بِهِ
عَنِ الْجَسَدِ.
وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ يَذْكُرُ بَقَرَةً
وَحْشِيَّةً، أَكَلَ الذِّئْبُ وَلَدَهَا، وَهِيَ
غَائِبَةٌ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَتْهُ:
فَلَاقَتْ بَيَانًا عِنْدَ أَوَّلِ مَعْهَدٍ ... إِهَابًا
وَمَعْبُوطًا2 مِنَ الْجَوْفِ أَحْمَرَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ".
ثُمَّ مَرَّ بِشَاةٍ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: "أَلَا انْتَفَعَ
أَهْلُهَا بِإِهَابِهَا"؟ يُرِيدُ أَلَا دَبَغُوهُ،
فَانْتَفَعُوا بِهِ؟
ثُمَّ كَتَبَ3: "لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ
بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ ".
يُرِيدُ لَا تَنْتَفِعُوا بِهِ وَهُوَ إِهَابٌ، حَتَّى
يُدْبَغَ.
وَيَدُلَّكَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَلَا عَصَبٍ"
لِأَنَّ الْعَصَبَ لَا يَقْبَلُ الدِّبَاغَ، فَقَرَنَهُ
بِالْإِهَابِ قَبْلَ أَنْ يُدْبَغَ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا
مُبَيَّنًا فِي الْحَدِيثِ.
رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ
بِشَاةٍ لِمَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ، فَقَالَ: "أَلَا
أَخَذُوا إهابها، فدبغوه، وانتفوا بِهِ" 4.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: تَفْسِير سُورَة 66، وَأَبُو لِبَاس
38 فِي التَّرْجَمَة.
2 معبوطًا أَي مذبوحًا من غير عِلّة.
3 والْحَدِيث مَشْهُور عِنْد أَصْحَاب السّنَن عَن عبد
الله بن حَكِيم قَالَ: أنانًا كتاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قبل مَوته: "أَلا تَنْتَفِعُوا
مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عصب" -الشَّيْخ مُحَمَّد
بدير-.
4 سبق تَخْرِيجه ص256.
(1/257)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
39- صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الشِّعَارِ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ1، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُصَلِّي
فِي شُعُرِنَا، أَوْ لُحُفِنَا"2.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ
يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ، وَأَنَا
حَائِضٌ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ لِي وَعَلَيْهِ3 بَعْضُهُ".
وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ، لِأَنَّهُ
قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَانَ لَا يُصَلِّي فِي
شُعُرِنَا، وَهُوَ جَمْعُ "شِعَارٍ" وَالشِّعَارُ مَا
وَلِيَ الْجَسَدَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا يُسَمَّى
شِعَارًا، حَتَّى يَلِيَ الْجَسَدَ.
وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للْأَنْصَار: "أَنْتُم لي
شعار،
__________
1 مُحَمَّد بن سِيرِين الْبَصْرِيّ الْأنْصَارِيّ ولد عَام
33هـ إِمَام وقته فِي عُلُوم الدَّين بِالْبَصْرَةِ
تَابِعِيّ من أَشْرَاف الْكتاب، نَشأ بزازًا وتفقه وروى
الحَدِيث واشتهر بالورع وتعبير الرُّؤْيَا واستكتبه أنس بن
مَالك بِفَارِس توفّي عَام 110هـ.
2 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب الطَّهَارَة برقم 367، وَكتاب
الصَّلَاة برقم 645.
3 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب الطَّهَارَة: 369، 370، ابْن
ماجة: تَمِيم برقم 653، وَالنَّسَائِيّ برقم 285، 272،
769، وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم. والمرط: ثوب يلْبسهُ
الرِّجَال وَالنِّسَاء يكون إزازًا أَو يكون رداة وَقد
يتَّخذ من صوف وَمن خَز وَغَيره "خطابي".
(1/258)
وَالنَّاسُ دِثَارٌ" 1؛ يُرِيدُ: أَنَّكُمْ
أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيَّ، كَالشِّعَارِ الَّذِي يَلِي
الْجَسَدَ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، أَيْ: أَبْعَدُ مِنْكُمْ،
كَمَا أَنَّ الدِّثَارَ فَوْقَ الشِّعَارِ، وَالشِّعَارُ
يُصِيبُهُ الْمَنِيُّ وَالْعَرَقُ وَالنَّدَى، إِذَا كَانَ
بِالْمَرْءِ قَاطِرُ بَوْلٍ، أَوْ بَدَرَتْ مِنْهُ
بَادِرَةٌ، فَكَانَ لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِ نِسَائِهِ،
لِمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنَالَهَا، إِذَا هُوَ جَامَعَ،
أَوْ إِذَا اسْتَثْقَلَتِ الْمَرْأَةُ، أَوْ إِذَا حَاضَتْ
مِنَ الدَّمِ.
وَقِيلَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي
بِاللَّيْلِ، وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ
لِي، وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ؛ وَالْمِرْطُ لَا يَكُونُ
شِعَارًا، كَمَا يَكُونُ الْإِزَارُ شِعَارًا، لِأَنَّهُ
كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ شَعْرٍ،
وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ خَزٍّ، وَإِنَّمَا يُلْقَى فَوْقَ
الْإِزَارِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ هَذَا حَدِيثٌ حَدَّثَنِيهِ
عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ
شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ ذَاتَ غَدَاةٍ،
وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ"2.
وَالْمُرَحَّلُ: الْمُوَشَّى، وَيُقَالُ لِذَلِكَ
الْعَمَلِ: التَّرْحِيلُ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ، وَذَكَرَ امْرَأَتَهُ:
فَقُمْتُ بِهَا أَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا ... عَلَى
أَثَرَيْنَا ذَيْلُ3 مِرْطٍ مُرَحَّلِ
وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الْمِرْطَ لَمْ يَكُنْ
شِعَارًا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا
قَالَتْ: "كَانَ يُصَلِّي، وَعَلَيْهِ بَعْضُ الْمِرْطِ،
وَعَلَيْهَا بَعْضُهُ"4.
وَلَوْ كَانَ شِعَارًا، لَانْكَشَفَتْ مِنْهُ لِأَنَّ
الشِّعَارَ لَطِيفٌ، لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُصَلَّى فِيهِ،
وَتَكُونُ هِيَ مَسْتُورَةً بِهِ.
__________
1 البُخَارِيّ مغازي 56، وَمُسلم: زَكَاة 139، وَابْن
ماجة: مُقَدّمَة 11 وَأحمد 2/ 419، 3/ 242، 4/ 42، 5/ 307.
2 مُسلم: لِبَاس 36، فَضَائِل الصَّحَابَة 61، أَبُو
دَاوُد: لِبَاس 5، وَالتِّرْمِذِيّ: أدب 49، وَأحمد: 6/
162.
3 المرط: بِالْكَسْرِ، كسَاء من صوف أَو خَز.
4 أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 123، وَابْن ماجة: طَهَارَة 131،
وَأحمد: 6/ 67، 146، 99، 129، 137، 199، 220، 249، 330،
167.
(1/259)
قَالُوا: حَدِيثٌ تُكَذِّبُهُ حُجَّةُ
الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ
40- هَلْ سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟:
قَالُوا: "رُوِّيتُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ، وَجُعِلَ سِحْرُهُ فِي
بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ1 وَأَنَّ عَلِيَّا كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ اسْتَخْرَجَهُ، وَكُلَّمَا حَلَّ مِنْهُ
عُقْدَةً، وَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خِفَّةً، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ"2.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ، وَعَمَلٌ
مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ فِيمَا يَذْكُرُونَ.
فَكَيْفَ يَصِلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، مَعَ حِيَاطَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ،
وَتَسْدِيدِهِ إِيَّاهُ بِمَلَائِكَتِهِ، وَصَوْنِهِ
الْوَحْيَ عَنِ الشَّيْطَانِ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ
فِي الْقُرْآنِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 3.
وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَن الْبَاطِل هَهُنَا هُوَ
الشَّيْطَانُ.
وَقَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} 4
أَيْ: يَجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ رَصَدًا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ، وَيَصُونُونَ الْوَحْيَ،
عَنْ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ الشَّيْطَانُ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
__________
1 بِئْر ذِي أروان: بِئْر فِي الْمَدِينَة.
2 البُخَارِيّ: بَدْء الْخلق 11، جِزْيَة 14 49، 50، دعوات
58، أَحْمد: 6/ 50، 96.
3 سُورَة فصلت: الْآيَة 46.
4 سُورَة الْجِنّ: الْآيَة 27.
(1/260)
وَذَهَبُوا فِي السِّحْرِ إِلَى أَنَّهُ
حِيلَةٌ يُصْرَفُ بِهَا وَجْهُ الْمَرْءِ عَنْ أَخِيهِ،
وَيُفَرَّقُ بِهَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ
كَالتَّمَائِمِ1 وَالْكَذِبِ، وَقَالُوا: هَذِهِ رُقًى2،
وَمِنْهُ السُّمُّ يُسْقَاهُ الرَّجُلُ فَيَقْطَعُهُ عَنِ
النِّسَاءِ، وَيُغَيِّرُ خُلُقَهُ، وَيَنْثُرُ شَعْرَهُ
وَلِحْيَتَهُ.
وَإِلَى أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ خَيَّلُوا لِمُوسَى
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَرَوْهُ.
قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ؛ أَنَّا نَأْخُذُ الزِّئْبَقَ،
فَنُفْرِغُهُ فِي وِعَاءٍ كَالْحَيَّةِ، ثُمَّ نُرْسِلُهُ
فِي مَوْضِعٍ حَارٍّ، فَيَنْسَابُ انْسِيَابَ الْحَيَّةِ.
قَالُوا: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 3، إِنَّمَا
هُوَ تَخْيِيلٌ، وَلَيْسَ ثَمَّ شَيْءٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَقَالُوا: فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا
مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} 4
هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ.
أَيْ: لَمْ يَنْزِلْ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: الْمَلِكَيْنِ، بِكَسْرِ اللَّامِ.
وَذَكَرُوا عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا
كَذَلِكَ، وَيَقُولُ: عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَى هَذَا،
مُخَالِفٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَجَمِيعِ أَهْلِ الْكُتُبِ، وَمُخَالِفٌ لِلْأُمَمِ
كُلِّهَا، الْهِنْدُ، وَهِيَ أَشَدُّهَا إِيمَانًا
بِالرُّقَى، وَالرُّومُ وَالْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَفِي الْإِسْلَامِ، وَمُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ مُعَانِدٌ
لَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ
قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ،
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
__________
1 تمائم: جمع تَمِيمَة وَهِي خرزة رقطاء تنظم فِي السّير
ثمَّ يعْقد فِي الْعُنُق، أَو مَا شابه ذَلِك، لدفع الْعين
أَو جلب الْخَيْر وَهَذَا من عمل الْجَاهِلِيَّة.
2 رقي: جمع رقية وَهِي مَا يرقى بِهِ الْمَرِيض وَغَيره.
3 سُورَة طه: الْآيَة 66.
4 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 102.
(1/261)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي
الْعُقَدِ} 1 فأعلمنا أَنَّ السَّوَاحِرَ، يَنْفُثْنَ فِي
عُقَدٍ يَعْقِدْنَهَا كَمَا يَتْفُلُ الرَّاقِي
وَالْمُعَوِّذُ.
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ، تُسَمِّي السِّحْرَ الْعَضْهَ2.
وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْعَاضِهَةَ وَالْمُسْتَعْضِهَةَ.
يَعْنِي بِالْعَاضِهَةِ: السَّاحِرَةَ،
وَبِالْمُسْتَعْضِهَةِ: الَّتِي تَسْأَلُهَا أَنْ تَسْحَرَ
لَهَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أعوذ بربي من النافثا ... ت فِي عَقْدِ الْعَاضِهِ
الْمُعْضِهِ
يَعْنِي: السواحر. وَقد روى بن نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا، وَهَذَا طَرِيقٌ مَرْضِيُّ صَحِيحٌ
أَنَّهُ قَالَ -حِينَ سُحِرَ3-: "جَاءَنِي رَجُلَانِ،
فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ
رِجْلِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟
قَالَ: مَطْبُوبٌ 4 فَقَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ
بْنُ الْأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي
مُشْطٍ وَمَشَّاطَةٍ، وَجُفِّ 5 طَلْعَةِ ذَكَرٍ، قَالَ:
وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ".
وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَجْتَرُّ6 النَّاسُ بِهِ إِلَى
أَنْفُسِهِمْ نَفْعًا، وَلَا يَصْرِفُونَ عَنْهَا ضُرًّا،
وَلَا يُكْسِبُونَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَنَاءً وَمَدْحًا، وَلَا حَمَلَةُ
هَذَا الْحَدِيثِ كَذَا بَين، وَلَا مُتَّهَمِينَ، وَلَا
مُعَادِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَمَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لَبِيدُ بن الأعصم -هَذَا
الْيَهُودِيّ- سحر
__________
1 سُورَة الفلق.
2 العضة: الْكَذِب والبهتان وَالسحر والنميمة، والعاضهة:
الساحرة.
3 البُخَارِيّ: بَدْء الْخلق 11، جِزْيَة 14، طب49، 50،
دعوات 58، أَحْمد 6/ 50، 96.
4 مطبوب: أَي مسحور.
5 الجف: وعَاء النخيل وهوس الغشاء الَّذِي كَون فَوْقه.
6 يجتر: أَي يجلب ويجر.
(1/262)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَتَلَتِ الْيَهُودُ قَبْلَهُ،
زَكَرِيَّا بْنَ آذَنَ فِي جَوْفِ شَجَرَةٍ، قَطَّعَتْهُ
قِطَعًا بِالْمَنَاشِيرِ.
وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَوْ غَيْرُهُ: أَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا وَصَلَ الْمِنْشَارُ إِلَى
أَضْلَاعِهِ أَنَّ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ:
إِمَّا أَنْ تَكُفَّ عَنْ أَنِينِكَ، وَإِمَّا أَنْ
أُهْلِكَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.
وَقَتَلَتْ بَعْدَهُ ابْنَهُ يَحْيَى بِقَوْلِ بَغِيٍّ،
وَاحْتِيَالِهَا فِي ذَلِكَ، وَادَّعَتْ "يَعْنِي
الْيَهُودَ" أَنَّهَا قَتَلَتِ الْمَسِيحَ وَصَلَبَتْهُ.
وَلَوْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ
وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} 1 لَمْ نَعْلَمْ
نَحْنُ، أَنَّ ذَلِكَ شَبَهُهُ لِأَنَّ الْيَهُودَ
أَعْدَاؤُهُ، وَهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاؤُهُ وَهُمْ يُقِرُّونَ لَهُمْ بِهِ.
وَقَتَلَتِ الْأَنْبِيَاءَ، وَطَبَخَتْهُمْ2،
وَعَذَّبَتْهُمْ أَنْوَاعَ الْعَذَابِ، وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ، لَعَصَمَهُمْ مِنْهُمْ.
وَقَدْ سُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ذِرَاعِ شَاةٍ مَشْوِيَّةٍ، سَمَّتْهُ
يَهُودِيَّةٌ، فَلَمْ يَزَلِ السُّمُّ يعاده حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا زَالَتْ
أَكْلَةُ خَيْبَر تعادني، فَهَذَا أَوَان انْقِطَاع
أَبْهَري" 3
__________
1 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة157.
2 طبختهم: أَي هجرتهم من الطابخة: أَي الهاجرة.
3 الحَدِيث علقه البُخَارِيّ بِصِيغَة الحزم برقم 4428
فَهُوَ صَحِيح، وَصَححهُ الألباني: انْظُر صَحِيح
الْجَامِع رقم 5629، وَهُوَ عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة
رَضِي الله عَنْهَا، وَقد ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث برقم
18600 ورقم 21689، وَأخرجه ابْن السّني وَأَبُو نعيم فِي
الطِّبّ عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ:
"مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فِي كل عَام
حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَان قطع أَبْهَري".
وَأخرج الدَّارمِيّ فِي الْمُقدمَة 11 ص32 الحَدِيث
بِلَفْظ: عَن أبي سَلمَة قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل الْهَدِيَّة وَلَا
يقبل الصَّدَقَة فَأَهْدَتْ لَهُ امْرَأَة من يهود خَيْبَر
شَاة مصلية فَتَنَاول مِنْهَا، وَتَنَاول مِنْهَا بشر بن
الْبَراء، ثمَّ رفع النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَده، ثمَّ قَالَ: إِن هَذِه تُخبرنِي أَنَّهَا
مَسْمُومَة فَمَاتَ بشر بن الْبَراء فَأرْسل إِلَيْهَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا حملك
على مَا صنعت؟ فَقَالَت: إِن كنت نبيًّا لم يَضرك شَيْء،
وَإِن كنت ملكا أرحت النَّاس مِنْك، فَقَالَ فِي مَرضه:
مَا زلت من الْأكلَة الَّتِي أكلت بِخَيْبَر فَهَذَا
أَوَان انْقِطَاع أَبْهَري".
(1/263)
فَجعل اللَّهُ تَعَالَى لِلْيَهُودِيَّةِ
عَلَيْهِ السَّبِيلَ، حَتَّى قَتَلَتْهُ.
وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ
السَّبِيلَ عَلَى النَّبِيِّينَ.
وَالسِّحْرُ أَيْسَرُ خَطْبًا مِنَ الْقَتْلِ وَالطَّبْخِ
وَالتَّعْذِيبِ.
فَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجْعَلُ لِلشَّيْطَانِ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلًا،
وَلَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فقد قرؤوا فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 1.
يُرِيدُ: إِذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
تِلَاوَتِهِ -يُعَزِّيهِ، عَمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ
عَلَى لِسَانِهِ، حِينَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: "تِلْكَ
الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ
تُرْتَجَى".
غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ، أَنْ يَزِيدَ فِيهِ، أَوْ
يَنْقُصَ مِنْهُ.
أَمَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا
يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} 2.
أَيْ: يُبْطِلُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ.
ثُمَّ قَالَ: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} 3.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: {لَا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 4.
أَيْ: لَا يَقْدِرُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ
أَوَّلًا، وَلَا آخِرًا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ
بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَقَالَ:
إِنْ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَكِيدُكَ، فَإِذَا
أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تختم آيَة
الْكُرْسِيّ"5.
__________
1 سُورَة الْحَج: الْآيَة 52.
2 سُورَة الْحَج: الْآيَة 52.
3 سُورَة الْحَج: الْآيَة 53.
4 سُورَة فصلت: الْآيَة 42.
5 لم نجده بِهَذَا اللَّفْظ، وَقد وَجَدْنَاهُ فِي
البُخَارِيّ: بُد الْخلق 11 بِلَفْظ:
"إِذا أويت إِلَى فراشك فاقرأ آيَة الْكُرْسِيّ لن يزَال
من الله حَافظ وَلَا يقربك شَيْطَان حَتَّى تصبح.. ".
(1/264)
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ
أَيُّوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} 1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي السِّحْرِ الَّذِي رَآهُ مُوسَى
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ
إِلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَمَا نُنْكِرُ
هَذَا وَلَا نَدْفَعُهُ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ
الْخَلَائِقَ كُلَّهَا، لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى خَلْقِ
بَعُوضَةٍ، لَمَا اسْتَطَاعُوا؛ غَيْرَ أَنَّا لَا
نَدْرِي، أَهُوَ بِالزِّئْبَقِ الَّذِي ادَّعَوْا
أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ فِي سُلُوخِ الْحَيَّاتِ حَتَّى
جَرَتْ، أَمْ بِغَيْرِهِ؟
وَلَا يَعْلَمُ هَذَا، إِلَّا مَنْ كَانَ سَاحِرًا، أَوْ
مَنْ سَمِعَ فِيهِ شَيْئًا مِنَ السَّحَرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} 2، ثُمَّ قَالَ: {يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} 1
إِنَّ تَأْوِيلَهُ "وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ" فَلَيْسَ هَذَا بِمُنْكَرٍ مِنْ
تَأْوِيلَاتِهِمُ الْمُسْتَحِيلَةِ الْمَنْكُوسَةِ.
فَإِذَا كَانَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ، هَارُوتَ، وَمَارُوتَ، صَارَ الْكَلَامُ
فَضْلًا، لَا مَعْنًى لَهُ.
وَإِنَّمَا يَجُوزُ3 بِأَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّ
السِّحْرَ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَيَكُونُ فِيمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، أَوْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ،
فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "اتَّبِعُوا ذَلِكَ" وَلِمَ
يَنْزِلُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، كَمَا ذَكَرُوا.
وَمِثَالُ هَذَا؛ أَنْ يَقُولَ مُبْتَدِئًا: عَلَّمْتُ
هَذَا الرَّجُلَ الْقُرْآنَ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَلَا يَتَوَهَّمُ سَامِعُ هَذَا، أَنَّكَ أَرَدْتَ أَنَّ
الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ قَوْلُ أَحَدٍ:
أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَإِنَّمَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّكَ عَلمته
الْقُرْآن والتوراة.
__________
1 سُورَة ص: الْآيَة 41. ومطلع الْآيَة: {وَاذْكُرْ
عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ... } .
2 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 102.
3 أَي: مَا ذَكرُوهُ من التأويلات.
(1/265)
وَتَأْويل هَذَا، عندنَا، مُبين
بِمَعْرِفَةِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ.
وَجُمْلَتُهُ -على مَا ذكر بن عَبَّاسٍ- أَنَّ سُلَيْمَانَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا عُوقِبَ،
وَخَلَفَهُ الشَّيْطَانُ فِي مُلْكِهِ، دَفَنَتِ
الشَّيَاطِينُ فِي خِزَانَتِهِ، وَمَوْضِعِ مُصَلَّاهُ،
سِحْرًا وأخذًا1 ونيرنجات2.
فَمَا مَاتَ سُلَيْمَانُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، جَاءَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى النَّاسِ،
فَقَالُوا: أَلَا نَدُلُّكُمْ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي
سُخِّرَتْ بِهِ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ وَالْجِنُّ،
وَدَانَتْ لَهُ بِهِ الْإِنْسُ؟ قَالُوا: بَلَى. فَأَتَوْا
مُصَلَّاهُ، وَمَوْضِعَ كُرْسِيِّهِ، فَاسْتَخْرَجُوا
ذَلِكَ مِنْهُ.
فَقَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: "مَا هَذَا
مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ سَاحِرًا".
وَقَالَ سَفَلَةُ النَّاسِ: "سُلَيْمَانُ كَانَ أَعْلَمَ
مِنَّا، فَسَنَعْمَلُ بِهَذَا، كَمَا عَمِلَ".
فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} 3 أَيْ
اتَّبَعَتِ الْيَهُودُ، مَا تَرْوِيهِ الشَّيَاطِينُ.
وَالتِّلَاوَةُ وَالرِّوَايَةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} 4 وَهُمَا مَلَكَانِ
أُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، حِينَ عَمِلَ بَنُو آدَمَ
بِالْمَعَاصِي لِيَقْضِيَا بَيْنَ النَّاسِ، وَأُلْقِيَ
فِي قُلُوبِهِمَا شَهْوَةُ النِّسَاءِ، وَأُمِرَا أَنْ لَا
يَزْنِيَا، وَلَا يَقْتُلَا، وَلَا يَشْرَبَا خَمْرًا
فَجَاءَتْهُمَا الزُّهَرَةُ5 تُخَاصِمُ إِلَيْهِمَا،
فَأَعْجَبَتْهُمَا فَأَرَادَاهَا، فَأَبَتْ عَلَيْهِمَا
حَتَّى يُعَلِّمَاهَا الِاسْمَ الَّذِي يَصْعَدَانِ بِهِ
إِلَى السَّمَاءِ، فَعَلَّمَاهَا، ثُمَّ أَرَادَاهَا،
فَأَبت حَتَّى يشربا الْخمر، فشرباها،
__________
1 الأخذة: خرزة يُؤْخَذ بهَا، أَو رقية كالسحر.
"الْقَامُوس الْمُحِيط ص 421".
2 نيرنجات: جمع نيرنج، والنيرنج: أَخذ كالسحر وَلَيْسَ
بِهِ.
3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 102.
4 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 102.
5 الزهرة: نجم مَعْرُوف فِي السَّمَاء.
(1/266)
وقضيا حَاجَتَهُمَا، ثُمَّ خَرَجَا،
فَرَأَيَا رَجُلًا، فَظَنَّا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ1
عَلَيْهِمَا، فَقَتَلَاهُ.
وَتَكَلَّمَتِ الزُّهَرَةُ بِذَلِكَ الِاسْمِ، فَصَعِدَتْ،
فَخَنَسَتْ2 وَجَعَلَهَا اللَّهُ شِهَابًا.
وَغَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَلَكَيْنِ،
فَسَمَّاهُمَا: هَارُوتَ، وَمَارُوتَ.
وَخَيَّرَهُمَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ
الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا.
فَهُمَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ3.
وَالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ، فِيمَا يَرَى أَهْلُ النَّظَرِ -وَاللَّهُ
أَعْلَمُ- هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ. الَّذِي صَعِدَتْ
بِهِ الزُّهَرَةُ، وَكَانَا بِهِ -قَبْلَهَا وَقَبْلَ
السُّخْطِ عَلَيْهِمَا- يَصْعَدَانِ إِلَى السَّمَاءِ.
فَعَلِمَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فَهِيَ4 تُعَلِّمُهُ
أَوْلِيَاءَهَا، وَتُعَلِّمُهُمُ السِّحْرَ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ السَّاحِرَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ،
فَيَطِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيَطْفُو عَلَى
الْمَاءِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ
عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، أَنَّ عَامِلَ عُمَانَ كَتَبَ
إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: "إِنَّا أَتَيْنَا بِسَاحِرَةٍ، فَأَلْقَيْنَاهَا
فِي الْمَاءِ، فَطَفَتْ".
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
"لَسْنَا مِنَ الْمَاءِ فِي شَيْءٍ، إِنْ قَامَتِ
الْبَيِّنَةُ، وَإِلَّا فَخَلِّ5 سَبِيلَهَا".
__________
1 ظهر: أَي اطلع.
2 خنست: غَابَتْ.
3 هَذِه الرِّوَايَة -فِي قصَّة الْملكَيْنِ والزهرة-
وَغَيرهَا من الرِّوَايَات سَاقهَا ابْن كثير فِي
تَفْسِيره "الْقُرْآن الْعَظِيم" ص123 وأكثرها غَرِيب
مُنكر، وَالله أعلم.
يَقُول سيد قطب رَحمَه الله فِي ظلال الْقُرْآن ج1 ص97:
"وَلَا أحب أَن نجري نَحن -فِي ظلال الْقُرْآن- خلف
الأساطير الْكَثِيرَة الَّتِي وَردت حول قصَّة
الْملكَيْنِ. فَلَيْسَتْ هُنَالك رِوَايَة وَاحِدَة
مُحَققَة يوثق بهَا. وَلَقَد مضى فِي تَارِيخ البشرية من
الْآيَات والابتلاءات مَا يُنَاسب حالتها وإدراكها فِي كل
طور من أطوارها".
4 فَهِيَ: أَي الشَّيَاطِين.
5 أَي إِن قَامَت الْبَيِّنَة على تعاطيها السحر فعاقبها
وَإِلَّا فاتركها.
(1/267)
وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ
الطَّائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا
عُمَيْرَةُ بْنُ شُكَيْرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ سِنَانِ بْنِ
سَلَمَةَ بِالْبَحْرَيْنِ، فَأُتِيَ بِسَاحِرَةٍ، فَأَمَرَ
بِهَا، فَأُلْقِيَتْ فِي الْمَاءِ فَطَفَتْ، فَأَمَرَ
بِصَلْبِهَا فَنَحَتْنَا جِذْعًا.
فَجَاءَ زَوْجُهَا كَأَنَّهُ سَفُّودٌ1 مُحْتَرِقٌ
فَقَالَ: "مُرْهَا فَلْتُطْلِقْ عَنِّي" فَقَالَ لَهَا:
أَطْلِقِي عَنْهُ. فَقَالَتْ: نَعَمْ، ائْتُونِي بِبَابٍ
وَغَزْلٍ. فَقَعَدَتْ عَلَى الْبَابِ، وَجَعَلَتْ تَرْقِي
فِي الْغَزْلِ وَتَعْقِدُ، فارتفع الْبَاب، فأخذا يَمِينا
وَشمَالًا، فَلم يقدر عَلَيْهَا.
وَحَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِيُّ2 فِي
حَدِيثٍ ذَكَرَهُ: "إِنَّ الشَّيَاطِينَ، لَا تَسْتَطِيعُ
أَنْ تُغَيِّرَ خَلْقَهَا، وَلَكِنَّهَا تَسْحَرُهُ".
وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ
عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: "إِنَّ الْغُولَ
سَاحِرَةُ الُجِنِّ".
وَحَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا
الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ
مَنْصُورًا، يَذْكُرُ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ
حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ
الدَّجَّالِ، إِنَّ مَعَهُ نَارًا تَحْرِقُ، وَنَهْرَ
مَاءٍ بَارِدٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلَا
يَهْلِكَنَّ بِهِ وَلْيُغْمِضْ عَيْنَهُ، وَلْيَقَعْ فِي
الَّتِي يَرَاهَا نَارًا، فَإِنَّهَا نَهْرُ مَاءٍ
بَارِدٍ"3.
وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، عَنْ
أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَفْتِي،
فَوَجَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ تُوُفِّيَ، وَلَمْ تَجِدْ إِلَّا امْرَأَة من
نِسَائِهِ يُقَال:
__________
1 سفود: تنور.
2 كَذَا فِي البغدادية، وَلَكِن فِي الدمشقية والمصرية:
"مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي" وَلَيْسَ فِي الْخُلَاصَة
لَا مُحَمَّد بن سليم الطَّائِي، وَلَا مُحَمَّد بن مُسلم
الطَّائِفِي، بل فِيهَا: مُحَمَّد بن مُسلم بن سِنِين
الطابعي، وَلَا يبعد أَن يكون الصَّوَاب مَا فيهمَا،
وَيكون تحرف على بعض الناسخين الطابعي بالطائفي وَالله
أعلم. "الأسعردي".
3 البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 50، فتن 26، وَمُسلم: فتن 104،
106، 108.
(1/268)
أَنَّهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهَا: "يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ،
قَالَتْ لِيَ امْرَأَةٌ: "هَلْ لَكِ أَنْ أَعْمَلَ لَكِ
شَيْئًا يَصْرِفُ وَجْهَ زَوْجِكِ إِلَيْكِ؟ "،
وَأَظُنُّهُ قَالَ: فَأَتَتْ بِكَلْبَيْنِ، فَرَكِبَتْ
وَاحِدًا، وَرَكِبْتُ الْآخَرَ، فَسِرْنَا مَا شَاءَ
اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَتْ: "أَتَدْرِينَ أَيْنَ أَنْتِ؟ إِنَّكِ
بِبَابِلَ" وَدَخَلَتْ عَلَى رَجُلٍ، أَوْ قَالَتْ
"رَجُلَيْنِ" فَقَالَا لَهَا: "بُولِي عَلَى ذَلِكَ
الرَّمَادِ" قَالَتْ: "فَذَهَبْتُ فَلَمْ أَبُلْ،
وَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا" فَقَالَا لِي: "مَا رَأَيْتِ؟ "
قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ شَيْئًا".
قَالَا: "أَنْتِ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكِ".
قَالَتْ: فَرَجَعْتُ فَتَشَدَّدْتُ، ثُمَّ بُلْتُ،
فَخَرَجَ مِنِّي مِثْلُ الْفَارِسِ الْمُقَنَّعِ، فَصَعِدَ
فِي السَّمَاءِ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا، فَقَالَا لِي:
"مَا رَأَيْتِ؟ " فَأَخْبَرْتُهُمَا.
فَقَالَا: "ذَلِكَ إِيمَانُكِ قَدْ فَارَقَكِ".
فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا
عَلَّمَانِي شَيْئًا، وَلَا قَالَا لِي كَيْفَ أَصْنَعُ.
قَالَتْ: فَمَا رَأَيْتِ؟ قَلَتُ: كَذَا، قَالَتْ: أَنْتِ
أَسْحَرُ الْعَرَبِ، عَمَلي وَتَمَنَّيْ.
قَالَتْ: فَقَطَعْتُ جَدَاوِلَ، وَقَالَتْ: احْقُلْ1؛
فَإِذَا هُوَ زَرَعٌ يَهْتَزُّ.
فَقَالَتِ: افْرُكْ2 فَإِذَا هُوَ قَدْ يَبِسَ قَالَتْ:
فَأَخَذْتُهُ، فَفَرَكْتُهُ، وَأَعْطَتْنِيهِ فَقَالَتْ:
جُشِّي3 هَذَا، وَاجْعَلِيهِ سَوِيقًا، وَاسْقِيهِ
زَوْجَكِ فَلَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَانْتَهَى
الشَّأْنُ إِلَى هَذَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟
قَالَتْ: وَرَأَتْ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ كَانَ يَسْكُنُ
أَمَجَ4 فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا
أَشْبَهُ النَّاسِ بهاروت وماروت.
__________
1 أحقل: بِصِيغَة الْأَمر، والحقل: "هُوَ الزَّرْع الَّذِي
تشعب ورقه وَظهر وَكثر مَا دَامَ أَخْضَر" كَمَا فِي
الْقَامُوس.
2 افرك: بِصِيغَة الْأَمر، يُقَال للحب إِذا يبس.
3 جشي: أَي دقيه.
4 أمج: اسْم مَوضِع مَاء بَين مَكَّة وَالْمَدينَة،
"نِهَايَة".
(1/269)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ رَوَى هَذَا، بن جريج، عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ نُؤْمِنْ بِهِ، مِنْ جِهَةِ
الْقِيَاسِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ حُجَّةِ الْعَقْلِ،
وَإِنَّمَا آمَنَّا بِهِ مِنْ جِهَةِ الْكُتُبِ
وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَسَلَّمَ، وَتَوَاطُؤِ الْأُمَمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ
عَلَيْهِ، خَلَا هَذِهِ الْعِصَابَةَ، الَّتِي لَا
تُؤْمِنُ إِلَّا بِمَا أَوْجَبَهُ النَّظَرُ، وَدَلَّ
عَلَيْهِ الْقِيَاسُ، فِيمَا شَاهَدُوا، وَرَأَوْا.
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّهُمَا عِلْجَانِ مِنْ
أَهْلِ بَابِلَ، وَقِرَاءَتُهُ "الْمَلِكَيْنِ"
بِالْكَسْرِ، فَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنَ
الْقُرَّاءِ، وَلَا الْمُتَأَوِّلِينَ فِيمَا أَعْلَمُ،
وَهُوَ أَشَدُّ اسْتِكْرَاهًا، وَأَبْعَدُ مَخْرَجًا.
وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى عِلْجَيْنِ شَيْءٌ،
يُفَرِّقَانِ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وزوجه؟!!
(1/270)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَدَافِعَانِ
مُتَنَاقِضَانِ
41- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا
أُمَّةَ بَعْدَ أُمَّتِي، فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِي إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى لِسَانِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: "أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَنْزِلُ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ
وَيَزِيدُ فِي الْحَلَالِ"2.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ
تَقُولُ: "قُولُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسلم،
__________
1 الدَّارمِيّ: الْمُقدمَة 39 وَقد ورد بِلَفْظ.
"عَن عبد الله بن عمر أَن عمر بن عبد الْعَزِيز خطب
فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِن الله لم يبْعَث بعد
نَبِيكُم نبيًّا، وَلم ينزل بعد هَذَا الْكتاب الَّذِي
أنزلهُ عَلَيْهِ كتابا فَمَا أحل الله على لِسَان نبيه
فَهُوَ حَلَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمَا حرم على
لِسَان نبيه فَهُوَ حرَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَلا
وَإِنِّي لست بقاض وَلَكِنِّي منفذ وَلست بِمُبْتَدعٍ
وَلَكِنِّي مُتبع، وَلست بِخَير مِنْكُم غير أَنِّي أثقلكم
حملا أَلا وَإنَّهُ لَيْسَ لأحد من خلق الله أَن يطاع فِي
مَعْصِيّة الله أَلا هَل أسمعت".
وَورد فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة للشوكاني ص320
الحَدِيث بِلَفْظ:
"أَنا خَاتم النَّبِيين، لَا نَبِي بعدِي إِلَّا أَن
يَشَاء الله" رَوَاهُ الجوزقاني عَن أنس مَرْفُوعا، قَالَ:
وَالِاسْتِثْنَاء مَوْضُوع وَضعه أحد الزَّنَادِقَة.
2 لَا يُوجد هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ فِي دواوين
السّنة المتيسرة لدينا، وَمِنْهَا الكت التِّسْعَة،
والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِ لَفْظَة "وَيزِيد
فِي الْحَلَال"، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاك -للشَّيْخ
مُحَمَّد بدير- حفظه الله. وَقد أخرجه البُخَارِيّ: بُيُوع
102، مظالم 31، أَنْبيَاء 49، وَمُسلم: إِيمَان 242، 243،
وَأَبُو دَاوُد: ملاحم 14، وَالتِّرْمِذِيّ: فتن 54،
وَابْن ماجة فتنم 33، وَأحمد 2/ 240، 272، 290، 394، 406،
411.
(1/271)
خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا تَقُولُوا
لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ"1 وَهَذَا تَنَاقُضٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ
فِي هَذَا تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ الْمَسِيحَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ مُتَقَدِّمٌ،
رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يُنْزِلُهُ فِي آخِرِ
الزَّمَانِ، عِلْمًا لِلسَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا}
2 وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ} .
وَإِذَا نَزَلَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ
يَنْسَخْ شَيْئًا مِمَّا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ
يَتَقَدَّمِ الْإِمَامَ مِنْ أُمَّتِهِ، بَلْ يُقَدِّمُهُ،
وَيُصَلِّي خَلْفَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَيَزِيدُ فِي الْحَلَالِ" فَإِنَّ
رَجُلًا قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: "مَا يَزِيدُ فِي
الْحَلَالِ3 إِلَّا النِّسَاءُ" فَقَالَ: "وَذَاكَ"4؛
ثُمَّ ضَحِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلَيْسَ قَوْلُهُ "يَزِيدُ الْحَلَّالَ" أَنَّهُ يُحِلُّ
لِلرَّجُلِ، أَنْ يَتَزَوَّجَ خَمْسًا، وَلَا سِتًّا
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لَمْ يَنْكِحِ النِّسَاءَ، حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ
تَعَالَى إِلَيْهِ، فَإِذَا أَهْبَطَهُ، تَزَوَّجَ
امْرَأَةً، فَزَادَ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، أَيِ
ازْدَادَ مِنْهُ.
فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،
إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَأَيْقَنَ أَنَّهُ بَشَرٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
"قُولُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا تَقُولُوا لَا
نَبِيَّ بَعْدَهُ"؛ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى نُزُولِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ
قَوْلِهَا، نَاقِضًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نَبِيَّ بَعْدِي" لِأَنَّهُ
أَرَادَ: لَا نَبِيَّ بَعْدِي، يَنْسَخُ مَا جِئْتُ بِهِ،
كَمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَسَلَّمَ تَبْعَثُ بِالنُّسَخِ، وَأَرَادَتْ هِيَ: "لَا
تَقُولُوا إِنَّ الْمَسِيح لَا ينزل بعده".
__________
1 لَا يُوجد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أصل
الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ، بل يُوجد عَن أبي هُرَيْرَة
وَغَيره قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا
نَبِي بعدِي" -الشَّيْخ مُحَمَّد بدير-.
2 الْآيَة 61 من الزخرف.
3 وَفِي نُسْخَة: مَا يزِيد فِي الْحَلَال؟ قَالَ: مَا
يَزِيدُ فِي الْحَلَالِ إِلَّا النِّسَاء.
4 وَفِي نُسْخَة، فَقَالَ: وَمَا ذَاك؟
(1/272)
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَدَافِعَانِ
مُتَنَاقِضَانِ
42- مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ:
قَالُوا: رُوِّيتُمْ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى الْمَدِينِ،
إِذَا لَمَّ يَتْرُكْ وَفَاءً لدينِهِ" 1.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ تَرَكَ مَالًا
فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ" 2.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ "مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ" 3.
يَعْنِي: عِيَالًا فُقَرَاءَ، وَأَطْفَالًا لَا كَافِلَ
لَهُمْ.
فَكَيْفَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، عَلَى مَنْ أَلْزَمَ
نَفْسَهُ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْهُ، وَالْقِيَامَ بِأَمْرِ
وَلَدِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَهُ؟ وَهَذَا تَنَاقُضٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا -بِحَمْدِ
اللَّهِ تَعَالَى- تَنَاقُضٌ، لِأَنَّ تَرْكَهُ الصَّلَاةَ
عَلَى الْمَدِينِ، إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً
بِدَيْنِهِ، كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، قَبْلَ
أَنْ يُفْتَحَ عَلَيْهِ الْفُتُوحُ، وَيَأْتِيَهِ
الْمَالُ.
وَأَرَادَ أَنْ لَا يَسْتَخِفَّ النَّاسُ بِالدّينِ، وَلَا
يَأْخُذُوا مَالا يَقْدِرُونَ عَلَى قَضَائِهِ.
فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ،
وَفَتَحَ لَهُ الْفُتُوحَ، وَأَتَتْهُ الْأَمْوَالُ،
جَعَلَ لِلْفُقَرَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ نَصِيبًا فِي
الْفَيْءِ، وَقضى مِنْهُ دين الْمُسلم.
__________
1 البُخَارِيّ: كتاب 38 بَاب 3، وَكتاب 39 بَاب 3 و5
وَكتاب 19 بَاب 15.
وَأَبُو دَاوُد: كتاب 22 بَاب 9، وَسنَن ابْن ماجة: كتاب
15 بَاب 9، وَسنَن الدَّارمِيّ: كتاب 18 بَاب 53، وَأحمد:
2/ 290، 380، 399، 453، 3/ 330، 4/ 47، 50، 5/ 297.
2 البُخَارِيّ: فَرَائض 4، وَمُسلم: جُمُعَة 43، فَرَائض
14-17، وَأَبُو دَاوُد: بُيُوع9، وَالتِّرْمِذِيّ: فَرَائض
1، جنائز69، وَالنَّسَائِيّ: جنائز 67، وَابْن ماجة:
مُقَدّمَة 7 صدقَات 13 فَرَائض 9.
3 البُخَارِيّ: نفقات 15، وَمُسلم: فَرَائض 15-17، أَبُو
دَاوُد: بُيُوع9، وَالتِّرْمِذِيّ: فَرَائض 1، وَابْن
ماجة: فَرَائض 9، 13.
(1/273)
قَالُوا: حديثان مُتَنَاقِضَانِ
43- تَكْرَارُ الِاعْتِرَافِ بِالزِّنَا:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا،
حَتَّى أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ
كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ ثُمَّ رَجَمَهُ فِي
الرَّابِعَةِ" 1.
فَأَخَذَ بِهَذَا قَوْمٌ مِنْ فُقَهَائِكُمْ، وَقَالُوا:
لَا نَرْجُمُ حَتَّى يَكُونَ إِقْرَارُهُ فِي عَدَدِ
الشُّهُودِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يَقُولُ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ثُمَّ رُوِّيتُمْ: أَنَّ رَجُلَيْنِ تَقَدَّمَا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا2 عَلَى
هَذَا وَأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ
مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ.
ثُمَّ إِنَّا سَأَلْنَا رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
فَقَالُوا: عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ
عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا
بِكِتَابِ اللَّهِ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ
عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ
عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمُ ".
فَقَضَى بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ وَقَالَ: "اغْدُ يَا
أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ
فارجمها" 3.
__________
1 البُخَارِيّ: أَحْكَام 21، وَأَبُو دَاوُد: حُدُود 23،
وَأحمد: 1/ 238، 5/ 179.
2 العسيف: الْأَجِير.
3 سبق تَخْرِيجه ص106.
(1/274)
فَاعْترفت، فَرَجَمَهَا.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّهُ قَالَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ
فِي مَجْلِسٍ، وَلَا فِي مَجَالِسَ.
وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ مَاعِزٍ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ هَهُنَا -بِحَمْدِ اللَّهِ
تَعَالَى- اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ، لِأَنَّ إِعْرَاضَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ
مَاعِزٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، إِنَّمَا كَانَ كَرَاهِيَةً
مِنْهُ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا،
وَهَتْكِهِ سِتْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، لَا
لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ.
وَأَرَادَ أَيْضًا أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمْرَهُ،
وَيَعْلَمَ: أَصَحِيحٌ هُوَ؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟
فَوَافَقَ مَا أَرَادَ مِنَ اسْتِبْرَائِهِ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ.
وَلَوْ وَافَقَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ
خَمْسًا أَوْ سِتًّا، مَا كَانَ فِيهِ بَيِّنَةٌ تَلْزَمُ.
وَيَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ لِإِقْرَارِ الزَّانِي
عِنْدَهُ بِالزِّنَا، رِوَايَةُ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ فِي رَجُلٍ اعْتَرَفَ بِالزِّنَا، عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ
اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ
الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ،
نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 1.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِرَافَ، قَدْ يَكُونُ
أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعِ وَأَقَلَّ -إِذَا زَالَتِ
الشُّبْهَةُ فِي أَمْرِ الْمُقِرِّ- حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي
الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ:
"كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَهِيَ
حَامِلٌ مِنْ زِنًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ.
فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِيَّهَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا، فَإِذا
وضعت حملهَا،
__________
1 الْمُوَطَّأ: حُدُود 12.
(1/275)
أَتَاهُ بِهَا، فَأَتَاهُ بِهَا وَقَدْ
وَضَعَتْ، فَأَمَرَهَا أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا، فَإِذَا
فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ، فَفَعَلَتْ، فَأَتَاهُ بِهَا،
فَأَمَرَ بِهَا فَشُقَّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ
رُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا1.
وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا
اعْتَرَفَتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَهَذَا شَاهِدٌ
لِلْحَدِيثِ، الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "اغْدُ
يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ
فَارْجُمْهَا".
وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا، أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ،
لَمَّا رُجِمَ جَزِعَ، فَفَرَّ فَرَجَمُوهُ، وَأَعْلَمُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَزَعَهُ، فَقَالَ: "هَلَّا رَدَدْتُمُوهُ، حَتَّى
أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ".
وَلَوْ كَانَ إِقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، هُوَ الَّذِي
أَلْزَمَهُ الْحَدَّ، لَمَا كَانَ لِقَوْلِ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَّا
رَدَدْتُمُوهُ" مَعْنًى، لِأَنَّهُ قَدْ أَمْضَى فِيهِ
حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَا يَجُوزُ -بَعْدَ إِقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ-
أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ رُجُوعَهُ.
إِنْ رَجَعَ وَإِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ بِغَيْرِ
تَوْقِيتٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، مَتَى شَاءَ، وَأَنْ
يَقْبَلَ ذَلِك مِنْهُ.
__________
1 البُخَارِيّ: حُدُود 27، وَمُسلم؛ تَوْبَة 44، 45 حُدُود
24، وَأَبُو دَاوُد: حُدُود 10، والدارمي: حُدُود 17،
وَأحمد 3/ 491ـ 4/ 435، 437، 440، 5/ 251، 252، 262، 263،
265.
(1/276)
|