جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، ت: الفحل

الحديث الحادي والعشرون
عَنْ سُفيانَ بن عبدِ اللهِ - رضي الله عنه -، قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عَنْهُ أحداً غَيرَكَ، قال: ((قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثمَّ استقِمْ)) رواهُ
مُسلم.
هذا الحديث خرَّجه مسلم (1) من رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن سفيان وسفيان: هو ابنُ عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة، وكان عاملاً لعمرَ بنِ الخطَّاب على الطائف.
وقد رُوي عن سفيان بن عبد الله من وجوهٍ أخَرَ بزيادات، فخرَّجه الإمام أحمد، والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري، عن محمد بن عبد الرحمان بن ماعز (2) ، وعند الترمذي: عبد الرحمان بن ماعز، عن سفيان بن عبد الله قال: قلتُ: يا رسولَ الله، حَدِّثني بأمرٍ أعتصمُ به، قال: ((قل: ربي الله، ثم استقم)) ، قلتُ: يا رسول اللهِ، ما أخوفُ ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال
: ((هذا)) ،
_________
(1) في " صحيحه " 1/47 (38) (62) .
وأخرجه: ابن أبي شيبة (679) ، وأحمد 3/413، وابن أبي عاصم في " السنة " (21) وفي " الآحاد والمثاني "، له (1584) ، والبغوي (16) من طرق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سفيان بن عبد الله، به.
(2) أخرجه: أحمد 3/413، وابن ماجه (3972) .

(2/603)


وقال الترمذي: حسن صحيح (1) .
وخرَّجه الإمام أحمد، والنَّسائي (2) من رواية عبدِ الله بن سفيان الثقفي، عن أبيه: أنَّ رجلاً قال: يا رسولَ الله، مُرني بأمرٍ في الإسلام لا أسألُ عنه أحداً بعدَك،

قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)) . قلت: فما أتَّقي؟ فأومأ إلى
لسانه (3) .
قول سفيان بن عبد الله للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدَك)) طلب منه أنْ يُعلمه كلاماً جامعاً لأمر الإسلام كافياً حتّى لا يحتاجَ بعدَه إلى
غيره، فقالَ لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((قل: آمنتُ باللهِ، ثُمَّ استقم)) ، وفي الرواية الأخرى: ((قل: ربي الله، ثُمَّ استقم)) . هذا منتزع من قوله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (4) ، وقوله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) .
وخرَّج النَّسائي في " تفسيره " (6) من رواية سهيل بن أبي حزم: حدثنا ثابت، عن أنس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، فقال
: ((قد قالها الناسُ، ثم كفروا، فمن مات عليها فهو مِن أهل الاستقامة)) . وخرَّجه الترمذي (7) ، ولفظه: فقال: ((قد قالها الناس، ثم كفر أكثرُهم، فمن مات
عليها، فهو مِمَّنِ استقامَ)) ، وقال: حسن غريب، وسهيل تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ
حفظه (8) .
_________
(1) أخرجه: الترمذي (2410) ، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي)) .
(2) زاد بعدها في (ص) : ((وابن ماجه)) .
(3) أخرجه: أحمد 3/413 و4/384، والنسائي في " الكبرى " (11489) و (11490) وفي " التفسير "، له (509) (510) .
(4) فصلت: 30.
(5) الأحقاف: 13-14.
(6) التفسير (490) وفي " الكبرى "، له (11470) .
(7) في " الجامع الكبير " (3250) وقال: ((حديث غريب ... )) ، وفي بعض النسخ
: ((حسن غريب)) .
(8) قال عنه أحمد بن حنبل: ((روى عن تائب أحاديث منكرة)) ، وقال أبو حاتم: ((ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به ... )) .
انظر: الضعفاء 2/154، والجرح والتعديل 4/230 (6183) ، والكامل 4/526، وتهذيب الكمال 3/330 (2611) .

(2/604)


وقال أبو بكر الصديق في تفسير {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: لم يشركُوا بالله شيئاً. وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيره. وعنه قال: ثم استقاموا على أنَّ الله رَبُّهم (1) .
وعن ابن عباس بإسنادٍ ضعيفٍ قال: هذه أرخصُ آيةٍ في كتاب الله {قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على شهادة أنْ لا إله إلا الله (2) . وروي نحوه عن أنس، ومجاهد، والأسود بن هلال، وزيد بن أسلم، والسُّدِّيِّ، وعكرمة، وغيرهم.
ورُوي عن عمر بن الخطاب أنَّه قرأ هذه الآية على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فقال: لم يَروغوا رَوَغَانَ الثَّعلب (3) .
وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: استقاموا على أداءِ فرائضه (4) .
وعن أبي العالية، قال: ثمَّ أخلصوا له الدينَ والعملَ (5) .
وعن قتادة قال: استقاموا على طاعة الله، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهمَّ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة (6) .
ولعل من قال: إنَّ المرادَ الاستقامة على التوحيد إنَّما أرادَ التوحيدَ الكاملَ الذي يُحرِّمُ صاحبَه على النار، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإنَّ الإله هو الذي يُطاعُ، فلا يُعصى خشيةً وإجلالاً ومهابةً ومحبةً ورجاءً وتوكُّلاً ودعاءً، والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التوحيد؛ لأنَّها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان، قال الله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (7) قالَ الحسن وغيره: هوَ الذي لا يهوى شيئاً إلاَّ ركبه (8) ،
_________
(1) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (326) ، والطبري في " تفسيره " (23551)
و (23552) .
(2) ذكره: السيوطي في " الدر المنثور " 5/682 وعزاه للبيهقي في " الأسماء والصفات " وضعفه بسبب حفص بن عمر العدني. انظر: الضعفاء والمتروكون (133) .
وقول مجاهد والأسود بن هلال والسدي وعكرمة ذكره الطبري في " تفسيره " (23553)
و (23555) و (23556) و (23557) ، والقرطبي في " تفسيره " 15/358، والسيوطي في " الدر المنثور " 5/682.
(3) ذكره: ابن المبارك في " الزهد " (325) ، وأحمد بن حنبل في " الزهد " (601) ، والطبري في " تفسيره " (23558) ، والقرطبي في " تفسيره " 15/358.
(4) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (23560) .
(5) ذكره: ابن كثير في " تفسيره " 7/165.
(6) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (23559) .
(7) الجاثية: 23.
(8) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (24134) .

(2/605)


فهذا يُنافي الاستقامة على التوحيد.
وأما على رواية من روى: ((قُلْ: آمنْتُ بالله)) فالمعنى أظهر؛ لأنَّ الإيمانَ يدخل فيه الأعمالُ الصالحة عند السَّلف ومن تابعهم من أهلِ الحديث (1) ، وقال الله

- عز وجل -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) .
فأمره أنْ يستقيمَ هوَ ومن تاب معه، وأنْ لا يُجاوزوا ما أُمِروا به، وهو الطغيانُ، وأخبر أنَّه بصيرٌ بأعمالهم، مطَّلعٌ عليها، وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} (3) . قال قتادة: أُمِرَ محمد - صلى الله عليه وسلم - أنْ يستقيمَ على أمر الله. وقال الثوري: على القرآن (4) ، وعن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية شَمَّرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رؤي ضاحكاً. خرَّجه ابن أبي حاتم (5) .
وذكر القُشَيْريُّ وغيره عن بعضهم: أنَّه رأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال له: يا رسولَ الله قلتَ: ((شَيَّبَتني هُودٌ وأخواتُها)) ، فما شيَّبك منها؟ قال: ((قوله
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} )) (6) .
وقال - عز وجل -: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (7) .
وقد أمرَ الله تعالى بإقامةِ الدِّين عموماً كما قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
_________
(1) قال ابن تيمية - رحمه الله -: ((وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، والطبري، ومن سلك سبيلهم، فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، مع الإخلاص بالنية الصادقة ... )) .
انظر: الفتاوى لابن تيمية 7/206.
(2) هود: 112.
(3) الشورى: 15.
(4) ذكره: القرطبي في " تفسيره " 16/13.
(5) ذكره: السيوطي في " الدر المنثور " 3/636، ونسبه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(6) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (2439) ، وهو من كلام أبي علي السري، وأصل الحديث: ((شيبتني هود وأخواتها)) تكلمت عليه بتوسع في كتابي " الجامع في العلل "، وهو من أوائل أحاديث الكتاب، يسر الله إتمامه وطبعه.
(7) فصلت: 6.

(2/606)


الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) ، وأمر بإقام الصلاة في غير موضعٍ من كتابه،

كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين.
والاستقامة: هي سلوكُ الصِّراط المستقيم، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً، ويشمل ذلك فعلَ الطَّاعات كلّها، الظاهرة والباطنة، وتركَ المنهيات كُلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها.
وفي قوله - عز وجل - {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} إشارةٌ إلى أنَّه لابُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها، فيُجبَرُ ذلك بالاستغفار المقتضي للتَّوبة والرُّجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: ((اتَّقِ الله حيثُما كُنت، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تَمحُها)) (2) . وقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الناس لن يُطيقوا الاستقامة حق الاستقامة، كما خرَّجه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ثوبانَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ((استَقيموا ولن تُحْصوا، واعلموا أنَّ خيرَ أعمالكُم الصَّلاةُ، ولا يُحافِظُ على الوضوء إلاَّ مؤمنٌ)) ، وفي روايةٍ للإمام أحمد: ((سَدِّدوا وقاربوا، ولا يحافظُ على الوضوء إلاَّ مؤمن)) (3) .
_________
(1) الشورى: 13.
(2) سبق تخريجه وهو الحديث الثامن عشر من هذا الكتاب.
(3) أخرجه: أحمد 5/277 و280 و282، وابن ماجه (277) .
وأخرجه أيضاً: مالك (72) برواية الليثي، والطيالسي (996) ، وابن أبي شيبة (35) ، وابن أبي عمر العدني في " الإيمان " (22) و (23) ، والدارمي (655) ، وابن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (168) ، والطبراني في " الكبير " (1444) وفي
" الأوسط "، له (7019) وفي " مسند الشاميين "، له (217) و (1335) ، والحاكم 1/130، والبيهقي 1/82 و457، والخطيب في " تاريخه " 1/293، وابن عبد البر في
"التمهيد" 24/318-319، والبغوي في " شرح السنة " (155) ، وهو حديث صحيح.

(2/607)


وفي "الصحيحين" (1)
عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سددوا وقاربوا)) .
فالسَّدادُ: هو حقيقةُ الاستقامة، وهو الإصابةُ في جميع الأقوالِ والأعمال
والمقاصد، كالذي يرمي إلى غرض، فيُصيبه، وقد أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليَّاً أنْ يسألَ الله - عز وجل - السَّداد والهدى، وقال له: ((اذكر بالسَّدادِ تسديدَكَ السَّهْمَ، وبالهدى هدايَتك الطَّريق)) (2) .
والمقاربة: أنْ يُصيبَ ما قَرُبَ مِنَ الغرض إذا لم يُصِبِ الغرضَ نفسَه، ولكن بشرط أنْ يكونَ مصمِّماً على قصد السَّداد وإصابة الغرض، فتكون مقاربتُه عن غير
عمدٍ، ويدلُّ عليه قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحكم بن حزن الكُلَفي: ((أيُّها النَّاس، إنَّكم لن تعملوا - أو لن تُطيقوا - كلَّ ما أمرتُكم، ولكن سدِّدوا وأبشروا)) (3) والمعني: اقصِدُوا التَّسديدَ والإصابةَ والاستقامةَ، فإنَّهم لو سدَّدُوا في العمل كلِّه، لكانوا قد فعلوا ما أُمِرُوا به كُلِّه.
فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصِّديق وغيرُه
_________
(1) صحيح البخاري 7/157 (563) و8/122 (6463) ، وصحيح مسلم 8/139

(2816) (71) .
(2) أخرجه: الطيالسي (161) ، والحميدي (52) ، وأحمد 1/88 و134 و138 و154، ومسلم 8/83 (2725) (78) ، وأبو داود (4225) ، والنسائي 8/177 و219-220، وابن حبان (998) من طرق عن أبي بردة، عن علي، به.
(3) أخرجه: أحمد 4/212، وأبو داود (1096) ، وأبو يعلى (6826) ، وابن قانع في
" معجم الصحابة " 1/207، والطبراني في " الكبير " (3165) ، والبيهقي 3/206 وفي
" دلائل النبوة "، له 5/354، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 25/140، والمزي في
" تهذيب الكمال " 2/240 (1409) ، وهو حديث حسن.

(2/608)


قولَه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) بأنَّهم لم يلتفتوا إلى
غيره، فمتى استقام القلبُ على معرفةِ الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّلِ عليه، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته، فإنَّ القلبَ هو ملكُ الأعضاء، وهي جنودهُ، فإذا استقامَ الملك، استقامت جنودُه ورعاياه، وكذلك فسَّر قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} (2) بإخلاص القصد لله وإرادته وحدَه لا شريكَ له.
وأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللسانُ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه، ولهذا لما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة، وصَّاه بعدَ ذلك بحفظ لسانه، وفي
" مسند الإمام أحمد " (3) عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيم قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه)) .
_________
(1) الأحقاف: 13.
(2) الروم: 30.
(3) المسند 3/198، وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة.

(2/609)


وفي " الترمذي " (1) عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً وموقوفاً: ((إذا أصبح ابن آدم، فإنَّ الأعضاءَ كلها تكفر اللِّسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنَّما نحنُ بك، فإنِ استقمتَ استقمنا، وإنِ اعوجَجْتَ اعوججنا)) .
_________
(1) الجامع الكبير (2407) و (2407 م1) وقال عن الحديث الموقوف: ((وهذا أصح من حديث محمد بن موسى)) أي: الحديث المرفوع.

(2/610)