دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين

16 - باب في الأمر بالمحافظة على السنة
أي ما جاء به من أقوال وأفعال وأحوال (وآدابها) تقدم معنى الآداب أول الكتاب، والأدب كالسنة في أصل الطلب إلا أنه دونها في التأكد، ذكره المصنف في «الروضة» .
(قال الله تعالى) : ( {وما آتاكم} ) أعطاكم ( {الرسول} ) من الفيء وغيره ( {فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ) قال السيوطي في «الإكليل» : في الآية وجوب امتثال أوامره ونواهيه، قال العلماء: وكل ما ثبت عنه يصح أن يقال فيه إنه في القرآن أخذاً من هذه الآية: (وقال تعالى: {وما ينطق} ) بما يأتيكم به ( {عن الهوى} ) هوى نفسه ( {إن} ) ما ( {هو إلا وحي يوحى} ) إليه.
(وقال تعالى) : ( {قل} ) أي: للكافرين القائلين ما نعبد الأصنام إلا حباً ليقرّبونا إليه ( {إن كنتم تحبون افاتبعوني يحببكم ا} ) بمعنى أن يثيبكم ( {ويغفر لكم ذنوبكم} ) تقدم في باب المجاهد في حديث: «أعني على نفسك بكثرة السجود» أن محبة الله ملازمة لحبّ رسوله وبالعكس، وأنهما متوقفتان على اتباع الرسول.
(وقال تعالى) : ( {لقد كان لكم في رسول الله أسوة} ) بضم الهمزة وكسرها ( {حسنة} ) أي اقتداء به ( {لمن} ) بدل من لكم ( {كان يرجو ا} ) يخافه ( {واليوم الآخر} ) يوم القيامة، وتقدم وجه لتسميته بالآخر في حديث جبريل في الإسلام والإيمان

(2/413)


والإحسان.
(وقال تعالى) : ( {فلا وربك} ) لا زائدة ( {لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر} ) اختلط ( {بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً} ) ضيقاً أو شكاً ( {مما قضيت} ) به ( {ويسلموا} ) ينقادوا لحكمك ( {تسليماً} ) من غير معارض، وسيأتي فيها مزيد في باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى.
(وقال تعالى) : {فإن تنازعتم} ) اختلفتم ( {في شيء فردوه إلى الله والرسول} .
(قال العلماء: معناه إلى الكتاب والسنة) لفّ ونشر مرتب، وكون المراد من قوله والرسوله سنته وهو بعد وفاته، أما في حياته فعلى ظاهر الآية كما في الجلالين وغيره.
(وقال تعالى) : {من يطع الرسول} ) فيما أمر به ( {فقد أطاع ا} ) لأن الله أمر بطاعته واتباعه.

(وقال تعالى) : {وإنك لتهدي} ) لتدعو بالوحي إليك ( {إلى صراط} ) طريق ( {مستقيم} ) دين الإسلام.
(وقال تعالى) : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ) أي: الله فإن الأمر له في الحقيقة أو لارسول فإنه المقصود بالذكر، وعلى الوجه الثاني فيه مناسبة الآية للباب ( {أن تصيبهم فتنة} ) محنة في الدنيا ( {أو يصيبهم عذاب أليم} ) في الآخرة.
(وقال تعالى:) مخاطباً لأمهات المؤمنين ( {واذكرن ما يتلى في بيوتكم من آيات ا} ) القرآن ( {والحكمة} ) السنةـ (والآيات في الباب) أي: في باب المحافظة على السنة والاقتداء به واتباعه كثيرة.

(2/414)


(وأما الأحاديث) النبوية في ذلك:
156 - (فالأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال) لما خطب وقال: {يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا} ، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها مراراً، فقال رسول الله: «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» ثم قال: (دعوني) أي: من كثرة السؤال ولفظ مسلم «ذروني» (ما تركتكم) «ما» فيه ظرفية مصدرية وآثر تركتكم على وذرتكم ماضي يذر، لأن العرب لا تستعمله إلا في الشعر.
قال سيبويه: اغتناء عنه بترك، وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في هذا الكلام بمعناه فعل لا واو فيه أنفوه، حكاهما القرطبي في تفسير سورة هود من تفسير الكبير وكذا ودع. وقيل: بل استعمل ودع قليلاً، ومنه قوله تعالى: {ما ودعك ربك} (الضحى: 3) على قراءة التخفيف شاذاً، وحديث: «دعوا الحبشة ما ودعوكم» ومعنى قوله: ذروني الخ: لا تكثروا الاستفصال عن المواضع التي تفيد بوجه ظاهر وإن صلحت لغيره كما في «فحجوا» فإنه وإن أمكن أن يراد به التكرار ينبغي أن يكتفي منه بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة الواحدة فإنها مفهومة من اللفظ قطعاً وما زاد مشكوك فيه فيعرض عنه، ولا يكثر السؤال لئلا يقع الجواب بما فيه التعب والمشقة كما وقع لبني إسرائيل فخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته من مثل ذلك ومن ثم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم) وعند مسلم: «فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم» بالرفع لأنه أبلغ في ذم الاختلاف إذ لا يتقيد حينئذٍ بالأكثرية بخلاف لو جرّ (على أنبيائهم) استفيد منه تحريم الاختلاف وكثرة المسائل من غير ضرورة، لأنه توعد عليه بالهلاك، والوعيد عن الشيء دليل تحريمه بل كونه كبيرة، ووجهه في الاختلاف أنه سبب تفرق القلوب ووهن الدين، وذلك حرام فسببه المؤدي إليه حرام، وفي كثرة السؤال إنه من غير ضرورة مشعر بالتعنت أو مفض إليه وهو حرام أيضاً (فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) دائماً على كل تقدير ما دام منهياً عنه حتماً في الحرام وندباً في المكروه إذ لا يمتثل النهي إلا بترك جميع جزئياته، وإلا صدق عليه أنه عاص أو مخالف، وأيضاً فترك المنهي عنه هو استصحاب حال عدمه والاستمرار على حال عدمه وليس في ذلك ما لا يستطاع حتى

(2/415)


يسقط التكليف به، وكون الداعي للمعصية قد يقوى حتى لا يستطاع الكفّ عنها نادر لا يعوّل عليه، وخرج بقوله ما دام الخ نحو أكل الميتة للمضطر وشرب المسكر لإساغة اللقمة لعدم النهي عنه
حينئذٍ (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أي: أطقتم لأن فعله هو إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك متوقف على شروط وأسباب كالقدرة على الفعل ونحوها وبعضها يستطاع وبعضها لا يستطاع فكان التكليف بما يستطاع منه لأن الله تعالى أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.

قال المصنف: وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 116) ولتوقف المأمور به على فعل بخلاف المنهي عنه فإنه كف محض، قال في ذاك (فأتوا منه ما استطعتم) وفي هذا (فاجتنبوه) وهذا من قواعد الإسلام المهمة، ومما أوتيه من جوامع الكلم، لأنه يدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام وبه أو بالآية الموافقة له يخص عموم قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7) وحديث أحمد في «مسنده» عن عبد ابن عمرو مرفوعاً من جملة حديث قال فيه: «انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه» فمن عجز عن ركن أو شرط لنحو وضوء أو صلاة أو قدر على غسل أو مسح بعض أعضاء الوضوء أو التيمم أو على بعض الفاتحة أو إزالة بعض المنكر أتى بالممكن وصحت عبادته (متفق عليه) ورواه أحمد وقال: «فأتمروا ما استطعتم» وله طرق عن أبي هريرة ورواه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان، وقد بسط طرقه وتخاريجه الحافظ السخاوي في تخاريج الأربعين للمصنف.
157 - (الثاني: عن أبي نجيح) بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية بعدها مهملة (العرباض) بكسر المهملة وسكون الراء وبعدها موحدة وآخره ضاد معجمة وأصله الطويل (ابن سارية) بمهملتين بينهما ألف وبعد الراء تحتية خفيفة السلمي من أهل الصفة وهو أحد البكائين، وكان يقول إنه رابع الإسلام (رضي الله عنه) في «التهذيب» للمصنف.
قال محمدبن عوف الحمصي: كل واحد من العرباضبن سارية وعمروبن عنبسة كان يقول: أنا رابع الإسلام. أي رابع من أسلم، ولا يدرى أيهما أسلم قبل صاحبه اهـ. نزل الشام وسكن حمص ومات في فتنة ابن الزبير رضي الله عنهما ويقال سنة خمس وسبعين.

قال ابن

(2/416)


حزم في آخر «سيرته» روي له عن النبي أحد وثلاثون حديثاً، روى له أصحاب السنن الأربع (وقال: وعظنا رسول الله) أي: بعد صلاة الصبح كما جاء في رواية أخرى (موعظة) من الوعظ، وهو النصح والتذكير بالعواقب وتنوينها للتعظيم: أي موعظة جليلة، وجاء في رواية موعظة (بليغة وجلت) بكسر الجيم أي: خافت (منها) أي: من أجلها ويصح أن تكون لابتداء الغاية (القلوب) وكان المقام للتخويف فأتى بذلك لمناسبته (وذرقت) بفتح المعجمة والراء من باب ضرب: سالت (منها العيون) أي دموعها، وأخر هذا عما قبله لأنه إنما ينشأ عنه غالباً (فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع) كأنّ وجه فهمهم لذلك مزيد مبالغته في تخويفهم وتحذيرهم على ما كانوا يألفون منه قبل، فظنوا أن ذلك لقرب موته ومفارقته لهم إذ المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل، ففيه جواز تحكيم القرائن والاعتماد عليها في بعض الأحيان لأنهم فهموا توديعه بقرينة إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة (فأوصنا) أي: وصية جامعة كافية (قال: أوصيكم بتقوى ا) جمع في هذا كل ما يحتاج إليه من أمور الآخرة، لما مر أن التقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكاليف الشرع لا تخرج عن ذلك (والسمع والطاعة) جمع بينهما تأكيداً للاعتناء بهذا المقام، ومن ثم خصة بالذكر عاطفاً له على ما يشمله وغيره وهو التقوى فهو من عطف الخاص على العام لمزيد الاهتمام، ويحتمل أنه من عطف المغاير من حيث إنّ أظهر مقاصد التقوى انتظام الأمور الأخروية، والإمامة أظهر مقاصدها انتظام الأمور الدنيوية، ومن ثم قال عليّبن أبي طالب رضي الله عنه: إن الناس لا يصلحهم إلا إمام
عادل أو فاجر (وإن تأمر عليكم عبد) هو من باب ضرب المثل بغير الواقع على سبيل الفرض والتقدير وإلا فهو لا تصح ولايته، أو من باب الإخبار بالمغيبات: أي إن نظام الشريعة يختلّ حتى توضع الولاية في غير أهلها، الأمر بالطاعة إيثار لأخف الضررين (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فيه من معجزاته الإخبار بما يقع بعده من كثرة الاختلاف وغلبة المنكر، وقد كان عالماً به جملة وتفصيلاً، لما صح أنه كشف له عما يكون إلى أن يدخل أهل الجنة والنار منازلهم، ولم يكن يبينه لكل أحد وإنما كان يحذر منه على العموم، وكان يلقي بعض التفاصيل إلى الخصوص كحذيفة وأبي هريرة (فعليكم) الزموا حينئذٍ التمسك

(2/417)


(بسنتي) أي طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها مما فصلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية الواجبة والمندوبة وغيرها، وتخصيص الأصوليين لها بالمطلوب طلباً غير جازم اصطلاح طارىء قصدوا به التمييز بينها وبين الفرض (وسنة) أي: طريقة (الخلفاء الراشدين المهديين) وهم أبو بكر فعمر فعثمان فعليّ فالحسن رضي الله عنهم وعن بقية الصحابة أجمعين، فإن ما عرف عن هؤلاء أو عن بعضهم أولى بالاتباع من بقية الصحابة إذا وقع بينهم الخلاف فيه ومحل تقليد الصحابة بالنسبة للمقلد الصرف في تلك الأزمنة القريبة من زمنهم.
أما في زمننا فقال بعض أئمتنا: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة. الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد لأن هؤلاء عرفت مذاهبهم واستقرّت أحكامها وخدمها تابعوهم وحرروها فرعاً فرعاً وحكماً حكماً فقلّ أن يوجد فرع إلا وهو منصوص لهم إجمالاً أو تفصيلاً، بخلاف غيرهم فإن مذاهبهم لم تحرر وتدوّن كذلك فلا يعرف لها قواعد يتخرج عليها أحكامها، فلم يجز تقليدهم فيما حفظ عنهم منها لأنه قد يكون مشترطاً بشروط أخرى وكلوها إلى فهمها من قواعدهم، فقلت الثقة بخلوّ ما حفظ عنهم من قيد أو شرط فلم يجز التقليد حينئذٍ (عضوا عليها بالنواجذ) سيأتي معناها، والمعنى: عضوا عليها بجميع الفم احترازاً من النهش وهو الأخذ بأطراف الأسنان، فهو إما مجاز بليغ فيه تشبيه المعقول بالمحسوس، أو كناية عن شدة التمسك بالسنة والجد في لزومها كفعل من أمسك بنواجذه شيئاً وعض عليه لئلا ينزع منه، لأن النواجذ محدودة فإذا عضت على شيء نشبت فيه فلا يتخلص. وقيل معناه الأمر بالصبر على ما يصيبه من العض في ذات الله كما يفعله المتألم مما أصابه من الألم (وإياكم ومحدثات الأمور) كلاهما منصوب بفعل مضمر أي: باعدوا أنفسكم واحذروا الأخذ بالأمور المحدثة في الدين واتباع غير سنن الخلفاء الراشدين (فإن) ذلك بدعة وإن (كل بدعة) وهي لغة المخترع على غير مثال سابق. وشرعاً ما أحدث على خلاف أمر الشارع، ودليله الخاص أو العام (ضلالة) لأن الحق فيما جاء به الشرع فما لا يرجع إليه يكون ضلالة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، والمراد بالضلالة هنا ما ليس له أصل في الشرع وإنما حمل عليه مجرد الشهوة أو الإرادة، بخلاف محدث له أصل في الشرع إما بحمل النظر على النظير أو بغير ذلك فإنه حسن، إذ هو سنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين فمنشأ الذم في البدعة ليس مجرد لفظ محدث أو بدعة بل ما اقترن به

(2/418)


من مخالفته للسنة ورعايته للضلالة، ولذا انقسمت البدعة إلى الأحكام الخمسة، لأنها إذا عرضت على
القواعد الشرعية لم تخل عن واحد منها، فمن البدع الواجبة على الكفاية تعلم العلوم المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة والتي فيها حفظ الشريعة، لأن حفظها واجب على الكفاية فيما زاد على التعين ولا يتأتى حفظها إلا بذلك فوجب.
ومن البدع المحرّمة مذاهب سائر أهل البدع المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. ومن المندوبة كل إحسان لم يعهد في الصدر الأول كإحداث نحو الربط والمدارس والكلام في دقائق التصوف. ومن المكروهة زخرفة المساجد وتزويق المصاحف، ومن المباحة التوسع في لذيذ المآكل والمشارب؛ فعلم أن قوله: «وكل بدعة ضلالة» عام أريد به خاص إذ سنة الخلفاء الراشدين منها مع أنا أمرنا باتباعها لرجوعها إلى أصل شرعي وكذا سنتهم عام أريد به خاص، إذ لو فرض خليفة راشد سنّ سنة لا يعضدها دليل شرعي امتنع اتباعها، ولا ينافي ذلك رشده لأنه قد يخطىء المصيب ويزيغ المستقيم يوماً ما (رواه) أحمد والدارمي في «مسنديهما» .
ورواه عن أحمد (أبو داود) في «سننه» (و) كذا (الترمذي وقال: حديث صحيح) وفي الأربعين للمصنف: وقال حديث حسن، وفي نسخة من كل من الرياض والأربعين: وقال صحيح حسن. وبالنسخة الثانية يعلم أن المصنف اقتصر على أحد الوصفين في كل من الكتابين، ويحتمل أن النسخ عنده مختلفة في ذلك فنقل عن كل من النسخ في كتاب، والله أعلم بالصواب. ورواه ابن ماجه وأبو نعيم وقال: حديث جيد من صحيح الشاميين. وأخرجه الحاكم بنحوه في «مستدركه» وكذا أخرجه الطبراني في «الكبير» والبغوي في «معجم الصحابة» ، وله طرق كثيرة واختلاف في ألفاظه ورواياته، وقد بسطها السخاوي في «تخريج الأربعين» التي جمعها المصنف ثم قال: وبالجملة فقد قال الترمذي: إنه حسن صحيح، وقال الحاكم: إنه صحيح على شرط الشيخين وصححه ابن حبان، بل وعزى شيخنا: يعني الحافظ ابن حجر تصحيحه لابن خزيمة اهـ (النواجذ بالذال المعجمة: الأنياب) كذا اقتصر عليه القاضي عياض في «المشارق» (وقيل: الأضراس) ومن هذا قوله في الحديث «حتى بدت نواجذه» .
قال القاضي عياض في «المشارق» : وهي الأضراس، وقيل: الضواحك، والنواجذ

(2/419)


أيضاً: أواخر الأسنان وهي أضراس العقل اهـ: أي: الذي يدل نباتها على الحلم وهي من فوق وأسفل من كل من الجانبين، فللإنسان أربع. وأشار في «النهاية» إلى أنه المشهور، واقتصر عليه السيوطي فقال في «مختصر النهاية» : النواجذ أواخر الأضراس واحده ناجذ اهـ وبهذا المعنى فسر جمع النواجذ هنا.
158 - (الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل أمتي) أي: أمة الدعوة (يدخلون الجنة إلا من أبى) بفتح الموحدة، أي: امتنع، قال العلقمي: قال الحافظ: ظاهره أن العموم مستمرّ لأن كلاً منهم لا يمتنع من دخول الجنة فلذلك (قيل: ومن يأبى) أي: يمتنع من دخولها (فقال) (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) قال: فبين به أن إسناد الامتناع إليهم عن الدخول مجاز عن الامتناع عن سببه وهو عصيان الرسول والموصوف بالإباء وهو الامتناع إن كان عن أصل الدخول في الإسلام فكافر لا يدخل الجنة البتة، وإن كان بعد الدخول فيه فالمراد منعه عن الدخول فيها من الفائزين اهـ. وقال العاقولي: لما كان المرتكب للمعصية كالرادّ لما دل على تحريمها من الكتاب والسنة أطلق عليه لفظ الإباء وأريد به استحقاقه النار وضعاً للسبب موضع المسبب قال الجوهري: الإباء بالكسر أي: والهمزة الممدوة، ويقال إباءة (رواه البخاري) .

158 - (الرابع: عن أبي مسلم) بصيغة اسم الفاعل من الإسلام (وقيل) : يكنى بـ (أبي إياس) ففيه حذف الجار وإبقاء عمله ومثله سماعي وهو بكسر الهمزة بعدها تحتية ويقال أبو عامر (سلمة) بفتح أوّليه (ابن عمروبن الأكوع) واسمه سنانبن عبد ابن قشيربن خزيمةبن مالك بن سلامانبن أسلم الأسلمي (رضي الله عنه) شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع

(2/420)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ ثلاث مرات في أول الناس وأوسطهم وآخرهم، وكان شجاعاً رامياً محسناً خيراً فاضلاً، غزا مع النبي سبع غزوات. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وسبعون حديثاً، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، وكان يسكن المدينة، ثم بعد قتل عثمان خرج إلى الربذة فسكن بها، ثم عاد قبل وفاته إلى المدينة وتوفي بها سنة أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة (أن رجلاً) .
قال المصنف في «المبهمات» : قال الخطيب: هو بسر ابن راعي العير بفتح المهملة وسكون التحتية الأشجعي ونقله كذلك في «شرح مسلم» وقال ذكره أبو نعيم وابن منده وابن ماكولا وآخرون، وهو صحابي مشهور عده هؤلاء وغيرهم في الصحابة (أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله) تكبراً (فقال: كل بيمينك) أمر ندب على المعتمد والدعاء الآتي عليه لقصده مخالفة السنة النبوية (قال: لا أستطيع، قال) : (لا استطعت) دعاء عليه لمخالفته الحكم الشرعي بلا عذر كما قال الراوي مبيناً لذلك مدرجاً له بآخر الحديث (ما منعه) من متابعة السنة (إلا الكبر) ولا يدل مجرد الكبر والمخالفة على نفاقه كما قال المصنف، بل هو معصية إن كان الأمر في قوله: «كل بيمينك» أمر إيجاب.
c وأخذ القاضي عياض من ذلك نفاقه رده المصنف بما ذكر. ومحل النهي عن الأكل بالشمال حيث لا عذر يمنع من الأكل باليمين من مرض أو قطع وإلا فلا كراهة حينئذٍ (فما رفعها إلى فيه) إجابة لدعوته لاستحقاقه لها بقصده السابق (رواه مسلم) وأخرجه أحمد وابن حبان ورواه الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» من طريق الدارمي وقال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً وفي آخره» : «فما وصلت يمينه إلى فيه بعد» .
160 - (الخامس: عن أبي عبد الله النعمان) بضم النون وسكون العين (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وسكون التحتية ابن سعدبن ثعلبةبن جلاس بضم الجيم وتخفيف اللام كذا قيده عبد الغني المقدسي وغيره. وقال ابن ماكولا: هو خلاس بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام ابن بدربن مالكبن ثعلبةبن كعببن الخزرج الأنصاري هو وأبوه صحابيان

(2/421)


رضي الله عنهما شهد أبوه العقبة الثانية وبدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله. وهو أول أنصاري بايع أبا بكر رضي الله عنه، واستشهد مع خالدبن الوليد بعين التمر سنة اثنتي عشرة من الهجرة بعد انصرافه من اليمامة. وأما النعمان فولد على رأس أربعة أشهر من الهجرة، وهو أول مولود من الأنصار بعد الهجرة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وأربعة عشر حديثاً، اتفقا على خمسة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بأربعة قتل النعمان بالشام بقرية من قرى حمص في ذي الحجة سنة أربع وستين. وقال ابن أبي خيثمة سنة ستين، كذا نقل من «التهذيب» للمصنف ملخصاً، سكن النعمان الشام ثم ولي أمره الكوفة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لتسوُّن صفوفكم) بضم الفوقية وفتح المهملة وضم الواو وتشديد النون، قال البيضاوي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم هنا مقدر ولذا أكده بالنون المشددة وتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد (أو) عاطفة بفتح فسكون: أي: ليكونن منكم التسوية أو (ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي: إن لم تسووا. واختلف في هذا الوعيد، فقيل هو على حقيقته، والمراد تشويه الوجه بتحويل خلقه عن موضعه بجعله موضع القفا، أو تغيير صورة الإنسان وتحويلها إلى صورة أخرى أو نحو ذلك، ويؤيد حمله عليها حديث أبي أمامة «لتسونّ الصفوف أو لتطمسنّ الوجوه» رواه أحمد وفي إسناده ضعف، ولذا قال ابن الجوزي: إنه مثل الوعيد في قوله: {من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها} (النساء: 47) وقيل: إنه
محمول على المجاز، قال المصنف: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول: تغير وجه فلان: أي: ظهر لي من وجهه كراهية، لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيده رواية أبي داود في حديث النعمان هذا «أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم» والحاصل أن الوجه إن حمل على العضو المخصوص فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية أو جعل القدام وراء، وإن حمل على ذات الشخص: فالمخالفة بحسب المقاصد، أشار إلى ذلك الكرماني. قال الحافظ: ويحتمل أن يراد بالمخالفة في الجزاء فيجازي المسويّ بخير ومن لا يسوي بشرّ (متفق عليه) .

(وفي رواية لمسلم) عن النعمان (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا

(2/422)


حتى كأنما يسوي بها القداح) قال المصنف: بكسر القاف هو خشب السهام واحدها قدح بكسر القاف معناه: يبالغ في تسويتها حتى تصير كأنما يقوّم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها (حتى رأى أنا قد عقلنا) بفتح المهملة والقاف أي فهمنا (عنه، ثم خرج يوماً) للصلاة بالقوم (فقام حتى كاد يكبر) تكبير التحرم (فرأى) عطف على خرج أي أبصر (رجلاً) حال كونه (بادياً صدره) أي: ظاهراً خارجاً عن سمته (فقال: عباد الله لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) قال المصنف: فيه الحثّ على تسويتها، وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، وهذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء ومنعه بعض العلماء والصواب الجواز، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو لغيرها أو لا لمصلحة.
161 - (السادس: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل) أي فيه: في «مغني اللبيب» في معاني «من» أنها تكون مرادفة في نحو قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} (الجمعة: 9) اهـ قال المراد في الجني الداني، وهو منقول عن الكوفيين، ومن حججهم قول الشاعر:
عسى سائل ذو حاجة إن منعته
من اليوم مسئولاً إن أيسر في غد
قال: ويحتمل أن تكون من «فيه» تبعيضية على حذف مضاف أي بعض مسئولات اليوم اهـ (فلما حدث) بالبناء للمفعول: أي: أخبر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشأنهم قال: إن هذه النار عدوّ لكم، فإذا نمتم) قال في «المصباح» : نام ينام من باب تعب. نوماً ومناماً فهو نائم والجمع نوّم على الأصل ونيم على لفظ الواحد ونيام أيضاً ويتعدى بالهمز والتضعيف اهـ. والنوم: زوال الشعور من القلب لاسترخاء أعصاب الدماخ بسبب رطوبات الأبخرة الصاعدة إليه من المعدة،

(2/423)


والنعاس مقدمته (فأطفئوها) بقطع الهمزة (عنكم) قال القرطبي: الأمر في الحديث للإرشاد، قال: وقد يكون للندب، وجزم المصنف بأنه للإرشاد لكونه لمصلحة دنيوية. وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية وهي حفظ النفس المحرم قتلها والمال المحرم تبذيره. وقال الطبري: إذا بات الواحد في بيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يأمن معه الاحتراق، وإن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأخصهم بذلك آخرهم نوماً، فمتى فرّط في ذلك كان مخالفاً للسنة.

قال المصنف: والحديث عام يدخل فيه نار السراج وغيره، أما القناديل المسرجة وغيرها إذا أمن الضرر كما هو الغالب فالظاهر أن لابأس به اهـ ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) ورواه ابن ماجه.
162 - (السابع: عنه قال: قال رسول الله: إن مثل) بكسر فسكون ويقال مثل بفتحتين، وهو في اللغة النظير ثم استعمل في كل صفة أو حال فيها غرابة وهي المراد هنا أي إن صفة (ما بعثني الله به من الهدى والعلم) قال ابن ملك: ذكر في العوارف الهدى وجدان القلب موهبة العلم من الله ويجوز أن يكون المراد منهما شيئاً واحداً (كمثل غيث أصاب أرضاً) قيل: فيه تشبيه متعدد، فشبه العلم بالغيث لأنه يحيى القلب الميت إحياء المطر البلد اليابس، وفي التعبير بالغيث دون المطر لطيفة، إذ الغيث مطر محتاج إليه يغيث الناس عند قلة المياه، وقد كان الناس متحيرين قبل بعثته حتى أغاثهم الله بوابل علومه؛ وشبه من ينتفع به بالأرض الطيبة، وشبه من يحمله ولم ينتفع به بالأرض الصلبة الماسكة للماء فينتفع به الناس وشبه من يحمله ولا ينتفع به بالقيعان. وقال ابن ملك: الأولى أنه تشبيه مركب لتوقف أوله على آخره، ألا ترى أنه وصف الغيث بقوله: «أصاب أرضاً» فعلم أنه تشبيه واحد وهو تشبيه الوحي النازل من السماء إلى من ظهر نفعه، وإلى من لم يظهر بالغيث النازل من السماء إلى الأرض ظهر نفعه فيها أو لم يظهر (فكانت منها) حال (طائفة) أي: قطعة (طيبة قبلت الماء وأنبتت

(2/424)


الكلأ) مهموز مقصور: وهو المرعى (والعشب الكثير) قال المصنف: العشب والخلى والكلأ والحشيش كلها اسم للنبات، لكن الحشيش مختص باليابس، والعشب والخلى بالقصر مختصان بالرطب، والكلأ بالهمز يقع على اليابس والرطب. قال ابن ملك: فيكون عطف العشب عليه عطف الخاص على العام للاهتمام بشأنه، وقيل: الكلأ مختص أيضاً بالرطب إلا أنه ما يتأخر نباته ويقل، والعشب ما يتقدم نباته ويكثر ولهذا وصف العشب بالكثير اهـ. وقال الخطابي وابن فارس: الخلى يقع على اليابس وهذا شاذ ضعيف. وفي «شرح المشارق» للكازروني بعد أنّ ذكر أنهما بمعنى. وقيل: الكلأ اليابس. والعشب الذي ابتدأ فيه اليبوسة: وقيل: العشب الرطب، وقيل: الكلأ النبات
والعشب الرطب، وعطف الأخص على الأعم جائز إذ كان بحيث يهتم بأفراده (وكانت) وفي نسخة وكان (منها أجادب) بالجيم والدال المهملة جمع أجدب وهي الأرض التي لا تنبت كذا قال ابن ملك، وكأنه باعتبار القياس، وإلا فقد نقل المصنف عن ابن بطال وصاحب «المطالع» وآخرين أنه جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير قياس كما قالوا في حسن جمعه محاسن، والقياس أن محاسن جمع محسن.

قال المصنف. قال القاضي عياض: لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلا بالدال المهملة، من الجدب ضد الخصب وعليه شرح الشارحون، وكأنه قصد الرد على الخطابي حيث ذكر في اللفظ وجوهاً وجعلها روايات مقبولة وهي أخاذات بالخاء والذال المعجمتين جمع أخاذة وهي الغدران وأحادب بالحاء والدال المهملتين، قال: وليس بشيء. وروي أجارد بالجيم والراء والدال، قال: وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية، ومعناه: متجردة من النبات جمع أجرد (أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان) جمع قاع: وهي الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها قال المصنف وهذا هو المراد في الحديث (لا تمسك ماء) ولما كان بعض القيعان قد ينبت كلأ نفاه بقوله: (ولا تنبت كلأ، فذلك) إشارة إلى ما ذكر من الأنواع الثلاثة وشروع في بيان موارد المثل الثلاثة، فمثل الطائفة الأولى القابلة للماء المنبتة للكلأ (مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم) بكسر اللام (وعلَّم) بتشديد اللام (ومثل من لم يرفع بذلك رأساً) هذا مثل الطائفة الثانية التي أمسكت الماء ولم تنبت به شيئاً، فنفع الله الناس بها ولم تنتفع هي به، وهذا كعالم لم يعمل بعلمه وعلم غيره

(2/425)


وعدم رفع رأسه بالعلم كناية عن عدم الانتفاع به لعدم العمل به (و) مثل من (لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) هذا مثل الطائفة الثالثة التي لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ،
ومثل هذه الطائفة رجل فات عنه التعلم والتعليم، ولا يخفى أن عدم قبول الهدى مستلزم لعدم النفع بالعلم لا في نفسه ولا في غيره (متفق عليه) لكن السياق لمسلم (فقه بضم القاف على المشهور) في الرواية قاله صاحب «العين» والهروي وغيرهما (وقيل: بكسرها) قاله ابن دريد (أي: صار فقيهاً) عالماً بالأحكام الشرعية. أم الفقه بالمعنى اللغوي فهو فقه بكسر القاف لا غير، والضم والكسر روايتان والمشهور الضم، قاله المصنف. وقد تقدم في باب التقوى ذكر هذين الوجهين كما في الفقه بمعنى علم أحكام الشعر، وكان الأخصر الاكتفاء بذلك.
163 - (الثمن: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب) قال المصنف: وفي رواية الدوابّ (والفراش يقعن فيها) لعدم إدراكهن بما يضرهن (وهو) أي: الرجل (يذبهن) بالمعجمة وتشديد الموحدة، أي: يمنعهن رحمة بهن (عنها) لما يعلمه من أن حتفهم بها (وأنا آخذ) روي بوجهين أحدهما اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال والثاني فعل مضارع ذكرهما المصنف وقال: هما صحيحان والأول أشهر (بحجزكم) جمع حجزة بضم المهملة وبعدها جيم ثم زاي، وهي معقد الإزار والسراويل (عن النار وأنتم تفلتون) روي بوجهين فتح أوله وتشديد اللام وبضم الفوقية وسكون الفاء وكسر اللام المخففة وكلاهما صحيح، يقال أفلت مني وتفلت: إذا نازعك الغلبة والهرب ثم غلب وهرب، ومقصود الحديث أنه شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه

(2/426)


على موضع المنع منهم بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساغ في ذلك لجهله (رواه مسلم) ورواه أحمد كما في «الجامع الصغير» .
(الجنادب) جمع جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما، والثالثة حكاها عياض بكسر الجيم وفتح الدال (نحو الجراد) وهو الصرصار. قال أبو حاتم: الجندب على خلقه الجراد له أربعة أجنحة كالجراد وأصغر منها يطير ويصرّ بالليل صرّاً شديداً، وقيل: غيره (والفراش هو المعروف) قال في «شرح مسلم» : قال الخليل: هو الذي يطير كالبعوض، وقال غيره: ما تراه كصغائر البق يتهافت في النار، ولذا قال المصنف (الذي يقع في النار، والحجز جمع حجزة: وهي معقد الإزار والسراويل) .
164 - (التاسع: عنه) أي: عن جابر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر) بالبناء للفاعل (بلعق الأصابع) إما يلعقها بنفسه أو يلعقها غيره ممن لا يتقذر بذلك من زوجة وجارية وولد ومن في معناه كتلميذ يعتقد بركته ويود التبرك به (و) لعق (الصحفة) وذلك لكسر النفس بالتواضع (قال) منبهاً على علة الأمر بذلك (فإنكم لا تدرون في أية) أي: أيّ طعامكم كما في الرواية بعده (البركة) قال المصنف: الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ولا يدري أن تلك البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة، والمراد بالبركة هنا ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة الله تعالى أو غير ذلك (رواه مسلم) .
(وفي رواية له) عن جابر (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها) ولا يدعها كما يفعله بعض المترفين استكباراً (فليمط) بضم التحتية. قال الجوهري حكى أبو عبيد ماطه وأماطه: نجاه وقال الأصمعي: أماطه لا غير أي لينح ويزل (ما كان) أي: حصل (بها) أي: فيها أو الباء للإلصاق أو الملابسة (من أذى) أي: مستقذر من غبار وتراب، فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولا بد من

(2/427)


غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيواناً ولا يتركها للشيطان (وليأكلها ولا يدعها) يتركها (للشيطان) قيل: إنه مأخوذ من شطن بمعنى بعد، وقيل: من شاط بمعنى احترق، وأل يحتمل كونها للجنس أو للعهد الذهني أي إبليس. وفي الحديث إثبات الشياطين وأنهم يأكلون (ولا يمسح يده بالمنديل) قال المصنف: هو معروف وهو بكسر الميم. قال ابن فارس في «المجمل» لعله مأخوذ من المندل وهو النعل، وقال غيره: مأخوذ من الندل وهو الوسخ لأنه يندل به، قاله أهل اللغة: تندلت بالمنديل. قال الجوهري: ويقال أيضاً تمندلت، وأنكر الكسائي تمندلت (حتى يلعق) بفتح التحتية (أصابعه) محافظة على البركة (فإنه لا يدري في أي طعامه البركة) .

فائدة: قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : قال شيخ شيوخنا: يعني الحافظ العسقلاني: وقع من حديث كعببن عجرة عند الطبراني في «الأوسط» صفة لعق الأصابع ولفظه «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام» قال شيخنا في «شرح الترمذي» : كأن السرّ فيه أن الوسطى أكثر تلويثاً لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها ولأنها لطولها أول ما ينزل في الطعام، أو أن الذي يلعق يكون بطن كفه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ الوسطى انتقل إلى السبابة على جهة يمينه وكذلك الإبهام اهـ.
(وفي رواية له) عن جابر أيضاً (إن الشيطان يحضر أحدكم عند شأنه كله) وفي نسخة «عند كل شيء من شأنه» فيه التحذير منه والتنبيه على ملازمته للإنسان في جميع أحواله وتصرفاته، فينبغي أن يتأهب ويحترز منه ولا يغترّ بما يزينه له (حتى) غاية لملازمته (يحضره عند، طعامه فإذا سقطت من أحدكم لقمة فليمط ما كان بها من أذى فليأكلها ولا يدعها للشيطان) وسيأتي زيادة في معاني هذه الأحاديث في كتاب آداب الطعام إن شاء الله تعالى.
165 - (العاشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة) تقدم في

(2/428)


حديث النوّاس معنى الموعظة وأن تنوينها للتعظيم ( {فقال: يا أيها الناس إنكم محشورون} ) بعد البعث (إلى الله عزّ وجلّ حفاة) جمع حاف من لا نعل برجله (عراة) عن الثياب (غرلاً) بضم المعجمة وسكون الراء: أي قلفاً. والغرلة: القلفة ( {كما بدأنا أول خلق نعيده} ) بعد إعدامه والكاف متعلقة بنعيد وضميره عائد لأول وما مصدرية ( {وعداً علينا} ) منصوب بوعدنا مقدر قبله وهو مؤكد لمضمون ما قبله ( {إنا كنا فاعلين} ) ما وعدنا، وذكره استدلالاً على إعادة كل مخلوق بجميع أجزائه (ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح وما بعدها مقدر وعطف عليه قوله: (وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم) إن قلت: هذا يدل على أن إبراهيم أفضل. قلت: لا يلزم من اختصاص النبي بفضيلة كونه أفضل مطلقاً، أو المراد غير المتكلم بذلك قاله الكرماني.
قال السيوطي في «التوشيح» : قيل: الحكمة في ذلك أنه ألقي في النار عرياناً، وقيل: لأنه أول من لبس السراويل وقد جبر عن هذا السبق بكونه يكسي حلتين كما في حديث ذكره البيهقي. قال القرطبي (ألا وإنه) أي: الشأن (سيجاء) بالبناء للمفعول (برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال) بكسر الشين والمراد جهة النار. قال ابن النحوي: لعلهم منافقون، وقيل هم مسلمون قصروا في بعض الحقوق، وسيأتي معنى قوله مرتدين على الوجهين (فأقول: يا ربّ هم أصحابي) رواية البخاري في «التفسير» «فأقول يا رب ارحم أصحابي» قال السيوطي في «التوشيح» : هو للأكثر مصغر، وللكشميهني غير مصغر. قال الخطابي: فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك، وإنما وقع ذلك لبعض جفاة الأعراب ولم يقع لأحد من الصحابة المشهورين اهـ. قلت: ويحتمل أن المراد بقوله أصحابي: أي من أمتي التابعين لملتي. فالصحبة مجازية ومعرفته لهم حينئذٍ برؤية نحو الغرّة والتحجيل مما تختص به هذه الأمة، وهذا أنسب بقوله في أول الحديث «برجال من أمتي دون أصحابي» (فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أبهم ولم يعين تفخيماً لشأنه وبيانه بعد ليكون أدلّ على قيام العدل وقوام الحجة عليهم (فأقول) مسلماً الأمر الله (كما قال

(2/429)


العبد الصالح) يعني عيسىبن مريم (وكنت عليهم شهيداً) أي: رقيباً أمنعهم مما يقولون ( {ما دمت فيهم} {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب} ) الحفيظ ( {عليهم} ) على أعمالهم ( {وأنت على كل شيء} ) من قولي لهم وقولهم بعدي وغير ذلك ( {شهيد} ) مطلع عالم به ( {إن تعذبهم} ) أي: من دام على الكفر منهم ( {فإنهم عبادك} ) وأنت مالكهم متصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك ( {وإن تغفر لهم} ) أي: لمن آمن منهم ( {فإنك أنت العزيز} ) الغالب على أمره ( {الحكيم} ) في صنعه كذا في «تفسير الجلالين» . وظاهر التشبيه في قوله كما قال العبد الصالح الخ أن هذا القول كان من عيسى على جهة التسليم وأنه قد علم من آمن منهم، فقوله: {إن تعذبهم} أي:
على كفرهم وفريتهم السابقة فهم مستحقون لذلك، ولا اعتراض عليك لأنك تصرّفت في عبادك {وإن تغفر لهم} أي: لمن تاب منهم، أشار إليه ابن النحوي. قال: وقيل علم عيسى أنهم يعصون بعده، فقال: {وإن تغفر لهم} أي: ما أحدثوه من المعاصي (فيقال لي) بيان لما أحدثوا (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) قال القاضي عياض: هذا لصحة من تأول أنهم أهل الردة، ولذا قال فيهم سحقاً سحقاً، ولا يقول ذلك في مذنبي أمته بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم. وقيل هؤلاء صنفان: أحدهما عصاة مرتدون عن الاستقامة لا عن الإسلام وهؤلاء مبدلون الأعمال الصالحة بالسيئة، والثاني مرتدون إلى الكفر حقيقة ناكصون على أعقابهم اهـ «ومنذ» هنا ظرف (متفق عليه. غرلاً) بضم فسكون جمع أغرل (أي: غير مختونين) .
166 - (الحادي عشر: عن أبي سعيد) وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو زياد (عبد ابن مغفل) بضم

(2/430)


الميم وفتح المعجمة وتشديد الفاء ابن عبد غنم، وقيل: ابن عبدنهمبن عفيفبن أسحمبن ربيعةبن عذار، وقيل: ابن عديبن ثعلبةبن ذؤيب، وقيل: زويدبن سعدبن عدابن عثمانبن عمروبن أدّبن طابخةبن إلياسبن مضربن نزال المزني البصري «ومزينة» امرأة عثمان بن عمرو ونسبوا إليها، وعبد الله (رضي الله عنه) من أهل بيعة الرضوان، قال عبد الله: إني لممن رفع أغصان الشجرة عن رسول الله. سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة وكان أحد البكائين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} (التوبة: 92) الآية، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر. توفي بالبصرة سنة ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي لوصيته بذلك (قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف) بفتح المعجمة الأولى وسكون الثانية وبالفاء: رمى الحصى بالسبابة والإبهام بأن يضعها على أحدهما ويرميها بالآخر وقال على سبيل الاستئناف لبيان سبب النهي (إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ) بالهمزة: أي لا يقتل (العدو) ولا يجرحه (وإنه يفقأ) بالفاء والقاف والهمزة: أي يقلع (العين) قال المصنف: قال القاضي: كذا رويناه. قال: وفي بعض الروايات «ينكى» بفتح التحتية وكسر الكاف غير مهموز. قال القاضي: وهو أوجه هنا لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة وليس هذا موضعه إلا على تجوّز وإنما هذه النكاية، يقال نكيت العدو وأنكيته نكاية ونكأت بالهمز لغة فيه، قال: فعلى هذه اللغة تتوجه رواية شيوخنا (ويكسر السن) أي: إنه ضرر لا نفع فيه (متفق عليه. وفي رواية لمسلم: أن قريباً لابن مغفل خذف فنهاه) عنه (وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال: إنها لا تصيد صيداً) أي: الخذفة لا يحصل في الصيد كما لا يحصل
منها مصلحة في الحرب (ثم أعاد) القريب الخذف بعد سماع ذلك (فقال: أحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ثم عدت تخذف)

(2/431)


وتخالف السنة (لا أكلمك أبداً) قال المصنف، فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم وأنه يجوز هجرانه دائماً، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا. أما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائم، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له كحديث كعببن مالك السابق.
167 - (الثاني عشر: عن عابس) بموحدة مكسورة ثم مهملة (ابن ربيعة) النخعي الكوفي ثقة مخضرم من كبار التابعين كذا في «التقريب» للحافظ (قال: رأيت عمربن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر الأسود ويقول: إني أعلم) في رواية أخرى للبخاري «أما وا إني لأعلم» (أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع) أي: إلا بإذنالله. قال في «فتح الباري» : وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد «أن عمر لما قال هذا قال له عليّبن أبي طالب: إنه يضر وينفع، وذكر أن الله تعالى لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رقّ وألقمه الحجر» وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتي يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد» وفي إسناده راو ضعيف جداً. وقد روي أن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي أخرجه ابن عباس قال: «رأيت عمر قبَّل الحجر ثلاثاً ثم قال: إنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك، ثم قال عمر: رأيت النبي فعل مثل ذلك» قال الطبراني: إنما فعل ذلك لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان (ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك) في قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيه، وهي قاعدة عظيمة في اتباع النبي فيما يفعله

(2/432)


ولو لم نعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر خاصية ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر (متفق عليه) زاد مسلم في رواية له «ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفياً» ولم يذكر «يقبلك» . كذا في «تجريد الأصول» للبارزي.

باب في وجوب الانقياد
أي: الاستسلام ظاهراً والرضا باطناً (لحكم الله وما يقوله من دعى) بالبناء للمفعول (إلى ذلك) أتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد موضع الضمير تفخيماً لشأنه (وأمر بمعروف أو نهى) بالبناء لذلك أيضاً (عن منكر) .
(قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} ) تقدم الكلام على ما يتعلق بمعناها في أول الباب قبله، وقد حكى السيوطي في «أسباب النزول» له خلافاً في سبب نزولها، فقيل في تخاصم الزبير والأنصاري في سراح الحرة: فأمر الزبير أن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلاّ نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} . أخرجه

(2/433)


الأئمة الستة وقيل: في تخاصم الزبير وحاطببن أبي بلتعة في ماء، فقضى أن سقى الأعلى ثم الأسفل. أخرجه ابن أبي حاتم. وقيل: سببه اختصام رجلين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردّنا إلى عمر، فأتيا إليه فقال الرجل: قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا فقال ردنا إلى عمر، فقال أكذلك؟ قال: نعم، قال نعم: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضى بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال ردّنا إلى عمر فقتله، فأنزل الله الآية. قال السيوطي: أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود مرسلاً، وهو غريب في إسناده ابن لهيعة، وله شاهد أخرجه رحيم في «تفسيره» عن ضمرة اهـ ملخصاً.
(وقال تعالى: {إنما كان قول المؤمنين} ) أي: القول اللائق لهم ( {إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ) بالإجابة ( {وأولئك} ) حينئذٍ ( {هم المفلحون} ) الناجون (وفيه من الأحاديث) النبوية (حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في أول الباب قبله) هو قوله: «دعوني ما تركتكم» الخ (وغيره من الأحاديث فيه) أي: في معنى الحديث المذكور من طاعة الله ورسوله ظاهراً وباطناً.
1681 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت) بالبناء للفاعل (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية: {ما في السموات وما في الأرض} ) خلقاً وملكاً ( {وإن تبدوا} ) تظهروا ( {ما في أنفسكم} ) من السوء والعزم عليه ( {أو تخفوه} ) تسرّوه ( {يحاسبكم} ) يجزكم ( {به ا} ) يوم القيامة (الآية) أي إلى قوله: {وا على كل شيء قدير} (البقرة: 284) ومنه محاسبتكم وجزاؤكم (اشتد ذلك على

(2/434)


أصحاب رسول الله، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بركوا جثياً على الركب) بضم ففتح كما هي عادة الخائف الوجل (فقالوا أي) : بفتح الهمزة وسكون التحتية حرف لنداء القريب (رسول الله كلفنا) بالبناء للمفعول (من الأعمال ما نطيق) الإتيان به (الصلاة والصيام والجهاد والصدقة) بالنصب بدل مفصل من مجمل ويجوز فيه الرفع على القطع (وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها) قال المصنف: قال المازري: يحتمل أن يكون إشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق. وعندنا أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً.
واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا؟ (قال) مخوّفاً لهم من قطيعة العصيان وقطيعة امتناع قبول الأوامر (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) من اليهود والنصارى (من قبلكم) في محل الحال أو الصفة ( {سمعنا} ) قولك ( {وعصينا} ) أمرك ( {بل قولوا} {سمعنا} ) ما أمرتنا به سماع قبول ( {وأطعنا} ) أمرك اغفر ( {غفرانك} ) أو نسألك غفرانك يا ( {ربنا} ) وحذف أداة النداء لعله إيماء إلى أنه ينبغي للداعي أن يكون في كمال الحضور حتى كأنه في حضرة الحق سبحانه، ومن كان كذلك لا ينادي ( {وإليك} ) لا إلى غيرك ( {المصير} ) الرجوع (فلما اقترأها) أي: قرأها (القوم) أي: آية {ما في السموات} (وذلت) أي: انقادت بالاستسلام (بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها) بكسر فسكون وبفتحتين أي عقب نزولها من غير فاصل (آمن) صدّق (الرسول بما أنزل إليه من ربه) وهو القرآن (والمؤمنون) معطوف عليه، وقيل مبتدأ خبره (كل آمن) وتنوين كل للعوض أي كل واحد منهم آمن (با وملائكته وكتبه ورسله)

(2/435)


رتبهم كذلك لترتبهم في الوجود على ذلك الترتيب ( {لا نفرّق} ) أي: يقولون لا نفرّق في الإيمان بالرسل (بين أحد من رسله) بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كفعل اليهود والنصارى ( {وقالوا سمعنا} ) ما أمرنا به سماع قبول ( {وأطعنا} ) أمرك ( {غفرانك ربنا وإليك المصير} ) الرجع بالبعث.
قال القرطبي المفسر وهو تلميذ القرطبي شارح «مختصر مسلم» كما نقل عنه في آخر سورة النمل: لما تقرّر الأمر على أن {قالوا سمعنا وأطعنا} مدحهم الله تعالى وأثنى عليهم في هذه الآية ورفع المشقة في الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحملهم المشاق من الذلة والمسكنة والجلاء كما قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله والعياذ با (فلما فعلوا ذلك) أي: قالوا ما أمروا بقوله من قوله سمعنا وأطعنا (نسخها الله تعالى فأنزل الله {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ) قال المصنف بعد نقل عن القاضي عياض بيان وجه النسخ الذي توقف فيه المازري: وقد اختلف الناس في هذه الآية، فأكثر المفسرين من الصحابة ومن بعدهم على ما تقدم فيها من النسخ، وأنكره بعض المتأخرين قال لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار، وليس كما قال هذا المتأخر فإنه وإن كان خبراً فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس والتعبد بما أمرهم النبي بذلك وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب، ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة. وروي عن بعض المفسرين أن معنى النسخ هنا إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق من هذا الأمر، فأزيل عنه بالآية الأخرى واطمأنت نفوسهم، وهذا القائل يرى أنهم لم يلزموا ما لا يطيقون لكن ما يشق عليهم من التحفظ من خواطر النفس وإخلاص الباطن فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك ما لا يطيقون فأزيل عنهم هذا الإشفاق وبين أنهم لم يكلفوا إلا وسعهم، وعلى هذا لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق إذ ليس فيه نص على تكليفه. وذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة في إخفاء اليقين والشك للمؤمنين والكافرين فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، هذا آخر كلام القاضي. وذكر الإمام الواحدي الخلاف في معنى الآية ثم

(2/436)


قال: والمحققون يختارون أن تكون الآية محكمة غير منسوخة اهـ. وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً
إلا وسعها} أي: ما تسعه قدرتها. قال القرطبي في «المفهم» : الوسع الطاقة والجهد، وهذا خبر من الله تعالى أنه لا يأمرنا أي من وقت نزول الآية إلا بما نطيقه ويمكننا إيقاعه عادة وهو الذي لم يقع في الشريعة غيره ويدل على ذلك تصفحها. وقد حكى الإجماع عليه. قال تلميذه في «التفسير» : وبذلك انكشفت الكربة على المسلمين في تأولهم أمر الخواطر إنما الخلاف في جواز ذلك عقلاً، فمنهم من جوّزه ومنهم من منعه ( {لها ما كسبت} ) من الخير أي ثوابه ( {وعليها ما اكتسبت} ) من الشرّ: أي وزره، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوسته به نفسه. وعبر في الحسنة باللام من حيث هي مما يفرح بكسبه ويسرّ المرء بها فيضاف إلى ملكه، وفي السيئة بعلى من حيث هي أوزار متحملات صعبة. وقال ابن عطية في «تفسيره» : وعبر بالكسب في الحسنة لأنها تكتسب بلا تكلف لكون مكتسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، وبالاكتساب في السيئة لأن كاسبها يحتاج إلى خرق حجاب نهي الله ويتخطاه اهـ ملخصاً. قولوا: ( {ربنا لا تؤاخذنا} ) بالعقاب ( {إن نسينا أو أخطأنا} ) أي: تركنا الصواب لا عن عمد كما آخذت به من قبلنا (قال نعم) أي: قد فعلت، وقد رواه ابن عباس بهذا اللفظ بدل قوله نعم.
رواه مسلم. قال القرطبي: فيه دليل على أنهم ينقلون الحديث بالمعنى. والأصح جوازه من العالم بمواقع الألفاظ وأن ذلك لا يجوز لمن بعد الصدر الأول لتغير اللغات وتباين الكلمات. قولوا ( {ربنا} ) استجب ذلك ( {ولا تحمل علينا إصراً} ) مرا يثقل علينا حمله ( {كما حملته على الذين من قبلنا} ) أي: من

(2/437)


بني إسرائيل في قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقرض موضع النجاسة (قال نعم) أي: قد فعلت ( {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة} ) قوة ( {لنا به} ) من التكاليف والبلاء ( {قال نعم} . {واعف عنا} ) امح عنا ذنوبنا ( {واغفر لنا وارحمنا} ) في الرحمة زيادة على المغفرة (أنت مولانا) سيدنا ومتولي أمرنا ( {فانصرنا على القوم الكافرين} ) بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم. فإن شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، قال القرطبي في «التفسير» : خرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون روي عن معاذبن جبل «أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين» قال ابن عطية: هذا يظن به أنه رواه عن النبي، فإن كان كذلك فكمال، وإن قال بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن اهـ (رواه مسلم) .

18 - باب في النهي عن البدع ومحدثات الامور
بكسر ففتح (ومحدثات الأمور) أي: التي ليست على قواعد الشرع ولا فيها يؤيدها.
(قال الله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} ) إذ هما ضدان وبترك أحدهما يقع الآخر، والحق ما جاء به الكتاب والسنة نصاً أو استنباطاً. وفي أحكام القرآن للسيوطي: سئل مالك عن شهادة اللاعب بالشطرنج والنرد أيجوز؟ قال: أما من أدمنها فلا لقول الله {فماذا بعد الحق إلا الضلال} فهذا كله من الضلال اهـ.
(وقال تعالى: {ما فرطنا في

(2/438)


الكتاب من شيء} ) قال الخازن في «تفسيره» : يعني اللوح المحفوظ لأنه يشتمل على أحوال المخلوقات، وقيل: المراد بالكتاب القرآن أي إنه مشتمل على جميع الأحوال اهـ.
(وقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} - أي الكتاب والسنة) لف ونشر مرتب، وتقدم الكلام في معناها في باب الأمر بالمحافظة على السنة.
(وقال تعالى: {وأن هذا} ) الذي وصيتكم به ( {صراطي مستقيماً} ) حال ( {فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} ) الطرق المخالفة له ( {فتفرق} ) فيه حذف إحدى التاءين ( {بكم عن سبيله} ) أي: دينه. وفي الآية التفات من المتكلم إلى الغيبة.
(وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر ذنوبكم} ) سبق الكلام عليها في الباب المذكور (والآيات في الباب) أي: النهي عن البدع (كثيرة معلومة وأما الأحاديث) النبوية في ذلك فكثيرة جداً بكسر الجيم صفة مصدر محذوف أي كثرة جداً: أي تامة مبالغة فيها (وهي مشهورة) عن علماء السنة المشتغلين بها (فنقتصر على) إيراد (طرف) بفتح أوليه المهملين أي جانب (منها) .
1691 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: من أحدث) أي: ابتدع

(2/439)


(في أمرنا) أي: ديننا (هذا) أي: دين الإسلام (ما) أي: الذي أو شيئاً (ليس منه بأن لم يشهد له أصل من أصوله) ، فلا ينافي ما تقدم من أن من البدع ما هو واجب ومنها ما هو مندوب (فهو رد) أي: مردود لا يلتفت إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول كالخلق على المخلوق. قال المصنف: هذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشهاره في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به لذلك. وقال الحافظ العسقلاني: هذا الحديث معدود من أصول الدين وقاعدة من قواعد. وقال الطوفي: هذا الحديث يصح أن يسمى نصف أدلة الشرع (متفق عليه) ورواه أبو داود وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
(وفي رواية لمسلم) ورواها أحمد أيضاً عن عائشة قال الشيخ نفيس الدين سليمان العلوي ومن خطه نقلت على نسخة له من هذا الكتاب: هذه الرواية في مسلم قد ذكرها البخاري في «صحيحه» تعليقاً بصيغة الجزم ذكرها في كتاب البيوع في باب النجس وفي باب «إذا اجتهد العالم أو الحاكم» وقد ذكره المصنف في «الأربعين» له فقال رواه البخاري ومسلم اهـ وما ذكره عن كتاب الأربعين للمصنف لم أجده فيه كما قال، بل الذي فيه الاقتصار على العزو إلى مسلم كما هنا (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) أي: أمر الدين (فهو ردّ) وهذا أعم من اللفظ الأول فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المترتبة عليها وفي ردّ المحدثات ورد جميع المنهيات إذ ليست من أمر الدين، ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: «أمرنا» أي أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد ينتقض والمأخوذ عليه مستحق.
1702 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب) خطبة لأمر يقتضيها من تحذير عن منهي أو تخويف من عقوبة (احمرت) بتشديد الراء (عيناه وعلا صوته واشتد غضبه) لما يتجلى عليه من بوارق الجلال ولوامع أضواء الأنظار وشهود أحوال أمته وتقصير

(2/440)


أكثرهم في امتثال ما يصدر عنه، ومن ثم مثل جابر حاله في إنذاره بمجيء القيامة وقرب وقوعها وتهالك الناس فيما يؤذيهم بحال من ينذر قومه عند غقلتهم بجيش قريب منه يقصد الإحاطة بهم بغتة من كل جانب بحيث لا يقرب منهم أحد فقال: (حتى كأنه منذر جيش) أي: مخبر بجيش العدو الذي يخاف (يقول) في إنذاره لهم فهو صفة منذر (صبحكم) العدو مغيراً عليكم (ومساكم) كذلك فاحتفظوا منهـ فكما أن هذا لشدة اعتنائه بحال قومه يرفع صوته وتحمرّ عيناه ويشتدّ غضبه من تغافلهم عما يستأصلهم ويهلكهم كذلك حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشدة حرصه على أمته وعظم رأفته ورحمته بهم وخوفه عليهم من الساعة وأهوالها، ومن ثم عقب ذلك جابر بقوله عطفاً على كأنه (ويقول بعثت أنا) أكد به ليصح العطف (والساعة كهاتين) بالرفع والنصب قال المصنف: والمشهور النصب على المفعول معه.
قال القاضي عياض: يحتمل أنه تمثيل لمقاربتهما وأنه ليس بينهما أصبع أخرى، كما أنه لا نبيّ بينه وبين الساعة، ويحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة كنسبة التقارب بين الأصبعين تقريباً لا تحذيراً (ويقرن) بضم الراء على المشهور الفصيح وحكي كسرها (بين أصبعيه) تثنية أصبع وفيه عشر لغات تثليث الهمزة والموحدة والعاشرة أصبوع (السبابة) سميت بذلك لأنهم كانوا يشيرون بها عند السب (والوسطى، ويقول: أما بعد) فيه استحباب قولها في خطب الوعظ والجمع والعيد وغيرها وكذا في خطب الكتب المصنفة واختلف في أول من تكلم بها وتقدم بسطه في خطبة الكتاب (فإن خير الحديث كتابالله، وخير الهدي محمد) قال العلقمي: هو بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون الدال أيضاً كذا جاءت الرواية بالوجهين.
وقال القاضي عياض: روينا في مسلم بالضم وفي غيره بالفتح، وفسره النووي على رواية الفتح بالطريق: أي أحسن الطرق طريقه، وعلى رواية الضم بالدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى: 52) وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوام} (الإسراء: 9) أما الهداية بمعنى اللطف والتأييد فتفرد بها سبحانه ومنه قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص: 56) اهـ ملخصاً (وشرّ الأمور محدثاتها) أي: ما

(2/441)


لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا أصل له فيها. وروي شرّ كما قال الطيبي بالنصب عطف على اسم وإن وبالرفع على محل إن مع اسمها (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص كما تقدم في حديث العرباضبن سارية في باب المحافظة على السنة (ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه) هو موافق لقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 2) أي أحق. قال أصحابنا: كان النبيّ إذا احتاج إلى طعام أو غيره وجب على صاحبه بذله له، وجاز له أخذه من مالكة المضطرّ له، وهذا وإن جاء له إلا أنه لم يقع (من ترك مالاً فلأهله) الوارثين له وإن استغرقوا فما بقي من فرضهم إليه (ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ) .
قال الحافظ: هذا تفسير لقوله «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» قال أهل اللغة: الضياع بفتح الضاد المعجمة العيال. قال ابن قتيبة: أصله مصدر ضاع يضيع ضياعاً، المراد من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع، فأوقع المصدر موقع الاسم كما تقول: من مات وترك فقراء اهـ. قال بعضهم: وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع كجائع وجياع. قال السيوطي: قال أبو البقاء: هو بفتح الضاد وهو في الأصل مصدر وليس للكسر هنا معنى اهـ. وقوله: «وعليّ» بتشديد الياء: أي: قضاء ذلك الدين، فقيل كان يقتضيه تكرماً، قال المصنف: والأصح أنه كان واجباً عليه، وهل هو من خصائصه أو واجب على الإمام بعده كذلك من بيت المال إن لم يكن ثمة أهم منه؟ وقوله: «وإليّ» أي: الضياع، ففي الحديث لف ونشر غير مرتب (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه، كلهم من حديث جابر.
ــــ (وعن العرباضبن سارية رضي الله عنه حديثه السابق) بالرفع مبتدأ خبره الظرف قبله (في باب المحافظة على السنة) .

(2/442)


19 - باب في ثواب من سن سنة حسنة
بأن كانت قواعد الشرع تمدح ذلك. (و) عقاب (من سن سنة) أي طريقة: (سيئة) بأن كانت على خلاف ما تقدم (قال الله تعالى) في مدح المؤمنين بذكر بعض أوصاف محامدهم ( {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجاً وذرياتنا قرّة أعين} ) لنا بأن نراهم مطيعين لك. قال بعضهم: في هذا القول منهم إشارة إلى أنه لما كمل نفعهم أحبوا أن يعود ذلك على أتباعهم، وبدءوا بالزوجات للإشارة إلى أن في مدحهم صلاحاً للأبناء لأن من شأنهم أن يأتوا على نعت أبويهم. قيل: أفضل سعادة المرء أن يؤتى ولداً نجيباً. والدعاء من الآباء للأبناء وإن كان لغيرهم أي الأبناء فهو في الحقيقة صلاح للآباء، لأن العبد يؤتى يوم القيامة في صحيفته حسنة فيقول من أين لي هذه؟ فتقول الملائكة: من استغفار ولدك «وقالت طائفة: إن الولد إذا عمل طاعة كتب ضعفها لأبويه ( {واجعلنا للمتقين إماماً} ) في الخير.
(وقال تعالى: {وجعلناهم أئمة} ) يقتدي بهم في الخير ( {يهدون} ) الناس ( {بأمرنا} ) .
1711 - (وعن أبي عمرو وجرير) بفتح الجيم وكسر أولى الراءين بينهما تحتية ساكنة (ابن عبد ا) بن جابربن مالكبن نضربن ثعلبة البجلي الأحمسي بالمهملتين الكوفي (رضي الله عنه) وبجيلة، وهي بنت صعيربن سعد العشيرة أم أنمار بنت أوس نسبوا إليها: قال ابن قتيبة قدم جرير على النبي سنة عشر من الهجرة في رمضان فبايعه وأسلم. وكان عمر يقول: جرير يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً يصل إلى سنام البعير، وكان نعله ذراعاً نزل الكوفة ثم تحول إلى أفريقيا ومات بها سنة إحدى وخمسين. وقيل: أقام بالجزيرة وتوفي بها

(2/443)


سنة أربع وخمسين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث: اتفقا على ثمانية منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة: ومناقبه كثيرة، ومن مستظرفاتها أنه رضي الله عنه اشترى له وكيله فرساً بثلاثمائة درهم، فرآها جرير فتخيل أنها تساوي أربعمائة درهم، فقال لصاحبها: أتبيعها بأربعمائة درهم؟ قال نعم، ثم تخيل أنها تساوي خمسمائة، ثم ستمائة ثم سبعمائة ثم ثمانمائة، فاشتراها بثمانمائة. وذكرها المصنف في «التهذيب» وغيره (قال: كنا في صدر) أول (النهار عند رسول الله) نتشرف برؤياه ونستمطر الفيوض الإلهية من سحب محياه (فجاءه قوم عراة) جمع عار (مجتابي النمار) حال وسيأتي ضبطهما ومعناهما، قال المصنف: أي: خرقوها وقوروا وسطها (أو) شك من الراوي: أي قال مجتابي النمار أو قال مجتابي (العباء) وهو بفتح العين المهملة وبالموحدة والمد جمع عباءة وعباية لغتان (متقلدي السيوف عامتهم) بتشديد الميم: أي معظمهم (من) قبيلة (مضر بل كلهم من مضر) أي: مقصورون عليها لا يتجاوزونها إلى غيرهم (فتمعر) بتشديد العين المهملة: أي تغير (وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة) أي: شدة الاحتياج من عدم مواساة الأغنياء لهم بما يدفع ضررهم كما هو الواجب عليهم، إذ يجب على الكفاية على مياسير المسلمين دفع ضرر المحتاجين بإطعام الجائع وإكساء العاري
وهؤلاء كذلك ولم يبادر الأغنياء إلى سد فاقتهم، فهذا سبب التمعر لا مجرد رؤية الفاقة بهم لأنها شأن الصالحين من الأمة (فدخل) أي: منزله (ثم خرج) منه (فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى) أي: الظهر لأن الإقامة مختصة بالفريضة وأول فريضة بعد صدر النهار الظهر (ثم خطب فقال: يا أيها الناس) الآية مكية والخطاب لأهل مكة إلا أن لفظ الناس عام والحكم بعده غير مقصور عليهم (اتقوا ربكم) أي: عقابه، بأن تطيعوه (الذي خلقكم من نفس واحدة) آدم (إلى آخر الآية) وهو (إن الله كان عليكم رقيبا) حافظاً لأعمالكم فيجازيكم عليها: أي: لم يزل متصفاً بذلك، ووجه مناسبتها لما هو

(2/444)


فيه أن فيها اتحاد الناس في خلقهم من نفس واحدة ثم الأمر باتقاء الأرحام على قراءة النصب وقرنه باتقاء الله الدال على أن صلتها من الله تعالى بمكان. وختمها بقوله:
{رقيبا} ما تحمل كل غني على سد خلة المحتاج لاسيما الرحم، لأن من رأى شقيقه ورحمه في غاية الحاجة ولم يصله كان قاطعاً لرحمه وقرابته غير متق ولا مستحضر لكونه رقيبا عليه (و) قال (الآية التي في آخر الحشر) وهي قوله تعالى: ( {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} ) وفيها غاية الحث على ما في التي قبلها (تصدق) خبر بمعنى الأمر وهو أبلغ لدلالته على الوقوع: أي: ليتصدق (رجل) نكرة وضع موضع الجمع المعرف كما اقتضاه السياق فأفاد العموم، ومن ثم كرر من هنا من غير عاطف فقال: (من ديناره: من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره) أي: ورجل من درهمه وهكذا (حتى قال: ولو بشق تمرة) أي: ليتصدق ولو كان بشق تمرة ومن للجنس: أي: ببعض ما عنده من هذا الجنس تبعيضية ومجرورها والظرف في محل الحال أو إبتدائية متعلقة بتصدق: أي: من دينار له وإن احتاجه لأن الإيثار في ذلك شأن الكمل، قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: 9) (فجاء رجل من الأنصار بصرة) رواه مسلم كذا مبهماً في كتاب الزكاة، وعين أنها في ورق في روايته في كتاب العلم آخر صحيحه (كادت كفه تعجز) بكسر الجيم (عنها بل) إضراب مفيد للتأكيد والتحقيق (قد عجزت ثم تتابع) بمثناتين فوقيتين وبعد الألف (الناس) أي: في إتيان كل بما قدر عليه (حتى رأيت كومين من طعام وثياب) هو بفتح الكاف وضمها.
قال القاضي: ضبطه بعضهم بالفتح وبعضهم بالضم، قال ابن سراج: هو بالضم اسم لما كوم وبالفتح المرة الواحدة، قال: والكومة بالضم: الصبرة والكوم العظيم من كل شيء؛ والكوم: المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي: والفتح هنا أولى لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية (حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل) أي: يستنير ويضيء لما حصل عنده

(2/445)


من الفرح باغتناء أولئك المحتاجين ومبادرة أصحابه إلى الامتثال (كأنه مذهبة) سيأتي ضبطه وأن المراد منه على القولين الصفاء والاستنارة (فقال رسول الله: من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: طريقة مرضية، وإن لم يكن حسنها بالنص بل بالاستنباط بأن دعا لفعلها بقول أو فعل أو أعان عليها أو فعلها فاقتدى به في فعلها (فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده) أي: ومثل أجره فتم مضاف وإنه لما تسبب في إيجاده جعل كأنه العامل لها المأجور بها ففي الكلام تجوّز (من غير أن ينقص من أجورهم شيء) فاعل ينقص: أي: إن حصول أجر مثل الفاعل لها لدلالته عليها لا يدخل به شيء من النقص في أجورهم (ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة) معصية وإن قلَّت بأن فعلها فاقتدى به فيها أو دعا إليها أو أعان عليها (كان عليه وزرها) أي: وزر عملها (ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) وذلك لأن فعل المكلفين وإن كان غير موجب ولا متقض لثواب ولا عقاب بذاته إلا أن الله تعالى أجرى عادته الإلهية بربطهما به ارتباط المسبب بالسبب وليس للعبد تأثير في صدور الفعل عنه بوجه/ فكما يترتب كل منهما على ما يباشره بترتب على ما هو السبب فيه بنحو إرشاد أو أمر، فلما انفكت جهة المباشرة عن جهة جزاء الدلالة لم ينقص أجر الدالّ من أجر المباشر شيئاً. وعلم من الحديث أن له من مضاعفة الثواب بحسب مضاعفة أعمال أمته ما لا يحيط به عقل ولا يحده حد؛ وذلك أن له مثل ثواب أصحابه بالنسبة لما عملوه وما دلوا عليه من بعدهم المضاعف لهم ثوابه إلى يوم
القيامة، وهكذا في كل مرتبة من مراتب المبلغين عنه عند انقضاء الأمة ومنه يعلم عظيم فضل كل أهل مرتبة المتضاعف المتعدد بتعدد من بعدهم، فتأمله لتعلم فضل السلف على الخلف والمتقدمين على المتأخرين، كذا في «فتح الإله» . قال المصنف: وفي هذا: أي: من سن سنة حسنة الخ تخصيص قوله: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وقد تقدم انقسام البدعة إلى خمسة أقسام. (رواه مسلم) في كتاب الزكاة والعلم من صحيحه.
(قوله مجتابي النمار هو) بضم الميم و (بالجيم وبعد الألف موحدة والنمار) بكسر النون (جمع نمرة بفتح فسكر

(2/446)


وهي كساء من صوف مخطط) ومعناها قاطعيها كما قال (ومعنى مجابيها: لابسيها) حال كونهم (قد خرقوها) أي: محل جيوبها (في رءوسهم) ونصب لابسيها الخبر عن «معنى» لمشاكلة المفسر المفسر (والجوب) المأخوذ منه مجتاب المذكور (القطع) ، ومنه قوله تعالى: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} : أي: (نحتوه وقطعوه) واتخذوه بيوتاً بالوادي وادي القرى (وقوله تمعر هو بالعين المهملة) المشددة (أي تغير) من قولهم مكان أمر: أي: أجدب (وقوله: رأيت كومين) ضبط كما تقدم عن القاضي (بفتح الكاف وضمها) وتقدم عنه أن الأول هو الراجح (أي صبرتين) بضم صاد المهملة اسم للمجموع من الطعام (قوله: كأنه مذهبة) بضم الميم و (بالذال المعجمة) الساكنة (وفتح الهاء وبالباء الموحدة، قال القاضي عياض) في «المشارق» (وغيره) من الأئمة (وصحفه بعضهم فقال: مدهنة بدال مهملة) ساكنة (وبضم الهاء وبالنون) المفتوحة (وكذا ضبطه الحميدي) بل لم يذكر «في» بين الصحيحين غير هذه الرواية إن صحت، المدهن: الإناء الذي يدهن فيه. وهو أيضاً اسم للنقرة في الجبل التي يستنقع فيها ماء المطر فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء وصفاء هذا الدهن (والصحيح المشهور) قال المصنف في «شرح مسلم» : قال القاضي: والصواب (هو الأول) وهو المعروف في الروايات، وذكر في «تفسيره» على هذا وجهين: أحدهما معناه فضة مذهبة فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود وجمعها مذاهب: وهو شيء كانت العرب تصنعه من جلود وتجعل فيه خطوطاً مذهبة يرى بعضها إثر بعض (والمراد به على الوجهين) أي: ضبطه بالنون والباء وبالمهملة والنون

(2/447)


(الصفاء والاستنارة) .
1722 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ليس من) زائدة لتأكيد استغراق النفي (نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول) وهو قابيل القاتل لأخيه هابيل حين تزوج كل منهما بأخته التي مع الآخر في بطن واحدة، وكان شريعة آدم عليه السلام أن بطون حواء كانت بمنزلة الأقارب الأباعد. وحكمته تعذر التزوج فاقتضت مصلحة بقاء النسل تجويز ذلك فحينئذٍ قتل قابيل هابيل لأن زوجته كانت أجمل فأدى به حسده إلى قتله، وهذا لا يمنع السبب المذكور في الآية لإمكان أن سبب القتل به هذا الحسد/ وأفهم قوله الأول أنه أول أولاد آدم، فإنهما أول قاتل ومقتول من ولد آدم (كفل) بكسر الكاف وسكون الفاء: أي: نصيب (من) إثم (دمها لأنه كان أول من سن القتل) ففعله بأخيه فكل من فعله بعده مقتد به ولو بواسطة أو وسائط (متفق عليه) قال زين العرب في «شرح المصابيح» إن قلت هذا مناف لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) قلت: كل واحدة من النفسين المباشرة والمتسببة وازرة إثمها اهـ. وقد تقدم بسطه في الكلام على الحديث قبله.

20 - باب في الدلالة على الخير
بتثليث الدال المهملة والأفصح الفتح (على خير) ديني أو دنيوي ليس فيه كراهة دينية

(2/448)


(والدعاء إلى هدى أو ضلالة) أي: في ثواب الأولين وعقاب الأخير.
(قال الله تعالى: {وادع إلى ربك} ) أي: ادع الناس إلى ربك بتوحيده وعبادته. وفيها الأمر بالدعاء سواء أسمع أم لا. وفي ذلك إشارة إلى أنه ينبغي الذكر وإن لم ينفع.
(وقال تعالى: {ادع} ) الناس يا محمد ( {إلى سبيل ربك} ) دينه ( {بالحكمة} ) بالقرآن ( {والموعظة الحسنة} ) مواعظه أو القول الرفيق.
(وقال تعالى: {وتعاونوا على البرّ} ) فعل ما أمرتم به ( {والتقوى} ) ترك ما نهيتم عنه، وهذا الأمر عام في سائر الطاعات، فرض في الفروض، مندوب في المندوب.
(وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ) فيه إشارة إلى أن الدعاة إلى الحق والخير أفضل للأمة ولذا ميزهم بالذكر، وفي قوله: و «منكم» إشارة إلى أنه لا يكون سائر الناس في رتبة بل يتفاوتون، إذ يكون العالم والأعلم والفاضل والأفضل.
1731 - (وعن أبي مسعود عقبةبن عمرو الأنصاري البدري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول الله: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله) بسببه كما في مسلم عن أبي مسعود قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أبدع بي فاحملني، قال: ما عندي، قال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله: من دلّ على خير» الخ، وقوله: «أبدع بي» بضم الهمزة وسكون الموحدة آخره مهملتان أي هلكت راحلتي وانقطع بي، وروي بدع بضم الموحدة وتشديد الدال. قال عياض وغيره: وليس بمعروف في اللغة؛ وقوله: «من دل» الخ قال المصنف: المراد أن له ثواباً مثل ما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدرهما سواء اهـ. وذهب بعضهم إلى أن المثلية في أصل

(2/449)


الثواب دون التضعيف المزيد للعامل. واختار القرطبي أنه مثله حتى في التبعيض قال: لأن الثواب على الأعمال إنما هو بفضل من الله فيعطيه لمن يشاء على أيّ شيء صدر منه، خصوصاً إذا صحت النية التي هي أصل الأعمال في طاعة عجز عن فعلها لمانع منع منها، فلا بعد في مساواة أجر ذلك العامل لأجر ذلك القادر الفاعل أو يزيد عليه. قال: وهذا جارٍ في كل ما ورد مما يشبه ذلك كحديث «من فطر صائماً فله مثل أجره» اهـ. قلت: وحديث الترمذي الذي فيه «ورجل ليس عنده شيء من الدنيا وتمنى أنه لو كان ذلك لأنفقه فيما أنفقها فيه من الخيرات صاحبه فهما في الأجر سواء أو كما قال» . والحديث الآتي فيه يشهد ظاهرهما لما قاله القرطبي (رواه مسلم) تقدم في شرح خطبة الكتاب بيان من خرّجه والحديث عقبه زيادة على مسلم.
1742 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من دعا إلى هدى) أي: من أرشد غيره إلى فعل خير عظيم كثير أو ترك ضده كإماطة الأذى عن الطرق أو أمره به أو أعانه عليه (كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) فعمل بدلالته أو امتثل (لا ينقص ذلك) الأجر العظيم المعطي للدالّ على دلالته (من أجورهم) المعطاة على أعمالهم (شيئاً) لاختلاف جهة الجزاء كما تقدم بسطه في الباب قبله وهو لازم تارة ومتعد أخرى، وقد استعمل بهما في الحديث واستعمل قاصراً في الحديث السابق عن جرير في الباب قبله كما تقدم باقي هذا الحديث (ومن دعا إلى ضلالة) أي: من أرشد غيره إلى فعل إثم وإن قلّ أو أمره به أو أعانه عليه (كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه) عليها وامتثل أمره فيها (لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً. رواه مسلم) وغيره ممن تقدم ثمة.

(2/450)


1753 - (وعن أبي العباس) وقيل: أبو يحيى (سهلبن سعد) بن مالكبن خالدبن ثعلبة ابن حارثةبن عمروبن الخزرجبن ساعدةبن كعببن الخزرج الأنصاري (الساعديّ رضي الله عنه) كان اسمه حزناً فسماه النبيّ سهلاً. قال الزهري سمع سهل من النبيّ، وكان له في وفاة النبيّ خمس عشرة سنة، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين. قال ابن سعد: وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي ليس فيه خلاف، وقال غيره: بل فيه الخلاف كذا في «التهذيب» للمصنف. قلت: ويؤيد الخلاف الذي نقله المصنف ما تقدم في باب التقوى من «اليواقيت الفاخرة» أن آخر من مات بالمدينة السائببن يزيد المعروف بابن أخت النمر. توفي سنة إحدى وتسعين، وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وثمانية وثمانون حديثاً، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر) جرت عادة العرب الكناية بيوم كذا عن غزوته سواء كانت في يوم أقل أو أكثر، هذا المقال صدر منه في بعض أيام تلك الغزوة فإنها كانت أياماً (لأعطينّ الراية غدا رجلاً يفتح الله على يديه) والتنوين في رجل للتعظيم، وأبدل منه ما يزيد في تعظيمه قوله: (يحب الله ورسوله) بالنصب (ويحبه الله ورسوله) أي: جامع للوصفين حائز للشرفين المتلازمين {يحبهم ويحبونه} {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وتقدم أن المراد من محبة الله للعبد توفيقه لمرضاته وإنابته، والمراد من محبة العبد ورسوله امتثال أوامرهما واجتناب مناهيهما (فبات الناس يدوكون) يخوضون (ليلتهم) أي: فيها (أيهم يعطاها) بالبناء للمفعول (فلما أصبح الناس غدواً) هو السير أول النهار، والرواح: السير آخره هذا أصلهما، وقد يستعمل كل في موضع الآخر (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو) الإفراد باعتبار لفظ كل قال في «مغني اللبيب» إذا أضيفت كل إلى معرفة فقالوا: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناه وقد اجتمعا في قوله
تعالى:

{إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم} (مريم: 93 - 94) والصواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفرداً مذكراً على لفظها نحو {وكلهم آتيه} وقوله: «كلكم راع» وأماـ لقد أحصاهمـ فجملة

(2/451)


أجيب بها القسم المقدر وليست خبراً عن كل وضميرها راجع لمن ومن معناه الجمع اهـ (أن يعطاها) ورجاؤها ذلك لا لذات الراية إنما هو لشرف صاحبها من كونه محباً تعالى ورسوله محبوباً لهما (فقال: أين عليبن أبي طالب؟ فقيل: يا رسول الله هو يشتكي عينيه) أي: بالرمد كما جاء في رواية أخرى (قال: فأرسلوا إليه) إن كان فاعل قال ضمير يعود إلى النبي كما يقتضيه السياق فيكون قوله: «فأرسلوا إليه» بصيغة الأمر مرفوعاً، وإن كان فاعله يعود إلى الراوي ففي الكلام اختصار، فقال أرسلوا إليه فأرسلوا إليه، ولم أقف فيه على ضبط (فأتى) بالبناء للمفعول (به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له) أي: بالعافية (فبرىء) عقب ذلك حالاً معجزة له وكرامة بإجابة دعوته فزال الوجع وآثاره (حتى كأن) بتخفيف النون: أي: كأنه (لم يكن به وجع) فيهما (فأعطاه الراية فقال: يا رسول الله أقاتلهم) أي: أؤقاتلهم بتقدير همزة الاستفهام قبل الفعل وحذفها دفعاً لثقل توالي همزتين (حتى يكونوا مثلنا) في الإسلام ويدخلوا في الدين (قال: انفذ) بضم الفاء وبالذال المعجمة: أي: امض (على رسلك) أي: على هينتك ولا تعجل وأصله السكون والثبات (حتى تنزل بساحتهم) هي الناحية والفضاء بين دور الحي (ثم) أي: بعد وصولك لها (ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق ا) الواجب (فيه) من الأعمال البدنية كالصلاة والصيام، والمالية كالزكاة والجامعة لهما كالحج والعمرة. وتمسك بهذا الحديث قوم فقالوا: يجب الدعاء قبل القتال.
والصحيح أنه مخصوص بمن لم تبلغه الدعوة لأن النبي أغار على بني المصطلق وهو غادون (فوا لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً) أي: ينقذه من الكفر والضلال بدلالتك له على الإسلام والهدى (خير لك من حمر النعم) أي: من أن تكون لك، وحمر النعم: هي الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب،

(2/452)


ويضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه، وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرّة من الآخرة الباقية خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معها لو تصورت كما سبق في الكلام على شرح هذه الجملة مع بيان من رواها في آخر شرح خطبة الكتاب. وفي الحديث بيان فضل العلم والدعاء إلى الهدى وسن الدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة (متفق عليه) وحديث عليّ تقدم في باب المبادرة «إلى الخيرات» من حديث مسلم فلا زيادات فيه هنا (قوله: يدوكون) بالدال المهملة (أي: يخوضون ويتحدثون) قال المصنف: وفي بعض نسخ مسلم «يذكرون» بالذال المعجمة وبالراء، و (قوله رسلك) بالجر على الحكاية (بكسر الراء وفتحها) وسكون السين فيهما (لغتان والكسر أفصح) وعليه اقتصر ابن الأثير في «النهاية» فقال الرسل بالكسر: الهينة والتأني، قال الجوهري: يقال افعل كذا وكذا على رسلك: أي: اتئد فيه كما يقال على هينتك.

1764 - (وعن أنس رضي الله عنه أنّ فتى من أسلم) أبي القبيلة وهو كما قال الحازمي في كتاب الأنساب: أسلمبن أفصىبن حارثةبن عمروبن عامربن عويمربن عمر، كذا ساقه البرقي.
وقال خليفةبن خياط: أسلمبن أفصىبن حارثةبن امرىء القيسبن ثعلبةبن المازنبن الأزدبن الغوث، وهم خلق كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء ورواة الحديث اهـ.
قلت وعلى القول الثاني جرى الأصفهاني في كتاب «لبّ الألباب مختصر كتاب الأنساب» للسمعاني (قال: يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به) الجهاز: ما يحتاج إليه المسافر (قال: ائت فلاناً فإنه كان قد تجهز) للغزو (فمرض) فتأخر له. ففيه الدلالة على الخير، وفيه أن من نوى صرف شيء في خير وتعذر عليه استحب له بذله في خير آخر ولا يلزمه ذلك إلا بالنذر (فأتاه فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ

(2/453)


يقرئك) بضم التحتية (السلام ويقول لك: أعطني الذي تجهزت به) أي: إعانة لي على الخير (فقال) مسارعاً لامتثال أمر المصطفى (يا فلانة) كناية عن اسم المرأة، وقد تقدم بسط فيه عن «التهذيب» للمصنف (أعطيه الذي تجهزت به) أي: من الراحلة والزاد وغيره مما هيأه مما يحتاجه المسافر (ولا تحبسي) تؤخري (منه شيئاً، فوا لا تحبسين) في نسخة بحذف النون، فإن ثبتت رواية خرجت على أنها لمناسبة ما قبلها كما خرّج على ذلك قوله: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» الحديث على أن حذف النون لغير الجازم والناصب لغة حكاها المصنف وغيره (منه شيئاً فيبارك) بالنصب (الك فيه) لأنه تصرف فيه على خلاف رضا مالكه وهواه، لأنه أمر بدفعه أجمع لمن أرسله النبي، فإذا خالفت وحبست منه بعض الشيء تستكثره له لا يبارك لها فيه (رواه مسلم) . وفي الحديث دلالته لذلك المنقطع على ذلك الذي تجهز ثم ترك للمرض، ففيه مناسبة الترجمة.

21 - باب في التعاون على البر والتقوى
(قال الله تعالى: {وتعاونوا} ) أي: ليعن بعضكم بعضاً ( {على} ) اكتساب ( {البر} ) قال ابن عباس: متابعة السنة ( {والتقوى} ) وتقدم في الباب قبله فوائد في الآية.
(وقال تعالى: {والعصر} ) الدهر؛ أو ما بعد الزوال، أو صلاة العصر، أو زمان رسول الله، أقسم به كما أقسم

(2/454)


بمكانه تنبيهاً بذلك على أن زمانه أفضل الأزمان وأشرفها، وجواب القسم ( {إن الإنسان} ) أل فيه للاستغراق ( {لفي خسر} ) أي: خسران ونقصان في تجارة لأن تجارة الإنسان عمره، فإذا ضاعت الساعة منه في معصية فهو الخسران المبين الظاهر، أو في طاعة فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان به، فكان في فعل غير الأفضل تضييع وخسران، فبان بذلك أنه لا ينفك إنسان عن خسران ( {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ) فليسوا في خسر، وكل ما مر من عمر الإنسان في طاعة الله فهو في صلاح وخير. وما كان بضده فهو فساد وهلاك ( {وتواصوا} ) أي أوصى بعضهم بعضاً ( {بالحق} ) أي: الإيمان والتوحيد، وقيل: القرآن والعمل بما فيه ( {وتواصوا بالصبر} ) على الطاعة وعن المعصية.
قال الخازن: وقيل أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وهرم ففي نقص وتراجع، إلا الذين آمنوا فإن الله يكتب أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحبتهم وهي مثل قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} (التين: 5 - 6) اهـ (قال الإمام) : هو لغة: من يقتدى به.
وفي عرف الشرع من يقتدى به في الخير (الشافعي) عالم قريش المحمول عليه «لا تسبوا قريشاً، فإن عالمها يملأ الأرض علماً» محمدبن إدريسبن العباسبن عثمانبن شافعبن السائببن عبيدبن عبد يزيدبن هاشمبن المطلببن عبد مناف جد النبي، لقي النبي وهو مترعرع، وأسلم أبوه يوم بدر بعد أن أسر بها وفدى نفسه. ولد الشافعي بغزة على الأصح سنة خمسين ومائة ثم حمل إلى مكة ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين والموطأ وهو ابن عشر، وتفقه على مسلمبن خالد المعروف بالزنجي لشدة شقرته من أسماء الأضداد، وأذن له في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى مالك ولازمه مدة، ثم قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه وصنف بها كتابه القديم، ثم عاد إلى مكة فأقام بها شهراً، ثم خرج إلى مصر ولم يزل بها ناشراً للعلم ملازماً للاشتغال بجامعها العتيق إلى أن ماتـ وهو قطب الوجود يوم الجمعةـ سلخ رجب سنة أربع ومائتين ودفن بعد العصر من يومه. ومناقبه كثيرة أفردت بالتآليف في مجلدات. ومن شعر الشافعي (رحمه ا) :

أمتّ مطامعي فأرحت نفسي
فإن النفس ما طمعت تهون

(2/455)


وأحييت القنوع وكان ميتاً
ففي إحيائه عرضي مصون
إذا طمع يحل بقلب عبد
علته مهانة وعلاه هون
(كلاماً) مفعول، قال: وجاز عمله فيه مع أنه مفرد، وينصب القول الجمل لأنه يؤدي مؤداها ولم أقف على لفظه المذكور، ولم يذكر المصنف من خرّجه عنه حتى يرجع إليه (معناه أن الناس أو) للتردد (أكثرهم في غفلة عن تدبر) مقاصد (هذه السورة) وما هي مؤدية ومنبهة بشرفه من التواصي بالحق والصبر ومن عمل البر، وخسران من لم يكن كذلك.
1771 - (وعن أبي عبد الرحمن) وقيل: أبو طلحة، وقيل: أبو زرعة (زيدبن خالد الجهني) بضم الجيم نسبة إلى جهينة.
قال الحازمي: جهينةبن زيدبن ليثبن سودبن أسلمبن لحافبن قضاعة قبيلة عظيمة منها بشر كثير من الصحابة اهـ. سكن زيد (رضي الله عنه) المدينة وشهد الحديبية وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد وثمانون حديثاً، اتفقا على خمسة منها، وانفرد مسلم بثلاثة. توفي بالمدينة وقيل بالكوفة وقيل بمصر سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقيل غير ذلك ذكره المصنف في «التهذيب» (قال: قال نبي الله: من جهز غازياً في سبيل ا) أي: هيأ أسباب السفر له إعانة على الخير (فقد غزا) .
قال ابن حبان: معناه أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة (ومن خلف) بالخاء المعجمة المفتوحة وبتخفيف اللام المفتوحة أيضاً (غازياً) في سبيل الله (في أهله بخير) بأن قام بما يحتاجون إليه (فقد غزا) وفي رواية لابن حبان: «من جهز عازياً في سبيل الله أو خلفه في أهله كتب الله له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شي» (متفق عليه) ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ: «من جهز غازياً حتى يستقلّ كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع» .
قال العلقمي: أفادت هذه الرواية فائدتين: أن الوعد المذكور

(2/456)


مرتب على إتمام التجهيز وهو المراد بقوله حتى يستقل، وأنه يستوي معه في الأجر إلى أن تنقضي تلك الغزوة اهـ. ثم قال في أثناء كلام: لكن من يجهز الغازي بماله مثلاً وكذا من يخلفه فيمن يتركه بعده يباشر شيئاً من المشقة أيضاً، فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفي ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو، بخلاف من اقتصر على النية مثلاً أي: حصل له أجر سبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاز سواء قليله وكثيره، ولكل خالف في أهله بخير من قضاء حاجة لهم أو إنفاق عليهم أو ذبّ عنهم أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته.
قلت: وبه يعلم أن ما أفاده حديث ابن ماجه من ترتبت الأجر على تمام التجهيز المراد به كمال الأجر ودوامه المشار إليه بقوله حتى يرجع إليه لا أصله، فهو حاصل بما فعل من التجهيز وإن قل.
1782 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث) أي: أراد أن يبعث (بعثاً إلى بني لحيان) بكسر اللام وفتحها والكسر أشهر، بطن (من هذيل) إذ هو لحيانبن هذيلبن مدركةبن إلياسبن مضر.
قال المصنف في «شرح مسلم» واتفق العلماء على أن بني لحيان كانوا في ذلك الوقت كفاراً، فبعث إليهم بعثاً يغزوهم (فقال) لذلك البعث (لينبعث من كل رجلين أحدهما) مراده كما قال المصنف من كل قبيلة نصب عددها (والأجر) أي مجموع الحاصل للغازي والخالف له بخير (بينهما) فهو بمعنى قوله في الحديث قبله: «ومن خلف غازياً فقد غزا» وأما حديث مسلم: «أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج» .
فقال القرطبي: لفظة نصف تشبه أن تكون مقحمة: أي مزيدة من بعض الرواة.
وقال العلقمي: لا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح. والذي يظهر في توجيهها أنها إنما أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا قسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين.
قلت: إلا أنه على هذا التوجيه يكون فيه حذف، وعلى توجيه القرطبي تكون فيه زيادة والله أعلم. ثم قوله والأجر بينهما محمول على ما إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير كما تقدم في الحديث قبله وصرح به باقي الأحاديث (رواه مسلم) .

(2/457)


1793 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي) في حجة الوداع (ركباً) بفتح الراء وسكون الكاف جمع راكب كصحب وصاحب (بالروحاء) بالمهملتين: محل بقرب المدينة (فقال) بعد أن سلم عليهم كما في حديث أبي داود (من القوم) .
قال ابن رسلان: فيه السلام على الركب المسافرين إذا لقيهم وإن لم يعرفهم، وأن الذي يسلم يكون كبير القوم، وأن من لقي غيره لا يكلمه قبل أن يسلم عليه، وكذا لا يجيب من كلمه قبل أن يسلم لحديث: «السلام قبل الكلام» (قالوا المسلمون) فيه دليل على إطلاق ذلك ولا يحتاج إلى فصله بقوله إن شاء الله خوفاً من سوء الخاتمة أي لأن الأصل بقاء الفصل وإن كان الإتيان بها نظراً لذلك أفضل (فقالوا من أنت) وعند أبي داود «من أنتم» .

قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون هذا اللقاء كان ليلاً فلم يعرفوه، ويحتمل كونه نهاراً لكنهم لم يروه قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجرو قبل ذلك (فقال أنا) وفي رواية أبي داود فقالوا (رسول الله فرفعت إليه امرأة صبياً) زاد أبو داود «فأخذت بعضده فأخرجته من محفتها» (فقالت يا رسول الله) كما في أبي داود (ألهذا) وعند أبي داود «هل لهذا» (حج) أي: يصح له (قال: نعم) فيه حجة للشافعي، والجمهور على انعقاد حج الصبي وإن كان غير مميز، إذ من يخرج من المحفة بعضده لا تمييز له، فيحرم عنه الوليّ إن كان غير مميز ويخير بين ذلكـ والإذن للصبي إن كان مميزاً فيثاب الصبي عليه في الحالين وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعاً (ولك أجر) أي ويثبت لك الأجر، وبسبب الحمل وتجنيبه المحرم وفعل ما يفعله المحرم.
أما الإحرام عنه، فإن كانت وصية أو قيمة صح وإلا فلا، ولا أجر لها في الإحرام عنه حيئذٍ، أما أجر حجة فيكتب له مع سائر ما يعمله من الطاعات من طواف وسعي وطهارة وصلاة وغيرها من الطاعات ولا يكتب له معصية بالإجماع (رواه مسلم) وأبو داود.
1804 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: الخازن) لمال غيره

(2/458)


بإذنه (المسلم الأمين) أي: في ذلك المال الذي أمر بإعطائه وإن خان في غيره قبل أو بعد فيما يظهر من القواعد، لأن سبق المعصية أو تأخرها فيما لا تعلق له بما أطاع فيه لا يقتضي نقص ثواب ما أطاع فيه (الذي ينفذ) بفاء مكسورة مثقلة ومخففة (ما أمر به) أي: بإعطائه (فيعطيه كاملاً موفراً) تأكيد بعد تأكيد لما غلب على الخزان من الطمع فيما أمروا بإعطائه والنقص عنه (طيبة به نفسه) بأن لا يحسد المعطي ولا يظهر له من العبوس وتقطيب الوجه ما يكدر خاطره، ونبه على ذلك لأن أكثر الخزان غلب عليهم البخل بمال غيرهم فهم أبخل البخلاء (فيدفعه إلى الذي أمر) بالبناء للمفعول (له) راجع للذي (به) راجع للمال (أحد المتصدقين) فيكتب له بتلك الشروط الأربعة ثواب من ثواب الصدقة، لكنه يقل ويكثر بحسب تعبه وبشاشته ورفقه في الإعطاء (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي موسى كذا في «الجامع الصغير» .
(وفي رواية) لهما (الذي يعطي ما أمر به) وعليها اقتصر صاحب «المشكاة» وقال: متفق عليه (وضبطوه) أي: المحدثون (المتصدقين بفتح القاف مع كسر النون على التثنية) أي: على أنه مثنى وعلى هذا اقتصر في «شرح مسلم» وعليه فهما هو وبازل الصدقة (وعكسه) أي: كسر القاف وفتح النون (على الجمع) الصحيح المذكر السالم وهو جنس الخازن وجنس المتصدق أو أطلق الجمع وأريد به الإثنان مجازاً (وكلاهما) أي: الضبطين (صحيح) باعتبار المعنى كما عرفت.

22 - باب في النصيحة
قال الفاكهاني في شرح الأربعين الحديث التي جمعها المصنف: النصيحة كلمة

(2/459)


جامعة معناها حيازة الخير للمنصوح له، يقال: إنها من وجيز الأسماء ومختصر الكلام وأنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدارين منها، وهي مأخوذة من نصح الرجل ثوبه: إذا خاطه شبه فعل لاناصح فيما يتحراه للمنصوح له بسد الخياط خلل الثوب وإصلاحه. وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل: إذا صفيته من الشمع، شبه تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط اهـ.
(قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ) ففي التعبير بالأخوة المقتضية للنظر في مصالحة وما ينفعه إيماء إلى نصحه.
(وقال تعالى: إخباراً) أي: مخبراً (عن نوح) على نبينا و (عليه وسلم) أي: عما قاله لقومه ( {وأنصح لكم} ) .
قال السملي في «الحقائق» : قال بعضهم: أنصح لكم أدلكم على طريق رشدكم.
وقال شاه الكرماني: علامة النصيحة ثلاثة: اغتمام القلب بمصائب المسلمين، وبذل النصح لهم، وإرشادهم إلى مصالحهم وإن جهلوا وكرهوه.
(و) قال تعالى مخبراً (عن) قول (هود) لقومه ( {وأنا لكم ناصح} ) أي فيما آمركم به من عبادة الله وترك ما سواه ( {أمين} ) على تبليغ الرسالة وأداء النصح.
والأمين: الثقة على ما أؤتمن عليه. حكى الله عن نوح بصيغة الفعل وعن هود بصيغة اسم الفاعل.
قال الخازن في «لباب التأويل» : والفرق أن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة، فكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله تعالى عنه بذلك، فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل. وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلذا ذكر بصيغة الوصف، وفي الآية جواز مدح النفس والثناء عليها في مواضع الضرورة إلى مدحها.
181 - (وأما الأحاديث) النبوية النصيحة (فـ) ـــكثيرة: (فالأول: عن أبي رقية) كني بابنة له لم يولد له

(2/460)


غيرها (تميمبن أوس) بن خارجةبن سودبن جذيمةبن دراعبن عديبن الحارثبن مرةبن أددبن زيدبن يشجببن عريببن زيدبن كهلانبن سبأبن يشجببن يعرببن قحطان (الداري) نسبة إلى جده الدار ويقال فيه الديري نسبة إلى دير كان يتعبد فيه، أسلم تميم (رضي الله عنه) سنة تسع وسكن المدينة ثم انتقل إلى الشام ونزل بيت المقدس بعد قتل عثمان. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثاً، روى له مسلم حديثاً واحداً، وروى عنه باقي الستة إلا البخاري: وهذا الحديث من أفراد مسلم وليس لتميم فيه سوى هذا الحديث، وقد قيل هذا الحديث عليه مدار الإسلام، وقيل: أحد أرباع الإسلام وصحح بعضهم الأول. وقد روي عنه، وهذه منقبة شريفة تدخل في رواية الأكابر عن الأصاغر كذا في «شرح الأربعين» للفاكهاني (أن النبي قال: الدين النصيحة) أي: هي عماد الدين وقوامه كقوله «الحج عرفة» فهو من الحصر المجازي دون الحقيقي: أي إنه أريد المبالغة في مدح النصيحة حتى جعلت كل الدين وإن كان الدين مشتملاً على خصال كثيرة غيرها (قلنا لمن؟) يؤخذ منه مراجعة المتعلم للعالم عند الإبهام والإلتباس (قال) .

قال الخطابي: النصيحة تنصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته وأسمائه، ووصفه بصفات الكمال، وتنزيهه عن جميع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته. والحبّ فيه والبغض فيه، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمه وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والتلطف بالناس ومن أمكن منهم علمها.
قال الخطابي: حقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فا غنيّ عن نصح الناصحين (ولكتابه) .
قال العلماء: النصيحة له الإيمان بأنه كتاب الله وتنزيله، لا يشبه شيئاً من كلام الخلق ولا يقدر عليه أحد منهم، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة، والذبّ عنه لتأول المحرفين، والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتناء بمواعظه والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، وللبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته (ولرسوله) ونصيحته: تصديقه على الرسالة والإيمان به، وطاعته في أوامره ونواهيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبثّ دعوته ونشر سنته، واستفادة علومها والتفقه في معانيها، والدعاء إليها والتلطف في تعليمها وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم،

(2/461)


وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبة آله وأصحابه، وبغض أهل البدع في السنة والمتعرضين لأحد من الصحابة (ولأئمة المسلمين) وهي بمعاونتهم على الحق وطاعتهم وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبالغوا من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب المسلمين لطاعتهم، وألا يغرّوا بالثناء الكاذب عليهم ويدعى لهم بالصلاح، هذا كله بناء على أن المراد بهم الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمر المسلمين، وهذا هو المشهور، وحكاه الخطابي.
ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين، ومن نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الأحكام وإحسان الظن بهم (وعامتهم) أي: من عدا ولاة الأمر ونصيحتهم بإرشادهم لمصالحهم في دنياهم وأخراهم، وإعانتهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم وسد خلاتهم، ودفع المضارّ عنهم وجلب المنافع إليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق، وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويذبّ عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم بالقول والفعل، ويحثهم على التخلق بجميع ما ذكرنا من أنواع النصيحة، وقد كان في السلف من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه.

قال ابن بطال: وهذا الحديث يدل على أن النصيحة تسمى ديناً وإسلاماً، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، والنصيحة فرض يجزى فيه من قام به ويسقط عن الباقين، وهي لامةٌ على قدر الحاجة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإذا خشي أذًى فهو في سعة اهـ (رواه مسلم) .
قال السخاوي في تخريج الأربعين الحديث: ورواه الإمامان الشافعي وأحمدبن حنبل وأخرجه النسائي وابن خزيمة في «صحيحه» وله طرق كثيرة.
182 - و (الثاني: عن جريربن عبد الله رضي الله عنه) البجلي تقدمت ترجمته في باب المحافظة على السنة (قال: بايعت النبي على إقام الصلاة) أصله إقامة فحذفت التاء عند الإضافة تخفيفاً، والمراد الإتيان بالمكتوبات مستكملة الفرائض والسنن والآداب (وإيتاء الزكاة) المفروضة (والنصح) بضم النون مصدر نصح، يقال: نصحته ونصحت له وباللام أفصح

(2/462)


نصحاً ونصاحة، والنصح بفتح النون مصدر نصحت الثوب خطته (لكل مسلم) وتقدم في ترجمته من وفائه بما التزم من النصح زيادته لصاحب الفرس حتى بلغ به ثمانمائة درهم وكان أولاً رضى بما قل من ذلك بكثير بذلاً للنصيحة (متفق عليه) .
183 - و (الثالث: عن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: لا يؤمن أحدكم) إيماناً كاملاً (حتى يحب لأخيه) من الخيرات والطاعات.
وفي رواية النسائي: «حتى يحب لأخيه من الخير» .
قال السخاوي: وهي زيادة صحيحة لأنها خارجة من مخرج «الصحيحين» بل هي على شرطهما، وأخرجها ابن منده في كتاب الإيمان له اهـ (ما يحب لنفسه) .
قال ابن الصلاح: وهذا قد يعدّ من الصعب الممتنع وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحبّ لأخيه في الإسلام ما يحبّ لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص النعمة على أخيه شيئاً من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله من ذلك آمين.
قال أبو الزناد: ظاهر الحديث التساوي وحقيقته التفضيل، لأن الإنسان يحبّ أن يكون أفضل الناس، وإذا أحبّ لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين. وفي الحديث من الفقه أن المؤمن مع المؤمن ينبغي أن يكون كالنفس الواحدة، فيحبّ لأخيه ما يحب لنفسه من حيث إنها نفس واحدة. وفي الحديث الصحيح: «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى» (متفق عليه) .

قال السخاوي: وأخرجه أبو داود الطيالسي في «مسنده» والدارمي وعبد في «مسنديهما» وابن ماجه في «سننه» وأبو عوانة في «مستخرجه» وابن حبان في «صحيحه» وهو عند الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: إنه صحيح اهـ.

(2/463)


23 - باب في الأمر بالمعروف
من الفرائض والسنن والآداب ومحاسن الأخلاق المحمودة شرعاً، فالأمر بالمعروف أمر بكل فعل يعرف بالشرع والعقل حسنه، وهذا الشطر من الترجمة تقدمت الترجمة في معناه بباب الدلالة على الخير (والنهي عن المنكر) ضد المعروف كترك واجبٍ أو فعل حرامٍ صغيرةً كان أو كبيرةً.
(قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ) كل ما يرغب فيه من الأفعال الحسنة وقيل: كناية عن الإسلام وتقدم الكلام على ما يتعلق بها في باب الدلالة على الخير والدعاء إليه ويزاد على ذلك. قال الخازن «من» في قوله: {منكم} للبيان لا للتبعيض، لأن الله أوجب ذلك على كل الأمة في قوله له: {كنتم خير أمة} وعلى هذا فمعنى الآية: كونوا أمة دعاةً إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، ومن قال بهذا القول يقول: إن الأمر والنهي المذكورين فرض كفاية إذا قام بها واحد سقط عن الباقين. وقيل من للتبعيض لأن في الأمة من لا يقدر على ذلك لعجز أو ضعف فحسن إدخال لفظة من، وقيل: إنهما يختصان بأهل العلم وولاة الأمر فعليه فالمعنى: ليكن بعضكم آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ( {وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} ) أي: الناجون الفائزون نجوا من النار وفازوا بالجنة، والمفلح: الظافر بالمطلوب الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه.
(وقال تعالى: {كنتم} ) يا أمة محمد في علم الله ( {خير أمة أخرجت للناس} ) وبين وجه شرفها على الأمم الماضين بقوله: (تأمرون بالمعروف وتنون عن المنكر) فمن تحقق فيه هذا الوصف فهو من أفضل الأمة.
(وقال تعالى: {خذ العفو وأمر

(2/464)


بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ) تقدم الكلام فيها في قصة عينيةبن حصن مع عمر رضي الله عنه في أواخر باب الصبر، وسيأتي فيها مزيد إن شاء الله تعالى في باب توقير العلماء في قصة الحر نفسها ذكرها المصنف ثانياً ثمة.
(وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} ) قال السلمي في «الحقائق» : أي: أنصار يتعاونون على العبادة ويتبادرون إليها، وكل واحد منهم يشد ظهر صاحبه ويعينه على سبيل نجاته: ألا ترى النبيّ يقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» وقال: «المؤمنون كالجسد الواحد» وقال أبو بكر الوراق: المؤمن يوالي المؤمن طبعاً وسخية اهـ. وقال الخازن: لما كان نفاق الأتباع وكفرهم حصل بتقليد المتبوعين به وبمقتضى الطبيعة قال فيهم «بعضم من بعض» ولما كانت الموافقة الحاصلة بين المؤمنين بتسديد الله وتوفيقه لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأن بعضهم أولياء بعض ( {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ) ضد وصف المنافقين، والجملة محتملة للحالية والوصفية لأن أل في الموضعين للجنس ومحتملة لكونها خبراً بعد خبر.

(وقال تعالى) : ( {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} ) قال في الخازن: قال أكثر المفسرين: هم أصحاب السبت لما اعتدوا واصطادوا في السبت فقال داود: اللهم العنهم واجعلهم قردة فمسخوا كذلك، وقصتهم في سورة الأعراف ( {وعيسى ابن مريم} ) قال: وهم كفار أصحاب المائدة لما أكلوا وادخروا ولم يؤمنوا قال: اللهم العنهم واجعلهم خنازير فمسخوا كذلك. وقيل: إن داود وعيسى بشراً بمحمد ولعنا من يكفر به ( {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} ) أي: اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم، ثم فسر الاعتداء بقوله: ( {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ) أي: لا ينهي بعضهم بعضاً عن المنكر، وقيل: عن معاودة منكر فعلوه ولا عن الإصرار فيه (لبئس ما كانوا يفعلون) اللام فيه لام

(2/465)


القسم: أي: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون، يعني من ارتكاب المعاصي والعدوان.
(وقال تعالى) : ( {وقل الحق من ربكم} ) الحق ما يكون من جهة الله تعالى إلا ما يقتضيه الهوى، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف ومن ربكم حال أو صفة ( {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ) أي: لا أبالي بإيمان من آمن وكفر من كفر. وفي «الحقائق» للسلمي قال ابن عطاء الله: أظهر الحق للخلق سبيل الحق وطريق الحقيقة، فمن سألك فيه بالتوفيق ومعرض عنه بالخذلان. فمن شاء الحق له الهداية هداه لطريق الإيمان، ومن شاء له الإضلال سلك به مسلك الكفر والضلال البعيد.
(وقال تعالى) : ( {فاصدع} ) أي: اجهر ( {بما تؤمر} ) .
(وقال تعالى) ( {أنجينا} ) كذا في نسخة مصححة منه بزيادة الفاء في أوله والتلاوة بحذفها، ورأيتها مكشوطة من أصل فلا أدري ذلك من المصنف أو من التعرض للأصول بتغييرها، وقد وقع مثل ذلك في «صحيح البخاري» وحق مثله أن يقال فيه كذا وصوابه أو والتلاوة كذا و {أنجينا الذين} جواب لما من قوله: {لما نسوا ما ذكروا به أنجينا} ( {الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} ) بالاعتداء ( {بعذاب بئيس} ) شديد فعيل من بؤس يبؤس: إذا اشتد وفيه قراءة أخرى ( {بما كانوا يفسقون} ) بسبب فسقهم (والآيات في الباب) أي: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كثيرة معلومة) .
184 - (وأما الأحاديث: فالأوّل: عن أبي سعيد) سعدبن مالكبن سنان (الخدري) وسبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب التوبة (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما رأى) أي: علم إذ لا

(2/466)


يشترط في وجوب الإنكار رؤية البصر بل المدار على العلم أبصر أم لا (منكم) معشر المكلفين القادرين المسلمين فهو خطاب لجميع الأمة حاضرها بالمشافهة وغائبها بطريق التبع (منكراً فليغيره) وجوباً بالشرع على الكفاية إن علم بذلك أكثر من واحد وإلا فهو فرض عين. ووجوبه بالكتاب والسنة (بيده) إن توقف تغييره عليها كتكسير أواني الخمر وآلات اللهو بشرطه الآتي (فإن لم يستطع) الإنكار بيده، بأن خشي لحاق ضرر ببدنه أو أخذ مال، وليس من عدم الاستطاعة مجرد الهيبة، وعلى ذلك حمل خبر الترمذي وغيره «ألا لا يمنعنّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه» (فبلسانه) أي: يقوله للمرتجي نفعه من نحو صياح واستغاثة وأمر من يفعل ذلك وتوبيخ وتذكير با وأليم عقابه مع لين وإغلاظ حيثما يكون أنفع، ولا فرق في وجوب الإنكار بين أن يكون الآمر ممتثلاً ما أمر به مجتنباً ما نهي عنه أو لا، ولا بين كون كلامه مؤثراً أو لا، وظاهر كلام المصنف الإجماع على ذلك فقول بعض بسقوط الوجوب عند العلم بعدم التأثير أخذاً من أحاديث تصرح بذلك ليس فيه محله، ولا بين كون الآمر ولياً أو غيره إجماعاً أخذاً بعموم «من» الشامل لذلك جميعه، نعم إن خشي من ترك استئذان الإمام مفسدة راجحة أو مساوية من انحرافه عليه بأن افتيات عليه لم يبعد وجوب استئذانه حينئذٍ. ويشترط لجواز الإنكار ألا يؤدي إلى شهر سلاح، فإن أدى إلى ذلك فلا يكون للعامة بل يربط بالسلطان، وشرطه وجوبه تارة وجوازه أخرى ألا يخاف على نفس ونحو عضو ومال له أو لغيره وإن قل، مفسدة فوق مفسدة المنكر الواقع، وإيجاب بعض العلماء الإنكار بكل حال وإن فعل المنكر وقبل منه غلوّ مخالف لظاهر هذا الحديث وغيره ولا حجة له فيما احتج به.
وإذا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الخوف أو الإكراه كما في الآية فليجز ترك الإنكار لذلك بالأولى، لأن الترك دون الفعل في القبح، ألا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد فيها هو فيه عناداً، وأن يكون المنكر مجمعاً عليه أو يعتقد فاعله حرمته أو حله، أو ضعفت شبهته كنكاح المتعة، ولا ينافي ما تقرر من الوجوب قوله تعالى: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105) لأنه سئل عنها، فقال: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك» الحديث.
ففيه تصريح بأن الآية محمولة على ما إذا عجز المنكر، ولا شك في سقوط الوجوب حينئذٍ، على أن معناها عند المحققين أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به

(2/467)


لا يضركم تقصير غيركم، ومما كلفنا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثلهما المخالف فلا عتب حينئذٍ لأن الواجب الأمر والنهي لا القبول (فإن لم يستطع) ذلك بلسانه (فبقلبه) ينكره بأن يكره ذلك ويعزم أن لو قدر عليه بقول أو فعل أزاله لأنه يجب كراهة المعصية فالراضي بها شريك لفاعلها وهذا واجب على كل أحد بخلاف اللذين قبله، فعلم من الحديث وما تقرر فيه وجوب تغيير المنكر بأيّ طريق أمكن، وفي أواخر الباب الأوّل من كتاب «الأنوار القدسية في قواعد الصوفية» للشعراني كان يقال: إن كان ولا بد للمريد من إزالة المنكر فليتوجه إلى الله تعالى بقلبه ويزيل ذلك المنكر الذي رآه، إما يمنع الزاني من الزنى أو الشارب من الخمر ونحو ذلك، ولا ينسب إلى ساكت قول، هكذا كان سورة تغيير المرسلين الصادقين المنكر في قديم الزمان، وقد خالف قوم فغيروا بيدهم أو لسانهم فسحبوا لبيت الوالي وضربوا وحبسوا وازدادوا للمنكر منكراً. وقد كان سيدي إبراهيم المتبولي يقول: تغيير المنكر باليد للولاة ومن قاربهم، وبالقول للعلماء العاملين، وتغييره بالقلب لأرباب القلوب (وذلك) أي: الإنكار بالقلب للعجز عنه بغيره (أضعف الإيمان) أي: أقله ثمرة. وفي رواية «وهو أضعف الإيمان» وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، ومنه يستفاد أن عدم إنكار القلب للمنكر دليل على ذهاب الإيمان منه، ومن ثم قال ابن مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر: أي: لأن ذلك فرض كفاية لا يسقط عن أحد بحال. والرضا به من أقبح المحرمات وإن كان ذلك أقل ثمرة (رواه مسلم) وأبو داود وابن ماجه في «سننهما» وأحمد وعبد في «مسنديهما» وأبو يعلى وابن أبي الدنيا وغيره ذكره السخاوي في «تخريج الأربعين» حديثاً التي جمعها المؤلف وبسط في بيان طرق الحديث. قيل:
وهذا الحديث يصلح أن يكون ثلث الإسلام لأن الأحكام ستة: الواجب والمندوب، والمباح، وخلاف الأولى، والمكروه، والحرام. والمستفاد منه حكم الأول وهو أنه يجب الأمر منه، والأخير وهو أنه يجب النهي عنه. وعبر بعضهم بأنه نصفه وبينه بأن أعمال الشريعة إما معروف يجب الأمر به، أو منكر يجب النهي عنه: أي وهو إنما بين الثاني وهو غير سديد، لأن ما عدا الأول والثاني لا يجب الأمر به ولا النهي عنه، على أنه كما بين الثاني: أعني وجوب النهي عن المنكر بين الأول، لأن المنكر يشمل ترك الواجب وفعل الحرام، فتغيير الأول بالأمر بالواجب والثاني بالنهي عن الحرام، فعليه كان المناسب أن يقال إنه كل الإسلام لا نصفه.

(2/468)


185 - و (الثاني: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من) مزيدة لاستغراق النفي (نبي) أي: رسول، إذ هو المحتاج للإعانة على تبليغ ما أمر به. قال القرطبي: ونعني بذلك غالب الرسل لا كلهم بدليل قوله في الحديث الآخر «ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس مه أحد» فهذا العموم وإن كان مؤكداً بمن مخصوص بما ذكرناه اهـ (بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون) بالحاء المهملة وتخفيف الواو قال الأزهري وغيره، هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم. والخلصان: الذين نقوا من كل عيب وقال غيره: هم أنصارهم، وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يصلحون للخلافة بعدهم، وقيل: هم المختصون المفضلون (وأصحاب) قال القرطبي في «المفهم» : جمع صحب كفرح وأفراح قاله الجوهري، وقال غيره: هو عند سيبويه جمع صاحب كشاهد وأشهاد لا جمع صحب، لأن فعلاً لا يجمع على أفعال إلا في ألفاظ معدودة وليس هذا منها. والصحبة: الخلطة والملابسة على جهة المحبة، يقال صحبه يصحبه صحبة بالضم وصحابة بالفتح، وجمع الصاحب صحب كراكب وركب، وصحبة كفاره وفرهة، وصحاب كجائع وجياع، وصحبان كشاب وشبان (يأخذون بسنته) أي: بطريقه وشريعته (ويقتدون) يتأسون (بأمره ثم) أتى بها لتراخي رتبة المعطوف بها عما قبله (إنها) أي: القصة كذا اقتصر عليه المصنف في «شرح مسلم» ، وقال القرطبي: هكذا الرواية بهاء التأنيث فقط وهي عائدة على الأمة أو على الطائقة التي هي في معنى الحواريين (تخلف) بضم اللام أي تحدث (من بعدهم خلوف) بضم الخاء جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشرّ، أما بفتح اللام فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر. قال وجماعة أو جماعات من أهل اللغة منهم أبو زيد: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوّز الفتح في الشرّ ولم يجوّز الإسكان في الخير، وفي «الصحاح» : الخلف ما جاء من بعد؛ يقال هو خلف سوء وخلف صدّق من الله بالتحريك إذا قام مقامه.
قال الأخفش: هما سواء منهم من يحرك ومنهم من يسكن فيهما جميعاً إذا أضاف، ومنهم من يقول خلف صدق بالتحريك ويسكن الآخر ويريد بذلك الفرق بينهما اهـ (يقولون ما لا يفعلون) أي: يتشبعون بما لم يعطوا من طاعة أو حال أو مقام (ويفعلون ما لا يؤمرون) أي: يفعلو خلاف المأمور به من المنكرات التي لم يأت بها

(2/469)


الشرع (فمن جاهدهم بيده) إذا توقف إزالة المنكر عليه ولم يترتب عليه مفسدة أقوى منه كانشقاق العصى المترتب على الخروج على ولي الأمر الذي هو أعظم مفسدة من المنكر (فهو مؤمن) كامل الإيمان (ومن جاهدهم بلسانه) بأن أنكر به واستعان بمن يدفعه (فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه) والاستعانة على إزالته با سبحانه (فهو مؤمن) وتتفاوت مراتب كمال الإيمان بتفاوت ثمراته (وليس وراء ذلك) أي: كراهة المنكر بالقلب (من الإيمان حبة خردل) كنى بها عن نهاية القلة، وذلك لأن الرضا بالكفر الذي هو من جملة المعاصي كفر، وبالعصيان الناشيء عن غلبة الشهوة نقصان من الإيمان أيّ نقصان. وقال القرطبي: الإيمان هنا بمعنى الإسلام، والمراد أن آخر خصال الإيمان المتعينة على العبد وأضعفها الإنكار بالقلب ولم يبق بعدها رتبة أخرى (رواه مسلم) .
186 - و (الثالث: عن أبي الوليد) بفتح الواو وكسر اللام وسكون التحتية (عبادة) بضم المهملة وتخفيف الموحدة والدال المهملة بينهما ألف (ابن الصامت) بن قيسبن أصرمبن فهربن ثعلبةبن غنمبن سالمبن عوفبن عمروبن الخزرج الأنصاري الخزرجي، شهد عبادة (رضي الله عنه) العقبة الأولى والثانية مع رسول الله، وشهد بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد، وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وكان نقيباً على قوافل بني عوفبن الخزرج، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنوي، واستعمله النبي على الصدقات: وكان يعلم أهل الصفة القرآن، ولما فتح الشام أرسله عمر ومعاذاً وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن بالشام ويفهموهم، فأقام عبادة بحمص ومعاذ بفلسطين وأبو الدرداء بدمشق ثم صار عبادة إلى فلسطين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وأحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بآخرين. قال الأوزاعي: أول من ولى قضاء فلسطين عبادة، وكان فاضلاً خيراً جميلاً طويلاً جسيماً، توفي ببيت المقدس، وقيل: بالرملة سنة أربع وثلاثين وهو ابن ثنتين وسبعين سنة، وقيل: توفي سنة خمس وأربعين، والأوّل أصح وأشهر كذا في «التهذيب» (قال: بايعنا) بسكون المهملة وبفتحها: أي عاهدنا

(2/470)


(رسول الله) بالنصب والرفع؛ وأطلق على المعاهدة المبايعة لأن كلاً من المتعاهدين يمد يده للآخر لأخذ العهد كما أن كلاً من المتبايعين يمدّ يده لصاحبه. وقيل: سميت مبايعة لما فيها من المعاوضة لما وعدهم الله من عظيم الجزاء قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111) (على السمع والطاعة) لولاة الأمر (في العسر واليسر) بضم أوليهما وضم الأول وسكون الثاني لغتان فيما كان على هذا الوزن كما في «الصحاح» وتقدمت الإشارة إليه (والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا) معطوف على السمع: أي: بايعنا على استئثار
الأمراء بحظوظهم وتخصيصهم إياها بأنفسهم. قال المصنف: أي بايعناه على الطاعة فيما يشقّ وتكرهه النفوس وغيرها مما ليس بمعصية، فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة كما جاء في أحاديث أخر فيحمل المطلق عليها، وثمرة الطاعة في جميع ما ذكر اجتماع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أمر الدين، والأثرة بفتح الهمزة والثاء المثلثة، ويقال بضم الهمزة وكسرها وسكون الثاء فيهما ثلاث لغات حكاهن في «المشارق» وغيره وهي كما سيأتي في الأصل: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا. قال القرطبي: وكأن هذا القول خاص بالأنصار، وقد ظهر أثر ذلك يوم حنين حيث آثر النبي قريشاً بالفىء ولم يعط الأنصار منه شيئاً، وفيه تنبيه على أن الخلافة في غيرهم وقد صرح به في قوله: (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا) من ذي الأمر (كفراً بواحاً) هكذا هو لمعظم الرواة وفي معظم النسخ، وهو من باح الرجل بالشيء يبوح به بوحاً وبواحاً: إذا أظهره، وفي بعضها براحا بالراء.
قال القرطبي: وهي رواية أبي جعفر، من قولهم برح الخفاء: أي ظهر. قال ثابت: ورواه النسائي بواحاً وبووحاً وهي بمعناه ما زادت من المبالغة. قال المصنف: والراد بالكفر هنا المعاصي (عندكم فيه من الله تعالى برهان) أي: حجة بينة وأمر لا شك فيه: أي: بل تعلمونه من دينالله. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في أمورهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقوموا بالحق حيثما كنتم. وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام

(2/471)


بالإجماع وإن كانوا فسقة، وعلى هذا تظاهرت النصوص. وحمل القرطبي الكفر على ظاهره فقال: معناه إلا أن تروا كفراً عندكم من الله فيه برهان: أي: حجة بينة وأمر لا شك فيه يحصل به اليقين أنه كفر، فحينئذٍ يجب أن يخلع من عقدت له البيعة اهـ (وعلى أن نقول الحق) بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر (أينما كنا) أي: في كل مكان وزمان (لا نخاف في الله لومة لائم) أي: لا نداهن في ذلك أحداً ولا نخافه ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالمعروف والنهي عن المنكر (متفق عليه) ورواه مالك والنسائي، وليس عندهما «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان (المنشط والمكره بفتح ميميهما) وثالثهما مصدران ميميان (أي: في السهل والصعب) كأنه تفسير مراد، وإلا ففي «النهاية» المنشط مفعل من النشاط وهو الأمر الذي تنشط له النفس وتحنّ إليه وتؤثر فعله وهو مصدر بمعنى النشاط؛ وقال في محل آخر منها حديث عبادة «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنشط والمكره» يعني المحبوب والمكروه وهما مصدران (والأثرة: الاختصاص بالمشترك) على التشريك فيه وقد سبق بيانها في باب الصبر (بواحاً بفتح الموحدة بعدها واو) خفيفة (ثم ألف ثم حاء مهملة) هذه رواية المعظم كما تقدم (أي: ظاهراً لا يحتمل تأويلاً) .
187 - و (الرابع: عن النعمانبن بشير) صحابي ابن صحابي كما تقدم في ترجمته فلذا قال (رضي الله عنهما عن النبي قال: مثل) بفتحتين وبكسر فسكون، وهي هنا تشبيه حال مركبة بمركبة: أي: صفة (القائم في حدود ا) بإقامتها والذبّ عن المحارم، ووقع هكذا على الصواب في كتاب الشركة من البخاري، ووقع في كتاب الشهادات «مثل المداهن» بضم فسكون: أي: المحابي في حدودالله، والمراد به كالمداهن من يراءي ويضيع الحقوق ولا

(2/472)


يغير المنكر، وهو وهم كما قاله الحافظ في «الفتح» ، لأن المداهن في الحدود الواقع فيها (والواقع فيها) أي: مرتكبها واحد والقائم مقابله. ووقع عند الإسماعيلي أيضاً «مثل الواقع في حدود الله والناهي عنها» وهو المثل المضروب فإنه لم يقع فيه إلا ذكر فرقتين فقط، لكن إن كان المداهن مشتركاً في الذم مع الواقع صار بمنزلة فرقة واحدة. وبيان وجود الفرق الثلاث في المثل المضروب أن الذين أرادوا غرق السفينة بمنزلة الواقع في حدودالله، ثم من عداهم إما منكر وهو القائم، وإما ساكت وهو المداهن (كمثل قوم استهموا على سفينة) فأخذ كل واحد منهما سهماً منها بالقرعة وذلك لاشتراكهم فيها بملك أو إجارة، والقرعة إنما تقع بعد التعديل، ثم يقع التشاحّ في الأقضية فتقع القرعة لقطع النزاع (فصار بعضهم أعلاها) لخروج سهمه بالقرعة (و) صار (بعضهم أسفلها) لذلك والجملة معطوفة على الجملة قبلها ويجوز جعلها مستأنفة، وكل من أعلى وأسفل منصوب على الظرف المكاني والمتعلق هو الخبر (فكان الذين) صاروا (في أسفلها) بالاستفهام (إذا استقوا من الماء مرّوا) سالكين (على من) صار (فوقهم) أعلى السفينة بحكم الاستفهام (فقالوا) لما رأوا تأذي أهل فوق من مرورهم/ ففي الشهادات من البخاري: فتأذوا به: أي بالمارّ عليهم حالة السقي (لو) وقع (أنا خرقنا في نصيبنا) من السفينة (خرقاً) نصل به إلى الماء (ولم نؤذ) بمرورنا (من فوقنا، فإن تركوهم) أي: ترك أهل العلوّ أهل السفل (وما
أرادوا) الواو للمصاحبة أي تركوهم مصاحبين ما أرادوا فعله من غير منع منه (هلكوا جميعاً) لأن شؤم ذلك الفعل والغلبة من الماء على السفينة المغرق لها ولهم أمر عام لهم أجمعين (وإن أخذوا على أيديهم) أي: منعوهم مما أرادوه من الخرق (نجوا) أي: الآخذون في أنفسهم (ونجوا) بالتشديد: أي: ونجوا المأخوذين (جميعاً) حال من فاعل الفعلين معاً من الغرق، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها. ففي الحديث استحقاق العقوبة على العموم بترك الأمر بالمعروف (رواه البخاري) هذا اللفظ في كتاب الشركة، ورواه في كتاب الشهادات بلفظ آخر في معناه، ورواه الترمذي في كتاب الشهادات بلفظ آخر في معناه، ورواه الترمذي في كتاب الفتن من جامعه وقال حسن صحيح (القائم في حدود الله: معناه المنكر لها) على من تعداها (القائم في دفعها وإزالتها)

(2/473)


على من وقع فيها (والمراد بالحدود) على هذا (ما نهى الله عنه) من المحرمات ولو صغائر، أو القائم بالحدود على من فعل ما يقتضيه، والمراد من الحدود على هذا الجلد للزاني وللقاذف ونحو ذلك. والثاني خاص بوليّ الأمر، والأول عام لسائر أرباب الإيمان بشرطه (واستهموا) معناه (اقترعوا) وكانت القرعة في الجاهلية بسهام معروفة، وأطلق الاستهام وأريد به الاقتراع وهو استعمال شائع في السنة.
188 - و (الخامس: عن أم المؤمنين) احتراماً وإجلالاً (أم سلمة) بفتح أوليه (هند) هذا هو الصحيح كما تقدم مع ترجمتها في باب التوكل (بنت أبي أمية) بضم ففتح فتشديد التحتية مصغراً كنية (حذيفة) بضم المهملة وفتح المعجمة فسكون التحتية بعدها فاء مفتوحة فهاء (رضي الله عنها) حال كونها رواية (عن النبي أنه قال) : من باب الإخبار عن المغيب فكان كما أخبر به فهو من معجزاته (إنه) أي: الشأن (يستعمل عليكم أمراء) أي: تجعل الملوك عليكم أمراء عمالاً (فتعرفون) أي: بعض أعمالهم لموافقتها ما عرف من الشرع (وتنكرون) بعضها لمخالفته ذلك. وفي «المشكاة والمصابيح» يستعمل عليكم أمراء تعرفون وتنكرون» بحذف الفاء، قال العاقولي: هما صفتان لأمراء والعائد محذوف: أي: تعرفون بعض أفعالهم وتنكرون بعضهم (فمن كره) بقلبه المنكر ولم يقدر على الإنكار لخوف سطوتهم (فقد برىء) من الإثم بإنكاره الباطني لأنه قائم بما يجب عليه من تغييره بقلبه (ومن) قدر على الإنكار باليد أو باللسان فـ (أنكر) عليهم ذلك (فقد سلم) بإنكاره من العقاب الأخروي. وفي «المصابيح» «فمن أنكر فقد برىء، ومن كره فقد سلم» قال العاقولي: قوله فقد برىء: أي: قام بما وجب عليه فبرىء من الواجب؛ وقوله: فقد سلم أي بإنكاره الباطني وكراهة المنكر وسلم من الإثم لأنه قائم بما يجب عليه تغييره بقلبه اهـ. (ولكن من رضي) فعلهم بقلبه (وتابع) في العمل به فهو الذي لم تبرأ ذمته ولم يسلم من إثم لمشاركته لهم فيه ورضاه به، وحذف الخبر من هذه الجملة لدلالة الحال وسياق الكلام على أن هذا القسم ضد ما أثبته لقسيميه (قالوا: يا

(2/474)


رسول الله ألا نقاتلهم) أي: حينئذٍ (قال لا) أي: لا تقاتلوهم (ما أقاموا فيكم الصلاة) وإنما منع من مقاتلتهم مدة إقامتهم الصلاة التي هي عنوان الإسلام، والفارق بين الكفر والإسلام حذراً من تهيج الفتن واختلاف الكلمة وغير ذلك مما يكون أشد نكارة من احتمال نكرهم والمضارة على ما ينكر
منهم (رواه مسلم) في «المغازي» من طرق مدارها على الحسن عن ضبةبن محصن العتري البصري عن أم سلمة، ورواه أبو داود في السنة، ورواه الترمذي في «الفتن» وقال: حسن صحيح، كذا في «الأطراف» للمزي ملخصاً.
(معناه) أي: قوله في الحديث «من كره فقد برىء» (من كره بقلبه) المنكر (ولم يستطع) لخوفه على نفسه أو ماله منهم (إنكاراً بيد ولا لسان) فأنكر بقلبه (فقد برىء من الإثم) لسقوطهما عند حنيئذٍ (وأدى وظيفته) المخاطب بها (ومن أنكر) لقدرته على ذلك باليد أو اللسان (بحسب) قدر (طاقته) وقوّة شوكته (فقد سلم من) تبعة (هذه المعصية) أي: ترك إنكار المنكر لعدم العقاب على ذلك والسؤال عنه (ومن رضي بفعلهم المنكر وتابعهم) عليه بفعل ذلك (فهو العاصي) أي الآثم.
189 - (السادس: عن أم المؤمنين) جلالة واحتراماً (أم الحكم) كنية (زينب بنت جحش) بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وبعدها شين معجمة، وهو بن رباببن معمربن صبر ابن مرةبن كثيربن غنمبن دودانبن أسيدبن خزيمة الأسدية أخت عبد ابن حجش (رضي الله عنها) أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبيّ، أسلمت زينب قديماً وهاجرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها في سنة خمس، قاله قتادة والواقدي وآخرون. روى ابن سعد أنه تزوجها لهلال ذي القعدة سنة خمس من الهجرة وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل: سنة ثلاث، وكانت قبله تحت زيدبن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طلقها فاعتدت، ثم زوجها الله

(2/475)


من رسوله وأنزل فيها {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} (الأحزاب: 37) وكانت تفتخر على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: زوّجني الله من السماء، ومناقبها كثيرة ذكر المصنف جملة منها في «التهذيب» ، وفيه أنها توفيت سنة عشرين، وقيل: توفيت سنة إحدى وعشرين. وأجمع أهل السير أنها أول نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موتاً بعده ودفنت بالبقيع وصلى عليها عمربن الخطاب، وهي أول امرأة جعل عليها النعش أشارت به أسماء. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد عشر حديثاً، خرّج منها في «الصحيحين» حديثان اتفقا عليهما (أن النبي) بكسر همزة إن على إضمار القول وبفتحها على إضمار أخبرت مثلاً (دخل عليها فزعاً) بفتح فكسر. والفزع الذعر والفرق (يقول) جملة حالية (لا إله إلا ا) أتى بها للتعجب من الأمر الواقع بعدها وتعظيم شأنه كالإتيان بسبحان في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} (الإسراء: 1) (ويل) بفتح أوله وسكون التحتية. في «الصحاح» : ويل كلمة مثل ويح إلا أنها كلمة عذاب اهـ.
وفي «تحفة القارىء» وهي كلمة تقال عند الحزن (للعرب) هم خلاف العجم الأعراب سكان البوادي خلاف الحاضرة وخصص بهم لأن معظم مفسدتهم راجع إليهم (من شرّ) الظاهر أن التنوين فيه للتعظيم (قد اقترب) زمنه (فتح) بالبناء للمفعول (اليوم من ردم) بفتح فسكون (يأجوج ومأجوج) أي: سدهما، يقال ردمت الثلمة: أي: سددتها وهما بالهمز وتركه وبهما قرىء في السبع والجمهور على تركه (مثل هذه) أي: الحلقة المبينة في قوله: (وحلق) بتشديد اللام (بأصبعيه) فيه عشر لغات بتثليت الهمزة والباء والعاشرة أصبوع (الإبهام والتي تليها) بدل من قوله أصبعيه بدل مفصل من مجمل، فيجوز فيه الإتباع والقطع لأنه استوفى العدة. قال في «تحفة القارىء» : أي: جعل السبابة في أصل الإبهام وضمهما حتى لم يبق بينهما إلا خلل يسير، ومعناه عند الحساب تسعون كما في الرواية الأخرى للبخاري من حديث أبي هريرة مرفوعاً «فتح الله من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد بيده تسعين» قلت: وقع عند مسلم: وعقد سفيان بيده عشرة، وهي مخالفة للرواية المذكورة هنا والأخرى التي عند أبي هريرة، لأن عقد التسعين أضيق من العشرة.

قال المصنف: قال القاضي: لعل حديث أبي هريرة متقدم وأراد قدر الفتح بعده. قال: أو يكون المراد التقريب بالتمثيل لا حقيقة التحديد

(2/476)


(فقلت: يا رسول الله أنهلك) بكسر اللام وحكي فتحها، قال المصنف: وهو ضعيف أو فاسد (وفينا الصالحون) أي: وبهم يدفع البلاء ويزال العناء (قال نعم) أي: تهلكون والحال ما ذكر (إذا كثر) بفتح فضم المثلثة (الخبث) هو بفتح المعجمة والموحدة وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: بالزنى خاصة، وقيل: أولاد الزنى.d
قال المصنف: والظاهر أنه المعاصي مطلقاً. ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام وإن كثر الصالحون، ففيه بيان شؤم المعصية والتحريض على إنكارها (متفق عليه) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء وفي باب الفتن، ورواه مسلم في الفتن، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي في «التفسير» ، وابن ماجه في «الفتن» . واتفق في سند الحديث لطيفة توالي ثلاثة من الصحابة زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش وهذا عند جميع من ذكر، إلا أن في رواية البخاري وأخرى لمسلم بإسقاط أم حبيبة، كذا لخص من «الأطراف» للمزي.
190 - و (السابع: عن أبي سعيد) سعدبن مالكبن سنان (الخدري رضي الله عنه) ناقلاً (عن النبي قال) : أي: النبي فتكون الجملة مستأنفة لبيان المقول، ويحتمل أن يكون الضمير فيه يعود لأبي سعيد وهناك قال مقدر بعده حذف خطأ اختصاراً يعود إلى النبي (إياكم) هي للتحذير حذف العامل وجوباً والأصل أحذركم (والجلوس) بالنصب (في الطرقات) وعند ابن حبان على الصعدات بضمتين جمع صعد كذلك جمع صعيد كطريق وطرق وزناً ومعنىً. وزعم ثعلب أن المراد بالصعدات وجه الأرض اهـ والطريق تذكر تؤنث، ويلحق بالطريق ما في معناها من الجلوس في الحوانيت، وفي الشبابيك المشرفة على المارة حيث يكون في غير العلوّ، والنهي للتنزيه لئلا يضعف الجالس عن أداء الحق الذي عليه (فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا) أي: بالطرقات (بد) بضم الموحدة وتشديد المهملة: أي فرقة، وقوله: (نتحدث فيها) استئناف بياني لعدم قدرتهم على تركها

(2/477)


أي: بالخيور الدنيوية والأخروية، فإن مجالسهم كانت مصونة عما لا يعنيهم من المباحات (فقال رسول الله: فإذا أبيتم إلا المجلس) مصدر ميمي بمعنى الجلوس، وعند البخاري إلا المجالس بالجمع، وأل فيه للعهد، والاستثناء فيه مفرغ: أي: إذا أبيتم سائر الأفعال إلا الجلوس في الطرقات، وفي رواية للبخاري: قال الحافظ: إنها لأكثر الرواة «فإذا أتيتم إلى المجالس» بالفوقية بدل الموحدة وبإلى التي للغاية بدل إلا، وفيه رواية «أبيتم إلا» بالموحدة وأداة الاستثناء للكشميهني، قال: وكذا وقع في الاستئذان وهو الصواب (فأعطوا الطريق حقه) أي: ما يطلب فيه من الآداب، وفي التعبير به إشارة إلى تأكد تلك الأمور والاهتمام بها والإضافة للملابسة (قالوا) قال الحافظ في «الفتح» : القائل هو أبو طلحة، وهو مبين في رواية مسلم، وحينئذٍ ففي إطلاق الجمع على الواحد مجاز وأنه من القائلين (وما حق الطريق) المطلوب ممن جلس فيه (قال: غض البصر) أي: كفه عن النظر (وكف الأذى) أي: الامتناع
عن أذى المارة، وقال الحافظ في «فتح الباري» : أشار بالأول إلى السلامة من التعرّض للفتنة بمن يمرّ عليه من امرأة ونحوها، وبالثاني إلى السلامة من الاحتقار والغيبة وبقوله: ورد السلام إلى إكرام المار (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى استعمال جميع ما يشرع (متفق عليه) رواه البخاري في «المظالم» وفي الاستئذان، ورواه مسلم في الاستئذان واللبس، ورواه أبو داود في الأدب، كذا في «الأطراف» للمزي ملخصاً. قال العلقمي: زاد أبو داود في الخصال المطلوبة لمن جلس على الطريق إرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد. زاد سعيدبن منصور: وإغاثة الملهوف. زاد البزار: وأعينوا على الحمولة. زاد الطبراني: وأعينوا المظلوم واذكروا الله كثيراً. وفي حديث أبي طلحة: وحسن الكلام. وعند الترمذي: وأفشوا السلام، وعند الطبراني: وأهدوا الأغبياء والغبي بالمعجمة والموحدة. قال في «النهاية» : القليل الفطنة، ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر وقد نظمها شيخنا في

(2/478)


أربعة أبيات فقال:

جمعت آداب من رام الجلوس على الـ
ــــطريق من قول خير الخلق إنساناً
أفش السلام وأحسن في الكلام وشم
ت عاطساً وسلاماً رد إحساناً
في الحمل عاون ومظلوماً أعن وأغث
لهفان هد سبيلاً واهد حيراناً
بالعرف مروانه عن منكره وكف أذى
وغض طرفاً وأكثر ذكر مولانا
قلت: والأبيات للحافظ ابن حجر كما صرح به السيوطي في مرقاة الصعود، وليست للسيوطي كما قد يتوهم من قوله شيخنا، ولعله شيخ شيخنا، فحذف شيخ من القلم أو من الكاتب. وفي حديث مالكبن التيهان زيادة: وأرشدوا الأعمى. رواه إسحاقبن راهويه وابن أبي شيبة، ومدار سنديهما على موسىبن عبيد الربذي وهو ضعيف، كذا في «مختصر إتحاف المهرة» للأبوصيري تلميذ الحافظ زين الدين العراقي.
191 - و (الثامن: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى) أي: أبصر (خاتماً) فيه لغات جمعها الحافظ ابن حجر في قوله:
خذ نظم عدّ لغات الخاتم انتظمت
ثمانياً ما حواها قط نظام
خاتام خاتم ختم خاتم وختا
م خاتيام وخيتوم وخيتام
والهمز مع فتح خاء تاسع وإذا
شاع القياس أتم العشر خاتام
واقتصر المصنف في «شرح مسلم» على أربع منها فتح التاء وكسرها وخيتام وخاتام، وجعل الحافظ الأخيرة في النظم بطريق القياس وكلام المصنف المذكور يخالفه (من ذهب في يد رجل) لم أقف على اسمه وراجعت «المبهمات» للمصنف فما تعرض له ولا في «شرح مسلم» (فنزعه فطرحه) فيه إزالة المنكر باليد للقادر عليها (وقال) محذراً من ذلك معيناً لعظم إثمه (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار) الأولى حمل مثله مما ورد في الكتاب أو السنة ولا يحيله العقل على ظاهره أي: أن هذا الخاتم قطعة نار في الآخرة، وإنه محمول على المجاز: أي: يئول بلابسه لعظيم إثمه على أن يجعل النار في محله، لأن الجزاء يكون على قدر الذنب وحسبه (فيجعلها في يده) أي: في أصبعه مجاز مرسل من إطلاق الكل وإرادة الجزء

(2/479)


كقوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} (البقرة: 19) والمجعول الأنملة لا الأصبع كله. ولما كانت زينتها زينة لليد عبر به. قال وفي هذا التصريح بأن النهي عن خاتم الذهب للتحريم اهـ. قلت: قد يؤخذ منه أنه من الكبائر لشدة الوعيد فيه وكذلك معيارها على الصحيح (فقيل: للرجل بعد ما ذهب رسول الله) أي: انصرف من المجلس (خذ خاتمك) وقوله: (انتفع به) استئناف لبيان علة الأخذ: أي: ببيع أو هبة أو جعله لمن يحل له استعماله من امرأة (فقال لا وا لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله) .
قال المصنف: هذا منه فيه المبالغة في امتثال أمر النبي واجتناب نهيه وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة، وهذا الرجل ترك خاتمه على سبيل الإباحة لمن أراد أخذه من الفقراء أو غيرهم وحينئذٍ يجوز أخذه لمن شاء، فإذا أخذه جاز تصرفه ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم عليه الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره، ولكن تورّع عن أخذه وأراد الصدقة به على من يحتاج إليه لأن النبي لم ينهه عن التصرف فيه بكل وضع وإنما نهاه عن لبسه، وبقي ما سواه من تصرفه على الإباحة اهـ. (رواه مسلم) في اللباس. وفي مختصر إتحاف المهرة عن سالم عن رجل من قومه من أشجع قال: «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليّ خاتم من ذهب، فأخذ جريدة فضرب بها في كفي فقال: اطرح هذا، فطرحته ثم دخلت عليه بعد ما ألقيته فقال لي: ما فعل الخاتم؟ قلت طرحته، قال: لم آمرك أن تطرحه إنما أمرتك أن تنتفع به ولا تطرحه» رواه أبو بكربن أبي شيبة وابن حنبل اهـ. قلت: وهو قريب من الحديث المذكور في مسلم.
192 - (التاسع: عن أبي سعيد الحسن) بن بشار (البصري) بتثليث الموحدة منسوب إلى البصرة الأنصاري مولاهم زيدبن ثابت، وقيل: مولى جميلبن قطبة، وأمه اسمها خيرة مولاة لأم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمربن الخطاب قالوا: فربما خرجت أمه في شغل فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها فيدرّ عليه فيرون تلك الفصاحة من ذلك. رأى طلحةبن عبيد الله وعائشة ولم يصح له سماع منهما. وقيل: إنه

(2/480)


لقي عليبن أبي طالب، وأيده الشيخ ابن حجر الهيتمي في «معجمه» ، وقيل: يصح وعليه جرى جمهور المتأخرين. قال المصنف في «التهذيب» : روينا عن الفضيلبن عياض قال: سألت هشام ابن حسان: كم أدرك الحسن من أصحاب رسول الله؟ قال: مائة وثلاثين، قلت: وابن سيرين؟ قال: ثلاثين. وروينا عن الحسن قال: غزونا غزوة إلى خراسان معنا فيها ثلاثمائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. ولم يصح للحسن سماع من أبي هريرة، ومن حكم الحسن ما ذكره الشافعي في «المختصر» في قول الله عزّ وجل: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159) قال الحسن: كان غنياً عن مشاورتهم، ولكن أراد أن يستنّ به الحكام بعده، وقال في قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} (الأنبياء: 79) لولا هذه الآية لرأيت الحكام هلكوا، أثنى على هذا بصوابه وعلى هذا باجتهاده اهـ. ومن كلامه كما في «أحاسن المحاسن» : يابن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك حتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحبّ العباد إلى الله من كان كذلك (أن عائذ) بالعين المهملة وبعد الألف همزة بعدها معجمة (ابن عمرو) بن هلال المزني، أبا هبيرة البصري، صحابي شهد الحديبية وبايع تحت الشجرة (رضي الله عنه) وهو أخو رافعبن عمرو، وتوفي في ولاية عبيد ابن زياد سنة إحدى وستين.
قال ابن الأثير: كان عائذ من صالحي الصحابة، سكن البصرة وابتنى بها داراً، وتوفي بها في إمارة عبيد ابن زياد أيام يزيدبن معاوية، وأوصى أن يصلي عليه ابن زياد، وروى عنه الحسن ومعاويةبن قسرة وعامر الأحول وغيرهم اهـ: قال الذهبي في «التهذيب» : روى حشرجبن عبد ابن حشرجبن عائذ المزني عن أبيه عن جده أن عائذبن عمرو كان يركب السروج المنمرة ويلبس الخزّ لا يرى بذلك بأساً، وقد زوّج في غزاة واحدة أربعين رجلاً من مزينة كل امرأة على ألف وصيف. قال ثابت البناني: أوصى عائذ أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي وذلك في إمرة عبيد ابن زياد اهـ. وكذا قال ابن الجوزي في «المستخرج» المليح وزاد: قال ابن حزم في آخر سيرته: روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث أخرج له الشيخان ثلاثة أحاديث: أحدها للبخاري موقوف عليه، وآخران لمسلم وشاركهما عنه النسائي (دخل علي عبيد ا) بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية (ابن زياد) ابن أبيه (فقال) يعظه (أي) بفتح فسكون: حرف لنداء القريب (بنيّ) بضم الموحدة

(2/481)


وفتح النون وتشديد التحتية مفتوحة ومكسورة، وقد بينت وجههما في باب ما يقول إذا دخل بيته من «شرح الأذكار» ، وأتي به من باب الرفق في الوعظ ليسمع ويمتثل (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) : جملة في محل الحال على حكاية الحال الماضية (إن شر الرعاء) بكسر الراء والمد، ويقال بضمها وبالهاء بعد الألف بدل الهمز جمع راع (الحطمة) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية.
قال المصنف: قالوا هو العنيف في رعيته لا يرفق بها في سوقها ومرعاها بل يحطمها في ذلك وفي سقيها، وغيره: ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها ويحطمها (فإياك) منصوب على التحذير (أن نكون منهم) فتهوى بتلك المذمة (فقال) ابن زياد (له) أي: لعائذ (اجلس فإنما أنت من نخالة) بضم النون وبعدها معجمة (أصحاب رسول الله) النخالة هنا استعارة من نخالة لدقيق وهي قشوره وهي والحتافة والحسافة بمعنى واحد (فقال) عائذ مستبعداً أن يكون في الصحابة من يستعار لهم النخالة التي لا يعبأ بها (وهل كانت فيهم) أي: الصحابة (نخالة) وهم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وشرّفهم باقتباس أنواره.
وإذا سخر الإله أناساً
لسعيد فكلهم سعداء
(إنما كانت النخالة) أي: السقط (بعدهم) أي: بعد قرنهم (وفي غيرهم) أما هم فكلهم سادة قادة يكفيك في فضلهم حديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ولا يضرّ ضعفه لأنه يعمل به في هذا المقام (رواه مسلم) في «المغازي» .
193 - (العاشر: عن حذيفة) بن اليمان (رضي الله عنه عن النبي قال: والذي نفسي بيده) أتي به لتأكيد الأمر بعده، والقسم يسن لمثل ذلك (تأمرنّ) بضم الراء والفاعل ضمير لجماعة

(2/482)


محذوف بعدها لالتقاء الساكنين والضم دليل عليه، والخطاب لأمة الموجودين حقيقة ومن سيأتي بطريق التبع (بالمعروف) شرعاً (ولتنهون) بضم واو الجماعة ولام الفعل محذوف قبلها لالتقاء الساكنين والفتح دليل عليه ولم تقلب واو الضمير ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها لعروض حركتها (عن المنكر أو) عاطفة: أي: ليكون أحد الأمرين: إما امتثال ما أمرتم به من الأمر والنهي، أو وقوع ما أنذرتم به في قوله: (ليوشكنّ ا) بضم التحتية مضارع أوشك من أفعال المقاربة (أن يبعث عليكم عقاباً منه) بجور الولاة أو تسليط العداة أو غيره من البلاء (ثم تدعونه) برفع ذلك (فلا يستجاب لكم) لكون الحكمة الإلهية جعلته جزاء لما فرطتم فيه من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن المنكر إذا لم ينكر عمّ شؤمه وبلاؤه فاعله وغيره، وتقدم حديث «أنهلك وفينا الصالحون» وأن إنكاره على قدر ما يتمكن منه دافع لذلك (رواه الترمذي) في «الفتن» (وقال حديث حسن) .
194 - (الحادي عشر: عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي قال: أفضل الجهاد) من الفضل زيادة الثواب (كلمة عدل) أي: حق (عند سلطان) أي: ذي أمر (جائر) سيأتي شرحه في الحديث بعده (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة وأحمد والترمذي والبيهقي في الشعب أيضاً عن طارقبن شهاب.
195 - (الثاني عشر: عن أبي عبد الله طارق) بمهملة أوله وبعد الألف راء مهملة بعدها قاف (ابن شهاب) بكسر المعجمة أوله وآخره موحدة، ابن عبد شمس أو عبد الله (البجلي) بفتحتين

(2/483)


نسبة إلى بجيلة، وتقدم بيانها في ترجمة جرير البجلي في باب النهي عن البدع (الأحمسي) بالمهملتين نسبة لأحمسبن الغوثبن أنماربن أرءاسبن عمروبن الغوثبن كهلان. قال الحازمي: وإلى أحمس هذا ينسب جماعة من الصحابة والتابعين (رضي الله عنه) أدرك الجاهلية وصحب النبي، وغزا في زمن أبي بكر وعمر ثلاثاً وثلاثين أو ثلاثاً وأربعين غزوة. روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة، سكن الكوفة. وتوفي سنة اثنتين وقيل: سنة ثلاث وثمانين. روي له في أبي داود والنسائي أحاديث عن النبي عد منها الحافظ المزي في «الأطراف» خمسة، وسادساً رواه ابن مسعود عن النبي (أن رجلاً سأل النبي وقد وضع رجله في الغرز) جملة حالية من مفعول سأل كما هو المتبادر (أيّ الجهاد أفضل؟) أي: أكثر ثواباً (قال كملة حق) وفي نسخة «كلمة عدل» أي: من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ردّ عن محترم من نفس أو مال أو نحو ذلك (عند سلطان جائر) وإنما كان أفضل الجهاد لأنه يدل على كمال يقين فاعله وقوة إيمانه وشدة إيقانه حيث تكلم بتلك الكلمة عند ذلك الأمير الجائر المهلك عادة بجوره وظلمه ولم يخف منه ولا من جوره وبطشه، بل باع نفسه من الله وقدم أمر الله وحقه على حق نفسه، وهذا بخلاف المجاهد للقرن فإنه ليس في المخاطرة كمخاطرة من تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر (رواه النسائي) في البيعة والمنشط (بإسناد صحيح) رواه عن إسحاقبن منصور عن ابن مهدي عن سفيان عن علقمةبن مرثد عنه به قاله المزي في «الأطراف» (الغرز) المذكور في الحديث (بغين معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم زاي وهو) لغة (ركاب كور الجمل) أي: محل الركوب من الكور. في «الصحاح» : الكور بالضم الرحل بأداته جمعه أكوار وكيران (إذا كان من جلد أو خشب، وقيل: لا يختص
بجلد وخشب) بل هو الكور مطلقاً مثل الركاب للسرج.

(2/484)


196 - (الثالث عشر: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن أول ما دخل النقص) ما مصدرية: أي: أول دخوله (على بني إسرائيل) في دينهم (أنه) أي: الشأن (كان الرجل يلقى الرجل) الفاعل معصية (فيقول) معطوف على يلقى (يا هذا اتق ا) أي: اجعل امتثال أمره واجتناب نهيه وقاية لك من عذابه (ودع) اترك (ما تصنع) من المعاصي (فإنه) أي: ما تصنعه (لا يحل لك) لكونه من المحرمات (ثم يلقاه من الغد وهو على حاله) في المعصية (فلا يمنعه ذلك) أي: وجدان صاحبه ملازماً على المحرمات التي نهى عنها من (أن يكون أكيله) أي: مواكله (وشريبه) أي: مشاربه (وقعيده) أي: مقاعده: أي لا يمنعه ملازمة صاحب لما نهاه الله عنه وحرمه عليه من مصاحبته ومداخلته ومباسطته وهو مأمور بمهاجرته حينئذٍ وترك ولائه إلا أن خاف محذوراً فيداريه ولا يباسطه ويداخله (فلما فعلوا ذلك) المذكور، وأتى فيه باسم الإشارة الموضوع للبعيد تفخيماً لما أتوا به وتشيعاً له، أو لأن اللفظ لما لم يبق زمانين صار كالبعيد فأشير إليه بما يشار به إلى البعيد (ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال) مستدلاً على عموم اللعنة لجميعهم بقوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسىبن مريم} قال أبو حيان في «النهر» : قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل ولعن مبنى للمفعول حذف فاعله فيجوز أن يكون الفاعل غيره تعالى كالأنبياء، والمراد باللسان الجارحة لا اللغة أي الناطق بلعنتهم هو لسان داود وعيسى (ذلك) أي: اللعن كائن (بما عصوا) أي: بسبب عصيانهم، وذكر هذا على سبيل التوكيد، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلق بهذا الوصف الدالّ على العلية وهو {الذين كفروا} تقول كما رجم الزاني، فتعلم أن سبب رجمه الزنى، كذلك
اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانياً في قوله: {بما عصوا} أو ما مصدرية أي بعصيانهم

(2/485)


( {وكانوا يعتدون} ) يجوز أن يكون معطوفاً على عصوا فيكون داخلاً في صلة «ما» أي: بعصيانهم وكونهم معتدين ويجوز أن يكون إخباراً من الله تعالى أن شأنهم الاعتداء ( {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ) ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك: أي: لا ينهي بعضهم بعضاً، وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به وعدم النهي عنه والمعصية إذا فعلت وقدّرت على العبد ينبغي أن يسترها، فإذا فعلت جهرة وتواطئوا على عدم إنكارها أو ما في معناها مما ذكر عن بني إسرائيل في الخير كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإفشائها ( {لبئس ما كانوا يفعلون} ) تعجب من سوء فعالهم مؤكد باللام.
قال في «الكشاف» : يا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به، كأنه ليس من خلة الإسلام مع ما يتلون من كتاب الله تعالى وما فيه من المبالغات في هذا الباب (ترى) بصرية ويحتمل أن تكون قلبية ( {كثيراً منهم} ) أي: بني إسرائيل ( {يتولون الذين كفروا} ) قيل: المراد به كعببن الأشرف وأصحابه الذين استجاشوا المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} ) أي: لبئس سبباً قدموه ليردوا عليه يوم القيامة ( {أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} ) هو المخصوص بالذم، والمعنى موجب سخط الله والخلود في العذاب أو علة الذم، والمخصوص محذوف: أي: لبئس شيئاً ذلك لأن كسبهم السخط والخلود كذا في البيضاوي تبعاً «للكشاف» . وتعقبه في الإعراب الأول في «النهر» بأنه لا يأتي على مذهب سيبويه من أن «ما» معرفة تامة بمعنى الشيء فعليه فالجملة بعد صفة للمخصوص المحذوف والتقدير: ولبئس الشيء شيئاً قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا «أن سخط» في موضع رفع على البدل من المخصوص المحذوف أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي: هو أن سخط ( {ولو كانوا يؤمنون با والنبي} ) يعني نبيهم. وإن كانت الآية في المنافقين فالمراد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ( {وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} ) إذ الإيمان الصحيح يمنع ذلك ( {ولكن كثيراً منهم} ) من ذلك الكثير ( {فاسقون} ) خارجون عن دينهم أو تمردوا في النفاق: أي: وقليل منهم قد آمن (ثم قال) : (كلا) حقا (وا لتأمرنّ) بضم الراء (بالمعروف) شرعاً (ولتنهونّ) بفتح الهاء وضم واو الجمع الفاعل (عن المنكر) شرعاً (ولتأخذنّ) بضم الذال

(2/486)


دليلاً على الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين (على يد الظالم) بمنعه باليد من الظلم، وإن عجزتم فباللسان (ولتأطرنه) بكسر الطاء وضم الراء: أي: لتردنه (على الحق) أداء وأخذاً (أطرا) بفتح الهمزة وأصل الأطر العطف. قال في «النهاية» : ومن غريب ما يحكى فيه عن نفطويه
أنه قال بالظاء المعجمة من باب ظأر، ومنه الظئر المرضعة، وجعل الكلمة مقلوبة فقدم الهمزة على الظاء (ولتقصرنه على الحق) أداء وأخذاً (قصراً) أي: لتحبسنه عليه حبساً وتمنعنه من مجاوزته: أي: ليكونن منكم ما ذكر (أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم) فأو لأحد الأمرين: أي: ليكونن منكم ما أمرتم به، أو ليكونن منكم ما حذرتم منه عند عدم فعل ذلك (رواه أبو داود) في «الملاحم» (والترمذي) في «التفسير» وابن ماجه في «الفتن» (وقال) أي: الترمذي (حديث حسن هذا) اللفظ المذكور (لفظ) رواية (أبي داود) فالإضافة إليه للملابسة (ولفظ) رواية (الترمذي) من حديث ابن مسعود (فقال) أي: ابن مسعود (قال رسول الله: لما) وجودية (وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم) عنها (فلم ينتهوا) عنها فكان على العلماء هجرهم وبغضهم فيه فلم يفعلوا ذلك بل حالفوهم كما قال (فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم بالمد وشاربوهم) أي: جلسوا معهم وأكلوا وشربوا (فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم) أبعدهم (على لسان داود) بن إيشا (وعيسىبن مريم ذلك) المذكور من اللعنة وضرب القلوب بعضها ببعض (بما عصوا وكانوا يعتدون) تقدم نظيره وظاهر جريانه هنا وظاهر أنه على تقدير كون «وكانوا» خارجاً عن صلة «ما» فيكون من كلام النبي لبيان أن الاعتداء وصفهم وشأنهم (فجلس رسول الله) تعظيماً للأمر الصادر منهم وتنبيهاً على فخامة شأنه ليتوجه إليه السامع (وكان متكئاً) يحتمل أن يكون على تكاة وأن يكون على مرفقه والجملة حالية بتقدير قد (فقال لا) أي: لا يكفي مجرد النهي باللسان مع القدرة على المنع باليد والقصر على الحق (والذي

(2/487)


نفسي بيده) أي: بقدرته (حتى تأطروهم) أي: العصاة (على الحق أطراً. قوله تأطروهم) بالهمز وكسر الطاء المهملة (أي: تعطفوهم) وأصل: الأطر العطف (ولتقصرنه) بضم الصاد المهملة (أي لتحبسنه) والقصر: الحبس ومنه قوله تعالى:
{حور مقصورات في الخيام} (الرحمن: 72) .
197 - (الرابع عشر: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس) بضم السين إتباعاً للفظ: أي بتشديد الياء وهي وصلة لنداء ما فيه أل والناس اسم جنس وهو من ألفاظ العموم إذا حلى بأل كما هنا (إنكم تقرءون هذه الآية) ثم بينها بقوله: ( {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} ) أي: وتتوهمون منها أن الإنسان إذا فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه في نفسه ورأى غيره بضد ذلك فلم يأمره ولم ينهه لا حرج عليه وليس كذلك، وفي رواية زيادة «وتضعونها على غير موضعها» (وإني سمعت رسول الله) كذا في النسخ بالواو وفي «المصابيح» : «فإني» بالفاء، قال العاقولي: الفاء فيه فصيحة تدل على محذوف كأنه قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتجزون على عمومها وليس كذلك، فإني سمعت رسول الله (يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم) يفعل الظلم ومنه المعصية (فلم يأخذوا على يديه) بأن يمنعوه من ذلك باليد إن قدروا وإلا فباللسان، فإن عجزوا بأن خافوا على نفس محرمة أو مال أو أن يقع المنكر عليه في منكر أشد مما أراد فعله فلا حرج عليهم؛ فقوله: (أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) يقع على الظالم لظلمه وعلى غيره لإقراره عليه وقد قدر على منعه، أما المعذور فلا يتناوله بفضل اهذا المحذور {لا يكلف الله نفساً إلا

(2/488)


وسعها} (البقرة: 44) والجملة خبر إن، والآية على هذا البيان عامة شاملة جميع الناس فيجب العمل بذلك.
قال العاقولي: والقول الصحيح أن الآية ليست مخالفة لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ المعنى: لا يضركم تقصير غيركم بعد سماع ذلك منكم فقد أديتم الواجب عليكم اهـ (رواه أبو داود) في «الملاحم» (والترمذي) في «الفتن» (والنسائي) في «التفسير» وابن ماجه في «الفتن» (بأسانيد صحيحة) قال المزي: رواه أبو داود عن وهببن منبه عن خالد الطحان وعن عمروبن عوف عن هشيم كلاهما عن إسماعيلبن أبي خالد الطحان عن قيسبن أبي حازم عن الصديق، ورواه الترمذي في «الفتن» عن أحمدبن منيع ومحمدبن بشار فرفعهما كلاهما عن يزيدبن هارون عن إسماعيل نحوه وقال: هكذا روى غير واحد نحو حديث يزيد، ورفعه بعضهم ووقفه بعضهم، وأعاد حديث ابن منيع في «التفسير» عن عقبةبن عبد الله عن ابن المبارك وابن ماجه في «الفتن» عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن عبد ابن نمير وأبي أسامة ثلاثتهم عن إسماعيل نحوه اهـ. فمدار سند الحديث عند الثلاثة الذين ذكرهم المصنف على إسماعيل فإسناد الحديث واحد، ولعل قول المصنف الأسانيد بالنسبة لأصحاب الكتب الثلاثة إلى إسماعيل، والله أعلم.

24 - باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وخالف قوله
بالرفع (فعله) بالنصب أي كان أمره مخالفاً لفعله، ويجوز العكس.
(قال الله تعالى) عما لا يليق بشأنه علوّاً كبيراً معيراً لليهود قال في «النهر» : وبنو

(2/489)


إسرائيل وإن كانوا المخاطبين بالآية إلا أنها عامة في المعنى ( {أتأمرون الناس} ) استفهام توبيخ وتقريع (بالبرّ) فعل الخير من صلة رحم وإحسان وطاعة الله تعالى ( {وتنسون أنفسكم} ) تتركونها من ذلك البرّ ( {وأنتم تتلون الكتاب} ) تقرءونه عالمين بما انطوى عليه فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم وخالفتموه وأنتم تتلونه، وهي حالية أبلغ من المفرد، والكتاب: التوراة والإنجيل وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم ( {أفلا تعقلون} ) تنبيه على أن ما صدر منهم خارج عن أفعال العقلاء، إذ مركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل مصلحة نفسه كيف يحصل لغيره ولاسيما مصلحة يكون فيها نجاته، والفاء للعطف وكان الأصل تقديمها لكن الهمزة لها صدر الكلام فقدمت على الفاء، هذا مذهب سيبويه والنحاة. وذهب الزمخشري إلى أن الفاء واقعة موضعها ويقدر بين الهمزة والفاء فعلاً يصح العطف بالفاء عليه، وحكم الواو وثم حكم الفاء فيما ذكر. وقد رجع الزمخشري في بعض تصانيفه إلى موافقة الجماعة اهـ من النهر ملخصاً.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} ) قال البيضاوي: روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فأنزل الله تعالى {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله} فولوا يوم أحد فنزلت. ولم مركبة من لام الجر وما الاستفهامية، والأكثر على حذف ألفها مع حرف الجر لكثرة استعمالهما معاً واعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه ( {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} ) المقت: أشد البغض وهو نصب على التمييز للدلالة على أن قولهم لهذا مقت خالص كبير عند من يحقر دونه كل عظيم مبالغة في المنع عنه.
(وقال تعالى إخباراً) مخبراً (عن شعيب) بن منكيلبن يشجببن مدينبن إبراهيم الخليل (صلى ا) على نبينا و (عليه) وعلى سائر النبيين (وسلم) وفيه الصلاة على كل نبي، وقد ورد مرفوعاً «صلوا على

(2/490)


أنبياء الله فإنهم أرسلوا كما أرسلت» رواه الطبراني وما ذكرته من نسب شعيب هو ما نقله المصنف في «التهذيب» عن الثعلبي عن عطاء وغيره. وقال ابن الجوزي في «شذوذه» : هو شعيببن عنقاءبن بويببن مدينبن إبراهيم ( {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} ) أي: وما أريد أن آتي بما أنهاكم عنه لأستبد به، فلو كان صواباً لأثرته ولم أعرض عنه فضلاً عن أني أنهي عنه، يقال خالفت زيداً إلى كذا: إذا قصدته وهو مولّ عنه، وخالفته عنه: إذا كان الأمر بالعكس.
1981 - (وعن أبي زيد أسامةبن زيدبن حارثة) الصحابي ابن الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) الأولى عنهم لما ذكر من أن جدّه صحابي أيضاً وقد تقدم التنبيه على ذلك في باب الصبر (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يؤتى بالرجل) أل فيه للجنس (يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه) أي: تخرج أمعاؤه من جوفه، والاندلاق بالقاف: خروج الشيء من مكانه (فيدور) ذلك الرجل (بها) أي: فيها (كما يدور الحمار في الرحى) كأنه أراد أن الرجل يدور فتلتف عليه أمعاؤه فيبقى هكذا يدور وهي تدور عليه عبرة ونكالاً، والأظهر أن المراد أنه يدور بسبب ألم خروجها منه حوله دوران الحمار حول الرحى بسببها، اللهم ربنا قنا عذاب النار (فيجتمع إليه أهل النار) أي: الذين بها ونسبتهم إليها باعتبار هذه الملابسة متعجبين من دخوله النار وقد كان يأمرهم بما يبعدهم منها (فيقولون: يا فلان) كناية عن اسمه (مالك؟) مبتدأ وخبر (ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟) ومن شأن الآمر أن يفعل ما يأمر به والناهي أن يترك ما نهى عنه، وفعل المعروف وترك المنكر مانع بالوعد الذي لا يخلف عن دخول النار (فيقول بلى) جواب عن قولهم ألم تك الخ، وبين المقتضى لحلوله بالنار بقوله: (كنت آمر بالمعروف ولا آتية، وأنهى عن المنكر وآتيه) فشدد عليه الأمر لعصيانه مع العلم المقتضي للخشية والمباعدة عن المخالفة، وا غالب على

(2/491)


أمره، ولا حول ولا قوّة إلا با (متفق عليه) رواه البخاري في صفة النار وفي «الفتن» ، ورواه مسلم في آخر الكتاب.
(قوله تندلق هو بالدال المهملة: ومعناه تخرج، والأقتاب) بالقاف والفوقية وبعد الألف موحدة (الأمعاء) جمع معي (واحدها) أي: مفردها (قتب) قال العاقولي: بكسر القاف وسكون الفوقية هذا قول الكسائي فيما نقله عنه الجوهري قال: قال أبو عبيدة: القتب ما انحوى من البطن وهي الحوايا، وأما الأمعاء فهي الأقصاب اهـ.

25 - باب الأمر بأداء الأمانة إلى صاحبها
(قال الله تعالى) : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} ) قال في «النهر» بعد أن نقل أن سبب نزول الآية قصة مفتاح الكعبة. وعن ابن عباس وغيره: نزلت في الأمراء وأن يؤدوا الأمانة فيما أئتمنهم الله من أمر رعيته. ومناسبتها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين وذكر عمل الصالحات نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة: فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة. والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهر من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين. ولما كانت الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المصالح ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره، أمر بأداء الأمانة ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق.
(وقال تعالى) : {إنا عرضنا الأمانة} ) قال في «النهر» : الظاهر أنها كل ما يؤمن عليه من أمر ونهي وشأن

(2/492)


من دين ودنيا، فالشرع كله أمانة والظاهر عرض الأمانة أي الأوامر والنواهي ( {على السموات والأرض والجبال} ) فتثاب إن أحسنت وتعاقب إن أساءت ( {فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} ) وذلك بإدراك خلقه الله تعالى فيها وهو غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه، وحنّ إليه الجذع، وكلمته الذراع، فيكون العرض والإباء والإشفاق على هذا حقيقة. قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهما وتمييزاً فخيرت في الحمل وذكر الجبال مع أنها من الأرض لزيادة قوتها وصلابتها تعظيماً للأمر، وقيل: المراد الإشارة إلى كمال عظمها وأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها وأشفقن منها (وحملها الإنسان) مع ضعف بنيته ورخاوة قوته، لا جرم فإن لاراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين (إنه كان ظلوما) وصفه به لكونه تاركاً أداء الأمانة (جهولاً) بكنه عاقبتها. وفي الآية وجوه أخر ذكر بعضها القاضي البيضاوي.
1991 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: آية) بالمد. واختلف في وزنها على ستة أقوال تقدم في شرح خطبة الكتاب أنه ذكرها ابن الصائغ في «شرح البردة» : أي: علامة (المنافق) أي: علامة نفاقه الدالّ على قبح نيته وفساد طويته (ثلاث) أي: خصال، وأفرد الآية على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، ويؤيد الأول أنه جاء في «صحيح أبو عوانة» «علامات المنافق ثلاث» . فإن قيل: ظاهر الحديث الحصر في الثلاث، وقد جاء في الحديث الآخر «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً» .
فالجواب ما قاله القرطبي: لعله تجدد له من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وقال الحافظ العسقلاني: لا منافاة بين الخبرين لأنه لا يلزم من عدّ الخصلة كونها علامة، على أن في رواية لمسلم في حديث أبي هريرة ما يدل على عدم الحصر، فإن لفظه: من علامة المنافق ثلاث، فيكون أخبر ببعضها في وقت وببعضها في وقت آخر (إذا حدث كذب) الجملة خبر بعد خبر أو بدل مما قبله بدل مفصل من مجمل بتقدير سبق العطف على الإبدال وهذه الخصلة أقبح الثلاث

(2/493)


(وإذا وعد) يخير (أخلف) أي: لم يف وبوعده. ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها أن الإخلاف قد يكون بالفعل وهو غير الكذب الذي هو وصف القول، ثم محله فيمن عزم على الخلف حال الوعد، أما لو عزم على الوفاء حال الوعد ثم شنعته الأقدار من ذلك فلا يكون فيه آية النفاق نقله السيوطي وغيره، ولا يلزم مما ذكر وجوب الوفاء بالوعد، لأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم لأنه عزم على الإخلاف في حال الوعد على أن علامة النفاق لا يلزم تحريمها، إذ المكروه لكونه يجر إلى الحرام يصح أن يكون علامة على الحرام، ونظيره أشراط الساعة فإن منها ما ليس بمحرم (وإذا أؤتمن خان) وخص هذه الخصال بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي عليها مبني النفاق من مخالفة السرّ العلن. والكذب الإخبار على خلاف الواقع، وحق الأمانة أن تؤدي إلى أهلها والخيانة مخالفة لها، والإخلاف في الوعد ظاهر ولذا صرح بأخلف (متفق عليه) روياه في كتاب الإيمان ورواه الترمذي والنسائي.
(وفي رواية) هي لمسلم فقط (وإن صام وصلى) أي: وإن عمل عمل المؤمنين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات، وهذا الشرط اعتراض بين الآيات المجملة ومفسرها المفصل وارد للمبالغة لا يستدعي الجواب، وتسمى إن فيه وصلية والواو الداخلة عليها قيل حالية، وعليه جرى السعد التفتازاني في المطول، وقيل: عاطفة. وفي رواية «وإن صلى وصام وحج واعتمر وقال إني مسلم» (وزعم أنه مسلم) أي: كامل الإسلام. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن من كانت فيه عدة الخصال الثلاث صار في النفاق الذي هو الكفر الذي قال فيه مالك: النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الزندقة عندنا اليوم، وليس الأمر على مقتضى هذا الظاهر لما قررناه أول كتاب الإيمان: أي: من أن المعاصي لا تخرج الإنسان عن الإيمان. ولما استحال حمل هذا الحديث على ظاهره على مذهب أهل السنة اختلف العلماء فيه على أقوال: فقيل المراد من النفاق نفاق العمل: أي صفاتهم الفعلية. ووجه ذلك أن من فيه هذه الصفات كان ساتراً لها ومظهراً لنقائضها صدق عليه اسم منافق. أو قيل الحديث محمول على من غلبت عليه هذه الخصال واتخذها عادة ولم يبال بها تهاوناً واستخفافاً بأمرها، فإن من كان هكذا كان فاسد الاعتقاد غالباً فيكون منافقاً.

(2/494)


وقيل: إن هذه الخصال كانت علامة المنافق في زمنه، فإن أصحاب النبيّ كانوا مجتنبين لهذه الخصال بحيث لا تقع منهم ولا تعرف فيما بينهم، وبهذا قال ابن عباس وابن عمرو، روي عنهما ذلك في حديث «أنهما أتيا يسألانه عن هذا الحديث فضحك النبي وقال: مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين أنتم من ذلك برآء» ذكر الحديث بطوله القاضي عياض، قال: وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة اهـ.
2002 - (وعن حذيفةبن اليمان) بضم المهملة وفتح المعجمة وسكون التحتية بعدها فاء كما تقدم مع ترجمته (رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين) يعني في الأمانة وإلا فروايات حذيفة كثيرة، وعنى بالحديثين قوله: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال والثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة (قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر) وقوع (الآخر) الأول من الحديثين (حدثنا أن الأمانة) قال المصنف: الظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف الله به عباده والعهد الذي أخذه عليهم وهي التي في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} وقال صاحب «التحرير» : هي عين الإيمان، فإذا استمكنت من قلب العبد قام حينئذٍ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد عليه منها وجد في إقامتها (قد نزلت) بالفطرة (في جذر) سيأتي ضبطه ومعناه في الأصل (قلوب الرجال) أي: في أصلها (ثم نزل القرآن) شفاء من أدواء الجهل مزيحاً لظلم الشبه (فعلموا) أي: علموها (من القرآن) بآية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض} (وعلموا) أي: علموها (من السنة) بالحديث المذكور.
u
والحاصل أن الأمانة كانت لهم بحسب الفطرة وحصلت لهم أيضاً بطريق الكسب من الكتاب والسنة (ثم حدثنا) هو الحديث الثاني كما تقدم (عن رفع الأمانة) من العالم (فقال: ينام الرجل النومة) المرة من النوم (فتقبض الأمانة من قلبه) لسوء فعل منه تسبب عنه ذلك قال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) ويحتمل أن ذلك لانتهاء

(2/495)


مدتها فيالعالم (فيظل أثرها مثل الوكت) قال الهروي: هو الأثر اليسير، وعليه اقتصر المصنف فيما سيأتي. وقال غيره: هو سواد يسير، وقيل: هو لون يحدث مخالفاً للون الذي كان قبله (ثم ينام النومة فتقبض لأمانة) أي: أثرها التام المشبه بالوكت (من قلبه فيظل أثرها) الباقي (مثل أثر المجل) والمجل (كـ) أثر (جمر دحرجته على رجلك فنفط) بكسر الفاء، وذكر مع أن الرجل مؤنثة لإرادة العضو (فتراه) أي: النفط (منتبراً) أي: مرتفعاً افتعال من النبر الارتفاع، ومنه المنبر: ويجوز كون الظرف بدلاً من قوله: «مثل أثر المجل» وخالف بين لفظي أداة التشبيه تحاشياً عن نقل التكرار وجملة (وليس فيه شيء) حالية (ثم) قصد بيان كيفية دحرجة الجمر على الرجل وتنفطها منه فـ (أخذ حصاة فدحرجه على رجله) .
قال المصنف: هكذا وقع في أكثر الأصول فدحرجه وهو صحيح: أي: دحرج المأخوذ. وفي رواية «فأخذ حصى فدحرجه» قال المصنف: هكذا ضبطناه وهو ظاهر، وما سلكته من أن الوكت ثم المجل هنا الأثران الباقيان من أثر الأمانة هو ظاهر اللفظ، لكن قال صاحب «التحرير شرح مسلم» : معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئاً فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نوره وخلفه ظلمة كالوكت وهو أعراض لون مخالف اللون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى النفط وأخذه الحصاة ودحرجته إياها أراد به زيادة البيان والإيضاح والله أعلم، وما فسرناه به أظهر والعلم عند الله تعالى (فيصبح الناس) بعد تلك النومة التي رفع فيها الأمانة (يتبايعون فلا يكاد) أي: يقارب (أحد) منهم (يؤدي الأمانة) فضلاً عن أدائها بالفعل (حتى) غائية (يقال) لعزة هذا الوصف وشهرة ما تيصف به (إن في بني فلان رجلاً أميناً) ذا أمانة (حتى يقال للرجل ما أجلده) على العمل (ما أظرفه) من الظرف (ما أعقله) أي: ما أشد يقظته وفطانته (وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) فضلاً عن الأمانة التي هي من شعبه (ولقد أتى عليّ)

(2/496)


بتشديد التحتية (زمان وما أبالي أيكم بايعت) المراد المبايعة المعروفة ونقل عياض وصاحب «التحرير» أن المراد عقد بيعة الخلافة وغيرها من التحالف في أمور الدين قال المصنف: هذا خطأ من قائله.
وفي الحديث مواضع تبطله، منها قوله: ولئن كان يهودياً أو نصرانياً، ومعلوم أن اليهودي والنصراني لا يعاقد على شيء من أمور الدين اهـ والجملة حالية، وعائد أي محذوف، أي: لا أبالي بالذي بايعته لعملي بأن الأمانة لم ترتفع وأن في الناس وفاء بالعهد، فكنت أقدم على مبايعة من لقيت غير باحث عن حاله وثوقاً بالناس وأمانتهم فإنه وا (لئن كان مسلماً ليردنه) بفتح الدال (عليَّ دينه) لما يحمله على أداء الأمانة لأهلها وترك الخيانة (وإن كان نصرانياً أو يهودياً) ليس عنده من الإيمان ما يحمله على أداء الأمانة لأهلها (ليردنه عليَّ ساعيه) أي: الوالي عليه: أي يقوم بالأمانة فيستخرج حقي منه (وأما اليوم) فقد ذهبت الأمانة إلا القليل فلذا قال: (فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً) يعني أفراداً أعرفهم وأثق بهم. قال الكرماني: إن قلت رفع الأمانة ظهر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما وجه قول حذيفة: وأنا أنتظر الثانية. قلت: المنتظر هو الرفع بحيث يبقى أثرها مثل المجل ولا يصح الاستثناء بمثل فلاناً وفلاناً، وهذا الحديث من أعلام النبوة (متفق عليه) رواه البخاري في «الرقاق» و «الفتن» والاعتصام، ورواه مسلم في «الإيمان» ، ورواه الترمذي وابن ماجه في «الفتن» كذا في «الأطراف» للمزي (قوله: جدر بفتح الجيم) قال المصنف: وكسرها لغتان. قال القاضي عياض: مذهب الأصمعي في الحديث فتح الجيم وأبو عمرو بكسرها وإسكان الذال المعجمة مع الوجهين في الجيم (وهو أصل الشيء، والوكت) بوزن الفلس (بالناء المثناة الأثر اليسير، والمجل: بفتح الميم وإسكان الجيم وفتحها لغتان حكاهما صاحب «التحرير» والمشهور الإسكان فلذا اقتصر عليه المصنف هنا، يقال مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلاً بفتحها أيضاً ومجلت بفتح الجيم تمجل بضمها مجلاً بإسكانها لغتان مشهورتان وأمجلها غيره. قال أهل اللغة والغريب: المجل (تنفط في اليد ونحوها من أثر عمل) بفأس أو نحوها وتصير
كالقبه فيه ماء قليل.
(قوله

(2/497)


منتبراً) اسم فاعل: أي: مرتفعاً (قوله ساعيه: الوالي عليه) .
2013 - (وعن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: يجمع) بالبناء للفاعل ومرجع الضمير هو الله تعالى وقد صرح به في نسخة، وقوله: (تبارك) أي: بارك (وتعالى) علواً معنوياً عما لا يليق بشأنه جملة في محل الحال و (الناس) مفعول: بجمع أي: يجمعهم بعد البعث بأرض المحشر (فيقوم المؤمنون) أي: دون الكفار، ويحتمل أن يكون معهم المنافقون ثم يميزوا عند المرور على الصراط (حتى تزلف) بضم الفوقية وسكون الزاي وفتح اللام: أي: تقرب (لهم الجنة) قال تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين} (فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة) أي: اسأل لنا من الله فتحها لندخلها (فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم) .
قال المصنف في باب إثبات الشفاعة من «شرح مسلم» : اعلم أن العلماء من أهل الفقه والأصول وغيرهم اختلفوا في جواز المعاصي على الأنبياء. وقد لخص القاضي عياض مقاصد المسألة فقال: لا خلاف أن الكفر عليهم بعد النبوة ليس بجائز بل هم معصومون منه. واختلف فيه قبل النبوة والصحيح أنه لا يجوز؛ وأما المعاصي فلا خلاف أنهم معصومون من كل كبيرة. واختلف هل ذلك بطريق العقل أو الشرع؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق ومن معه: ذلك ممتنع من متقضى دليل المعجزة. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ومن وافقه: ذلك من طريق الإجماع. وذهب المعتزلة إلى أن ذلك من طريق العقل، وكذلك اتفقوا على أن كل ما كان طريقه الإبلاغ في القول فهم معصومون فيه على كل حال. أما ما كان من طريق الإبلاغ في الفعل فذهب

(2/498)


بعضهم إلى العصمة فيه رأساً وأن السهو والنسيان لا يجوز عليهم فيه، وتأولوا أحاديث السهو في الصلاة، وهذا مذهب الأستاذ أبي المظفر الإسفراييني من أئمتنا الحراسانيين المتكلمين وغيره من مشايخ المتصوفة. وذهب بعض المحققين وجماهير العلماء إلى جواز ذلك ووقوعه منهم وهذا هو الحق، ثم لا بد من تنبيههم عليه وذكرهم إياه إما في الحين على قول جمهور المتكلمين، وإما قبل وفاتهم على قول بعضهم ليبينوا حكمه قبل انخرام مدتهم وليصح تبليغهم ما أنزل إليهم، وكذا لا خلاف أنهم معصومون من الصغائر التي تزري بفاعلها أو تحط منزلته أو تسقط مروءته. واختلفوا في وقوع غيرها من الصغائر؛ فذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، فإن منصب النبوة يجلّ عن مواقعتها وعن مخالفة الله عمداً، وتكلموا على الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأولوها، وأن ما ذكر عنهم في ذلك إنما هو فيما كان منهم عن تأويل أو سهو أو من غير إذن من الله تعالى في أشياء أشفقوا من المؤاخذة بها وهذا المذهب هو الحق، وأنه لو صح منهم ذلك لم يلزمنا الاقتداء
بأفعالهم وإقرارهم وكثير من أقوالهم، ولا خلاف في الاقتداء بذلك، وإنما اختلاف العلماء في أنه واجب أو مندوب أو مباح أو يفرق بين القرب وغيرها.

قال القاضي: وقد بسطنا القول في هذا الباب في كتاب «الشفاء» وبلغنا فيه المبلغ الذي لا يوجد في غيره، وتكلمنا على الظواهر في ذلك بما فيه كفاية اهـ. قلت: وقد ألف في عصمة الأنبياء وتأويل الآيات الظاهرة في خلاف ذلك الصابوني البخاري كتاباً حافلاً (لست بصاحب ذلك) أي: لست صاحب التشريف بهذا المقام المنيف. قال القاضي عياض: هذا المنقول عن آدم وغيره من الأنبياء يقولونه تواضعاً وإكباراً بما يسألونه. وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الآخر حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه، ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد معيناً وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إلى نبينا. قال: وفيه تقديم ذوي الأسنان والآباء على الأبناء، والحكمة في إلهامهم سؤال آدم والبدء به ثم من بعده واعتذار كل بأنه ليس أهل ذلك ليظهر كمال شرفه على سائر الرسل، إذ لو جاءوا إليه وأجابهم وأجيب لهم لم يظهر كمال التمييز إذ كان احتمال أن هذا الأمر له ولغيره من الرسل، فلما تأخر كل عن ذلك وتقدم هو له علم أنه السيد المقدم (اذهبوا إلى نبي الله إبراهيم خليل الرحمن) أصل الحلة الاختصاص والاستصفاء، وقيل: أصلها الانقطاع إلى من خاللت، مأخوذة من الخلة: الحاجة؛ تسمى إبراهيم بذلك لأنه قصر حاجته على الله

(2/499)


تعالى. وقيل: الحلة صفاء المودة التي توجب تخلل الأسرار؛ وقيل: معناه المحبة والإلطاف، هذا كلام القاضي عياض. قال المصنف: وقال ابن الأنباري: معناه المحبّ الكامل المحبة والمحبّ الموفي بحقيقة المحبة اللذان ليس في حبهما نقص ولا خلل. قال الواحدي: هذا القول هو الاختيار لأن الله عزّ وجلّ خليل إبراهيم وإبراهيم خليلالله، ولا يجوز أن يقال الله
تعالى خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة، والله أعلم (فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك) المقام (وإنما كنت خليلاً من وراء وراء) قال المصنف: قال صاحب «التحرير» : هذه كلمة تذكر على سبيل التواضع: أي: لست بتلك الدرجة الرفيعة. وقد وقع لي فيه معنى مليح: هو أن معناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بسفارة جبريل (اعمدوا) اقصدوا (إلى موسى فإنه كلمه الله تكليماً) فحصل له السماع بلا واسطة، وكرّر وراء لكون نبينا حصل له السماع بغير واسطة وحصل له الرؤية فقال إبراهيم: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد، هذا كلام صاحب «التحرير» .

قال المصنف: وأما ضبط وراء وراء فالمشهور فيه الفتح بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤهما على الضم، وقد جرى في كلام بين الحافظ أبي الخطاببن دحية والإمام أبي اليمن الكندي، فرواه ابن دحية بالفتح وادعى أنه الصواب. وأنكره الكندي وادعى أن الضم هو الصواب ولذا قال أبو البقاء: الصواب الضم لأن التقدير من وراء ذلك أو من وراء شيء آخر. قلت: قال القرطبي: الأولى بنيت على الضم لقطعها عن الإضافة لفظاً، وأما الثانية فيحتمل أن تكون كالأولى على تقدير حذف «من» لدلالة الأولى عليها: ويحتمل أن يكون الثانية تأكيداً لفظياً للأولى، ويجوز أن تكون بدلاً منها أو عطف بيان اهـ. قال: فإن صح الفتح قبل، وتكون الكلمة مؤكدة كشذر مذر وسقطوا بين بين فركبهما وبناهما على الفتح فإن ورد منصوباً منوّناً جاز جوازاً جيداً. قال المصنف: ونقل الجوهري عن الأخفش أنه يقال: لقيته من وراء، مرفوع على الغاية كقولك من قبل ومن بعد، قال الشاعر:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن
لقاؤك إلا من وراء وراء
بضمها، والله أعلم. وقال القرطبي في «المفهم» : صحيح الرواية فيه بالمد والفتح في الهمزتين، ونقل عن أصل شيخه أبي الصبر أيوب أنه من وراء وراء، بتكرير وراء وفتح الهمزة فيهما. قال: قد اعتنى بهذا الكتاب يعني صحيح مسلم أتم الاعتناء قال:

(2/500)


وحينئذٍ فيحتمل أن وراء قطعت عن الإضافة ولم يقصد قصد مضاف بعينه فصارت كأنها اسم علم وهي مؤنثة، قال الجوهري: إنها مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها ورية، وعلى هذا فهمزتها ليست للتأنيث ولأن ألف التأنيث لا تقع ساكنة اهـ (فيأتون موسى فيقول: لست بصاحب ذلك) المقام (اذهبوا إلى عيسى) قال البيضاوي في «التفسير» : عيسى معرّب أيسوع، وجعله مشتقاً من العيس وهو بياض تعلوه حمرة تكلف لا طائل تحته (كلمة ا) بفتح فكسر على الأفصح، وأطلق ذلك على عيسى لأنه وجد بأمره تعالى وهو قوله: «كن» دون أب، فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر ذكره البيضاوي. وقال الحافظ ابن حجر: قيل: له ذلك إشارة إلى أنه حجة الله على عباده إذ أوجده من غير أب وأنطقه في غير أوان وأحيا الموتى على يده وقيل: سمي كلمة الله لأنه أوجده بقوله: «كن» فلما كان بكلامه سمي به كما يقال سيف الله وأسدالله، وقيل: لما قال في صغره {إني عبد ا} (مريم: 30) اهـ. (وروحه) قيل: سمي بذلك لأنه يحيي الأموات أو القلوب، وقيل: إنه على تقدير مضاف، والمعنى: أنه ذو روح من الله عزّ وجلّ لا بتوسط ماء يجري مجرى الأصل والمادة له (فيقول عيسى) أي: بعد أن يأتوا إليه ويسألوه ذلك. ففي الكلام مطوي يدل عليه السياق (لست بصاحب ذلك) المقام والباء مزيدة للتأكيد (فيأتون محمداً) أي: لدلالة عيسى عليه الصلاة والسلام لهم على ذلك كما جاء في الروايات الأخرى، ففيه مطوي دلّ عليه ما تقدم، وثم مطويّ أيضاً تقديره: فيقولون يا رسول الله استفتح لنا الجنة مثلاً أو اشفع لنا في الإراحة من طول المواقف كما جاء في الروايات الأخرى (فيقوم) أي: إلى تحت العرش ويسجد تحته ويفتح عليه بمحامد
يحمد الله بها حينئذٍ لم يفتح عليه بها قبل (فيؤذن له) في الشفاعة (وترسل) بضم الفوقية أوله مبيناً للمجهول (الأمانة والرحم) بفتح الراء وكسر المهملة: أي: القرابة التي تطلب صلتها شرعاً (فيقومان) بالمثناة الفوقية (جنبتي الصراط) بفتح الجيم وسكون النون وفتح الموحدة والفوقية: أي: جانبيه.

قال المصنف وإرسالهما لعظم أمرهما وكبر موقعهما فيصوران شخصين على الصفة التي يريدها الله تعالى. قال: وقال صاحب «التحرير» : في الكلام اختصار والسامع فهم أنهما يقومان ليطالبا من يريد الجواز بحقهما (فيمر

(2/501)


أولكم) أيها المخاطبون، والمراد الأمة وهم أولها وأولاها بالفضل (كالبرق) أي: كمرّ البرق (قال) أي: أحد الروايين عن النبي (بأبي وأمي) أي: أنت مفدى بهما (أي شيء كمرّ البرق) أي: ما معناه وكيف سرعته (قال ألم تروا) بفتح التاء تبصروا (كيف يمرّ) أي: آتيا (ويرجع) آتيا (في طرفة عين) أي: وقوع الجفن على الجفن المسمى برمش البصر وهو زمن يسير جداً. وفي «الصحاح» : وطرف بصره بطرف طرفاً: إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر الواحدة من ذلك طرفة، يقال أسرع من طرفه عين اهـ. وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {أنا آتيك به قبل يرتدّ إليك طرفك} (النمل: 40) ويجوز أن يكون هذا مثالاً لاستقصار مدة المجيء به كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردة طرف وما أشبه ذلك تريد السرعة، وفي «تفسير البيضاوي» وهذا غاية في الإسراع وملل فيه اهـ (ثم) للتراخي في الرتبة أي ثم الفرقة التي تلي الفرقة الأولى (كمر الريح ثم) الفرقة التالية لها (كمرّ الطير وأشد الرجال) بالجيم جمع راجل قال: هو الصحيح المعروف المشهور. ونقل القاضي أنه في رواية ابن ماهان بالحاء.
قال القاضي: وهما متقاربان في المعنى، وشدها: عدوها البالغ وجريها (تجري بهم أعمالهم) قال المصنف: هو كالتفسير لقوله: «فيمر أولكم كالبرق» والمعنى: أنكم في سرعة السير على حسب المراتب والأعمال (ونبيكم) لكمال شفقته ومزيد عنايته بنا معشر أمته (قائم على الصراط) لتنجو به أمته من المخاوف وتصرف به عنها أنواع المكاره والمتالف (يقول) لما في المرور على الصراط من الأحوال وزلّ بعض الأقدام، وهو حال بناء على مجيئه من المبتدأ وهو ما عليه سيبويه، أو خبر بالجملة بعد الخبر بالمفرد، ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال تقديره ما يكون منه حال قيامه يومئذٍ فأجيب بقوله يقول (ربّ) حذف حرف النداء لأن المقام لعظم هو له مقام الإيجاز. وفي رواية لمسلم في حديث آخر في المعنى «ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم» (سلم سلم) ولعله تارة يقول ربّ وتارة يقول اللهم سلم سلم. وفي نسخة: ربّ سلم بإعادة لفظ ربّ قال المصنف: فيه أن الدعاء يكون بحسب المواطن فيدعو في كل موطن بما يليق به. وسلم بفتح أوله المهمل وتشديد

(2/502)


اللام المسكورة (حتى تعجز) بكسر الجيم (أعمال العباد) بالمتخلفين عن الإسراع في الصراط: أي: تضعف أعمالهم الصالحة عن سرعة المرور بهم عليه فيبطئون في السير وحيت في الخبر غائبة: أي يتفاوت الإسراع بحسب تفاوت الأعمال إلى أن تصل لمرتبة عجز الأعمال عن الإسراع بصاحبها، لكن فيها قوة حمله على السير وإلى أن تضعف فوق ذلك كما قال: (وحتى يجيء الرجل لا يستطيع السير) أي: على الصراط (إلا زحفاً) لفقد قوة العمل الحاملة على السير، والمراد من الزحف السير على الإست.
قال السيوطي في «الدرر» : زحف الرجل انسحب على إسته اهـ. قلت: وفي رواية لمسلم «حتى يمرّ آخرهم يسحب سحباً» (وفي حافتي الصراط) بتخفيف الفاء أي جانبيه (كلاليب) جمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهو حديدة معقوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور. وقال صاحب «المطالع» : هي خشبة في رأسها عقافة حديد، وقد تكون حديداً كلها ويقال لها أيضاً كلاب اهـ (معلقة) أي: بالصراط (مأمورة بأخذ من أمرت) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل يعود إلى الكلاليب و (به) متعلق بأمرت يحتمل أن يكون على حقيقته بأن خلق لها إدراك وأمرت بأخذ من أمرت به. ويحتمل أن يكون على تصغيرها لأخذ من يؤخذ بها، ثم الواو في «وفي حافتي» يحتمل أن تكون واو الحال، ويحتمل العطف/ «ومعلقة مأمورة» الظاهر أنهما مرفوعان صفة لكلاليب، وكذا هو مضبوط في الأصل ولو نصبا على الحال المترادفة أو المتداخلة لجاز لتخصيص الكلاليب بتقديم خبرها الظرف إلا أن صحت الرواية بالرفع (فمخدوش) أي: بشيء مما يعلق به في الصراط (ناج) أي: من النار، وهو بمعنى قوله في الروايات الأخرى: «ومخدوش مرسل» فالمراد نجاته من العذاب الذي حل فيه قسيمه المذكور في قوله (ومكردس في النار) . الله
وقال المصنف: كذا وقع في هذا الحديث «مكردس» بالراء ثم الدال المهملتين، والذي في باقي الروايات مكدوس بضم الدال المهملة بعدها واو قال: وهو قريب من معنى المكردس «ومكردس» بالسين المهملة في الأصول ومعناه كون الأشياء بعضها على بعض، ومنه تكردست الدابة في سيرها: إذا ركب بعضها بعضاً. ونقل القاضي عياض هذه الرواية عن أكثر الرواة ثم قال: ورواه العذري بالشين المعجمة ومعناه السوق (والذي نفس أبي هريرة بيده) أي: بقدرته وإرادته، وهذا مدرج من كلام أبي هريرة متصل

(2/503)


بآخر الحديث، وجواب القسم (إن قعر جهنم لسبعون خريفاً) .
قال المصنف في «شرح مسلم» : هو في الأصول بالواو، وهذا ظاهر وفيه حذف وتقديره: إن مسافة قعر جهنم سير سبعين خريفاً. ووقع في معظم الأصول والروايات لسبعين بالياء وهو صحيح أيضاً؛ أما على مذهب من يحذف المضاف ويبقي المضاف إليه على جره فيكون التقدير: سير سبعين خريفاً، وأما على أن قعر مصدر يقال قعرت الشيء: إذا بلغت قعره، ويكون «سبعين» ظرف زمان وفيه خبر إن: التقدير: إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفاً. والخريف سنة اهـ. قلت: وهو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالياء التحتية وقد علمت وجهه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام نكتة تسمية السنة بالخريف (رواه مسلم) في آخر كتاب الإيمان من «صحيحه» وانفرد به البخاري وأصحاب السنن (قوله) في الحديث (وراء وراء هو بالفتح فيهما) على أنهما ظرفان ركبا فبنيا على الفتح تخفيفاً، ومثله قول العرب: هو يأتينا صباح مساء، وأما وجه النصب والتنوين اللذين قال فيهما المصنف إن وردت بهما الرواية جاز جوازاً جيداً فهو أن كلاً منهما ظرف (وقيل بالضم بلا تنوين) بناء على أنه من أسماء الغايات لحذف المضاف إليه ونية معناه (ومعناه لست بـ) صاحب (تلك الدرجة الرفيعة) وتقدم بسط الكلام في ذلك.

قال صاحب «التحرير» : (وهي كلمة تذكر على سبيل التواضع) : أي: لست بتلك الدرجة (وقد بسطت معناها في شرح صحيح مسلم) وقد قدمته عنه وذيلته بفوائد عن القرطبي (والله أعلم) .
2024 - (وعن أبي خبيب: «بضم الخاء المعجمة» ) أي: وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها موحدة كنية عبد ابن الزبير، كني: بأكبر أولاده.
قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : وله ثلاث كنى ذكرها البخاري في التاريخ وآخرون: أبو خبيب، وأبو بكر، وأبو بكير بالتصغير

(2/504)


اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر، كان يكنيه بأبي خبيب من لا يريد تعظيمه، لأنه كني في الأول بكنية جده لأمه الصديق اهـ (عبد ابن الزبير) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء (ابن العوام) بن خويلدبن أسدبن عبد العزىبن قصي (القرشي الأسدي) المكي المدني الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) أمه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأبوه الزبير أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وحواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدته صفية عمة النبيّ ورضي الله عنها، وعمة أبيه حذيجة بنت خويلد أم المؤمنين، وخالته عائشة أم المؤمنين، وهو أول مولود ولد للمهاجرين إلى المدينة بعد الهجرة، وفرح المسلمون بولادته فرحاً شديداً لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم فأكذبهم الله تعالى، وحنكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمرة لاكها، فكان ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول شيء دخل جوفه، وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق وسماه عبد الله باسمه، ولد بعد عشرين شهراً من الهجرة وقيل في السنة الأولى. وكان صوّاماً قوّاماً طول الليل، وصولاً للرحم، عظيم الشجاعة. بويع له بالخلافة لما مات يزيدبن معاوية وأطاعه أهل اليمن والحجاز والعراق وخراسان، وجدد عمارة الكعبة، وبقي في الخلافة إلى أن حصره الحجاجبن يوسف الثقفي بمكة أول ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين، وحجّ الحجاج بالناس ولم يزل محاصره إلى أن قتله شهيداً يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وقيل في نصف جمادى الآخر، وقيل سنة اثنتين وسبعين، والمشهور الأول، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد مسلم بحديثين.
فائدة: قال المصنف في «التهذيب» : عبد ابن الزبير هو أحد العبادلة الأربعة، وهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمروبن العاص، قاله أحمدبن حنبل وسائر المحدثين وغيرهم. قيل لأحمدبن حنبل: وابن مسعود؟ ليس هو منهم.
قال البيهقي: لأنه تقدمت وفاته وهؤلاء عاشوا طويلاً حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل هذا قول العبادلة، ويلحق بابن مسعود فيما ذكر سائر المسلمين بعبد الله من الصحابة وهو نحو مائتين وعشرين. وقول الجوهري في «صحاحه» ابن مسعود أحد العبادلة وأخرج ابن العاص غلط نبهت عليه لئلا يغترّ به اهـ.
زاد في «المبهمات» له: وكيف يعارض بقوله قول الإمام أحمد وغيره اهـ. وفي العبادلة أقوال أخر ذكرها السخاوي في «شرح ألفية الحديث» ، قال: وممن جرى على عدّ ابن مسعود من العبادلة ابن هشام النحوي في «التوضيح» . قلت: لكن أول اللقاني عبارة «التوضيح» بما تنبو عنه عبارته.
وحاصله أن مراده بالعبادلة المفهومون من تلك الأسماء لا

(2/505)


العبادلة المشهورون، قال: فلا يرد أن ابن مسعود ليس من العبادلة، تأمل (قال لما وقف الزبير يوم الجمل) أي: الوقعة المشهورة التي كانت بين عليبن أبي طالب ومن معه وبين عائشة ومن معها ومن جملتها الزبير، ونسبت الوقعة إلى الجمل لأن يعلىبن أمية الصحابي المشهور كان معهم، فأركب عائشة على جمل عظيم اشتراه بمائة دينار وقيل: بثمانين وقيل: بأكثر فوقف به في الصف، فلم يزل الذين معها يقاتلون حول الجمل حتى عقر الجمل فوقعت عليهم الهزيمة، وكان ذلك في جمادى الأولى أو الآخرة سنة ستّ وثلاثين. واسم ذلك الجمل عسكر (دعاني فقمت إلى جنبه) الفاء فيه عاطفة على محذوف: أي: فأجبته فأتيت فقمت إلى جانبه (فقال: يا بني) بكسر الياء المشددة وفتحها، ذكره المرادي في «شرح الخلاصة» ، وذكر المصنف في أواخر كتاب الأدب من «شرح مسلم» جواز إسكان الياء قال: وبالحركتين قرىء في السبع، وقرأ بعضهم بإسكانها وبني بضم الموحدة وفتح النون مصغر، وقد بسطت الكلام فيه في باب «ما يقول إذا دخل بيته» من «شرح الأذكار» (إنه لا يقتل) بالبناء للمفعول (اليوم إلا ظالم أو مظلوم) .
قال ابن التين: لأنهم إما صحابي متأول فهو مظلوم، وإما غير صحابي قاتل لأجل الدنيا فهو ظالم.
قال الكرماني: إن قيل جميع الحروب كذلك. فالجواب أنها أول حرب وقعت بين المسلمين.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون «أو» للشك من الراوي، وأن الزبير إنما قال أحد اللفظين أو للتنويع: أي لا يقتل اليوم إلا ظالم بمعنى أنه ظن أن الله يعجل للظالم منهم العقوبة أو لا يقتل اليوم إلا مظلوم، إما لاعتقاده أنه كان مصيباً وإما لأنه سمع ما سمع عليّ من الحديث المرفوع «بشر قاتل ابن صفية بالنار» رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح، ووقع عند الحاكم من طريق أخرى في هذا الحديث مختصراً عن هشامبن عروة عن الزبير قال: «وا لئن قتلت لأقتلنّ مظلوماً، وا ما فعلت وما فعلت» يعني: أشياء من المعاصي، ثم كان خروج الزبير وطلحة وغيرهما من كبار الصحابة مع عائشة لطلب قتلة عثمان وإقامة الحدّ عليهم لا لقتال عليّ، لأنه لا خلاف أنه كان أحقّ بالإمامة من جميع أهل زمانة وكانت قتلة عثمان لجئوا إلى عليّ فرأى أنه لا يسلمهم للقتل حتى تسكن الفتنة وتجري الأمور على ما أحبّ، فكان ما جرى به القلم من الأمور التي قدرت فوقعت؛ ولذا قال الزبير لما رأى شدة الأمر وأنهم لا ينفصلون إلا عن قتال (وإني لا أراني) بضم الهمزة: أي لا أظنني (إلا سأقتل اليوم مظلوماً) .

قال الحافظ ابن حجر: ويجوز فتحها بمعنى الاعتقاد، وذلك الأمر قد تحقق لأنه قتل غدراً بعد أن ذكّره

(2/506)


عليّ فانصرف عن القتال، فنام بمكان ففتك به رجل من بني تميم يقال له: ابن جرموز بضم الجيم والميم بينهما راء مهملة ساكنة وآخرى زاي، وكان ذلك بوادي السباع.
وروى الحاكم من طريق متعددة أن علياً ذكرّ الزبير بأن النبيّ قال له: «لتقاتلنّ علياً وأنت له ظالم» فرجع لذلك منصرفاً (وإن من أكبر همي لديني) وفي رواية غثام: «انظر يا بني ديني فإنه لا أدع شيئاً أهمّ منه عليّ» (أفترى) أي: تظن (أن ديننا يبقى من مالنا شيئاً) قاله استكثاراً لما عليه وإشفاقاً من دينه. وفيه الوصية عند الحرب لأنها من أسباب الموت كركوب البحر (ثم قال: يا بنيّ بع ما لنا واقض) بهمزة وصل (ديني وأوصى بالثلث) أي ثلث ماله: أي الفاضل عن قضاء الدين (وثلثه) أي ثلث الثلث (لبنيه يعني لبني عبد ا) .
قال الكرماني وتبعه الشيخ زكريا: أوصى بالثلث الفاضل مطلقاً وبثلث الثلث لحفدته أولاد عبد الله اهـ.
وقال الحافظ: فسر وصيته: أي بالثلث وثلثه بقوله (قال) أي الزبير (فإن فضل) بفتح الضاد المعجمة أي بقي (من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلثه لبنيك) والثلث بضمتين.
قال الحافظ: وضبطه بعضهم بتشديد اللام بصيغة الأمر من التثليث وهو أقرب.
ووقع في المصابيح للدماميني: وأوصى بالثلث من ثلثه لبنيه، قال الدماميني: إنما أوصى بثلث الثلث لبني ولده عبد الله، فالضمير في بنيه عائد إليه، ثم بنى عليه استشكال قوله فإن فضل فثلثه لبنيك بأن مقتضاه صرف الثلث الفاضل لولده عبد الله، وسبق منه التصريح بأن الموصى به لهم ثلث الثلث. وأجاب بأن المراد فإن فضل بعد الدين شيء يصرف لجهة الوصية فثلثه لولدك اهـ. والذي شرح عليه الحافظ وأوصى بالثلث وثلثه بالواو (قال عبد ا) بن الزبير (فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بنيّ إن عجزت) بفتح الجيم أفصح من كسرها (عن قضاء شيء منه فاستعن عليه بمولاي) أي: با عزّ وجلّ وعنه كمال الوثوق بالمولى والاستعانة به في كل حال (فوا ما دريت) أي عرفت (ما أراد) أي: بقوله استعن عليه بمولاي، إذ هو يحتمل ما ذكر أولاً، ويحتمل ولاء الحلف وولاء العتاقة: أي بالذين أعتقهم ونحو ذلك، إذ لفظ المولى مشترك

(2/507)


بين عدة معان كالناصر وابن العم والمعتق والعتيق والحليف وقد ذكرها في «النهاية» (حتى قلت) مستفسراً (يا أبت) بكسر التاء الفوقية وفتحها (من مولاك؟ قال: ا) أي: الله مولاي فالخبر محذوف، ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفاً ولفظ الجلالة خبر (قال) عبد الله (فوا ما وقعت في كربة) بضم الكاف وسكون الراء: الحزن الذي يأخذ بالنفس ويجمع على كرب (من) تعليلية، ويحتمل كونها للابتداء (دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه) أي: يسهل ما يحصل به القضاء. وفيه أن من استعان بمولاه في الأمور فهو المعان (قال: فقتل) بالبناء للمجهول (الزبير ولم يدع) يترك (ديناراً ولا درهماً إلا أرضين) استثناء منقطع، وأرضين بفتح الراء قاله الدماميني فهو جمع أرض بسكونها جمع تكسير (منها الغابة) بغين معجمة وباء موحدة: أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة.
وقال الحافظ ابن حجر: كذا وقع فيه «منها» بالإفراد وصوابه «منهما» وهذا منه يقتضي أن أرضين مثنى أرض فيكون بسكون الراء وفتح الضاد، وبه يتعقب ضبط الدماميني بفتح الراء:
فإن القول ما قالت حذام
خصوصاً وقد ذكر الدماميني أنه في «المصابيح» لم يجد ما يستضيء به فيها مما يضبط به الروايات للغربة وفقد الكتب وأرباب الفن (وإحدى عشرة داراً بالمدينة ودارين بالبصرة) بتثليث الموحدة وإسكان الصاد وتحرك بفتحة وبكسرة كما في «القاموس» : وهو اسم لبلدة مشهورة مصّرها عمربن الخطاب (وداراً بالكوفة) بلدة معروفة مصّرها عمر أيضاً.
قال المصنف في «التهذيب» : قيل سميت بذلك لاستدارتها، تقول العرب: رأيت كوفاناً وكوفة: للرمل المستدير، وقيل: لاجتماع الناس من قول العرب تكوّف الرمل: إذا ركب بعضه بعضاً، وقيل: لأن طينها خالطه حصى وكل ما كان كذلك فهو كوفة.
قال الحازمي وغيره: ويقال للكوفة كوفان بضم الكاف وإسكان الواو آخره نون، وذكر ابن قتيبة في غريبه في كوفان ضم الكاف وفتحها (وداراً بمصر) ممنوع الصرف على الأفصح الذي جاء فيه القرآن للعلمية والتأنيث، وهي البلد المعروف، وحدها طولاً من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، وعرضاً من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي، سميت بذلك باسم من سكنها أولاً مصربن

(2/508)


ينصربن سامبن نوح. ثم بعد بيان مخلفات أبيه المستبعد بل الحال لولا إعانة الله برفع أسعارها قضاء ذلك الدين الكثير الذي عليه من ذلك استأنف مبيناً لوجه دين الزبير ولجمع ذلك القدر الذي عليه بقوله (وإنما كان دينه الذي كان عليه أنّ) بفتح الهمزة (الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا) أي: لا أستودعه وذلك لما يعلم من نفسه من مزيد الكرم فيخشى أن ينفق لما تعوّده من الكرم من المال المودع عنده، وإن كان مثل ذلك لا يصدر منه لكنه سد الذريعة وقفل الباب من أصله، وأن ومعمولاها خبر كان الأولى واسم كان الثالثة ضمير يعود للرجل وخبره جملة يأتيه (ولكن هو سلف) بفتح أوليه: أي قرض، وقوله: (إني أخشى عليه الضيعة) أي: الضياع جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لعدوله عن قبول استيداعه إلى استسلافه، والضياع المتخوف يحتمل أن يكون خشية إنفاقه على مستحق لما اعتاده من الكرم كما تقدم وأن يكون باختلاس مختلس أو سرقة سارق، فيضيع على صاحبه لعدم ضمان الزبير حينئذٍ وقد وضعه في حرز مثله فأراد حفظ مال المستودع واستقراره في ذمته.

وقال الحافظ: وكأن غرضه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع فيظن به التقصير في حفظه؛ فرأى أن يجعله مضموناً ليكون أوثق لصاحب المال وأبقى لمروءته.
زاد ابن بطال: وليطيب ربح ذلك المال. وروى الزبيربن بكار أن كلاً من عثمان وعبد الرحمنبن عوف ومطيعبن الأسود وأبي العامربن الربيع وعبد ابن مسعود والمقدادبن عمرو أوصى إلى الزبيربن العوام (وما ولي إمارة) أي ولاية وهو بكسر الهمزة كذا ضبطه الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» لكن في «مختصر القاموس» مصدر أمر علينا إمارة: إذا ولي مثلث الهمزة اهـ (قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة ظرف لاستغراق النفي فيما مضى (ولا جباية) بكسر الجيم: استخراج الأموال من مظانها كما في «النهاية» (ولا خراجاً) أي: خراج أرض، فلا ينافي ما رواه الزبيربن بكار، قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وروى مثله يعقوببن سفيان من وجه آخر (ولا شيئاً إلا أن يكون في غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم) .
قال الحافظ ابن حجر: مراده أن كثرة ماله ما حصلت من هذه الجهات المقتضية لظن السوء بأصحابها، بل كان كسبه الغنيمة ونحوها.
قال الحافظ:

(2/509)


هو متصل بإسناد الحديث المذكور (قال عبد الله: فحسبت) بفتح السين المهملة وبباء موحدة وكان ذلك بعد موته شهيداً (ما كان عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، فلقي حكيم) بالرفع فاعل وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف (ابن حزام) بكسر المهملة وبالزاي، وكل ما كان في قريش فهو بهذا الضبط، وما كان رسمه في نسب الأنصار بهذه الصورة فبفتح أوليه المهملين.
قال المصنف في أول «شرح مسلم» : وحزامبن خويلدبن أسدبن عبد العزي فهو ابن عمر الزبير (عبد ابن الزبير فقال: يا ابن أخي) خاطبه بذلك لصغر سنه بالنسبة إليه، إذ كان لحكيم من العمر حينئذٍ نحو مائة عام وعبد الله نحو الأربعين (كم) استفهامية وتمييزها محذوف أي: كم ألفاً أو نحو ذلك (على أخي من الدين؟ فكتمته وقلت: مائة ألف) .
قال ابن بطال: إنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدانه فيظن به عدم الحزم وبعبد الله عدم الوفاء بذلك فينظر إليه بعين الاحتياج إليه، فلما استعظم حكيم أمر مائة ألف كما قال عنه (فقال حكيم: وا ما أرى) بضم الهمزة: أي أظن (أموالكم تسع هذه) أي: الديون، احتاج عبد الله أن يذكر له الجميع ويعرفه أنه قادر على وفائه (فقال عبد الله: أرأيتك) بفتح التاء المثناة الفوقية: أي: أخبرني والكاف حرف خطاب أكد به الضمير (إن كانت) أي: الديون (ألفي ألف ومائتي ألف) .

قال ابن بطال: ليس في قول مائة ألف وكتمانه ما فوقها كذب لأنه إخبار ببعض الواقع وسكوت عن الباقي وهو صادق.
قال الحافظ: لكن من يعتبر بمفهوم العدد يراه إخباراً بغير الواقع، ولذا قال ابن التين في كتمان عبد الله ما كان على أبيه بعض تجوز اهـ. (قال: ما أراكم) بضم الهمزة: أي أظنكم ويجوز فتحها أي: ما أعتقدكم (تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي) .
قال الحافظ ابن حجر: روى يعقوببن سفيان من طريق عبد ابن المبارك أن حكيمبن حزام بذل لعبد ابن الزبير مائة ألف إعانة له على وفاء دين أبيه فامتنع، فبذل له مائتي ألف فامتنع إلى أربعمائة ألف، ثم قال له: لم أرد منك هذا، ولكن تنطلق معي إلى عبد ابن جعفر، فانطلق به وبعبد ابن عمر يستشفع بهم، فلما دخلوا عليه قال: أجئت بهؤلاء تستشفع بهم

(2/510)


عليّ؟ هي لك: لا أريد ذلك، قال: فأعطني بها نعليك هاتين أو نحوهما، قال: لا أريد، قال: فهي عليك إلى يوم القيامة، قال لا قال: فحكمك، قال: أعطيك بها أرضاً، فقال نعم، فأعطاه فرغب فيها معاوية فاشتراها بأكثر من ذلك (قال: وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف) كأنه قسمها ستة عشر سهماً بدليل أنه قال بعد ذلك لمعاوية: إنها وقّمت كل سهم بمائة ألف (ثم قال فقال من كان له على الزبير شيء) أي: من الدين (فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد ابن جعفر) أي: ابن أبي طالب (وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد ا) أي ابن الزبير (إن شئتم تركتها لكم) أي آل الزبير: أي ورثته (فقال عبد ا) أي: ابن الزبير (لا) أي: لا نريد ذلك (قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون) من الديون (إن أخرتم) أي شيئاً منها (فقال عبد الله لا، قال: فاقطعوا) بفتح الطاء المهملة ووصل الهمزة وبقطع الهمزة وكسر الطاء أي: اجعلوا (لي قطعة) من الغابة فـ (ــــقال عبد ا) بن الزبير (لك من هاهنا إلى هاهنا) .
قال العلقمي في حاشية «الجامع الصغير» : روي أن ابن الزبير قال لابن جعفر: أحبّ لا يحضرني وإياك أحد، فانطلق فمضي معه فأعطاه أرضاً خراباً وشيئاً لا عمارة فيه وقوّمه عليه، حتى إذا فرغ قال ابن جعفر لغلامه، ألق لي مصلى في هذا المكان، فألقاه في أغلظ موضع فصلى فيه ركعتين وسجد طويلاً يدعو، فلما قضى ما أراد من الدعاء قال لغلامه: احفر في موضع سجودي، فحفر فإذا عين فوّارة قد أنبطها، فقال له ابن الزبير: أقلني، فقال له: أما دعائي فقد أجابه الله ولا أقيلك، فصار ما أخذه أعمر مما في أيدي آل الزبير (فباع عبد الله منها) أي: الغابة والدور لا من الغابة وحدها لما تقدم أن الدين ألفا ألف ومائتا ألف فإنه باع الغابة بألفي ألف وستمائة ألف (فقضى عنه دينه) الذي كان التزم ابن الزبير بعد موت أبيه (وأوفاه) أصحابه (وبقي منها) أي: الغابة (أربعة أسهم ونصف فقدم على معاوية) أي: في خلافته كما جزم به الحافظ ابن حجر، وأن ذلك كان بعد مدة انتظار أرباب الديون وما اتصل به من تأخير

(2/511)


القسمة لاستبراء بقية من له دين (وعنده عمروبن عثمان) بن عفان (والمنذربن الزبير) بن العوام (وعبد ابن زمعة) بفتح الزاي وسكون الميم وبعدها مهملة (فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة؟) برفع الغابة، فقومت مبني للمجهول ونصبها مع بنائه للمعلوم (فقال: كل سهم) بالرفع والنصب: أي: قوم أو قومت كل سهم (مائة) بالنصب على نزع الخافض: أي بمائة ألف (قال: كم بقي منها؟ قال: أربعة أسهم ونصف؟ فقال المنذر: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عمروبن عثمان: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عبد ابن زمعة: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي) بكسر القاف (منها) كما في نسخة: أي: الغابة أو السهام الباقية وهو أقرب (فقال) أي: عبد ابن الزبير، ويحتمل أن يكون غيره (سهم ونصف) أي: الباقي ذلك فالمبتدأ محذوف أو بقي منها ذلك فيكون فاعل فعل مقدر (فقال: قد أخذته بخمسين ومائة
ألف، قال) ابن الزبير (وباع عبد ابن جعفر نصيبه) من السهام في الغابة (من معاوية بستمائة ألف) فربح مائتي ألف (فما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه) الذي عرفه وضبطه (قال بنو الزبير) وهم: عبد الله وعروة والمنذر وأمهم أسماء بنت أبي بكر، وعمر وخالد وأمهما بنت خالدبن سعيدبن العاص، ومصعب وحمزة وأمهما الرباب بنت أنيف، وعبيدة وجعفر وأمهما زينب بنت بشر وزينب وأمها أم كلثوم بنت عقبة وباقي أولاد الزبير ماتوا قبله (اقسم بيننا ميراثنا، قال: وا لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم) بفتح الميم وكسر المهملة وسكون الواو بينهما (أربع سنين: ألا) بتخفيف اللام (من كان له دين على الزبير فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي في الموسم) أي بقوله: «من كان له دين

(2/512)


على الزبير فليأتنا نقضه» .Y
قال الحافظ ابن حجر: ومثل هذا يتوقف على إجازة جميع الورثة، وإلا فمن طلب القسمة بعد وفاء الدين الذي وقع العلم به وصمم على ذلك أجيب إليها ولم يتربص به انتظار شيء يتوهم، فإذا ثبت دين بعد ذلك استعيد منه بقدره. والذي يظهر أن ابن الزبير إنما اختار التأخير أربع سنين لأن المدن الواسعة التي يؤتى الحجاز من جهتها إذ ذاك كانت أربعاً: اليمن والعراق والشام ومصر، فبنىٍ على أن كل قطر لا يتأخر أهله في الغالب عن أكثر من ثلاثة أعوام فيحصل استيعابهم في مدة الأربع، ومنهم في طول المدة من يبلغ الخبر من وراءهم من الأقطار، واختار الموسم لأنه يجمع الناس من الآفاق (فلما مضى أربع سنين) فيه تجوّز لأنه إن عد موسم سنة ست وثلاثين فلم تؤخر ذلك إلا ثلاث سنين ونصفاً وإن لم يعده فقد أخر ذلك أربع سنين ونصفاً ففيه إلغاء الكسر أو جبره (قسم) بعد الدين الوصية (بينهم ودفع الثلث) أي الموصى به (وكان للزبير أربع نسوة) أي: مات عنهن وهن أم خالد والرباب وزينب قيل: وعاتكة بنت زيد أخت سعيدبن زيد أحد العشرة، وأما أسماء وأم كلثوم فكان طلقهما، وقيل: أعاد أسماء وطلق عاتكة فقتل وهي في عدته فصولحت عن ربع الثمن بثمانين ألفاً (فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف) هذا باعتبار أصل نصيب كل منهن ورد عليهم الباقي من سهم المصالحة أربعمائة ألف اقتسمنها بينهن.
قال الحافظ أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح (فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف) .
قال ابن بطال وعياض وغيرهما: هذا غلط في الحساب.
قال الكرماني: لأنه إذا كان الثمن أربعة وثمانمائة ألف فالجميع ثمانية وثلاثون ألف ألف وسبعة آلاف ألف وستمائة ألف، وإن اعتبرته مع الدين فهو خمسون ألف ألف وتسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف، فعلى التقادير كلها الحساب غير صحيح.
ثم قال الكرماني: قلت لعل الجميع عند وفاته هذا المقدار الذي قاله البخاري ثم زاد من غلة أمواله في هذه الأربع سنين إلى ستين ألف ألف إلا مائتي ألف اهـ.
وحاصله أن ما ذكره من نصيب كل من الزوجات باعتبار ما يجمع من غلال الأموال في السنين الأربع، وما ذكره من الجملة باعتبار حالة الموت والله أعلم.

قال الحافظ ابن حجر بعد نقله عن الحافظ شرف الدين الدمياطي: وهذا توجيه في غاية الحسن لعدم تكلفه ولتبقية الرواية الصحيحة على وجهها، وقد تلقاه الكرماني فذكره ملخصاً ولم ينسبه لقائله ولعله من توارد الخواصر والله أعلم اهـ. قلت: رأيت بخط

(2/513)


الحافظ نجم الدينبن فهد في تذكرته نقلاً عن خط الدمياطي ما يخالف ما نقله عنه في «الفتح» ولفظه: روى ابن سعد في «الطبقات» حديث الزبير هذا بنحو حديث البخاري وطوّله، غير أنه خالفه في موضع واحد وهو قوله: أصاب كل امرأة من نسائه ألف ألف ومائتا ألف على دينه ووصيته وورثته، وإنما يصح قسمتها أن لو كان لكل امرأة ألف ألف فيكون الثمن أربعة آلاف ألف، فتصح قسمة الورثة من اثنين وثلاثين ألف ألف ثم يضاف إليها الثلث ستة عشر ألف ألف فتصير الجملتان ثمانية وأربعين ألف ألف، ثم يضاف إليها الدين ألفا ألف ومائتا ألف فصارت الجملة كلها خمسين ألف ألف ومائتا ألف ومنها تصح. ورواية ابن سعد تصح من خمسة وخمسين ألف ألف، ورواية البخاري تصح من تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف، فيجوز أن يكون المراد بقوله فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف قيمة تركته عند موته، لا ما زاد عليها بعد موته من غلة الأرضين والدور في مدة أربع سنين قبل قسمة التركات. ويدل عليه ما رواه الواقدي عن أبي بكربن سبرة عن هشام عن أبيه قال: كان قسمة ما ترك الزبير على أربعين ألف ألف. وروى ابن سعد عن القعنبي عن ابن عيينة قال: قسم ميراث الزبير على أربعين ألف ألف. وذكر الزبيربن بكار في بني عدي عاتكة بنت زيد زوج الزبير، وأن
عبد ابن الزبير بعث إليها بثمانين ألف درهم فقبضتها وصالحت عليها، وبين قول الزبير هذا وقول غيره بون بعيد، والعجب منه مع سعة علمه وتنفيره عنه كيف خفي عليه توريث آبائه وأحوال تركاتهم اهـ.
قلت: لا عجب فإنها صولحت عن ربع الثمن بما دفع إليها لا أن ذلك ربع ثمن مال الزبير حتى يخالف كلام غيره، والله أعلم (رواه البخاري) في أبواب فرض الخمس.

26 - باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم
هو لغة: وضع الشيء في غير محله. وشرعاً: التصرف في حق الغير بغير حق، أو مجاوزة الحد (والأمر برد المظالم) بأعيانها إن بقيت فإن تلفت فيبدلها من مثل في المثلى والقيمة في المقوم (إلى أصحابها) إن بقوا وإلا فللوارث، فإن فقد المستحق ولو بانقطاع

(2/514)


خبره بحيث أيس من حياته أرسلها لقاض أمين ولو غير قاضي بلده فيما يظهر، فإن تعذر تصدق بها على الفقراء بنية الغرم إذا وجده كما في الوديعة أو تركها عنده، وبحث الإسنوي أنه يتخير بين وجوه المصالح كلها وهو ظاهر، وإلى ترجيحه يومىء كلام العزّبن جماعة وغيره وزاد: إن له التصرف لنفسه من نفسه إن وجد فيه شرطه، وعليه يدل كلام الغزالي في «نطيره» ، قال: ويجب عليه فيه الاقتصار على الأمر الوسيط، وقيد ابن جماعة ذلك بعلمه بالأحكام الشرعية.
قال ابن حجر الهيتمي: وظاهر أنه غير شرط، وإنما شرط تصرفه فيه علمه بجواز صرفه إليه. وكنفسه عياله الذين تلزمه مؤنتهم.
(قال الله تعالى) شأنه عما لا يليق ( {ما للظالمين من حميم} ) قريب مشفق ( {ولا شفيع يطاع} ) ولا شفيع يشفع ووضع الظالمين موضع «هم» للدلالة على اختصاص هذا الأمر بهم وأنه لظلمهم.
(وقال تعالى) : {وما للظالمين من ولي ولا نصير} ) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض والتلاوة {والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} أي يدعهم الله بغير وليّ ولا نصير في عذابه، وفي سورة الحج {وما للظالمين من نصير} فلعل زيادة «من وليّ» من قلم الناسخ وتحريف النقلة.
(وأما الأحاديث) النبوية (فمنها حديث أبي ذرّ) جندببن جنادة الغفاري (المتقدم في آخر باب المجاهدة) وبه ختم ذلك الباب.
2031 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم) أي: اجتنبوا ظلم

(2/515)


العباد ومنهم النفس، وظلمها بمنعها حقها أو إعانتها على معصية الله وإطاعتها فيها (فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) .
قال القاضي عياض: هو على ظاهره، فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، كما أن المؤمن يسعى بنور هو مسبب عن إيمانه في الدنيا، قال تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد: 12) اهـ. قيل ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد وبه فسر قوله تعالى: {قل من ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر} (الأنعام: 63) ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات.

قال الطيبي: قوله على ظاهره يوهم أن قوله ظلمات هنا ليس مجازاً بل حقيقة، لكنه مجاز لأنه حمل المسبب على السبب، فالمراد ظلمات حقيقة مسببة عن الظلم، والفرق بين الشدائد والأنكال أن الشدائد كائنة في العرصات قبل دخول النار والأنكال بعد دخولها اهـ.
وقال ابن الجوزي: الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ حق الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة والمعصية فيه أشد من غيرها، لأنه لا يقع غالباً إلا بالتضعيف الذي لا يقدر على الانتصار وإنما ينشأ من ظلمة القلب لأنه لو استنار القلب بنور الهدى لاعتبر (واتقوا الشح) هو بالشين المعجمة وهي مثلثة والضم أعلى، والشحّ أشد البخل، وقيل: البخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشحّ عام.
وقيل: البخل بالمال والشحّ به وبالمعروف (فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم) أي: من الأمم والهلاك فيه محتمل للهلاك المعنوي والهلاك الحسي ويؤيده قوله: (حملهم على أن سفكوا دماءهم) أي: قتل بعضهم بعضاً كما قتل ذلك الإسرائيلي ابن عمه الذي يرثه استعجالاً للإرث حتى كشف الله أمره بقصة البقرة واستحلوا محارمهم.
قال المظهري في «المفاتيح» : يعني لحرصهم على جمع المال الحرام يقتل بعضهم بعضاً لأخذ أموالهم (واستحلوا محارمهم) أي: اتخذوا ما حرم الله من نسائهم حلالاً: أي فعلوا بهن الفاحشة، وأقرب منه أنهم احتالوا إلى بيع ما حرم الله تعالى عليهم أكله كالشحوم جملوها فباعوها، وكالصيد يوم السبت فحفروا للصيد حفائر لينحبس فيها السمك يومئذٍ فيأخذوه بعد، ففيه تقبيح التحليل للحرام بما لم يرد الإذن للتخلص به من الحرام كبيع العينة، أخذاً من أمره لبلال أن يبيع التمر الرديء بالدراهم ويشتري بالدراهم الجيد من التمر ونهاه عن شراء مدّ جيد بمدين من الرديء (رواه مسلم) .
قال السيوطي في «الجامع الصغير» ورواه

(2/516)


أحمد والبخاري في الأدب، وروى قوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً.
2042 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لتؤدن الحقوق) بضم الفوقية وفتح الهمزة وتشديد الدال المفتوحة لاتصال نون التوكيد المباشرة بها فعل مبني للمجهول واللام في أوله مؤذنة بقسم مقدر لتأكيد المقام وحذف الفاعل به: أي وا ليؤدنّ الله الحقوق (إلى أهلها) مستحقها (يوم القيامة حتى) غاية في إيفاء الحق: أي إلى أن (يقاد للشاة الجلحاء) بفتح الجيم وسكون اللام بعدها مهملة وبعدها ألف ممدودة: هي الجمّاء التي لا قرن لها (من الشاة القرناء) .
قال المصنف: هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتها كما يعاد أهل التكليف من الآدميين وكما يعاد الأطفال والمجانين، وعلى هذا تظاهرت دلائل الكتاب والسنة، قال تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} (التكوير: 5) وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره.
قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة المجازاة والعقاب والثواب. وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس من قصاص التكليف إذ لا تكلف عليها بل هو قصاص مقابلة اهـ (رواه مسلم) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد» والترمذي.
2053 - (وعن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث بحجة) بفتح الحاء وكسرها (الوداع) بكسر الواو وفتحها، وسميت بذلك لأن النبيّ ودّعهم فيها، وتسمى حجة البلاغ لقوله: «هل بلغت» وتسمى حجة الإسلام إذ لا مشرك فيها، قاله ابن النحوي في «التوضيح على الجامع الصغير» (والنبيّ بين أظهرنا) جملة في محل الحال أي جالس بيننا مستظهراً لا مستخفياً يقال بين أظهرنا وظهرانينا بمعنى بيننا (ولا ندري

(2/517)


أي: نعرف (ما حجة الوداع) أي: ما وجه تسميتها به.
قال في «التوشيح» : كأنه شيء ذكره النبي فتحدثوا به، وما فهموا أن المراد بالوداع وداع النبي حتى وقعت وفاته بعد ذلك بقليل فعرفوا بذلك، وأشار إلى ذلك بما تضمنه قوله: (حتى حمد ا) بالنصب على المفعولية وتقديمه للاختصاص (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه) يحتمل أن يكون من عطف الرديف وأن يكون من عطف المغاير أي: حمد الله بأوصاف الكمال وأثنى عليه بتنزيهه عما لا يجوز عليه (ثم ذكر المسيح) بفتح الميم وكسر السين المهملة مخففة وبالحاء المهملة (الدجال) أي: المبالغ في الكذب بادعائه الإحياء والإماتة وغيرهما مما يقطع كل عاقل فضلاً عن مؤمن بكذبه فيه، والمسيح إذا أطلق ينصرف لسيدنا عيسى عليه السلام ويطلق على الدجال لكن مقيداً به كما هنا.
وقال أبو داود: إنه في الدجال بتشديد السين وفي عيسى بتخفيفها والأول هو المشهور. وقيل يقال في كل منهما بالتشديد والتخفيف، ولقب به الدجال قيل لأنه ممسوح العين فإن إحدى عينيه ممسوحة، وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحاً لا عين ولا حاجب فيه، وقيل لأنه ممسوح من كل خير: في مبعود ومطرود، وعلى كل حال فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل: بل هو بمعنى فاعل، ولقب به لأنه يمسخ معظم الأرضين: أي يقطعها في أيام معدودة. وقيل: إنه بالخاء المعجمة ونسب قائله إلى التصحيف.

وقال ابن دحية في «مجمع البحرين» : إنه خطأ، وقيل: إنه مسيح بوزن مسكن بكسر ثالثة.
وقال أبو عبيدة: أظنه بالشين المعجمة كما تنطق به اليهود ثم عرّب (فأطنب في) بيان (ذكره) محذراً من فتنته لعظمها (وقال: ما بعث ا) أي: أرسل (من نبيّ) أي رسول إذ هو الذي ينذر قومه ومن مزيدة لاستغراق العموم (إلا أنذر أمته) منه وأعلمهم ببعض أوصافه (أنذره نوح) أي: أنذر منه نوح قومه (والنبيون من بعده) أممهم ففيه حذف المفعول وجملة أنذر نوح لتفصيل ما قبلها (وإنه إن يخرج فيكم) إذ لا أمة بعدكم ولا بد من خروجه، فإذا لم يخرج في الأمم السابقة فلم يبق إلا خروجه في هذه الأمة بعدكم ولا بد من خروجه، فإذا لم يخرج في الأمم السابقة فلم يبق إلا خروجه في هذه الأمة (فما) شرطية: أي فأي شيء (خفي عليكم من) للتبعيض أي بعض (شأنه فليس يخفى عليكم، أن ربكم ليس بأعور) أن ومعمولاها فاعل يخفى لكن رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح بكسر الهمزة ولعل الإسناد للجملة: أي لا يخفى

(2/518)


عليكم مضمون هذا الكلام من انتفاء النقائص عن الباري جل وعز (إنه) يعني: الدجال وهي ومعمولاها بدل من إن الأولى أو استئناف قال الكرماني (أعور عين اليمنى) بالجر من إضافة الموصوف إلى صفته وتأويله عند البصريين أعور عين صفحة وجهه اليمنى (كأن عينه عنبة) بكسر العين وفتح النون والموحدة، لا يخفى ما فيه من المحسن البديعي، وهو الجناس الخطي المسمى بالجناس المصحف ومنه حديث «ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى» (طافية) بلا همز أي: بارزة من طفا الشيء يطفو: إذا علا على غيره، وشبهها بالعنبة التي تقع في العنقود بارزة عن نظائرها (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح يتنبه لما بعده ( {إن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم} ) يقدر في الأول سفك وفي الثاني أخذ لأن الذوات لا تحرم (كحرمة يومكم هذا) أي: يوم النحر (في بلدكم هذا) أي حرم مكة، قيل: المشبه به أخفض رتبة من المشبه وهو خلاف القاعدة. والجواب: أن تحريم اليوم والبلد كان ثابتاً في نفوسهم مقرراً عندهم بخلاف الأنفس
والأموال، فكانت الجاهلية تستبيحها، فورد التشبيه بما هو مقرّر عندهم ومناط التشبيه ظهوره عند السامع (ألا) بتخفيف اللام (هل بلغت) والمستفهم منه الأمة الحاضرون وحذف المفعول ليعم: أي هل بلغتكم ما أمرت بإبلاغه إليكم (قالوا نعم: قال اللهم) أي يا أفحذف حرف النداء وعوض عنه الميم المشددة هذا هو الصحيح كما تقدم (اشهد) على شهادتهم بالتبليغ إليهم كيلا ينكر منكر ذلك يوم القيامة (ثلاثاً) أي قاله ثلاث مرات، وكان يكرر ما يحتاج للتكرير ثلاثاً كما جاء في الصحيح/ «وكان إذا تكلم بكلام أعاده ثلاثاً ليفهم منه» (ويلكم) بفتح الواو وسكون التحتية وفتح اللام.

قال في «الصحاح» : ويل كلمة مثل ويح إلا أنها كلمة عذاب، يقال ويله وويلك، وتقول ويل لزيد، فالنصب على إضمار الفعل. قال في مادة ويح: كأنك قلت ألزمه الله ويلاً أو ويحاً أو نحو ذلك والرفع على الابتداء هذا إذا لم تضف، فإن أضفت فليس إلا النصب لأنك لو رفعته لم يكن له خبر اهـ (أو) شك من الراوي: أي قال (ويحكم) وفي الصحاح أيضاً ويح كلمة رحمة «وويل» كلمة عذاب، قال اليزيدي: هما بمعنى واحد (انظروا لا ترجعوا) أي: لا تصيروا.
قال ابن مالك في «توضيحه» : مما خفي على أكثر النحاة استمال رجع كصار معنى وعملاً ومنه هذا الحديث: أي: لا تصيروا (بعدي كفاراً) أي كالكفار فهو تشبيه أو من باب التغليظ فهو مجاز، والمراد معناه

(2/519)


اللغوي وهو التستر بالأسلحة، وفيه عشرة أقوال حكاها السيوطي وحكاها عنه تلميذه العلقمي في آخر حاشيته على «الجامع الصغير» ، والأولى أنه على ظاهره، وأنه نهى عن الارتداد وأوله الخوارج بالكفر الذي هو الخروج عن الملة إذ كل معصية عندهم كفر (يضرب بعضكم رقاب بعض) .
قال القاضي عياض: الرواية بالرفع، كذا رواه المتقدمون والمتأخرون وهو الصواب، وبه يصح المقصود هنا، وضبطه بعض العلماء، وهو إحالة للمعنى والصواب الضم اهـ.
وفي «شرح المشارق» لابن ملك: يضرب بالرفع فيه وجوه: أحدها أن تكون الجملة صفة للكفار: أي لا ترجعوا بعدي كفاراً متصفين بهذه الصفة، يعني: يضرب بعضكم رقاب بعض. الثاني أن يكون حالاً من ضمير لا ترجعوا: أي لا ترجعوا كفاراً حال ضرب بعضكم رقاب بعض.
فعلى الأول يجوز أن يكون المعنى: لا ترجعوا بعدي عن الدين فتصيروا مرتدين مقاتلين يضرب بعضكم بعضاً بغير حق على وجه التحقيق، وأن يكون المعنى: لا ترجعوا كالكفار المقاتل بعضهم بعضاً على وجه التشبيه بحذف أداته.
وعلى الثاني يجوز أن يكون معناه: لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرض نبيكم باستحلال القتل بغير حق، وأن يكون المعنى: لا ترجعوا حال المقاتلة كالكفار في تهييج الشرّ وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب، وروي بجزم الباء على أنه بدل من ترجعوا، ومعناه: لا يضرب بعضكم رقاب بعض كفعل الكفار، ويجوز أن يكون جزاء لشرط مقدر على مذهب الكسائي: أي فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض اهـ. وقريب منه قول مغلطاي: من جزم أوّله على الكفر، ومن رفع لا يجعله متعلقاً بما قبله بل حالاً أو مستأنفاً.

(رواه البخاري) بجملته في كتاب المغازي من حديث ابن وهب عن عمربن محمدبن زيدبن عبد ابن عمر عن أبيه محمدبن زيد عن جده عبد ابن عمر ورواه مختصراً في مواضع أخر منه من طريق أخرى (وروى مسلم بعضه) في كتاب الإيمان وهو عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي أنه قال في حجة الوداع «ويحكم «أو قال ويلكم» لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» قال الحافظ المزي في «الأطراف» : ورواه أبو داود في «السنة» والنسائي في «المحاربة» وابن ماجه في «الفتن» مختصراً اهـ.

(2/520)


2064 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ظلم قيد) بكسر القاف وسكون التحتية وبالدال المهملة: أي قدر (شبر من الأرض) وذكر الشبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد المدلول عليه بقوله (طوّقه) بالبناء للمجهول أي طوقه الله (من سبع أرضين) بفتح الراء ويجوز إسكانها، قال الخطابي: قوله طوقه له وجهان:
أحدهما: أن معناه كلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة.
والثاني: أن معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين فيكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه اهـ.
v
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد الثاني رواية ابن عمر في البخاري بلفظ: «خسف به إلى سبع أرضين» ، وقيل: معناه كالأول، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه طوقاً ويعظم قدر عنقه اهـ. حتى يسمع ذلك كما ورد في غلظ جلد الكافر ونحو ذلك ويحتمل وهو الوجه الرابع أن المراد بقوله: طوقه أن يكلف أن يجعل له طوقاً ولا يستطيع ذلك فيعذب بذلك كما جاء في حق «من كذب في منامه كلف أن يعقد بين شعيرتين» ويحتمل وهو الوجه الخامس أن يكون التطويق الإثم، والمراد أن الظلم المذكور لازم له في عنقه ومنه قوله تعالى: {ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء: 13) وبالوجه الأول جزم أبو الفتح القشيري وصححه البغوي ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية، أو تنقسم أصحاب هذه الجناية فيعذب بعضهم بهذا وبعضهم بهذا بحسب قوة المسندة وضعفها اهـ (متفق عليه) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : أخرجه الشيخان وابن ماجه عن عائشة وعن سعيدبن زيد اهـ. وذكره المزي في «الأطراف» من حديث سعيدبن زيد وقال: أخرجه البخاري في «المظالم» ، ولم يذكر مسلماً وابن ماجه فيمن خرّجه والله أعلم.
2075 - (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله يملي)

(2/521)


بضم التحتية: أي يمهل (للظالم) ولا يعاجله بالعقوبة (فإذا أخذه) أي: عاقبه بذنبه لم يكد بفلته أي لم يكد يخلصه: أي إذا أهلكه لا يرفع عنه الهلاك أبداً: أي: إن كان كافراً فإن حمل الظلم على أعم من الشرك حمل كل على ما يليق به. قال في «الفتح» : وهذا أولى من قول بعضهم: معنى «لم يفلته» لم يؤخره لأنه يتبادر منه أن الظالم إذا صرف عن منصبه وأهين لا يعود إلى غيره، والمشاهد في بعضهم بخلاف ذلك، والأولى حمله على ما ذكرناه اهـ. وقريب منه قول الكرماني: «لم يفلته» لم يخلصه لكثرة مظالمه، والنفي على التأبيد إن كان منها الكفر، وإن كان مؤمناً لم يخلصه مدة طويلة. وفي رواية «لم يفلته» بحذف يكد (ثم قرأ) مستدلاً لذلك قوله تعالى: ( {وكذلك} ) أي: مثل المذكور في الآي قبلها ( {أخذ ربك} ) قال البيضاوي: وقرىء أخذ بالفعل فيكون محل الكاف: أي: التي في قوله وكذلك النصب على المصدر ( {إذا أخذ القرى} ) أي: أهلها ( {وهي ظالمة} ) حال من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لم أقيمت مقامه أجريت عليها، وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا لظلمهم وإنذار كل ظالم لنفسه أو غيره من وخامة الظلم ( {إن أخذه أليم شديد} ) موجع غير مرجوّ الخلاص عنه، وهو مبالغة ومحمول على التهديد والتحذير، وأجراها المعتزلة على ظاهرها في سائر العصاة (متفق عليه) ورواه الترمذي وابن ماجه.
2086 - (وعن معاذ) بضم الميم بعدها عين مهملة ثم ألف بعدها ذال معجمة ابن جبل الأنصاري (رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله) أي: أميراً على اليمن، وذلك أواخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك، رواه الواقدي، ولم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد عمر فتوجه إلى الشام فمات بها في طاعون عمواس (فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني

(2/522)


به اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب وأغلب، وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأدلة لإفحامهم لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين وعبدة الأوثان (فادعهم) أي: أولاً (إلى شهادة أن لا إله إلاالله، و) إلى شهادة (أني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك) أي: بالنطق بكلمتي التوحيد، قال القرطبي: وهذا الذي أمر النبي به معاذاً هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي أمراءه وقد اختلف في حكمها، وعلى هذا ففي الحديث حجة لمن يقول أول الواجبات التلفظ بكلمتي الشهادة مصدقاً بها.
وقد اختلف في أول الواجبات على أقوال كثيرة، والذي عليه أئمة الفتوى ومن بهم المقتدي كمالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من السلف أن أول الواجبات على كل مكلف الإيمان التصديقي الحزمي الذي لاريب معه الله ورسله وكتبه وما جاءت به الرسل كيفما حصل ذلك الإيمان وبأي طريق إليه يوصل. وأما النطق باللسان فمظهر لما استقر في القلب من الإيمان وسبب ظاهر ترتب عليه أحكام الإسلام، ولا حجة في الخبر لمن قال بعدم مخاطبة الكفار بالفروع أخذاً من أمرهم بها بعد إطاعتهم إلى النطق بالشهادتين، لأن ذلك يحتمل أنه إنما قدم لكون الإيمان شرطاً مصححاً للأعمال الفرعية لا للخطاب بالفروع، إذ لا يصح فعلها إلا بتقدم وجوده، ويصح الخطاب بالإيمان وبالفروع معاً في وقت واحد وإن كانت في الوجود متعاقبة، قال القرطبي: وهذا الاحتمال أظهر مما تمسكوا به، ولو لم يكن أظهر فهو مساوٍ له، فيكون ذلك الخطاب مجملاً بالنسبة إلى هذا الحكم، أو أن النبي إنما رتب هذه القواعد ليبين الأهم فالأهم، والله أعلم اهـ ملخصاً (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في) مجموع (كل يوم وليلة) «وإن» هنا وفيما بعد شرطية «وهم» فاعل فعل محذوف وجوباً دل عليه ما بعده فهو نظير: {وإن أحد من المشركين استجارك} (التوبة: 6) فالجواب جملة «فأعلمهم» (فإن هم أطاعوا لذلك) بالإقرار بالوجوب والعزم على فعلها (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة) أي: زكاة كما في رواية مسلم، وسميت صدقة لأنها تدل على صدق إيمان باذلها (تؤخذ من أغنيائهم) أي: من أموالهم. وعند مسلم «تؤخذ من أموالكم» قال المصنف: ويستدل بلفظ «من أموالهم» على أنه إذا امتنع من دفع

(2/523)


الزكاة أخذت من ماله بغير اختياره، وهذا الحكم لا خلاف فيه، ولكن هل تبرأ ذمته ويجزئه في الباطن؟ وجهان لأصحابنا (فترد) وعند مسلم: وترد (على فقرائهم) واستدل به مالك على أن الزكاة لا تجب قسمتها على الأصناف المذكورين في الآية، وأنه يجوز للإمام صرفها
إلى صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية إذا رآه نظراً ومصلحة دينية، قاله القرطبي. قال ابن دقيق العيد: وفيه يحث لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء (فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم) منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره. قال ابن قتيبة: لا يجوز حذف الواو، والكرائم جمع كريمة: أي: نفيسة، ففيه ترك أخذ خيار المال. والنكتة فيه أن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلا أن رضوا بذلك (واتق دعوة المظلوم) .
قال الحافظ ابن حجر: أي: تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه التنبيه على المنع من جميع الظلم. والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الأشارة إلى أن أخذها ظلم. وقال بعضهم: «واتق» عطف على عامل «إياك» المحذوف وجوباً فالتقدير: اتق نفسك أن تتعرض للكرائم، أو أشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم، ولكنه فيه إشارة إلى التحذير عن الظلم مطلقاً (فإنه) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بضمير المذكر على أن يكون ضمير الأمر والشأن، ويحتمل أنه يعود على مذكر الدعوة فإن الدعوة دعاء. ووقع في بعض النسخ: أي: من مسلم «فإنها» بهاء التأنيث، وهو عائد على لفظ الدعوة (ليس بينها وبين الله حجاب) أي: ليس لها صارف يصرفها ولا مانع، والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصياً كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه» وإسناده حسن، وليس المراد أن حجاباً يحجبه عن الناس. قال الطيبي: فقوله اتق دعوة المظلوم تذييل لاشتماله على الظلم الخاص سن أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله: فإنه تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار السلطان مظلوماً فلا يحجب. قال ابن العربي: إلا أنه وإن كان مطلقاً فهو مقيد بالحديث الآخر «إن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه وإما أن يدفع عنه من السوء مثله» وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى: {أمن يجيب المضطرّ إذا دعاه} (النمل: 62) بقوله: {فيكشف ما تدعون إليه إن

(2/524)


شاء} (الأنعام: 41) .
فائدة: لم يقع في الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان أواخر الأمر كما تقدم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام: يعني سراج الدين البلقيني: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منها بشيء كحديث ابن عمر «بني الإسلام على خمس» أما إذا كان في الدعاء إلا الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجوب فرض الصوم والحج كقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتو الزكوة} (التوبة: 5) في الموضعين من «براءة» مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعاً وكحديث ابن عمر «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاالله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» وغير ذلك من الأحاديث، قال والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة اعتقادي وهو الشهادة وبدنيّ وهو الصلاة وماليّ وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى الإسلام عليها ليفرع الركنين الآخرين عليها، فإن الصوم بدنيّ مخص والحج بدني مالي، وأيضاً فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حبّ المال، فإذا أذعن لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها اهـ (متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتاب الزكاة وفي التوحيد وفي مواضع أخر من صحيحه بأسانيد، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، وأخرجه أبو داود في الزكاة وأخرجه الترمذي في الزكاة بتمامه وفي البرّ «دعوة المظلوم» حسب، وقال حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه في الزكاة كذا لخص من كتاب «الأطراف» للمزي.
2097 - (وعن أبي حميد) بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون التحتية بعدها مهملة (عبد الرحمنبن سعد الساعدي رضي الله عنه) قال الذهبي في «تجريد الصحابة» : أبو حميد الساعدي

(2/525)


هو: عبد الرحمنبن عمروبن سعد، وقيل: المنذربن سعد. زاد ابن الأثير: ابن مالك بن خالدبن ثعلبةبن حارثةبن عمروبن الخزرج، زاد المصنف في «التهذيب» : ابن ساعدة بن كعببن الخزرج، ويقال ابن عمروبن سعدبن المنذربن مالك يعدّ في أهل المدينة، توفي آخر خلافة معاوية. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وعشرون حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر (قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد) .
قال الحازمي في «عجلة المبتدي» : والأزد اسمه داود، ويقال دراءبن الغوثبن مالك بن رددبن كهلانبن سبأبن يشجببن يعرببن قحطان، وإليه جماع الأنصار، وكان أنسبن مالك يقول: إن لم نكن من الأزد فلسنا من الناس، وجاء في الحديث «الأزد جرثومة العرب» وجاء ذكرهم في غير حديث والثناء عليهم عن أنس عن النبي «الأزد أسد الله في الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم، وليأتينّ على الناس زمان يقول الرجل: يا ليتني كان أبي أزديا، يا ليتني كانت أمي أزدية» هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ويقال فيه الأسد بالسين المهملة بدل الزاي اهـ ملخصاً (يقال له ابن اللتبية) بضم اللام وإسكان المثناة الفوقية بعدها موحدة فتحتية مشددة نسبة لبني لتب بطن من الأسد. قال المصنف في «التهذيب» : ويقال فيه ابن اللتبية بفتح الفوقية وابن الأتبية بالهمزة وإسكان التاء وليسا بصحيحين، والصواب الأول، واسم هذا الرجل عبد الله كذا في «التهذيب» . وقال الذهبي في «التجريد» : يقال اسمه عبد الله (على الصدقة) أي: الزكاة (فلما قدم) بكسر الدال (قال هذا لكم) معشر المسلمين (وهذا أهدي) بالبناء للمجهول (إليّ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) بكسر الميم وسكون النون وفتح الموحدة من النبر وهو الارتفاع (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد) بالبناء على الضم: أي: بعد ما ذكر من الحمد والثناء (فإني أستعمل الرجل منكم) أي: أجعله (على العمل مما) من العمل الذي (ولاني ا) العائد ضمير المفعول محذوف أي ولانية الله: أي جعل لي التصرف فيه من الزكوات والغنائم (فيأتي) أي: من عمله (فيقول لكم وهذا هدية أهديت لي) هذا الكلام المنكر على العامل لم يصرح باسم القائل، لأن مراده التحذير من مثل ذلك سواء فيه القائل أوّلا

(2/526)


وغيره وهذا من مزيد فضله وحسن خلقه (أفلا جلس في بيت أبيه أو) قال ابن حجر الهيثمي: للشك أو للتنويع (بيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان
صادقاً) في قوله: «هذا أهدي إليّ» إذ ظاهره أنه أهدي له لذاته، وإنما أهدي إليه لولايته عليهم ففيه كما قال العاقولي تعيير له وتحقير لشأنه وتعريض بأنه لولا هذه الولاية لكان فقيراً محتاجاً لا يلتفت إليه، فالهدية إليه ليست لذاته بل لتوليته عليهم، وفي الحديث دليل على حرمة هدايا العمال مطلقاً (وا) أتى به تأكيداً للأمر (لا يأخذ أحد منكم) معاشر العمال على الأعمال (شيئاً) مما يعطاه وهو عامل (بغير حق إلا لقي الله يحمله يوم القيامة) زاد في رواية في «الصحيحين» على رقبته: فإن قلت: الذي في الآية

{وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 13) قلت: الظهور تشمل ما هو قريب منها أو الآية في أوزار الكافرين، وهذا في أوزار المؤمنين، أو ذاك في مطلق الأوزار وهذا في عامل الزكاة فقط تمييزاً لها لمزيد قبحها باعتبار أن فيها حقين: حقاً تعالى، وحقاً للآدمي فلا أعرفنّ أحداً منكم لقي الله حال كونه (يحمل بعيراً له رغاء) بضم الراء وبعدها غين معجمة وبعدها ألف ممدودة: صوت الإبل يقال رغا يرغو (أو بقرة لها خوار) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الواو وآخره راء: صوت البقرة (أو شاة تيعر) بمثناة فوقية فمثناة تحتية فعين مهملة مكسورة ومفتوحة، ومعناه تصحيح، ومصدره اليعار، وهو صوت الشاة. وحكمة تلك الأصوات من تلك المحمولات الزيادة في تحقيره وفضيحته (ثم رفع يديه حتى) غاية لمحذوف: أي: وبالغ في الرفع إلى أن (رأينا عفرة إبطية) بضم العين المهملة وفتحها والفاء ساكنة فيهما: أي: بياضهما الذي ليس بالناصح بل فيه شيء كلون الأرض مأخوذ من عفرة الأرض وهو وجهها وذلك في إبطية إما باعتبار ما يرى من البعد أو لوجود شعر بفرض أن ثم شعراً، وفي روايات غير هذا الحديث التعبير ببياض إبطيه، ولعله باعتبار النظر إليهما من قرب مع عدم الشعر بهما فلا تنافي بين الروايتين.
قال الحافظ زين الدين العراقي: والقول بأن من خصائصه عدم نبات الشعر بإبطيه لم يثبت ما يدل له، ورواية «بياض إبيطيه» معارضة براوية «عفرة إبطيه» نعم من خصائصه أن لا ريح لإبطيه (ثم

(2/527)


قال) بعد تمام الرفع إلى ما ذكر (اللهم هل بلغت. متفق عليه) ورواه أبو داود في «الخراج» ، قاله المزي في «الأطراف» .
2108 - (وعن أبي هريرة رضي الى عنه عن النبي قال: من كانت عنده مظلمة) بفتح الميم وضم اللام (لأخيه من عرضه) في محل الحال بيان لمظلمة (أو من شيء) من عطف العام على الخاص فتدخل فيه اللطمة ونحوها، وفي رواية الترمذي «من عرض أو مال» ؛ والعرض كما في «الصحاح» : النفس يقال أكرمت عنه عرضي: أي: صنت عنه نفسي، وفلان نقي العرض: أي: برىء من أن يشتم أو يعاب. وقد قيل عرض الرجل حسبه اهـ. وقال في «التوشيح» : العرض بالكسر موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان نفسه أو سلفه (فليتحلله منه اليوم) أي: في الدنيا (من قبل ألا يكون) يوجه (دينار ولا درهم) أي: يوم القيامة. قال العسقلاني: وثبت ذلك في رواية على ابن الجعد عن ابن أبي ذئب عن الإسماعيلي (إن كان له) أي: لمن عنده المظلمة (عمل صالح أخذ) يحتمل أن يكون بالبناء للفاعل: أي صاحب المظلمة وأن يكون بالبناء للمفعول: أي أمر الله أن يؤخذ (منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات) مفهوم الجمع غير مراد: أي وإن لم تكن له حسنة، إذ من له حسنة داخل في العمل الصالح، فلا يكون من أفراد هذا القسم القسيم لذلك (أخذ) بالبناء للمفعول (من سيئات صاحبه) أي: وهو صاحب المظلمة (فحمل عليه) أي: على الظالم. (رواه البخاري) قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقاً من هذا ولفظه «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام

(2/528)


وزكاة» يعني الحديث الآتي أواخر الباب. ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه: ولم
يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله في عباده اهـ.

2119 - (وعن عبد ابن عمروبن العاص رضي الله عنهما) قال المصنف: العاص أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه بحذف الياء وهي لغة، والصحيح الفصيح العاصي بإثبات الياء، ولا اعتبار بوجودها في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها اهـ. وقال الهروي في «المرقاة» : الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفاً أو بتاء على أنه أجوف، ويدل عليه ما في «القاموس» : الأعياص من قريش أولاد أميةبن عبد شمسبن العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص، فعليه لا يجوز كتابة العاص بالياء ولا قراءته بها لا وفقاً ولا وصلاً فإنه معتل العين، بخلاف ما يتوهمه بعض الناس أنه اسم فاعل معتل اللام من عصى، فحينئذٍ يجوز إثبات الياء وحذفها وقفاً ووصلاً بناء على أنه معتل اللام اهـ (عن النبي قال: المسلم) أي: الكامل الإسلام، قال المصنف: وليس المراد نفي أصل الإسلام عمن لم يكن بالصفة المذكورة في قوله: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) بل هذا كما يقال العلم ما نفع أو العالم زيد: الكامل أو المحبوب فكله على التفضيل لا الحصر، ثم ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه أشد، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكفّ عنه والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك: وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس واليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد لأنه يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن يشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعاً تعاطى الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك. وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون
غيرها من الجوارح نكتة فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق.
فائدة: كمال الإسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة، وإنما خص ما ذكر لما

(2/529)


دعا إليه من الحاجة الخاصة (والمهاجر) من الهجر: وهو الترك وهو بمعنى المهاجر، وإن كان لفظ المفاعلة يقتضي وقوع فعل من اثنين لكنه هنا للواحد كالمسافر. ويحتمل أن يكون هنا على بابه لأن من لازم كونه هاجراً وطنه مثلاً أنه مهجور منه. والهجرة ضربان: ظاهرة وهي الفرار بالدين من الفتن، وباطنة وهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وهو ما أشار إليه بقوله: (من هجر ما حرم ا) وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد النحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون هذا القول وقع بعد انقطاع الهجرة، قاله لما فتحت مكة تطييباً لقلب من لم يدرك ذلك: أي: إن حقيقة الهجرة يحصل لمن هجر ما نهي الله عنه فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع معاني الكلم والحكم (متفق عليه) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أبو داود والنسائي.
21210 - (وعنه) أي: عن عبد ابن عمرو (كان على ثقل رسول الله) الثقل بفتح المثلثة والقاف: العيال وما يثقل حمله من الأمتعة (رجل يقال له كركرة) قال الحافظ ابن حجر الواقدي: إنه كان أسود يمسك دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القتال. وروي أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى أنه كان نوبيا أهداه له هوذةبن علي الحنفي صاحب اليمامة فأعتقه. وذكر البلاذري أنه مات في الرق. واختلف في ضبطه فذكر عياض أنه بفتح الكافين. وبكسرهما قال النووي، إنما اختلف في كافه الأولى، أما الثانية فمكسورة اتفاقاً. وقد أشار البخاري إلى الخلاف في ذلك (فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو في النار) أي: يعذب على معصيته، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه (فذهبوا ينظرون إليه) أي: إلى السبب الذي قد يحال عليه العذاب (فوجدوا عباءة) قال القاضي عياض في «المشارق» : العباء ممدود، قال ابن دريد: العباء كساء معروف والجمع أعبية، وقال الخليل: العباءة ضرب من الأكسية فيه خطوط سود، وأدخله الزبيدي في حرف الباء وغير المهموز. وقال غيره: العباءة لغة فيه،

(2/530)


ويقال كل كساء فيه خطوط فهو عباءة (قد غلها) الغلول هنا: الخيانة في المغنم، قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه: أي يخفيه فيه، ونقل المصنف الإجماع على أنه من الكبائر. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث تحريم قليل الغول وكثيره (رواه البخاري) في كتاب الجهاد وأخرجه ابن ماجه فيه أيضاً.
21311 - (وعن أبي بكرة) بفتح الموحدة وسكون الكاف كنى بذلك لأنه دلى نفسه ببكرة من حصن الطائف لما حاصرهم النبيّ كما تقدم (نفيع) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية بعدها مهملة (ابن الحارث رضي الله عنه عن النبيّ قال) : في خطبة يوم النحر في حجة الوداع (إن الزمان) هو عند المتكلمين من أهل السنة مقارنة متجدد موهوم لمتجدد معلوم إزالة للإبهام من الأول لمقارنة الثاني، والمراد بالزمان هنا السنة كما يدل عليه قوله على وجه الاستئناف لبيان ذلك: السنة اثنا عشر شهراً، وإن الزمان (قد استدار) هو كدار الطواف حول الشيء والعود إلى الموضع الذي ابتدأ منه وهو المراد من قوله (كهيئته) أي: استدارة مثل هيئته وهي صورة شكله وحالته التي كان عليها (يوم خلق الله السموات والأرض) أي: النيرين فيهما لأن حقيقة الزمان المشتمل على الأعوام والشهور والأيام إنما وجدت من حين خلق النيرين، وأما قبل ذلك فالأمر فيه كهو في الجنة، إذ ما فيها لا يسمى زماناً: أي: إن الزمان عاد في انقسامه إلى الأعوام والعام في انقسامه إلى الأشهر المعودة إلى الموضع الذي اختار الله وضعه عليه (السنة اثنا عشر شهراً) جملة مستأنفة كما تقدم لبيان الاستدارة المذكورة (منها أربعة حرم ثلاث) حذف التاء هنا دون أربع تغليباً لليالي هنا وللأيام ثمة، أو إيماء إلى جواز تأنيث العدد وتذكيره عند حذف المعدود (متواليات) هي (ذو القعدة) بفتح القاف وقد تكسر وقد يحذف «ذو» منه ومما بعده (وذو الحجة) بالكسر وقد تفتح (والمحرم) بصيغة المفعول (ورجب مضر) عطف على ثلاث وأضيف إلى مضر بوزن عمر

(2/531)


وضاده معجمة لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من سائر العرب (الذي بين جمادي وشعبان) زيادة تأكيد في بيانه لعظم شأنه وإزاحة للريب الحادث فيه من النسىء وأنه عاد كما كان بين جمادي وشعبان، فأشار بهذا الحديث إلا بطلان النسىء الذي كانت تفعله العرب في الجاهلية، وذلك أنهم إذا احتاجوا إلى الحرب في شهر
محرم استحلوه وأخروا حرمته للشهر بعده ونادوا بذلك في قبائل العرب وجعلوا حساب الحج تابعاً لذلك، مثلاً إذا احتاجوا للحرب في رجب جعلوه حلالاً وجعلوا شعبان رجباً وبنوا عليه حساب حجهم، فاتفق في ذلك العام الذي وقع فيه حجة الوداع استدارة الزمن على الوضع الأصلي، فكان آخر ذلك العام ذا الحجة في نفس الأمر وأوّل ما بعده المحرم، فأشهر هذا الكلام في هذا المقام في ذلك الجمع العام إبط لا للنسىء كي يذيع إبطاله ولا يرجع إليه بوجه، والراجح أن الاستدارة من سنة فتح مكة ولذا أمر عتاباً أن يحج بالناس في تلك السنة والصديق أن يحج بهم في السنة التاسعة ولولا ذلك لكان الحج باطلاً لوقوعه في غيره زمنه، والشارع لا يأذن فضلاً عن أن يأمر في تعاطي نسك باطل، والله أعلم (أيّ شهر هذا) الاستفهام فيه لتقرير حرمة الشهر في نفوسهم فيصح بناء ما سيذكره عليها (قلنا: الله ورسوله أعلم) فيه مراعاة الأدب وتوقف عما لا يعلم الغرض من السؤال عنه (فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه) أي: توهموا أن طول سكوته لتردده في وضع اسم مناسب له غير اسمه المشهور يضعه عليه بدله وما ذكر في الاستفهام وجوابهم فسكت الخ يجري في نظيره الآتي (قال: أليس) أي: اسمه (ذا الحجة) وما قدرناه هو ما يدل عليه السياق (قلنا بلى) أي: هو ذو الحجة (قال: أي: بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فكست حتى ظنتا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس) أي: هذا المكان (البلدة) وفي نسخة البلد (الحرام) وجه تخصيص مكة بها مع شمولها لسائر البلدان فصار علماً عليها بالغلبة، الإشارة إلى أنها البلدة الجامعة لسائر الفضائل المتفرقة في غيرها مع زيادات لا توجد في غيرها (قلنا بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟

(2/532)


قلنا بلى، قال: فإن دماءكم) الفاء فيه فصيحة: أي: فإذا علمتم ما ذكر فتيقظوا إلى حرم أخرى هي أعظم منها وهي الدماء وما
بعدها، وتقدم أن وجه التشبيه مع أنها في الحرمة أفضل من المشبه به كون المشبه به أشهر، وتشبيه ما لم يشتهر وإن كان أفضل بما اشتهر وإن كان مفضولاً واقع جعل منه قوله صلّ على محمد كما صليت على إبراهيم، ولاحتياج المقام إلى التأكيد زاد فيه فأتى بإن المفيدة له وبدأ بالدماء، مع أن الأعراض أخطر لأن الابتلاء بها أكثر وخطرها أكبر، ومن ثم كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل على الأصح (وأموالكم) قدمها على الأعراض لأن ابتلاء الناس بالجناية فيها أكثر (وأعراضكم) قال في «فتح الإله» المراد منه تحريم التعرض للإنسان بما يعير أو ينقص به في نفسه أو أحد من أقاربه، بل يحلق به كل من له به علقة بحيث يئول تنقيصه أو تعييره إليه، وهذا أعم من قول النهاية: العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه اهـ ملخصاً (عليكم حرام كحرمة يومكُمْ هذا) أي: المعصية فيه حال كون اليوم على جهة التجوز (في بلدكم هذا) وحرمة المعصية بها عظيمة إجماعاً إنما اختلف في تضاعفها كالحسنات وعدمه والراجح عدمه كما لاكيفا كما يدل عليه عموم قوله تعالى:
{ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} (الأنعام: 160) ولا مخصص له (في شهركم هذا) وهو لعظم شرفه تعظم المعصية فيه (وستلقون ربكم) في الدار الآخرة ناظرين إليه على وجه منزه من الحلول والاتحاد والجهة والتحيز والإحاطة بالذات الأعلى (فيسألكم عن أموالكم) وفي نسخة «أعمالكم، والنار عن شمائلكم والجنة عن أيمانكم، والموازين قد نصبت، والصراط قد نصب على متن جهنم، والرسل شعارهم يومئذٍ سلم سلم/ والشهود الجوارح والحاكم الأعظم قد تجلى وغضب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله» (ألا) أداة استفتاح فلما حذرتم وبين لكم (لا ترجعوا) أي: لا تصيروا (بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) تقدم الكلام عليه في الثالث من أحاديث الباب (ألا ليبلغ) بتشديد اللام وتخفيفها والتبليغ واجب عيناً على من انحصر فيه وإلا فكفاية (الشاهد منكم) لما قلته العالم به سماعاً أو رواية (الغائب) عنه بأن لم يحصل علمه (فلعل بعض من يبلغه) بالبناء للمجهول ونائب فاعله الضمير المستتر والبارز مفعول له

(2/533)


ثان: أي: فلعل المبلغ لجودة فهمه وقوّة استعداده وتوجهه لذلك الأمر (أن يكون أوعى له) أي: أفهم لمعناه (من بعض من سمعه) فيستفيد من الخبر الذي يبلغه ويفيد الناس ما لا يحصل لمن سمعه مني، لا لقصور فهمه عنه بل لاشتغاله عنه بما هو أهم منه من الجهاد الأعظم الذي وقع لأكثر الصحابة بعده، فلا يقال: كيف يكون في التابعين أو من بعدهم من هو أعلم من الصحابي؟ وهو كان إذا وقع نظره الكريم للبدوي والخلف صار ينطق بالحكمة لوقته وعدوا ذلك من خصائصه العلية، ولا يعترض بالمنافقين لأن الكلام فيمن لا مانع فيه للتلقي من الحضرة النبوية وأولئك فيهم موانع صيرتهم كالجماد. ويمكن أن يقال: قد يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل، فنحن وإن قلنا بالأصح إن جميع الصحابة أفضل ممن بعدهم يجوز أن يكون عند غير الصحابي من الفهم والاستنباط ما ليس عنده وإن كان الصحابي أفضل وأجلّ بمراتب، وهذا أوفق
بظاهر قوله: «فلعل من يبلغه» الخ، ثم ذكر بعض ثمرات التبليغ ومنها انتشار العلم وعموم النفع به وحفظه على توالي الأزمة إلى قبيل القيامة كما أخبر به (ثم قال: ألا هل بلغت) أي: ما أمرت به (ألا هل بلغت) والتكرير للتأكيد (قلنا: نعم) أي: بلغت الرسالة والأمانة، فقد بلغ الرسالة والأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه وأفضل على كل ما هو له أهل (ثم قال: اللهم اشهد. متفق عليه) قال المزي: ورواه النسائي، زاد الحافظ في «النكت الظراف» : ورواه أبو داود في كتاب الحج وابن ماجه في «السنة من سننه» اهـ.
21412 - (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وميمين بينهما ألف (إياس) بكسر الهمزة بعدها تحتية وآخره سين مهملة (ابن ثعلبة) بفتح المثلثة وسكون المهملة وبعد اللام موحدة هذا هو المشهور في اسمه. وقال أبو حاتم الرازي: اسمه عبد ابن ثعلبة، ويقال ثعلبةبن عبد الله، ذكره المصنف في «شرح مسلم» ، الأنصاري (الحارثي) أحد بني الحارثبن الخزرج، وقيل: إنه بلوى، وهو حليف بني حارثة، وهو ابن أخت بردةبن دينار (رضي الله عنه) قال

(2/534)


الذهبي في «التجريد» : روي له ثلاثة أحاديث. قلت: ذكر ابن حزم في سيرته وابن الجوزي في «المستخرج» المليح أبا أمامة الحارثي فيمن له حديثان، وانفرد مسلم عن البخاري بالرواية عنه فروي له حديث الباب، توفي منصرف النبيّ من أحد فصلى عليه. قال ابن الأثير في «أسد الغابة» : على أن الصحيح أنه لم تكن وفاته مرجع النبي من أحد، وإنما كانت وفاة أمه عند منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فأراد الخروج معه فمنعه مرضها من شهود بدر. ومما يقوي أنه لم يقتل بأحد أن مسلماً يروي في «صحيحه» بإسناده عن عبد ابن كعب عن أبي أمامةبن ثعلبة «من اقتطع حق مسلم» الحديث، فلو كان مات بأحد لكان منقطعاً: أي: لأن عبد ابن كعب لم يدرك النبيّ ولم يخرّجه مسلم في «الصحيح» اهـ.
قال المصنف في «شرح مسلم» : ولقد أحسن أبو البركات الجزري المعروف بابن الأثير في كتاب معرفة الصحابة حيث أنكر هذا القول في وفاته (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اقتطع) أي: أخذ (حق امرىء مسلم بيمينه) دخل فيه من حلف على غير مال كجلد ميتة وسرجين وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها، وكذا سائر الحقوق التي ليست بمال كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم، والتقييد بالمسلم لا يدل على عدم تحريم مال الذمي، بل إنما يدل على هذا الوعيد المذكور في قوله: (فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة) فاقتطاع مال الذمي حرام؛ لكن لا يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة، هذا على مذهب من يقول بالمفهوم، أما من لا يقول بالمفهوم فلا يحتاج إلى تأويل، ثم قوله: «فقد أوجب ا» الخ محمول على المستحل لذلك وقد مات كذلك فإنه يكفر ويخلد في النار، ومعناه: أنه استحق هذا ويجوز العفو عنه وحرّم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين، قاله المصنف، قال: وهذا الوعيد لمن مات قبل التوبة: أما من تاب توبة صحيحة فندم على فعله وردّ الحق إلى صاحبه فقد سقط عنه الإثم (فقال) أي: أبو أمامة، ويحتمل أن يكون فقال بعض من حضر (وإن كان) أي: المقتطع (شيئاً يسيراً يا رسولالله، فقال) (وإن كان قضيباً من أراك) قال المصنف: هكذا هو في بعض الأصول أو أكثرها، يعني وإن قضيت بالرفع، وفي كثير منها «وإن قضيبا» على أنه خبر كان المحذوفة أو أنه مفعول الفعل محذوف تقديره: وإن اقتطع اهـ والأراك: شجر معروف يستاك بأعواده بل هو أفضل ما يستاك به كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب فضل السواك، وما أحسن قول من قال:

(2/535)


با إن جزت بوادي الأراك
وقبلت أغصانه الخضر فاك
فابعث إلى المملوك من بعضها
فإنني وا مالي سواك
(رواه مسلم) قال المزي: ورواه النسائي وابن ماجه.
21513 - (وعن عديّ) بفتح أول مهملية وكسر ثانيهما (ابن عميرة) بفتح العين المهملة وكسر الميم، قال المصنف: لم يأت هذا الاسم في الرجال إلا بفتح العين، وجاء في النساء بالفتح والضم، وعميرة هو ابن زرارة، أبو زرارة الكندي، ذكر له الحافظ المزي في الأطراف ثلاثة أحاديث، انفرد مسلم بالرواية عنه دون البخاري فروي هذا الحديث عنه (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من استعملناه منكم على عمل) من جمع مال الزكاة أو الغنائم أو نحو ذلك (فكتمنا) بميم مفتوحة والفاعل مستتر يعود إلى من وأفرده باعتبار لفظها، وقوله: (مخيطاً) بكسر الميم وسكون المعجمة: هو الإبرة (فما فوقه) في الصغر، وهذا في الكلام كقولك أتراه قصيراً؟ فيقول القائل أو فوق ذلك: أي: هو أقصر مما ترى (كان) أي: المكتوم المدلول عليه بقوله كتمنا نظير {أعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8) (غلولاً) بضم الغين المعجمة (يأتي به يوم القيامة) يحمله كما تقدم في أحاديث الباب وفي رواية أبي داود «فهو غلّ يأتي به يوم القيامة» قال ابن رسلان: الغلّ الحديدة التي يجمع بها يد الأسير إلى عنقه يأتي به يوم القيامة إلى المحشر وهو حامل له كما ذكر مثله في الغالّ، ويحتمل أن يكون الغلّ في يده يوم القيامة في جهنم. وفيه وعيد شديد وزجر أكيد في الخيانة من العامل في القليل والكثير وأنه من الكبائر العظام اهـ. وعلى رواية مسلم ففيه أن ما أخفاه العامل غلول والغلوم حرام وإن قل، وهو من الكبائر ويجب عليه رده بالإجماع؛ فإن كان قد غله من الغنيمة وتفرق الجيش وتعذر إيصال حق كل واحد إليه ففيه خلاف للعلماء، وقال الشافعي وطائفة: يجب تسليمه للإمام كسائر الأموال الضائعة وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية

(2/536)


والحسن والزهري ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور: يدفع خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي (فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه) لم أر من ذكر اسمه لا المصنف في
«شرح مسلم» ولا ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» (فقال: يا رسول الله اقبل عني عملي) .

قال ابن رسلان: النزول عن العمل الذي هو ولاية لا يحتاج إلى قبول، بل لو قال عزلت نفسي انعزل، فيحمل هذا على الاستئذان فإن فيه نوع استشارة (قال: ومالك) كذا هو في الرياض وكذا رأيته في أصل من «صحيح مسلم» بالظرف خبر عن ما الاستفهامية، لكن قال ابن رسلان في «سنن أبي داود» بعد أن ذكر لفظه: «وما ذلك» اسم إشارة مقرون بكاف الخطاب وقبلها اللام، ولفظ مسلم «وما ذاك» أي: بحذف اللام: أي وأيّ شيء لك داع (قال: سمعتك تقول كذا وكذا) من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت، ومعناه مثل ذا، ويكنى بها عن المجهول وعما لا يراد التصريح به كما في «النهاية» وقد تقدم (قال: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل) يدخل فيه القضاء والحسبة وسائر الأعمال (فليجىء بقليله وكثيره) اللام في فليجىء لام الأمر، وهذا كما قال القرطبي يدل على أن العامل لا يقتطع منه شيئاً لنفسه أجرة ولا غيرها ولا لغيره إلا أن يأذن له الإمام الذي تلزمه طاعته. قال ابن رسلان: ويدخل في عموم ما أهدي له الحديث ابن اللتبية، إذ لو كان في بيت أمه لم يهد له، وما تحت يده من صدقة فرض ونفل، فمتى اقتطع منه شيئاً خانه في أمانته وولايته (فما أوتي) بالبناء للمفعول (عنه انتهى) أعطى (منه أخذ) بالبناء للفاعل: أي: امتنع العامل عن أخذه. قال ابن رسلان: فيذكر العامل الجهات التي قبض منها المال وصفتها، فيأخذ ما جاز أخذه ويترك ما لم يجز أخذه بل يرده على دافعه ويفعل ما تقتضيه الشريعة، وهذا ما ظهر لي ولم يتكلم عليه النووي ولا القرطبي (رواه مسلم) في كتاب الجهاد وأبو داود في كتاب الأقضية.
21614 - (وعن عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر) يجوز فيها الصرف

(2/537)


باعتبار المكان ومنعه باعتبار البقعة، وعدم الصرف أكثر في ألسنة المحدّثين، وكانت وقعة خيبر سنة ست من الهجرة عقب مرجعهم من الحديبية، ثم ما ذكر من أنها خيبر بالمعجمة أولها والراء آخرها هو الصواب. وذكر القاضي عياض أن أكثر رواة «الموطأ» رووه هكذا، وأن بعضهم رواه حنين بالحاء المهملة والنون، والله أعلم (أقبل نفر) اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه، كذا في «النهاية» (من أصحاب النبيّ فقالوا: فلان) قال ابن السراج: كناية عن اسم يسمى به المحدث عنه خاص غالباً كما تقدم (شهيد وفلان شهيد حتى مرّوا على رجل) يحتمل أن يكون المراد انتهوا في الذكر، ويحتمل أن يكون المراد المرور عليه ميتاً والأول أقرب (فقالوا) عنه (فلان شهيد. فقال النبيّ: كلا) أي: انته وانزجر عن هذا القول والحكم له بالشهادة المتضمنة الحكم له بالسعادة الأبدية والمنازل العلية الشاهد بذلك قوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم} (آل عمران: 169) الآية. (إني رأيته في النار في بردة) بضم الموحدة: ثوب مخطط (غلها) أي: أخذها من الغنيمة قبل أن تقسم (أو) شك الراوي (عباءة) تقدم في الباب ضبطها (رواه مسلم) في كتاب الإيمان، ورواه الترمذي في السير من جامعه بنحوه «قيل: يا رسول الله إن فلاناً استشهد قال: كلا» الحديث، وقال: حسن صحيح.
21715 - (وعن أبي قتادة) بالقاف فالمثناة الفوقية (الحارثبن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة ابن بلرمةبن حناسبن عبيدبن غنمبن كعببن سلمة ابن سعد الأنصاري الخزرجي السلمي، فارس رسول الله، وقيل: اسمه النعمان (رضي الله عنه) اختلف في شهوده بدراً وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد كلها، أصابه سهم بوجهه يوم ذي قرد فبصق على محله النبي، فما ضرب عليه بعد قط ولا قاح، ودعا له في

(2/538)


ذلك اليوم فقال: «اللهم بارك في شعره وبشره» وفي سفر آخر قال له: «حفظك الله كما حفظت نبيه» أخرجه أبو داود. توفي سنة أربع وخمسين، قيل: بالمدينة وقيل بالكوفة في خلافة عليّ فصلى عليه عليّ فكبر سبعاً. وعن الشعبي أن علياً كبر عليه ستاً، قال: وكان بدرياً، روي هل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وسبعون حديثاً، اتفقا منها على أحد عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثمانية (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه) بفتح الهمزة وكسرها كما سبق (قام فهم) أي: خطيباً (فذكر لهم) أي: بعد حمد الله والثناء عليه (أن الجهاد في سبيل الله) أي: لإعلاء كلمة الله كما يدل عليه قوله في سبيل الله (والإيمان با) والواو لمطلق الجمع، فلا يرد ما قد يتوهم من أن محل الاعتبار بصالح العمل تقدم الإيمان عليه (أفضل الأعمال) أما بالنظر إلى المجموع فهو على إطلاقه، وكذا بالنظر إلى الأفراد بالنظر إلى الإيمان؛ وأما بالنسبة إلى الجهاد فبالنسبة إلى ذلك الوقت أو هو على تقدير من، وهذا يجري فيما ورد في الحديث أنه أفضل الأعمال، وهو من أفضلها كالصلاة أوّل الوقت ونحو ذلك.
قال القرطبي: وإنما قرن الجهاد بالإيمان هنا في الأفضلية ولم يجعله من مباني الإسلام في حديث ابن عمر لأنه لا يتمكن من إقامة تلك المباني على تمامها وكمالها ولم يظهر دين الإسلام على الأديان كلها إلا بالجهاد، فكأنه أصل في إقامته والإيمان أصل في تصحيح المباني فجمع بين الأصلين في الأفضلية (فقام رجل فقال: أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني (إن قتلت) بالبناء للمجهول (في سبيل ا) أي: لإعلاء كلمة الله واستغنى عنه لظهور «إنما الأعمال بالنيات» ولما تقدم (تكفر) مبني للمجهول والهمزة قبله مقدرة: أي أتكفر (عني خطاياي) يشمل ما يتعلق بحق الله وما يتعلق بحق العباد (فقال له رسول الله: نعم) بفتح أوليه حرف جواب (إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر) أي: على ملاقاة القرن وجراحات السيوف وطعن الرماح وغير ذلك من أتعاب الحرب (محتسب) أي: مخلص تعالى، فإذا قاتل لمعصية أو لغنيمة أو لصيت فلا يحصل له ما ذكر في الخبر من الثواب ولا غيره (مقبل غير مدبر) أي: على وجه الفرار، أما لو أدبر ليكرّ على العدو بعد أو ليأتي بالفئة فالظاهر حصول الثواب المذكور، ويحتمل على بعد أن ذلك مسقط للإثم لا محصل للأجر والله أعلم. وجواب إن

(2/539)


الشرطية محذوف اكتفاء بوجوده في السؤال (ثم قال رسول الله) مستدركاً للدين ومثله سائر حقوق العباد من عموم كلامه السابق (كيف قلت؟) أي: أيها السائل (قال) أي: السائل (قلت: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله: نعم وأنت صابر) جملة حالية حذف صاحبها وعاملها لدلالة وجودهما في الكلام السابق: أي: إن قتلت وأنت صابر (محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين) .
قال المصنف: فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة لا تكفر حقوق الآدميين إنما تكفر حققوق الله: أي: الصغائر منها اهـ. قال القرطبي: لكن هذا كله إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكنه منه، وأما إذا لم يجد للخروج من ذلك سبيلاً فالمرجو من كرم الله تعالى إذا صدق في قصده وصحت توبته أن يرضي عنه خصومه كما قد جاء نصاً في حديث أبي سعيد الخدري المشهور في هذا (قال لي ذلك جبريل) قال المصنف: يحمل على أنه أوحى إليه به في الحال (رواه مسلم) في كتاب الجهاد، وكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب الجهاد، وقال الترمذي: حسن صحيح، ثم هذا الحديث مقدم على الحديث بعده في نسخة مصححة، وفي نسخة أخرى بالعكس.
21816 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتدرون) أي: أتعلمون من الدراية، قال البيضاوي هي علم فيه احتيال وخداع (من المفلس؟ قالوا) بحسب ما يعرفونه فيه عرفاً (المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) قال في «النهاية» : هو كل ما ينتفع به من عروض الدنيا قليلها وكثيرها (فقال) مشيراً إلى أن هذا لانقطاع أمور الدنيا ونصبها لا ينبغي أن يعدّ حقيقة المفلس وقدلا يزول عنه لعارض من يسار ونحوه (إن المفلس) مفلس

(2/540)


الدرجات العلى في الدار الأخرى (من أمتي) أي: أمة الإجابة: أي من المؤمنين (من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام) بهذا ردّ قول سفيانبن عيينة إن وجه إضافة الصوم في حديث «الصوم لي» أن أصحاب التبعات إنما يأخذون من حسنات الظالم حتى يبقى الصيام فعند ذلك يقول الله: «الصوم لي وأنا أجزي به» ، ويرضي عنه الخصوم (وزكاة) أي: وغيرها من عمل البرّ (ويأتي) عطف على يأتي الأوّل (وقد شتم هذا) أي: سبه كما في «الصحاح» (وقذف هذا) أي: رماه بالزنى مثلاً (وأكل مال هذا) أي: بغير رضاه ومثله سائر الإتلافات بأيّ وجه كان، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه إتلاف المال (وسفك) أي: أهرق (دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا) أي: أحد المجنيّ عليه (من حسنته) أي: من ثوابها، ويحتمل أن يعطاها بنفسها ويجازى عليها حينئذٍ وهو مثل ما تقدم في الحديث السابق في الباب «إن كان له عمل صالح أخذ منه» (ويعطي هذا) أي: الآخر بفتح الخاء (من حسناته، فإن فنيت حسناته) بأخذ الغرماء لها. (قبل أن يقضي ما عليه) من التبعات (أخذ) بالبناء للمفعول كالمضارع قبله والماضيين بعد (من خطاياهم) أي: ذنوبهم، وظاهر عمومه يشتمل ما كان متعلقاً بالخلق، ويحتمل أن يخص ما يتعلق بالحق (فطرحت عليه ثم طرح في النار) قدر عمله السيء وما طرح عليه (رواه مسلم) قال ابن الرصاع في كتاب (تذكرة المحبين في «شرح أسماء» سيد المرسلين) قال بعض العارفين عند هذا الحديث: إنه فيه تشديد
وفيه للعقلاء غاية الوعيد فإن الإنسان قلّ أن تسلم أفعاله وأقواله من الرياء ومكايد الشيطان، وإن سلمت له خصلة فقلّ أن يسلم من أذية الخلق، فإذا كان يوم القيامة وقد سلمت له حصلة مع قلة سلامتها طلب خصمك تلك الحسنة وأخذها منكم بحكم مولاك عليك، فإنه لا مال يوم القيامة تؤدي منه ما عليك، بل من حسناتك يا مغبون إن كنت صائماً بالنهار قائماً بالليل جاداً في طاعة الرحمن، وقلّ أن تسلم من غيبة المسلمين وأذيتهم وأخذ مالهم، هذا حال من كان جاداً في الطاعات فكيف من كان مثلنا جاداً في جمع السيئات من أكل الحرام والشبهات

(2/541)


والتقصير في الطاعات والإسراع إلى المخالفات اهـ.

21917 - (وعن) أم المؤمنين (أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومي (رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر) من الحصر الخاص الذي دلت عليه قرينة الحال، قال التوربشتي: وإنما ابتدأ الحديث بهذه الجملة تنبيهاً على أن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان، وأن الوضع البشري يقتضي ألا يدرك من الأمور إلا ظواهرها. فإن قلت أو لم يكن النبيّ معصوماً في سائر أحواله؟ قلت: العصمة تتحقق فيما يعد عليه ذنباً ويقصده قصداً، أما ما نحن فيه مما يسمعه من الخصم فيتوهم صدقة فليس بداخل فيه، فإن الله تعالى لم يكلفه فيما لم ينزل عليه إلا ما كلف غيره وهو الاجتهاد في الإصابة قال: ويدل عليه ما روي في حديث أم سلمة أي من غير هذا «إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليّ» (وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن) قال الطيبي زائدة تشبيهاً للعمل بعسى: أي لعله (يكون ألحن) أفعل تفضيل من لحن بالحاء المهملة كفرح إذا فطن بما لا يفطن به غيره: أي: أفصح أو أفطن (بحجته من بعض) فيزين كلامه بحيث أظنه صادقاً في دعواه (فأقضي له على نحو ما أسمع) .
قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب والتصحيف وهو مذموم وذلك أكثر استعمالاً، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود، وإياه قصد الشاعر بقوله: وخير الحديث ما كان لحناً ومنه قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} (محمد: 30) ومنه قيل للفطن لما لا تقتضي فحوى الكلام لحن، ومنه الحديث ألحن بحجته: أي ألسن وأفصح وأبين كلاماً وأقدر على الحجة. قال العاقولي: وفي الحديث أنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز على غيره: وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، وهذا لطف من الله تعالى ليستنّ الناس به ويبقوا في ستر من الفضيحة العظمى، إذ لو أطلع أحد على الغيب لم يحتج أحد إلى شاهد في دعواه ولظهر من كل مبطل ما قصده ونواه، وهذا إنما هو في الحكم المستند إلى الشهادة، أما الأحكام الشرعية فلا يقر على ما أمله أن يقع فيه الخطأ منها بخلاف الأوّل، لأنه لا يسمى خطأ إنما يسمى حكماً بالظواهر لم يوافق الباطن، وهو صحيح لكونه مبنياً على القاعدة

(2/542)


الشرعية لكونه مرتباً على شهادة الشاهدين (فمن قضيت له بحق أخيه) لظاهر بيانه وحجته وهو يعلم أنه مبطل في نفس الأمر فلا يأخذه (فإنما أقطع له) أي: أعين له بناء على ظاهر الأمر (قطعة من النار) أي: فهو حرام يؤول به إليها كقوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء: 10) أي: جزاؤهم ذلك إن لم يعف الله عنهم (متفق عليه) في «الجامع الصغير» بلفظ «من قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» رواه مالك وأحمد والستة عن أم سلمة، وفي رواية «فإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر» (ألحن) المذكور في الحديث (أي أعلم) .
22018 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لن يزال المؤمن في فسحة) بضم الفاء وسكون السين وبالحاء المهملتين: أي: سعة (من دينه) ورجاء رحمة من ربه وإن ارتكب الكبائر (ما لم يصب) بضم أوله وكسر ثانيه أي يباشر (دماً حراماً) فإذا قتل نفساً بغير حق ضاقت عليه المسالك ودخل في زمرة الآيسين من رحمةالله، كما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعاً «من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة ا» قيل: المراد بشطر الكلمة قول «أق» وهو من باب التغليظ (رواه البخاري) وروى أبو داود عن أبي الدرداء عن رسول الله «لا يزال المؤمن معنقاً» بكسر النون بعد العين المهملة: أي: مسرعاً «في صالح عمله ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً تلج» وفي «الجامع الصغير» وروى الطبراني عن قتادةبن عياش مرفوعاً «لن يزال العبد في فسخة من دينه ما لم يشرب الخمر، فإذا شربها خرق الله عنه ستره، وكان الشيطان وليه وسمعه

(2/543)


وبصره ورجله، يسوقه إلى كل شرّ ويصرفه عن كل مرقاة» قال الهروي في «المرقاة» : وهذا يدل على أن المراد الانتهاء عن الكبائر مطلقاً وخص في كل موضع ما ذكر فيه لأمر يقتضيه اهـ.
22119 - (وعن خولة) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو ويقال لها خويلة (بنت ثامر) بالمثلثة وكسر الميم (الأنصارية وهي) أم محمد (امرأة حمزة) بن عبد المطلب (رضي الله عنه وعنها) وفي نسخة «عنهما بضمير التثنية وهي أخصر. قال المزي في كتاب الأطراف: خولة بنت قيسبن قهد بالقاف ابن قيسبن ميسربن ثعلبة الأنصارية، وقيل: امرأة حمزة خولة بنت ثامر الخولانية. وقيل: إن ثامراً لقب قيس بت قهد. قال عليبن المديني: خولة بنت قيس هي خولة بنت ثامر. قلت: وبذلك قال أبو عمر. قال ابن الأثير: وقد ذكر ترجمة خولة بنت ثامر وأورد فيها حديث الباب، وترجمة خولة بنت قيسبن قهدبن قيسبن ثعلبةبن غنمبن مالكبن النجار الأنصارية النجارية زوج حمزة تكنى أم محمد، وقيل: إن امرأة حمزة خولة بنت ثامر وقيل: إن ثامراً لقب لقيسبن قهد، والأول أصح قاله أبو عمر. تكنى أم محمد، وقيل: أم حبيبة وصحفه ابن منده بأم صبية، قتل عنها حمزة يوم أحد فخلف عليها النعمانبن عجلان الأنصاري الذرقي، ثم قال ابن الأثير: قلت ما أقرب أن يكون ثامر لقب قيسبن قهد فإن الحديث في الترجمتين واحد وهو «إن هذا المال حلوة خضرة» والله أعلم اهـ. ونقل الحافظ في «فتح الباري» قول من فرق بينهما وقول ابن المديني السابق. قال ابن الجوزي: فيمن له ثمانية أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خولة بنت قيس. وقال في «رواة الصحيحين» من الصحابة: انفرد البخاري بخولة (بنت) ثامر، روي عنها حديثاً واحداً (قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن رجالاً يتخوّضون) بالخاء والضاد المعجمتين: أي: يتصرفون (في مال الله بغير حق) أي: يتصرفون في أموال المسلمين بالباطل. ففيه أن التصرف فيها لا يجوز بمجرد التشهي (فلهم النار يوم القيامة) .
قال الحافظ في «الفتح» : هذا حكم مرتب على الوصف المناسب وهو الخوض في مالالله، ففيه إشعار بالعلية (رواه البخاري) ورواه الترمذي من

(2/544)


حديث خولة بنت قيس وزاد أوله «إن هذا المال حلوة خضرة من أصابه بحقه بورك له فيه، وربّ متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار» قال الترمذي: حسن صحيح.

27 - «باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم» .

(2/545)


(باب تعظيم حرمات) بضمتين جمع حرمة بضم فسكون، وهي ما لا يحلّ انتهاكه من أهل ومال (المسلمين وبيان حقوقهم) على إخوانهم المسلمين (والشفقة) معطوف على تعظيم ويصح عطفه على حرمات أو حقوق (عليهم والرحمة) عطف تفسير (بهم) .
(قال الله تعالى: {ومن يعظم حرمات ا} ) أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه أو المراد به الحرم أو ما يتعلق به الحج من التكاليف (فهو) أي فالتعظيم (خير) أي قربة وزيادة في الطاعة (له عند ربه) ثم قيل الظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل.
(وقال تعالى: {ومن يعظم شعائر ا} ) دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده، وعليه فتعظيمها أن يختارها سمانا غالية الأثمان. «روي أنه أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برّة من ذهب. وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار» ( {فإنها من تقوى القلوب} ) أي فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي القلوب فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من، وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور والإمرة بهما.
(وقال تعالى) مخاطباً لنبيه: ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) وتواضع لهم

(3/5)


وارفق بهم.
(وقال تعالى {من قتل نفساً بغير نفس} ) أي بغير نفس توجب القصاص (أو) بغير (فساد في الأرض) كالشرك وقطع الطريق. وثبت بالسنة رجم الزاني المحصن وقتل تارك الصلاة (فكأنما قتل الناس جميعاً) من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل وجرأ الناس عليه أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم (ومن أحياها) أي تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنفاذ من بعض أسباب الهلكة (فكأنما أحيا الناس جميعاً) أي كأنه فعل ذلك بهم جميعاً والمطلوب منه تعظيم قتل النفس وإحياؤها في القلوب ترهيباً من التعرض لها وترغيباً في المجافاة لها.

2221 - (وعن أبي موسى) الأشعري (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المؤمن للمؤمن كالبنيان) فالمؤمن مبتدأ، وقوله كالبنيان خبره، وقوله للمؤمن يصح كونه حالاً من المبتدأ وصفة له، لأن أل فيه جنسية، وقوله: (يشد بعضه بعضاً) جملة استئنافية لبيان وجه الشبه؛ قال القرطبي: هذا تمثيل يفيد الحض على معاونة المؤمن للمؤمن ونصرته، وأن ذلك أمر متأكد لا بد منه، فإن البناء لا يتم ولا تحصل فائدته إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضاً ويقويه. وإن لم يكن ذلك انحلت أجزاؤه وخرب بناؤه، وكذا المؤمن لا يشتغل بأمر دنياه ودينه إلا بمعاونة أخيه ومعاضدته ومناصرته، فإن لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه وعن مقاومة مضادّه فحينئذٍ لا يتم له نظام دنيا ولا دين ويلحق بالهالكين (وشبك) يحتمل أن يكون النبي وأن يكون الراوي (بين أصابعه) وذلك تقريب لوجه التشبيه وبيان للتداخل (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والأدب، ومسلم في الأدب من «صحيحهما» ورواه

(3/6)


الترمذي في الزهد وقال: صحيح غريب من حديث أبي موسى، والنسائي في الإيمان.
2232 - (وعنه) أي أبي موسى (قال: قال رسول الله: من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا) قال الحافظ ابن حجر هو تنويع من الشارع وليس شكاً من الراوي (ومعه نبل) جملة في محل الحال من فاعل مرّ، والنبل بفتح النون وسكون الموحدة: السهام العربية وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها (فليمسك أو) شك من الراوي (ليقيض) بكسر اللام للأمر أيضاً (على نصالها) قيل: «على» فيه بمعنى الباء، وقيل ضمن العامل معنى الاستعلاء للمبالغة. والنصال: بكسر النون وبالمهملة الحديدة التي في رأس السهم (بكفه) متعلق بيمسك أو يقبض، مخافة (أن يصيب أحداً من المسلمين منها) أي بسبب النصال فمن تعليلية (شيء) فيتأذى به (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ومسلم في الأدب ورواه أبو داود في الجهاد، وابن ماجه في الأدب، كذا في «الأطراف» للمزي.
2243 - (وعن النعمان) بضم النون وسكون العين المهملة (ابن بشير) بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة وسكون التحتية (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: مثل) بفتح أوليه، ويقال فيه مثل ومثيل ومثلها شبه وشبه وشبيه: أي فصة (المؤمنين) وفي نسخة «المسلمين» والذي في الصحيحين «المؤمنين» : أي الكاملين الإيمان كما قال ابن أبي حمزة (في توادهم) بتشديد الدال والأصل تواددهم فأدغم، والتوادد تفاعل من المودة: وهي: تقرب شخص من آخر بما يحب. قال القرطبي: ووقع في رواية توادهم بغير «في» ويصح ذلك ويكون مخفوضاً على أنه بدل اشتمال من المؤمنين (وتراحمهم وتعاطفهم) قال ابن أبي جمرة: الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في

(3/7)


المعنى لكن بينها فرق لطيف فالتراحم المراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر، والتوادد المراد به: التواصل الجالب للمحبة فالتزاور والتهادي، والتعاطف المراد به إعانة بعضهم بعضاً كما يعطف طرف الثوب عليه ليقويه اهـ ملخصاً (مثل الجسد) أي بالنسبة إلى جميع أعضائه، وجه الشبه فيه التوافق في التعب والراحة كما بينه بقوله (إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد) أي دعا باقيه بعضه إلى بعض إلى المشاركة في الألم، يقال تداعت الحيطان: أي تساقطت أو كادت (بالسهر والحمى) الظرف متعلق بتداعي، وتداعيه بالسهر لأن الألم يمنع النوم، وأما الحمى فلأن فقد النوم يثيرها. والحمى بضم المهملة وتشديد الميم عرّفها حذاق الأطباء بأنها حرارة غريبة تشتعل في القلب فتنبثّ منه في جميع البدن فيشتعل اشتعالاً يضرّ بالأفعال الطبيعية. قال ابن أبي جمرة، شبه الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء، لأن الإيمان أصل وفروعه التكاليف، فإذا أخل المرء بشيء من التكاليف شان ذلك الإخلال الأصل، وذلك الجسد أصل كالشجر وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من جسد اشتكت الأعضاء كلها بالاهتزاز والاضطراب اهـ. قال القاضي عياض: وفي
الحديث تعظيم حقوق المسلمين والحضّ على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضاً (متفق عليه) . وفي رواية لمسلم عن النعمان مرفوعاً «المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله» .

2254 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل النبي) سبطه وريحانته (الحسن بن علي رضي الله عنهما) وجملة (وعنده الأقرع بن حابس) في محل الحال من فاعل قبل، واسم الأقرع فراس ولقب بذلك لقرع كان في رأسه وهو تميمي كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنيناً وحصار الطائف. قال في «فتح الباري» : وهو من المؤلفة وممن حسن إسلامه (فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد)

(3/8)


بفتحتين أو بضم فسكون (ما قبلت أحداً منهم) وذلك لما في أهل البادية من الغلظ والجفاء كما في الحديث «من بدا فقد جفا» (فنظر إليه رسول الله) متعجباً من تلك الغلظة الناشىء عنها عدم الشفقة على الأولاد الناشىء عنها عدم تقبيلهم وحملهم وشمهم (فقال) عقب نظره إليه (من لا يرحم) بالبناء للفاعل وحذف المفعول للتعميم/ أو كنى به عن الفعل مع مفعوله: أي من لا يرحم الناس، ويقرب من هذا المعنى رواية جابر: «من لا يرحم الناس لا يرحمه ا» قاله الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» ، لكن الحديث سيأتي عن جرير، ولعل قوله عن جابر من الكاتب أو من باب تنزيل المتعدى منزلة اللازم، ونحو: فلان يعطي ويمنع، أي موصوف بتينك الصفتين: أي من لا رحمة عنده (لا يرحم) بالبناء للمفعول: أي لا يرحمهالله. قال في «فتح الباري» : هو بالرفع فيهما على الخبر. قال عياض: هو الأكثر وقال أبو البقاء «من» موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ مجزوماً. قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام: أي الذي فعل هذا الفعل لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف. قلت: وهو أولى من وجه آخر لأنه يصير كضرب المثل، ورجح
بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى بلم لا بلا، كقوله: «ومن لم يؤمن» وإن كان الآخر جائزاً كقول زهير: «ومن لا يظلم الناس يظلم» وهذا لا يقتضي ترجيحاً إذا كان المقام لائقاً بكونها شرطية، وأجاز بعض شراح المشارق رفع الجزءين وجزمهما ورفع الأول وجزم الثاني أو عكسه، ويحصل منه أربعة أوجه استبعد ثالثها، ووجه أن يكون في الثاني بمعنى النهي: أي من لا يرحم الناس لا ترحموه، وتقدير الرابع: من لا يكون من أهل الرحمة فإنه لا يرحم اهـ. ملخصاً من «الفتح» . وشارح المشارق المشار إليه هو الشيخ أكمل الدين، وعبارته: روي بالسكون والرفع، أما السكون فيهما فعلى الشرط والجزاء، وأما الرفع في الأول فيجعل من موصولة وكذا في الثاني، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي فهو لا يرحم اهـ. وفاته ذكر الوجه الثالث، ومعنى هاتين الجملتين قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون من لا يرحم غيره بأيّ نوع من أنواع الإحسان لا يحصل له هذا الثواب كما قال تعالى:
{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) ويحتمل أن يكون المراد من لا تكون فيه رحمة الإيمان في الدنيا لا يرحم في الآخرة، أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه لا يرحمه الله لأنه ليس عنده عهد، فتكون الرحمة الأولى بمعنى الأعمال، والثانية

(3/9)


بمعنى الجزاء، أي لا يثاب إلا من عمل صالحاً، ويحتمل أن تكون الأولى الصدقة الثانية البلاء: أي لا يسلم من البلاء إلا من تصدق، ومن لا يرحم الرحمة التي ليس فيها شائبة أذى لا يرحم مطلقاً، أو لا ينظر الله بعين الرحمة إلا إلى من جعل في قلبه الرحمة ولو كان عمله صالحاً اهـ. ملخصاً. قال: وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه في هذه الأوجه كلها، فما قصر فيه لجأ إلى الله تعالى في الإعانة عليه اهـ. وفي جواب النبي للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل والمحارم والأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة، لا للشهوة واللذة، وكذا الضم والمعانقة والشم (متفق عليه) . قال في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة، ورواه الشيخان عن جرير. وروى أحمد والشيخان والترمذي عن جرير «من لا يرحم الناس لا يرحمه ا» ورواه بهذا اللفظ أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد، ورواه الطبراني بلفظ «من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء» عن جرير، ورواه أحمد بلفظ: «من لا يَرحم لا يُرحم/ ومن لا يَغفر لا يُغفر له» عن جرير، ورواه بهذا اللفظ الطبراني عن جرير وزاد «من لا يتب لا يتب عليه» اهـ.
2265 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم) بكسر الدال المهملة (ناس) اسم جنس قيل أصله أناس بضم الهمزة فحذفت حذفها في لوقه وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يجمع بينهما، وهو اسم جمع كرجال إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. وتقدم عن البيضاوي في التفسير أنه مأخوذ من أنس كفرح لأنهم يأنسون بأمثالهم، أو أنس كضرب لأنهم ظاهرون مبصرون ولذا سموا بشراَ كما سمي الجن جناً لاجتنانهم اهـ. وقيل قلب من نسي، وقيل بل أصله ناس ينوس إذا اضطرب. وكأن تعويض أل عن الهمزة ليس على وجه اللزوم فلذا قالته الفصيحة بالتنكير وأل فيه إذا عرف للجنس. وهؤلاء الناس يحتمل أن يكونوا من بني تميم الذين رئيسهم الأقرع فيكون الحديث وما قبله في قصة واحدة، ويحتمل أنهما قصتان (من الأعراب) هم سكان البوادي، وفي نسخة من العرب وهم ولد إسماعيل (على رسول الله) وفي رواية البخاري «جاء أعرابي إلى رسول الله» وهذا الرجل قال شيخ الإسلام زكريا نقلاً عن الحافظ: يحتمل كونه الأقرع. قلت: وحكى المصنف في مبهماته عن الخطيب قولاً: إنه عيينة بن حصن، قال: وقد جاء

(3/10)


في «الصحيحين» التصريح بأنه الأقرع فإن صح عن عيينة أيضاً فهما قصتان اهـ (فقالوا) وقد رأوا المسلمين يقبلون صغارهم (أتقبلون صبيانكم) بكسر الصاد وضمها جمع صبي ويجمع على صبية كما في (الصحاح) ، وفي رواية البخاري السابقة «تقبلون» بتقدير ألف الاستفهام (فقالوا) أي المسلمون وفي نسخة «فقال أي النبي (نعم قالوا) أي الأعراب أو العرب (لكنا) استدراك من قولهم نعم من حيث أن الجنس واحد وأنهم بشر فربما يتوهم أنهم كذلك، فقالوا (لكنا وا ما تقبل) من حذف المفعول للتعميم، أي صغارنا أو من تنزيل التعدي منزلة اللازم نحو {هل يستوي الذين يعملون} (الزمر: 9) (فقال رسول الله: أو أملك) بالهمزة للاستفهام الإنكاري، وهو بفتح الواو العاطفة على مقدر بعد الهمزة على رأي الزمخشري. وقيل: إن الهمزة من جملة المعطوف وإن الواو مؤخرة
من تقديم لصدارة الهمزة، والتقدير على الأول: تنزع الرحمة من قلبك وأملك؟: أي أقدر أن أجعلها في قلبك، فمفعول أملك محذوف، وقوله: (أن نزع الله من قلوبكم الرحمة) بفتح الهمزة تقليل لذلك: أي لا أملك وضعها في قلوبكم لأن الله نزعها منكم. وأشار صاحب المفاتيح إلى كون أن بفتح الهمزة ومدخولها مفعول أملك على تقدير مضاف: أو أملك عدم نزع الله منكم الرحمة: أي لأن ما نزعه الله تعالى لا يقدر أحد على وضعه. قال العاقولي: ويجوز كسر الهمزة على أنّ إن أداة شرط جزاؤها محذوف لدلالة الكلام السابق عليه: أي إن نزع الله الرحمة من قلبكم فلا أملك لم دفعه ومنعه (متفق عليه) وهذا لفظ مسلم. وهذا الحديث اقتصر المزي على عزوه للبخاري فقط، مع أنه بهذا اللفظ لمسلم في كتاب فضائل الأنبياء وأما البخاري فرواه في كتاب الأدب بنحوه.
2276 - (وعن جرير بن عبد الله) البجلي (رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: من لا يرحم الناس) خصوا بالذكر اهتماماً بهم، وإلا فالرحمة مطلوبة لسائر المخلوقات حتى الدوابّ والبهائم. ففي كل كبد حرّاً رطبة أجر (لا يرحمه ا) قال العاقولي: الرحمة بمعنى

(3/11)


التعطف والرقة، فهي من الخلق بالمعنى ومن الله بالمعنى الغائي وهو الرضى عنه وإيصال النعم إليه. قال الدماميني في مصابيح الجامع الصحيح: اعلم أنه يجوز عند المتكلمين في تأويل ما لا يسوغ نسبته إلى الله تعالى على حقيقته اللغوية وجهان: أحدهما الحمل على الإرادة فيكون من صفات الذات. والآخر الحمل الحمل على فعل الإكرام فيكون من صفات الأفعال كالرحمة فإنها في اللغة مشتقة من الرحم وحاصلها رقة طبيعية وميل جبلي وهذا مستحيل في حق الباري فمنهم من يحملها على إرادة الخير ومنهم من يحملها على فعله ثم بعد ذلك يتعين أحد التأويلين في بعض السياقات لمانع يمنع الآخر كحديث «خلق الله الرحمة يوم خلقها» فيتعين تأويل الرحمة بفعل الخير لتكون صفة فعل فتكون حادثة عند الأشعري فيتسلط عليها الخلق، ولا يصح تأويلها فيه بالإرادة لأنها إذ ذاك من صفات الذات فتكون قديمة فيمتنع تعلق الخلق بها، ويتعين تأويلها بالإرادة في قوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود: 43) لأنك لو حملتها على الفعل لكان العصمة بعينها فيكون استثناء الشيء من نفسه، وكأنك قلت: لا عاصم إلا العاصم فتكون الرحمة الإرادة، والعصمة على بابها لفعل المنع من المكروهات، كأنه قال: لا يمنع المحذور إلا من أراد له السلامة، فتأمل اهـ. (متفق عليه) اقتصر المزي في «الأطراف» على عزوه بهذا اللفظ عن جرير إلى مسلم والترمذي قال: قال الترمذي: حسن صحيح، وتقدم تخريجه من الصحيحين وغيرهما في الكلام على حديث أبي هريرة نقلاً عن «الجامع الصغير» .
2287 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلى أحدكم) إماماً (للناس) وفي رواية مسلم «إذا أمّ أحدكم» (فليحفف) بأن يقتصر على أواسط المفصل وصغاره، وفي التسبيح في الركوع والسجود على ثلاث مرات، ويأتي بكمال التشهد والصلاة

(3/12)


على النبي، وهذا في إمام العامة، أما إمام قوم محصورين لم يتعلق بعينهم حق، راضين بالتطويل في مسجد لا يطرقهم غيرهم فلا بأس به ومحل ذلك أيضاً في غير ما لم يرد فيه قراءة سورة معينة وإلا كـ {آلم تنزيل} (البقرة: 1) {وهل أتى} (الإنسان: 1) في صبح الجمعة، {وق} {واقتربت} في العيد، ونحو ذلك فيأتي به وإن لم يرض القوم اكتفاء بوروده من فعله. قال ابن دقيق العيد: التخفيف والتطويل من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفاً بالنسبة إلى عادة قوم، ذويلاً بالنسبة إلى عادة قوم آخرين. وقول الفقهاء: لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود لا يخالف ما ورد عن النبي أنه كان يزيد على ذلك، لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلاً. قال الحافظ ابن حجر: وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص: «أن النبي قال له: أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم» إسناده حسن وأصله في مسلم (فإن فيهم الضعيف) أي في خلقته كالنحيف (والسقيم) من به مرض (والكبير) أي في السن والجملة تعليل للأمر المذكور، وقضيته أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضرّ التطويل، لكن قال ابن سيد الناس اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً، قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة السفر، وعلل بالمشقة وهي مع ذلك تشرع «وإن لم يشق عملاً بالغالب لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وكذلك هنا (وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) ومسلم «فليصل كيف شاء» أي مخففاً أو مطولاً (متفق عليه) ورواه أبو داود والترمذي إلى
قوله: «والكبير» وفي «الجامع الصغير» من حديث أبي واقد «كان أخفّ الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاة لنفسه» رواه أحمد (وفي رواية) أي في «الصحيحين» وهي عند أبي داود أيضاً (وذا الحاجة) أي صاحب حاجة يريد قضاءها عقب الصلاة.

(3/13)


2298 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن) مخففة من الثقيلة أي إنه (كان رسول الله) من كمال شفقته على أمته (ليدع) أي يترك (العمل) واللام هي الفارقة بين المخففة وإن النافية، وجملة (وهو يحب أن يعمل به) في محل الحال ومحبته للعمل لما فيه من التقرّب إلى الله عزّ وجلّ والتوسل إلى زيادة مراضيه، وقوله: (خشية) مفعول: أي خوف (أن يعمل به الناس) اتباعاً له إذا فعله وهم مقتدون به في سائر الأحوال (فيفرض عليهم) ومن ذلك ترك الخروج إلى قوم لصلاة الليل جماعة في الليلة الثالثة أو الرابعة من رمضان حتى طلع الفجر، فخرج عليهم وقال: «ما منعني إلا خشية أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» (متفق عليه) .
2309 - (وعنها) أي عائشة (قالت: نهاهم) أي الصحابة (النبي عن الوصال) وهو أن لا يتناول مفطراً بين الصومين، وقيل استدامة أحوال الصائم، فعلى الثاني يخرج من الوصال بالجماع والتقيؤ دون الأول، والنهي فيه عندنا للتحريم (رحمة لهم) علة للنهي ولا يمنع من كونه على وجه التحريم ويكون سبب التحريم الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم (فقالوا: إنك تواصل) أي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تفعل ذلك تقرّباً إلىالله، فنحن لكوننا لسنا معصومين أولى بفعل ما يكتسب به غفر الذنوب والتوصل إلى مرضاة الله تعالى (قال) مبيناً لاختصاص قربة الوصال به (إني لست كهيئتكم) أي على صفتكم ومنزلتكم من الله: أي إن له من القرب من الله تعالى وعلوّ المنزلة عنده ما ليس لهم وفي رواية للبخاري «وأيكم مثلي» وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد (إنى يطعمني) بضم أوله (ربي ويسقيني) يجوز فتح أوله وضمه من سقى وأسقى إلا أن تصح رواية بأحدهما فيرجع إليها (متفق عليه)

(3/14)


أخرجه مسلم في كتاب الصوم وكذا البخاري فيه «وفي غيره ورواه مالك والنسائي (معناه) أي المعنى المراد من قوله يطعمني إلخ (يجعل فيّ) بتشديد الياء (قوة من أكل وشرب) كذا قاله الجمهور فهو مجاز من ذكر الملزوم وإرادة اللازم: أي يجعل فيّ القوة المذكورة ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، والقوّة على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس. 0 وقيل المعنى على المجاز أيضاً أنه يجعل فيه من الشبع والري ما يغني عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش. والفرق بين القولين أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا ري، وعلى الثاني يعطي القوة مع ذلك، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوّت المقصود من الصيام والوصال لأن الجوع روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضاً النظر إلى حاله فإنه كان يجوع أكثر مما كان يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع. وجنح
ابن القيم إلى أن المراد أنه يشغله بالتفكر في عظمته والتحلي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرّة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب/ قال: وقد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني اهـ. وقيل إن المراد منه حقيقته فإنه كان يؤتى بطعام وشراب من الجنة كرامة له، وذلك لا يفطره لأن المفطر طعام الدنيا، أما طعام الجنة: أي المأتي على وجه المعجزة فلا، وبه يردّ ردّ المصنف بقوله: لو كان حقيقة لم يكن مواصلاً. قال ابن المنيرّ: هو محمول على أن أكله في تلك الحالة كحال النائم الذي يحصل الشبع والريّ ويستمرّ له حتى يستيقظ فلا يبطل به صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص أجره. قال الحافظ: وحاصله أن يحمل ذلك على حالة استغراقه في أحواله الشريفة حتى لا يؤثر فيه حينئذٍ شيء من الأحوال البشرية اهـ. وقيل إنه كان يؤتى به في النوم فيستيقظ وهو يجد الشبع والري.

23110 - (وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي) الأنصاري (رضي الله عنه قال: قال

(3/15)


رسول الله: إني لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطول فيها) جملة حالية من فاعل أقوم أو معطوفة على جملة لأقوم، وإرادته التطويل فيها لما يناله من قرة عينه بمناجاته ربه ولذيد أنسه به كما قال: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» هذا هو الأصح، وإن احتمل أن المراد ما قاله ابن فورك: من أن تلك الصلاة هي قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبيّ} (الأحزاب: 56) ذكره الشنواني في حاشية شرح خطبة «مختصر خليل» للقاني (فأسمع بكاء الطفل) قال في «الصحاح» : الطفل هو المولود، قال البدر الدماميني في «تحفة الغريب على مغني اللبيب» وقد كنت وقفت على فصل لبعض اللغويين ذكر فيه صفات الإنسان التي يختص بإطلاقها عليه بحسب الأزمنة المختلفة فقلت ناظماً لها:
أصخ لصفات الآدمي وضبطها
لتلتقط دراً تقتنيه بديعا
جنين إذا ما كان في بطن أمه
ومن بعد يدعى بالصبي رضيعا
وإن فطموه فالغلام لسبعة
كذا يافع للعشر قله مطيعا
إلى خمس عشر بالجزوّر سمه
لتحسن فيما تنتحيه صنيعا
فمد إلى خمس وعشرين حجة
بذاك دعاه الفاضلون جميعا
ومن بعد يدعي بالعطيطل لأنها
ثلاثين فاحفظ لا تعد مضيعا
صل لحد الأربعين وبعده
بكهل إلى الخمسين فادع سميعا
وشيخاً إلى حد الثمانين فادعه
بها ثم هما للممات سريعا
قال الحافظ ابن حجر في أواخر كتاب الهبة من «الفتح» : يطلق على الشخص قبل البلوغ أنه طفل وغلام، وتخصيص بعض اللغويين بما ذكر أغلبي (فأتجوز) أي أخفف (في صلاتي) بين مسلم في رواية له عن أنس محل التخفيف منها ولفظه «فيقرأ بالسورة القصيرة» وبين ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن سابط مقدارها ولفظه «أنه قرأ في الركعة الأولى سورة طويلة، فسمع بكاء صبيّ فقرأ في الثانية بثلاث آيات» وهذا مرسل (كراهية) بتخفيف الياء مصدر كره وهو مفعول له أي لكراهة (أن أشق على أمه) بدوامها

(3/16)


في الصلاة لتطويلها مع بكاء ابنها، وذكر الأم خرج مخرج الغالب، وإلا فمن في معناها ملحق بها، والتخفيف السابق في حديث أبي هريرة لحقّ المأمومين، وفي هذا لمصلحة غير المأمومين لكن بحيث يتعلق بمن يرجع إليه، وفي الحديث شفقته على الصحابة ومراعاة أحوال الكبير منهم والصغير (رواه البخاري) في كتاب الصلاة، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
23211 - (وعن) أبي عبد الله (جندب) بضم الجيم والمهملة وبفتحها (ابن عبد ا) ابن صفيان البجلي العلقي (رضي الله عنه) وعلقة: بفتح المهملة واللام بطن من بجيلة، له صحبة ليست بالقديمة. وقال في «المشكاة» ، جندب القسري، بفتح أوليه، قال: وفي بعض نسخ المصابيح القشيري قال شارحها وهو غلط، قال ابن الأثير: والذي ذكره الكلبي أن جندب الخير هو جندب بن عبد الله بن الأحزم الأزدي الغامدي اهـ. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، أخرج له منها في «الصحيحين» اثني عشر حديثاً اتفقا على سبعة منها، والباقي لمسلم (قال: قال رسول الله: من صلى صلاة الصبح) أي جماعة كما في رواية أخرى لمسلم فتقيد بها هذه الرواية المعلقة (فهو في ذمة ا) أي أمانه وعهده وكأنها خصت بذلك لأنها أول النهار الذي هو وقت ابتداء انتشار الناس في حوائجهم المحتاجين فيه وفي دوامه إلى أمن بعضهم من بعض لا لأفضليتها. قيل وهذا أوضح مما قاله الطيبي من أنها خصت بالذكر لما فيها من الكلفة والمشقة، فكان أداؤها مظنة خلوص الرجل ومئنة إيمانه، ومن كان مؤمناً فهو في ذمة الله وعهده، وذلك لأن ما قاله الطيبي يجري في العصر، فكان ذكر ذلك فيها أولى لوجود هذا المعنى فيها مع كونها أفضل وفي العشاء بل المشقة فيها أكثر، فلم يبق ما يميز الصبح عن غيرها من الخمس إلا ما ذكرناه (فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته) أيالله. قال الطيبي: ويجوز أن يعود إلى من، وقيل يحتمل أن المراد بالذمة الصلاة المقتضية للأمان فيكون المعنى لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به (فإنه) أي الشأن (من يطلبه) أي الله (من ذمته) أي من عهده، بأن خفره فيه وتعرض لمن هو فيه ولو (بشيء) يسير (يدركه) إذ لا مهرب منه (ثم) بعد إدراكه (يكبه) بفتح حرف المضارعة وهو أحد

(3/17)


الأفعال التي ثلاثيها متعدّ وإذا زيدت فيه الهمزة صار قاصراً: أي يلقيه (على وجهه في نار جهنم)
قال الطيبي: قوله فلا يطلبنكم من باب لا أرينك هاهنا، وقع النهي عن مطالبة الله إياهم عن نقض العهد، والمراد نهيهم عن التعرض لما يوجب مطالبة الله إياهم، وفيه مبالغات لأن الأصل لا تخفروا ذمته فجيء بالنهي كما ترى وصرح بلفظ «ا» ووضع المنهي، الذي هو مسبب موضع التعرض الذي هو سبب فيه، ثم أعاد الطلب وكرر الذمة ورتب عليه الوعيد. والمعنى: من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا تتعرضوا له بشيء يسير، فإنكم إن تعرضتم له يدرككم الله ولن تفوتوه فيحيط بكم من جوانبكم كما يحيط المحيط بالمحاط فيكبكم في نار جهنم. قال ابن حجر الهيتمي في «شرح المشكاة» : وفيه غاية التحذير من التعرّض بسوء لمن صلى الصبح المستلزمة لصلاة بقية الخمس وأن في التعرض له بسوء غاية الإهانة والعذاب. اهـ. ونقل الشعراني في كتاب الحوض المورود أن الحجاج كان مع شدة فجوره إذا أتى له بأحد يسأله هل صليت الصبح؟ فإن قال نعم ترك التعرّض له بسوء خوفاً من هذالوجه (رواه مسلم) في كتاب الصلاة، ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة ولفظه: «من صلى الصبح فهو في ذمةالله، فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته» وسيأتي فيه بسط في باب التحذير من إيذاء الصالحين.
23312 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المسلم أخو المسلم) قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) قال البيضاوي: أي من حيث إنهم منسوبون إلى أصل وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية اهـ. ورتب على هذه الأخوة المقتضية لمزيد الشفقة والتناصر والتعاون قوله (لا يظلمه) بأن ينقصه من ماله أو من حقه بغصب أو نحوه، ولا يسلمه إلى عدوّ متعد عليه عدواناً، بل ينصره ويدفع الظلم عنه ويدفعه عن الظلم كما سيأتي في حديث «انصر أخاك ظالماً» (ولا يسلمه) إلى عدوه ومنه نفسه التي هي أمارة بالسوء والشيطان كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّاً} (فاطر: 6) فيحول بينه

(3/18)


وبين دواعي النفس من الشهوات والدعة المقتضية للنزول عن مقام الأخيار والحلول في جملة الأشرار، وبينه وبين الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء، وبينه وبين العدو الباغي عليهم عليه بالظلم والاعتداء (من كان في حاجة أخيه) أي ما يحتاج إليه حالاً أو مآلاً (كان الله في حاجته) جزاء وفاقاً - {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60) روى الطبراني مرفوعاً «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته» وورد مرفوعاً أيضاً «من سعى في حاجة أخيه المسلم قضيت له أو لم تقض غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» وأوردهما في «الفتح المبين شرح الأربعين» (ومن فرج) بتشديد الراء (عن مسلم كربة) بضم الكاف: الهم الذي يأخذ النفس (فرج الله عنه بها) أي بتلك المرة من التفريج (كربة من كرب) بضم ففتح جمع كربة كقربة وقرب (يوم القيامة) ثم آثر التفريج على رديفه من وسع الوارد في رواية أخرى، لأنه أعظم من التنفيس لأنه إزالتها بالكلية، والتنفيس إنما فيه إرخاء وتهوين (ومن ستر مسلماً) من ذوي الهيئات ونحوهم ممن لم يعرف بأذى أو فساد بأن علم منه معصية فيما مضى
فلم يخبر بها حاكماً وهذا للندب، إذ لو لم يستره. ورفعه لحاكم لم يأثم إجماعاً، بل ارتكب خلاف الأولى أو مكروهاً، أما كشفها لغير الحاكم كالتحدث بها فذلك غيبة شديدة الإثم والوزر، ويندب لمن جاءه تائب وأقرّ بجد ولم يفسره أن لا يستفسره بل يأمره بستر نفسه كما أمر ما عزا، وكذا تندب الشفاعة فيمن ظهرت منه جريمة من ذوي الهيئات حتى لا يوصل إليه، ففي الحديث «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» رواه أبو داود والنسائي، ومنه أخذ أصحابنا أن لا تعزيز لذوي الهيئة على هفوة أو زلة صدرت منه أو المراد بستر المسلم ستر المسلم ستر عورته الحسية والمعنوية بإعانته على ستر دينه، كأن يكون محتاجاً لنكاح فيتوصل له في التزوّج أو الكسب فيتوصل له إلى بضاعة يتجر فيها أو نحو ذلك (ستره الله يوم القيامة) بالمعنيين بأن لا يعاقبه على ما فرط منه لأنه تعالى حييّ كريم، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلق بخلقالله، وا يحبّ المتخلق بأخلاقه، وخرج بنحو ذوي الهيئات من عرف بالأذى والفساد فيندب، بل قد يجب أن لا يستر عليه بل أن يظهر حاله للناس حتى يتوقوه أو يرفعه لوليّ الأمر حتى قيم عليه

(3/19)


واجبه من حدّ أو تعزير ما لم يخش مفسدة، لأن الستر عليه يطعمه في مزيد الأذى والفساد، وبقولنا فيما مضى ما لو رآه متلبساً بالمعصية فيلزمه المبادرة بمنعه منها بنفسه إن قدر وإلا فيرفعه للحاكم كما مرّ ما لم يترتب عليه مفسدة، والكلام في غير نحو الرواة والشهود والأمناء على نحو صدقة أو وقف أو يتيم فيجب بالإجماع جرحهم على من يعلم قادحاً فيهم/ وليس هذا من الغيبة المحرّمة بل من النصيحة الواجبة (متفق عليه) .

وسبب فضل ما ذكر في الخبر أن الخلق عيالالله، وتنفيس الكرب وستر العورة إحسان إليهم، والعادة أن السيد المالك يحبّ الإحسان لعياله وحاشيته، وفي الأثر «الخلق عيالالله، وأحبهم إلى الله أرفقهم لعياله» .
23413 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المسلم أخو المسلم) كالتعليل للحكم المذكور بعده، لأن الأخوة مقتضية للشفقة داعية للمعروف والمنفعة (لا يخونه) من الخيانة ضد الأمانة، أو يخونه ينقصه حقه الذي له عليه من التعاون والتعاضد (ولا يكذبه) يجوز أن يكون بفتح الياء: أي يخبره خبراً كاذباً ومنه قوله تعالى: {كذبوا الله ورسوله} (التوبة: 90) ويجوز أن يقرأ ويجوز أن يقرأ بضم أوله وسكون ثانيه وتخفيف ثالثه: أي لا يلقيه للمخبر بفتح الباء كاذباً أو بتشديد الثالث: أي لا ينسبه إلى الكذب، ثم رأيت عن المصنف ضبطه بضم أوله وإسكان ثانيه، وفسره بأن لا يخبره بأمر على خلاف الواقع لغير مصلحة (ولا يخذله) بضم الذال المعجمة أي: لا يترك نصرته المشروعة سيما مع الاحتياج والاضطرار، قال الله تعالى: {وتعانوا على البرِّ والتقوى} (المائدة: 2) وقال تعالى: {واستنصروكم في الدين فعليكم النصر} (الأنفال: 72) فالخذلان محرم شديد التحريم، ودنيوياً كان كأن يقدر على نصرة مظلوم ودفع ظالمه عنه فلا يدفعه، أو دينياً كأن يقدر على نصحه عن نحو غيبة فيترك. وقد روى أبو داود «ما من مسلم يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله

(3/20)


الله في الدنيا والآخرة» (كل) مبتدأ (المسلم) فيه ردّ على من زعم منع إضافة كل للمعرفة (على المسلم حرام) خبر ويبدل من كل (عرضه) أي حسبه ومفاخرة ومفاخر آبائه بأن تنتهك بالسبّ والغيبة والبهت، ويمنع من حمل العرض هنا على النفس وإن كان يطلق عليها لغة أنه لو حمل عليها لكان تكراراً مع قوله: «ودمه» إذ هو عبارة عن النفس (وماله) بأن يغصب أو يخان فيه (ودمه) أي نفسه بأن يتعرض لها بقتل أو أطرافها وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وجعلها كل المسلم وحقيقته لشدة اضطراره إليها، أما الدم فلأن به حياته ومادته المال فهومادة الحياة، والعرض به قيام صورته المعنوية،
واقتصر عليها لأن ما سواها فرع عليها وراجع إليها، لأنها إذا قامت الصورة الحسية والمعنوية فلا حاجة إلى غير ذلك وقيامها بتلك الثلاثة لا غير، ولكن حرمتها هي الأصل لم يحتج إلى تقييدها بما إذا لم يعرض ما يبيحها شرعاً كالقتل قوداً وأخذ مال المرتد فيئاً وتوبيخ المسلم تعزيراً ونحو ذلك (التقوى ههنا) أي في القلب (بحسب) بإسكان السين والباء فيه مزيدة وهو مبتدأ: أي كافي (امرىء) أي شخص (من الشر) في أخلاقه ومعاشه ومعاده (أن يحقر أخاه المسلم) لأن الله إذا لم يحتقره إذ أحسن تقويم خلقه وسخر له ما في السموات والأرض كله لأجله ومشاركة غيره له فيه بطريق التبع وسماه مسلماً أو مؤمناً وعبداً، وجعل الأنبياء الذين هم أفضل المخلوقين من جنسه كان احتقاره احتقاراً لما عظمه الله وشرّفه، وهو من أعظم الذنوب والجرائم، قال: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر» وقد فسره في الحديث بقوله: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» أي احتقارهم ومنه أن لا يبدأه بالسلام احتقاراً له ولا يرده عليه (رواه الترمذي) ومعناه عند مسلم في الحديث الآتي عقبه. قال السخاوي فيتخريج الأربعين للمصنف: رواه الترمذي بجملته وذكر فيه بعد وعرضه «التقوى ههنا، ويشير بيده إلى صدره ثم قال: بحسب» ورواه أبو داود مقتصراً على «كل المسلم» إلخ دون قوله: «وأشار بيده إلى صدره» (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) وزاد السخاوي عنه: حسن صحيح. وقال المصنف في «الأذكار» : وما أعظم نفعه وأكثر فوائده اهـ.

(3/21)


23514 - (وعنه) أي عن أبي هريرة (قال: قال رسول الله: لا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضاً، وأصله تتحاسدوا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً، وهل هي تاء المضارعة أو فاء الكلمة؟ فيه خلاف. وقد أجمع الناس من المتشرعين وغيرهم على حرمة الحسد وقبحه، ونصوص الشرع الواردة بذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وهو لغة وشرعاً: تمني زوال نعمة المحسود، ويخالف الغبطة، فإنما هي تمني مثل تلك النعمة مع بقائها لصاحبها. ووجه ذم الحسد وقبحه أنه اعتراض على الله تعالى له حيث أنعم على غيره مع محاولته نقض فعله وإزالة فضله. ومما يوضح ظلمه أنه يلزمه أن يحبّ لمحسوده ما يحب لنفسه وهو لا يحبّ لها زوال نعمتها، فقد أسقط حق محسوده مع ما فيه من تعب النفس وحزنها من غير فائدة بطريق محرم فهو تصرف رديء. والحسد أقسام: فمنهم من يسعى بلسانه ويده في نقل نعمة المحسود لنفسه أو لغيره وهو أخبث أنواعه، ومنهم من لا يسعى في ذلك، فهذا غير آثم كما قال الحسن البصري بل ورد مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وظاهر أن محله إن عجز عن إزالة الحسد من نفسه بأن جاهدها في تركه ما استطاع، بخلاف من يحدث نفسه به اختياراً مع تمني إزالة نعمة المحسود فهذا لا شك في تأثيمه بل تفسيقه. ومنهم من يسعى في حصول مثل المحسود عليه فهذا حسن إن كان في الأمور الدينية، فقد تمنى الشهادة في سبيل الله، ولا حسن فيه في الامور الدينية كذا لخص من الفتح المبين (ولا تناجشوا) أي لا ينجش بعضكم على بعض بأن يزيد في السلعة لا لرغبة فيها بل ليخدع غيره وهو حرام إجماعاً على العالم بالنهي سواء كان بمواطأة البائع أم لا، لأنه غش وخداع وهما محرّمان، لأنه ترك للنصح الواجب، ويصح تفسير النجش هنا بما هو أعم من ذلك، لأن النجش لغة، إثارة الشيء بالمكر والحيلة والخداع فالمعنى: لا تتخادعوا ولا يعامل بعضكم بعضاً بالمكر والاحتيال وإيصال الأذى إليه، قال تعالى: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} (فاطر: 43) فيدخل
فيه على هذا جميع أنواع المعاملات بالغش ونحوه كتدليس عيب وكتمه وخلط جيد برديء، ويجوز المكر بمن يحل أذاه وهو الحربي ومن ثم قال: «الحرب خدعة» (ولا تباغضوا) أي لا يبغض بعضكم بعضاً: أي لا تتعاطوا أسباب البغض لأنه قهري كالحبّ لا قدرة للإنسان على اكتسابه ولا يملك التصرف فيه، وهو النفرة عن الشيء لمعنى فيه مستقبح وترادفه الكراهة،

(3/22)


ثم هو بين اثنين، إما من جانبيهما أو من جانب أحدهما، وعلى كل فهو لغير الله تعالى حرام وهو محمل الحديث، وله واجب ومندوب، قال: «من أحبّ وأبغض وأعطى فقد استكمل الإيمان» وبغض إنسان تعالى لمن خالفه المتجه أن مخالفة الغير له إن علم أنها نشأت عن اجتهاد لكونه من أهله لا يجوز له بغضه حينئذٍ لأنه ليس / إذ الذي له ما يكون لأجل المعصية، ولا معصية هنا لأن المجتهد مأجور وإن أخطأ، وإن علم أنها نشأت عن تعصب وهوى نفس أو تقصير في البحث جاز. ولشرف الألفة أمتنّ بها تعالى على عباده فقال:
{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} (آل عمران: 103) ولذا كانت حرمة النميمة أشد لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء وجاز الكذب للإصلاح (ولا تدابروا) أي لا يدبر بعضكم عن بعض: أي يعرض عما يجب له من حقوق الإسلام كالإعانة والنصر وعدم الهجران في الكلام أكثر من ثلاثة أيام إلا لعذر شرعي كرجاء صلاح أحدهما، ووجه مغايرته لما قبله أن الشخص قديبغض ويوفي الحق، وقد يعرض لنحو تهمة أو تأديب وهو محبّ (ولا يبع) نهى تحريم عندنا (بعضكم) معشر المكلفين من المسلمين والذميين، والتقييد بالمسلم في الأخبار لا مفهوم له (على بيع بعض) فلا يجوز لأحد بغير إذن البائع أن يقول لمشتري سلعة في زمن الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أجود منه بثمنه، وذلك لما فيه من الإيذاء الموجب للتنافر والبغض، ومن ثم ورد «ذلك بأنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» ومثله الشراء بغير إذن المشتري، بأن يقول آخر لبائع زمن الخيار: افسخ البيع لأشتريه منك بأغلى أما بعد انقضاء الخيار فلا تحريم، إذ لا مقتضى له، وكونه يؤدي إلى الإلحاح عليه حتى يقبله فيؤدي إلى ضرر مردود بأنه متمكن من عدم الرد، فإن اختاره كان هو المضرّ بنفسه، والإلحاح إنما يقتضي تحريم ذاته لأنه إضرار بالملحوح عليه (وكونوا عباد ا) أي يا عباد الله (إخواناً) أاكتسبوا ما تصيرون به إخواناً مما سبق ذكره وغيره مما يدعو إلى الألفة ويمنع من النفرة: أي تعاونوا وتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلب والنصيحة بكل حال، وهذا كالتعليل لما قبله كأنه قيل إذا تركتم التحاسد وما بعده كنتم إخواناً كالإخوان فيما مرّ،

(3/23)


ووجه طاعة الله في كونهم إخواناً التعاضد على إقامة وإظهار شعاره إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتم ذلك كما قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم}
(الأنفال: 62، 63) الآية. (المسلم أخو المسلم) أي لأنهما لجمع دين واحد لهما أشبها الأخوين المجتمعين في ولادة من صلب أو رحم أو منهما، بل الأخوة الدينية أعظم من الأخوة الحقيقية لأن ثمرة هذه دنيوية وثمرة تلك أخروية (لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره) بفتح أوله وبالمهملة والقاف المكسورة: أي لا يستصغر شأنه ويضع من قدره، لأن الله تعالى لما خلقه لم يحقره بل رفعه وخاطبه وكلفه، فاحتقاره تجاوز لحد الربوبية في الكبرياء وهو ذنب عظيم، ومن ثم ورد كما تقدم «بحسب امرىء من الشرّ» إلخ فالاحتقار ناشىء عن الكبر فهو بذلك يحتقر الغير ويراه بعين النقص ولا يراه أهلاً لأن يقوم بحقه. وروي بضم أوله وبالخاء المعجمة والفاء: أي لا يغدر عهده ولا ينقض أمانه. قال القاضي عياض: والمعروف الصواب هو الأول الموجود في كتاب مسلم، ويؤيده رواية «ولا يحتقره» ومعنى هذه الجملة أن من حق الإسلام وأخوته أن لا يظلم المسلم أخاه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، وللإسلام حقوق ذكرت في غير هذا الحديث وجمعت في حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» وتخصيص ذلك بالمسلم لمزيد حرمته لا لاختصاص به من كل وجه/ لأن الذمي يشاركه في حرمة ظلمه وخذلانه بنحو ترك دفع عدوّه والكذب عليه واحتقاره: أي من غير حيثية الكفر القائم به أما من تلك الحيثية فجائز، قال تعالى:
{ومن يهن الله فما له من مكرم} (الحج: 18) (التقوى) وهي اجتناب عذاب الله بفعل المأمور وترك المحظور (وههنا ويشير) بيده (إلى صدره ثلاث مرات) أي محل مادتها من الخوف الحاصل عليها القلب الذي هو عند الصدر. قال: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» أي إن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى، إنما تحصل بما يقع في القلب من عظيم خشية الله ومراقبته، فمن ثم كان نظر الله بمعنى مجازاته ومحاسبته على ما في القلب من خير وشرّ دون الصور الظاهرة، إذ الاعتبار في ذلك كله بالقلب.
وفي الحديث دليل على أن العقل في القلب دون الرأس، وفيه خلاف،

(3/24)


الراجح منه هذا، ووجه مناسبة هذا لما قبله الإعلام بأن كرم الخلق إنما هو التقوى، فربّ حقير عند الناس أعظم قدراً عند الله من كثير من عظماء الدنيا (بحسب امرىء من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) تقدم الكلام عليه في الحديث قبله. وقدم هنا الدم أي النفس لأنها الأصل والمال لتعلق النفس به أتمّ لكونه قوامها فلم يظهر وجه تأخير العرض حينئذٍ، وحكمة تقديمه عليهما ثمة أن الابتلاء بالوقوع فيه أكثر منه فيهما، فابتدىء به اهتماماً به زيادة في التحذير منه والبعد عنه (رواه مسلم) .
قال الحافظ السخاوي في تخريج الأربعين التي جمعها المؤلف: هذا حديث صحيح رواه أحمد ومسلم في «صحيحه» ، وعنده في بعض طرقه من الزيادة «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره» وأخرج ابن ماجه بعضه وأبو عوانة أيضاً وأبو نعيم بتمامه في «المستخرج» اهـ.
(النجش) بسكون الجيم لغة، إثارة الشيء بالمكر والخديعة، وشرعاً (أن يزيد في ثمن سلعة ينادى عليها في السوق ونحوه) من مواطن البيع (ولا رغبة له في شرائها بل يقصد أن يغرّ غيره) أما إذا كان المال لنحو يتيم ورآه يباع بأقل من ثمن المثل وقصد وصوله لثمن مثله الواجب فيه لا إضرار الغير، فلا (وهذا حرام) مع العلم. (والتدابر أن يعرض) أي الإنسان (عن الإنسان) احتقاراً له (ويهجره) فوق ثلاثة أيام (ويجعله كالشيء الذي وراء الظهر والدبر) في الاحتقار به وعدم الاهتمام بشأنه.
23615 - (وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: لا يؤمن أحدكم) أي إيماناً كاملاً (حتى يحبّ لأخيه) أي المسلم فيجب على كل مسلم من حيث إنه مسلم أن لا يخص

(3/25)


أحداً منهم دون الآخر لأن إضافة المفرد تفيد العموم (ما يحبّ لنفسه) من الطاعات والمباحات أي ويبغض له مثل ما يبغضه لنفسه وسكت عنه مع كونه من كمال الإيمان اكتفاء بذكر ضده. قال العلماء في هذا الحديث من الفقه: أن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فينبغي أن يحبّ لها ما يحبّ لنفسه من حيث إنها نفس واحدة كما في الحديث «المسلمون كالجسد الواحد» الحديث.
وقال ابن العماد: الأولى أن يحمل على عموم الأخوة حتى يشمل الكافر فيحبّ لأخيه الكافر ما يحبُّ لنفسه من دخوله في الإسلام كما يحبّ للمسلم دوامه، ومن ثم كان الدعاء بالهداية مستحباً، وحتى هنا جارة لأن ما قبلها غير ما بعدها فإنه غاية لنفي الكمال. ثم ظاهر الخبر أن هذه المحبة كافية في كماله وإن لم يأت ببقية أركانه/ وليس مراداً بل إنما ورد تحريضاً على التواضع ومحاسن الأخلاق وترغيباً في محبة المسلمين بعضهم بعضاً وائتلافهم، ولا يخفى أن ذلك يؤدي إلى التعاضد والتناصر، وبه ينتظم شمل الإيمان وتتأيد شرائعه، كما علم مما مر في الحديث قبله، أو ورد مبالغة حتى كأن تلك المحبة ركنه الأعظم «كالحج عرفة» إذ هي مستلزمة لبقية أركانه ثم المكلف به مقدمات المحبة مما تقدم لا المحبة نفسها، لأنها ميل طبيعي لا يطاق تحت نطاق الاختيار والتكليف به تكليف بمحال، فالمراد إيثار ما يؤدي للمحبة مما يقتضي العقل اختياره وإن كان خلاف هوى الإنسان كالدواء فإنه يكرهه المريض طبعاً ويميل إليه اختياراً بحكم عقله لعلمه بأن صلاحه فيه، والمراد محبة الرحمة والإشفاق (متفق عليه) .
قال السخاوي في التخريج المذكور بعد تخريجه باللفظ المذكور: وشك غندر فقال لأخيه أو لجاره. قلت وكذلك هو عند مسلم بالشك فيهما، قال السخاوي ولفظ المعلم وهمام: «لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير» زاد المعلم أوله «والذي نفسي بيده» ما لفظه: هذا حديث صحيح. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده والدارمي وعبد في مسنديهما وابن ماجه في «سننه» وأبو عوانة في «مستخرجه» ، وابن حبان في «صحيحه» وعند الترمذي حديث صحيح، وكذا اتفق عليه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد القطان عن حسين المعلم لكن بدون قوله: «من الخير» وهي صحيحة لأنها خارجة من مخرج

(3/26)


الصحيحين بل هي على شرطهما وأخرجها ابن منده في كتاب الإيمان من حديث روح بن عبادة عن العلم ووافق المعلم عليها همام اهـ. وقد سبق الحديث مشروحاً آخر باب النصيحة.
23716 - (وعنه) أي: أنس (قال: قال رسول الله: انصر أخاك) ولا تخذله (ظالماً) كان لأنه مظلوم حقيقة كما سيأتي (أو مظلوماً) بأن تعدى عليه إنسان في نفسه أو ماله أو عرضه (فقال رجل أنصره إذا كان مظلوماً) أي بدفع الظلم أو منعه منه (أرأيت) أخبرني (إن كان) أي أخي (ظالماً) بالتعدي على الغير فيما ذكر (كيف أنصره؟ قال: تحجزه) بضم الجيم أي تجعل نفسك حاجزاً له (أو) شك من الراوي (تمنعه من الظلم فإن ذلك) أي المنع من الظلم (نصره) قال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة وتفسيره نصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يؤول إليه وهو من وجيز البلاغة. قال البيهقي: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حساً ومعنى، فلو رأى إنساناً يريد أن يجب نفس لظنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه للزنا مثلاً منعه من ذلك وكان ذلك نصراً له واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم.
(لطيفة) ذكر المفضل الضبي في كتابه «المفاخر» أن أول من قال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتاده من حمية الجاهلية لا ما فسر في الحديث وأنشدوا:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم
على القوم لم أنصر أخي حين يُظلم
(رواه البخاري) قال في «الجامع الصغير» وأحمد والترمذي كلهم عن أبي هريرة، ورواه الدارميّ وابن عساكر عن جابر مرفوعاً بلفظ: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، إن يك ظالماً فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوماً فاردد عنه ظلمه» اهـ.

(3/27)


23817 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حق المسلم) قال الحافظ ابن حجر معنى الحق هنا الوجوب خلافاً لقول ابن بطال: المراد حق الحرمة والصحبة والظاهر أن المراد به هنا الأمر المطلوب على وجه التأكيد، ويؤيده قول الشيخ زكريا يعم وجوب العين والكفاية والندب أي فيفسر بالأمر المطلوب للمسلم (على المسلم خمس) لا ينافي ما في رواية بعده أنه ست إما لأن العدد لا مفهوم له وإما لأن محل العمل بمفهومه ما لم يعلم خلافه فإن الحقوق المتأكدة كثيرة واقتصر على ما ذكر إما لأنها المشروعة إذ ذاك وما عداها شرع بعد وإما لأنها الأنسب بحال السامعين بتساهلهم فيها أو شدة احتياجهم إليها (رد السلام) وهوواجب عيناً إذا كان المسلم عليه واحداً وكفاية إذا كانوا جمعاً قال الحليمي: وإنما وجب رد السلام لأن معناه الأمان فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه يتوهم منه الشر فيجب عليه دفع ذلك الوهم. قلت: ولذا لم يسقط الفرض برد مميز عن المكلفين بخلاف فرض صلاة الجنازة فيسقط به عنهم لأن القصد منه الدعاء والمميز من أهله، والقصد هنا التأمين وليس من أهله (وعيادة المريض) واختلف فيها هل هي فرض كفاية أو سنة: فقال الجمهور هي في الأصل مندوبة وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض.
وعن الطبري تتأكد فيمن ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك وفي المشرك خلاف. قال الماوردي هي مباحة وقد يقترن بها ما يصيرها قربة كرجاء إسلامه، وقد نقل المصنف الإجماع على عدم وجوب العيادة أي عيناً وعموم المريض يقتضي عيادة كل مرض ولو أُريد، وحديث: «ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدمل والضرس» صحح البيهقي وقفه على يحيى ابن كثير. وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: «عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع كان بعيني» أخرجه أبو داود والحاكم وصححه وهو عند البخاري في «الأدب المفرد» . ويؤخذ من إطلاق الحديث أنها لا تتقيد بزمن يمضي من ابتداء المرض وهو قول الجمهور وجزم الغزالي في الإحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، ولا بيوم معين وما اعتاده بعض الناس في باب عيادة المريض (واتباع الجنائز) أي تشييعها من محلها أو محل الصلاة فهو سنة متأكدة (وإجابة الدعوة) وهي واجبة في وليمة العرس بشروطها المقررة في الفقه وفي سائر الولائم وهي سنة متأكدة (وتشميت) بالمهملة وبالمعجمة (العاطس) أي الدعاء

(3/28)


له بالخير والبركة من السمت أو الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بحسن السمت والهدى أو بالثبات على الطاعة. وقيل معناه: أبعدك الله عن الشماتة، وهو بعد حمد العاطس سنة متأكدة عيناً إن لم يكن غيره وإلا فكفاية بأن يقول له: رحمك الله (متفق عليه) .
(وفي رواية لمسلم) عن أبي هريرة أيضاً (حق المسلم على المسلم ست) أي ستّ خصال، وفي «المشكاة» : قيل: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: (إذا لقيته فسلم عليه) فهي وما بعدها من الجمل المتعاطفة على هذا التقدير مقول القول، وعلى عدمه فيحتمل أن يكون كذلك من باب حذف القول وإبقاء المقول وهو كثير في كلام العرب، حتى قال أبو علي الفارسي: هو من حديث: «عن البحر حدث ولا حرج» ويحتمل أن يكون بدلاً من ستّ أو خبراً لمبتدأ محذوف: أي هي (إذا لقيته فسلم عليه) : أي ابدأه به ندباً عينياً إن كنت وحدك وإلا فعلى الكفاية (وإذا دعاك فأجبه) وجوباً عينياً إذا دعاك إلى وليمة عرس وإلا فعلى الكفاية ولا بد من إطاقة التخليص في الحالين وندباً إذا دعاك إلى غير وليمة عرس ونحوها (وإذا استنصحك) أي طلب منك النصح وهو تحري ما به الصلاح من قول أو فعل (فانصح له) وجوباً عليك بأن تذكر له ما به صلاحه وطلبه ليس شرطاً لوجوب بذله أو ندبه لأنه يجب تارة ويندب أخرى لمن طلب ومن لم يطلب فذكره/ إنما هو لإفادة أن تأكده بعد الطلب أكثر (وإذا عطس) بفتح الطاء (فحمد الله فشمته) بخلاف ما إذا لم يحمد فإنه لا يستحق التشميت لتقصيره بترك الحمد على نعمة العطاس التي وصلت إليه «إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب» ولأن العطاس حيث لا عارض من زكام ونحوه إنما ينشأ عن خفة البدن وخلوه عن الأخلاط المثقلة له عن الطاعة بخلاف التثاوب فإنه ينشأ عن ضد ذلك (وإذا مرض فعده) ندباً متأكداً في أي يوم كان (وإذا مات فاتبعه) ندباً كذلك من بيته إلى أن يفرغ من دفنه (رواه مسلم) ورواه البخاري في «الأدب المفرد» .
23918 - (وعن أبي عمارة) بضم العين المهملة وبعد الألف راء ويقال أبو عمرو، ويقال أبو

(3/29)


الطفيل (البراء) بتخفيف الموحدة والراء وبالمد، هذا هو الصحيح المشهور عند طوائف العلماء من أهل الحديث والتاريخ والأسماء واللغة والمؤتلف والمختلف وغيره وحكى فيه القصر (ابن عازب) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله عنهما) تقدمت ترجمته في باب التوكل (قال أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المرضى) ندباً في سائر الأوقات فلا تكره إلا إن شقت على المريض (واتباع الجنائز) أي تشييعها والمكث إلى الفراغ من دفنها (وتشميت العاطس) إذا حمد الله تعالى والأمر في هذه الثلاث للندب (وإبرار المقسم) بنحو أقسمت عليك با أو نحو وا لتفعلن كذا فيسن له حيث لا مانع تخليصاً له عن ورطة الاستهتار بحقه في الأول وحنثه في الثاني (ونصر المظلوم) ولو ذمياً يمنع الظالم عن ظلمه وجوباً على من قدر على ذلك بفعله أو قوله وهذا يرجع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا واجب عيناً تارة وكفاية أخرى كما سبق في بابه (وإجابة الداعي) وجوباً تارة وندباً أخرى وقد تقدم تفصيله (وإفشاء السلام) أي إشاعته وإذاعته بأن تقرىء السلام على من عرفت ومن لم تعرف وهذا أمر ندب عيناً إن كنت مفرداً أو كفاية إن كنت مع الغير. وفي رواية «ورد السلام» وعليها اقتصر في «المشكاة» وهو كما علم مما تقدم واجب عيناً تارة وكفاية أخرى (ونهانا) أي معشر الرجال وكذا الخناثا دون النساء (عن خواتيم) جمع خاتام أحد لغات خاتم (أو) شك من الراوي (تختم بالذهب) فيحرم على غيرهن تحريماً غليظاً لبسه كاستعمال سائر أنواع حلي الذهب إلا نحو أنف وسن وأنملة، ويحرم عليهن استعمال غير الحلى منه كالأواني وكذا الحلي إن خرج عن غير الاعتدال إلى السرف كخلخال وزنه مائتا مثقال (وعن شرب بآنية الفضة) والذهب أولى مع أنه صرح به في حديث آخر ومثل الشرب سائر الاستعمال وذكره كالأكل في
حديث آخر مثال فيحرم استعمال واتخاذ إناء النقدين إلا لحاجة كأن لم يجب غير إنائهما فيجوز استعماله وكذا لووصف له التكحل بمرود من الذهب لداء بعينه (وعن) استعمال (المياثر الحمر) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً والتقييد بذلك باعتبار أنه الأغلب في مراكب الأعاجم رعونة وتزييناً فهي من حرير أي نوع كان وبأي

(3/30)


لون أو مما أكثره حرير وزناً حرام ولو غير حمراء والحمراء غير الحرير مكروه (وعن) استعمال (القسي وعن لبس الحرير والإستبرق) وما غلظ من الديباج وهوعجمي معرب وعطفهما على الحرير من عطف الخاص على العام لأنهما من الحرير (متفق عليه) .
(وفي رواية) لمسلم (وإنشاد الضالة زادها) أي: الراوي (في السبع الأول) بضم ففتح يعني المأمور بها قال المصنف في «شرح مسلم» بدل إبرار المقسم أو للقسم: وإنشاد الضالة تعريفها وهو مأمور به المياثر (بياء مثناة من تحت قبل الألف وثاء مثلثة) مكسورة (بعدها) أي بعد الألف (وهي جمع ميثرة) وأصلها مؤثرة وقلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة نحو ميزان وميعاد (وهي شيء يتخذ من حريرويحشى قطناً أو غيره) تعميم للمحشو به ويلحق به في الحكم ما كان متخذاً من حرير وغيره والحرير أكثر وزناً (ويجعل في السرج) ما يجعله على الفرس (وكور البعير) بضم الكاف أي رحله وجمعه أكوار ويجعل ذلك (ليجلس عليه الراكب) فتحصل له الراحة (والقسيّ بفتح القاف) على الصحيح المشهور قال المصنف وبعض أهل الحديث يكسرها قال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرونها وأهل مصر يفتحونها (وكسر السين المهملة المشددة) بعدها ياء النسبة (وهي ثياب تنسج من حرير وكتان مختلطين) هذا حكاه المصنف بلفظ قيل وقال قبله: قال أهل اللغة و «غريب الحديث» : هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف: وهو موضع من بلاد مصر. وهي قرية على ساحر البحر قريبة من تنيس، وقيل هي ثياب من القز وأصله القزي منسوب إلى القز وهو رديء الحرير فأبدل من الزاي سين قال المصنف وهذا القسي إن كان حريره أكثر من الكتان فالنهي عنه للتحريم وإلا فللكراهة التنزيهية (وإنشاد الضالة) في تلك الرواية (تعريفها) .

(3/31)


28 - باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة من خوف أن يتسلط على إيذاء الغير والتعرض لإضرارهم
(قال الله تعالى) : {إن الذين يحبون أن تشيع} ) أي تفشو، يقال شاع الشيء شيوعاً وشيعاً وشيعاناً وشيوعة: أي تفرق وظهر (الفاحشة) الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل الفاحشة في هذه الآية القول السيء ( {في الذين آمنوا} ) قال القرطبي في المحصنين والمحصنات والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان ( {لهم عذاب أليم} ) والآية في العصبة الذين جاءوا بالإفك، والمصنف أوردها لما يقتضيه عموم لفظها من حصول العذاب لمن أحب إشاعة الفاحشة في المؤمنين ( {في الدنيا} ) بالحد بالقذف (و) (الآخرة) بالنار لحقالله.
2401 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لا يستر عبد) أي إنسان ولو كان مكلفاً (عبداً) أي من ذوي الهيئات غيرمعروف بالشر والأذى على ذنب مضى منه كما سبق بسط ما يستر فيه ومالاً في الباب قبله (في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) إما بأن يمحو ذنبه ولا يسأله عنه ابتداء أو يسأله عنه من غير أن يطلع عليه أحداً من الخلق كما في حديث ابن عمر في ذلك في الصحيح ثم يعفو عنه، وكان الجزاء بالستر ليوافق الجزاء العمل الصالح والنعم الصادرة منه عز وجل أعلى وأتم، ولا شك أن الستر في ذلك اليوم أكثر عدداً وأعظم جرماً (رواه مسلم) .

(3/32)


2412 - (وعنه) أي أبي هريرة (رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل أمتي معافىً) اسم مفعول من المعافاة وهو من العفو مرفوع تقديراً خبر كل، يعني كلهم سالمون عن ألسن الناس وأيديهم (إلا المجاهرين) قال العلقمي قال شيخنا وللنسفي «إلا المجاهرون» بالرفع على البدل وهو رأي الكوفيين اهـ.» وقال ابن مالك في التوضيح لشواهد «الجامع الصحيح» حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب أن ينصب مفرداً كان أو مكملاً وروده مرفوعاً بالابتداء ثابت الخير ومحذوفه، فمن الثابت الخبر قول ابن أبي قتادة: أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، وإلا بمعنى لكن وأبو قتادة مبتدأ ولم يحرم خبره، ومن المبتدأ بعد إلا المحذوف الخبر قول النبي: «كل أمتي معافىً إلا المجاهرون» أي لكن المجاهرون لا يعافون، وللكوفيين في هذا الذي يغتفر مذهب آخر، وهو أن يجعلوا إلا حرف عطف وما بعدها معطوف على ما قبلها اهـ. قلت: وقد سبقه إلى استدراكها ابن هشام في «المغني» ، وزاد الجملة المسند إليها نحو: {وإذا قيل إن وعد الله حق} (الجاثية: 32) وأول الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» الرفع بأن معافىً في معنى النفي فيكون استثناء من كلام تام غير موجب. قال في «فتح الباري» : المجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فتحدث بها، والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بمعنى جهر والنكتة التعبير بفاعل المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة، والمراد الذين يجاهر بعضهم بعضاً بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث يؤيد الاحتمال الأول (وإن من المجاهرة) قال السيوطي: كذا للنسفي والكشميهني: أي في رواية البخاري وللأكثر من المجانة، وهو تصحيف، قاله عياض، ولمسلم من الإجهار ولأبي نعيم من الجهار، والثلاثة بمعنى الظهور والإظهار، وفي رواية لمسلم الهجار، وللإسماعيلي الإهجار وهمابمعنى الفحش والخنا وكثرة الكلام. قال عياض: هما أيضاً تصحيف (أن يعمل العبد) وفي
نسخة الرجل (بالليل عملاً ثم يصبح) بالنصب (وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان) بالبناء على الضم لأنه كناية عن معين وهو الذي يحدثه العاصي عن

(3/33)


معصيته (عملت البارحة) قال في «الفتح» : هو أقرب ليلة مضت من وقت القول وأصلها من برح: إذا زال (كذا وكذا) قال في «النهاية» : هي من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت ومعناه: مثل ذا، ويكنى بها أيضاً عن المجهول وما لا يراد التصريح به اهـ. وهذا قد تقدم نقله عن «النهاية» (وقد بات يستره ربه) جملة حالية من فاعل يقول: (ويصبح) معطوفاً على يصبح (يكشف ستر ا) الكائن (عليه) قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم وفي التستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذلّ فاعلها من إقامة الحد عليه إن كان فيها حد، ومن التعزير إن لم توجب حداً، وإذا تمحض حق الله وهو أكرم الأكرمين، فكذا إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة والذي يجاهر بها يفوته جميع ذلك، والحديث مصرّح بذمّ من جاهر بالمعصية، فيستلزم مدح من تستر، وستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه. فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها فقد أغضب ربه فلم يستره. ومن قصد التستر بها من الله عليه بستره إياها اهـ. ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) وأخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» عن أبي قتادة بلفظ «كل أمتي معافى إلا المجاهر، الذي يعمل العمل بالليل فيستره ربه ثم يصبح فيقرأ: يا فلان إني عملت البارحة كذاوكذا فيكشف ستر ا» كذا في «الجامع الصغير» .
2423 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبي: إذا زنت الأمة) أي الرقيقة (فتبين زناها) برؤيته لذلك أو إقرارها أو إقامة بينة الزنا (فليجلدها) بكسر لام الفعل (الحد) هو خمسون سوطاً والحد مفعول مطلق (ولا يثرب عليها) أي يوبخها ويقرعها بالذنب نحو يا زانية يا فاجرة لما فيه من الفحش (ثم) بعد الحد (إن زنت) مرة ثانية (فليجلدها الحد) وفي رواية بحذف الحد هنا (ولا يثرّب عليها) أي وإن تكرّر منها الذنب لاستيفاء مقتضاه بالحد (ثم) بعد الحد في الثانية (إن زنت) المرة الثالثة (فليبعها) ندباً عند الجمهور، وقال داود وجوباً (ولو بحبل من شعر) مسارعة لمفارقة أرباب المعاصي وترك

(3/34)


مخالطتهم، وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب. فإن قيل: كيف يكره شيئاً ويرتضيه لأخيه المسلم؟ فالجواب: لعلها تتعفف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها والتوسعة عليها أو يزوّجها أو غير ذلك، ذكره المصنف في «شرح مسلم» (متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أيضاً كما في «الأطراف» للمزي، وطرقه إلى سعيد المقري كثيرة جداً (التثريب) مصدر ثرب بالمثلثة (التوبيخ) أي والتقريع بالذنب كما تقدم.
2434 - (وعنه) أي عن أبي هريرة (رضي الله عنه قال: أتى) بالبناء للمجهول (النبي برجل قد شرب) أي مسكراً (قال: اضربوه) أي حداً (قال أبو هريرة: لنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه) ومنه كأحاديث أخر في معناه يؤخذ حصول حد الخمر بالجلد باليد وأطراف الثوب وقد نقل الصنف إجماع العلماء على ذلك وما في معناه في مفرداته خزي الرجل: أي بوزن علم، لحقه انكسار؟ إما من نفسه وإما من غيره. فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ومصدره الخزاية، والذي من غيره يقال هو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي وأخزى يقال منهما جميعاً. وقوله تعالى: {لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} (التحريم: 8) الأقرب كونه من الخزي وإن جاز كونه منهما جميعاً. قلت: ومثله ما في الحديث (قال: لا تقولوا هكذا) أي مثل هذا الدعاء (لا تعينوا عليه الشيطان) جملة استئنافية لبيان حكمة النهي عن ذلك القول: أي ادعوا له بالتوفيق والنجاة من الخذلان ولا تكونوا بدعائكم عليه أعواناً عليه للشيطان (رواه البخاري) .

(3/35)


29 - باب فضل قضاء حوائج المسلمين
(قال الله تعالى: {وما تفعلوا من} ) بياننبة (خير) والكلام في معنى الشرط ( {فإن الله به عليم} ) جوابه: أي إن تفعلوا خير فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه والآية تقدمت في باب المجاهدة وغيره.
2441 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) محرضاً على أسباب التآلف المطلوب من المؤمنين (المسلم أخو المسلم) لاجتماعهما في حياطة الإسلام كالأخوين المجتمعين في الأبوين أو في أحدهما (لا يظلمه) بنقص حقه (ولا يسلمه) بضم التحتية: أي: إلى من يظلمه ويهينه (ومن كان) أي وجد (في حاجة أخيه) أي في قضائها بالفعل أو التسبب، ويحتمل أن كان ناقصة: أي ومن كان كائناً في حاجة أخيه (كان الله في) قضاء (حاجته) والمفرد المضاف للعموم فيعم الأخروية والدنيوية. وذلك لأن من قضى حاجة أخيه طالباً لمرضاة الله إنما قام بذلك لحق الله فجازاه الله بقضاء حاجته سيما عند ضرورته (ومن فرج عن مسلم كربة) بانتظار عليه أو تشفع عند ذي الدين أو نحو ذلك (فرج الله عنه بها) أي عوضها (كربة) والتنوين فيه للتعظيم لأنها كرب الساعة التي تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت والتنكير في سياق الشرط للتعمم فيفيد أن من فرج الله عنه الكرب (من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً) لم يشتهر بالأذى والضرر على معصية رآها منه فيما مضى (ستره الله يوم القيامة. متفق عليه) والحديث تقدم بسط الكلام فيه وفي معظم ما في الحديث بعده في باب تعظيم حرمات المسلمين.

(3/36)


2452 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: من نفّس) أي أزال وفرج من تنفيس الخناق أي إرخاؤه حتى يأخذ له نفساً (عن مؤمن) أوثر لمزيد شرفه وحرمته فالثواب فيما يفعل معه من الإحسان آكد. وإلا فالذميّ كذلك هنا وفيما يأتي في أصل الثواب لخبر «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» وخبر «في كل كبد رطبة أجر» وسيأتي ويلي الذميّ المستأمن الحربي. فالثواب في كل، أضعف مما قبله لأنه تابع لمزيد الشرف والاحترام (كربة) هي ما أهمّ النفس وغم القلب لأن الكربة تقارب أن تزهق النفس كأنها لشدة غمها عطلت مجال التنفس منه وبه يعلم حكمة إيثار نفس على رديف أزال وفرج (من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) أي شدائدها. وفي رواية للطبراني «نفس الله كربه يوم القيامة» ففيه عظيم فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو جاه أو نصح أو دلالة على خير أو إعانة بنفسه أو سفارته أو وساطته أو شفاعته أو دعائه له يظهر الغيب وسبق في الباب المشار إليه حكمة هذا الثواب (ومن يسر على معسر) بإبراء أو هبة أو صدقة أو نظرة إلى ميسرة بنفسه أو وساطته. قال في «الفتح المبين» : ويصح شموله لإفتاء عامي في ضائقة وقع فيها بما يخلصه منها لأنه معسر بالنسبة للعالم (يسر الله عليه) أموره (في الدنيا والآخرة) فيه عظيم فضل التيسير على المعسر والأحاديث فيه كثيرة منها خبر مسلم «من سرّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه» وخبره أيضاً «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله» وخبر أحمد «من أراد أن تستجاب دعوته وتنكشف كربته فليفرج عن معسر» (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) تقدم بسط الكلام فيه في الباب المذكور (وا في عون العبد) أي إعانته وتسديده (ما كان العبد) أي مدة دوام كون العبد (في عون أخيه) أي إعانة أخيه بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيرها قيل وهذا إجمال لا يسع بيانه
الطروس فإنه مطلق في سائر الأحوال والأزمان، ومنه: إن العبد

(3/37)


إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي له أن لا يجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحق وتأمل دوام هذه الإعانة فإنه لم يقيدها بحالة خاصة بل أخبر أنها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه. وعن الحسن رضي الله عنه «أنه أمر ثابتاً البنانيّ بالمشي في حاجة فقال: أنا معتكف، فقال له: يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة» .
وروى الإمام أحمد: «أن خباب بن الأرتّ خرج في سرية فكان يحلب عنزاً لعياله فتمتلىء الجفنة حتى يفيض زيادة على حلابها فلما قدم وحلب عاد إلى ما كان» وكان أبو بكر يحلب للحيّ أغنامهم فلما استخلف قيل: الآن لا تحلبها قال: بلى وإن لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهم الماء في الليل، ورآه ظلحة داخلاً ليلاً بيت امرأة فدخل لها نهاراً، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فقال: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: منذ كذا وكذا يتعاهدني بما يقوم بي من البرّ وما يصلح لي شأني ويخرج عني الأذى ويقمّ لي بيتي، فقال طلحة لنفسه: ثكلتك أمك يا طلحة أعثرات عمر تتبع؟ (ومن سلك طريقاً) فعيلاً من الطرق لأن الأرجل ونحوها تطرقه وتطلبه وتسعى فيه، ويصح أن يراد بها ما يشمل المعنوية كحفظه ومذاكرته ومطالعته وتفهمه وكل ما يتوصل به إليه (يلتمس) يطلب (فيه) أي في غايته أو سببه واحتمال كونه فيه حقيقة نادر جداً لا يحمل عليه الحديث (علماً) شرعياً أو آلة قاصداً بذلك وجهالله. قيل وهذا وإن اشترط في كل عبادة لكن عادة العلماء تقييد هذه المسألة به لأن بعض الناس قد يتساهل فيه أو يغفل عنه اهـ. قال في «الفتح المبين» : وكأنه يريد أن تطرق الرياء للعلم أكثر من تطرقه لسائر العبادات، فاحتيج للتنبيه فيه على الإخلاص اعتناء بشأنه، والعلم الشرعي ما صدر عن الشرع أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود كعلم الكلام أو توقف كمال كعلم العربية (سهل الله له به) أي بسلوكه الطريق المذكورة (طريقاً إلى الجنة) أي يرشده إلى طلب الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة، وليس ذلك إلا بتسهيله تعالى، وإلا فبدون لطفه لا ينفع علم ولا غيره: أو بأنه يجازيه على طلبه وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بأن لا يرى من مشاقّ الموقف ما يراه غيره، وهذا أقرب لظاهر الحديث واستفيد منه مع ما قبله ومن قوله تعالى: {جزاء وفاقاً} أن الجزاء يكون من جنس
العمل

(3/38)


ثواباً وعذاباً التنفيس بالتنفيس والستر بالستر والعون بالعون، ونظير ذلك كثير في أحكام الدنيا والآخرة، وهذا يؤذن بعظيم فضل السعي في طلب العلم ويلزم منه عظم فضل الاشتغال به، وأدلته أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر (وما اجتمع قوم) هو اسم جنس جمع يصدق بثلاثة فأكثر يستوي فيه الذكور والإناث، كذا في «فتح الإله» ، وظاهره أنه مشترك بين الفريقين، لكن تقدم عن «مفردات الراغب» : القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء، قال تعالى:
{لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء} (الحجرات: 11) وفي عامة القرآن أريدوا به والنساء جميعاً وحقيقته للرجال اهـ. ومنه يتبين أن قوله يستوي فيه الذكور والإناث باعتبار أنه المراد لاستواء المكلف من كلا النوعين في غالب الأحكام، فيكون مجازاً من باب التغليب أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه (في بيت من بيوت الله تعالى) هوالمسجد (يتلون) أي يقرؤون (كتاب الله تعالى) أي القرآن لتبادره إلى الأذهان وإضافته إلى الله تعالى لأنه منزل من عنده معجزة لنبيه (ويتدارسونه بينهم) أي يقرأ هذا شيئاً ويقرأ الآخر عين ما قرأه صاحبه هذه المدارسة الفضلى التي وردت من فعله مع جبريل في حديث «كان جبريل يدارسه القرآن» ويحتمل أن المراد من المدارسة في هذا الحديث ما يشمل ما اعتيد من قراءة ما بعد ما يقرؤه القارىء وهكذا. والتخصيص بما ذكر لكمال الفضل وإلا فجاء في رواية أخرى غير مقيدة بذلك وإنما فيه ترتب ما ذكر في الخير على الاجتماع على الذكر مطلقاً ولا تقيد تلك المطلقة بهذه الرواية، لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص وفضل الله عام (إلا نزلت عليم السكينة) أي المذكورة في قوله تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} (الفتح: 4) وهي فعيلة من السكون للمبالغة والمراد بها هنا الحالة التي يطمئن بها القلب، فلا يزعج لطارق دنيوي لعلمه بإحاطة قدرة الله لسائر الكائنات فيسكن القلب ويطمئن بموعود الأجر لقوّة رجائه بحصوله لما وفقه للاشتغال به عما سواه. وقيل السكينة: اسم ملك ينزل في قلب المؤمن يأمر بالخير. وقيل السكينة: الرحمة والوقار والسكون والخشية وغير ذلك، والمراد السكون تحت جري المقادير لا ضد الحركة ولا يمنع من تفسيرها بالرحمة عطفها عليها في الجملة بعدها لأن المقام للإطناب واختار المصنف كون السكينة هنا بمعنى الطمأنينة وفي

(3/39)


الحرز للقاري: ويجوز أن يقرأ عليهم السكينة بكسر الهاء والميم وكسرهما وكسر الأول وضم الثاني وهو الأشهر. قلت:
والأشهرية يحتمل من حيث القراءة ومن حيث الرواية، والأول أقرب (وغشيتهم) عمتهم وأحاطت بهم من كل جهة (الرحمة) والمراد من الرحمة كما هو ظاهر غايتها من الإحسان والفضل والامتنان (وحفتهم) بتشديد الفاء (الملائكة) أي غشيتهم الملائكة وأل فيه للعهد: أي الملائكة الملتمسون للذكر كما في الحرز أو ملائكة الرحمة والبركة إلى السماء الدنيا كما في رواية الصحيحين.

وفي رواية لأحمد: «بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش حتى يسمعوا الذكر» تعظيماً للمذكور وإعظاماً للذاكر على غاية من القرب والمواصلة بحيث لا يدعون للشيطان فرجة يتوصل منها للذاكر. وحف بتشديد الفاء من باب طلب فتعدى إلى الثاني بحرف الجر. قال تعالى: {وحففناهما بنخل} (الكهف: 32) وقد يضمن معنى أحاط فيصل إلى مفعوله الأول بالباء نحو ما جاء في حديث: «إن ملائكة سيارات» من قولهم: «حفوا بهم» وهذا أحسن مما أطلت به في أول «شرح الأذكار» (وذكرهم الله فيمن عنده) عندية مكانة وعلو رتبة لا علوّ مكان تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً وهم الملائكة والأنبياء وذكره للذاكر ثم مباهاة به ورضى بفعله (ومن بطأ) بتشديد الطاء المهملة: نقيض السرعة: أي من قصر (به عمله) أي فقصر عن رتبة الكمال لفقد بعض شروط الصحة أو الكمال فيه (لم يسرع به نسبه) أي يلحقه برتب أصحاب الأعمال الكاملة لأن المسارعة إلى السعادة إنما هي بالأعمال لا بالأحساب قال الشاعر:
وما الفخر بالعظم الرميم وإنما
فخار الذي يبغى الفخار بنفسه
وفي «الفتح المبين» في الحديث السادس والثلاثين: قال ابن مسعود «يأمر الله تعالى بالصراط فيضرب على جهنم فيمرّ الناس على قدر أعمالهم زمراً زمراً أوائلهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كمرّ الطير ثم يمر الرجل سعياً وحتى يمر الرجل مشياً وحتى يمر آخرهم على بطنه فيقول: يا ربّ لم بطَّأت بي؟ فيقول: إني لم أبطأ بك إنما بطأ بك عملك» وأورد أحاديث مرفوعة في ذلك (رواه مسلم) . قال المصنف في الأربعين: الحديث بهذا اللفظ قال

(3/40)


السخاوي في تخريجها: هذا حديث صحيح أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» ومسلم في الدعوات من صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننيهما وأبو عوانة في «مستخرجه» ومداره عندهم على أبي معاوية، وهو محمد ابن خازم بمعجمتين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وهي طرق كثيرة عن الأعمش في بعضها عنه قال: حدثت عن أبي صالح فأثبت بينهما واسطة، والأعمش مدلس، قال الترمذي: كأنه يعني بإثبات الواسطة أصح، وجعل ذلك عذراً له عن عدم تصحيحه بل اقتصر على تحسينه لشواهده. ويحتمل أن يكون توقف البخاري عن تخريجه لذلك، ولكن إنما صححه مسلم وكذا ابن حبان والحاكم من حديث الأعمش بلا واسطة لوقوعه في رواية مسلم وغيره بالتصريح الذي يؤمن معه من تدليسه كما بينت ذلك واضحاً فيما علقته من تكملة شرح الترمذي اهـ. كلام السخاوي، والحديث عظيم جليل جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب والفضائل والفوائد والأحكام، وفيه إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل، والنصوص في ذلك كثيرة منها حديث «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» .

30 - باب الشفاعة
قال الرازي: هي أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة، وأصلها من الشفع ضد الوتر كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار صاحب الشفع له شفعاً: أي صار زوجاً اهـ. وفي النهاية: هي السؤال في التجاوز عن الذنب والجرائم اهـ. وقيل: هي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه، وللغزالي في معنى الشفاعة وسببها كلام نفيس أودعته باب الأذان من شرح الأذكار فراجعه.
(قال الله تعالى) علوّ مكانة وعظمة لا علوّ مكان ( {من يشفع شفاعة حسنة} ) بأن يجلب بها لمسلم نفعاً أو دفع عنه سوءاً ابتغاء لوجه الله تعالى، ومن ذلك الدعاء للمؤمن بظهر الغيب، ومن ثم ورد عنه: «من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له. وقال الملك آمين ولك مثل ذلك» (يكن له نصيب منها) هو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير.

(3/41)


1461 - (وعن أبي موسى) عبد الله بن قيس (الأشعريّ رضي الله عنه قال: كان النبي) من مزيد عنايته بصحابته ودلالته على الخير لأمته (إذا أتاه طالب حاجة) دينية أو دنيوية (أقبل على جلسائه) جمع جليس كشريف وشرفاء (فقال: اشفعوا تؤجروا) أي إن تشفعوا تؤجروا: أي يحصل لكم الأجر بشفاعتكم سواء أقضيت الحاجة أم لا، فتؤجروا جواب الشرط المقدر، ففيه الحض على الخير بالفعل والتسبب إليه بكل وجه والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة الضعيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول للرئيس والتمكن منه ليوضح له مراده ليعرف حاله على وجهه، ويستثنى ما لا تجوز الشفاعة فيه وذلك الحدود التي (ويقضي الله على لسان نبيه ما أحبّ) أي ما أراد مما سبق في علمه الأزلي من وقوع الأمر وحصوله أو عدمه، فالمطلوب الشفاعة والثواب مرتب عليها سواء حصل المشفوع به بأن كان مقدراً في العلم الأزلي حصوله بها أم لا، بأن كان له فيه سبب آخر لم يحصل أو قام مانع من حصوله (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الزكاة وفي باب الأدب وباب التوحيد ومسلم في باب الأدب وفي باب السنة، ورواه أبو داود في الأدب أيضاً، ورواه الترمذي في العلم وقال: حسن صحيح، والنسائي في الزكاة، قال المزيّ: وكونه عند أبي داود في رواية أبي بكر بن داسة عن أبي داود، ولم يذكره أبو القاسم، ومدار الحديث عند من ذكر على أبي الأسود الدؤلي عن أبي موسى اهـ. ملخصاً.
(وفي رواية) للبخاري رواها هكذا في كتاب الأدب من «صحيحه» (ما شاء) أي وهو اعتبار خصوص كونه جارياً على لسان نبيه ما أحبّ، فالاختلاف بين الروايتين مبنى لا معنى، وإن كان بالنسبة إلى غيره المراد والمشيء أعمّ من المحبوب والمرضي، فجميع ما في الكون من الكفر والعصيان بمشيئة مولاه وإرادته وليس ذلك بمحبته ورضاه، قال تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7) .

(3/42)


2472 - (وعن) عبد الله (ابن عباس رضي الله عنهما) من جملة حديثه (في قصة بريرة) بفتح الموحدة وكسر الراء وإسكان التحتية مولاة عائشة أم المؤمنين وحديثها مشتمل على فوائد عديدة أفردت بالتأليف (وزوجها) مغيث وهو كما في «التوشيح» للسيوطي بضم الميم وكسر الغين المعجمة وسكون التحتية وبعدها مثلثة، ووقع عند العسكري بفتح المهملة وتشديد المثناة ثم الباء الموحدة اهـ. ومغيث عبد أسود، وما روي عن عائشة من أنه حرّ فمعارض أو محمول على ما بعد كما سيجيء في «الاستيعاب» . قال ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» : كان مولى لبعض بني مطيع. قلت: في البخاري عبداً لبني فلان، قال السيوطي: في الترمذي: عبداً لبني المغيرة: وفي المعرفة لابن منده مولى أبي أحمد ابن جحش اهـ. أعتقت تحته بريرة فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارت نفسها وكان مغيث حين عتقها واختيارها عبداً فيما يقول الحجازيون وقال الكوفيون كان يومئذٍ حراً والأول أصح اهـ (قال) أي ابن عباس (قال لها النبي لو راجعتيه) الرواية بإثبات الياء لإشباع الكسر قاله الهروي في «المرقاة» ويخالفه قول السيوطي في «التوضيح» بعد أن أورد لفظ رواية البخاري «لو راجعته» من غير ياء ثم قال: ولابن ماجه «لو راجعتيه» بزيادة الياء وهي لغة ضعيفة وزاد: «فإنه أبو ولدك» اهـ. ولو للتمني أو للشرط والجواب محذوف أي لكان أحسن أو لك فيه ثواب. وفيه معنى الأمر فلذا (قالت يا رسول الله تأمرني؟) بتقدير الهمزة قبله أي أتأمرني بمراجعته أي على سبيل الوجوب فيجب على (قال: إنما أشفع) أي آمرك استحباباً (قلت: لا حاجة) أي لا غرض ولا صلاح (لي فيه) أي في ارتجاعه وفيه إيماء إلى عذرها في عدم قبول شفاعته حيث قال: «وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً» وإنها فهمت من شفاعته في ذلك تخييرها وإطلاق الشفاعة على التخيير مجاز بجامع عدم إيجاب كليهما، وقد بسطت الكلام في ذلك في «شرح الأذكار» (رواه البخاري) وروى
الترمذي في النكاح نحوه وقال الترمذي حسن صحيح.

(3/43)