دليل الفالحين
لطرق رياض الصالحين 31 - باب الإصلاح بين الناس
إذا حصل بينهم خصام وشنآن لأن المؤمنين إخوان. والناس اسم
جنس جمعي: قيل مأخوذ من الأنس ضد الوحشة ففيه قلب وقيل من
نوس إذا تحرك، وعلى هذا فيدخل فيه الجن وتقدم بسطه مراراً
(قال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} ) أي الناس
أي ما يتناجون به ويتحدثون به ( {إلا} ) نجوى ( {من أمر
بصدقة أو معروف} ) عمل برّ ( {أو إصلاح بين الناس} )
فالاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعاً لكن نجوى من كان
كذلك خير. قال الواحدي في تفسيره «الوسيط» : هذا مما حث
عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأبي أيوب
الأنصاري: «ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم؟
قال: نعم يا رسولالله، قال: تصلح بين الناس إذا فسدوا
وتقرّب بينهم إذا تباعدوا» وروت أم حبيبة أن النبي قال:
«كلام ابن آدم عليه الإله، إلا ما كان من أمر بمعروف أو
نهي عن منكر أو ذكر تعالى» وروي أن رجلاً قال لسفيان: ما
أشد هذا الحديث قال سفيان: ألم تسمع الله يقول: {لا خير في
كثير من نجواهم} فهو هذا بعينه اهـ.
(وقال تعالى: {والصلح خير} ) من الفرقة والنشوز والإعراض:
أي لما فيه من الالتئام المطلوب من الزوجين.
(وقال تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} ) أي حقيقة ما بينكم
بالمودة وترك النزاع.
(وقال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ) أي في الدين (
{فأصلحوا بين أخويكم} ) إذا تنازعا وقرىء إخوانكم
بالفوقية.
(3/44)
2481 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله: كل) بالرفع مبتدأ خبره «عليه صدقة» (سلامى)
بضم السين وتخفيف اليم: هو العضو وجمعه سلاميات بفتح الميم
وتخفيف الياء اهـ. وفي النهاية: السلامى جمع سلامية وهي
الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل جمعه ومفرده واحد ويجمع
على سلاميات اهـ. وقول الأذكار يميل إلى غير آخر بقيل وفي
المشارق للقاضي عياض: أصل السلامى عظام الأصابع والأكارع.
وفي النهاية: هي التي بين مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل
كل عظم مجوّف من صغار العظام. المعنى: على كل عظم من عظام
ابن آدم صدقة، وقيل إن آخر ما يبقى فيه المخ من البعير إذا
عجف السلامي والعين اهـ. وظاهر أن المراد من السلامى هنا
ما هو أعم من العضو، وهو كما في «القاموس» : كل لحم وافر
بعظم وغيره، فقولي في «الأذكار» أو هو العضو إما باعتبار
معناه لغة على بعض الأقوال، وإما أنه تجوز به عن مطلق
الجزء. قال في «شرح مسلم» : أصله عظام الأصابع وسائر الكف،
ثم استعمل في سائر عظام البدن ومفاصله اهـ. قال العراقي في
«شرح التقريب» : وهو المراد في الحديث. قلت: وأيده المصنف
بخبر مسلم: «خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل» وقوله:
(من الناس) في محل الصفة لسلامى (عليه) أي على ذلك الجنس
ونظيره حديث: «خير نساء ركبن الإبل وأحناه على زوج نساء
قريش» قال السهيلي في «الروض» : الضمير فيه عائد على الجنس
أو الضمير عائد على السلامى، وذكره باعتبار أنه عضو أو
مفصل عليه (صدقة كل يوم) بالنصب على الظرفية الزمانية،
وأجاز الحافظ في «الفتح» رفعه مبتدأ أولاً، وتعدل مبتدأ
ثانياً وصدقة خبر الثاني والجملة خبر مبتدأ الأول والرابط
مقدر: أي كل يوم تطلع فيه الشمس العدل فيه صدقة (تطلع) بضم
اللام كما مر (فيه الشمس) جملة صفة يوم وهو صفة توضيحية
فيها بيان تجديد هذه الصدقات على الإنسان صبيحة كل يوم في
مقابلة ما أنعم الله تعالى به عليه في خلق تلك السلاميات
من باهر
النعم ودوامها التي هي نعمة أخرى؛ ومما يزيد العبد تيقظاً
لنعمة الدوام عليه أنه تعالى قادر على سلب نعمة الأعضاء عن
عبده كل آن، وهو في ذلك عادل في حكمه، فعفوه عن ذلك إدامة
نعمة العافية عليه صدقة توجب الشكر بدوامها فيتعين على
العبد الشكر لهذه النعم بالصدقة بما يأتي في الحديث وغيره
مقابلة لتلك النعم بقدر الطاقة مع ما ورد من أن الصدقة
تدفع البلاء فبوجودها عن أعضائه يرجى اندفاع البلاء عنها،
وظاهر قوله: «عليه صدقة كل يوم» وجوب الشكر بهذه الصدقة كل
يوم،
(3/45)
لكن في حديث «الصحيحين» : «فإن لم يفعل
فليمسك عن الشر فإنه له صدقة» وهو يدل على أنه يكفيه أن لا
يفعل شيئاً من الشرّ ويلزم من ذلك القيام بجميع الواجبات
وترك جميع المحرمات، وهذا هو الشكر الواجب، وهو كاف في شكر
هذه النعم وغيرها. أما الشكر المستحبّ فهو أن يزيد على ذلك
بنوافل الطاعات القاصرة كالأذكار والمتعدية كالإعانة
والعدل، وهذا هو المراد من هذا الحديث وأمثاله مع أن فيه
ذكر بعض الطاعات (يعدل) أي يصلح وهو بتقدير «أن» قبله في
تأويل مصدر مبتدأ خبره صدقة أو أوقع الفعل فيه موقع
المصدر: أي مع قطع النظر عن «أن» ، وهذا الإعراب جار في
قوله وتعين وما بعده كما سبق في باب بيان كثرة طرق الخير
أي عدله (بين الاثنين) المتهاجرين أو المتخاصمين أو
المتحاكمين بأن يحملهما لكونه حاكماً أو محكماً أو مصلحاً
بالعدل والإنصاف والإحسان بالقول أو الفعل على الصلح
الجائز، وأشار إلى أنه الذي لا يحلّ حراماً ولا يحرم
حلالاً (صدقة) عليها لوقايتهما مما يترتب على الخصام من
قبيح الأقوال والأفعال، ومن ثم عظم فضل الصلح كما أشير
إليه بقوله تعالى:
{أو إصلاح بين الناس} وقوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط}
(النساء: 135) أي العدل {شهداء ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فا أولى بهما} (النساء:
135) وجاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة بين المؤمنين
(ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها) نفسه أو غيره
بإمساكها لذلك (أو يضع) وأورده المصنف في «الأربعين» «أو
يرفع» (له عليها متاعه) وهو كل ما ينتفع به من عرض الدنيا
قليلاً كان أو كثيراً (والكلمة الطيبة) وهي كل ذكر أو دعاء
للنفس أو للغير، وسلام عليه وردّ وثناء بحق ونحو ذلك مما
فيه سرور واجتماع القلوب وتآلفها. وكذا سائر ما فيه معاملة
الناس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومنه قوله: «ولو أن
تلقى أخاك بوجه طلق» وقد سبق مع حديث أبي هريرة هذا في باب
بيان طرق الخير (صدقة وبكل خطوة) وهو بفتح الخاء المعجمة
للمرة الواحدة وضمها لما بين القدمين (يمشيها إلى الصلاة)
وكذا إلى سائر الطاعات كطلب العلم وصلة الأرحام وزيارة
الإخوان (صدقة وتميط) بضم أوله: أي تزيل (الأذى) هو ما
يؤذي المارّة من حجر أو شوك أو نحوهما (عن الطريق) مذكر
ومؤنث (صدقة) وأخرت هذه لأنها دون ما قبلها كما يشير إليه
خير
(3/46)
«الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن
لا إله إلاالله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (متفق
عليه) وتقدم زيادة عليها من مخرجيه في الباب المشار إليه.
(ومعنى يعدل بينهما) كنى عن الاثنين المذكورين في الخبر
بضميره (يصلح بينهما بالعدل) .
2492 - (وعن أم كلثوم) بضم الكاف وسكون اللام وبالمثلثة
آخره ميم (بنت عقبة) بضم المهملة وسكون القاف بعدها موحدة
فهاء (ابن أبي معيط) بضم الميم وفتح المهملة الأولى بعدها
تحتية ساكنة واسمه، أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية
بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت (رضي الله عنها) بمكة قبل أن
يأخذ النساء في الهجرة إلى المدينة ثم هاجرت وبايعت فهي من
المهاجرات المبايعات. قيل وهي أول من هاجر من النساء كانت
هجرتها في سنة سبع في الهدنة التي كانت بين رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين من قريش، وكانوا
صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يردّ
إليهم من جاء مؤمناً وفيها نزلت: {إذا جاءكم المؤمنات
مهاجرات} (الممتحنة: 10) الآية. وذلك أنها لما هاجرت لحقها
أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي
كان بينه وبين قريش في الحديبية فلم يفعل، وقال: نأبى ذلك.
قال عمر بن عبد العزيز: يقولون إنها مشت على قدمها من مكة
إلى المدينة، فلما قدمت المدينة تزوّجها زيد بن حارثة،
فقتل عنها يوم مؤتة فتزوّجها الزبير بن العوام، فولدت له
زينب، ثم طلقها فتزوّجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له
إبراهيم وحميداً ومحمداً وإسماعيل، ومات عنها فتزوّجها
عمرو بن العاص فمكثت عنده شهراً وماتت، وهي أخت عثمان بن
عفان لأمه. وروى عنها ابنها حميد بن عبد الرحمن وغيره، روي
لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أحاديث فيما
ذكر ابن حزم آخر سيرته وابن الجوزي في «مختصر التلقيح» إلا
أنهما قالا في ترجمة من روي له عشرة أحاديث: أم كلثوم ولم
ينسبوها، ثم رأيت ابن مالك قال في «شرح المشارق» : إنها
روى لها كذلك، ولها في «الصحيحين» هذا الحديث الواحد اهـ.
(قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ
(3/47)
يقول: ليس الكذاب) أي إثم الكذب من قبيل
ذكر الملزوم وإرادة اللام أو معناه: ليس بكثير
الكذب (الذي يصلح بين الناس) أي يكذب للإصلاح بين
المتباغضين لأن هذا الكذب يؤدي إلى الخير وهو قليل أيضاً
(فينمي خيراً) بفتح التحتية أي يبلغ خبراً فيه خير يقال
نمى الحديث: إذا بلغه على وجه الإصلاح، ونماه بالتشديد:
إذا بلغه على وجه الإفساد (أو) شك من الراوي أي شك هل قال:
«فينمي خيراً» أو قال (يقول خيراً متفق عليه) رواه البخاري
في كتاب الصلح ومسلم في الأدب، وكذا رواه فيه أبو داود
والترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح، والنسائي في السير.
(وفي رواية مسلم) لهذا الحديث أي في بعض طرقه زيادة على
الرواية المتفق عليها، فالرواية المذكورة آنفاً فيه أيضاً
من طريق معمر قال فيه إلى قوله: «وينمي خيراً» ولم يذكر ما
بعده، أي من الزيادة وتلك الزيادة هي قوله: (قالت) أي أم
كلثوم كذا في طريق عند مسلم وفي طريق أخرى عنده قال ابن
شهاب الزهري: «ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب
إلا في ثلاث» الحديث فجعل مسلم في تلك الطريق هذه الزيادة
من قول الزهري. وفي الطريق التي أشار إليها المصنف قول أم
كلثوم فقال: قالت (ولم أسمعه) أي النبيّ (يرخص) بتشديد
الخاء المعجمة وبعدها مهملة، من الترخيص، ضد الحظر (في شيء
مما يقول الناس) أي إنه كذب كما هو كذلك في قول الزهري،
وحذف قولها كذب هو كذا عند مسلم (إلا في ثلاث) أي من
الخصال (تعني) أي أم كلثوم بتلك الثلاث (الحرب) كأن يقول
لأعداء الدين: مات كبيركم أولنا جيش كبير يأتينا، أو نحو
ذلك مما فيه مصلحة عامة للمسلمين، فيجوز ارتكاب الكذب لعظم
النفع (والإصلاح بين الناس) بأن يقول لزيد مثلاً: رأيت
عمرو: يعني عدوه، يحبك ويثني عليك خيراً مما لم يكن ليصلح
بينهما ويذهب الشنآن (وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة
زوجها) كأن يقول أحدهما للآخر لا أحد
(3/48)
أحبّ إليّ منك، فهذا الكذب جائز لعظم
المصلحة المترتب عليه على محظور الإخبار بخلاف الواقع.
وكذا يجوز الكذب لتخليص محترم، بل يجب على من سئل عن محترم
قصد سائله عن إهلاكه أن يخفيه ولو باليمين، وليس في الحديث
ما يدل على الحصر. وقال قوم: لا يجوز ذلك إلا بطريق
التورية، وهي أن يريد المتكلم بكلامه خلاف ظاهره كأن يقول
فعل فلان كذا وينوي إن قدر، ويقول في الحرب: مات كبيركم
ويريد بعض المتقدمين منهم. قال الدماميني في «حاشية
البخاري» : وليس في الحديث ما يقتضي جواز الكذب، فإنه قال:
«ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس» وسلب الكذب عن المصلح لا
يستلزم كون ما يقوله كذباً لجواز أن يكون صدقاً بطريق
التصريح أو التعريض اهـ.
2503 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - صوت خصوم بالباب) أفرد صوت المضاف مع
تعدده في نفس الأمر لتعدد المضاف إليه لكونه لمح فيه كونه
مصدراً في الأصل. قال في «الصحاح» : قد صات الشيء يصوت
صوتاً اهـ. فيكون هذا نظير إفراد السمع في قوله تعالى:
{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} (البقرة:
7) على أحد الوجوه في الآية أو لاختلاط أصواتهم وعدم
تمايزهم فصارت كالصوت الواحد لإدراك حاسة السمع لها رفعة
(عالية) بالجرّ على أنه صفة خصوم، وبالنصب على أنه حال من
أصواتها كذا في نسخة مكتوب على ضمير التثنية رمز صحّ. وفي
رواية البخاري «أصواتهم بصيغة الجمع» . قال في «فتح
الباري» : كأنه جمع باعتبار من حضر وثنى باعتبار الخصمين،
أو كان التخاصم من الجانبين بين جماعتين فجمع باعتبار ذلك
وثنى باعتبار جنس الخصم، وليس فيه حجة لمن جوّز إرادة صيغة
الجمع بالاثنين، كما زعم الشراح. قلت: يعني به الكرماني
(وإذا أحدهما يستوضع الآخر) أي يطلب منه الوضيعة: أي
الحطيطة من الدين (ويسترفقه) أي يطلب منه الرفق (في شيء)
قال الحافظ في «فتح الباري» : وقع في رواية ابن حبان بيان
ذلك الشيء قال فيأول الحديث «دخلت امرأة على النبي فقالت:
إني ابتعت أنا وابني من فلان تمراً فأحصيناه لا والذي
أكرمك بالحق ما أحصيناه منه إلا ما نأكله في بطوننا أو
نستطعمه مسكيناً وجئنا نستوضعه ما نقصنا» الحديث. قال
الحافظ: ولم أقف على اسم أحد من المتبايعين وهي غير قصة
كعب بن
(3/49)
مالك وعبد الله بن حدرد التي في البخاري
عقب هذا الحديث كما بينه في «فتح الباري» (وهو) أي الثاني
(يقول وا لا أفعل) أي لا أضع شيئاً وفي رواية ابن حبان
«فقال: آلى أن لا يضع خيراً ثلاث مرات» (فخرج رسول الله)
ليصلح بينهما (فقال: أين المتألي) بضم الميم وفتح الفوقية
والهمزة وتشديد اللام أي الحالف المبالغ في
اليمين (على الله أن لا يفعل المعروف) من الوضع والرفق
بأخيه (فقال: أنا يا رسول الله فله) أي ذلك المذكور من
الوضع والرفق (أي ذلك أحبّ) وفي رواية لابن حبان: «إن شئت
وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال فوضع ما نقصوا» قال
في «فتح الباري» : وهذا يشعر بأن المراد بالوضع الحط،
وبالرفع الاقتصار عليه وترك الزيادة، لا كما زعم بعض
الشراح أنه يريد بالرفق الإمهال. وفي أواخر الصلح من الفتح
بعد أن ساق عن ابن حبان بيان ما سألوا فيه الرفق من أنهم
أخذوا بخلاص صاحبه ثم سألوا منه ذلك بها قال الحافظ:
فالمراد أنهم يستوضعونه بترك الزيادة على رأس المال
والاسترقاق بترك طلب الربح (متفق عليه) فأخرجه البخاري في
كتاب الصلح عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه وهو أبو بكر عن
سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن محمد بن
عبد الرحمن الأنصاري عن عمرة عن عائشة، ورواه مسلم في
الشركة من البيوع: ثنا غيرواحد من أصحابنا قالوا: ثنا
إسماعيل بن أبي أويس اهـ. ذكره الحافظ المزيّ في «الأطراف»
. قال الحافظ ابن حجر في «نكته» عليها: قال أبو نعيم في
«المستخرج» : يقال إن مسلماً حمل هذا الحديث عن البخاري
اهـ. وكلام أبي نعيم يقتضي أنه حدث به أيضاً غيره، وقد
رويناه في الأول من أعالي المحاملي رواية الإصبهانيين عنه
قال ثنا إسماعيل فذكره اهـ. وفي «فتح الباري» في باب أواخر
الصلح بعد أن ذكر أنه أخرجه عن إسماعيل بن أبي أويس: محمد
بن يحيى الذهلي وذكر ما في المحامليات قال: فيحتمل أن يفسر
من أبهمه مسلم بهؤلاء وبعضهم اهـ. ثم في الحديث الحض على
الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع والزجر على الحلف على
ترك الخير، وفيه الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللفظ
ورفع الصوت عند الحاكم (معنى يستوضعه: يسأله أن يضع عنه
بعض دينه، ويسترفقه: يسأله الرفق) بكسر الراء ضد العنف
وذلك بأن لا يزيد عليه ما نقص
(3/50)
عليه (والمتألي: الحالف) تقدم في كلام
الحافظ أنه
الحالف المبالغ في اليمين وهو الذي تقتضيه الصيغة.
2514 - (وعن أبي العباس) بتشديد الموحدة آخره مهملة (سهل
بن سعد) الأنصاري (الساعدي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه)
في باب الدلالة على الخير (أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بلغه أن بني عمرو بن عوف) أي ابن مالك بن الأوس،
والأوس أحد قبيلتي الأنصار، وهما الأوس والخزرج، وبنو عمرو
بن عوف بطن كبير من الأوس فيه عدة أحياء كانت منازلهم
بقباء (كان بينهم شرّ) السبب فيه كما في «الفتح» ما في
رواية «وقع بين حيين من الأنصار كلام» وعند البخاري في
كتاب الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم «أن أهل قباء
اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بذلك فقالوا: اذهب بنا نصلح بينهم» (فخرج رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يصلح بينهم في أناس) هذا هو
الأصل كما تقدم وتعوض الهمزة أل (من أصحابه) وفي نسخة
«معه» بدلاً من أصحابه سمي الطبراني منهم من طريق موسى بن
محمد عن أبي حازم، أُبيّ بن كعب وسهيل بن بيضاء. وللبخاري
في الأحكام أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر (فحبس) بضم
المهملة الأولى وكسر الموحدة، أي قام (رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ليصلح بينهم وحانت الصلاة) أي دخل حين
الصلاة: وهي صلاة العصر كما صرح به البخاري في روايته في
الأحكام، ولفظه «فلما حضرت صلاة العصر أذن وأقام وأمر أبا
بكر فتقدم» (فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا
أبا بكر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حبس وحانت
الصلاة فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت) عند أحمد
وأبي داود وابن حبان أن ذلك كان بأمر النبي ولفظه: «فقال
لبلال: إن حضرت
(3/51)
الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فلصلّ بالناس،
فلما حضرت» الحديث، ونحوه للطبراني، ولا يخالف هذا قوله
لأبي بكر «هل لك أن تؤم الناس» لأنه يحمل على أنه استفهمه
هل تبادر أول الوقت أو تنتظر مجيء النبي، ورجح عند أبي بكر
المبادرة لأنها فضيلة محققة فلا تترك لفضيلة متوهمة (فأقام
بلال وتقدم أبو بكر فكبر) وفي رواية للبخاري «فاستفتح أبو
بكر الصلاة» . قال في «فتح الباري» : وبهذا يجاب عن الفرق
بين المقامين حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمرّ إماماً،
وحيث استمرّ في مرض موته حين صلى خلفه الركعة الثانية من
الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في «المغازي» ، وكأنه لما
مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار، ولما لم يمض منها إلا
اليسير لم يستمر، وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى
النبي خلفه الركعة الثانية من الصبح فإنه استمر
إماماً لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن عند مسلم (وكبر الناس
وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في الصفوف)
زاد البخاري في رواية: يشقها شقاً (حتى قام في الصف) أي
الأول كما في رواية له أيضاً، ولمسلم «فخرق الصفوف حتى قام
عند الصفّ المقدم» (فأخذ الناس في التصفيق) قيل إنه مرادف
للتصفيح، وقيل لا وهو الراجح (وكان أبو بكر رضي الله عنه)
لعلمه بالنهي عن الالتفات في الصلاة وأنه خلسة من الشيطان
يختلسها من صلاة العبد كما جاء ذلك في الخبر المرفوع (لا
يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس) أي من التصفيق كما في
رواية للبخاري وفي رواية أخرى «فلما رأى التصفيق لا يمسك
عنه» (التفت فإذا رسول الله) أي حاضر فالخبر محذوف (فأشار
إليه رسول الله) أي بالمكث في مقامه، وفي رواية للبخاري في
كتاب الإمامة «فأشار إليه أن امكث مكانك» . قال الحافظ في
«الفتح» : وفي رواية عمر بن علي: فدفع في صدره ليتقدم فأبى
(فرفع أبو بكر يده) في البخاري من باب الإمامة يديه
بالتثنية (فحمد الله) ظاهره أنه تلفظ بالحمد لكن في رواية
الحميدي عن سفيان «فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكراً
ورجع القهقرى» وأدعى ابن الجوزي أنه أشار بالحمد والشكر
بيده ولم يتكلم، وليس في رواية الحميدي ما يمنع أن يكون
تلفظ، ويقوّي ذلك ما عند الإمام أحمد عن أبي حازم «يا أبا
بكر لم رفعت يديك وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ قال:
رفعت يديّ لأني حمدت الله على ما رأيت منك»
(3/52)
(ورجع القهقرى) أي يمشي إلى خلفه، فقوله:
(وراءه) بالنصب على الحال تأكيد، وفعل ذلك لئلا يستدير
القبلة فتبطل صلاته، وهو محمول على أنه لم تتوال منه حركات
مبطلة (حتى قام) أي تأخر إلى موقف المأموم فقام (في الصفّ)
ولم يقف منفرداً عنه لكراهته المفوتة لفضل الجماعة (فتقدم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى) إماماً (للناس،
فلما فرغ اقبل بوجهه على الناس فقال: يا أيها الناس ما
لكم؟) جملة مركبة من مبتدأ وخبر أي أيّ شيء
لكم؟ (حين نابكم) أي أصابكم (شيء في الصلاة) هو في تلك
القصة تنبيه الصديق على مجيء النبي (ذتم) أي شرعتم (في
التصفيق) جملة حالية بتقدير قد وحين ظرف. والمعنى: أي شيء
بكم وقد صفقتم حين أصابكم شيء في الصلاة (إنما التصفيق
للنساء) وفي رواية البخاري إنما التصفيح للنساء» زاد
الحميدي «والتسبيح للرجال» وقد روى البخاري هذه الجملة
الأخيرة مقتصراً عليها
في حديث آخر، وفي البخاري «قال سهل أي ابن سعد الساعدي هل
تدرون ما التصفيح؟ هوالتصفيق» قال في «الفتح» : وهذا حجة
من قال إنهما بمعنى، وبه صرح الخطابي وأبو علي القالي
والجوهري وغيرهم، وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب
بما حكاه القاضي عياض في «الإكمال» أنه بالحاء الضرب بظاهر
إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى.
وقيل بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف
بجميعها للهو أو اللعب اهـ. (من نابه) أي أصابه (شيء في
صلاته فليقل: سبحان ا) لينبه على أنه في الصلاة ويقصد به
الذكر وحده أو مع إعلام (فإنه) أي المصلي (لا يسمعه أحد
حين يقول سبحان الله إلا التفت) بالبناء للفاعل (يا أبا
بكر ما منعك) من (أن تصلي) إماماً (للناس حين أشرت إليك)
أي بملازمة ما شرعت فيه من إمامتك بالقوم، وكانت الإشارة
منه قبل أن يحرم بالصلاة كما في باب الإشارة في الصلاة من
«فتح الباري» (فقال أبو بكر: ما كان) زائدة (ينبغي) أي لا
يصح (لابن أبي قحافة) كنية أبيه واسمه عثمان رضي الله
عنهما (أن يصلي) إماماً (بين يدي
(3/53)
رسول الله) أي ليس هذا من باب الأدب
المأمور به العباد معه فما فعله من سلوك الأدب وتقديمه على
الأمر الذي على سبيل الإيجاب والتحتم، وسيأتي في ترجمة ابن
عوف في باب فضل البكاء بيان أنه صلى في مرض موته وراء أبي
بكر أيضاً، واستمر أبو بكر إلى أن أتم الصلاة إماماً
بالقوم كما تقدم قريباً. قال في «فتح الباري» : وفي الحديث
من الفوائد:
الإصلاح بين الناس، وجمع كلمة القبيلة، وحسم مادة القطيعة،
وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رغبته لذلك، وفيه جواز الصلاة
الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وفيه فضل أبي بكر على
جميع الصحابة. واستدل به جمع من الشراح ومن الفقهاء
كالروياني على أن أبا بكر عند الصحابة كان أفضلهم لكونه
اختاره دون غيره، وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة لأنه
من ذكرالله، ولو كان مراد المسبح إعلام الغير بما صدر منه:
أي من قصد الذكر بذلك وإلا أبطل الصلاة عند الشافعية. وفيه
جواز الالتفات للحاجة. وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من
مخاطبته بالعبارة، وأنها تقوم مقام النطق لمعاتبة النبي
على مخالفته إشارته، وفيه الحمد والشكر على الوجاهة في
الدين، وأن من أكرم بكرامة تخير بين القبول والترك إذا فهم
أن ذلك الأمر على غير جهة اللزوم، وكأن القرينة التي بينت
لأبي بكر ذلك كونه شق الصفوف إلى أن انتهى إليه، فكأنه فهم
من ذلك أن قصده أن يؤمّ الناس وأن أمره إياه بالاستمرار في
الإمامة من باب الإكرام له والتنويه بقدره، فسلك هو طريق
الأدب والتواضع ورجح ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حالة
الصلاة لتغير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب
اعتذاره برد عليه. وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره
قبل الزجر عن ذلك، وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية
واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع من جهة استعمال
أبي بكر لفظ الغيبة مكان الحضور، وإلا فكان الكلام أن يقول
أبو بكر ما كان لي فعدل عنه إلى قوله: ما كان لابن أبي
قحافة لأنه أول على التواضع من الأول. وفيه غير ذلك اهـ.
ملخصاً (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة وأخرجه البخاري
في كتاب الأحكام وأبو داود والنسائي في الصلاة اهـ. ملخصاً
من «الأطراف» للمزي (معنى حبس) في «وحبس رسول الله» وهو
مبني للمفعول (أمسكوه ليضيفوه) بضم التحتية وكسر الضاد
بعدها تحتية ساكنة، ففيه إضافة الرئيس إذا أوفد على
القوم، وفيه مزيد تواضعه وجلوسه جبراً لخواطرهم لحضور
ضيافتهم.
(3/54)
32 - باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء
والخاملين
بفتحات جمع ضعيف، قال ابن هشام في «التوضيح» : فعلة
بفتحتين وهو شائع في وصف المذكر العاقل، الصحيح اللام كامل
وكملة وساحر وسحرة اهـ. ففيه إيماء إلى ندور ما نحن فيه من
جمع ضعيف على ضعفة، وقد بين وجه جماعة عليه في «المصباح»
فقال: هو ضعيف والجمع ضعفاء وضعاف أيضاً، وجاء أيضاً ضعفة
وضعفي. قال: ولوحظ في ضعيف معنى فاعل فجمع على ضعاف وضعفة
مثل كافر وكفرة اهـ. وفي شرح أبيات الجمل لابن السيد: وجاز
أن يكسر فعيل على فعلة من حيث إن فعيل وفاعل يشتركان في
المعنى الواحد فيقال عليم وعالم وقدير وقادر، فاشتركا في
جمعهما كما اشتركا في مفردهما: وكما قالوا عالم وعلماء
وشاعر وشعراء، وباب فعلاء في الجمع إنما لفعيل نحو حكيم
وحكماء وبصير وبصراء اهـ: أي فضل ضعفاء (المسلمين و) فضل
(الفقراء) من الدنيا (والخاملين) الذكر فيها وإن لم يكونوا
فقراء.
(قال الله تعالى: {واصبر نفسك} ) احبسها وثبتها (مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشيّ) أي في مجامع أوقاتهم أو في
طرفي النهار وقرىء «بالغدوة» وفيه أن غدوة علم في الأكثر
فاللام فيه على تأويل التنكير، وأصل غداة بالفتح غدوة بوزن
ضربة فنقلت حركة الواو إلى الدال واعتلت كإعلال أقام
(يريدون وجهه) أي رضا الله وطاعته وسيأتي بسط ذلك في معنى
الآية في أثناء الكلام على حديث سعد في الباب بعده عن
القرطبي ( {ولا تعد عيناك عنهم} ) ولا يجاوزهم نظرك إلى
غيرهم، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبا، وقرىء: «ولا تعد
عينيك» ولا تعد من أعداه وعداه، والمراد نهى الرسول عليه
الصلاة والسلام أن يزدرى بفقراء المؤمنين ويغلق عينيه عن
رثاثة زيهم طموحاً إلى طراوة زي الأغنياء. قال الكواشي:
قال قوم من رؤساء الكفار لرسول الله: نحّ هؤلاء الموالي
الذين كأنّ ريحهم ريح الصنان وهم صهيب وعمار وغيرهما من
فقراء المسلمين حتى نجالسك. فنزلت هذه الآية اهـ.
(3/55)
2521 - (وعن حارثة) بالحاء المهملة وكسر
الراء وبالمثلثة (ابن وهب) الخزاعي أخو عبد الله بن عمر بن
الخطاب لأمه. قال ابن النحوي في شرح البخاري: أمهما أم
كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيب الخزاعية. روى عنه أبو
إسحاق السبيعي ومعبد بن خالد الجهني (رضي الله عنه) قال
ابن الجوزي في المستخرج المليح: له ستة أحاديث أخرج له
منها في «الصحيحين» أربعة أحاديث اتفقا عليها. وقال
البرقي: له حديثان، وهو غلط لأنه قد أخرج له في «الصحيحين»
أربعة أحاديث اهـ. (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول: ألا) حرف استفتاح لتنبيه السامع للكلام الآتي
بعده (أخبركم بأهل الجنة) قال ابن النحوي: أي بمعظمهم وكذا
في القسم الأخير وليس المراد الاستيعاب، وسكت الراوي عن
ذكر جوانبهم للعلم بوقوعه: أي قالوا: بلى فقال: هم (كل
ضعيف) فهو خبر لمبتدأ محذوف والجملة بيان، ومعنى ضعيف: أي
نفسه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا (متضعف) قال ابن
النحوي هو بفتح العين المشددة وكذا ضبطه الدمياطي. قال ابن
الجوزي: وغلط من كسرها إنما هو بالفتح، يعني أن الناس
يستضعفونه ويقهرونه. وقال النووي: روى بالفتح عند الأكثرين
وبالكسر اهـ: قال الطيبي: فمعناه على «الفتح» يستضعفه
الناس ويحتقرونه ويفخرون عليه لضعف حاله في الدنيا ومعناه
بالكسر متواضع متذلل خامل واضع من نفسه اهـ. وقيل المراد
أنه يستضعف: أي يخضع سبحانه ويذل له نفسه، حكاه المصنف
مقتصراً عليه. قلت: وعلى هذا جرى العلقمي وزاد في رواية
«مستضعف» .
وفي رواية لأحمد «الضعيف المستضعف» (لو يقسم على الله
لأبرّه) أي لأبرّ قسمه: أي لو حلف يميناً طمعاً في كرم
الله بإبراره لأبره بحصول ذلك، وسيأتي فيه بسط. ومن ذلك ما
روي عن أنس بن النضر في أخته الربيع لما كسرت سنّ المرأة
وأمر بالقصاص، فقال أنس: وا لا تكسر سنّ الربيَّع، فرضى
أهل المرأة المجنى عليها بالأرش، فقال: «إن من عباد الله
من لو أقسم على الله لأبرّ قسمه» وأتى بالمضارع في حديث
الباب إيماء إلى استمرار عناية الله بهم كل زمن ووقت وقضاء
حوائجهم وتيسير مطالبهم ويكفيك قوله في الحديث القدسي «لا
يزال عبدي يتقرّب إليّ حتى أحبه» الحديث: أي كنت متولياً
لسائر أموره كافياً له في مطالبه (ألا أخبركم بأهل النار)
أي بسماتهم وأفعالهم لتجتنبوها، هم (كل عتل) بضم المهملة
والفوقية وتشديد اللام (جواظ
(3/56)
مستكبر) أي متخلق به وهو كما في الحديث
المرفوع «بطر الحق» أي دفعه وعدم الانقياد إليه «وغمط
الناس» أي احتقارهم زاد في رواية بعد جواظ «جعظري» وهو
بفتح الجيم والظاهر المعجمة وسكون المهملة بينهما. قيل
الفظ الغليظ. وقيل الذي لا عرض له، وقيل الذي يتمدح بما
ليس عنده (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير والأدب
والنذور من «صحيحه» ، ومسلم في صفة الجنة. وأخرجه الترمذي
في صفة الجنة ومداره عندهم على شعبة عن معبد بن خالد عن
حارثة كذا لخص من الأطراف للمزي (العتل الغليظ) العنيف،
وهذا قول الخطابي (الجافي) من الجفاء: أي الجافي عن
المواعظ، هذا قول الفراء، والمصنف جمع القولين وجعلهما
قولاً واحداً، وقيل هو الشديد من كل شيء، وقيل الكافر.
وقال الداودي: السمين العظيم العنق والبطن. وقال الهروي:
الجموع المنوع. قال: ويقال هو القصير البطين، وقيل الأكول
الشروب الظلوم (والجواظ بفتح الجيم وتشديد الواو، وبالظاء
المعجمة: وهو الجموع المنوع) هذا بعض تفسير له جاء مرفوعاً
قال ابن النحوي: روي عن ابن عباس مرفوعاً «ثلاثة لا يدخلون
الجنة:
الجواظ والعتل والجعظري - وقيل يا رسول الله وما الجواظ؟
قال: الجموع المنوع البخيل في يديه» والجعظري: الفظّ على
ما ملكت يمينه والغليظ لقرابته وجيرانه وأهل بيته. والعتل
الشرس الخلق الرحب الجوف الأكول الشروب الغشوم الظلوم اهـ.
(وقيل) كما حكاه الخطابي واقتصر عليه الجوهري في «صحاحه»
(الضخم) في البدن أي كثير لحمه (المختال) افتعال من
الخيلاء: وهو التكبر (في مشيته) بكسر الميم (وقيل) كما
حكاه في «النهاية» (القصير البطين) بفتح أولهما وكسر
ثانيهما: أي القصير العظيم البطن لشرهه ونهمه فليس غرضه
سوى ملء بطنه. وفي الحديث عن ابن عمر عن النبي «المؤمن
يأكل في معاً واحداً، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» رواه
البخاري.
2532 - (وعن أبي العباس) كنية (سهل) وقيل: كنيته أبو يحيى،
وهو (ابن سعد) بن مالك بن
(3/57)
خالد بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة
بن كعب بن الخزرج الأنصاري (الساعدي) نسبة (رضي الله عنه)
لجده ساعدة (قال: مرّ رجل) لم أقف على من سماه (على النبي
فقال لرجل) وفي البخاري «فقال ما تقولون» قال الشيخ زكريا:
الخطاب لما حضره، وهو أبو ذرّ ومن تبعه (وما رأيك في هذا؟)
من حيث التعظيم له باعتبار الأمور الدنيوية (فقال رجل من
أشراف الناس) الذين ينظرون إلى الظواهر (هذا) أي المسؤول
عنه (وا حريّ إن خطب) مولية (أن ينكح) بالبناء للمفعول
وكذا المضارعة الآتية بعد أي يزوج (وإن شفع) في أمر (أن
يشفع) أي لحسبه أو لشرف نسبه وظهور فخره دنيا (فسكت رسول
الله، ثم مر رجل) أي آخر، زاد في رواية للبخاري «من فقراء
المسلمين» وهو في نسخة من هذا الكتاب أيضاً. واسمه جعيل بن
سراقة الغفاري كما ذكره شيخنا شيخ الإسلام زكريا في «تحفة
القاري» ، ولعل الرجل: الأول كان عيينة بن حصين أو الأقرع
بن حابس. ففي «أسد الغابة» «قيل لرسول الله: أعطيت الأقرع
بن حابس وعيينه بن حصن مائة من الإبل وتركت جعيلاً؟ فقال:
والذي نفسي بيده لجعيل خير من طلاع الأرض مثل عيينة
والأقرع» الحديث قال: أخرجه ابن عبد البرّ وابن منده وأبو
نعيم اهـ. (فقال له) أي لذلك أي الذي عنده (رسول الله: ما
رأيك في هذا، فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء
المسلمين هذا حريّ إن خطب) مولية (أن لا ينكح) لفقره (وإن
شفع) في أمر (أن لا يشفع، وإن قال) : أي تكلم (لا يسمع
لقوله) ويجوز في الأفعال الواقعة جواباً الجزم وهو الأفصح
والرفع لكون فعل الشرط ماضياً (فقال رسول الله: هذا) أي
الذي احتقرتموه لفقره (خير) عند الله (من ملء الأرض) أي
مما يملأ بها (مثل هذا) الذي فضلتموه عليه. قال الكرماني:
إن قلت كيف هذا؟ قلت: إن كان الأول كافراً فالوجه ظاهر،
وإلا فيكون ذلك معلوماً لرسول الله صلى الله
عليه وسلم اهـ. (متفق عليه) كما فعل
(3/58)
الحميدي وأبو مسعود وابن الجوزي فأورده في
المتفق عليه من حديث سهل، وتبعهم المصنف وأبي مالك الطرقي
وخلف فعزياه إلى البخاري فقط، ذكره ابن النحوي. قلت: وجرى
على الأخير الحافظ المزي فاقتصر على عزوه إلى البخاري في
كتاب النكاح والرقاق، قال: وأخرجه ابن ماجه في الزهد وقال
الحافظ ابن حجر في «النكت الظراف على الأطراف» : قال
الحميدي: ذكره ابن مسعود في المتفق عليه ولم أجده في مسلم.
قال الحافظ: وذكره خلف والطرقي وغيرهما في أفراد البخاري
وهو الصواب اهـ. (قوله حريّ هو بفتح الحاء) المهملة (وكسر
الراء) لا حاجة إلى وصفها بالإهمال دفعاً لاشتباهها بالزاي
للفرق بين اسميهما بتنوين الياء الأخيرة في اللغة المشهورة
فيه دون الراء (وتشديد الياء: أي حقيق) وبمعناه جدير
وقمير، وعسى (وقوله شفع بفتح الفاء) مضارعة يشفع فتحها
أيضاً.
2543 - (وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري
(الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: احتجت) بتشديد الجيم:
أي تخاصمت (الجنة والنار) قال الطيبي: والمقصود حكاية ما
يقع بيهما مما اختص به كل منهما، وفيه شائبة من معنى
الشكاية ألا ترى كيف قال للجنة «أنت دار رحمتي» إلخ فأقحم
كلاً بما تقتضيه مشيئته. قال المصنف: هذا الحديث على ظاهره
وإن الله تعالى جعل فيهما إدراكاً فتحاجا، ولا يلزم من هذا
أن يكون التمييز فيهما دائماً وكذا قال الطيبي، قال ويجوز
أن يكون على وجه التمثيل (فقالت النار فيّ) بتشديد الياء
أولاهما المدغمة آخر الحروف وثانيهما ياء المتكلم
(الجبارون) أي الذين يقهرون الغير على مراداتهم على حسب
أهويتهم (والمتكبرون، وقالت الجنة فيّ) بتشديد الياء أيضاً
(ضعفاء الناس) أي المتواضعون منهم أو المستضعفون فيهم
لفقرهم وعدم ثروتهم، وإنما عزّ الدنيا عند أهلها السكارى
بحبها. قال سيدنا عمر بن الخطاب: عزّ الدنيا بالمال، وعزّ
الآخرة بالأعمال (ومساكينهم) أي
(3/59)
والمحتاجون منهم الصابرون على الضرار من
غير تضجر ولا تبرم من القضاء اكتفاء بتدبير المولى فيهم
ورضاء بما قسم لهم (فقضى الله بينهما) أي أخبر عما أراده
لهما مما سبقت به إرادته قائلاً (إنك الجنة) في الغة:
عبارة عن البستان من النخيل والأعناب والمراد منها هنا
مقابل النار (رحمتي) قال الطيبي: سماها رحمة لأن بها تظهر
رحمة الله كما قال (أرحم بك من أشاء) وإلا فرحمة الله من
صفاته التي لم يزل بها موصوفاً ليس صفة حادثة ولا اسم حادث
فهو قديم بجميع أسمائه وصفاته جل وعلا اهـ.Y
وهذا بناء على أن الرحمة الموصوف بها تعالى يراد منها
إرادة الفضل والإحسان فتكون من صفات المعاني الأزلية
القائمة بالذات، أما إذا أولت بالإحسان نفسه فتكون من صفات
الأفعال، وهي حادثة غير قائمة بذات الباري عند الأشعري
وأتباعه، وظاهر أن المراد هنا المعنى الثاني (وإنك النار
عذابي أعذب بك من
أشاء) ممن تعلقت الإرادة الإلهية بتعذيبه (ولكليكما عليّ
ملؤها) فمن يدخل الجنة لا يخرج منها البتة وكذا من يدخل
النار من الكفرة: أما ذوو المعاصي من المؤمنين إذا دخلوها
فلا بد من خروجهم منها ودخولهم الجنة بالوعد الذي لا يخلف
قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} (الزلزلة: 7)
وقال: «من مات وفي قلبه ذرّة من إيمان دخل الجنة» (رواه
مسلم) وسيأتي بيان الباب الذي ذكره فيه من «صحيحه» وما
فيه.
2554 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال) وفي نسخة قال إنه: (ليأتي) بفتح
اللام وهي المؤذنة بالقسم المقدر قبلها المأتي به لتأكيد
الأمروتقويته (الرجل العظيم) قدراً في الدنيا (السمين)
جسماً (يوم القيامة) ظرف ليأتي (لا يزن عند الله جناح
بعوضة) جملة حالية من فاعل يأتي: أي لا يعدله عند الله: أي
لا قدر له عنده، وتتمة
(3/60)
الحديث في مسلم «اقرءوا إن شئتم فلا نقيم
لهم يوم القيامة وزناً» قال المصنف: في الحديث ذم السمن،
ففيه تنبيه على أنه ليس الدار في الرفعة عند الله والقرب
من فضله وساحة جرده بالصور، وإنما ذلك بما يقرّ في القلوب
من الأنوار الإلهية والتجليات الربانية أهلَّنا الله لذلك
بفضله (متفق عليه) فأخرجه البخاري في «التفسير» من «صحيحه»
ومسلم في التوبة كلاهما من طريق يحيى بن بكير عن المغيرة
عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ورواه البخاري في
التفسير أيضاً أولاً عن محمد بن عبد ا؛ عن سعيد بن أبي
مريم عن المغيرة قال الحافظ في «النكت الظراف» وأخرجه
الطبراني في «الأوسط» عن عمرو بن أبي الطاهر عن سعيد بن
أبي مريم عن المغيرة عن أبي الزناد وقال: تفرّد بها سعيد.
قال الحافظ تقي الدين بن فهد في «الإشراف» ورواية يحيى بن
بكير ترد عليه اهـ.
2565 - (وعنه) عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن امرأة سوداء
كانت تقمّ المسجد أو شاباً) أي أسود. وفي البخاري في باب
كنس المسجد «أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء» والشك فيه من
ثابت، لأنه رواه عنه جماعة هكذا ومن أبي رافع. قال الحافظ:
وسيأتي بعد باب من وجه آخر عن عمار بهذا الإسناد فقال: ولا
أراه إلا امرأة. وروى ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد
الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقال امرأة سوداء، ولم يشك.
ورواه البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن بريدة عن أبيه
فسماها «أم محجن» وأفاد أن الذي أجاب النبي عن سؤاله عنها
أبو بكر الصديق، وذكر ابن منده في الصحابة جزماً امرأة
سوداء كانت تقم المسجد، وقع ذكرها في حديث حماد بن زيد عن
ثابت عن أنس، وذكرها ابن حبان في الصحابة بدون ذكر السند
فإن كان محفوظاً فهذا اسمها، وكنيتها أم محجن كذا في «فتح
الباري» (ففقدها) أي المرأة أو النسمة ليعم كلاً منهما
(رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها، أو) شك من
الراوي مرتب على الشك قبله: أي وقال (عنه) أي عن حال ذلك
الإنسان ومفعول سأل محذوف: أي سأل الناس (فقالوا مات) أي
(3/61)
ذلك الشخص (قال: أفلا كنتم آذنتموني) أي
أمسكتم عن الإعلام فما آذنتموني (به) أي أعلمتموني بموته
والمعطوف عليه مقدر بعد الهمزة (فكأنهم صغروا) بتشديد
الغين (أمرها، أو) شك: أي أو قال صغروا (أمره) أي أنه من
الفقراء الخاملين الذي لا يؤبه بوفاة مثله فيدعى للصلاة
عليها مثلك، وهذا يحتمل أن يكون من الصحابة وقالوا ذلك
اعتذاراً: أي إننا آثرنا راحتك وبقاءك في منزلك أن مثل ذلك
الميت ليس من مشاهير الصحابة أولى السبق والأيادي في
الإسلام كما جاء كذلك عند ابن خزيمة من طريق العلاء
«قالوا: مات في الليل فكرهنا أن نوقظك» وكذا في حديث بريدة
(فقال: دلوني على قبره) هكذا هو في النسخ بضمير المذكر بلا
شك وهو محتمل لأن يكون الواقع وحده فقط مع الشك في كون
المحدث عنه امرأة أو عبداً أو تذكيره
باعتبار الميت (فدلوه فصلى عليها) أي النسمة المتوفاة، هذا
ما اتفقا عليه. زاد مسلم عن أبي كامل الجحدري عن حماد عن
أبي رافع عن أبي هريرة: أي وهو إسناد الحديث عندهما (ثم
قال) أي النبي (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها) لعدم
المنافذ التي يدخل منها الضوء إليها فلا ينيرها إلا
الأعمال الصالحة أو الشفاعات المقبولة الراجحة (وإن الله
ينورها لهم) أي يدخل النور لهم فيها (بصلاتي) بسبب صلاتي
عليهم. قال الحافظ في «فتح الباري» في كنس المسجد. وإنما
لم يخرج البخاري هذه الزيادة لأنها مدرجة في هذا الإسناد
وهي من مراسيل ثابت، بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن
زيد، وأوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج. قال
البيهقي: يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما
قال أحمد بن عبده أو من رواية ثابت عن أنس يعني كما رواه
ابن منده. ووقع في مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد
الجزار كلاهما عن ثابت بهذه الزيادة اهـ. وبه يعلم ما في
قول المصنف (متفق عليه) .
وفي الحديث فضل تنظيف المساجد والسؤال عن الخادم والصديق
إذا غاب، وفيه المكافأة بالدعاء والترغيب في شهود جنائز
أهل الخير، وندب الصلاة على الميت الحاضر عند قبره لمن لم
يصل عليه (قوله تقم بفتح التاء) أي الفوقية إن كان المحدث
عنه الجارية وإلا فبالتحتية (وضم القاف أي تكنس) قال
الحافظ
(3/62)
على الفتح جاء في رواية «أنها كانت تلتقط
الخرق والعيدان من المسجد» وفي حديث بريرة «كانت مولعة
بلقط القذا من المسجد» وهو بالقاف وبالذال المعجمة مقصوراً
جمع قذاة وجمع الجمع أقذية. قال أهل اللغة: القذا في العين
والشراب ما تساقط فيه، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت
وغيره إذا كان يسيراً (والقمامة الكناسة) بضم أوليهما وهذه
الصيغة لما لا يحتفل كالزبالة والنخالة (وآذنتموني بمد
الهمزة) أي (أعلمتموني) من الإيذان: الإعلام.
2576 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (قال: قال النبي:
رب) قال ابن هشام في «المغني» : ليس معناها التقليل دائماً
خلافاً لابن درستويه وجماعة، بل ترد للتكثير كثيراً، أو
للتقليل قليلاً ومن الأول قوله تعالى: {ربما يود الذين
كفروا لو كانوا مسلمين} (الحجر: 2) وفي الحديث «يا رب
كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» اهـ. (أشعث) قال
العلقمي في «المصباح» شعث الشعر شعثاً فهو شعث من باب تعب:
تغير وتلبد لقلة تعهده بالدهن أي والترجيل (أغبر) قال في
«المصباح» : الغبار معروف وأغبر الرجل بالألف: أثار الغبار
(مدفوع بالأبواب) أي يدفع بها لحقارة قدره عندهم لفقره
ورثاثة ملبسه (لو أقسم على ا) أي حلف يميناً بحصول أمر
طمعاً في كرم الله (لأبره) لأوجد ذلك إكراماً له بإجابة
سؤاله وصيانته من الحنث في يمينه، وهذا لعظم منزلته عند
الله تعالى وإن كان حقيراً عند الناس. وقيل معنى أقسم دعا
ومعنى أبرّد أجاب دعوته، قاله المصنف في «شرح مسلم» (رواه
مسلم) قال في «الجامع الصغير» بعد إخراجه بهذا اللفظ: إلا
أنه يذكر أغبر أخرجه مسلم وأحمد.
(3/63)
2587 - (وعن أسامة) هو بن زيد حبّ رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وابن أخيه كما صرح به كذلك
المزي في «الأطراف» (رضي الله عنه) حال كونه راوياً (عن
النبي قال: قمت على باب الجنة فكان عامة) أي معظم (من
دخلها) من الناس (المساكين) أي الضعفاء المستضعفين في
الدنيا الصابرين على الضراء والشاكرين على السراء (وأصحاب
الجد) أي الغنى (محبوسون) قال ابن النحوي: كذا في الأصول
بالحاء المهملة ثم باء من الحبس، وكذا عند أبي ذرّ وهو
ظاهر. قال ابن التين: كذا هو عند الشيخ أبي الحسن ولعله
بفتح التاء والراء اسم مفعول من احترس. قال أهل اللغة:
يقال أحس بالمكان: إذا قام به حرساً فهم موقوفون لا
يستطيعون الفرار. وقال الداوودي: أرجو أن يكون المحبوسون
أهل التفاخر لا أفاضل هذه الأمة الذين كان لهم أموال
ووصفهم الله بأنهم سابقون. ولما نقل ابن بطال عن المهلب أن
في الحديث «إن أقرب ما يدخل به الجنة التواضع عز وجل، وإن
أبعد الأسباب من الجنة التكبر بالمال وغيره» قال: وإنما
صار أصحاب الجد محبوسون لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء
في أموالهم فحبسوا للحساب لما منعوه، فأما من أدى حقوق
الله في ماله فإنه لا يحبس عن الجنة إلا أنهم قليل إذا
أكثر شأن أهل المال تضييع حقوق الله تعالى فيه لأنه محنة
وفتنة ألا ترى إلى قوله: «وكان عامة من دخلها المساكين
وهذا يدل على أن الذين يؤدون حقوق الله في المال ويسلمون
من فتنة هم الأقلون اهـ. وقيل إنهم محبوسون لتسبقهم
الفقراء بخمسمائة عام كما ورد ذلك في الحديث، ثم هو في بعض
النسخ مضبوط بنصب أصحاب فيقدر له فعل عام فيه: أي ورأيهم
وبالواو في محبوسون فيكون ذلك على تقدير مبتدأ فيكون
استئنافاً بيانياً، كأن سائلاً يسأله عن شأن أصحاب الجد
فأجاب بأنهم محبوسون (غير) بالنصب وفي رواية إلا (أن أصحاب
النار) أي المستحقون لها بكفر أو معاصي من أصحاب الجد (قد
أمر بهم إلى النار) والجملة مضاف إليها إذا الفجائية
(وقعت على باب النار) فكشف لي عن أهلها (فإذا عامة من
دخلها) مبتدأ خبره النساء هذا باعتبار أول الأمر فلا ينافي
خبر «يمشي الرجل من أهل الجنة: أي يأوي على ثنتين وسبعين
زوجة، ثنتان من بني آدم، وسبعون من الحور العين» لأن هذا
باعتبار الآخرة، فالنساء أكثر أهل النار ابتداء وأكثر أهل
الجنة انتهاء (متفق عليه) فأخرجه البخاري في «صحيحه» في
بابي النكاح والرقاق ومسلم في آخر كتاب الدعوات،
(3/64)
وأخرجه أحمد والنسائي في عشرة النساء،
واستدل بحديث الباب على فضل الفقر على الغنى. وتعقب بأنه
ليس فيه أكثر من بيان أن الفقراء في الجنة أكثر من
الأغنياء، وليس فيه أن الفقر أدخلهم الجنة إنما دخلوها
بصلاحهم مع الفقر، فالفقير إذا لم يكن صالحاً لا فضل فيه.
قال العلقمي: ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع من
الدنيا، كما أن فيه تحريضاً على الأغنياء بأمر الدين لئلا
يدخلوا النار اهـ. (والجد بفتح الجيم) وتشديد الدال
المهملة (الحظ والغنى) ويطلق على أبي الأب وعلى أبي الأم
وعلى العظمة ومنه «تعالى جد ربنا» وعلى القطع وفي
«القاموس» أنه يطلق أيضاً على الرجل العظيم الحظ وعلى
الرزق وعلى شاطىء النهر اهـ. أما الجد بالكسر فالاجتهاد
(قوله محبوسون: أي لم يؤذن لهم بعد في دخول الجنة) إما
لوقوفهم للحساب وإما ليسبقهم إليها صالحو الفقراء كما
تقدم.
2588 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لم
يتكلم في المهد إلا ثلاثة) قال الزركشي: أي من بني
إسرائيل، وإلا فقد تكلم في المهد جماعة غيرهم ففي مسلم في
قصة أصحاب الأخدود «أن امرأة جيء بها لتلقى في النار لتكفر
ومعها صبيّ مرضع فتقاعست، فقال: يا أماه اصبري فإنك على
الحق» قلت: وقد تقدم الحديث والكلام عليه في باب الصبر
قال: ولأحمد والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً: «تكلم في
المهد أربعة، فذكر منهم شاهد يوسف وابن ماشطة فرعون لما
أراد فرعون إلقاء أمه في النار فقال اصبري» . وأخرج
الثعلبي عن الضحاك أن يحيى تكلم في المهد، وفي تفسير
البغوي أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد، وفي سير الواقدي
أن نبينا تكلم في أوائل ما ولد. وقد تكلم في زمنه مبارك
اليمامة وهو طفل وقصته في الدلائل للبيهقي. قال
(3/65)
الحافظ في «فتح الباري» : على أنه اختلف
فيشاهد يوسف، فقيل كان صغيراً، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن
ابن عباس وسنده ضعيف، وبه قال الحسن وابن جبير، وأخرج عن
ابن عباس أيضاً ومجاهد أنه كان ذا لحية، وعن قتادة والحسن
أيضاً أنه كان حكيماً من أهلها اهـ. قال السيوطي في
«التوضيح» بعد ذكر ما ذكر: فكملوا عشرة، وقد نظمها في
أبيات وقد تقدمت عنه في باب الصبر، وقد نظمت أسماءهم
بقولي:
تكلم في المهد طه كذا
خليل ويحيى وعيسى ومريم
وشاهد يوسف مبري جريج
وطفل لدى النار لما تضرم
وطفل ابن ماشطة قد عدت
لفرعون فيما مضى من أمم
وطفل عليه أتوا بالأمه
يقولون تزني ولما تكلم
كذلك في عهد خير الورى
مباركهم وبه يختتم
(عيسى) اسم عبراني، وزعم أنه مأخوذ من العيس أحد ألوان
الإبل لحمرة فيه رده البيضاوي في تفسير سورة آل عمران بأنه
تكلف لا دليل عليه (ابن مريم) إذ قال وهو في المهد كما
أخبر الله عنه «إني عبد ا» الآية (وصاحب جريج) بجيمين مصغر
(وكان جريج رجلاً عابداً) وكان في أول أمره تاجراً، وكان
يزيد مرة وينقص أخرى فقال: ما في هذه التجارة خير لألتمس
تجارة في خيرمن هذه/ فبنى صومعة وترهب فيها كذا في رواية
أحمد، فدل ذلك على أنه كان بعد عيسى ومن أتباعه، لأنهم
الذين ابتدعوا الترهيب وحبس النفس في الصوامع (فاتخذ
صومعة) بفتح المهملة والميم وسكون الواو بينهما: وهي
البناء المرتفع المحدد أعلاه ووزنها فوعلة من صمعت: إذا
دققت لأنها دقيقة الرأس (فكان فيها) بعبد الله مؤثراً
للخلوة والعزلة (فأتته أمه) قال الحافظ في «فتح الباري» :
لم أقف في شيء من الطرق على اسمها (وهو يصلي) حالية من
ضمير المفعول مقرونة بالواو والضمير معاً (فقالت: يا جريج)
زاد في رواية أحمد «أشرف عليّ أكلمك أنا أمك» وفي حديث
عمران بن حصين «وكانت أمه تأتيه فتناديه فيشرف عليها
فتكلمه، فأتته يوماً وهو في صلاته» (فقال: أي)
(3/66)
بفتح الهمزة وسكون اليا لنداء القريب وهو
تعالى أقرب من كل قريب بعلمه وكرمه وفي نسخة بدل: أي يا
(ربّ أمي وصلاتي) أي اجتمع على إجابة أمي وإتمام صلاتي
فوفقني لأفضلهما، زاد في رواية الأعرج عند الإسماعيلي
«أوثر صلاتي على أمتي، ذكره ثلاثاً» (فأقبل على) إتمام
(صلاته، فانصرفت) ذلك اليوم (فلما كان) أي جريج في زمان
(من العد) اليوم الذي بعد ذلك اليوم الأول (أتته أمه وهو
يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي ربّ أمي وصلاتي، فأقبل على
صلاته) في اليوم الثاني أيضاً (فلما كان من الغد) أي لليوم
الثاني وهو الثالث (أتته فقالت: يا جريج، فقال: يا) وفي
نسخة مصححة أي (ربّ أمي وصلاتي فأقبل على صلاته) قال
الحافظ في «فتح الباري» : وكل ذلك أي الكلام الوارد عنه في
الصلاة محمول على أنه قاله في نفسه: أي أو ما في معناه من
تحريك اللسان من غير أن يسمع نفسه ولم يتحرك لسانه ثلاث
حركات متوالية لا أنه نطق به: أي وأسمع نفسه وهو صحيح
السمع سالم من اللغط ونحوه. قال: ويحتمل أن يكون نطق به
على ظاهره لأن الكلام كان مباحاً عندهم وكذا في صدر
الإسلام.
قال: وقد سبق حديث يزيد بن حوشب عن أبيه رفعه «لو كان جريج
عالماً لعلم أن إجابته أمه أولى من صلاته» اهـ. (فقالت:
اللهم لاتمته) بضم الفوقية الأولى (حتى ينظر إلى وجوه
المومسات) وفي رواية للأعرج وأبي سلمة عن أبي هريرة حتى
ينظر في وجوه المياميس» وفي حديث عمران بن حصين «فغضبت
وقالت: اللهم لا يموتنّ جريج حتى ينظر في وجوه المومسات»
(فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغيّ) أي
زانية، قال العكبري: في وزنه وجهان: فقيل فعول فأعل إعلال
صبيّ ولذا لم يلحق الثناء كما لا يلحق في امرأة صبور
وشكور، وقيل فعيل بمعنى فاعل، ولم تلحقه التاء أيضاً لأنها
للمبالغة أو لأنه على النسب مثل طالق وحائض ملخصاً، وتقدم
فيه مزيد في باب طرق الخير (يتمثل بحسنها) بضم التحتية
وفتح الفوقية وتشديد المثلثة بعد الميم: أي يضرب بحسنها
لكماله المثل (فقالت: إن شئتم لأفتننه) في رواية وهب بن
جرير بن حازم عن أبيه عند أحمد زيادة «فقالوا قد شئنا» قال
الحافظ: ولم أقف على اسم هذه المرأة لكن في حديث عمران بن
حصين أنها كانت بنت ملك القرية، وفي رواية الأعرج «وكان
يأوي إلى صومعته راعية
(3/67)
ترعى الغنم» ونحوه في رواية أبي رافع عند
أحمد، وفي رواية أبي سلمة «وكان عند صومعته راعي ضأن
وراعية معز» ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من
دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة وكانت تعمل الفساد إلى أن
ادعت أنها تستطيع أن تفتن جريجاً فاحتالت بأن خرجت في صورة
راعية ليمكنها أن تأوي إلى ظلّ صومعة جريج (فتعرضت له فلم
يلتفت إليها) لعلمه بما يترتب
على النظر إلى حسان الصور من الضرر (فـ) ـلما لم يفتتن
ووعدتهم بذلك منه ولم تقدر عليه (أتت راعياً كان يأوي إلى
صومعته) أي صومعة جريج (فأمكنته من نفسها) لتحمل فتنسبه
إلى جريج فتصدق نفسها فيما وعدت به من فتنته وا كافي عبده
المتوجه إليه (فوقع عليها) أي جامعها (فحملت فلما ولدت) أي
بعد انقضاء مدة حملها على العادة (قالت: هو من جريج) فيه
حذف تقديره: فسئلت ممن هو؟ فقالت من جريج. زاد في رواية
أحمد «فأخذت وكان من زنى منهم قتل، فقيل لها: ممن هذا؟
فقالت: من من صاحب الصومعة وفي رواية الأعرج «فقيل لها من
صاحبك؟ قالت: جريج الراهب نزل إليّ فأصابني» زاد أبو سلمة
في رواية «فذهبوا إلى الملك فأخبروه فقال: أدركوه فأتوني
به (فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته) وفي رواية أبي رافع
«فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم
فأقبلوا يهدمون ديره» وفي رواية حديث عمران «فما شعر حتى
سمع الفؤوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم: ويلكم ما لكم؟ فلم
يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى» (وجعلوا يضربونه)
وفي رواية أبي رافع: «فقالوا: أي جريج انزل فأتى يقبل على
صلاته فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في
عنقه وعنقها حبلاً فجعلوا يطوفون بهما في الناس» وفي رواية
أبي سلمة: «فقال له الملك: ويحك يا جريج كنا نراك خير
الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه وفي حديث عمران
«فجعلوا يضربونه ويقولون: مرائي تخادع الناس بعملك» وفي
رواية الأعرج «فلما مرّ نحو بيت الزواني ضحك، فقالوا: لِمَ
تضحك؟ حتى من الزواني؟» (فقال: ما شأنكم فقالوا: زنيت بهذه
البغيّ فولدت) بفتح اللام (منك قال: أين الصبيّ، فجاءوا
به) أي أحضروه (فقال: دعوني) أي من السب والضرب (حتى أصلي)
ففيه اللجأ إلى الصلاة عند الكرب.B
وفي الحديث «كان إذا حزنه أمر بادر إلى الصلاة» أورده
السيوطي في سورة البقرة من
(3/68)
الجلالين ولم يعزه لمخرج ولا عين صحابيه.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث «الكشاف» : رواه
الطبراني في «تفسيره» من تفسير حذيفة بهذا اللفظ أخرجه
أحمد وأبو داود عن حذيفة بلفظ «كان إذا حزبه أمر صلى»
وأخرجه البيهقي في قصة الخندق مطولاً اهـ. (فصلى) ركعتين
كما في حديث عمران وعند وهب بن جرير فقام وصلى ودعا (فلما
انصرف) أي من صلاته (أتى الصبي فطعن في بطنه) قال الحافظ
في مرسل الحسن عن ابن المبارك في البرّ والصلة أنه سألهم
أن ينظروه فأنظروه فرأى في المنام من أمره أن يضرب في بطن
امرأة فيقول أيتها السخلة من أبوك؟ ففعل (فقال: يا غلام من
أبوك؟ قال: فلان الراعي) في رواية أبي رافع «ثم مسح رأس
الصبي فقال: من أبوك؟ قال: راعي الضأن» وفي روايته عند
أحمد «فوضع أصبعه على
بطنها» وفي رواية أبي سلمة «فأتى بالمرأة والصبيّ وفمه في
ثديها فقال له جريج: يا غلام من أبوك؟ «فنزع الغلام فاه من
الثدي وقال: راعي الضأن» قال الحافظ: ولم أقف على اسم
الراعي، ويقال إن اسمه صهيب، وأما الابن ففي رواية البخاري
بلفظ فقال «يا بابوس» وتقدم شرحه وأنه ليس اسمه وإنما
المراد به الصغير، وفي حديث عمران «
ثم انتهى إلى شجرة فأخذ منها غصناً ثم أتى الغلام وهو في
مهده فضربه بذلك الغصن فقال: من أبوك؟» وفي «تنبيه
الغافلين» للسمرقندي بغير إسناد «أنه قال للمرأة: أين
أصبتك؟ قالت: تحت الشجرة، فأتى تلك الشجرة فقال لها: يا
شجرة أسألك بالذي خلقك: من زنا بهذه المرأة؟ فقال كل غصن
منها راعي الغنم» ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما
ذكر من مسح رأس الصبي ووضع الأصبع على بطن أمه ومن طعنه
بأصبعه ومن ضربه بطرف العصى التي كانت معه وأبعد من جمع
بينهما بتعدد القصة وأنه استنطقه وهو في بطنها مرة قبل أن
تلد ثم استنطقه بعد أن ولد اهـ. (فأقبلوا على جريج يقبلونه
ويتمسحون به) عند وهب بن جرير «فوثبوا إلى جريج فجعلوا
يقبلونه» وزاد «الأعرج» فأبرأ الله جريجاً وأعظم الناس أمر
جريج (وقالوا نبني لك صومعتك) أي ما هدمناه منها كما في
رواية أبي رافع (من ذهب؟ قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت
ففعلوا) زاد في رواية أبي سلمة «فرجع إلى صومعته فقالوا:
با مم ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليّ أمي»
وفي الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع لأن
الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبرّها واجب. قال
المصنف وغيره: إنما دعت عليه لأنه
(3/69)
ان يمكنه تخفيف صلاته وإجابتها، لكن لعله
خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا تشتاق
إليه فتزوره وتقنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف
ويجيبها لأنه خشي أن ينقطع خشوعه. وتقدم حديث يزيد بن حوشب
عن أبيه مرفوعاً «لو كان جريج فقيهاً لعلم أن إجابة أمه
أولى من عبادة ربه» أخرجه الحسن بن سفيان. وهذا إذا احتمل
إطلاقه استفيد منه إجابة أمه أولى من عبادة ربه» أخرجه
الحسن بن سفيان. وهذا إذا احتمل إطلاقه استفيد منه جواز
قطع الصلاة مطلقاً لإجابة نداء الأم فرضاً كانت أو نفلاً،
وهو وجه في مذهب الشافعي حكاه الروياني. والأصح عند
الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلاً وعلم تأذى الوالد بالترك
وجبت الإجابة وإن كانت فرضاً وضاق الوقت لم تجب الإجابة
وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين وخالفه غيره لأنها تلزم
بالشروع. وعند المالكية أن إجابة الوالد أفضل من التمادي.
وحكى القاضي أبو الوليد أن ذلك يختص بالأم دون الأب. وعند
ابن أبي شيبة مرسل عن محمد بن المنكدر ما يشهد له، وقال به
مكحول. وقيل إنه لم يقل به من السلف غيره. وفي الحديث
أيضاً عظم برّ الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد
معذوراً لكن يختلف الحال في ذلك بحسب المقاصد. وفيه الرفق
بالتابع لأن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت
به خاصة، ولولا طلبها الرفق بالتابع لأن أم جريج مع غضبها
منه لم تدع عليه إلا بما دعت به مع الله لا تضرّه الفتن.
وفيه قوّة يقين جريج وصحة رجائه بنطق ما استنطقه، وفيه أن
الله يجعل لأوليائه مخارج عند ابتلائهم وإنما يتأخر ذلك عن
بعضهم في بعض الأوقات تهذيباً وزيادة في الثواب، وفيه
إثبات كرامات الأولياء ووقوع الكرامة لهم باختيارهم
وطلبهم، وفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافاً لمن زعم
ذلك وإنما الذي يختص بها الغرّة والتحيل في الآخرة اهـ.
ملخصاً من «الفتح» (وبينما) أصله بين فأشبعت الفتحة فتولدت
الألف وكفت عن اضافته للمفرد وأضيف للجمل (صبي يرضع من
أمه) قال الحافظ: لم أقف على اسم الصبيّ ولا على اسم أمه
ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة المذكورة (فمر رجل) في
رواية خلاس عن أبي هريرة عند أحمد «فارس متكبر» (راكب على
دابة فارهة وشارة) بفتح الراء وسيأتي ضبطها وضبط الفارهة
ومعناهما
في الأصل (حسنة) أي منظر أبهى وملبس سنيّ (فقالت أمه:
اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي) بفتح المثلثة وسكون
الدال المهملة
(3/70)
وتخفيف الياء قال في «الصحاح» يذكر ويؤنث
وهي للمرأة والرجل أيضاً/ والجمع أثد وثدىً على فعول وثدي
أيضاً بكسر المثلثة اتباعاً لما بعدها من الكسر اهـ. وفي
«التهذيب» للمصنف مثله. ثم نقل عن ابن فارس اختصاص الثدي
بالمرأة ويقال لذلك من الرجل ثندوة بفتح الثاء بلا همز
وثندؤة بالضم والهمز فأشار إلى تخصيصه وقد ثبت في الحديث
الصحيح «أن رجلاً وضع ذاب سيفه بين ثدييه» (وأقبل إليه
ونظر إليه) أي معتبراً لحاله بالسرّ الذي ألهمه الله إياه
(فقال: اللهم لا تجعلني مثله) أي في الجبروت والتكبر وإن
كان حسناً في المنظر فلا مدار على حسن الصورة بل على نور
الباطن وأنوار السريرة (ثم أقبل على ثديه) يرضعه (فجعل
يرتضع) ومرّوا وفي باب بدء الخلق من البخاري ومرّ بالمبني
للمجهول (بجارية وهم يضربونها) وعند البخاري بأمة وعند أحد
تضرب. قال الحافظ: وقع في رواية خلاس أنها كانت حبشية أو
زنجية. وفي رواية الأعرج عن أبي هريرة عند البخاري
«يجرراها» بجيم مفتوحة وتشديد الراء الأولى ويلعب بها وهو
معنى قوله في رواية البخاري «فجروّها حتى ألقوها»
(ويقولون: زنيت وسرقت) بكسر التاء فيهما للواحدة المخاطبة
(وهي تقول حسبي ا) أي بحسبي أي كافيّ (و) هو (نعم الوكيل)
وتقدم بسط فيها أوائل الكتاب، اكتفت بهذا الذكر عن تبرئتها
لنفسها ونفي ما رموها به من الزنا والسرقة علماً بأن من
اعتمد على مولاه كفاه ما أهمه من أمر دنياه وأخراه قال
تعالى:
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق: 3) وتقدم في باب
اليقين والتوكل عن ابن عباس حديث كان آخر قول إبراهيم حين
ألقي في النار: حسبي الله نعم والوكيل (فقالت أمه) لقصر
نظرها على الظاهر (اللهم لا تجعل ابني مثلها) أي في كونه
حقيراً يضرب لفعل السوء (فترك) الابن (الرضاع ونظر إليها)
فألهمه الله أنها بريئة مما رميت به ومظلومة فيما يفعل بها
(فقال: اللهم اجعلني مثلها) أي في البراءة من مزاولة
المعاصي والوقوع فيها لا مثلها في الاتهام بما لم أفعل
لأنه من باب تمني البلاء وهو منهيّ عنه كما في خبر «لا
تمنوا لقاء العدوّ» الحديث (فهنالك) أي في ذلك الحال
(تراجعا الحديث) أي سألته عن
(3/71)
سبب مخالفته لها (فقالت) مخاطبة له لما صدر
منه من المعارضة والمخالفة لها (مرّ رجل حسن الهيئة) هو
بمعنى قوله في رواية السابقة راكب دابة فارهة وشارة حسنة
(فقلت) اللهم اجعل ابني مثله) حسن المنظر جميل الهيئة
(فقلت) بفتح التاء ضمير المخاطب (اللهم لا تجعلني مثله
ومروا بهذه الأمة) لعلها كانت بالقرب لم تبعد حال كلامها
معه وإن كانت قد ذهبت. فالإتيان باسم الإشارة الموضوع
للقريب لقرب القصة بالنسبة لما قبلها (وهم يضرونها ويقولون
زنيت وسرقت. فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها. فقلت: اللهم
اجعلني مثلها) فأجابها ببيان سبب ذلك (قال) وهو استئناف
بياني كأنه قيل: ماذا قال الصبي عند قول أمه له ما ذكر؟
فقال قال: (إن ذلك الرجل كان جباراً) .
وفي رواية أحمد «يا أماه أما الراكب ذو الشارة فجبار من
الجبابرة» وفي رواية الأعرج «فكأنه كافر» في «مختصر
القاموس» «الجبار الله تعالى» وكل عات وقلب لا تدخله
الرحمة والقتال في غير حق والعظيم القوي الطويل جبار اهـ.
وظاهر أنه محتمل هنا لكل المعاني الأخيرة لاحتمال أنه
موصوف بكل منها (فقلت: اللهم لا تجعلني مثله) في الجبروت
فإنه سبب للقصم والهلاك في الدين (وإن هذه) أي الأمة
الحاضرة أو التي في معنى الحاضرة لقرب قصتها (يقولون) أي
لها (زنيت و) هي (لم تزن) فهي في محل الحال على تقدير
المبتدأ أو معترضة بين المتعاطفين لتبرئتها مما رميت به
(و) يقولون (سرقت) بكسر الفوقية فيه وفيما قبله (ولم تسرق)
ويجوز كونها معترضة أيضاً إن وقوع الجملة المعترضة في آخر
الكلام كما أشار إليه القاضي البيضاوي في «التفسير» في
نظيره (فقلت: اللهم اجعلني مثلها) أي في السلامة من الذنب
والبراءة من وصمته: قال الحافظ في «الفتح» : في الحديث أن
نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال الظاهر فتعاف سوء الحال،
بخلاف أهل التحقيق فوقوفهم مع الحقيقة في الباطن فلا
يبالون بذلك مع حسن السريرة كما قال تعالى حكاية عن أصحاب
قارون حيث خرج عليهم {قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارن
... وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير} (القصص:
79، 80) وفيه أن البشر طبعوا على إيثار الأولاد على النفس
بالخير لطلب
(3/72)
المرأة الخير لابنها ودفع الشرّ عنه ولم
تذكر نفسها (متفق عليه) قال الحافظ في باب بدء الخلق من
«فتح الباري» : حديث أبي هريرة عن جرير، ورواه عنه محمد بن
سيرين كما هنا وفي باب المظالم. ورواه عنه الأعرج كما في
أواخر الصلاة أو أبو رافع عند مسلم وأحمد وأبو سلمة وهو
عند أحمد، ورواه عن النبي مع أبي هريرة عمران بن حصين اهـ.
قال الحافظ المزي في «الأطراف» : أخرجه مسلم في الاستئذان
عن شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن
ثابت البناني عن أبي رافع عن
أبي هريرة، وتعقبه الحافظ في «النكت الظراف» بأنه لم يخرجه
في الاستئذان إنما هو في البرّ والصلة وقد اعترض مغلطاي
على المزي فقال: عزا هذا ظناً للاستئذان. وعزى حديث مسلم
من رواية جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة
للأدب والواقع إنما في مسلم في موضع واحد يعني إن كان
الاستئذان من جملة الأدب فينبغي أن يقول فيهما إما
الاستئذان وإما الأدب، وكتاب الأدب قبيل كتاب البرّ والصلة
وبينهما الرؤيا ثم المناقب، فإن كان الذي يعبر عن الصلة
والبر بالأدب فكان ينبغي أن يقول الأدب اهـ. (المومسات بضم
الميم الأولى وإسكان الواو وكسر الميم الثانية وبالسين
المهملة وهن الزواني) ويجمع في التكسير على مواميس
(والمومسة الزانية) وفي «الصحاح» : المومسة الفاجرة وهم
أعم من قوله هنا الزانية إلا أن يكون مراداً منه ذلك
(وقوله دابة) بالجرّ على الحكاية وإن كانت لكونها في غير
الاستفهام شاذة ويجوز الرفع ومن أولى (فارهة بالفاء)
والراء والهاء وبعدها تاء التأنيث (أي حاذقة نفيسة) وفي
«الصحاح» الفاره الحاذق بالشيء اهـ. وكأنه أخذ النفاسة من
مقام المدح وأنه لازم الحذف عادة (والشارة بالشين المعجمة
وتخفيف الراء: وهي الجمال الظاهر في الهيئة والملبس) زاد
في «فتح الباري» حتى يتعجب منه وعليه فيقدر في الحديث
مضاف: أي وذو شارة حسنة. وقد جاء في رواية البخاري إذ مرّ
بها راكب ذو شارة، قال في «الفتح» : أي صاحب جيش اهـ.
وعليه فيكون من حذف الجار وإبقاء عمله: أي وفي شارة حسنة
ووصفها عليه بالمؤنث باعتبار لفظ شارة (ومعنى) تراجعا
الحديث: أي (تراجع الصبي وأمه) حديث الصبي وحديثها الأنسب
تقديم حديثها على حديثه وكان تأخيره لشرف الذكر (والله
أعلم) .
(3/73)
33 - باب ملاطفة اليتيم
هو صغير لا أب له. قال ابن السكيت: اليتيم في الناس من قبل
الأب وفي البهائم من قبل الأم. قال ابن خالويه: وفي الطير
بفقدهما لأنهما يحضنانه ويرزقانه. قال شيخ الإسلام زكريا
في «شرح التنقيح» بعد نقله وتعليله: لا يأتي في جميع
الطيور اهـ. (والبنات) أي بنات الإنسان نفسه ومثلهن فيما
ذكر بنات غيره والتنصيص عليهن لأن بعض الناس يضجر منهن
ويقسو عليهن والبنات جمع مؤنث سالم واحده بنت والتاء التي
في المفرد حذفت كالتاء التي في مسلمة فهي غير التي في
مسلمات فلذا نصب بالكسرة قال تعالى: {أصطفى البنات}
(الصافات: 153) (وسائر الضعفة) من العبيد والإماء
(والمساكين) أي المحتاجين فالمراد منه ما يشمل الفقراء قال
الشافعي رضي الله عنه: الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا،
وإذا افترقا اجتمعا. ثم المسكين مفعيل من الكسون. قال
القرطبي: وكأنه من قلة سكنت حركاته، قال تعالى: {أو
مسكيناً ذا متربة} (البلد: 16) أي لاصقاً بالتراب
(والمنكسرين) أي لطارق حل بهم (والإحسان إليهم) ببذل الندى
أو دفع الأذى أو كلمة طيبة: كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو
دعاء لهم قال تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}
(البقرة: 195) (والشفقة) أي الحنوّ (عليهم) والرحمة لهم،
قال تعالى في وصف نبيه: {وكان بالمؤمنين رحيماً} (الأحزاب:
43) وعلامة ذلك النصح لهم وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه من
وجوه الخير (والتواضع) قال الجنيد: هو خفض الجناح ولين
الجانب (معهم وخفض الجناح لهم) هو عطف تفسيري إن عطف على
التواضع وإن عطف على الملاطفة فمن عطف الخاص على العام،
وخفض الجناح كناية عن التواضع قاله أبو
(3/74)
حيان في «النهر» .
(قال الله تعالى) مخاطباً لنبيه ومحرضاً له على مكارم
الأخلاق ومحاسنها ( {واخفض جناحك للمؤمنين} ) أي لين جانبك
لم، مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحطّ.
(وقال الله تعالى: {واصبر نفسك} ) أي احبسها ( {مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي} ) أي يعبدونه في سائر الأوقات
فهما كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما،
أو خص الزمان بالذكر لغلبة الشغل فيهما. فإذا لم يغفلوا
فيهما مع ذلك فأن لا يغفلوا في غيرهما أولى ( {يريدون
وجهه} ) أي ذاته جملة في محل الحال من فاعل يدعون ( {ولا
تعد عيناك عنهم} ) أي لا تجاوزهم ناظراً إلى غيرهم من ذوي
الهيئات من رؤساء قريش ( {تريد زينة الحياة الدنيا} ) جملة
في محل الحال من الضمير المجرور وجاز مجيئها منه لأن
المضاف بعضه، وتقدم بيان سبب نزول الآية وبعض ما يتعلق بها
في الباب السابق وسيأتي فيها فوائد في حديث سعد.
(وقال تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} ) قال أبو حيان: أي
لا تحقره وكأنه تفسير باللازم إذ يلزم منها قهره على ماله
وغيره. قال البيضاوي: أي لا تغلبه على ماله لضعفه. وقرىء:
«فلا تكهر» أي لا تعبس في وجهه ( {وأما السائل} ) ظاهره
المستعطي ( {فلا تنهر} ) أي لا تزجره لكن أعطه أورده رداً
جميلاً.
(وقال تعالى: {أرأيت} ) استفهام معناه التعجب كذا قال
البيضاوي، وقال أبو حيان: الظاهر أن أرأيت هنا بمعنى
أخبرني فيتعدى لمفعولين أحدهما الذي والآخر محذوف: أي أليس
مستحقاً للعذاب اهـ. ( {الذي يكذب بالدين} ) بالجزاء أو
الإسلام والذي يحتمل الجنس والعهد، ويؤيد الثاني قوله: (
{فذلك الذي يدع اليتيم} ) أي يدفعه دفعاً عنيفاً وهو أبو
جهل كان وصياً ليتيم فجاءه عرياناً يسأله من مال نفسه
فدفعه. أو أبو سفيان نحر جزوراً فسأله يتيم لحماً فقرعه
بعصاه أو الوليد بن المغيرة أو منافق بخيل
(3/75)
وقرىء يدع أو يتركه ( {ولا يحض} ) أهله
وغيرهم ( {على طعام المسكين} ) أي لا يفعل ذلك بنفسه ولا
يحرض عليه غيره لعدم اعتقاده بالجزاء وفي إضافة الإطعام
إلى المسكين دليل على أنه مستحقه. ولما ذكر أولاً عموم
الكفر وهو التكذيب ذكر ما يترتب عليه من الإيذاء والمنع من
النفع وذلك بالنسبة إلى الخلق، ثم ذكر ما يترتب عليه من
الخالق بقوله: {فويل للمصلين} إلى آخر السورة.
2601 - (وعن سعد بن أبي وقاص) مالك القرشي الزهري تقدمت
ترجمته (رضي الله عنه) في باب الإخلاص (قال: كنا مع النبي
ستة نفر) إما أن يكون خيراً ومع حال منه: أي مصاحبين له أو
بالعكس، والنفر بالتحريك: عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة قاله
في الصحاح وفيه أيضاً: والرهط ما دون العشرة من الرجال ليس
فيهم امرأة اهـ. (فقال المشركون) أي أشرافهم، فقيل هو أمية
بن خلف الجمحي ومن تابعه، ففي أسباب النزول للواحدي عن ابن
عباس في قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا}
(الكهف: 28) قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي وذلك أنه دعا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر كرهه من طرد
الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله {ولا تطع من
أغفلنا قلبه عن ذكرنا} (الكهف: 28) وفيه أيضاً عن سلمان
الفارسي قال: «جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم
فقالوا: يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا
هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء
المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها،
جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: {واتل
ما أوحي إليك} (الكهف: 27) إلى قوله: {إنا أعتدنا
للظالمين} (الكهف: 29) الحديث أورد ذلك عم والدي الشيخ
العلامة الجليل الشيخ أحمد بن محمد علان الصديقي البكري في
كتابه الذي جعله في علوم القرآن وغيرها وسماه مجموعة
العلوم وأودعها مائة وسبعين علماً ومن خطه نقلت. وأما العم
فهو العارف با تعالى الشيخ العلامة أحمد بن إبراهيم بن
محمد بن علان الصديقي النقشبندي رحم الله الجميع ونفع بهم
وأمدني بمددهم آمين فتحصل
(3/76)
منه أن بعض المشركين قال (للنبي: اطرد
هؤلاء) أي الستة المذكورين وكان ذلك أنفة منهم من مجالستهم
لاستصغارهم واستقذارهم لاحتقارهم لهم لفقرهم وخمولهم في
الدنيا ونسب القول في الحديث للكل لرضاهم به (لا يجترءون)
أي لئلا يحصل
منهم الجرأة (علينا) فنعير بذلك ثم بين النفر الستة بقوله:
(وكنت أنا وابن مسعود) الهذلي (ورجل من هذيل) لم أرَ من
سماه من شرح صحيح مسلم (وبلال) مولى أبي بكر (ورجلان لست
أسميهما) كأنه يعني أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما ولعل
وجه إبهامه لهما استبعاد القوم طلب أشراف الكفار لطردهما
فإنهما كانا من أعيان قريش ومشاهيرهم، ولعل طلب طردهما إن
كان فلمخالفتهما لهم في الإسلام فأرادوا بذلك التعريض إلى
حقارتهم ولا يطفىء أنوار الله أفراد أعدائه (فوقع في نفس
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع) أي
من طرد أولئك عنه لما علم من كمال أنفسهم ومخالطة الإيمان
لبشاشة قلوبهم فلا يفارقه أحدهم لما نزل وتقريب المشركين
طمعاً في إسلامهم وإسلام قومهم نظير إعطائه الفىء لجمع من
المؤلفة تألفاً له ومنع ذلك عن بعض محتاجي المؤمنين اكتفاء
بما وقر في قلبه من نور الإيمان المغني عن التألف ورأى
النبي أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئاً ولا ينقص لهم قدراً
(فحدّث نفسه) أي بذلك قال القرطبي في «المفهم» : وفي بعض
كتب التفسير أنهم لما عرضوا ذلك على النبي أبى. فقالوا له:
اجعل لنا يوماً ولهم يوماً وطلبوا أن يكتب لهم بذلك فهمّ
النبي بذلك ودعا علياً ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية
(فأنزل ا) : (
{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه}
) فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه وقع الطرد ووصف أولئك
بأحسن أوصافهم، وأمره بأن يصبر نفسه معهم بقبوله: {واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ} فكان رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - إذا رآهم بعد ذلك يقول: مرحباً
بالذين عاتبني الله فيهم وإذا جالسهم لم يقم عنهم حتى
يكونوا هم الذين يبدأون بالقيام وقوله: {يدعون ربهم
بالغداة} بطلب التوفيق والتيسير، وبالعشي يطلب العفو عن
التقصير وقيل معناه: يذكرون الله من بعد صلاة الفجر وصلاة
العصر، وقيل يصلون الصبح والعصر. وقال ابن عباس: يصلون
صلاة الخمس. وقال يحيى بن أبي
(3/77)
كثير: هي مجالسهم الفقهاء بالغداة والعشي.
وقيل يعني به دوام أعمالهم وعبادتهم. رخص طرفي النهار لما
تقدم من أنهما وقتا عمل وشغل فإذا لم يلهوا فيهما ففي
غيرهما أولى. وقوله: {يريدون وجهه} أي يخلصون في عبادتهم
وعملهم تعالى ويتوجهون إليه بذلك لا لغيره ويصح أن يقال
يقصدون بذلك رؤية وجهه الكريم: أي ذاته المقدسة عن صفات
المخلوقين (رواه مسلم) في الفضائل من «صحيحه» ورواه
النسائي في «المناقب» ورواه ابن ماجه في الزهد بنحوه،
ومداره عندهم على سريج بن هانىء بن يزيد بن نهيك الكوفي عن
سعد كما في «الأطراف» للحافظ المزي.
2612 - (وعن أبي هبيرة) بضم الهاء وفتح الموحدة وسكون
التحتية بعدها راء ثم هاء (عائذ) بالعين المهملة وبعد
الألف همزة فذال معجمة (ابن عمرو) بن هلال بن عبيد بن يزيد
بن رواحة بن رايبية بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن ثوره بن
هدمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن مضر
(المزني) بضم الميم وفتح الزاي وبعدها نون: نسبة إلى مزينة
أم عثمان وأخيه أوس ابني عمرو: قاله في «أسد الغابة» (وهو
من أهل بيعة الرضوان) أي من الذين بايعوا النبي بالحديبية
تحت الشجرة على أن لا يفرّوا. وفي رواية على الموت وكانوا
ألفاً وأربعمائة» وفي رواية «وخمسمائة» . وجمع بينهما بأن
المائة المزيدة لعلهم أتباع أولئك/ فأنزل الله تعالى: {لقد
رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح: 18)
فسميت بيعة الرضوان لأنها سبب ذلك تقدمت ترجمته (رضي الله
عنه) في باب الأمر بالمعروف (أن أبا سفيان) صخر بن حرب بن
أمية بن عبد شمس بن عبد مناف (أتى على سلمان) بسكون اللام
وهو الفارسي في السنة الأولى من الهجرة (وصهيب) بن سنان
الرومي (وبلال) مولى الصديق (في نفر) من نفر الصحابة وكان
إتيانه وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية (فقالوا ما
أخذت سيوف الله من عدو ا) يعنون أبا سفيان (مأخذها) أي أنه
لم تعمل فيه سيوف
(3/78)
المسلمين (فقال أبو بكر) الصديق (رضي الله
عنه) تألفاً لأبي سفيان وتعظيماً ليسكن الإيمان في قلبه
ويميل إلى المؤمنين وتوادهم (أتقولون هذا) أي القول، فهو
مفعول مطلق (لشيخ قريش وسيدهم) فإنه كان عقيدهم في الحروب
وإليه مرجعهم فيها لكونه كان أكبر بني عبد مناف حينئذٍ
(فأتى) الصديق (النبي فأخبره) بما وقع من أولئك ومنه في
جوابهم (فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم) أي زجرتهم، أو
أسأت إليهم فتسبب عن ذلك غضبهم؛ ثم بين ما يترتب على غضبهم
مؤكداً بالقسم المقدر المؤذن به اللام في قوله: (لئن كنت
أغضبتهم لقد أغضبت ربك) لأنهم أولياؤه، وفي الحديث
القدسي «ومن عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب» وفي التعبير
بربك المؤذن إلى أنه رباه بنعمه ونقله من حالة إلى حالة
أكمل منها بفضله وكرمه، وذلك مستلزم للمحبة فقد جبل
الإنسان على حب الإحسان، ومن أحبّ شيئاً أحبّ ما يتعلق به
ويرجع إليه وهؤلاء لكونهم جنده وحزبه محبوبون له، فمن
أغضبهم فقد غفل عن ذلك وتعرض لغضب الباري سبحانه وتعالى،
الإيماء إلى طلب محبة أوليائه المؤمنين والتلطف بهم. وهذا
الحديث فيه دلالة على عظم رتبة المذكورين فيه عند الله
تعالى، وفيه احترام الصالحين واتقاء ما يؤذيهم أو يغضبهم
(فأتاهم فقال: يا إخوتاه) يا فيه للنداء للاستغاثة بهم،
وإذا استغيث بالاسم المنادى ولم تدخل عليه لام الجر كيا
لزيد فالأكثر أن يتصل بآخره ألف كقوله:
يا يزيدا الآمل نيل عز
وغنى بعد فاقة وهوان
ولك إذا وقفت حينئذٍ أن تأتي بهاء السكت كذا في التوضيح
وغيره، وحينئذٍ فلعل الصديق وقف على هذا المنادي فلذا أتى
فيه بالهاء أو أنه أتى بها على لغة من يلحقها لغير المندوب
وهي لغة قليلة حكاها ابن السيد في «شرح الجمل» وغيره
(أغضبتكم) أي بما قلته من جهة أبي سفيان (قالوا: لا) أي لم
يحصل لنا من ذلك غضب وذلك لعلمهم بأن الصديق لم يحتقرهم
ولا قصد إيذاءهم، إنما أراد تألفه ليكثر سواد المسلمين
بإيمانه وإيمان تابعيه، وقولهم (يغفر الله لك) جملة دعائية
مزيدة على الجواب. وفي «اللطف واللطائف» للثعالبي «أن
الصديق رضي الله عنه رأى في يد دلال متاعاً فقال: أتبيعه؟
فقال: لا،
(3/79)
يرحمكالله، فقال له الصديق: قل: لا،
ويرحمكالله، لئلا يشتبه الدعاء لي بالدعاء عليّ» وقد نقل
مثله المصنف في «شرح مسلم» فقال: قال القاضي: وقد روي عن
الصديق أنه نهى عن مثل هذه الصيغة وقال: قل وعافاك الله
ولا تزد: أي ولا تقل قبل الدعاء لا، فتصير صورته صورة نفي
الدعاء. وقال بعضهم: قل ويغفر الله لك اهـ. قال بعض
الأدباء: وهي أحسن من واو الأصداغ (يا أخي) وفي تعبيرهم
بهذا اللفظ إيماء إلى سبب عدم تأثرهم من كلامه وحملهم له
على أحسن المحامل، لأن هذا شأن الإخوان وإن قل ذلك في
الكثير من أبناء الوقت والزمان وبا المستعان (رواه مسلم)
في الفضائل من «صحيحه» والنسائي في «المناقب» بنحوه.
فائدة: من فضائل سلمان قوله: «لو كان العلم بالثريا لنا له
سلمان» وفي رواية «لناله رجال من فارس» وقوله: «إن الله
أمرني أن أحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: عليّ وأبو ذر
والمقداد وسلمان» وقول علي رضي الله عنه: «سلمان علم العلم
الأول والآخر بحر لا يترف هو منا أهل بيت» وقوله أيضاً:
سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم ومن فضائل صهيب قوله: «من
كان يؤمن با واليوم الآخر فليحب صهيباً حب الوالدة ولدها»
وقوله: «صهيب سابق الروم وسلمان سابق فارس وبلال سابق
الحبشة» اهـ. ملخصاً من «المفهم» للقرطبي (قوله مأخذها)
قال المصنف ضبطوه بوجهين أحدهما مأخذها بالقصر وفتح الخاء
المعجمة والثاني بالمد وكسر الخاء وكلاهما صحيح (أي لم
تستوف حقها منه) تفسير لمجموع قولهم إن سيوف الله إلخ
(وقوله) أي القائل من النفر، واكتفى به لأن الظاهر من
إخباره عن نفسه وباقي النفر (يا أخي روي بفتح الهمزة وكسر
الخاء) المعجمة (وتخفيف الياء، وروي بضم الهمزة وفتح الخاء
وتشديد الياء) على صيغة التصغير وهو تصغير تحبب وترفق
وملاطفة، وما أحسن قول الشاعر:
ما قلت حبيبي من التحقير
بل يعذب اسم الشخص في التصغير
ثم هذا الذي حكاه المصنف هنا من أنه روي بالوجهين قد
يخالفه قوله في شرح مسلم وأما قوله يا أخي فضبطوه بضم
الهمزة على صيغة التصغير.
(3/80)
2623 - (وعن سهل بن سعد) الساعدي (رضي الله
عنه قال: قال رسول الله: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)
خبر، وقوله في الجنة في محل الحال ويصح العكس، ولعل الأول
أقرب (وأشار) لزيادة التبيين وإدخال المعاني في ذهن السامع
لكونها بصورة المحسوس المدركة عادة (بالسبابة) . وفي رواية
بالسباحة بحاء مهملة بدل الموحدة الثانية وهي التي تلي
الإبهام، سميت بذلك لأنها يسبح بها في الصلاة ويشار بها في
التشهد لذلك وهي السبابة أيضاً لأنها يسب بها الشيطان
(والوسطى) قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل
به فيكون رفيق النبي في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من
ذلك (وفرج) بتشديد الراء أي فرق (بينهما) أي بين السبابة
والوسطى إشارة إلى أن بيت درجة النبي وكافل اليتيم قدر
تفاوت ما بين السبابة والوسطى. قال القرطبي معنى قوله:
«أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» أنه معه فيها وبحضرته
غير أن كل واحد منهما على درجته فيها إذ لا يبلغ درجة
الأنبياء غيرهم ولا يبلغ درجة نبينا أحد من الأنبياء وإلى
هذا المعنى الإشارة بقرانه بين أصبعيه فيفهم من الجمع
المعية والحضور ومن تفاوت ما بينهما اختصاص كل منهما بدرجة
ومنزلة اهـ.
وفي رواية «كهاتين إذا اتقى» أي إذا اتقى الله فيما يتعلق
بحق اليتيم، ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حال دخوله
الجنة لما أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفعه «أنا
أوّل من يفتح باب الجنة فإذا امرأة تبادرني فأقول من أنت؟
فتقول: أنا امرأة قائمة على أيتام لي» ورواته لا بأس بهم،
وقوله تبادرني، أي لتدخل معي أو في أثري، ويحتمل أن يكون
المراد مجموع الأمرين سرعة الدخول وعلوّ المنزلة. قال
الحافظ العراقي لعل الحكمة في تشبيه كافل اليتيم بالنبي في
دخول الجنة أو في علوّ المنزلة أو في القرب منه كونه من
شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلاً
لهم ومعلماً ومرشداً/ وكذا كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا
يعقل أمر دينه بل ولا دنياه فيرشده ويعلمه ويحسن أدبه
فظهرت مناسبة ذلك اهـ. (رواه البخاري) أي في الأدب من
«صحيحه» وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي كلهم عن سهل كما
في «الجامع الصغير» ، قال المزي وأخرجه أبو داود في الأدب
والترمذي في البر (وكافل اليتيم القائم بأموره) ديناً
ودنياً وذلك بالنفقة والكسوة
(3/81)
والتربية والتأديب وغير ذلك، قال في «شرح
مسلم» وهذه الفضيلة تحصل لمن كفل اليتيم من مال نفسه أو
مال اليتيم بولاية شرعية.
2634 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
كافل اليتيم له) الظرف يصح أن يكون حالاً من المضاف إليه
وجاز لكون المضاف عاملاً في المضاف إليه قبل الإضافة فهو
نظير {إليه مرجعكم جميعاً} (يونس: 4) وأن يكون صفة لليتيم
وجاز لأن المحلى بأل الجنسية كالنكرة من جهة المعنى وكونه
له قال في «الكوكب المنير» بأن يكون جداً أو عماً أو أخاً
أو نحو ذلك من الأقارب أو يكون مات أبو المولود فقامت أمه
مقامه بكفالته أو ماتت أمه فقام أبوه مقامها في التربية
اهـ. ومثله في «شرح مسلم» للمصنف وفي شمول الخبر للأخيرة
ما لا يخفى إلا إن كان بطريق القياس على ما تضمنه الخبر إذ
ما فيه ليس بيتيم والله أعلم (أو لغيره) بأن يكون أجنبياً
منه وكافل مبتدأ، وقوله (أنا) مبتدأ ثان (وهو) معطوف عليه،
وقوله (كهاتين في الجنة) خبر أو حال كما عرفته فيما قبله
والمبتدأ وخبره الأول والرابط اسم الإشارة والمشار إليه هو
السبابة والوسطى كما قال (وأشار الراوي وهو) الإمام الجليل
(مالك بن أنس) ابن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله
الفقيه المدني إمام دار الهجرة رأس المتقين وكبير المثبتين
حتى قال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن
عمر، ومن أتباع التابعين مات سنة مائة وتسعة وسبعين، وكان
مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي بلغ تسعين سنة كذا في
«تقريب التهذيب» للحافظ (بالسبابة والوسطى، رواه مسلم) في
أواخر الكتاب (وقوله له أو لغيره معناه قريبه أو الأجنبي
منه) فيه لف ونشر مرتب، فالمراد بقوله له القريب وبقوله
لغيره الأجنبي (فالقريب مثل أن تكفله أمه أو جده أو أخوه
أو غيرهم من قرابته) أي غير الأب ليكون يتيماً (والله
أعلم) .
(3/82)
2645 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله
عنه (قال: قال النبي: ليس المسكين) أي الكامل الممدوح من
هذا النوع الأحق بالصدقة والأحوج إليها (الذي) يسأل و
(ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان) عند سؤاله لأن
المتردد يكون قادراً على تحصيل قوته (إنما المسكين) أي أما
المسكين الكامل (الذي يتعفف) أي يترك السؤال من الناس مع
فقره وليس المراد نفي المسكنة عن الطواف بل نفي كمالها
(متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتابي الزكاة والأطعمة
وأخرجه مسلم في الزكاة.
(وفي رواية في الصحيحين) ورواه كذلك أحمد وأبو داود
والنسائي كما في «الجامع الصغير» كلهم عن أبي هريرة
مرفوعاً (ليس المسكين الذي يطوف) أي يدور (على الناس)
سائلاً وجملة (وترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان)
في محل نصب على الحال أي ليس هو منحصراً في ذلك كما أفاده
الموصول والحال المفيدة للصلة أو الجملة مستأنفة لبيان
حاله (ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه) صفة زائدة على
اليسار المنفي إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغنى به
بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر/ وكأنّ المعنى نفي اليسار
المفيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار (ولا يفطن) بالبناء
للمفعول أي لا يعلم (له) أي لاحتياجه لتعففه وعدم تعرضه
وفي نسخة به بدل اللام (فيسأل الناس) قال الخطابي وغيره:
إنما نفى المسكنة عن السائل الطوّاف لأنه تأتيه الكفاية،
وقد تأتيه الزكاة زيادة عليها فتزول خصائصه ويسقط اسم
المسكنة عنه، وإنما تدوس الحاجة والمسكنة فيمن لا يسأل ولا
يعطف عليه فيعطي.
(3/83)
2656 - (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه
(عن النبي قال: الساعي على الأرملة) هي كما قال الجوهري:
التي لا زوج لها وقد أرملت المرأة إذا مات عنها زوجها، قال
ابن السكيت: الأرامل المساكين من نساء ورجال ويقال لهم وإن
لم يكن فيهم نساء ويقال قد جاءت أرملة من نساء ورجال
محتاجين، قال المصنف: وقيل الأرملة التي فارقها زوجها، قال
ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر
وذهاب الزاد بفقد الزوج، يقال أرمل الرجل: إذا فنى زاده
اهـ. (والمسكين) أي المكتسب لهما ما يمونهما به (كالمجاهد
في سبيل ا) وشبه به لأن القيام على المرأة بما يصلحها
ويحفظها ويصونها لا يتصور الدوام عليه إلا مع الصبر العظيم
ومجاهدة النفس والشيطان فإنهما يكسلان عن ذلك ويثقلانه
ويفسدان النية فيه وربما يدعوان بسبب ذلك إلى السوء ويسؤان
له ولذا قل من يدوم على ذلك العمل وقلّ من يسلم منه فإذا
حصل ذلك العمل حصلت منه الفوائد: كشف كرب الضعفاء وإبقاء
رمقهم وسدّ خلتهم وصون حرمتهم كذا في «المفهم» للقرطبي قال
في مسلم (وأحسبه قال) وفي البخاري في النفقات بدل قوله
وأحسبه، أو التي هي للشك، أي أو قال بدل ذلك (وكالقائم) أي
بالتهجد (الذي) كما في نسخة (لا يفتر، وكالصائم الذي لا
يفطر) أي هو كالملازم للعبادة ليلاً ونهاراً في دوام
الثواب واستمراره بدوام العمل الصالح (متفق عليه) رواه
البخاري في النفقات وفي الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في
الأدب، ورواه الترمذي في البر، وقال حسن صحيح غريب،
والنسائي في الزكاة وابن ماجه في التجارات، ومداره عندهم
على أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة اهـ.
ملخصاً من «الأطراف» للمزي.
2667 - (وعنه) أي أبي هريرة (عن النبي قال: شر الطعام)
أفعل تفضيل حذفت
(3/84)
همزته تخفيفاً وجاءت ثابتة في حديث عن أنس
سئل عن الأكل قائماً فقال: ذلك أشر (طعام الوليمة) قال في
«الصحاح» : هي طعام العرس وسيأتي فيه مزيد (يمنعها)
بالبناء للمفعول (من يأتيها) للحاجة والفاقة وهم الفقراء
وهم الفقراء والمساكين (ويدعى إليها من يأباها) قال
المصنف: معناه الإخبار بما يقع من الناس بعده من مراعاة
الأغنياء في الولائم وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم بطيب
الطعام ورفع مجالسهم وغير ذلك مما هو الغالب في الولائم
(ومن لم يجب الدعوة) بفتح الدال المهملة، قال ابن السيد في
كتاب المثلث الدعوة بالفتح: الدعاء إلى الله تعالى وكذا كل
شيء دعوته وكذا الدعوة إلى الطعام، وبالكسر أن ينتسب الرجل
إلى غير أبيه وغير أهله: وبالضم زعم قطرب: أنها الدعوة إلى
الطعام، ولا أحفظ ذلك من غيره، والذي حكاه اللغويون دعوة
بالفتح اهـ. ملخصاً (فقد عصى الله ورسوله) والمراد منه
الدعوة لوليمة النكاح فإن الإجابة إليها واجبة بالشروط
المعروفة في كتب الفقه (رواه مسلم) .
(وفي رواية في الصحيحين عن أبي هريرة بئس) وهي كلمة لإنشاء
الذم وفاعلها إما اسم ظاهر محلى بأل، ومنه قوله: (الطعام)
واختلف فيها هل هي للجنس أو للعهد أو مضاف لما فيه أل نحو
بئس منزل الأشرار النار، أو ضمير مبهم مفسر باسم نكرة
منصوب على التمييز والمخصوص بالدم هو قوله: (طعام الوليمة)
والوليمة طعام العرس، والذي عند الإملاك نقيعة كذا في
«المصباح» . وفي النجم: الوليمة الطعام المتخذ للعرس، وقال
الماوردي إصلاح الطعام واستدعاء الناس لأجله، ولفظها من
الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان، وهي تقع على كل دعوة
تتخذ لسرور حادث من إملاك وختان وغيرهما لكن استعمالها على
الإطلاق في العرس أشهر، وفي غيره بقيد، فيقال وليمة الختان
وغيره اهـ. فظاهر أن ما في الحديث مما أريد بما فيه مطلق
الطعام المتخذ لأيّ سرور كان وبين سبب الذم على سبيل
الاستئناف البياني بقوله (يدعى) بالبناء للمفعول (إليها
الأغنياء) نائب الفاعل والظرف قبله لغو متعلق بالفعل
(ويترك الفقراء)
(3/85)
أي يمنعون. في «المصباح» يقال ترك حقه إذا
أسقطه اهـ. فيؤخذ من التعبير به أن لهم الحق في ذلك وأن
المانع لهم ساع في إسقاط حقهم. وفي الحديث أن القربة قد
يقترن بها ما يخرجها عن ذلك، وفيه الاحتياط والتحرز عن
الموبقات، وفيه مراعاة الفقراء والتلطف بهم، وفيه النهي عن
الركون إلى الأغنياء وتعظيمهم لغناهم، فقد ورد «من عظم
غنياً لغناه ذهب ثلثا دينه» وذلك لأن أعمال العبادة
باللسان والجنان والأركان فهذا استعمل لغرض نفسه ثلثي ما
يستعمل في العبادة فأثنى على ذلك بلسانه بالباطل وأكرمه
بجوارحه طمعاً فيما عنده وغفله عن أبي الذي ينبغي أن يتوجه
إليه العبد على كل حال هو الله الموصوف بأنواع الكمال،
قالوا: فإن جمع إلى تعظيمه بلسانه وأركانه تعظيمه بجنانه
ذهب جميع دينه والمراد التعظيم المنهى عنه، أما شكره لكونه
مظهراً للفيض الرباني فلا منع منه بل هو مأمور به، قال:
«لا يشكر الله
من لا يشكر الناس» وقال: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه
فإن لم تستطيعوا فكافئوه بالدعاء» .
2678 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه) ناقلاً (عن النبي
قال: من عال جاريتين) أي قام عليهما بالمؤنة والتربية
ونحوهما مأخوذ من العول وهو العون ومنه: «ابدأ بمن تعول»
وفي «المصباح» : عال الرجل اليتيم عولاً من باب قال كفله
وقام به (حتى تبلغا) بالفوقية أي تصيرا بالغتين. قال في
«المصباح» : بلغ الصبي بلوغاً من باب قعد: احتلم وأدرك،
وقال ابن القطاع: بلغ بلاغاً فهو بالغ والجارية بالغ أيضاً
بغير تاء، قال ابن الأنباري يقال جارية بالغ فاستغنوا بذكر
الموصوف وبتأنيثه عن تأنيث صفته كما يقال امرأة حامل، قال
الأزهري: وكان الشافعي يقول جارية بالغ وسمعت العرب تقوله،
وهذا التعليل والتمثيل يفهم أنه لو لم يذكر الموصوف وجب
التأنيف دفعاً للبس اهـ. ثم بلوغها إما بالسن أو بالحيض أو
بالاحتلام ويقدر بلوغها قبل الولادة بستة أشهر، قال
القرطبي ويعني ببلوغهما وصولهما إلى حال يستقلان بأنفسهما
وذلك إنما يكون في النساء إلى أن يدخل بهن أزواجهن فلا
يعني به بلوغهما إلى أن تحيض وتكلف إذ قد تتزوج قبل ذلك
فتستغني بالزوج عن قيام الكافل، وقد تحيض وهي غير مستقلة
بشيء من مصالحها ولو تركت لضاعت وفسدت أحوالها، بل هي في
هذه الحالة أحق بالصيانة والحفظ والقائم عليها لتكمل
صيانتها فيرغب في تزويجها ولهذا المعنى قال علماؤنا لا
تسقط النفقة عن والد الصبية ببلوغها بل بدخول الزوج بها
اهـ. (جاء يوم القيامة) معي وبقربي (أنا وهو)
(3/86)
أي مقرونان فالخبر محذوف وجوباً لدلالة واو
المعية عليه وقيامها مقامه، قال ابن مالك في «شرح المشارق»
: أنا مبتدأ وهو معطوف عليه وخبره هكذا أي المصرح به في
روايته والجملة حال بغير واو أي جاء مصاحباً لي، وقيل فيه
تقديم وتأخير تقديره جاء هو وأنا لأن في جاء ضمير يعود إلى
من فكلمة هو تأكيد له وأنا
معطوف عليه، وقدم لشرفه ولكونه أصلاً في تلك الخصلة اهـ.
وعلى الأول فالخبر مقدر وهو كهاتين وقد صرح في رواية من
حديث أنس وهي عند البخاري وجاءت في حديثه بلفظ «من عال
جاريتين حتى يدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين» قال السيوطي
في «الجامع الصغير» أخرجه مسلم والترمذي وبين ذلك المقدر
قول الصحابي (وضم أصابعه) مبيناً لذلك القرب المشار إليه
بالمقدر (رواه مسلم) في كتاب الأدب ثم فسر المصنف
(الجاريتين) المذكورتين في الخبر بقوله (أي بنتين) ولا
يظهر وجه قصر الجاريتين في الخبر على البنتين فإن الجارية
في اللغة لا تختص بالبنت، قال في «المصباح» : الجارية
السفينة، سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمة جارية
على التشبيه لجريها مسخرة في أشغال مواليها، والأصل فيها
الشابة لخفتها، ثم توسعوا حتى سموا كل أمة جارية وإن كانت
عجوزاً لا تقدر على السعي تسمية بما كانت عليه اهـ. وأصرح
منه ما في «المعرب» للمطرزي الجريّ بوزن الوصي الوكيل لأنه
يجري في أمور موكله والجمع أجرياء، ومنه الجارية لأنثى
الغلام لخفتها وجريانهم بخلاف العجوز اهـ. فلا يختص الفضل
المذكور في الخبر بالبنتين بل يعمهما وغيرهما. ففي «مسند
الفردوس» للديلمي عن أبي المحبر قال: قال رسول الله: «من
عال بنتين أو أختين أو خالتين أو جدتين أو عمتين فهو معي
في الجنة كهاتين» الحديث أخرجه أحمد في «المسند» .
2689 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت) بتسكين التاء
وهي الدلالة على تأنيث الفاعل وقوله (عليّ) بتشديد الياء
متعلق به و (امرأة) فاعل وفي «المصباح» ، الأنثى امرأة،
وفيها لغة أخرى مرأة بوزن تمرة، ويجوز نقل حركة الهمزة إلى
الراء فتحذف وتبقى مرة بوزن سنة، وربما قيل أمرء بغير هاء
اعتماداً على قرينة تدل عن المسمى. قال الكسائي:
(3/87)
سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول: أنا امرء
أريد الخير، بغير هاء وجمعها نساء ونسوة من غير لفظها اهـ.
وهذه المرأة وبنتاها لم أقف على من عينهن من شرّاح
الصحيحين ولا غيرهما. قال الشيخ زكريا لم تعرف أسماؤهن
(ومعها ابنتان) جملة حالية وتعدد الرابط، وقوله (لها) في
محل الصفة وجملة (تسأل) مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن
قائلاً يقول: ما سبب دخولها بمن معها؟ فقالت: تسأل (فلم
تجد عندي شيئاً) من مطلوبها الذي تعرضت له بالسؤال (غير
تمرة واحدة) أكدت مفهوم الواحدة الدال عليها التاء في تمرة
دفعاً لتوهم أنها للتأنيث لا للواحدة و «وواحدة مما انفرد
بها مسلم عن البخاري فلم يذكرها في الحديث في كتاب الزكاة
(فأعطيتها) أي المرأة (إياها) أي التمرة. قال في «فتح
الباري» : فيه مزيد حرص عائشة رضي الله عنها على الصدقة
امتثالاً لوصية النبي لها بقوله: «لا يرجع من عندك سائل
ولو بشق تمرة» رواه البزار (فقسمتها) بتخفيف السين: أي
الثمرة (بين ابنتيها ولم تأكل منها) أي التمرة وفي نسخة
«شيئاً» وهذا منها محتمل لكونه لداعي الثواب لكونه لذلك
ولداعي الطبع أيضاً، فإن طبع الوالد إيثار الولد بذلك،
فيؤخذ منه على الاحتمال الأخير حصول الثواب فيه، ويؤيده
حديث سعد السابق في باب الإخلاص «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي
بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك»
(ثم قامت) أي منصرفة (فخرجت) ولعل حكمة الإتيان بثم في
الأول وبالفاء في الثاني أنها كانت راجية حصول شيء غير
التمرة فأطالت الجلوس لانتظاره، فلما غلب على
ظنها عدم ذلك قامت فعقبت قيامها بخروجها (فدخل النبي
علينا) أي أهل المنزل الشامل لها ولمن عندها من خادم
وجليس، فالنون على حقيقتها ويحتمل أن يكون الضمير استعملته
في نفسها على انفرادها تعظيماً لكونها من أمهات المؤمنين
وزوجات سيد المرسلين لا لذاتها، وقالت بالنظر لذاتها
متواضعة كما هو مقتضى عظيم شأنها ومزيد فضلها (فأخبرته)
وحذفت المفعولين الأخيرين لدلالة السياق عليهما (فقال: من
ابتلي) بضم الفوقية مبنى للمجهول أي امتحن واختبر، وسماه
ابتلاء لموضع الكراهة لهن (من هذه البنات) من فيه بيان
لقوله (بشيء) وهو نائب الفاعل: أي بأنفسهن أو أحوالهن. قال
القرطبي: يفيد بعمومه أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى
واحدة من البنات، فإذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له
زيادة على الستر السبق مع النبي إلى الجنة كما في الحديث
السابق «من عال جاريتين» إلخ (فأحسن إليهن) هذه الجملة عند
مسلم، وعند
(3/88)
البخاري في كتاب الأدب وليست عنده في كتاب
الزكاة، وإحسانه إليهن: صونهن والقيام بمصالحهن والنظر في
أصلح الأحوال لهن، فمن فعل ذلك قاصداً به وجه الله تعالى:
(كنّ له ستراً) أي سبب ستر (من النار) ولم يقل أستاراً لأن
المراد الجنس المتناول للقليل والكثير، ولا شك أن من لم
يدخل النار دخل الجنة، وقد جاء في الحديث الآخر في المرأة
التي قسمت التمرة بين بنتيها «قد أوجب الله لها الجنة
وأعاذها من النار» والحديث عند مسلم (متفق عليه) رواه
البخاري في الزكاة والأدب، ورواه مسلم في الأدب، ورواه
الترمذي في البرّ والصلة وفي «الجامع الصغير» بعد ذكر
المرفوع منه الرمز لمن ذكر وزاد أحمد.
26910 - (و) روي (عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني
مسكينة) مأخوذ من السكون: أي ذهاب الحركة وهو بفتح الميم
في لغة بني أسد وبكسرها عند غيرهم. قال ابن السكِّيت:
المسكين الذي لا شيء له، والفقير الذي له بلغة من العيش،
وكذا قال يونس وجعل الفقير أحسن حالاً من المسكين قال:
وسألت أعرابياً أفقير أنت؟ قال: لا وا بل مسكين، وقال
الأصمعي: المسكين أحسن حالاً من الفقير، وهو الوجه لأن
الله تعالى قال: {أما السفينة فكانت لمساكين} (الكهف: 79)
وكانت تساوي جملة. وقال في حق الفقراء: {لا يستطيعون ضرباً
في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} (البقرة: 273)
وقال ابن الأعرابي: المسكين هو الفقير وهو الذي لا شيء له
فجعلهما سواء، والمسكين أيضاً الذليل وإن كان غنياً
والمرأة مسكينة، والقياس حذف الهاء لأن بناء مفعيل ومفعال
في المؤنث لا تلحقه هاء نحو امرأة معطير ومسكان لكنها حملت
على فقيرة فدخلت الهاء كذا في «المصباح» (تحمل ابنتين لها)
أي تسأل كما تقدم في الرواية قبلها وحذف لدلالة الحال
عليه/ وكذا ظاهر قولها (فأطعمتها ثلاث تمرات) بفتح الفوقية
والميم جمع تمرة بسكونها كسجدة وسجدات (فأعطت كل واحدة
منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة
(3/89)
لتأكلها) بحق القسمة (فاستطعمها) وفي نسخة
فاستطعمتها وفي نسخة فاستطعمتها بإثبات التاء (ابنتاها)
حذف المفعول الثاني لاستطعم: أي استطعمتها التمرة الثالثة
أي طلبتا منها أن تطعمهما إياها (فشقت التمرة) أي شقين
(التي كانت تريد أن تأكلها) وقولها (بينهما) متعلق بمحذوف
أي وقسمتها (فأعجبني شأنها) لما فيه من الإيثار على النفس
بحظوظها ورحمة الصغار ومزيد الإحسان والرفق بالبنات طلباً
لوجه الله تعالى، وفي «مفردات الراغب» : الشأن الحال
والأمر الذي يتفق ويصلح ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال
والأمور اهـ. (فذكرت التي صنعت) بتاء التأنيث أي الخصلة
التي، وفي نسخة «الذي» أي الأمر الذي (لرسول الله)
والإتيان بالفاء الدالة على التعقيب، إما لكونه كان
بالمنزل إلا أنه لم ير ذلك أو لدخوله عقب صدور ذلك منها
كما جاء كذلك فيما قبله (فقال: إن الله قد أوجب لها) أي
للمرأة (بها) أي بهذه الفعلة (الجنة) بفضله لما عندها من
الرحمة والشفقة وذلك سبب لحلول الرحمة قال: «الراحمون
يرحمهم الرحمن يوم القيامة» (أو) شك من الراوي، ويحتمل
كونها بمعنى الواو (أعتقها بها من النار) لإعتاقها نفسها
من الركون إلى الدنيا والغفلة عن جانب الله بالإيثار
للصغار ورحمة لهم (رواه مسلم) في الأدب من صحيحه.
27011 - (وعن أبي شريح) بضم الشين المعجمة وفتح الراء
وسكون التحتية بعدها حاء مهملة (خويلد) بضم المعجمة وفتح
الواو وسكون التحتية آخره دال مهملة (ابن عمرو) بن صخر بن
عبد العزى بن معاوية بن المحترس بن عمرو بن مازن بن عمرو
بن ربيعة (الخزاعي) نسبة إلى خزاعة قبيلة، وما ذكره من أن
اسمه (رضي الله عنه) خويلد هو قول الأكثر وقيل اسمه كعب بن
عمرو، وقيل عبد الرحمن بن عمرو، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل
هانىء نزل المدينة وأسلم قبل الفتح، وتوفى بالمدينة سنة
ثمان وستين كما قاله ابن سعد، وأخرج ابن الأثير في الكنى
من «أسد الغابة» عن المقدام بن شريح بن هانىء
(3/90)
عن أبيه قال: قدم هانىء على رسول الله في
وفد بني الحارث بن كعب وكان يكنى أبا الحكم فقال: كانوا
إذا كان بينهم شيء حكموني فرضوا لحكمي فكنوني أبا الحكم
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيّ ولدك أكبر؟
فقلت: شريح؟ فقال: أنت أبو شريح. قيل إن النبي دعا له
ولولده وهو والد شريح بن هانىء صاحب علي بن أبي طالب يعد
في أهل الكوفة، وما ذكر من أنه خزاعي هو أحد ما قيل فيه.
قيل كعبيّ، وقيل عدوي قال المصنف في «التهذيب» : كان يوم
فتح مكة حاملاً أحد ألوية بني كعب، روي له عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عشرون حديثاً، اتفقا على حديثين
منها، وانفرد البخاري بحديث واحد اهـ. (قال قال رسول الله:
اللهم) أصله كما تقدم يا أعلى الصحيح وهو قول البصريين،
فحذف حرف النداء وعوض عنه الميم المشددة في الآخر، ولذا لا
يجمع بينهما إلا ضرورة نحو: أقول يا اللهم يا اللهما (إني
أحرّج) بتشديد الراء تفعيل من الحرج: وهو الإثم والصيغة
للمبالغة (حق الضعيفين) أي ما يستحقانه بملك أو غيره
كاختصاص ولذا عبر به دون مال وليشمل سائر الحقوق المالية
وغيرها (اليتيم) هو من بني آدم من لا أب له وهو دون البلوغ
كما مرّ قريباً (والمرأة) بوزن التمرة، وتقدم أنها لغة،
وإنما حرّج حقهما وبالغ في المنع منه لأنهما
لا جاه لهما يلتجئان إليه ويحاجّ عنهما سوى المولى سبحانه
وتعالى/ فالمتعرض لهما كالمخفر في عهده فهو حقيق بأنواع
الوبال، وهذا بخلاف الكامل من الرجال فإن الغالب منهم من
يعتمد على قوته أو قوة من يركن إليه ويعول في أمره عليه من
مخلوق ذي أمر صورى، ومن اعتزّ بغير الله ذلّ (حديث حسن) هو
مشارك للصحيح في اعتبار اتصال السند وعدالة الرواة وضبطهم
وانتفاء الشذوذ والعلة القادحة كما تقدم أواخر شرح خطبة
الكتاب، إلا أن المعتبر من هذه الأوصاف في الصحيح أعلاها،
وفي الحسن مسماها، وهذا من المصنف بناء على ما مشى عليه هو
والمتأخرون من إمكان التصحيح والتضعيف والتحسين من الأئمة
المتأخرين وخالف فيه ابن الصلاح (رواه النسائي بإسناد جيد)
أراد من الإسناد الرواة وتارة يسمون ذلك بالسند ويطلقون
الإسناد على رفع الحديث لقائله فلذا قال السيوطي: والسند
الإخبار عن طريق متن والإسناد لذي فريق. قال السيوطي في
شرح ألفيته في علم الأثر نقلاً عن الحافظ ابن حجر. قال بعد
نقله الكلام عن ابن الصلاح: هذا يدل على أن ابن الصلاح يرى
التسوية بين الجيد والصحيح. وكذا قال البلقيني في محاسن
الاصطلاح بعد أن نقل ذلك ومن ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها
عن الصحة، وكذا قال غيره لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم
إلا أن الجيد منهم لا يعدل
(3/91)
عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي
الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح.
فالوصف به أنزل من الوصف بصحيح اهـ. (ومعنى أحرج ألحق
الحرج وهو الإثم بمن ضيع حقهما) فالتفعيل فيه للنسبة نحو
فسقت زيداً: أي نسبته إليه وقوله ضيع حقهما يقتضي أنه لو
ضاع بسكونه وكان لا مانع به من الكلام شرعاً دخل في الحرج
وقوله: (وأحذر من ذلك تحذيراً بليغاً وأزجر عنه زجراً
أكيداً) ليس مدلول قوله أحرّج وإنما أخذه المصنف من دلالة
السياق عليه وأكيد بمعنى متأكد.
27112 - (وعن مصعب) بضم أوله وسكون الصاد المهملة وفتح
المهملة بعدها موحدة (ابن سعد ابن أبي وقاص) بتشديد القاف
وآخره صاد مهملة: وهو مالك بن وهيب ويقال أهيب بن عبد مناف
بن زهرة بن كلاب بن كعب بن لؤي القرشي الزهري التابعي
المدني سمع أباه وعلي بن أبي طالب وابن عمر، روى عنه مجاهد
وأبو إسحاق السبيعي وآخرون واتفقوا على توثيقه. قال ابن
سعد: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة مائة وثلاث (قال: رأى)
أي ظن وهي رواية النسائي كما في «فتح الباري» (سعد) يعني
أباه (أن له فضلاً على من دونه) زاد النسائي من أصحاب رسول
الله: أي بسبب شجاعته أو نحو ذلك (فقال: النبي: هل تنصرون
وترزقون) ببنائهما للمفعول (إلا بضعفائكم؟) جمع ضعيف ويجمع
على ضعاف أيضاً، وفي رواية النسائي «إنما نصر هذه الأمة
بضعفتهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم» وله شاهد من حديث أبي
الدرداء عند أحمد والنسائي بلفظ: «إنما تنصرون وترزقون
بضعفاكم» قال ابن بطال: تأويل الحديث أن الضعفاء أشد
إخلاصاً في الدعاء وأكثر خشوعاً في العبادة لخلاء قلوبهم
عن التعلق بزخرف الدنيا. وقال المهلب: أراد بذلك حض سعد
على التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل
حالة. وقد روى عبد الرزاق من طريق مكحول في قصة سعد هذه
زيادة مع إرسالها فقال: «قال سعد: يا رسول الله أرأيت
رجلاً يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب
غيره؟ فذكر الحديث، وعلى هذا فالمراد
(3/92)
بالفضل الزيادة من الغنيمة، فأعلمه أن سهام
المقاتلة سواء، فإن كان القويّ يترجح بفضل شجاعته فإن
الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه (رواه البخاري) في كتاب
الجهاد (هكذا) من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن أبيه عن
مصعب (مرسلاً) لعدم إدراك مصعب لزمن القصة كما قال (فإن
مصعب بن سعد تابعي) فحذف منه الصحابي (ورواه الحافظ أبو
بكر) أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب (البرقاني) بفتح
الموحدة والقاف بينهما راء ساكنة وبعد الألف
نون نسبة إلى برقان: قرية بنواحي خوارزم كذا في «اللباب»
للسيوطي، زاد الأصبهاني: وفي «لب اللباب» له البرقاني نسبة
إلى قرية من قرى كانت بنواحي خوارزم خربت، والمشهور منها
الإمام أبو بكر أحمد بن محمد البرقاني الخوارزمي الفقيه
المحدث الأديب الصالح (في صحيحه متصلاً عن مصعب عن أبيه)
وكذا هو عند النسائي من طريق مسعر عن طلحة بن مصرف عن مصعب
بن سعد عن أبيه أنه ظن أن له فضلاً الحديث. قال الحافظ ابن
حجر في «النكت الظراف على الأطراف» بعد أن بين اختلاف
الرواة في ذكر لفظة «عن أبيه» وحذفها في طريق محمد بن طلحة
أيضاً ما لفظه: قال الدارقطني: المحفوظ عن محمد بن طلحة
مرسل كما عند البخاري، قال: ولم يسمع محمد بن طلحة من
أبيه، والصواب رواية مسعر، يعني التي أخرجها النسائي، قال:
وتابعه زبيد وليث على وصله اهـ.
27213 - (وعن أبي الدرداء) بفتح الدالين المهملتين وسكون
الراء بينهما وبالمد كنيته (عويمر) بالمهملة تصغير عامر،
وقيل إن اسمه مكبراً، ابن قيس بن زيد بن أمية بن مالك بن
عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث الأنصاري (رضي
الله عنه) قال ابن قدامة في كتاب «أنساب الأنصار» : وقيل
في نسبه غير هذا، تأخر إسلامه قليلاً، شهد ما بعد أحد من
المشاهد، واختلف في شهوده أحداً، وكان فقيهاً عاقلاً
حكيماً عالماً آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه
وبين سلمة كما تقدم في باب الاقتصاد من حديث أبي جحيفة
بذلك عند البخاري.
روى عن النبي أنه قال: «عويمر حكيم أمتي» وعن أبي ذر قال:
«ما حملت» ورقاء ولا أظلت خضراء أعلم منك يا أبا الدرداء»
وعن خالد بن معدان قال: كان ابن المبارك يقول: حدثونا عن
العالمين العاملين: معاذ، وأبي الدرداء. وله حكم مشهورة
(3/93)
توفي في خلافة عثمان سنة نيف وثلاثين،
وقبره في مقبرة الشهداء يزار. قال المصنف روي له عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وتسعة وسبعون
حديثاً اتفقا على حديثين منها وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم
بثمانية اهـ. وقال المصنف في «التهذيب» روى عنه جماعة
الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وخلائق من التابعين اهـ.
(قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
ابغوني) بكسر همزة الوصل لأنه من فعل ثلاثي مكسور العين:
أي اطلبوا لي (الضعفاء) يعني صعاليك المسلمين أستعين بهم
فإذا قلت: أبغني بهمزة القطع فمعناه أعني على الطلب. وقال
الحافظ: ابغني بالوصل من الثلاثي أي اطلب لي، يقال بغيتك
الشيء: طلبته لك، وبالقطع: أي أعني والأول المراد بالحديث
اهـ. والحاصل أنه إن كان من الثلاثي فهمزته للوصل مكسورة
والمراد به مطلق الطلب، وإن كان من الرباعي فهمزته للقطع
والمراد به طلب الإعانة: أي أعينوني على طلب الضعفاء. قال
السيوطي: هو بإسقاط حرف الجرّ عند أبي داود والنسائي، وعند
أحمد والطبراني «ابغوني ضعفاءكم» وعن الترمذي «ابغوني في
ضعفائكم» قال صاحب «الفتح الكبير» لمعلق «الجامع الصغير» :
وطلبهم ليكتبهم في ديوان المجاهدين ويستعين بهم. ولحضورهم
فوائد أشار إليها بقوله: (فإنما ترزقون) بالبناء للمفعول
وحذف المفعول الثاني المتعدى إليه لتضمنه معنى إعطاء
للتعميم: أي ترزقون المطر والفيء وغيرهما مما تنتفعون به
(وتنصرون) على أعدائكم (بضعفائكم) أي ببركة وجود صعاليك
المسلمين فيكم ودعائهم لكم (رواه أبو داود) في كتاب الجهاد
(بإسناد جيد) أي مقبول كما تقدم قريباً/ رواه الترمذي
والنسائي وابن حبان والحاكم في «المستدرك» وفي أحاديث
الباب والانقطاع إلى الله سبحانه وإعانة الفقراء وإغاثة
المنقطعين وعدم رؤية النفس وفضلها على أحد من العاملين
والحذر من التعرض لإيذاء أحد من الضعفاء والمساكين الذين
لا جار لهم ولا كهف سوى ربّ العالمين.d
34 - باب الوصية بالنساء
بكسر النون وبالمد، جمع لامرأة من غير لفظها، وتجمع على
نسوة بكسر النون
(3/94)
كما تقدم عن «المصباح» ، والمراد الوصية
بالرفق بهن والإحسان إليهن لضعفهن واحتياجهن لمن يقوم
بأمرهن.
(قال الله تعالى) شأنه عما لا يليق به ( {وعاشروهن
بالمعروف} ) أمر يعم الأزواج والأولياء ولكن المتلبس في
الأغلب بهذا الأمر الأزواج والمعاشرة المخالطة والممازجة.
قال السلمي: «وعاشروهن بالمعروف» قيل علموهن الفرائض
والسنن. وقال أبو جعفر: المعاشرة بالمعروف حسن الخلق مع
العيال.
(وقال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا} ) العدل التام على
الإطلاق: المستوى في الأقوال والأفعال والمحبة والجماع
وغير ذلك ( {بين النساء ولو حرصتم} ) «كان يقسم بين نسائه
ثم يقول: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك
ولا أملك» فأخبر عزّ وجلّ عن حال البشر أنهم بحكم الخلقة
لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض ( {فلا
تميلوا كل الميل} ) بأن يفعل فعلاً يقصد به التفضيل، وهو
يقدر أن لا يفعله فهذا هو كل الميل وإن كان في أمر حقير
(فتذورها) أي الزوجة التي ميل عليها كل الميل ( {كالمعلقة}
) لا هي أيم ولا هي ذات زوج (وإن تصلحوا) ما أفسدتم بالميل
التام (وتتقوا) بالعدل في القسم وترك خلافه ( {فإن الله
كان} ) فيما مضى وبالاستمرار ( {غفوراً} ) لما عدا الشرك
من المعاصي إن شاء ذلك ( {رحيماً} ) مفيضاً للنعم على
عباده، ومناسبة هذين الاسمين لما قبلهما أن الميل السابق
إثم ودواءه الغفران، وأن الداعي إلى عدم التقوى من
المساواة بالمواساة بين الأزواج ما يعد لهم الشيطان من
الفقر فدواؤه استحضار ما للمولى سبحانه وتعالى من النعم
الحسان.
2731 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
استوصوا بالنساء خيراً) أي تواصوا بهن والباء للتعدية،
والاستفعال بمعنى الإفعال كالاستجابة بمعنى الإجابة. وقال
الطيبي: السين للطلب وهو للمبالغة: أي اطلبوا الوصية من
أنفسكم في حقهن، أو اطلبوا الوصية من غيركم بهن، وقيل
معناه: اقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها وارفقوا بهن وأحسنوا
عشرتهن. قال العلقمي: وهذا الوجه أوجه في نظري وليس
مخالفاً لما قال الطيبي.
(3/95)
قلت: لأن المعنى اطلبوا وصيتي واقبلوها
واعملوا بها (فإن المرأة خلقت) بالبناء للمفعول: أي أخرجت
(من ضلع) بكسر المعجمة وفتح اللام، ويجوز تسكينها وهي
مؤنثة كما في «القاموس» و «المصباح» ، قال في «الفتح» :
فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر، وقيل من
ضلعه القصير، أخرجه ابن إسحاق في المبتدأ عن ابن عباس وكذا
أخرجه ابن أبي حاتم وغيره من حديث مجاهد، وأغرب النووي
فعزاه للفقهاء أو لبعضهم اهـ.
وهذا لا يختلف الحديث الذي فيه تشبيه المرأة بالضلع، بل
يستفاد من هذا نكتة التشبيه وأنها عوجاء مثله لكون أصلها
منه. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون معناه: أن المرأة خلقت
من مبلغ ضلع فهي كالضلع (وإن أعوج ما) أي شيء كما في رواية
أخرى (في الضلع أعلاه) قيل فيه إشارة إلى أن أعوج ما في
المرأة لسانها، وفائدة هذه المقدمة أن المرأة خلقت من ضلع
أعوج فلا ينكر اعوجاجها، أو أنها لا تقبل التقويم كما أن
الضلع لا يقبله، ولذا قال (فإن ذهبت تقيمه) أي أعلاه عن
الاعوجاج الذي هو شأنه (كسرته) لعدم قابليته له (وإن
تركته) غير آخذ في إقامته (لم يزل أعوج) لأنه وضعه وشأنه،
وكذا المرأة إن أردت إقامتها على الجادة، وعدم اعوجاجها
أدى إلى الشقاق والفراق، وهو كسرها وإن صبرت على سوء حالها
وضعف معقولها ونحو ذلك من عوجها دام الأمر واستمرت العشرة،
والفاء في قوله: (فاستوصوا بالنساء) الفاء الفصيحة: أي
فاعرفوا ذلك فاستوصوا بهن (خيراً) بالصبر على ما يقع منهن،
فيه رمز إلى التقويم برفق بحيث لا يبالغ فيه فيكسر ولا
يتركه فيستمر على عوجه وما قررت من أن الفاء الفصيحة هي
العاطفة على مقدر هو ما في النهر لأبي حيان وردّ ما في
«الكشاف» ، وتبعه البيضاوي من أنها الواقعة جواباً لشرط
مقدر حذف هو وفعله بأن النحاة أجمعوا على عدم جواز حذف
الأداة والفعل في مثل ذلك (متفق عليه) رواه البخاري في بدء
الخلق وفي النكاح، ورواه مسلم في النكاح، ورواه النسائي في
عشرة النساء وابن أبي شيبة، وزاد «من كان يؤمن با واليوم
الآخر فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو ليسكت» .
(وفي رواية في الصحيحين) في هذا الحديث عن أبي هريرة لكن
اقتصر المزيّ على عزوه بهذا اللفظ إلى مسلم في النكاح.
قال: ورواه الترمذي فيه وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه
(المرأة) اللام فيها للحقيقة (كالضلع) في الاعوجاج وعدم
قابلية الإقامة (إن أقمتها) أي الضلع وهي مؤنثة، ويحتمل
(3/96)
أن يكون ضمير المؤنث هنا للمرأة، ويؤيده
قوله بعد (وإن استمتعت بها كسرتها) لعدم قابليتها للإقامة
ويحتمل أن المراد بكسرها طلاقها، وقد وقع ذلك صريحاً كما
سيأتي، وكسرها طلاقها (وإن استمتعت بها) لقضاء الوطر وطلب
الولد الصالح والإعفاف (استمتعت بها) وجملة (وفيها عوج)
جملة إسمية حالية.
(وفي رواية لمسلم) في النكاح (إن المرأة) الإتيان بالمؤكد
لاقتضاء المقام له، وكأنه لكثرة الشكاية من الأزواج من عدم
استقامتهن، وذلك يقتضي منهم أنهم توهموا إمكان استقامتهن
أو ترددوا فيه، فأتى دفعاً لذلك بذلك (خلقت من ضلع لن
تستقيم لك) أي تدوم (على طريقة) ترضاها، والجملة مستأنفة
استئنافاً بيانياً كأن سائلاً يقول: ماذا ينشأ من كونها
خلقت من ذلك؟ فقال: لن تستقيم (فإن استمتعت بها استمتعت
بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها) إقامة تامة مرضية لك
(كسرتها) لأنه خلاف شأنها، وليس في وسعها واستعدادها
(وكسرها) المدلول عليه بقوله كسرتها (طلاقها. قوله) في
الحديث (هو عوج بفتح العين) المهملة (والواو) قال الفيومي
في «المصباح» : العوج بفتحتين في الأجساد: خلاف الاعتدال،
وهو مصدر من باب تعب، يقال عوج العود ونحوه فهو أعوج
والأنثى عوجاء من باب أحمر، والعوج بكسر العين في المعاني،
يقال: في الأمر عوج وفي الدين عوج. قال أبو زيد في الفرق
بكل ما رأيته بعينك فهو مفتوح، وما لم تره فهو مكسور. وقال
بعض العرب: يقول في الطريق عوج بالكسر اهـ. وفي «التهذيب»
للمصنف اختلف في ضبط عوج في هذا الحيث، فضبطه كثيرون بفتح
العين، وضبطه الحافظ أبو القاسم وآخرون من المحققين بالكسر
وهو الصواب الجاري على ما ذكره أهل اللغة اهـ. ومنه يعلم
أنه تبع في ضبطه هنا الكثيرين والصواب خلافه، إلا أن يدعي
أن تلك الأخلاق منهن لما تكررت صارت كالمحسوس فاستعمل فيها
ما يستعمل فيه، فيكون صحيحاً أيضاً إلا أنه تكلف.
2742 - (وعن عبد الله بن زمعة) بفتح الزاي وإسكان الميم،
ابن الأسود بن
(3/97)
المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصيّ القرشي
الأسدي (رضي الله عنه) أمه قرينة بنت أمية بن المغيرة أخته
أم سلمة أم المؤمنين، كان من أشراف قريش، وكان يأذن على
النبي روى عنه أبو بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير،
وقتل زمعة يوم بدر كافراً، وكان الأسود من المستهزئين
الذين قال تعالى في حقهم: {إنا كفيناك المستهزئين} (الحجر:
95) وقتل عبد الله مع عثمان يوم الدار، قاله أبو أحمد
العسكري عن أبي حسان الزيادي، وكان لعبد الله ابن اسمه
يزيد قُتل يوم الحرة صبراً، قتله مسلم بن عقبة المري اهـ.
ملخصاً من «أسد الغابة» . قال ابن حزم في آخر كتابه «مختصر
التاريخ» : روي له عن النبي حديث واحد. قلت: وذكر المزي في
الأطراف له حديثين أحدهما حديث الباب والثاني عند أبي داود
(أنه سمع النبي يخطب وذكر الناقة) التي كانت معجزة لسيدنا
صالح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، والواو عاطفة
على محذوف تقديره خطب فذكر كذا وذكر الناقة (والذي عقرها)
وهو قذار بضم القاف وبالذال المعجمة آخره راء، ابن سالف
أحيمر ثمود (فقال) مبيناً لوصفه (إذا انبعث أشقاها) أشقى
قبيلة ثمود، وهو أشقى الأولين (انبعث لها) أي للناقة (رجل
عزيز) بالمهملة وزاءين معجمتين بوزن رحيم: أي قليل المثل
(عارم) بالمهملتين كما سيأتي في تفسيره (منيع) أي قوي ذو
متعة (في رهطه) يمنعونه من الضيم، زاد البخاري في رواية
«مثل أبي زمعة» وفي أخرى «مثل أبي زمعة عم الزبير بن
العوام» وهو عمه مجازاً لأنه ابن عم أبيه فكأنه أخر أبيه
فأطلق عليه عم بهذا الاعتبار قال القرطبي في «المفهم» :
يحتمل أن المراد بأبي زمعة الصحابي الذي بايع تحت الشجرة،
يعني وهو عبيد البلوى، قال: ووجه تشبيهه به أنه كان في عز
ومنعة في قومه كما كان ذلك الكافر، قال: ويحتمل أن يريد
غيره من الكفار ممن يكنى بأبي زمعة. قال الحافظ في «الفتح»
: وهذا
الثاني هو المعتمد والغير المذكور هو الأسود، وهو جد عبد
الله بن زمعة راوي الخبر لقوله في نفس الخبر عم الزبير،
وليس بين البلوى والزبير نسب اهـ. (ثم ذكر) يعني النبي في
خطبته تلك (النساء) استطراداً (فوعظ فيهن) فاستطرد إلى ما
يقع من
(3/98)
أزواجهن (فقال يعمد) بكسر الميم (أحدكم
فيجلد امرأته جلد العبد) بالنصب أي مثل ضربه في كونه
مبرّحاً مؤذياً.
وعند مسلم في رواية «ضرب الأمة» وللنسائي «كما يضرب العبد
أو الأمة» . وفي البخاري في الأدب من رواية ابن عيينة «ضرب
الفحل» والمراد منه البعير. وفي حديث لقيط بن صبرة عند أبي
داود «ولا تضرب ظعينتك ضربك» ، أمتك «فلعله يضاجعها» .
وفي رواية البخاري في النكاح «يجامعها» (من آخر يومه) وعند
النسائي «من آخر النهار» ورواية ابن نمير والأكثر «آخر
يومه» ورواية وكيع «آخر الليل أو من آخر الليل» وكلها
متقاربة وفي الحديث جواز تأديب الرقيق بالضرب الشديد،
والإيماء إلى جواز ضرب النساء دون ذلك، وفي سياق الحديث
استبعاد وقوع الأمرين من العاقل أن يبالغ في ضرب امرأته ثم
يجامعها من بقية يومه أو ليلته، والمجامعة أو المضاجعة
إنما تستحسن مع الميل والرغبة في العشرة والمجلود غالباً
ينفر ممن جلده، فوقعت الإشارة إلى ذم ذلك، وأنه إذا كان
ولا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل معه
النفور التام فلا يفرط في الضرب ولا يفرط في التأديب (ثم
وعظهم) استطراداً: أي حذرهم (في ضحكهم من الضرطة) وذلك
لأنه خلاف المروءة، ولما فيه من هتك الحرمة (وقال) في
تقبيح ذلك (لم) بكسر اللام (يضحك أحدكم مما يفعل) وذلك لأن
الضحك إنما يكون من الأمر العجيب والشأن الغريب يبدو أثره
على البشرة فيكون التبسم، فإن قوي وحصل معه الصوت كان
الضحك، فإن ارتقى على ذلك كانت القهقهة، وإذا كان هذا
الأمر معتاداً من كل إنسان فما وجه الضحك من وقوع ذلك ممن
وقع منه (متفق عليه) رواه البخاري في التفسير بجملته، وروى
قصة النساء فقط في النكاح أيضاً، وقصة النكاح والضرطة في
الأدب أيضاً، ورواه بجملته مسلم في باب صفة النار، ورواه
الترمذي في «التفسير» وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي في
«التفسير» وفي عشرة النساء بالقصة الثالثة، كذا قاله المزي
في «الأطراف» . قال الحافظ التقي ابن فهد: بل الثانية وابن
ماجه في النكاح (والعارم بالعين المهملة والراء) لم يحتج
لتقييد الراء بالمهملة لأن تلك زاي بالياء في اللغة
المشهورة فلا تلتبس بالراء (هو الشرير) بكسر المعجمة
وتشديد الراء الأولى (المفسد) . وفي «النهاية» ، أي خبيث
شرير وقد عرم بالضم والفتح والكسر، والعرام: القوة والشدة
والشراسة. وفي «الصحاح» :
وصبيّ عارم بين العرام: أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم أي بضم
عين المضارع
(3/99)
وكسرها عرامة بالفتح، (وقوله) في الحديث
(انبعث) انفعل من البعث (أي قام بسرعة) وجعله في «الصحاح»
مطاوع بعثه وابتعته وذلك يؤذن بالسرعة.
2753 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
لا يفرك) أتى ضبطه ومعناه (مؤمن مؤمنة) نكرهما للتعميم: أي
لا تبغض المؤمنة على كل حالها به شأن المؤمن معها (إن كره
فيها خلقاً) بضم الخاء المعجمة كسوء الخلق مثلاً (رضي
منها) خلقاً (آخر) كالعفاف (أو) شك من الراوي (قال) يعني
النبي (غيره) بدل قوله آخر. قال المصنف: قال القاضي عياض:
ليس هذا على النهي بل هو خبر: أي لا يقع منه بغض تام لها،
قال: وبغض الرجال للنساء بخلاف بغضهن لهم، قال: ولهذا قال:
إن كره منها خلقاً رضي منها آخر اهـ. وهو ضعيف أو غلط، بل
الصواب أنه نهي: أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه إن وجد فيها
خلقاً يكره وجد فيها خلقاً مرضياً، وهذا الذي ذكرته من أنه
نهي يتعين بوجهين:
أحدهما أن المعروف في الروايات لا يفرك بإسكان الكاف لا
برفعها وهذا يتعين فيه النهي، ولو روي مرفوعاً لكان نهياً
لفظ الخبر.
الثاني: أنه قد وقع خلافه فبغض الناس يبغض زوجته بغضاً
شديداً ولو كان خبراً لم يقع خلافه وهذا وقع خلافه، وما
أدري ما حمل القاضي على هذا التعبير اهـ. (رواه مسلم) في
كتاب النكاح (قوله: يفرك هو بفتح الياء) التحتية (وإسكان
الفاء) هذا مستغنى عنه أتى به زيادة في الإيضاح (وفتح
الراء) فهو من باب فرح يفرح (ومعناه يبغض) بضم
(3/100)
التحتية وكسر المعجمة مضارع من الإبغاض
(يقال: فركت المرأة زوجها وفركها زوجها بكسر الراء) في
الماضي (يفركها بفتحها) في المضارع (أي أبغضها) قال في
«المصباح» : أبغضت الشيء إبغاضاً فهو مبغض والاسم البغض،
ولا يقال بغضه بغير ألف، والمراد من الحديث أن شأن المؤمن
أن لا يبغض المؤمنة بغضاً كلياً يحمله على فراقها: أي
ينبغي له أن يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره بما
يحبّ. قال القرطبي: وأصل الفرك إنما يقال في النساء يقال
فركت المرأة زوجها وأبغض الرجل امرأته، وقد استعمل الفرك
في الرجل قليلاً وتجوّزاً، منه ما في هذا الحديث اهـ.
(والله أعلم) .
2764 - (وعن عمرو بن الأحوص) بفتح الهمزة وسكون الحاء
المهملة وبعد الواو مهملة ثانية ابن جعفر بن كلاب (الجشمي)
الكلابي قاله أبو عمرو، وأما ابن منده وأبو نعيم فلم
ينسباه إنما قالا: عمرو بن الأحوص الجشمي. قال ابن الأثير:
قول أبي عمرو إنه جشمي كلابي لا أعرفه فإنه ليس في نسبته
إلى كلاب جشم ولا فيما بعد كلاب وإنما الأحوص بن جعفر بن
كلاب نسب معروف ولعله له حلف في جشم فنسب إليه اهـ. (رضي
الله عنه) .
قال ابن حزم: روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
حديثان (أنه سمع النبي في حجة الوداع) بفتح الواو لأن
النبي ودّع الناس ولم يحج بعدها، ويقال بكسرها وتقدم فيها
مزيد في باب النية في حديث سعد بن أبي وقاص (يقول بعد أن
حمد الله تعالى) بالأوصاف الجميلة (وأثنى عليه) بتنزيهه
عما لا يليق به (وذكر) بتخفيف الكاف: أي أتى بذكر الله
تعالى من التكبير والتهليل، أو بتشديدها من التذكير با
والتخويف من عقابه، ويؤيد هذا قوله (ووعظ ثم) أي بعد أن
أطال في ذلك لاستدعاء المقام له (قال) مستطرداً للوصية
بالنساء (ألا) بتخفيف اللام: أداة استفتاح يؤتى بها أول
الكلام إذا كان المقام يهتم به (واستوصوا بالنساء خيراً)
المعطوف عليه محذوف اختصاراً مدلول عليه بما قبله (فإنما
هن عوان) جمع واحدة عانية وإعرابه مقدر لثقل الضمة على
الياء المحذوفة
(3/101)
لالتقاء الساكنين. قال في «النهاية» : أي
أسراء أو كالأسراء، وأشار به إلى أنه محتمل لكونه من باب
التشبيه البليغ أو أنه على ظاهره من غير تقدير لشيء (عندكم
ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك) المشار إليه محذوف مدلول
عليه بباقي الكلام وهو الاستمتاع وحفظ الزوج في نفسها
وماله (إلا أن يأتين بفاحشة) كبيرة كنشوز وسوء عشرة
(مبينة) بكسر الياء اسم فاعل، لأنها تبين عدم انقيادها
المفروض عليها، أو بفتحها اسم مفعول: أي إن سوء حالها يدل
على تلك الفاحشة ويبينها (فإن فعلن) ذلك أي النشوز بأن
ظهرت مقدماته منها فعظوهن، فإن لم ينزجرن به (فاهجروهنّ في
المضاجع) في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف (واضربوهنّ
ضرباً غير مبرح) بكسر الراء المشددة، ولا شائن بأن لا
يجرحها ولا يكسر لها عظماً ويجتنب الوجه والمهالك فيضربن
مع الهجران عند تحقق النشوز والعصيان وهو ضرب تأديب
وتعزير. قال الروياني في «البحر» : ويضربها بمنديل ملفوف
أو بيده لا بسوط ولا عصى، وإباحة الضرب في هذه الحالة
ولاية من الشرع للزوج لأخذ حقه. قال العز بن
عبد السلام: ليس لنا موضع يضرب المستحق من منع حقه غير
هذا، والعبد إذا منع حق سيده، لأن الحاجة ماسة إلى ذلك
فيهما لتعذر إثبات ذلك بسبب عدم الاطلاع وإنما يجوز ضربها
إن علم أو ظن أنه يصلحها فإن علم عدم إفادته لم يجز (فإن
أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) بالتوبيخ والإيذاء؛
فالمعنى: فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان فيهن كأن لم
يكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وهذه الجملة
مقتبسة من معنى قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن}
(النساء: 34) إلى قوله: {سبيلاً} (ألا) أداة استفتاح أتى
بها للتنبيه على ما بعدها لأنه حكم آخر (إن لكم على نسائكم
حقاً) أمراً واجباً (ولنسائكم عليكم حقاً) هذا من عطف
معمولين على معمولي عامل واحد، وهو جائز اتفاقاً (فحقكم
عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون) قال المازري: قيل
المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال. قال القاضي عياض: كانت
عادة العرب حديث الرجال مع النساء، ولم يكن ذلك
(3/102)
عيباً ولا ريبة عندهم، فلما نزلت آية
الحجاب نهوا عن ذلك اهـ.
قال المصنف: والمختار أن معناه لا يأذنّ لأحد تكرهونه في
دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلاً
أجنبياً أو امرأة أو أحد محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع
ذلك. قلت: ولذا عقب بقوله: (ولا يأذنّ في بيوتكم لمن
تكرهون) أي تكرهون دخوله لمنزلكم من أنثى وذكر وهذا حكم
المسألة عند الفقهاء أنه لا يحلّ لها أن تأذن لرجل ولا
امرأة لا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو
ظنت أن الزوج لا يكرهه، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان
حتى يوجد الإذن منه في ذلك أو ممن أذن له في الإذن في ذلك
أو عرف رضاه به باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في
الرضا ولم يترجح شيء ولا وجدت قرينة لا يحلّ الدخول ولا
الإذن، والله أعلم اهـ. (ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن
في كسوتهن وطعامهن) بإعطائهن ذلك بحسب اللائق بأحوالكم
يساراً وإعساراً. وفي الحديث وجوب نفقة الزوجة وكسوتها عند
عدم نحو النشوز وهو واجب إجماعاً (رواه الترمذي) في النكاح
من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) وتقدم أن الجمع بين
الوصفين المذكورين إن كان في متعدد السند فهو على تقدير
واو العطف والتقدير حسن وصحيح: أي حسن باعتبار أحد
الإسنادين، وصحيح باعتبار الآخر، وإلا فهو عى تقدير أو
التي للترديد: أي أنه حسن أو صحيح: أي إن المحدثين اختلفوا
في رجال سنده هل بلغوا درجة الصحة أو هم قاصرون على درجة
الحسن، ورواه النسائي وابن ماجه (قوله: عوان) التنوين فيه
للعوض عن الياء إن اعتبر الإعلال سابقاً على منع الصرف، أو
عن الحركة إن اعتبر منع الصرف قبل اعتبار الإعلال، وقيل:
إنه للصرف وهذا ضعيف جداً (أي أسيرات جمع عانية. بالعين
المهملة) إن قلت: هذا القسم من جمع التكسير هو الذي ادعى
النحاة فقده خارجاً ووجوده عقلاً وهو التغيير بالزيادة
والنقص من غير تغيير الشكل. قلنا: يمكن أن يقال: إنه ليس
كذلك، فإن حركات الجمع غير حركات المفرد فضمة الفاء في فلك
جمعاً كضمة
همزة أسد وضمته مفرداً كضمة قاف قفل، وقد صرح بذلك شراح
الكافية فكان ما ذكر كغلام وغلمان مما اجتع فيه التغيير
بالنقص والزيادة
(3/103)
وتغيير الشكل (وهي الأسيرة والعاني:
الأسير) ومنه حديث «أطعموا الجائع وفكوا العاني» قال في
«النهاية» : العاني: الأسير وكل من ذلّ واستكان وخضع، يقال
عنا يعنو فهو عان (شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
المرأة في دخولها تحت حكم الزوج) ووجوب طاعتها له
(بالأسير) فيكون قوله: «فإنما هن عوان» من التشبيه البليغ
على حد زيد أسد (والضرب المبرح) المنهيّ عنه (هو الشاق
الشديد) قال في «المصباح» : برح به الضرب تبريحاً: اشتد
وعظم (وقوله: فلا تبغوا عليهن سبيلاً: أي لا تطلبوا طريقاً
تحتجون به عليهن) بعد توبتهن ورجوعهن إلى الطاعة (وتؤذوهن
به) أي ولا تؤذوهن به، ويجوز أن تكون الواو للمعية والنصب
بأن مضمرة لكونه في جواب النهي، لكن يوهم أن الممنوع منه
إنما هو طلب الطريق المذكور مع الإيذاء، أما طلبها من غير
إيذاء فلا نهي عنه وليس كذلك، بل منهي عن التعرض لها بعد
التوبة مطلقاً (والله أعلم) .
2775 - (وعن معاوية) بالعين المهملة وبالتحتية بعد الواو
المكسورة (ابن حيدة) بمهملة مفتوحة وسكون تحتية وفتح دال
مهملة فهاء تأنيث كذا في «المغني» ، ابن معاوية بن قشير بن
كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري من أهل البصرة، غزا
(رضي الله عنه) خراسان ومات بها، وهو جدّ بهز بن حكيم بن
معاوية، وروى عنه ابنه حكيم بن معاوية، وسئل يحيى بن معين
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فقال: إسناد صحيح إذا كان
من دون بهز: ثقة (قال: قلت يا رسول الله) ورواه ابن الأثير
في «أسد الغابة» عنه «أن رجلاً سأل رسول الله: ما حقّ
المرأة على الزوج؟» إلى آخر الحديث، ولا تنافي لاحتمال
التعدد أو أنه أبهم نفسه في تلك الرواية إما نسياناً لعين
السائل أو لغرض آخر (ما حقّ زوجة أحدنا عليه) أي ما واجبها
عليه (قال: أن تطعمها) بضم الفوقية (إذا طمعت) بكسر العين
أي
(3/104)
أكلت (وتكسوها) بفتح التاء الفوقية والواو
(إذا اكتسيت) ومعنى كونه فرضاً عليه إذا كان لا يأكل
زائداً على فرض القوت، أما لو كان مترفها في المطعم
والملبس فما زاد على الواجب لها فنفل منه وإحسان عليها
(ولا تضرب الوجه) لأنه عضو لطيف والشين فيه شنيع (ولا
تقبح) بتشديد الباء الموحدة المكسورة: أي لا تقل قبح الله
وجهك أو لا تقل ما أقبح هذا الخلق، فإن ذمّ الصنعة ذم
لصانعها (ولا تهجر) عند النشوز (إلا في البيت) فاترك
مضاجعتها ولا تترك كلامها عند حاجتها (حديث حسن رواه أبو
داود) في كتاب النكاح من سننه والنسائي وابن ماجه (وقال)
أي أبو داود (معنى لا تقبح أي) تفسير لمعنى الجملة (لا تقل
قبحك ا) وهذا أحد احتمالين فيه.
2786 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
أكمل المؤمنين) أي من أكملهم (إيماناً) منصوب على التمييز
عن أفعل التفضيل وهو فاعله من حديث المعنى (أحسنهم خلقاً)
بضم الخاء المعجمة واللام وسكونها، وتقدم أنه ملكة تبعث
النفس على أفعال حميدة واكتساب شيم شريفة. وقال الحسن
البصري: حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكفّ الأذى وطلاقة
الوجه. قال الباجي: وتحسين الخلق أن يظهر منه لمن يجالسه
أو يردّ عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم
والتودد إلى الصغير والكبير. وقد اختلف فيه هل هو مكتسب أو
غريزي، وجمع بين القولين بأنه غريزي باعتبار أصله ويقوى
وينمو بالكسب. قال الحافظ في «الفتح» : ومحصل ما أجاب
العلماء عن الأحاديث المختلف فيها الأجوبة بأن أفضل
الأعمال كذا أن اختلاف الجواب لاختلاف حال السائلين بأن
أعلم كلا بما يحتاج إليه أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو
اللائق، أو أن اختلافه باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في
ذلك الوقت أفضل منه في غيره - فقد كان الجهاد في ابتداء
الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن
منها، وقد
(3/105)
تظافرت الأدلة على أن الصلاة أفضل من
الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل،
أو أن أفضل ليس على بابه بل المراد الفضل المطلق، أو أن
المراد من أفضل فحذفت من وهي مرادة كما ورد «خيركم خيركم
لأهله» ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقاً، فعلى
هذا فأفضل الأعمال على الإطلاق الإيمان والباقيات متساوية
في كونها من أفضلها وإن تفاوتت درجاتها بما ورد فيها اهـ.
ملخصاً (وخياركم خياركم لنسائهم) .
وفي رواية «خيركم خيركم لأهله» قال في «النهاية» : هو
إشارة إلى صلة الرحم والحثّ عليها. قيل: ولعل المراد من
حديث الباب أن يعامل زوجته بطلاقة الوجه وكفّ الأذى
والإحسان إليها والصبر على أذاها. قلت: ويحتمل أن الإضافة
فيه للعهد والمعهود هو النبيّ، والمراد أنا خيركم لأهلي،
وقد كان أحسن الناس لأهله وأصبرهم على اختلاف أحوالهم
(رواه الترمذي وقال: حسن صحيح) وكذا رواه ابن حبان.
2797 - (وعن إياس) بكسر الهمزة وتخفيف التحتية وبعد الألف
سين مهملة (ابن عبد الله بن أبي ذباب) بضم المعجمة وخفة
الموحدة الأولى كما في «المغني» . الدوسي وقيل المزني
والأوّل أكثر (رضي الله عنه) سكن مكة، قال أبو عمرو: له
صحبة، وقال ابن منده وأبو نعيم: اختلف في صحبته، كذا في
«أسد الغابة» ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- هذا الحديث.
(قال: قال رسول الله: لا تضربوا إماء ا) الإماء بكسر
الهمزة وبالمد بوزن كتاب جمع أمة وهي محذوفة اللام والهاء
عوض عنها والأصل أموة بفتحات، ولذا يرد في التصغير فيقال
أمية والأصل أميوة، ويجمع أيضاً على آإم بوزن قاض وعلى
إموان بوزن إسلام، وقد يجمع على أموات بوزن سنوات، والمراد
بإماء الله النساء: أي لا تضربوهن ظاهره على كل حال (فـ)
ـلذا (جاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فقال: ذئرن النساء) سيأتي ضبطه ومعناه وهو على لغة
أكلوني البراغيث، والفصيح تجريد الفعل من علامة الجمع بأن
يقال ذئر أو ذئرت بالتاء، والثاني أفصح لأن المسند لجمع
التكسير الأفصح إلحاق التاء آخره، ورأيته في أصل آخر من
«سنن أبي داود» ذئر النساء بحذف
(3/106)
النون (على أزواجهن) لما سمعن المنع عن
ضربهن مطلقاً (فرخص في ضربهن) من الرخصة، وهي تغيير الحكم
من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب حكم الأصل، وسبب
المنع الرفق بهن وهو قائم حال إباحته للعذر وهو دوام
الزوجية والقيام بحقوقها عند حقوقهن من ترك ذلك (فأطاف بآل
رسول الله) أي بأزواجه وسراريه، وليس المراد بالآل من تحرم
عليهم الزكاة (نساء كثير) من صيغ جمع الكثرة (يشكون
أزواجهن) أي ضربهم. (فقال رسول الله: لقد أطاف بآل محمد
نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك) أي الضاربون لأزواجهم
(بخياركم) وذلك لأنه يؤذن بحرج الصدر وضيق النفس، ذلك خلاف
حسن الخلق الذي هو من أوصاف الخيار.
(رواه أبو داود) في كتاب النكاح (بإسناد صحيح) ورواه
النسائي وابن ماجه.
(قوله) في الحديث (ذئرن هو بذال معجمة مفتوحة ثم همزة
مكسورة ثم راء ساكنة ثم نون: أي اجترأن) عليهم ونشزن (قوله
أطاف: أي أحاط) وهو متعد بالباء أيضاً، يقال أطاف بالشيء:
أي أحاط به.
2808 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بإثبات الياء كما
هو الفصيح، وتقدم تحقيق ذلك في باب الاقتصاد وتقدمت ترجمته
في باب بيان كثرة طرق الخير (رضي الله عنهما إن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: الدنيا متاع) أي شيء يتمتع به
حيناً كما قال تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: 33)
(وخير متاع الدنيا) أتى بالاسم الظاهر موضع الضمير لزيادة
الإيضاح (المرأة الصالحة) قال القرطبي: فسرت في الحديث
بقوله: «التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته،
وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (رواه مسلم) في كتاب
النكاح وأحمد والنسائي.
(3/107)
35 - باب حق أي واجب الزواج على المرأة
أي ما يجب له عليها ويستحقه منها (قال الله تعالى) : (
{الرجال قوّامون على النساء} ) يقومون عليهن قيام الولاة
على الرعية، وعلل ذلك بأمرين: وهما قوله: ( {بما فضل الله
بعضهم على بعض} ) أي بسبب تفضيله بالرجال على النساء بكمال
العقل وحسن التدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات،
ولذلك خصوا بالفتوّة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر
والشهادة في مجامع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها
والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق.
وبأمر كسبي هو قوله: ( {وبما أنفقوا من أموالهم} ) في
نكاحهن كالمهر والنفقة. ثم قسم الله النساء قسمين فقال: (
{فالصالحات قانتات} ) مطيعات قائمات بحقوق الأزواج (
{حافظات للغيب} ) لمواجب الغيب: أي يحفظن في غيبة الأزواج
ما يجب حفظه في النفس والمال، وقيل للأسرار ( {بما حفظ ا}
) أي بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحثّ عليه
بالوعد والوعيد والتوفيق له، أوبالذي حفظه الله لهنّ عليهم
من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن. قال
السفاقسي: قراءة الجمهور برفع الجلالة وما مصدرية: أي يحفظ
الله إياهن وجوز كون ما موصولاً اسمياً محذوف العائد: أي
بما حفظهالله، وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة
والعائد محذوف، وقرأ أبو جعفر بنصب الجلالة فما بمعنى
الذي، وفي حفظ ضمير يعود عليها: أي بالبرّ الذي حفظ حق
الله من التعفف وغيره، وقدره ابن جني بما حفظ حدود الله
والمضاف متعين لأن الذات المقدسة لا ينسب حفظها إلى أحد
وفيه حذف الضمير من حفظ: أي بحفظهن وهو قبيح لا يجوز إلا
في الشعر، والأحسن أن لا يقال حذف الضمير بل عاد عليهن
مفرداً ملاحظة للجنس، فكأن الصالحات في معنى من صلح، وإنما
أدى إلى هذه الشذوذ في هذه القراءة توجيهها على أن ما
موصولة، أما إذا جعلناها مصدرية كما تقدم فلا اهـ.
(وأما الأحاديث) النبوية (فمنها حديث عمرو بن الأحوص
السابق) بالرفع (في الباب قبله) .
(3/108)
2801 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه) قيل هو
كناية عن الجماع ويقويه قوله: «الولد للفراش» والكناية عما
يستحي من التصريح به فاشية في الكتاب والسنة (فلم تأته) ن
غير عذر بها (فبات غضبان) غير مصروف بناء على أن الشرط في
منع صرف الوصف ذي الزيادة وجود فعلي (عليها لعنتها
الملائكة) ويستمرّ ذلك منهم إن استمرت على الامتناع (حتى
تصبح) ويؤيد ما تقرّر أنه جاء في رواية «حتى ترجع» قال
بعضهم: ورواية الأصل محمولة على الغالب، وظاهر عموم الحديث
حرمة امتناعها من فراشها ولو حائضاً وهو كذلك لإمكان
الاستمتاع بها بغير الجماع. وظاهر الخبر اختصاص اللعن بما
إذا وقع منها ذلك ليلاً، لقوله: حتى تصبح وكأن السرّ فيه
تأكيد ذلك الشأن في الليل وقوّة الباعث عليه، ولا يلزم منه
جواز امتناعها منه نهاراً، لأن تخصيص الليل بالذكر لأنه
مظنة ذلك، ويؤخذ من قوله: فبات غضبان، أن اللعن عليها إنما
يكون حينئذٍ لتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من
ذلك إما لعذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك.
قال القرطبي: أما لو دعت المرأة زوجها فأبى فلا إثم عليه
ما لم يقصد بالامتناع المضارة لها فيحرم حينئذٍ/ والفرق
بينهما أن الرجل لبذله لماله هو المالك للبضع، والدرجة
التي له بسبب سلطته عليها بسبب ملكه أيضاً فقد لا ينشط في
وقت دعائها له فلا ينتشر ولا يتهيأ له ذلك بخلافها. قال
المهلب: هذا الحديث يوجب أن منع الحق في البدن كان أو في
المال مما يوجب سخط الله إلا أن يتغمد الله بالعفو، وفيه
جواز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه لئلا
يواقع الفعل إذا واقعه فإنما يدعي له بالتوبة والهداية قال
الحافظ ابن حجر: والحق أن من منع أراد باللعنة المعنى
الغوي وهو الإبعاد من الرحمة ومن أجاز أراد بها المعنى
العرفي وهو مطلق السبب، وحديث الباب ليس فيه إلا أن
الملائكة يدعون على أهل المعصية ما داموا فيها وهل هم
الحفظة أو غيرهم، كل محتمل. ويحتمل أن يكون بعض الملائكة
موكلاً بذلك. قلت: وظاهر الحديث التعميم لأن الجمع المحلى
بأل من صيغه، وفيه دليل على قبول دعاء الملائكة لكونه خوف
به، وفيه الإرشاد إلى مساعدة الزوج ومرضاته، وفيه أن صبر
الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وفيه أن
امتناعها من ذلك كبيرة (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود
والنسائي.
(وفي رواية لهما) أي للشيخين وهي عند أحمد
(3/109)
أيضاً (إذا باتت المرأة هاجرة) أي تاركة
(فراش زوجها) بغير مانع من مرض أو امتناع لتسلم صداق حال
عقدت عليه (لعنتها الملائكة حتى تصبح) ما دامت كذلك، فإذا
تابت من الذنب وأقلعت وعادت إلى الطاعة وأجابت إلى الفراش
أو كانت معذورة فلا.
(وفي رواية) لمسلم من حديث أبي هريرة أيضاً (قال: قال رسول
الله: والذي نفسي بيده) أي بقدرته وفي تصرفه، وفيه القسم
على الشيء لتأكيده وتقويته عند السامع، وهو كذلك مستحب
وواقع في الأخبار كثيراً (ما) نافية (من) مزيدة لتأكيد
استغراق النفي (رجل) يحتمل أن يراد به ما يقابل المرأة
فيشمل الصبيّ فتكون إجابته واجبة على زوجته المكلفة، وعلى
وليّ غير المكلفة أمرها بذلك وهو أقرب، ويحتمل أن يراد به
ما يقابل الصبيّ فيخص البالغ (يدعو امرأته إلى فراشه) أضيف
الفراش إليها هنا وإليه أوّلاً لملابسة كل منها له (فتأبى)
أي تمتنع (عليه) في «المصباح» : أبى الرجل يأبى إباء
بالكسر والمد وإباية: امتنع (إلا كان الذي في السماء) إن
كان المراد منه ساكنها فهو الملائكة، وإن أريد به حضرة
الحق سبحانه فيؤول بأن المراد الذي سلطانه أو ملكوته أو
أمره في السماء، لاستحالة المكان والجهة عليه سبحانه
وتعالى علوّاً كبيراً، والوجه الأخير أقرب إلى قوله
(ساخطاً عليها) وإن صح على الأول إفراده باعتبار لفظ الذي
المراد منه النوع الذي هو الملائكة، والسخط المراد منه
بالنسبة إليه تعالى غايته مجازاً مرسلاً من إطلاق اللازم
وإرادة الملزوم إما الانتقام فيكون صفة فعل، أو إرادته
فيكون صفة ذات كما تقدم أوّل الكتاب، وظاهر أن ذلك إذا غضب
منه الزوج كما يدل عليه قوله في الحديث قبله «فبات غضبان
عليها» وقوله هنا: (حتى يرضى عنها) .
2822 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحلّ) أي لا يجوز
(3/110)
(لامرأة أن تصوم) ولو فرضاً موسعاً لأن حق
الزوج ناجز ووقت الفرض متسع، ومن ثم لو ضاق بأن نذرت صوم
وقت معين قبل التزوج به أو بعده بإذن أو ضاق الوقت بأن لم
يبق من شعبان إلا قدر ما عليها من قضاء رمضان حل لها الصوم
بغير إذنه (وزوجها شاهد) أي حاضر، وظاهر عمومه أنه لا فرق
في ذلك بين حريتهما ورقهما وتخالفهما في ذلك (إلا بإذنه)
وذلك لأنه قد يكون له إليها حاجة فيمنعه عن ذلك الصوم. فإن
قيل يجوز له أن يفطرها والحالة هذه فلا يكون صومها مانعاً
له. أجيب بأنه قد يهاب ذلك فأدى إلى تركه لحقه فحرم إلا
بإذنه (ولا تأذن في بيته) لرجل محرم أو غيره ولالامرأة
كذلك (إلا بإذنه) صريحاً أو ما في معناه مما تقدم في الباب
قبله (متفق عليه. وهذا لفظ البخاري) من جملة حديث أورده في
كتاب النكاح، وآخره «وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه
يؤدي إليه شطره» وأخرجه النسائي في الصوم ولفظ مسلم في
كتاب الزكاة «لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا
تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه» .
2833 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: كلكم
راع) أي حافظ مؤتمن ملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو
مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه (كلكم مسؤول عن رعيته)
أي هل قام بما عليه من صلاحها وحفظها والقيام بمصلحتها
أولاً (والأمير) أي ذو الأمر فيشمل سائر الحكام، وفي رواية
الإمام، وعليها فخص بالذكر لأنه الأشرف الأكمل وباقي
الولاة مثله كما أفادته رواية الباب، والأمير (راع) على من
تحت ولايته فعليه النظر في شأنهم وتسديد أمرهم ودفع
المضرات عنهم (والرجل راع على أهل بيته) فيقوم بكفايتهم من
سائر المؤن بحسب حاله يساراً وإعساراً، ويأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر
الشرائع (والمرأة راعية على بيت زوجها) فتقوم بحفظه عن
السارق والهرة وسائر المتلفات، ولا تخزن فيه ولا تتصدق بما
(3/111)
تعلم أنه لا يرضى به (وولده) فتقوم بحضانته
وخدمته. قال الخطابي: اشتركوا يعني الأمير ومن بعده في
الوصف بالراعي، ومعناه مختلف، فرعاية الإمام الأعظم رعاية
الشريعة بإقامة حدودها والعدل في الحكم، ورعاية الرجل أهله
سياسته لأمرهم وإيصال حقوقهم، ورعاية المرأة تدبيرها لأمر
البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج (فكلكم) حتى من لا
أمر له ولا زوجة وهو الإنسان في نفسه فإنه (راع) على
جوارحه فيعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً
واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعاياه، ثم لا يلزم من
كونه راعياً أن لا يكون مرعياً باعتبار آخر (وكلكم مسؤول
عن رعيته) هل قام بما يجب لها عليه أولا؟ وجاء في حديث أنس
مثل حديث ابن عمر، وفي آخره «فاعدد للمسألة جواباً، قال:
وما جوابها؟ قال: أعمال البرّ» أخرجه ابن عديّ والطبراني
في «الأوسط» وسنده حسن (متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود
والترمذي. 5
2844 - (وعن أبي علي) بفتح المهملة وكسر اللام (طلق) بفتح
المهملة وسكون اللام (ابن علي) بفتح فكسر كذلك، ابن طلق بن
عمرو، وقيل طلق بن قيس بن عمرو بن عبد الله بن عمر بن عبد
العزى بن سحيم بن مرة بن الدؤل بن حنيفة الربعي الحنفي
السحيمي (رضي الله عنه) كان من الوفد الذين قدموا على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمامة فأسلموا، روي له
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثاً كما
ذكره ابن حزم في أواخر سيرته، وليس له في «الصحيحين» شيء
(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دعا الرجل
زوجته) كذا في النسخ بإثبات التاء وهي لغة واللغة الفصيحة
المشهورة التي جاء بها القرآن حذف التاء وهي لغة أهل
الحجاز، قال المصنف: وثبت إلحاق التاء في أحاديث في الصحيح
(لحاجته) التي يستحقها عليها (فلتأته) فوراً (وإن كانت على
التنور) الجملة الشرطية وصلية وهي في محل الحال كما تقدم
عن المطول. والتنور بفتح الفوقية وتشديد النون: الذي يخبز
فيه. قال في «المصباح» : وافقت فيه لغة العرب لغة العجم.
وقال أبو حاتم: ليس بعربي صحيح، والجمع
(3/112)
تنانير (رواه الترمذي) في النكاح (و) رواه
(النسائي) في باب عشرة النساء (وقال الترمذي: حديث حسن)
زاد فيما حكى المزي عنه في «الأطراف» بعد قوله حسن: غريب.
2855 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي: قال: لو)
حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه (كنت آمراً)
بمد الهمزة مضارع من الأمر، والجملة خبر كان، ورأيته في
نسخة من «الجامع الصغير» منوناً على أنه وصف خبر مفرد
(أحداً) أي من بني آدم (أن يسجد لأحد) تعظيماً له وأداء
لحقه (لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) لما له عليها من عظيم
الحق الواجب القيام به. وسبب هذا الحديث ما في أبي داود عن
قيس بن سعد قال: «أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم.
فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي فقلت:
إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول
الله أحق أن يُسجد لك، قال: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد
لي؟ فقال: لا، قال: فلا تفعلوا لو كنت» فذكره (رواه
الترمذي) أي من حديث أبي هريرة (وقال: حديث حسن صحيح)
ورواه أحمد من حديث معاذ والحاكم في «المستدرك» من حديث
بريدة.
2866 - (وعن أم) المؤمنين أم (سلمة) هند بنت أبي أمية سبقت
ترجمتها (رضي الله عنها) في باب التوكل (قالت: قال رسول
الله: أيما) بتشديد التحتية وهي الشرطية وحاصلة للتأكيد،
وأي مضافاً إلى (امرأة ماتت) أي فارقت الحياة مؤمنة
(وزوجها عنها راض) جملة حالية من الضمير المستكن في ماتت
والظرف متعلق براض قدم اهتماماً بشأنه (دخلت الجنة) ظاهره
ابتداء مع الفائزين، وهو محتمل بأن يغفر الله سيئاتها
ويرضى عنها الخصماء
(3/113)
(رواه الترمذي) ابن ماجه والحاكم (وقال) أي
الترمذي (حديث حسن) ثم مفهوم الحديث أن من ماتت وهو عنها
غير راض لا تدخل الجنة: أي مع الفائزين كما تقدم أنه ظاهر
المنطوق، ويحتمل أن يبقى على عمومه ويحمل على ما إذا
استغلت ذلك، وكان مما أجمع على تحريمه وعلم من الدين
بالضرورة وقد علمت ذلك.
2877 - (وعن معاذ بن جبل) الأنصاري تقدمت ترجمته (رضي الله
عنه) في باب المراقبة، وقوله: (عن النبي) متعلق بمحذوف دلّ
عليه المقام حال من المجرور بعن: أي ناقلاً عن النبي (أنه
قال: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا) أي لا يقع منها معه
ما من شأنه أن يتأذى به من غير مجوّز لذلك شرعاً، وإلا
فطلب نحو النفقة ممن يتأذى بها لنحو بخله لا يدخل الزوجة
في ذلك (إلا قالت زوجه) بالإضافة إلى الهاء (من الحور) بضم
الحاء المهملة وهن نساء أهل الجنة، واحدتهن حوراء: وهي
الشديدة بياض العين الشديدة سوادها (العين) بكسر العين
المهملة: أي بخل العيون. وقال البيضاوي جمع عيناء (لا
تؤذيه قاتلك ا) جملة دعائية والمراد من المفاعلة فيه أصل
الفعل وعبر بها للمبالغة، وأنها لما فعلت ذلك وتعرضت
لعقوبة الله صارت كالمقاتلة له تعالى فعبر بذلك (فإنما هو
عندك) في الدنيا (دخيل) أي ضيف ونزيل، وعبرت بذلك لأن مدة
المقام بالدنيا وإن طالت فهي يسيرة بالنظر إلى الآخرة التي
لا أمد لها، فعبرت بما يعبر به عن قصير الإقامة وهو الضيف
(يوشك) بضم أوله وكسر الشين المعجمة مضارع أوشك ومنه قوله
الشاعر:
يوشك من فر من منيته
في بعض غراته يوافقها
وفي «المصباح» أوشك من أفعال المقاربة والمعنى: الدنوّ من
الشيء. وقال الفارابي: الإيشاك الإسراع، لكن قال النحاة:
استعمال المضارع أكثر من الماضي، واستعمال اسم الفاعل منها
أقل. قال بعضهم: وقد استعملوا ماضياً ثلاثياً فقالوا: وشك
مثل قرب وشكا اهـ. وتقدم في باب التوبة بعضه (أن يفارقك)
منتقلاً (إلينا) أي فأحسني إليه، وفي تعبيرها بالدخيل
إيماء إلى ذلك، ففي الحديث الشريف: «من كان يؤمن با واليوم
الآخر
(3/114)
فليكرم ضيفه» (رواه الترمذي) آخر كتاب
النكاح (وقال: حديث حسن) غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
اهـ، ورواه ابن ماجه في النكاح أيضاً.
2888 - (وعن أسامة بن زيد) بن حارثة الحب ابن الحب (رضي
الله عنهما) الصحابي ابن الصحابي تقدمت ترجمته في باب
الصبر (عن النبي قال: ما تركت بعدي) أي بعد وفاتي (فتنة)
هي كما في «المصباح» : المحنة والابتلاء، والجمع فتن،
وأصلها من قولك فتنت الذهب والفضة إذا أدخلتهما النار
لتمييز الجيد من الردىء (هي أضرّ على الرجال من النساء)
أفاد الحديث أن الافتتان بهن أشد منه بغيرهن، ويشهد له
قوله تعالى: {زين الناس حب الشهوات من النساء} (آل عمران:
14) فجعلهن من عين الشهوات وبدأ بهن قبل بقية الأنواع
إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك. ويقع في المشاهدة حبّ الرجل
ولده الذي هو من امرأته التي هي عنده أشد من حبه لباقي
ولده، ومن ذلك قصة النعمان بن بشير في الهبة. وقد قال بعض
الحكماء: النساء شرّ كلهن وأشرّ ما فيهن عدم الاستغناء
عنهن، ومع نقص عقلهن يحملن الرجل على تعاطي ما فيه ذلك،
كشغله عن طلب أمور الدين وحمله على التهالك على طلب
الدنيا، وذلك أشد الفساد. وقد أخرج مسلم من حديث أبي
سعيدالخدري في أثناء حديث «واتقوا النساء فإن أول فتنة بني
إسرائيل كانت في النساء» . اهـ. ملخصاً من «الفتح» للحافظ
العسقلاني (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب النكاح، ومسلم
في آخر كتاب الدعاء، ورواه الترمذي في الاستئذان، والنسائي
في عشرة النساء، وابن ماجه في الفتن.
(3/115)
36 - باب النفقة
المراد بها سائر المؤن من كسوة ونفقة وسكن (على العيال)
بكسر العين المهملة: أي من يعولهم من زوجة وبعض وخادم. قال
ابن النحوي في الإشارة إلى لغات «المنهاج» : النفقة من
الإنفاق وهو الإخراج، والنفقة الدراهم ونحوها من الأموال
تجمع على نفقات وعلى نفاق أيضاً، وسميت بذلك إما لذهابها
بالموت وإما لرواجها من نفقت السوق أو من نفق البيع كثر
طلابه وإما لنفادها من نفق الزاد إذا ذهب لأنها عرضة
للنفاد اهـ.
(قال الله تعالى: {وعلى المولود له} ) أي الذي يولد له،
يعني الوالد فإن الوالد يولد له وينسب إليه في التعبير بما
ذكر إشارة للمعنى المقتضى لوجوب النفقة عليه ( {رزقهن
وكسوتهن} ) أجرة لهن. واختلف في استئجار الأم، فجوزه
الشافعي، ومنعه أبو حنيفة ما دامت زوجة أو معتدة بنكاح (
{بالمعروف} ) حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعه.
(وقال تعالى: {لينفق ذو} ) أي صاحب (سعة) بفتح السين وبه
قرأ السبعة، وكسرها لغة وقرأ به بعض التابعين ( {من سعته
ومن قدر} ) أي ضيق ( {عليه رزقه فلينفق مما آتاه ا} ) فإنه
تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وفيه تطييب لقلب المعسر،
ولذا عقبه بوعده باليسر بقوله: {سيجعل الله بعد عسر يسراً}
(الطلاق: 7) .
(وقال تعالى: {وما} ) شرط أو بمعنى الذي مبتدأ ( {أنفقتم
من شيء} ) عمومه متناول لليسير والحقير ( {فهو يخلفه} )
عوضاً إما عاجلاً أو آجلاً، وقيل بخلفه في الدنيا بالقناعة
التي هي كنز لا يفنى وبالثواب في الآخرة، وبالجملة جواب
الشرط وهل هي الخبر أو الجملة الشرطية والجواب قيد له، أو
الخبر مجموعهما أقوال أرجحها ثانيها، فإن كانت «ما» موصولة
فالجملة خبر المبتدأ.
(3/116)
2891 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله: دينار) مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه
نكرة إرادة التنويع فهو كقوله: فيوم لنا ويوم علينا، أو
إرادة الجنس به كقولهم: تمرة خير من جرادة (أنفقته في سبيل
ا) أي في الجهاد بإعانة ذلك عليه، ويحتمل أن المراد به
الأعم: أي في طاعة الله (ودينار أنفقته في رقبة) أي فعتقت
به كأن بقي ذلك من النجم الذي على المكاتب وبه تحصل حريته،
أو المراد به الجنس: أي وما أنفق في عتق الرقبة وتخليصها
من الرق، أو تصدق به عليها فخلصت به من التلف الذي كان بها
من الجوع والظمأ أو العري، وعلى الاحتمال الثالث فبينه
وبين قوله: (ودينار تصدقت به على مسكين) أي محتاج فيشمل
الفقير أيضاً عمومه (ودينار أنفقته على عيالك) أي من
تعولهم، وفي نسخة على أهلك (أعظمها) أي أكثرها (أجراً الذي
أنفقته على أهلك) لأن من تلزمه مؤنتهم يكون في الإنفاق
عليهم صلة رحمهم، وثوابها أعظم مما ذكر بكثير (رواه مسلم)
/
2902 - (وعن أبي عبد ا) ويقال أبو عبد الرحمن (ثوبان بن
بجدد) بضم الموحدة والدال المهملة الأولى وسكون الجيم
بينهما، والتصريح باسمه في نسخة (مولى رسول الله) قيل وجده
مسبياً فأمر به فعتق، وقيل شراه وعتقه، تقدمت ترجمته (رضي
الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول الله: أفضل
دينار ينفقه الرجل) في سبيل الخير (دينار ينفقه على عياله)
أي الذين يمونهم، وقدم هذا في الذكر اهتماها به لأنه أشرف
الأنواع كما صرح به في الحديث قبله (ودينار ينفقه على
دابته) التي يركبها أو يحمل عليها (في
(3/117)
سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه) الذين
يركبون معه (في سبيل ا) الظاهر أن المراد به في هذين
الجهاد، ويصح أن يراد به الأعم هنا لأن ثواب الإنفاق على
الدابة التي تركب أو يحمل عليها في الطاعة وعلى الأصحاب
الذين يجتمعون على الطاعة عظيم، وعلى الثاني فقد يشكل
التساوي بين الثلاثة، فإنه إذا أريد مطلق الطاعة يكون
الأول أفضلها. ويجاب بأنه لا مانع أن الثلاثة وإن كانت
أفضل من غيرها أن يكون أحدها أفضلها فهو أفضل الأفضل ثم
أفضل مبتدأ خبره دينار وما عطف عليه بتقدير تقديم العطف
على الربط (رواه مسلم) في الزكاة والترمذي في البرّ، وقال:
حسن صحيح، والنسائي في عشرة النساء، وابن ماجه في الجهاد.
2913 - (وعن) أم المؤمنين (أم سلمة رضي الله عنها قالت:
قلت: يا رسول الله هل) يكتب (لي أجر) أي ثواب أخروي (في
بني أبي سلمة) تعني أولادها منه (أن أنفق عليهم) بدل من
بني سلمة بدل اشتمال: أي هل يكتب لي أجر في الإنفاق عليهم
(و) الحال أني (لست بتاركتهم هكذا وهكذا) أي يتفرقون لطلب
القوت يميناً وشمالاً، بل أنا كافيتهم ذلك بحسب الطبع لأن
شفقة الأمومة تحمل على تكلف القيام بما يحتاج إليه
الأولاد، وقولها (إنما هم بنيّ؟) بفتح الموحدة وتشديد
التحتية، هو تعليل لما أفاده الاستفهام التعجبي من ترتب
الثواب على الإنفاق عليهم المنسوب لشفقة الأمومة وشأن
أعمال البرّ أن شوب غيرها بها يسقطها وهذا حالها وحالهم
(فقال: نعم) أي لك أجر وسكت عن جوابها عن سبب التعجب
المذكور علماً منه أنها إذا أخبرت بترتب الثواب عليه إنما
تأتي به لذلك لا غير، وحينئذٍ فلا شوب، ولما كان في قولها
هل لي أجر؟ إبهام، وكان لو اقتصر على قوله: نعم لأوهم أن
لها ثواباً زائداً على قدر ما تنفقه عليهم دفعه بقوله: (لك
أجر ما) هو في الأصول المصححة من «الصحيحين» بالإضافة فما
موصول أو موصوف صلة، أو صفته جملة قوله: (أنفقت عليهم)
قليلاً كان أو كثيراً، قال السيوطي في «التوضيح» ، وجوّز
بعضهم تنوينه
(3/118)
على أن ما وقتية. قلت: أو موصولة وثمة مضاف
مقدر: أي قدر ما أنفقته (متفق عليه) أخرجاه في كتاب
الزكاة.
2924 - (وعن سعد بن أبي وقاص) مالك بن وهيب أحد العشرة
(رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي قدمناه أول الكتاب في
باب النية) الذي فيه أن النبي عاده عام حجة الوداع من وجع
اشتد به (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له:
وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه ا) أي ذات الله تعالى
وطلب مرضاته، وفيه تعميم للنفقة باعتبار قلتها وكثرتها
وجلالها وحقارتها وباعتبار مصرفها (إلا أجرت بها) أي أجرك
الله بسببها السببية صورية وإلا فلا سبيل للوصول للفضل إلا
بمحض الفضل (حتى) غاية للعموم المستفاد مما قبله باعتبار
المصرف (ما) أي الذي أو شيئاً (تجعل) بحذف العائد المنصوب:
أي تجعله (في في امرأتك) أي فمها، وإنما غيابه لأنه ربما
يتوهم أنها لكونها محل قضاء الوطر أنه لا ثواب فيما يسدي
إليها من الجميل، فأفاد أن كل شيء قصد به وجه الله تعالى
أثيب عليه فاعله. وأخذ منه أن المباحات إذا اقترن بها
النية تنتقل إلى درجة الطاعات ويثاب عليها، فللوسائل حكم
المقاصد (متفق عليه) وتقدّم ثمة بيان من خرّجه.
2935 - (وعن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (البدري) نسبة لبدر
لكونه سكنها لا أنه شهد وقعتها على ما تقدم فيه، وتقدمت
ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (عن النبي
(3/119)
قال: إذا أنفق الرجل) المسلم كما في رواية
المشكاة بدل قوله الرجل (على أهله) الذين تلزمه مؤنتهم
وغيرهم (يحتسبها) عند الله: أي يقصد بها وجه الله والتقرب
إليه، والجملة حالية (فهو) أي المنفق الدالّ عليه بقوله
إذا أنفق (له صدقة) أي عظيمة الثواب لما فيها من أداء
الواجب وصلة الرحم الوارد فيه من الثواب ما لا يحصيه إلا
المتفضل به (متفق عليه) .
2946 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) كذا هو بحذف الياء
وتقدم أن الأفصح بناء على كونه منقوصاً إثبات الياء (رضي
الله عنهما قال: قال رسول الله: كفى بالمرء إثماً) الباء
زائدة في المفعول به، وإثماً تمييز محوّل عن الفاعل،
والأصل كفى المرء في عظم الإثم إثم تضييع من يقوت. قال ابن
رسلان: أي لو لم يكن له من الإثم إلا هذا لكفاه لعظمه عند
الله تعالى، وفاعل كفى هو قوله: (أن يضيع من يقوت) يقال
قاته يقوته إذا أعطاه قوته، ويقال فيه أقاته يقيته، وروي
أن يضيع من يقيت على لغة أقات. والمراد أن يمنع من تلزمه
نفقته من زوجة وولد ووالد ويعطي غيرهم ولو صدقة اهـ. ولم
أرَ من تعرّض لضبط يضيع هل هو من الإفعال أو من التفعيل،
والدائر على ألسنة المشايخ الثاني (حديث صحيح رواه أبو
داود) في آخر كتاب الزكاة (وغيره) فرواه النسائي في عشرة
النساء والبزار (ورواه مسلم في صحيحه بمعناه) وأوله عنده
«أن ابن عمرو قال: لقهرمان: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال:
لا، قال: قم فانطلق فأعطهم فإني سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (قال: كفى بالمرء إثماً أن يحبس من يملك قوته)
حذف مفعول يملك أي يملك القيام بأمره وقوته
(3/120)
مفعول يحبس. وقال العلقمي: هو من باب
التنازع وإعمال الأول وترك الإضمار في الثاني. وقال
المظهري: «أن يحبس» مبتدأ وكفى خبره مقدماً عليه، مثل بئس
رجلاً زيد أو خبر مبتدأ محذوف.
2957 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ قال: ما)
نافية (من) مزيدة لتأكيد النفي (يوم) وهو شرعاً من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس، وقوله: (يصبح العباد فيه) وصف
توضيحي (إلا ملكان) مبتدأ (ينزلان) خبر والجملة في محل
الحال مما قبله، قال في «فتح الباري» : وفي حديث أبي
الدرداء «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان
يناديان بصوت يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها
الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى،
ولا غريب شمسه إلا وبجنبيها ملكان يناديان» فذكر مثل حديث
أبي هريرة (فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً) كذا في نسخ
الرياض وهو لفظ مسلم وعند البخاري «منفق مال» بالإضافة
ولبعض رواته «منفقاً مالاً» (خلفاً) وأبهم الخلف ليتناول
المال والثواب وغيرهما. قال الحافظ: وإبهامه أولى، فكم من
منفق مات قبل وقوع الخلف المالي له، فيكون خلفه الثواب
المعدّ له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك
(ويقول) الملك (الآخر: اللهمّ أعط) عبر بالعطية مشاكلة لما
قبلها وإلا فهي لا تكون في التلف (ممسكاً تلفاً) يحتمل تلف
ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات
أعمال البر بالتشاغل بغيرها. قال النووي: الإنفاق الممدوح
ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات. وقال
القرطبي: هي تعم الواجبات والمندوبات/ لكن الممسك عن
المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل
المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو
أخرجه اهـ. (متفق عليه) .
2968 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه. (عن النبي
قال: اليد العليا) قال أبو
(3/121)
داود: قال الأكثر عن حماد بن زيد: هي
المنفقة، وقال غير واحد عنه: هي المتعففة، وكذا قال عبد
الوارث عن أيوب اهـ. وعند أبي نعيم في «المستخرج» عن حماد
«واليد العليا يد المعطي» . وعند النسائي عن طارف المحاربي
قال: «قدمنا المدينة فإذا النبي قائم على المنبر يخطب
الناس وهو يقول: يد المعطي العليا» قال الحافظ في «الفتح»
بعد ذكر أحاديث: فهذه الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا
هي المنفقة المعطية وأن السفلى أي في قوله: (خير من اليد
السفلى) هي السائلة، وهذا هو المعتمد. وهو قول الجمهور،
وقيل السفلى الآخذة سواء كان بسؤال أو بغيره، وهذا أباه
قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع أولاً في يد الله قبل يد
المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد
السائل أما يد الآخذ فلا، لأن يد اهي المعطية ويد اهي
الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين اهـ. وفيه نظر لأن
البحث إنما هو في أيدي الآدميين، أما يده تعالى فباعتبار
كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله
للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل
حال. أما يد الأدمي فأربعة: يد المعطي وقد تظافرت الأخبار
بأنها عليا ويد السائل وقد تظافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم
لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالباً، وللمقابلة
بين العلوّ والسفل المشتق منهما، ويد المتعفف عن الأخذ ولو
بعد أن تمد إليه يد المعطي، وهذه وهذه توصف بالعلو
المعنوي، ويد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها، فذهب
جمع إلى أنها سفلى وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، أما
المعنوي فلا يطرد فقد تكون علياً في بعض الصور وعليه يحمل
كلام من أطلق كونها عليا. وقال ابن حبان: اليد المتصدقة
أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال وعن الحسن البصري:
اليد العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه.
وأطلق آخرون
من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقاً. وقد
حكى ابن قتيبة ذلك في «غريب الحديث» عن قوم، ثم قال: وما
أرى هؤلاء إلا قوماً استطابوا السؤال فهم يجنحون للدناءة،
ولو جاز هذا لكان المولى من فوق من كان رقيقاً فأعتق
والمولى من أسفل من كان سيداً فأعتق اهـ. ثم قال الحافظ
بعد نقل أقوال أخر: وكل هذه التأويلات تضمحل عند الأحاديث
المتقدمة المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر الحديث بالحديث.
ومحصل ما في الأحاديث المتقدمة أن أعلا الأيدي المنفقة ثم
المتعففة عن الأخذ ثم الآخذة بغير سؤال وأسفل ما في الأيدي
السائلة والمانعة اهـ. (وابدأ) في العطاء (بمن تعول) لأنه
إما واجب أو مندوب ففيه أداء حق أو صلة رحم (وخير الصدقة
ما كان عن ظهر غنى) أي أفضلها ما وقع عن غنى وعدم احتياج
إلى
(3/122)
المتصدق به لنفسه أو لممونه.. قال الخطابي:
لفظ الظهر يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام، والمعنى:
أفضلها ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر
الكفاية لأهله وعياله ولذا قال أولاً: «وابدأ بمن تعول» .
وقال البغوي: المراد غنى يستظهر به على النوائب التي
تنوبه، والتنكير في غنى للتعظيم. قال الحافظ في «الفتح» :
هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل المراد خير الصدقة ما
أغنيت به من أعطيته عن السؤال، وقيل عن للسببية والظهر
زائد: أي خير الصدقة ما كان سببها غنى المتصدق اهـ. وقال
القرطبي: معنى الغنى حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية
كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه وستر العورة
ونحوه اهـ. وقال المصنف: مذهبنا أن التصدق بجميع المال
مستحب لمن لا دين عليه لا عيال له لا يصبرون ويكون هو
أيضاً ممن يصبر على الإضافة، فإن لم تجتمع هذه الشروط كره.
وأما ما يحتاج إليه ويؤدي الإيثار به إلى هلاك النفس
والإضرار بها أو كشف العورة فلا يجوز الإيثار به، فإذا
سقطت هذه الحقوق الواجبة صحّ الإيثار وكان أفضل بشرطه
وبهذا يندفع التعارض بين الأخبار (ومن
يستعفف) بفك الإدغام: أي عن السؤال (يعفه ا) بضم التحتية
والفاء اتباعاً لحركة الضمير أي يصيره عفيفاً: أي بمال
يغنيه به عن الحاجة، أو بقناعة في نفسه، وقيل معناه ومن
يطلب العفة وهي الكفّ عن الحرام يعفه الله: أي يصير عفيفاً
(ومن يستغن) بما أعطيه ويقنع به (يغنه ا) عن الاحتياج لما
فوقه فإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، والنفس معك إن
أرسلتها استرسلت وإن فطمتها وقفت وانفطمت (رواه البخاري)
أي بهذا اللفظ، ولفظ مسلم أخصر كما يأتي التنبيه عليه في
باب القناعة من الأصل. وثمة زيادة في «شرح الحديث» في
الشرح.
37 - باب طلب الإنفاق مما يحب
أي من محبوبه طبعاً فما مصدرية أو من الذي، أو من شيء
يحبه، فما موصول اسمي أو نكرة موصوفة والعائد محذوف عليهما
(ومن
(3/123)
الجيد) عادة، أو من الجيد بالنسبة للمدفوع
إليه المحبوب عنده.
(قال الله تعالى) : ( {لن تنالوا البر} ) أي لن تبلغوا
حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي
هو الرحمة والرضى والجنة ( {حتى تنفقوا مما تحبون} ) أي من
المال أو مما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الإخوان
والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله، ومن للتبعيض أو
للابتداء، ويؤيد الأول أنه قرىء بعض في مكان من.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما
كسبتم} ) من حلاله أو من خياره ( {ومما أخرجنا لكم من
الأرض} ) أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والتمر
والمعادن فحذف المضاف لتقدم ذكره، وفي الإملاء الحسن: أظن
والله أعلم أن أفضل ما يتصدق به الشخص ما كان من كسب يده،
وقد كان يذهب الواحد من الصحابة رضي الله عنهم يكتسب بنحو
عمل ثم يتصدق به أو منه (ولا تيمموا الخبيث) ولا تقصدوا
الردىء (منه) أي من المذكور أو مما أخرجنا، وتخصيصه بذلك
لأن التفاوت فيه أكثر (تنفقون) حال مقدرة من فاعل تيمموا،
ويجوز أن يتعلق منه به ويكون الضمير للخبيث والجملة حالاً
منه. قال بعضهم من تصدق بنفيس فاز بنفيس - {وفي ذلك
فليتنافس المتنافسون} ــــ.
2971 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه: كان أبو طلحة)
زيد بن سهل (رضي الله عنه أكثر الأنصار) هم أولاد الأوس
والخزرج وهو اسم إسلامي، سموا به لنصرهم النبي بالمدينة
(مالاً) تمييز عن نسبة الأكثرية إليه (من نخل) بيان لمال
(وكان أحب أمواله إليه) يجوز أن يكون مرفوعاً اسم كان
وخبرها (بيرحاء) ويجوز العكس، ويؤيد الأول قوله الآتي:
«وإن أحبّ مالي إليّ بيرحاء» ففيه أن مراده بيان الأحب
إليه، لا الحكم عليها بأنها
(3/124)
أحبّ إليه، وجاء في ضبط هذا اللفظ أوجه
كثيرة ضبطها في «النهاية» فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها
وفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمان لغات، كذا في
باب الزكاة على الأقارب من الفتح للحافظ ونازعه تلميذه شيخ
الإسلام زكريا بأن الذي في عبارة «النهاية» أنها بفتح
الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيهما وفتحهما
والقصر فجملتها خمسة لا ثمانية كما وقع لبعض الشراح، وكأنه
تصرف في عبارة «النهاية» اهـ. قال الحافظ: وفي رواية حماد
بن سلمة «بريحاء» بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على
التحتية، وفي «سنن أبي داود» «بأريحا» مثله لكن بزيادة
ألف، وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح
الراء مقصوراً وكذا جزم به الصاغاني وقال: إنه فيعلا من
البراح، قال: ومن ذكره بكسر الموحدة فظن أنها بئر من آبار
المدينة فقد صحف. وقال القاضي عياض: رواية المغاربة إعراب
الراء والقصر في حاء، وخطأ هذا الصوري، وقال الباجي: أدركت
أهل العلم ومنهم أبو ذر يفتحون الراء في كل حال، زاد
الصوري وكذا الباء: أي أوله فانتهى الخلاف في النطق بها
إلى عشرة أوجه. واختلف في «حاء» هل هي اسم رجل أو امرأة أو
مكان أضيفت إليه، أو هي كلمة للإبل، فكأن الإبل كانت ترعى
هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البير إلى اللفظ المذكور
(وكانت مستقبلة) بكسر الموحدة (المسجد) النبوي (وكان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها) أي الحديقة المذكورة
(ويشرب من ماء
فيها طيب) أي عذب. ففيه جواز دخول أهل الفضل للحوائط
والبساتين والاستظلال بظلها والأكل من ثمرها والراحة
والتنزّه، وقد يكون ذلك مستحسناً ليترتب عليه الأجر إذا
قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة
(قال: أنس) أعاد الراوي ذكره لطول الكلام وهذه عادة العرب
في محاوراتها (فلما نزلت هذه الآية) وبينها بقوله: (لن
تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة قاصداً
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله
إن الله سبحانه وتعالى يقول: (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا
مما تحبون) وهذا من أبي طلحة من باب لازم فائدة الخبر (وإن
أحبّ مالي إليّ بيرحاء وإنها) لكونها أحبّ إليّ وقد وقف
حصول البرّ على الإنفاق
(3/125)
من المحبوب (صدقة تعالى) أي وقفا على
المتصدق بها عليه، ويحتمل صدقة التمليك وهو ظاهر سياق
الماجشون عن إسحاق حيث قال: فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه،
قاله الحافظ (أرجو برّها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال
المعجمة وبالخاء الساكنة المعجمة هو ما يعد لوقت الحاجة
إليه كما في «المصباح» : أي انتفاعي بها وقت حاجتي إليها
وهو يوم القيامة وسائر أوقات الشدائد، وفسره الشيخ زكريا
بقوله أي أجرها (عند الله تعالى) ظرف تنازعه ما قبله
(فضعها يا رسول الله حيث أراك ا) تفويض منه إليه في تعيين
مصرفها لا في وقفيتها (فقال رسول الله: بخ) بفتح الموحدة
وسكون المعجمة وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر
والرفع: كلمة تقال لتفخيم الأمر والإعجاب به (ذلك) أي
المتصدق به (مال رابح) بالمثناة التحتية بعد الألف أو
بالموحدة بعدها كما سيأتي. قال الحافظ: في الحديث فضيلة
لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحثّ على الإنفاق من المحبوب،
فترقى هو إلى إنفاق أحبّ المحبوب، فصوب رأيه، وشكر عن ربه
فعله، وكنى عن ذلك بقوله: بخ إلخ.
قال البيضاوي في «التفسير» : وهذا يدل على أن إنفاق أحبّ
الأموال على أقرب الأقارب أفضل وإن الآية تعم الإنفاق
الواجب والمستحب اهـ. (وقد سمعت ما قلت) إن كانت ما مصدرية
فلا خلاف، وإن كانت موصولة فالعائد محذوف: أي قلته، ثم
أمره أن يخص بها أهله بقوله (وإني أرى) من الرأي في الأمر،
والجملة معطوفة على قوله وقد سمعت (أن تجعلها) صدقة (في
الأقربين) أي لك (فقال أبو طلحة أفعل) بضم اللام على أن
الضمير المستتر فيه لأبي طلحة (يا رسول الله فقسمها أبو
طلحة) فيه تعيين أحد الاحتمالين في رواية غيره حيث وقع
فيها أفعل فقسمها فإنه احتمل الأول، واحتمل أن يكون أفعل
صيغة أمر وفاعل قسمها النبي فانتفى الاحتمال الثاني بهذه
الرواية، وذكر الحافظ ابن عبد البرّ أن إسماعيل القاضي
رواه من القعنبي عن مالك فقال في روايته: فقسمها رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في أقاربه وبني عمه» قال وقوله
أقاربه: أي أقارب أبي طلحة قال ابن عبد البرّ إضافة القسم
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان شائعاً في
«لسان العرب» على معنى أنه الآمر به لكن أكثر الرواة لم
يقولوا ذلك، والصواب رواية من قال: فقسمها أبو طلحة (في
(3/126)
أقاربه وبني عمه) من عطف الخاص على العام،
وجاء في أحاديث تبيين الأقارب وأوضحها ما في «مراسيل أبي
بكر» بن حزم: فرده على أقاربه أُبي بن كعب وحسان بن ثابت
وأخيه وابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فنقاوموه، فباع
حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم، وهذا موافق للاحتمال
السابق من كون ذلك تمليكاً للأقارب (متفق عليه) رواه
البخاري في الزكاة وفي الوصايا وفي الوكالة وفي «التفسير»
، ورواه مسلم في الزكاة، ورواه النسائي في «التفسير»
(قوله: رابح) مرويّ (في الصحيحين رابح ورائح بالباء
الموحدة والياء المثناة) لفّ ونشر مرتب أو مشوش. قال
المصنف: قال القاضي عياض: روايتنا فيه في كتاب مسلم
بالموحدة اهـ. وأما البخاري فرواه بالوجهين ثم معناه
بالموحدة واضح من الربح: أي ذو ربح. وقيل هو فاعل بمعنى
مفعول: أي مربوح فيه، وأما بالتحتية فمعناه رايح عليك أجره
وبمعناه قول المصنف (أي رائح عليه) وفي نسخة (عليك نفعه)
ولا يخفى ما فيه من إبهام أنه معناه على الوجهين وليس
كذلك، وقد عبر به في «شرح مسلم» على الصواب فقال: أما
بالموحدة فمعناه ظاهر، وأما بالمثناة فمعناه رايح عليك
أجره ونفعه في الآخر اهـ. قال ابن بطال: والمعنى أن مسافته
قريبة وذلك أنفس الأموال وقيل معناه يروح بالأجر ويغدو به
اهـ. واكتفى بالرواح عن الغدو، وادعى الإسماعيلي أن من
رواه بالتحتية فقد صحف اهـ. ملخصاً من «الفتح» ، وقيل إنما
عبر به، لأن المراد أنه مال من شأنه الرواح وهو الذهاب
والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى (وبيرحاء حديقة نخل)
وليس اسم بئر (وروي بكسر الباء وفتحها) أي مع فتح الراء
وضمها والمد والقصر كما تقدم عن الحافظ بما فيه، قال
المصنف: في هذا الحديث من الفوائد: أن النفقة على الأقارب
أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين، وفيه أن القرابة يراعى
حقها في الصلة وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد، لأن النبي
أمر أبا طلحة أن يجعل ذلك في الأقربين فجعلها في أُبيّ بن
كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان في الجد السابع اهـ.
(3/127)
38 - باب وجوب أمره أهله
أي زوجته ومستولدته (وأولاده المميزين) المراد منهم ما
يشمل بناته المميزات والتذكير للتغليب وشرف الذكور (وسائر
من في رعيته) من العبيد والإماء (بطاعة الله تعالى) أي
امتثال أمره ونهيه وهي غير العبادة والقربة، والعبادة: ما
تعبد به بشرط النية ومعرفة المعبود، والقربة: ما تقرّب به
بشرط معرفة المتقرّب إليه، فالطاعة توجد بدونها في النظر
المؤدي إلى معرفةالله، إذ معرفته إنما تحصل بتمام النظر،
والقربة توجد بدون العبادة في القرب التي لا تحتاج إلى نية
كالعتق والوقف، كذا في الأضواء البهجة (ونهيهم) هو وما
بعده من المصادر مضاف لمفعوله: أي نهيه إياهم (عن
المخالفة) لأوامر الله تعالى (وتأديبهم) عند فعل ما لا
ينبغي فعله مما لا حد فيه ولا تعزير، أما هو فيأتي به ولا
تأخذه رأفة في دين الله (ومنعهم من ارتكاب منهي عنه)
بالحيلولة بينهم وبينه، وهذا واجب في المنهي عنه المحرم،
مندوب في المنهي عنه المكروه، ومثله في ذلك التأديب فينبغي
حمل الوجوب في الترجمة على ما يشمل الندب بأن يراد به الحق
المتأكد.
(قال الله تعالى) : ( {وأمر أهلك بالصلاة} ) قال السيوطي
في «الإكليل» فيه: أنه يجب على الإنسان أمر أهله من زوجة
وعبد وأمة وسائر عياله بالتقوى والطاعة خصوصاً الصلاة.
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا استيقظ من
الليل أقام أهله للصلاة وتلا هذه الآية اهـ.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم} ) بترك
المعاصي وفعل الطاعات ( {وأهليكم} ) بالنصح والتأديب،
وقرىء «وأهلكم» عطفاً على واو قوا، فتكون أنفسكم أنفس
القبيلين على تغليب المخاطبين (ناراً) التنوين فيها
للتعظيم، وبين عظمها بما وصفها به من قوله «وقودها الناس
والحجارة» .
(3/128)
2981 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
أخذ الحسن بن علي) بن أبي طالب (رضي الله عنهما تمرة من
تمر الصدقة) وفي رواية معمر عن محمد بن زياد عن أبي هريرة
قال: «كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم
تمراً من تمر الصدقة والحسن في حجره» أخرجه أحمد (فجعلها
في فيه) زاد أبو مسلم الكجي عن محمد بن زياد فلم يفطن له
النبي حتى قام ولعابه يسيل، فضرب النبي شدقه، وفي رواية
معمر «فلما فرغ حمله على عاتقه فسال لعابه، فرفع رأسه فإذا
تمرة في فيه» (فقال رسول الله) زجراً له ليطرحها (كخ كخ)
سيأتي ضبطها ومعناه (ارم بها) هذه من زيادة مسلم على
البخاري، وفي رواية حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أحمد
«فنظر إليه فإذا هو يلوك تمرة، فحرك خده وقال: ألقها يا
بنيّ ألقها يا بنيّ» ويجمع بين هذين وبين قوله كخ كخ بأنه
كلمه أولاً بهما، فلما تمادى قال: له كخ كخ إشارة إلى
استقذاره ذلك، ويحتمل العكس بأن يكون أعلمه بذلك فلما
تمادى نزعها من فيه (أما علمت) هذا لفظ مسلم، وفي رواية
للبخاري «أما شعرت» وفي أخرى له في الجهاد «أما تعرف» (أنا
لا نأكل الصدقة) قال المصنف: هذه اللفظة تقال في الشيء
الواضح التحريم وإن لم يكن المخاطب عالماً بذلك، وتقديره،
عجب كيف خفي عليك هذا مع ظهور تحريمه، وهذا أبلغ في الزجر
من قوله لا تفعل (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي
الجهاد، ومسلم في الزكاة والنسائي في السير.
(وفي رواية) هي لمسلم كما في «الفتح» (إنا لا تحلّ لنا
الصدقة) قال في رواية معمر «إن الصدقة لا تحلّ لآل محمد»
وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه قال
«كنت مع النبي، فمرّ على جرين من تمر الصدقة» وإسناده قوي.
وللطبراني والطحاوي من حديث ابن أبي ليلى نحوه (وقوله) في
الحديث (كخ كخ يقال بإسكان الخاء) المعجمة مثقلة ومخففة
(ويقال بكسرها) منونة وغير منونة وهي بفتح الكاف في الجميع
وكسرها قال الحافظ: فيخرج من ذلك ستّ لغات، قلت بل ثمان
(وهي كلمة زجر للصبيّ عن المستقذرات) قيل هي من أسماء
الأصوات، وقيل من أسماء الأفعال، وأشار البخاري في
(3/129)
باب من تكلم بالفارسية إلى أنها عجمية
معربة، والثانية تأكيد للأولى (وكان الحسن رضي الله عنه
صبياً) لأنه ولد بعد الهجرة بسنة.
2992 - (وعن أبي حفص) بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء هو
الأسد وهي كنية (عمر بن أبي سلمة) واسم أبي سلمة عبد الله
بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي
المخزومي الصحابي بن الصحابيين (ربيب رسول الله) أي ولد
زوجته أم سلمة، ولدته بالحبشة وأبواه مهاجران إليها في آخر
السنة الثانية من هجرة رسول الله، روي له عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر حديثاً، روى البخاري ومسلم
منها حديثين، روى عنه ابن المسيب وعروة ووهب بن كيسان
وغيرهم، توفي سنة ثلاث وثمانين، وقد ذكرت زيادة في ترجمته
في كتاب «إتحاف السائل بمعرفة رجال الشمال» (قال: كنت
غلاماً في حجر رسول الله) بفتح المهملة: أي كنفه وحمايته،
أو المراد به الحضن: وهو ما بين الإبط إلى الكشح فيكون
كقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (النساء: 23)
(وكانت يدي تطيش في) نواحي (الصحة) قال في «المصباح» هي
إناء كالقصعة والجمع صحاف مثل كلبة وكلاب، قال الزمخشري:
الصحفة قصعة مستطيلة (فقال لي رسول الله) معلماً ومؤدباً
(يا غلام) بضم الميم (سم ا) أمر ندب اتفاقاً (وكل بيمينك)
ذهب الجمهور إلى أنه للندب أيضاً، وذهب بعضهم إلى وجوبه
ويؤيده ما تقدم في باب الأمر بالمحافظة على السنة «من أن
رجلاف أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله
فقال: كُل بيمينك، قال: لا أستطيع، فقال: لا استطعت فما
رفعها إلى فيه بعد» وفي الطبراني «أنه رأى سبيعة الأسلمية
تأكل بشمالها، فدعا عليها فأصابها طاعون فماتت» فحمله
الجمهور على الزجر والسياسة (وكل مما يليك)
(3/130)
أي ندباً على الأصح وقيل وجوباً لما فيه من
إلحاق الضرر بالغير ومزيد الشره، قال ابن حجر الهيثمي:
وانتصر له السبكي ونص عليه الشافعي في «الرسالة «ومواضع
من» الأم» ، وفي «مختصر البويطي» يحرم الأكل من رأس الثريد
والأصح الكراهة، ومحل ذلك ما إذا لم يعلم رضا من يأكل معه
وإلا فلا حرمة ولا كراهة، لما ورد عن أنس من
تتبعه للدباء من حوالي القصعة وقول البعض إنه أكل وحده
مردود بأن أنساً أكل معه (فـ) ـتسبب عن ذلك أنها (ما زالت
تلك طعمتي) بكسر الطعاء المهملة لبيان الهيئة أي صفة أكلي
(بعد) بضم الدال أي بعد ذلك الأمر (متفق عليه) رواه
البخاري ومسلم في الأطعمة، والنسائي في المحاربة واليوم
والليلة، وابن ماجه في الأطعمة وقوله: «سمّ الله وكل مما
يليك» رواه أبو داود في الوليمة (وتطيش تدور في نواحي
الصحفة) .c
3300 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول: كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله
ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن
رعيتها) ذكراً كان أو أنثى، رقيقاً أو حراً، متبرعاً أو
مستأجراً (والخادم راع في مال سيده) فيحفظه عن أسباب التلف
ولا يخون فيه (ومسؤول عن رعيته، كلكم راع ومسؤول عن رعيته.
متفق عليه) وتقدم الكلام عليه في باب حق الزوج على امرأته.
وفي «المغني» لابن هشام: إذا أضيفت كل إلى المعرفة قالوا:
يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها نحو: كلهم قائم أو
قائمون، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {إن كل من في السموات
والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم
آتيه
(3/131)
يوم القيامة فرداً} (مريم: 93 - 95)
والصواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفرداً
مذكراً على لفظها نحو: «وكلهم آتيه» وقوله: «كلكم راع»
اهـ.
4301 - (وعن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن
العاص. صدوق من صغار التابعين، مات سنة ثماني عشرة ومائة.
خرّج عنه البخاري في القدر وأصحاب السنن الأربعة (عن أبيه)
شعيب، وهو صدوق ثبت سماعه من جده من كبار التابعين. خرّج
عنه من ذكر (عن جده) أي جد الأب وهو عبد الله بن عمرو (رضي
الله عنه) قال السيوطي: في حواشي سنن أبي داود: قال
الدارقطني: سمعت أبا بكر النقاش يقول: عمرو بن شعيب ليس من
التابعين، وقد روى عنه عشرون من التابعين، قال الدارقطني:
فتبعتهم فوجدتهم أكثر من عشرين. قال ابن الصلاح: قرأت بخط
الحافظ أبي موسى الطيبي في تخريج له قال: عمرو بن شعيب ليس
بتابعي، وقد روى عنه نيف وسبعون رجلاً من التابعين، وهذا
وهم فإنه روى عن صحابيتين هما الربيَّع بنت معوّذ بن
عفراء، وزينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي فهو تابعي. وقد
اختلف الحفاظ في الاحتجاج بنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده، والراجح الاحتجاج بها مطلقاً، والضمير في جده لشعيب
لا لعمرو، ومحمد المذكور في النسب لا مدخل له في هذا
الإسناد إلا في حديث واحد لا ثاني له هو ما أخرجه ابن حبان
في «صحيحه» من حديث ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
محمد بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «ألا
أحدثكم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة»
الحديث اهـ.
(قال: قال رسول الله: مروا أولادكم) وجوباً وسواء في ذلك
الذكر والأنثى، وكذا يجب عليه أمر زوجته وخادمه (بالصلاة)
أي وبما تتوقف عليه لأن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم بدونه
(وهم أبناء سبع) أي تمامها: أي وقد ميزوا، كما والغالب
بحيث صار الصبيّ يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده
(واضربوهم عليها) أي على أدائها إن امتنعوا منه ضرباً غير
مبرّح ويتقّي الوجه (وهم أبناء عشر) وقد اختلف هل ذلك بعد
تمامها أو بالدخول فيها، وإنما أمر بالضرب فيها لأنه حدّ
يحتمل فيه الضرب غالباً (وفرقوا بينهم في المضاجع) فلا
يباشر المميز غيره في المضاجع، قال ابن
(3/132)
عبد السلام: الصبيّ ليس مخباطاً، وأما هذا
الخبر فهو أمر للأولياء، لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس
أمراً بذلك الشيء قال: وقد وجد أمر الله للصبيان مباشرة
على وجه لا يمكن الطعن فيه وهو قوله تعالى: {ليستأذنكم
الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم} (النور:
58) اهـ. وآخر الحديث «وإذا زوّج أحدكم خادمه، عبده أو
أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرّة وفوق الركبة» (حديث حسن
رواه أبو داود بإسناد حسن) ورواه الإمام أحمد والحاكم في
«المستدرك» .
5302 - (وعن أبي ثرية) بضم المثلثة وفتح الراء وبتشديد
التحتية ويقال بفتح المثلثة وكسر الراء والأول أكثر. وقال
في «أُسد الغابة» : والأول أصح. وقال المصنف في «التهذيب»
، حكى ابن الأثير فتح الثاء وهو غريب، كنية (سبرة) بفتح
المهملة الأولى وسكون الموحدة (ابن معبد) بفتح الميم
الموحدة وسكون المهملة بينهما. قال في «أسد الغابة» : يقال
سبرة بن معبد ويقال سبرة بن عوسجة بن سبرة بن خديج بن مالك
بن عمرو بن ذهل بن ثعلبة بن نضر بن سعد بن دينار بن رشدان
بن قيس بن جهينة (الجهني رضي الله عنه) ويكنى بأبي الربيع
أيضاً روى عنه الربيع في المتعة. قال المصنف في «التهذيب»
: يكنى بأبي ثرية على المشهور، وقيل كنيته أبو الربيع حكاه
الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في «الأطراف» ، كان له دار
بالمدينة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
تسعة عشر حديثاً، روى مسلم منها حديثاً واحداً، توفي في
خلافة معاوية (رضي الله عنهما) .
(قال: قال رسول الله: علموا الصبي) المراد به ما يشمل
الصبية لأنه فعيل بمعنى فاعل، وفعيل إذا كان كذلك يستوي
فيها المذكر والمؤنث (الصلاة لسبع سنين، واضربوه عليها)
حال كونه (ابن عشر سنين) فهو حال من ضمير المفعول، ويجب
على الوليّ إذا ميز الصبيّ أن يعلمه ما يجب اعتقاده مما
يجب ويجوز ويستحيل في حق الله تعالى وحق رسوله وحق سائر
الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن شرائعهم نسخت كلها بشريعة
نبينا التي لا تنسخ أبداً، وأنه محمد بن عبد الله النبي
(3/133)
الرسول العربي، ولد بمكة ومات بالمدينة،
ويعلمه أحكام الشرائع ليرسخ ذلك عنده، فالعلم في الصغر
كالنقش في الحجر (رواه) أي هذا الخبر لا بخصوص هذا اللفظ
لما يأتي من قوله: ولفظ أبي داود إلخ (أبو داود والترمذي
وقال: حديث حسن) كان الأولى تقديم ذكر الترمذي لأنه راوي
اللفظ، وكأنه قدم أبا داود لعلوّ رتبة مرويه على مروي من
بعده، ويعود الضمير من قوله: «وقال» إلى أقرب مذكور (ولفظ
أبي داود: مروا الصبيّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين) ليتمرّن
عليها ويعتادها فلا يتركها إذا بلغ إن شاء الله تعالى.
39 - باب حق الجار
أي ما يستحقه (والوصية) من الشارع (به) وفي ذلك حصول الألف
والتوادّ الذي به نظام المعاش والمعاد. وفي «المصباح» :
الجار: المجاور في السكن والجمع جيران، وجاوره مجاورة
وجواراً من باب قاتل والاسم الجوار بالضم: إذا لاصقه في
السكن، وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي الجار هو الذي يجاورك
ببيت اهـ. وأما الجار شرعاً ففي الوصايا: لو أوصى لجيرانه
دفع لأربعين داراً من كل جانب من الجوانب الأربعة.
(قال الله تعالى) : ( {واعبدوا ا} ) أي وحدوه ( {ولا
تشركوا بي شيئاً} ) صنماً أو غيره أو شيئاً من الشرك جلياً
أو خفياً ( {وبالوالدين إحساناً} ) أي وأحسنوا بهما
إحساناً ( {وبذي القربى} ) أي وبصاحب القرابة ( {واليتامى
والمساكين} ) تقدم تعريفهما في باب ملاطفة اليتيم
والمساكين ( {والجار ذي القربى} ) الذي قرب جواره، وقيل
الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو
(3/134)
دين، وقرىء بالنصب على الاختصاص تعظيماً
لحفظه ( {والجار الجنب} ) البعيد أو الذي لا قرابة له.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «الجيران ثلاثة، فجار له ثلاث
حقوق: حق الجوار وحق القرابة، وحتى الإسلام. وجار له حقان:
حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق الجوار وهو المشرك من
أهل الكتاب» ( {والصاحب بالجنب} ) الرفيق في أمر حسن كتعلم
وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجنبك، وقيل المرأة (
{وابن السبيل} ) المسافر والضيف ( {وما ملكت أيمانكم} ) من
العبيد والإماء.
1303 - (وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ما زال جبريل) عليه السلام
تقدم في باب المراقبة أنه اسم سرياني. قيل: معناه عبد
الرحمن، وقيل: معناه عبد الله (يوصيني بالجار) أي
بالاعتناء به والاحتفال بشأنه (حتى) من شدة ذلك (ظننت أنه
سيورثه) فيكون سبب الإرث الجوار، كما كان سببه أول الإسلام
التحالف والتعاهد حتى نسخ بآية المواريث (متفق عليه)
واللفظ للبخاري ولفظ مسلم «ليورثنه» بالمضارع المؤكد
بالنون.
2304 - (وعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة وتقدمت ترجمته (رضي
الله عنه) في باب المراقبة (قال: قال رسول الله: يا أبا
ذرّ) يكتب بحذف ألف أبا الأولى تخفيفاً وينطق بها، كذا
قيل، والظاهر بحذف ألف حرف النداء لأن ألفه تحذف في رسم
الإمام وكذا هنا إلحاقاً به (إذا
(3/135)
طبخت مرقة) هو الماء الذي طبخ فيه اللحم
ونحوه، وتوضحها رواية ابن أبي شيبة الآتية، ولفظ المرقة
هنا مجاز مرسل علاقته الأول فهو نظير قوله تعالى: {إني
أراني أعصر خمراً} (يوسف: 36) (فأكثر ماءها) ليكثر
الائتدام بها، فإن المراد بها إساغة الخبز وتليينه، وذلك
يستوي فيه ضيق المرقة وواسعها (وتعاهد) ندباً (جيرانك) أي
بالإحسان إليهم وفعل البرّ معهم، وفي التعبير بالتعاهد
الموضوع للمشاركة في الفعل: أي: إلى طلب ذلك من كل الجيران
مع الباقين (رواه مسلم) وعند ابن أبي شيبة من حديث جابر
مرفوعاً «إذا طبختم اللحم فأكثروا المرق/ فإنه أوسع وأبلغ
بالجيران» . ففي الحديث الحض على مكارم الأخلاق والإرشاد
لمحاسنها لما يترتب عليه من المحبة والألفة ولما يحصل به
من المنفعة ودفع الحاجة والمفسدة فقد يتأذى الجار بقتار
قدر جاره وعياله وصغار ولده ولا يقدر على التوصل لذلك،
فتهيج من صغارهم الشهوة ويقوم على القائم بهم الألم
والكلفة، وربما كان يتيماً أو أرملة فتكون المشقة أعظم
وتشتد منهم الحسرة والألم، وكل ذلك ليندفع بتشريكهم في شيء
من الطبخ فلا أقبح من منع هذا اليسير المترتب عليه هذا
الضرر الكبير.
(وفي رواية له) أي لمسلم (عن أبي ذر قال: إن خليلي) لا
ينافيه حديث: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا
بكر» لأن الذي لم يكن اتخاذ النبي غير ربه خليلاً، أما
اتخاذ غيره إياه خليلاً فلا، ومثله حديث أبي هريرة «أوصاني
خليلي بثلاث: أن لا أنام قبل أن أوتر» الحديث (أوصاني إذا
طبخت مرقاً) أي ذا مرق من لحم وغيره (فأكثر ماءه ثم انظر
أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها) أي المرقة المدول عليها
بالمرق (بمعروف) الباء صلة الفعل قبله، وجملة إذا طبخت
تحتمل أن تكون مفسرة لقوله أوصاني خليلي، وأن تكون مستأنفة
استئنافاً بيانياً، كأنه قيل: ما قال لك إذا أوصاك، فقال:
قال إذا طبخت إلخ. وفي قوله بمعروف إيماء إلى أنه ينبغي أن
يكون المرسل به إلى الجيران شيئاً به نفع في الائتدام، فإن
لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقره ففي الحديث «لا
تحقرن من
(3/136)
المعروف شيئاً» ويكون المهدى إليه مأموراً
بقبوله ذلك والمكافأة عليه ولو بالشكر، فإنه وإن كان
قليلاً دليل على تعلق قلب المهدي بجاره.
3305 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كذا في نسختين من
الرياض، والذي في باب «إثم من لاتأمن جيرانه بوائقه» من
«صحيح البخاري» أن الحديث عن أبي شريح (أن النبي قال: وا
لا يؤمن، وا لا يؤمن، وا لا يؤمن) فيه الحلف من غير
استحلاف وتكراره لتأكيد الأمر وهو لذلك مستحبّ والمراد من
الإيمان المنفي الإيمان الكامل لا أصله المخرج من النار
المدخل في الجنة فذلك لا يزول بهذا (قيل: من يا رسول
الله؟) هذا الذي نفى عنه الإيمان مراراً (قال) هو (الذي لا
يأمن جاره بوائقه) فالموصول خبر لمبتدأ محذوف (متفق عليه)
الخبر أخرجه البخاري، في الأدب واللفظ له لكن من حديث أبي
سريج كما تقدم.
(وفي رواية لمسلم) من حديث أبي هريرة رواها عنه في كتاب
الإيمان قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(لا يدخل الجنة) أي مع الناجين، قال المصنف: ومعناه: هذا
جزاؤه ثم قد يجازى بذلك وقد يعفو عنه فيدخلها ابتداء، أو
مطلقاً إن استحل أذاه بما علم تحريمه بالضرورة (من لا يأمن
جاره) وفي نسخة «ولا يؤمن جاره» (بوائقه. البوائق:
الغوائل) بالغين المعجمة (والشرور) واحدها بائقة قال في
«شرح مسلم» وهو الغائلة والداهية.
4306 - (وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قال: قال
رسول الله: يا نساء المسلمات) من إضافة الموصوف إلى صفته
وهو مؤول عند البصريين: أي يا نساء الجماعة المسلمات (لا
تحقرنّ جارة) معروفاً (لجارتها ولو فرسن شاة. متفق عليه)
وتقدم الكلام عليه في
(3/137)
باب بيان كثرة طرق الخير.
5307 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا
يمنع) بالجزم على أنها ناهية، ولبعض رواة البخاري بالرفع:
نفي بمعنى النهي (جار جاره) من (أن يغرز خشبة في جداره) أي
لا يمنعه من ذلك في ملكه وإن تضررّ هو بذلك كأن يحدث له
بها ظلام في محله ونحو ذلك، فإن المالك له أن يفعل في ملكه
ما يشاء وإن آذى الجار والمار، والأكثر على أن الضمير في
جداره يرجع إلى المانع: أي لا يمنعه من غرزه في جدار نفسه،
لأن ذلك مما يتسامح به ويتساهل فيه، هو القول القديم
للشافعي في جمع من الأئمة (ثم يقول أبو هريرة) بعد روايته
الحديث (مالي) مبتدأ والظرف خبر (أراكم) جملة حالية من
الضمير (عنها) أي عن السنة، أو الخصلة أو المقالة (معرضين)
إن كانت أرى علمية فهو مفعول ثان وإن كانت بصرية فحال،
والظرف متعلق به قدم عليه اهتماماً به واختصاصاً (وا
لأرمين بها) أي بهذه السنة (بين أكتافكم) بالفوقية جمع
كتف: أي بينكم، قال القاضي عياض وقد رواه بعض رواة الموطأ
أكنافكم بالنون، ومعناه أيضاً بينكم، والكنف: الجانب،
ومعنى الأول، أني أصرح بها بينكم وأوجعكم بالتقريع بها كما
يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه (متفق عليه) .
(روى خشبه بالإضافة) إلى هاء الضمير (والجمع) لخشبه بحذف
هاء الوحدة (وروي خشبة بالتنوين) مع هاء الواحدة (على
الإفراد) قال الحافظ في «الفتح» : قال ابن عبد البرّ: روي
اللفظان في الموطأ والمعنى واحدة، لأن المراد الجنس وهذا
متعين للجمع، وإلا فالمعنى قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة
الواحدة أخفّ في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير اهـ. قال
القاضي: روينا قوله خشبة في «صحيح مسلم» وغير من الأصول
بالإفراد والجمع، قال: وقال الطحاوي عن روح بن الفرج: سألت
أبا زيد والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى عنه فقالوا
كلهم خشبة بالتنوين على الإفراد. وقال عبد الغني بن سعيد:
كل يقوله بالجمع إلا الطحاوي. وفي «فتح الباري» وما ذكرته
من اختلاف رواة الصحيح يردّ على عبد الغني، إلا أن المراد
خاصاً من الناس كالذين روى عنه الطحاوي اهـ. (وقوله ما لي
أراكم عنها معرضين: يعني عن هذه السنة) قال المصنف في شرح
مسلم: جاء
(3/138)
في رواية أبي داود: «فنكسوا رؤوسهم، فقال
ما لي أراكم أعرضتم» واختلف العلماء في معنى هذا الحديث،
هل هو على الندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار
جاره أم على الإيجاب؟ وفيه قولان للشافعي ولأصحاب مالك،
أصحهما في المذهبين الندب، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون،
والثاني الإيجاب وبه قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث وهو
ظاهر الحديث، ومن قال بالندب قال، ظاهر الحديث أنهم توقفوا
عن العمل فقال: ما لي أراكم عنها معرضين، وهذا يدل على
أنهم فهموا منه الندب لا الإيجاب، وإلا لما أطبقوا على
الإعراض عنه اهـ.
6308 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من
كان يؤمن) إيماناً كاملاً (با واليوم الآخر) هو يوم
القيامة الذي هو محل الجزاء على الأعمال حسنها وقبيحها،
وسمي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده، وذكره هنا دون نحو
الملائكة مما ذكر معه في حديث جبريل تنبيه وإرشاد لما
أشرنا إليه مما يوقظ النفس ويحركها في الهمة للمبادرة إلى
امتثال جزاء هذا الشرط وما هو مثله (فلا يؤذي جاره) كذا هو
بإثبات الباء وهو محمول على أن لا نافية والمبتدأ مقدر
قبله، والأصل فهو لا يؤذي جاره: أي هذا شأنه، ويجوز أن
تكون ناهية وتكون الياء فيه للإشباع، وإيذاء الجار حرام
(ومن كان يؤمن با واليوم الآخر) إيماناً كاملاً (فليكرم
ضيفه) الغني والفقير بحسن البشر والمبادرة بما تيسر عنده
من الطعام من غير كلفة ولا إضرار بأهله إلا أن يرضوا وهم
بالغون عاقلون، وعليه يحمل ما ورد من الثناء على الأنصاري
وامرأته في إيثارهما الضيف على أنفسهما. والضيف لغة يشمل
الواحد والجمع من أضفته وضيفته: إذا أنزلته بك ضيفاً،
وضفته وتضيفته: إذا نزلت عليه ضيفاً (ومن كان يؤمن با
واليوم الآخر فليقل) اللام فيه وفي فليكرم للأمر ويجوز
سكونها وكسرها حيث دخلت عليها الفاء والواو وثم بخلافها في
ليسكت فإنها مسكورة لا غير (خيراً) قال الشافعي:
(3/139)
لكن بعد أن يتفكر فيما يريد أن يتكلم به،
فإذا ظهر له أنه خيرمحقق لا يترتب عليه مفسدة ولا يجرّ إلى
كلام محرم أو مكروه أتى به (أو ليسكت) فليطلب الصمت حتى عن
المباح لأنه ربما أدى إلى محرم أو مكروه، وبفرض أنه لا
يؤدي إليهما ففيه ضياع الوقت فيما لا يعني، وقد ورد «من
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (متفق عليه) أخرجه
البخاري في كتاب الإيمان، وهو من القواعد العظيمة لأنه بين
فيه جميع أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح فعلاً، وبهذا
الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه ثلث الإسلام. وقال بعضهم:
جميع آداب الخير تتفرّع منه، ويشار فيه إلى
سائر خصال البرّ والصلة والإحسان لأن آكدها رعاية حق
الجوار، وبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه نصف الإسلام،
لأن الأحكام إما أن تتعلق بالحق أو بالخلق، وهذا أفاده
الثاني لأن وصلة الخلق تستلزم رعاية جميع حقوقهم.
7309 - (وعن أبي شريح) بضم الشين المعجمة وفتح الراء آخره
مهملة قبلها تحتية ساكنة (الخزاعي) تقدمت ترجمته (رضي الله
عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن النبي قال: من كان يؤمن با
واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) ذكر حديث أبي هريرة قبل
هذا، لأن ما في ذلك من باب الدرء والتخلية، وما في هذا من
باب جلب النفع والتحلية، ودرء المفاسد مقدم على جلب
المصالح، وأشار المصنف بالجمع بينهما إلى أن كمال الإيمان
لا يحصل إلا بالجمع بين الأمرين، فيكفّ عنه أذاه ويحسن
إليه بما تصل إليه قدرته (من كان يؤمن با واليوم الآخر
فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو
ليسكت) ولعل حكمة الفصل بين الجمل في هذه الرواية الإيماء
إلى أن مضمون كل منها مطلوب لذاته من غير اعتبار انضمام
غيره إليه وإن كان أفضل، ولذلك وصل بينهما في الروايات
الأخر (رواه مسلم) في كتاب الإيمان من «صحيحه» (بهذا
اللفظ) ورواه أحمد والترمذي.
(وروى
(3/140)
البخاري بعضه) قلت: بل جميعه إلا أن في
اللفظ اختلافاً يسيراً فقال في كتاب الأدب من الصحيح في
باب «من كان يؤمن با واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» عن أبي
شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي
«من كان يؤمن با واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن
با واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، ثم فسر الجائزة ومن
كان يؤمن با واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» .
8310 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله
إن لي جارين) أي وقد أمرت بإكرام الجار مطلقاً ولا أقدر
على الإهداء إليهما معاً (فإلى أيهما أهدي) ليحصل لي
بالدخول في جملة القائمين بإكرام الجار (قال: إلى أقربهما
منك باباً) لأنه المراد بالجار ذي القربى على أحد الأقوال،
وقد قدم في الذكر على الجار الجنب اهتماماً به واعتناء
بشأنه، ففيه إيماء إلى تقديمه عند المضايقة وباباً منصوب
على التمييز (رواه البخاري) .
9311 - (وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله: خير الأصحاب عند ا) أي أكثرهم عنده ثواباً أو
أكرمهم عنده منزلة قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}
(الحجرات: 13) (خيرهم لصاحبه) في القيام بما ينفعه والدفع
لما يؤذيه (وخير الجيران) ثواب أو منزلة (عند الله خيرهم
لجاره، رواه الترمذي وقال حديث حسن) ورواه أحمد والحاكم
(3/141)
وورد ما يعم ذلك في حديث: «الخلق عيال الله
وأحبهم إليه أنفعهم لعباده» .
40 - باب بر الوالدين وصلة الأرحام
أي بيان ما ورد فيهما ويحصل به ذلك.
(قال الله تعالى) : ( {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً}
) لا صنماً ولا غيره أو شيئاً من الشرك جلياً كان أو
خفياً، فهو على الأول مفعول به، وعلى الثاني مفعول مطلق (
{وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين
والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل
وما ملكت أيمانكم} ) تقدم الكلام على الآية في الباب قبله.
(وقال تعالى) : ( {واتقوا ا} ) بامتثال أوامره واجتناب
منهياته: أي اجعلوا ذلك وقاية لكم من عذابه ( {الذي
تساءلون به} ) بإدغام إحدى التاءين في السين وقرىء
بالتخفيف على حذف إحداهما أي الذي يسأل بعضكم به بعضا
فيقول أحدكم أسألك با ( {والأرحام} ) أي واتقوا الأرحام،
وقرأ حمزة {والأرحام} بالخفض عطفا على الضمير لقولهم أسألك
با وبالرحم، قاله مجاهد، قال ابن عطية: وهذه القراءة عند
نحاة البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم العطف على الضمير
المخفوض من غير إعادة الخافض إلا في ضرورة كقوله:
فاذهب فما بك والأيام من عجب
لأن الضمير المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا
يعطف على حرف، واستشكل بعض النحاة هذه القراءة اهـ. قال
السفاقسي: الصحيح جواز العطف على الضمير من غير إعادة
الجار كمذهب الكوفيين، ولا ترد القراءة متواترة لمذهب
البصريين، قال الثعالبي: وهو حسن، والرازي نحوه. قلت:
القراءة ثابتة ومقبولة على المذهبين، لكنها على قول
البصريين محمولة على أن الواو للقسم والأرحام مقسم به،
وتعالى أن
(3/142)
يقسم بما شاء، والله أعلم.
(وقال تعالى) : ( {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} )
قال ابن عباس: يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل يعني يصلون
بينهم بالإيمان بهم ولا يفرّقون بين أحد منهم، والأكثرون
على أن المراد به صلة الرحم (الآية) بالنصب على تقدير أتم
الآية، أو بالرفع على تقدير الآية معلومة، وتمامها {ويخشون
ربهم} (الرعد: 21) أي إنهم مع وفائهم بعهد الله وميثاقه
والقيام بما أمر الله به من صلة الرحم يخشون ربهم، والخشية
خوف يشوبه تعظيم، وإنما يكون ذلك على علم ما يخشى به منه:
{ويخافون سوء الحساب} (الرعد: 21) قال إبراهيم النخعي: هو
أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء.
(وقال تعالى) : ( {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً} ) أي
براً وعطفاً، والمعنى: ووصينا الإنسان أن يحسن بوالديه
إحساناً، وهذه الآية هي التي في العنكبوت ونزلت في سعد بن
أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم وكان بارّاً
بأمه، فقالت أمه: ما هذا الدين وا لا آكل ولا أشرب حتى
ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فمكثت كذلك أياماً فجاءها
سعد فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً
ما تركت ديني، فكلي إن شئت أو اتركي فلما أيست منه أكلت
وشربت، فأنزل اهذه الآية، وأمر بالبرّ بوالديه والإحسان
إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك.
(وقال تعالى) : ( {وقضى ربك} ) أي أمر قاله ابن عباس.
وقيل: معناه أوجب. وحكى عن الضحاك: أنه قرأ ووصى ربك وقال:
إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافاً، وهي قراءة علي وابن
مسعود. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا القول بعيد جداً،
لأنه يفتح بابي التغيير والتحريف في القرآن، ولو جوّزنا
ذلك لارتفع الأمان عن القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا
شك أنه طعن عظيم في الدين ( {ألا تعبدوا إلا إياه} ) فيه
وجوب عبادته والمنع من عبادة غيره، إذ هي نهاية التعظيم،
ولا تليق إلا بالمنعم المتفضل، وليس ذلك لسواه (و) أن
تحسنوا أو تفعلوا ( {بالوالدين إحساناً} ) أي برّا
(3/143)
بهما وعطفاً عليهما وإحساناً إليهما (
{إما} ) هما إن الشرطية وما الزائدة للتأكيد، ولذا أكد
الفعل في قوله: ( {يبلغن عندك الكبر} ) مفعول مقدم (
{أحدهما} ) فاعل ( {أو كلاهما} ) معناه أن يبلغ الكبر
أحدهما أو كلاهما عندك فيصير في الضعف والعجز كما كنت أنت
عندهما كذلك أولاً ( {فلا تقل لهما أفّ} ) وهي كلمة تضجر
وكراهة، وقيل أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك شيء من تراب
أو رماد نفخته لتنزيله بقول أفّ، ثم توسعوا بذكر هذه
الكلمة عند كل مكروه يصل الإنسان. وفي الآية تحريم
إيذائهما بالقياس الأولوي، وفي أفّ أربعون لغة ذكرها في
الارتشاف، وحاصلها أن الهمزة إما أن تكون مضمومة أو مكسورة
أو مفتوحة، فإن كانت مضمومة فاثنتان وعشرون لغة، وحاصل
ضبطها أنها إما مجردة عن اللواحق أو ملحقة بزوائد،
والمجردة إما أن يكون آخرها ساكناً أو متحركاً والمتحرك
الآخر إما مشددة أو مخففة وكل منهما مثلث الآخر مع
التنوين، وعدمه فهذه اثنا عشرة لغة في المتحركة والساكنة
إما مشددة أو مخففة فهذه أربع عشرة واللاحق لها من الزوائد
إما هاء السكت أو حرف المد، فإن كان هاء السكت فالفاء
مثلثة مشددة فهذه سبع عشرة لغة، وإن كان حرف مد فهو إما
واو أو ألف أو ياء والفاء فيهن مشددة، والألف إما مفخمة أو
بالإمالة المحضة أو
بين بين، فهذه خمس أخرى مع السبع عشرة، وإن كانت مكسورة
فإحدى عشرة مثلثة الفاء مخففة مع التنوين وعدمه، فهذه ست،
وفتح الفاء وكسرها بالتشديد فيهما مع التنوين وعدمه فهذه
أربع لغات، والحادية عشرة، أوفي بالإمالة، وإن كانت مفتوحة
فالفاء مشددة مع الفتح والكسر والتنوين وعدمه، والخامسة
أفّ بالسكون، والسادسة أفي بالإمالة، والسابعة أفاه بهاء
السكت، فهذه السبعة مكملة للأربعين. نقله الأزهري في «شرح
التوضيح» ، قال الحافظ في «فتح الباري» : وإن استعمل
القياس فيها بلغت السبعين لغة (
{ولا تنهرهما} ) أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك،
يقال: نهره وانتهره بمعنى، ووجه الجمع بينه وبين ما قبله
مع أنه يدل على هذا أن ذاك للمنع من إظهار الضجر القليل
والكثير، وهذا للمنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل
الرد ( {وقل لهما قولاً كريماً} ) أي حسناً جميلاً ليناً
كما يقتضيه حسن الأدب معهما، وقيل هو قول يا أباه، يا أماه
ولا يسميهما باسمهما ولا بكناهما، وقيل هو أن يقول لهما
كقول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ ( {واخفض لهما جناج
الذلّ} ) أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع من
شيء أحباه ( {من الرحمة} ) أي
(3/144)
الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما إليك
الآن كما كنت مفتقراً إليهما قبل (وقل ربّ ارحمهما كما
ربياني صغيراً) أي وادع الله أن يرحمهما رحمته الباقية،
وأراد إذا كانا مسلمين أما الكافران فالدعاء منسوخ في
حقهما، قال تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن
يستغفروا للمشركين} (التوبة: 113) الآية. وقيل يدعو لهما
بالهداية للإسلام فإذا هديا إليه رحما.
(وقال تعالى) : ( {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا
على وهن} ) أي شدة على شدة، وقيل إن المرأة إذا حملت توالى
عليها الضعف والمشقة، وذلك أن الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع
ضعف ( {وفصاله} ) أي فطامه ( {في عامين} ) أي سنتين ( {أن
اشكر لي ولوالديك} ) قال ابن عيينة في هذه الآية: من صلى
الصوات الخمس فقد شكرالله، ومن دعا للوالدين في أدبار
الصلوات فقد شكر لهما.
1312 - (وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود) بن غافل
الهذلي (رضي الله عنه قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى ا)
أي أكثر تقرّباً إليه لكونه أفضل، وفي رواية مالك بن مغول
«أيّ العمل أفضل» وكذا لأكثر الرواة، فإن كان هذا اللفظ هو
المسؤول به فلفظ حديث الباب ملزوم عنه، وتقدم الجواب عن
نحو هذا الحديث مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال
بأنه ذلك باختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كلاماً هو إليه
أحوج أو هو به أليق أو باختلاف الأوقات أو أنه على تقدير
من التبعيضية (قال: الصلاة على وقتها) وفي رواية لهما
«لوقتها» قال القرطبي وغيره قوله لوقتها اللام للاستقبال
مثل: {فطلقوهن لعدتهن} (الطلاق: 1) أي مستقبلات عدتهن وقيل
للابتداء كقوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78)
وقيل بمعنى في: أي في وقتها، وقوله على وقتها قيل على
بمعنى
(3/145)
اللام ففيه ما تقدم، وقيل لإرادة الاستعلاء
على الوقت، وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه اهـ.
وفي الحديث دليل على أن الصلاة أفضل عبادات البدن بعد
الشهادتين، ويشهد له الخبر الصحيح «الصلاة خير موضوع» أي
خير عمل وضعه الله لعباده ليتقرّبوا به إليه (قلت: ثم) هي
لتراخي الرتبة: أي ثم بعد الصلاة (أي) قال الحافظ: قيل
الصواب أنه غير منون لأنه موقوف عليه في الكلام، والسائل
منتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما
بعده خطأ، فيوقف عليه وقفه لطيفة ثم يؤتى بما بعده. قال
الفاكهاني: وحكى ابن الجوزي
وابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرف غير مضاف، وتعقب بأنه
مضاف تقديراً والمضاف إليه محذوف لفظاً، والتقدير: ثم أيّ
العمل أحبّ، فيوقف عليه بلا تنوين اهـ. (قال برّ الوالدين)
قال ابن حجر: والظاهر أن المراد به إسداء الخير إليهما مما
يلزمه، ويندب له مع إرضائهما بفعل ما يريدانه ما لم يكن
إثماً، وليس ضده العقوق بل قد يكون بينهما واسطة كما يفيده
حدّ العقول بأن يفعل بهما ما يؤذيهما به إيذاء لبس بالهين
(قلت: ثم أيّ؟ قال الجهاد في سبيل ا) لإعلاء كلمة الله
(متفق عليه) .
2313 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
لا يجزي) قال المصنف، بفتح أوله ولا همز في آخره: أي لا
يكافىء (ولد والداً) وإن علا ذكراً كان أو أنثى: أي لا
يقوم بمكافأته فيما له عليه بالإحسان وقضاء الحاجات (إلا
أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) وأخذ أهل الظاهر من مفهوم
هذا الخبر توقف عتق القريب إذا ملك على إنشاء المالك للعتق
ولو أصلاً أو فرعاً. وقال جماهير العلماء: يحصل العتق في
الأصل والفرع مطلقاً بمجرد الملك سواء المسلم والكافر
والقريب والبعيد والوارث وغيره. واختلف فيما وراء عمود
النسب. فقال الشافعي وأصحابه: لا يعتق غيرهما بالملك. وقال
مالك: تعتق الإخوة. وقال أبو حنيفة: يعتق ذوو الأرحام
المحرّمة، وتأول الجمهور الحديث المذكور
(3/146)
على أنه لما تسبب في شرائه المتسبب عليه
بالعتق أسند إليه (رواه مسلم) والبخاري في الأدب المفرد،
وأبو داود والترمذي وقال صحيح وابن ماجه.
3314 - (وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: من كان يؤمن با واليوم الآخر) أي إيماناً
كاملاً (فليكرم ضيفه) وتقدم ما في الحديث في الباب قبله
(ومن كان يؤمن با واليوم الآخر فليصل رحمه) وتقدم الحديث
في الباب قبله. قال القاضي عياض: لا خلاف أن صلة الرحم
واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة. قال: والأحاديث في
الباب تشهد بهذا، ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض،
وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام وبالسلام. ويختلف ذلك
باختلاف القدرة والحاجة: فمنها واجب ومنها مستحب، ولو وصل
بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعاً، ولو قصر عما
يقدر عليه وينبغي له لم يسم واصلاً، وسيأتي بيان الكلام في
حد الحرم المأمور بصلتها (ومن كان يؤمن با واليوم الآخر
فليقل خيراً أو ليصمت) بضم الميم، وأصمت بمعناه مضارعه
يصمت بضم الميم، قاله المصنف. واعترض بأن المسموع والقياس
كسرها إذ قياس فعل مفتوح العين يفعل بكسرها ويفعل بضمها
دخيل فيه كما نص عليه ابن جني، وإنما يتجه ذلك إن سبرت كتب
اللغة فلم تر ما قاله وإلا فهو حجة في النقل، وهو لم يقل
هذا قياساً حتى يعترض بما ذكر وإنما قاله نقلاً كما هو
الظاهر من كلامه فوجب قبوله: أي ليسكت عما لم يظهر له فيه
الخير كما تقدم بسطه في الباب قبله (متفق عليه) .
4315 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى خلق
الخلق) أي أوجدهم
(3/147)
واخترعهم من كتم العدل بباهر قدرته (حتى
إذا فرغ منهم) أي كمل خلقهم لا أنه تعالى كان مشتغلاً بهم
ثم فرغ من شغلهم، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فليست
أفعاله تعالى بمباشرة ولا مناولة ولا بآلة ولا محاولة،
تعالى عما يتوهمه المتوهمون: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن
يقول له كن فيكون} (يس: 82) (قامت الرحم فقالت: هذا مقام
العائذ بك من القطيعة) قال القاضي عياض: الرحم التي توصل
وتقطع وتبرّ إنما هي معنى من المعاني ليست بجسم إنما هي
قرابة ونسب يجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض وسمي بذلك
الاتصال رحماً، والمعاني لا يتأتى منها القيام ولا الكلام،
فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على
عادة العرب استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلة
واصلها وعظيم اسم قاطعها بعقوقهم، ولذا سمي العقوق قطعاً،
والعق الشق كأنه قطع ذلك السبب المتصل. قال: ويجوز أن يكون
المراد قيام ملك من الملائكة تعلق بالعرش وتكلم على لسانها
بذلك بأمر الله تعالى اهـ. قال القرطبي: فالحديث محمول إما
على أن ملكاً تكلم بذلك، أو على أنه لو كانت الرحم ممن
يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، فيكون على وجه الفرض
والتقدير. قال المصنف: والعائذ المستعيذ، وهو المعتصم
بالشيء الملتجىء إليه المستجير به (قال: نعم، أما ترضين أن
أصل من وصلك وأقطع من قطعك) قال العلماء: حقيقة الصلة
العطف والرحمة، وصلة الله سبحانه عباده لطفه بهم ورحمته
إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى
وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته أو إرادته ذلك (قالت) أي الرحم
لو كانت متكلمة أو الملائكة المتكلمة بذلك (بلى) أي رضيت
به (قال فذلك) بكسر الكاف فيه وفي (لك) لأن المخاطب مؤنث
(ثم قال رسول الله: اقرءوا إن شئتم)
(3/148)
أي ما يدل لذلك وجملة الشرط معترضة وجوابها
محذوف لدلالة ما قبلها عليه ومفعول اقرؤوا قوله:
( {فهل عسيتم} ) أي فهل يتوقع منكم، ويجوز فتح السين
وكسرها وبهما قرىء: ( {إن توليتم} ) أمور الناس وتأمرتم
عليهم أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام ( {أن تفسدوا في
الأرض} ) بأنواع العتو ( {وتقطعوا أرحامكم} ) تشاجراً على
الولاية وتجاذباً لها، أو رجوعاً إلى ما كنتم عليه في
الجاهلية من التغادر والماقتلة مع الأقارب. والمعنى: أنهم
لضعفهم في الدين وحرصهم على الدنيا أحق بأن يتوقع ذلك منهم
من عرف حالهم ويقول لهم: هل عسيتم، وهذا على لغة الحجاز
فإن بني تميم لا يحلقون الضمير به، وخبره أن تفسدوا، وإن
توليتم اعتراض (
{أولئك} ) إشارة إلى المذكورين ( {الذي لعنهم ا} )
لإفسادهم وقطعهم أرحامهم ( {فأصمهم} ) عن سماع الحق (
{وأعمى أبصارهم} ) فلا يهتدون إلى سبيله. وعلى القول
الثاني: أي قوله أعرضتم وتوليتم عن الإسلام تكون الرحم
المذكورة دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله تعالى
إخوة بقوله: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10) وقال
الفراء: نزلت هذه الآية في بني هاشم وبني أمية. قال
القرطبي: وعليه فالرحم بمعنى القرابة قال المصنف: قال
القاضي عياض: وقد اختلف في حدّ الرحم التي تجب صلتها ويحرم
قطعها، فقيل هو كل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً
والآخر أنثى حرمت مناكحتهما فعليه لا تدخل أولاد العم
والخال. واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها
أو خالتها في النكاح ونحوه وجواز ذلك في بنات الأعمام
والأخوال، وقيل هو عام في كل ذي رحم من ذوي الأرحام في
الميراث يستوي فيه المحرم وغيره، ويدل عليه قوله عليه
الصلاة والسلام: «ثم أدناك أدناك» اهـ.
قال المصنف والقول الثاني هو الصواب، ومما يدل عليه قوله
في الحديث في أهل مصر «فإن لهم ذمة ورحما» وحديث «إن أبرّ
البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه» مع أنه لا محرمية والله
أعلم. قال القرطبي: ويخرج من هذا القول أن رحم الأم التي
لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم. والصواب ما
ذكرناه من أنها قرابات الرجل من جهة طرفي أبائه وإن علوا
وأبنائه وإن نزلوا، وما يتصل بالطرفين من الإخوة والأخوات
والأعمام والعمات والأخوال والخالات، وما يتصل بهم من
أولادهم برحم جامعة اهـ. (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب
الأدب ومسلم في كتاب البرّ والصلة.
(وفي رواية للبخاري) هي في كتاب الأدب أيضاً عن أبي هريرة
(فقال الله تعالى: من
(3/149)
وصلك وصلته ومن قطعك قطعته) فالفرق بين
اللفظين أن الأوّل إخبار عما يبدو في عالم الشهادة للواصل
والقاطع، والثاني إخبار عما في الأزل: أي قضيت أزلاً بوصل
الواصل وقطع القاطع.
5316 - (وعنه: جاء رجل) قيل: هو معاوية بن حيدة، وقد جاء
في «سنن أبي داود» والترمذي عنه أنه قال: «يا رسول الله من
أبرّ؟ قال: أمك» الحديث وفي آخره «ثم الأقرب فالأقرب» (إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من
أحقّ الناس بحسن صحابتي) بفتح الصاد المهملة مصدر صحب (قال
أمك) وذلك لضعفها وحاجتها (قال: ثم من؟) أي الأحق بعدها
(قال) تأكيداً للقيام بحق الأم (أمك، قال: ثم من؟) الأحق
بعدها (قال) مبالغاً في تأكيد حق الأم (أمك، قال: ثم من؟)
الأحق بعدها (قال أبوك. متفق عليه) .
(وفي رواية) لمسلم (يا رسول الله: من أحقّ بحسن الصحبة؟
قال: أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك) ثم (أدناك والصحابة)
المذكورة في الرواية أولاً (بمعنى الصحبة) المذكور في
الرواية الثانية هي بضم الصاد (وقوله ثم أباك هكذا هو) في
الرواية الثانية (منصوب بفعل محذوف) جوازاً (أي ثم برّ
أباك) وفيه عطف الجملة الطلبية على الجملة الخبرية، ويجوز
تخريجه على أنه مرفوع بضمة على الألف على لغة القصر (وفي
رواية ثم أبوك وهو واضح) أي إنه معطوف على الخبر للمبتدأ
المحذوف.
(3/150)
6317 - (وعنه: عن النبي قال: رغم أنف) قال
في «المصباح» : من باب قتل ومن باب تعب لغة، وهو كناية عن
الذلّ كأنه لصق بالرغام وهو التراب هواناً اهـ.
وفي ذيل مثلث ابن مالك لتلميذه أبي الفتح اليعلي من المثلث
الرغم مصدر رغم أنف فلان (ثم) للتراخي في الدعاء (رغم أنف
ثم رغم أنف من) أي شخص مكلف (أدرك أبويه) أي حياتهما (عند
الكبر) بكسر ففتح، قال في «المصباح» : كبر الصغير وغيره
يكبر من باب علم كبراً بوزن عنب اهـ. قال العاقولي: وفي
رواية عنده الكبر بزيادة هاء، قال: ومعناه على حذفها أن
يدرك هو والديه عند كبرهما وإن كانا غنيين عنه بمالهما وعن
خدمته لهما بمالهما من خادم ومعناه على تلك الرواية: أن
يدركهما الكبر وهما عنده وفي مؤنثه محتاجين إليه اهـ.
والتقييد به لأن الابتلاء بهما حينئذٍ أتمّ لمزيد حاجتهما
لضعفهما، فكان القيام بحقهما حينئذٍ آكد كما قاما بحق
الابن حين زيد حاجته وافتقاره، وإلا فوجدانهما ولو حال
الشباب لهما مطلوب من الابن العناية بهما ومزيد برّهما،
لكن التقييد بالكبر لمزيد التأكيد لكمال الحاجة، وقوله
(أحدهما أو كلاهما) بالرفع فيما وقفت عليه من النسخ وهو
محتمل لكونه مبتدأ محذوف الخبر: أي أحدهما أو كلاهما سواء
فيما ذكر أو فاعلاً لمحذوف: أي ليستوي أحدهما أو كلاهما في
ذلك، وأعربه العاقولي فاعلاً للظرف لكونه حالاً ثم حبذا
كونه خبر مبتدأ محذوف، و «كلاهما» معطوف عليه عليهما، قال:
وهذه الجملة بيان لقوله: «من أدرك والديه» وقال القرطبي:
الرواية الصحيحة بالنصب فيهما بدل من والديه منصوب بأدرك،
قال: وقد وقع في بعض النسخ رفعهما وهو على الابتداء ويتكلف
بإضمار خبر، والأوّل أولى، وفيه التعقيب به دفع لتوهم قصر
المذمة على من قصّر في البر عند اجتماعهما دونه مع أحدها
(فلم يدخل الجنة) عطف على أدرك، والعطف بالفاء فيه إشعار
بحصول الجنة بالفضل الإلهي للبارّ بأبويه أو أحدهما عقب
مفارقة الحياة، وذلك بعرض مقامه عليه وتبشيره بما يؤول
إليه (رواه مسلم) في أواخر الكتاب والحديث عند أحمد أيضاً،
ففي «الجامع الصغير» للسيوطي عزوه إليهما ولفظه «رغم أنفه
ثم رغم
أنفه ثم رغم أنفه: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو
كلاهما ثم لم يدخل الجنة» وعزوه اللفظ المذكور فيه لمسلم
(3/151)
مراده باعتبار المعنى لا بخصوص المبنى، لأن
الضمائر محذوفة من رواية مسلم، وعلى تلك الرواية فمن فاعل
لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف بيان
لسؤال تقديره من هو، والإتيان بثم فيها إيماء إلى صعوبة
المقام وإبطائه، فكأنه لذلك كالبعيد الحصول فعبر فيه بذلك.
قال العاقولي: معنى ثم فيه استبعاد لغفلته عن نيل مثل هذه
السعادة العظيمة.
7318 - (وعنه أن رجلاً) لم أقف على من سماه (قال: يا رسول
الله إن لي قرابة) أي ذوي قرابة أي رحم ونسب، ويقال فيها
قربي كما في «المصباح» (أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم) أي
أسدي إليهم الإحسان (ويسيئون إلي وأحلم) بضم اللام (عنهم
ويجهلون عليّ) ويجوز أن تكون الجمل المضارعية معطوفة على
أقرانها وهو الأقرب، ويحتمل أن تكون في محل الحال على
تقدير مبتدأ محذوف: أي وهم يقطعوني لأن الواو الحالية لا
يجوز دخولها على الجملة المضارعة المثبتة الخالية من قد
إلا ضرورة نحو قوله:
علقتها عرضاً وأقتل قومها
وبإضمار المبتدأ تخرج عن ذلك، وقد جعل منه صاحب التسهيل
قوله تعالى: {الذين كفروا ويصدون عن سبيل ا} (الحج: 25) أي
وهم يصدون، وحكى الأصمعي: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصكها
(فقال) يعني النبي (لئن كنت كما قلت) من إسداء الجميل: أي
وهم على ما ذكرت من مقابلته بضده (فكأنما تسفهم الملل ولا
يزال معك) متعلق بظهير وكذا قوله: (من ا) ويصح كونه في محل
الحال لكونه في الأصل وصفاً لظهير قدّم عليه، وقوله:
(ظهير) أي معين، وهو كما في «المصباح» يطلق على الواحد
والجمع، وفي التنزيل: {والملائكة بعد ذلك ظهير} (التحريم:
4) والمظاهرة المعاونة اهـ. اسم يزال، وقوله: (عليهم) خبر
ويجوز أن يكون صفة، وقوله: معك أو من الله الخبر، وقوله:
(ما دمت على
(3/152)
ذلك) أي مدة دوامك على ما ذكر، أو أنه لما
كان الإحسان والحلم معطوفين على الصلة الشاملة لهما من عطف
الخاص على العام أفرد اسم الإشارة. وفي الحديث أن ما ذكر
من الخصال سبب لإعانة صاحبها وتأييده وتوفيقه وتسديده، فإن
المعنى فيه هو التأييد الإلهي واللطف الرباني (رواه مسلم.
وتفسهم بضم التاء الفوقية وكسر السين المهملة وتشديد
الفاء) وفي «المصباح» : سف الدواء أكله غير ملتوت فأشار
إلى أنه تناول الجامدات غير ملتوتات (والملح بفتح الميم
وتشديد اللام: وهو الرماد الحار) أي باعتبار المراد في
الحديث وهذا معناه مطلقاً في أحد الأقوال؛ ففي «المصباح» :
الملة، قيل الحفرة التي تحفر للخبز، وقيل: التراب الحار
والرماد: أي الحار كما يؤذن به كلام المصنف هنا، ويحتمل
إبقاؤه على إطلاقه ويجوز إرادة ذلك فإن تناول الرماد من
المضرّ وإن لم يكن حاراً (وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم)
أي الذنب نفسه أو من جزئه، والثاني: أنسب بقوله: (وهو
العذاب بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم) بجامع التألم
والتوجع، وهو على الأّل من تشبيه معقول بمحسوس، وعلى
الثاني من تشبيه محسوس بمحسوس (ولا شيء) بالفتح أي من
التبعات (على هذا
المحسن إليهم) في مقابلته لسيء أعمالهم بإحسانه وذكره من
المصنف إطناب إذ لم يقع منه بذلك ما يقتضي اللوم بل زاد في
الإحسان والاستدراك في قوله: (ولكن ينالهم إثم عظيم) دلّ
على عظم تمثيله بما ذكر (وبتقصيرهم في حقه وإدخالهم الأذى)
بالقصر: أي المكروه (عليه) لدفع ما قد يتوهم من نفي
الملامة عنهم بقرينة نفيها عنه وإن كان الفرق كفلق الصبح
(والله أعلم) وقال المصنف في «شرح مسلم» : وقيل معناه إنك
بالإحسان إليهم تحزنهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك
وقبيح فعلهم، فهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسفّ
المل، وقيل ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم
اهـ. وقال العاقولي: أراد كأنما يجعل الرماد لهم في سفوف
يسفونه، يعني إذا لم يشكروا فإن عطاءك إياهم حرام عليهم
ونار في بطونهم اهـ.
(3/153)
8319 - (وعن أنس) بن مالك (رضي الله عنه أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحب) وفي رواية:
«من يسره» (أن يبسط) بالبناء للمفعول: أي يوسع. في
«المصباح» : بسط الله الرزق: كثره ووسعه، وقال المصنف:
بسطه توسيعه وكثرته، وقيل بالبركة فيه ونائب الفاعل أحد
الطرفين في قوله: (له في رزقه) أي مرزوقه مصدر بمعنى
المفعول، وهو ما به النفع للحيوان، والثاني أنسب، والظرف
الآخر في محل الحال، وهذا الإعراب بعينه جار في قرينه من
الجملة الثانية: أعني قوله: (وينسأ) بهمزة آخره أي يؤخر
(له في أثره) بفتح الهمزة والمثلثة: أي أجله، وسمي الأجل
أثراً لأنه يتبع العمر قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل
لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا يبقى له حركة
فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر (فليصل رحمه) قال ابن التين:
ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا
يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34) والجمع بينهما
إما بحمل الزيادة على أنها كناية عن البركة في العمر بسبب
التوفيق إلى طاعة الله وعمارة وقته بما ينفعه، ويقربه من
مولاه تعالى ويقوّيه ما جاء من: أنه تقاصر أعمار أمته
بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطى ليلة القدر. وحاصله
أن صلة الرحم سبب للتوفيق لمرضاة المولى وحفظ الأوقات عن
الضياع في غير رضا فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت،
أو يحمل الزيادة في الحديث على حقيقتها، وذلك بالنسبة
للأجل المعلق المكتوب في اللوح المدفوع للملك، مثلاً كتب
فيه: إن أطاع فلان فعمره كذا وإلا فعمره كذا، وا سبحانه
وتعالى عالم بالواقع منهما والأجل المحتوم في الآية على ما
في علم الله سبحانه الذي لا تغير فيه، وإلى ذلك الإشارة
بقوله تعالى: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب}
(الرعد: 39) فالحديث فيه ما أشارت إليه أول الآية من الأجل
المعلق، وقوله: {عنده أمّ الكتاب} أشار به إلى العلم
الإلهي الذي لا تغير فيه البتة ويعبر عنه بالقضاء المبرم
وعن الأول بالقضاء المعلق، والوجه الأوّل أليق بلفظ
المذكور.
وقال الطيبي: الأوّل أظهر وإليه يشير كلام صاحب
(3/154)
الفائق، قال: ويجوز أن يكون المعنى: أن
الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلاً فلا يضمحلّ
سريعاً كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ومن هذه المادة قول
إبراهيم عليه السلام: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}
(الشعراء: 84) وورد في تفسيره وجه ثالث أخرج الطبراني في
«الصغير» بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: «ذكر عند رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أن من وصل رحمه أنسأ له في
أجله، فقال: إنه ليس زيادة في عمره قال الله تعالى: {إذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف: 34)
ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده»
وأخرج في الكبير من حديث أبي مشجعة بشين معجمة ثم صالحة»
الحديث. وجزم به ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي
الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله. وقال غيره: في أعم من
ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعمله ونحو ذلك (متفق عليه)
ورواه أبو داود وابن ماجه كلاهما من حديث أنس أيضاً ورواه
أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة، كذا في «الجامع الصغير»
(ومعنى ينسأ له في أثره: أي يؤخر له في أجله وعمره) فقوله:
يؤخر تفسير لقوله ينسأ، وقوله في أجله وعمره وتفسير لقوله
أثره كما علم مما تقدم، وهل التأخير فيهما على حقيقته أو
مجاز مراد منه لازمه من الإمداد ودوام الثناء بعده؟ كل
محتمل والعبارة في الأول أظهر.
9320 - (وعنه قال: كان أبو طلحة أكثر) بالمثلثة (الأنصار
بالمدينة مالاً) تمييز عن نسبة الأكثرية إليه (من نخل)
بيان للمال (وكان أحب أمواله) يجوز الرفع والنصب (إليه
بيرحاء
(3/155)
وكانت مستقبلة المسجد) بكسر الموحدة: أي
مقابلته وراءه (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يدخلها) أي الحديقة المذكورة (ويشرب من ماء فيها طيب) يجوز
رفع طيب فاعل الظرف لاعتماده على الموصوف وجره صفة لماء
(فلما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما
تحبون قام أبو طلحة) وسار قاصداً (إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله تبارك
وتعالى) عما لا يليق به، وجملة (يقول) في محل الخبر (لن
تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحبّ أموالي إليّ
بيرحاء) يحتمل أن يكون ذلك لعظم نماء أرضها وعظم ثمرها
وكثرته وأن يكون لمعنى آخر (وإنها) لكونها أحبّ إليّ (صدقة
تعالى أرجو برّها وأدخرها عند ا) الجملة الفعلية محتملة
لكونها خبراً بعد خبر على حد قوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك
أنزلناه} (الأنبياء: 50) على أحد الوجوه فيه ولكونها حالاً
حذف عاملها وصاحبها: أي أتصدق بها حال كوني أرجو برّها
(فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال رسول الله:
بخ) لتفخيم فعله والثناء عليه (ذلك مال رابح ذلك مال رابح)
بالموحدة وبالهمزة والتكرير للتأكيد لأن المقام يقتضي
الإطناب (وقد سمعت ما قلت، وإني أرى) من الرأي والاجتهاد،
ففيه دليل لجواز الاجتهاد منه ووقوعه: (أن تجعلها في
الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل) أي أصرفه لهم متبعاً لرأيك
(يا رسولالله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. متفق
عليه، وسبق بيان ألفاظه) وبيان من خرج الحديث زيادة على من
ذكره المصنف (في باب الإنفاق مما يحب)
(3/156)
بالمهملة والموحدة.
10321 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
قال: أقبل رجل) قال الشيخ زكريا: هو جاهمة بن العباس بن
مرداس، أو معاوية بن جاهمة. وقال شيخه الحافظ في «الفتح» :
يحتمل أن يكون جاهمة بن العباس، فقد روى النسائي وأحمد من
طريق معاوية بن جاهمة: «أن جاهمة جاء إلى النبي فقال: يا
رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك، فقال: هل لك من أمّ؟
قال: نعم، قال: الزمها» الحديث، ورواه البيهقي بنحوه اهـ.
فاقتصر على الأوّل وجعله احتمالاً، وقوله: (إلى نبي الله)
متعلق بأقبل (فقال: أبايعك على الهجرة) أي مفارقة وطني
وسكني المدينة. قال القرطبي: وهذا كان في زمن وجوب الهجرة
(والجهاد) في سبيل الله (أبتغي الأجر من الله تعالى)
مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان سبب المبايعة الحامل
عليها (قال: فهل من والديك) خبر مقدم (أحد حيّ) مبتدأ وجيء
بأحد توطئة ليقوم به حتى (قال: نعم، بل) انتقال دلّ عليه
جوابه بنعم من حياة أحدهما إلى الإخبار بحياتهما معاً
(كليهما) كذا هو منصوب بتقدير وجدت كليهما، ويجوز كونه
مرفوعاً مبتدأ محذوف الخبر: أي حيان وكتبت الألف بصورة
الياء، وقد نبه المصنف في شرح مسلم على أن محل ذلك كله إذا
لم يحضر الصف ويتعين للقتال (قال: فتبتغي الأجر من الله
تعالى؟) الهمزة والمعطوف عليه مقدران قبل الفاء العاطفة:
أي أتفعل ذلك فتبتغي الأجر من الله تعالى: (قال: نعم، قال:
فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) أسقط الشارع عنه وجوب
الهجرة تقديماً لحق أبويه، فإن الهجرة إن كانت واجبة عليه
فقد عارضها ما هو أوجب منها وهو حق الوالدين، وإن لم تكن
واجبة فالواجب أولى، لكن هذا إنما يصح ممن يسلم له دينه في
موضعهما، أما لو خاف على دينه وجب عليه الفرار به وترك
آبائه وأبنائه كما فعل المهاجرون الذين هم صفوة الله من
العباد. وفي الحديث تقديم البرّ للوالدين على الجهاد (متفق
عليه، وهذا لفظ مسلم) .
(وفي رواية لهما) وهي كذلك عند البخاري في الجهاد، وعند
مسلم في الأدب، ورواها أبو داود والترمذي والنسائي في
الجهاد، وقال الترمذي: حسن
(3/157)
صحيح والبزار، كذا من «الأطراف» للمزي
ملخصاً (جاء رجل) كذا في النسخة بحذف الظرف: أي إلى النبي
وهو ثابت في الصحيحين، والظاهر أنه اختصار من المصنف
لدلالة ما قبله عليه أو في الكتاب (فاستأذنه في الجهاد
فقال: أحيّ والداك) الوصف فيه مبتدأ لاعتماده على
الاستفهام ووالداك فاعله سد مسد خبره (قال: نعم) أي هما
حيان (قال: ففيهما فجاهد) وقوله: ففيهما متعلق بالأمر قدم
للاختصاص، والفاء الأولى جزاء لشرط محذوف، والثانية جزائية
لتضمن الكلام معنى الشرط: أي إذا كان الأمر كما قلت فاخصص
المجاهدة بخدمة الوالدين نحو: {فإياي فاعبدون} (العنكبوت:
56) فحذف الشرط وعوض عنه الظرف المفيد للاختصاص، قاله
العاقولي. وقال ابن رسلان: المراد بالجهاد فيهما جهاد
النفس في وصول البرّ إليهما بالتلطف بهما وحسن الصحبة
والطاعة وغير ذلك، وتقدم أن الجهاد الأكبر جهاد النفس
الأمارة بالسوء اهـ. قال المصنف: هذا كله دليل لعظم فضيلة
برّهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قال العلماء من
أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين أو بإذن
المسلم منهما، فلو كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند
الشافعي ومن وافقه، وهذا كله حيث لم يحضر الصفّ ويتعين
للقتال فحينئذٍ يجوز بغير إذن اهـ.
11322 - (وعنه عن النبيّ قال: ليس الواصل) أي الكامل الوصل
(بالمكافىء) وقال الطيبي: أي ليست حقيقة الواصل ومن يعتد
بصلته الذي يكافىء صاحبه بمثل فعله ويعطيه نظير ما أعطاه.
قلت: وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفاً: «ليس الواصل أن
تصل من وصلك، ولكن الواصل أن تصل من قطعك» (ولكن) قال
الطيبي: الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف (الواصل الذي
إذا قطعت رحمه وصلها) أي الذي إذا منع أعطى (رواه البخاري)
وأحمد وأبو داود والنسائي كلهم من حديث ابن عمر كما في
الجامع الصغير
(3/158)
(وقطعت بفتح القاف والطاء) والعين
المهملتين (ورحمه مرفوع) على الفاعلية. قال العلقمي: ضبط
هكذا في أكثر الروايات، وفي بعضها بالبناء للمجهول. قال
السيوطي في شرح الترمذي: المراد بالواصل في هذا الحديث
الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة، بخلاف من إذا وصله قريبه
لم يكافئه فإن فيه قطعاً بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل «ليس
الشديد بالصرعة» و «ليس الغنيّ عن كثرة العرض» اهـ. وتعقبه
العلقمي بأنه لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع. فهم ثلاث
درجات: مواصل ومكافىء وقاطع: فالواصل من يبدأ بالفضل،
والمكافىء من لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع
الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من
الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين فمن بدأ فواصل
فإن جازى فمكافىء وإلا فقاطع اهـ.
12323 - (وعن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ قال: الرحم)
بفتح الراء وكسر الحاء المهملة (معلقة بالعرش) الظاهر
الحقيقية، ويحتمل أن المعنى أنها لائذة بربّ العرش كما
تقدم حديث بذلك في الباب (تقول) استئناف بياني (من وصلني
وصله الله ومن قطعني قطعه ا) قال المصنف قال عياض: الرحم
التي توصل وتقطع معنى من المعاني ليست بجسم إنما هي قرابة
ونسب، فيكون ذكر قيامها وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على
عادة العرب في استعمال ذلك والمراد تعظيم شأنها وفضيلة
وصلها وعظيم إثم قطعها. قال ويجوز أن يكون المراد قيام ملك
من الملائكة يتعلق بالعرش ويتكلم على لسانها بأمر الله
تعالى (متفق عليه) اقتصر في «الجامع الصغير» على عزوه
لمسلم.
13324 - (وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث) الهلالية
(رضي الله عنها أنه أعتقت وليدة)
(3/159)
أي أمة. قال في المصباح: الوليد الصبيّ
المولود والجمع ولدان بالكسر والصبية والأمة وليدة والجمع
ولائد اهـ. (ولم تستأذن النبيّ) فيؤخذ منه صحة تصرف الزوجة
مطلقاً بغير إذن زوجها خلافاً للإمام مالك حيث منعه فيما
زاد على الثلث إلا بإذنه (فلما كان يومها) بالرفع وكان
تامة (الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت) بفتح العين من باب
قتل كما في المصباح أي أعلمت (يا رسول الله أني أعتقت
وليدة) كأن التنكير فيه لتحقيرها وتصغير شأنها من حيث إنها
من عملها، وفي نسخة وليدتي بالإضافة للياء (قال: أو فعلت)
أي أعتقتها وفعلت فالواو وعاطفة على مقدر بعد الهمزة، هذا
ما مشى عليه في مواضع كثيرة من «الكشاف» و «البيضاوي» ،
فالاستفهام داخل على المتعاطفين، وجعل ابن مالك الهمزة
مقدمة من تأخير وأن العاطف كان داخلاً عليها، وأن الأصل أو
فعلت فصدرت الهمزة لصدارتها، وتقدم التنبيه على هذا في باب
تغليظ عقوبة من أمر بمعروف وخالف قوله فعله (قالت نعم، قال
أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (إنك لو أعطيتها) بكسر
التاء (أخوالك) أي قرابتك من جهة الأم، قال المصنف: كذا
وقعت هذه اللفظة في مسلم باللام، ووقعت في رواية الأصيلي
أخواتك بالتاء، قال القاضي: ولعله أصح بدليل رواية الموطأ
أعطيتها أختك. > قلت: الجميع صحيح ولا تعارض ولعله قال ذلك
كله (كان أعظم لأجرك) لما فيه من الصدقة مع صلة الرحم، قال
الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: فيه أن هبة ذي الرحم أفضل
من العتق، ويؤيده ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد وصححه،
وابن حبان من حديث سلمان بن عامر الضبي مرفوعاً «الصدقة
على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة» لكن لا يلزم
من ذلك أن تكون هبة ذي الرحم أفضل مطلقاً لاحتمال أن يكون
المسكين محتاجاً ونفعه متعدياً والآخر بالعكس، وقد وقع في
رواية النسائي المذكورة «فقال: أفلا
فديت بها بنت أخيك من رعاية الغنم» فتبين وجه الأولوية
المذكورة وهو احتياج القريب إلى الخدمة، وليس في الحديث
حجة على أن الصلة أفضل من العتق لأنها واقعة عين، فالحق أن
ذلك يختلف باختلاف الأحوال كما قدرته اهـ (متفق عليه) .
(3/160)
14325 - (وعن أسماء) بالمهملة والألف
الممدودة (بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما) اسم أمها
قيلة بفتح القاف وسكون التحتية قاله ابن ماكولا وغيره،
قالوا: ويقال أيضاً قتيلة بقاف ثم فوقية ثم تحتية مصغراً.
قال في فتح الباري: وقول الداودي اسمها أم بكر: قال ابن
التين: لعله أراد كنيتها بنت عبد العزّى، ضبطه في «تاريخ
دمشق» بخط الحافظ أبي محمد وعلَّم عليه صورة «راء» وفي
مواضع بالزاي كما هنا. ابن سعد بن نضر بن مالك بن حسل بكسر
المهملة الأولى وسكون الثانية بن عامر بن لؤي بن غالب،
وكانت أسماء أسن من عائشة وهي أختها لأبيها، وكان عبد الله
ابن أبي بكر شقيقها، سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ذات النطاقين لأنها صنعت للنبيّ ولأبيها سفرة لما هاجرا،
فلم تجد ما تشدها به فشقت نطاقها وشدت به السفرة فسماها
النبيّ ذات النطاقين. هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد
الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة، فكان أوّل مولود من
المهاجرين ولد في الإسلام بعد الهجرة. قال عروة: بلغت
أسماء مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر من عقلها شيء، روي
لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قيل ستة
وخمسون حديثاً. قلت: وذكر ابن الجوزي في «مختصر التلقيح»
أن لها ثمانية وخمسين حديثاً، قال: ولها في الصحيحين اثنان
وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثة عشر منها، وانفرد البخاري
بخمسة، ومسلم بأربعة اهـ، روى عنها عبد الله بن عباس
وابناها عبد الله وعروة وعبد الله بن أبي مليكة وغيرهم،
توفيت بمكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها
عبد الله بيسير، ولم تبق بعد إنزاله من الخشبة إلا ليالي
يسيرة، قيل
ثلاث وقيل عشر وقيل عشرون وقيل بضع وعشرون. وفي «تاريخ
دمشق» عن ابن أبي الزناد: كانت أسماء أكبر من عائشة بعشر
سنين، وعن الحافظ أبي نعيم قال: ولدت أسماء قبل الهجرة
بسبع وعشرين سنة، وكان لأبيها أبي بكر حين ولدت له إحدى
وعشرون سنة. وفي «تاريخ دمشق» أنها شهدت غزوة اليرموك مع
زوجها الزبير، وفيه عن خليفة بن خياط أنها ولدت للزبير عبد
الله وعروة وعاصماً والمنذر والمهاجر وخديجة وأم حسن
وعائشة. وفي «طبقات» ابن سعد بإسناد الصحيحين عن فاطمة بنت
المنذر «أن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها»
وفيها عن الواقدي: كان ابن المسيب من أعبر الناس للرؤيا
أخذه عن أسماء وأخذته عن أبيها. وفي «تاريخ دمشق» عن مصعب
بن
(3/161)
الزبير قال: «فرض عمر رضي الله عنه
الأعطية، ففرض لأسماء ألف درهم» وفي رواية «ففرض للمهاجرين
ألفاً ألفاً منهن أم عبد وأسماء» اهـ من «التهذيب» للمصنف
ملخصاً (قالت: قدمت) بكسر الدال المهملة (عليّ) أي من مكة
إلى المدينة (أمي) وتقدم ذكر اسمها ونسبها في ترجمة بنتها
أسماء آنفا (وهي مشركة) قال المصنف في التهذيب: وذكر ابن
الأثير اختلاف العلماء والروايات في إسلامها، وأكثر
الروايات أنها لم تسلم، ومثله في شرح مسلم (في عهد رسول
الله) أي معاهدته مع المشركين وتأمينه لهم في الحديبية كما
في الحديث الآتي في كلام الحافظ وغيره، وأرادت ما بين
الحديبية والفتح. وقد جاء عن ابن سعد وأبي داود الطيالسي
«أنها قدمت على ابنتها بهدايا زبيب وسمن وقرط، فأبت أسماء
أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، فأرسلت إلى عائشة: سلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتدخلها» الحديث
(فاستفتيت رسول الله) هذا مجمل بينته بقولها (قلت: قدمت
عليّ أمي) زاد بعض رواية الحديث «مع أبيها» وهو كذلك في
البخاري في الجزية والأدب. قال الحافظ: واسم أبيها الحارث
بن مدرك بن عبيد بن عمرو بن مخزوم ولم أرد له ذكراً في
الصحابة وكأنه مات مشركاً اهـ. وما
ذكره في نسب أمها مخالف لما تقدم عن «التهذيب» للمصنف في
ترجمة أسماء (وهي راغبة) جملة حالية: أي راغبة عن الإسلام
وكارهة له، وقيل معناه: طامعة فيما أعطيها حريصة عليه، وفي
رواية أبي ذرّ «قدمت عليّ أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة
مشركة» فالأوّل بالباء: أي طالبة صلتي، والثاني بالميم: أي
كارهة للإسلام ساخطته، وفي «فتح الباري» : نقل المستغفري
أن بعضهم أوله فقال: وهي راغبة في الإسلام، فذكرها لذلك في
الصحابة. ورده أبو موسى بأنه لم يقع في شيء من الروايات ما
يدل على إسلامها (أفاصل أمي) أي أتصدق عليها فأصلها مع
كفرها ولا يكون ذلك من موادة الكفار وموالاتهم (قال: نعم)
وهو كاف عن قوله (صلي أمك) وأتى به تأكيداً واهتماماً، زاد
البخاري في «الأدب» : «فأنزل الله عزّ وجل فيها
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}
(الممتحنة: 8) » قال الحافظ في «الفتح» : روى ابن أبي حاتم
عن السدي أنها نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين جانباً
للمسلمين وأحسن أخلاقاً. قال الحافظ: قلت ولا منافاة
بينهما، فإن السبب خاص واللفظ عام، فيتناول كل من كان في
معنى والدة أسماء اهـ. وفي الحديث جواز صلة القريب المشرك
(متفق عليه) ورواه البخاري في الهبة والجزية والأدب، ومسلم
في الزكاة
(3/162)
وأبو داود فيها أيضاً كذا لخص من «الأطراف»
للمزي (وقولها) أي أسماء واصفة لأمها (راغبة) بالغين
المعجمة والموحدة (أي طامعة فيما عندي تسألني شيئاً) من
الإحسان (قيل كانت أمها من النسب، وقيل من الرضاعة،
والصحيح الأوّل) حكاية هذا الخلاف هنا مما فات شراح مسلم
التنبيه عليه. قال الحافظ في «الفتح» : أخرج ابن سعد وأبو
دادو الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير قال:
«قدمت قتيلة، بالقاف والمثناة مصغرة، بنت عبد العزّى بن
سعد بن نضر بن مالك بن حسل، بكسر الحاء وسكون السين
المهملتين، على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في الهدنة، وكان
أبو بكر طلقها في الجاهلية، بهدايا زبيب وسمن قرط، فأبت
أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأسسلت إلى عائشة
سلى لي رسول الله، فقال لتدخلها» الحديث، وعرف منه تسمية
أم أسماء وأنها أمها حقيقة، ومن قال إنها أمها من الرضاعة
فقد وهم، وأما قول الداودي إن اسمها أم بكر فقد قال ابن
التين: لعله كنيتها كما تقدم.
15326 - (وعن زينب الثقفية) بمثلثة وقاف مفتوحتين وفاء
مكسورة منسوبة إلى ثقيف بوزن رغيف (امرأة) بهمزة وصل،
ويقال مرأة بحذفها، ويقال مرة بنقل حركة الهمزة إلى الراء:
زوجة (عبد الله بن مسعود) الهذلي (رضي الله عنه وعنها) عدل
عن قوله عنهما مع أنه أخصر لما يوهمه من عوده لابن مسعود
وأبيه لكونهما أقرب مذكور، وفي تقديمه عليها مع تأخر ذكره
إشارة إلى شرف الذكورية ومجدها. قال المصنف في «التهذيب» :
اختلف في اسم امرأة ابن مسعود فقال جماعة: اسمها زينب،
ولعله قول الأكثرين، وهي زينب بنت عبد الله ابن معاوية
الثقفي؟، وقيل اسمها رايطة وقيل ريطة بنت عبد اهكذا ذكر
هذه الأقوال جماعة من العلماء منهم الخطيب البغدادي في
المبهمات، وجعل ابن سعد في «الطبقات» زينب ورايطة امرأتين
لابن مسعود. قلت: وبعض أهل اللغة ينكر وجود رايطة في كلام
العرب. وذكر أبو عمر الزاهد في آخر شرح الفيح عن ابن
الأعرابي قال: يقال ريطة لا غير ولم يحك عن العرب رايطة:
وأفصح اللغات عائشة، وقد يقال عيشة لغة فصيحة اهـ ملخصاً.
قلت: قال الحافظ في «الفتح» : زينب الثقفية يقال لها رايطة
أيضاً، وقع
(3/163)
ذلك في صحيح ابن حبان، ويقال هما اثنتان
عند الأكثر وممن جزم به ابن سعد. قال الكلاباذى: رايطة هي
المعروفة بزينب، وبه جزم الطحاوي فقال: رايطة هي زينب لا
نعلم لعبد الله امرأة في زمن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - غيرها، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ثمانية أحاديث منها في الصحيحين حديثان، اتفقا على
أحدهما وهو حديث الباب، وانفرد مسلم بحديث آخر، كذا في
«مختصر التلقيح» (قالت: قال رسول الله: تصدقن) أمر لجماعة
النسوة كما قال (يا معشر النساء) أي جماعة النساء، ومقتضى
قول المصباح المعشر، والقوم، والرهط، والنفر لجماعة الرجال
دون النساء اهـ. استعمل في غير موضوعه وكأنه لأنهن لما
أمرن بالتصدق وإنما يبعث عليه الإيقان الذي هو وصف كمل
الرجال كما قال: والصدقة
برهان، خوطبن بذلك، ثم رأيت في «التحفة» للشيخ زكريا:
المعشر كل جماعة أمرهم واحد، وفيه رد على ثعلب حيث خصه
بالرجال، إلا إن أراد بالتخصيص حالة الإطلاق لا حالة
تقييده (ولو من حليكن) قلت: يحتمل أن يكون مفرداً فيكون
بفتح المهملة وسكون اللام، وأن يكون جمعاً فيكون بضم
المهملة وكسر اللام وتشديد الياء وأصله على وزن فعول كفلس
وفلوس فأعل كما في «المصباح» : وفي «المشارق»
للقاضي عياض «تصدقن ولو من حليكن» وهو ما تتحلى به المرأة
وتتزين به، يقال بفتح الحاء وسكون اللام وبضم الحاء وكسرها
وكسر اللام، وقد قرىء بهما جميعاً اهـ. واختصره صاحب
«المطالع» ولم أقف على من ضبط الرواية فيه، وفي «فتح
الإله» : كأن وجه جعله غاية أن النساء لا يسمحن بالتفريط
فيه إلا لمهم انحصر الخلاص فيه كأنه يقول: الصدقة أمر مهم
جداً، فكما تسمحن بإخراج حليكن في الأمر المهم عند فقد
غيره فاسمحن بإخراجه فيها إذا لم تجدن غيره (قالت: فرجعت)
بتاء المتكلم، ويحتمل أن يكون بتاء التأنيث فيكون فيه
التفات على طريق السكاكي (إلى عبد الله بن مسعود، فقلت:
إنك رجل خفيف ذات) زائدة للتأكيد (اليد) أي قليل المال،
ولم تقله تعييراً له ولا استخفافاً بحقه، بل توطئة لقولها
(وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بالصدقة) أي
أمر ندب بدليل الحلي فإنه لا زكاة فيه، نعم جاء أنه كان
زكوياً ثم نسخت منه، فإن كان قبله فيحتمل كونه أمر إيجاب،
وعلى كل فالامتثال مطلوب، ولا يشكل على الوجه الثاني صرفه
لأولادها لأنه يجوز للمزي صرف زكاته إلى أولاده الذين
تلزمه نفقتهم، وكذا أصوله كذلك (فأته فاسأله) هل يجزىء عني
التصدق عليك وعلى أولادي فأصرفها عليكم أولاً؟ وأفاد هذا
قولها عاطفة بالفاء المفيدة لتفصيل المسؤول (فإن كان ذلك
يجزىء) أي يسقط
(3/164)
الفرض (عني) إن قلنا إنها زكاة، أو يجزىء
في الوقاية من النار لحصول الصدقة المأمور بها إن قلنا
إنها تطوع، أشار
إليه الحافظ في «الفتح» ، وجواب الشرط محذوف لدلالة المقام
عليه: أي دفعتها لكم (وإلا صرفتها إلى غيركم) قالت (فقال
عبد الله: بل ائتيه أنت) لعل ذلك منه استحياء أو بيان أنها
الأولى بالسؤال لأنه أمر يتعلق بها (فانطلقت فإذا امرأة من
الأنصار) قال الحافظ في «الفتح» : أخرج النسائي عن ابن
مسعود قال: «انطلقت امرأة عبد الله: يعني ابن مسعود، وزينب
امرأة أبي مسعود: يعني عقبة بن عمرو الأنصارية» قلت: لم
يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى هذيلة بنت ثابت
بن ثعلبة الأنصارية فلعل لها اسمين، أو وهم من سماها زينب
انتقالاً من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها اهـ. وإذا
للمفاجأة، والمفاجأة حضور الشيء معك في وصف من أوصافه
الفعلية كخرجت فإذا الأسد بالباب، معناه حضور الأسد معك في
زمان أو مكان وصفك بالخروج، وتقدير المكان أولى لأنه الذي
يخصك فهو ألصق بك من الزمان، وكلما كان ألصق كانت المفاجأة
فيه أقوى. قال ابن مالك: هي حرف، وقال المبرد وغيره: هي
ظرف مكان، وقال الزمخشري كالزجاج: ظرف زمان وناصبها فاجأه،
وردّ أن ناصبها الخبر المذكور أو المقدر ولم تذكر في
القرآن إلا وخبر المبتدأ بعدها مذكوراً (بباب رسول الله)
أي واقفة به (حاجتها حاجتي) من التعبير البليغ (وكان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة) بفتح
الميم مصدر ميمي: أي الهيبة وهي الإجلال وكان فيه
للاستمرار: أي إنه مهاب موقر مع ما كان عليه من عظيم حسن
الخلق وبديع التواضع حتى كان أصحابه في مجلسه يعتريهم من
ذلك ما يصيرون به خاضعين خافضين رؤوسهم كأن على رؤوسهم
الطير (فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله) لا ينافي
ذلك أنه لم يكن له حاجب ولا بواب، لأن بلالاً لم يكن
موقفاً لذلك، وإنما صادف وقوفهما وجوده عند النبيّ، فأخرجه
إليهما ليسألهما عن حاجتهما (فأخبره بأن) الباء زائدة في
المفعول الثاني للتأكيد (امرأتين) واقفتان (بالباب يسألانك
أيجزىء) بضم
الياء والهمزة من الإجزاء بمعنى الإسقاط، وبفتح الياء وترك
الهمزة آخره
(3/165)
بمعنى يكفي (الصدقة عنهما على أزواجهما
وعلى أيتام في حجورهما) أي ولايتهما وتربيتهما (ولا تخبره)
أي إذا لم يسألك عنا (من نحن) أي فإننا نستحيي من ذلك
(قالت: فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فسأله، فقال له رسول الله: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد ا)
كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض، وفيه حذف، ولفظ مسلم
الذي ساق المصنف الحديث بلفظه «فسأله فقال له رسول الله:
من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال له رسول الله:
أي الزيانب؟ فقال: امرأة عبد ا» ولفظ البخاري «فلما صار
إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل:
يا رسول الله هذه زينب فقال: أي الزيانب؟ فقيل: امرأة ابن
مسعود» (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها) كذا
فيما رأيت بإفراد الضمير وكأنه لتعيينها وحكم صاحبتها
معلوم من ذكر حكمها لأن المادة واحدة، والذي في مسلم لهما
بضمير التثنية. وحاصل الجواب أن ذلك يجزىء عنهما، ولهما
عليه (أجران: أجر القرابة) في الأولاد: أي أجر صلة الرحم
التي تكفل الله لمن وصلها بأن يصله بما لا يقدر غيره
سبحانه قدره (وأجر الصدقة) فيهم وفي الزوج. وفي الحديث
تغليب، فإن ابن مسعود كان زوجاً فقط، وفي الحديث «إن أحق
الناس بصرف صدقة التطوّع والزكاة والنذر والكفارة والوقف
والوصية وسائر وجوه البرّ الأقارب» وبه أخذ أئمتنا (متفق
عليه) واللفظ لمسلم أخرجاه في الزكاة وأخرجه النسائي في
عشرة النساء وابن ماجه في الزكاة.
16327 - (وعن أبي سفيان) بتثليث سينه المهملة والضم أشهر
(صخر) بفتح المهملة وسكون الخاء المعجمة بعدها راء (ابن
حرب) بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها موحدة ابن أمية
بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي (رضي الله عنه) وسبقت
ترجمته والكلام على حديث في باب الصدق (في حديثه الطويل)
المذكور في «صحيح البخاري» في كتاب بدء
(3/166)
الوحي، وفي «صحيح مسلم» في أثناء كتاب
الجهاد (في قصة هرقل) بمنع الصرف للعلمية والعجمة (أن هرقل
قال لأبي سفيان: فماذا) أي فما الذي (يأمركم به، يعني) أي
هرقل بمرجع الضمير المستتر في أمركم (النبيّ) وهذه الجملة
من كلام المصنف احتاج إلها، لأنه ذكر هذه القطعة المشتملة
على ضمير لم يصرح بذكر مرجعه في باقي الخبر (قال: قلت يقول
اعبدوا الله وحده) أي وحدوه (ولا تشركوا به شيئاً) بيان
للتوحيد المأمور به وتنكير شيء للعمم، فيشمل الشرك الأكبر
وهو الكفر، والأصغر وهو الرياء، فالعبادة الكاملة ما قصد
بها لتقرّب لوجه الله سبحانه وتعالى دون ما سواه مطلقاً
(واتركوا ما يقول آباؤكم) من الكفر (ويأمرنا) من عطف
الرديف باعتبار المعنى: إذ التوحيد وترك الكفر من جملة ما
أمر به النبيّ، وكأنه خالف بين العبارتين تفنناً ولاختلاف
نوعهما إذ مدخول القول هو الأصول وما بعد الأمر هو الأخلاق
المبنية عليها الملاحظة بعد ما تقدمها (بالصلاة والصدق) في
الأقوال والأفعال (والعفاف) عن المحارم (والصلة) للأرحام
(متفق عليه) .
17328 - (وعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة وسبقت ترجمته (رضي
الله عنه) في باب المراقبة، (قال: قال رسول الله) هو من
الإخبار بالمغيبات، فهو من جملة الإعجاز، وقد وقع كما أخبر
به النبيّ والحمد (إنكم ستفتحون) السين لتأكيد الوعد، قال
البيضاوي: لن يفعل نفي سيفعل، وما يفعل نفي يفعل اهـ. وفي
«المغني» : زعم الزمخشري أنها: أي السين إذا دخلت على فعل
محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة ولم أر من فهم وجه
ذلك، ووجهه أنها تفيد الوعد بحصول الفعل فدخولها على ما
يفيد الوعد والوعيد مقتض للتوكيد اهـ. (أرضاً يذكر)
بالبناء للمجهول (فيها القيراط) قال في المصباح: أصله قراط
(3/167)
لكنه أبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف كما
في دينار ونحوه، ولهذا يرد في الجمع والتصغير إلى أصله
فيقال قراريط وقريرط. قال بعض الحسَّاب: القيراط في لغة
اليونان حبة خرنوب، وهو نصف دانق، والدانق عندهم اثنا عشر
حبة، والحسَّاب يقسمون الأشياء أربعة وعشرين قيراطاً لأنه
أول عدد له ربع وثمن ونصف وثلث صحيحات من غير كسر اهـ.
وقال المصنف: قال العلماء: القيراط جزء من الدينار والدرهم
وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به (وفي
رواية) هي لمسلم أيضاً (ستفتحون مصر) بمنع الصرف للعلمية
والتأنيث باعتبار إرادة البقعة؛ سميت باسم أول من سكنها
وهو مصر بن بنصر بن سام بن نوح. وحدّها طولاً من برقة التي
في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، ومسافة ذلك قريب من أربعين
يوماً، وعرضاً من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى
إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي،
ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوماً (وهي أرض يسمى) أي يذكر
كثيراً (فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً) يحتمل أن
تكون معطوفة على جملة ستفتحون بناء على جواز عطف الإنشاء
على الخبر، ويحتمل الاستئناف وتنكير خيراً للتعميم
والتكثير (فإن) الفاء فيه للسببية: أي بسبب أن (لهم ذمة)
أي ذماماً: أي حقاً
وحرمة (ورحماً) .
(وفي رواية فإذا) أتى بها لأنها تستعمل في المحقق وقوعه
بخلاف إن الشرطية (افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها) بأنواع
الإحسان كما يؤذن به حذف المعمول، ويومىء إليه قوله في
الرواية السابقة خيراً (فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال ذمة
وصهراً. رواه مسلم) في الفضائل، أو قال: يعني النبيّ، وهو
شك من الراوي (ذمة وصهراً) بدل قوله «ورحماً» قال في
«المصباح» : قال الخليل: الصهر أهل بيت المرأة، قال: ومن
العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعاً أصهاراً.g
وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم
وذوات الأرحام، ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابة المحارم
فهم أصهار المرأة أيضاً. وقال ابن السكيت: كل من كان من
قبل الزوج من أبيه وأخيه وعمه فالأحماء، ومن كان من قبل
المرأة فالأختان، ويجمع الصنفين الأصهار. اهـ ملخصاً.
(قال العلماء: الرحم التي لهم) أي في الحديث (كون هاجر)
بفتح الجيم وتبدل الهاء همزة وهو ممنوع الصرف للعلمية
والعجمة، أو والتأنيث المعنوي (أم إسماعيل) بن إبراهيم
(صلى الله عليه) وعليه (وسلم منهم) أي من مصر، لأنها
أعطاها الجبار لسارة امرأة إبراهيم
(3/168)
علي السلام لما منعته يد القدرة عنها
فأعطتها سارة إبراهيم فحملت منه إسماعيل (والصهر كون مارية
أم إبراهيم ابن) سيدنا وسيد الخلق أجمعين (رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - منهم) لأن المقوقس صاحب مصر لما كاتبه
النبيّ يدعوه إلى الإسلام لم يسلم، وأرسل بهدية إلى النبيّ
منها مارية وسيرين فحملت مارية بإبراهيم، وأعطى سيرين
لحسان بن ثابت الأنصاري. وهذا التفسير عزاه هنا للعلماء
لعدم الخلاف فيه ولم يعزه إلى أحد في شرح مسلم لأن المتفق
عليه لا يحتاج إلى العزو، والله أعلم.
18329 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه
الآية) المبينة بقوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) أي قرابتك
الأدنين (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً) هم
ولد النضر بن كنانة على الصحيح (فاجتمعوا فعم) أي دعاهم
بما يعمهم (وخص) أي خصيص بعضاً بالنداء وبين كيفية التعميم
والتخصيص بقوله: (فقال: يا بني كعب بن لؤي) بحذف تنوين كعب
لفظاً وألف ابن خطاً، ومثله كان ابن وقع بين علمين ما لم
يقع في ابتداء سطر (أنقذوا أنفسكم) أي خلصوها (من النار)
المترتبة على الكفر والعصيان بالإيمان با تعالى وطاعته
وأداء عبوديته (يا بني عبد مناف) بكسر دال عبد لأنه مركب
إضافي ومناف محول عن منات اسم لصنم. قال السهيلي في «الروض
الأنف» : كانت أمه قد أخدمته منات وكان صنماً عظيماً لهم
وكان يسمى عبد منات، ثم نظر قصيّ فرآه يوافق عبد مناف بن
كنانة فحوله عبد مناف. ذكره البرقي والزبير (انقذوا أنفسكم
من النار، يا بني هاشم) لقب به لهشمه الثريد لقومه، واسمه
عمرو (أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب) قاله
المطلب جد
(3/169)
الإمام الشافعي لما جاء به من المدينة
مردفاً له على راحلته وعليه ثياب بذلة، فكان إذا سئل عنه
يقول عبدي، حتى ألبسه قال ابن أخي، فغلب عليه ذلك، واسمه
كما قال السهيلي شيبة (أنقذوا أنفسكم من النار) وهذا آخر
ما عمم فيه وقال مخصصاً (يا فاطمة) بالضم، قال المصنف: كذا
وقع في بعض الأصول وفي بعضها أو أكثرها يا فاطم بحذف الهاء
على الترخيم وعليه فيجوز ضم الميم وفتحها كما عرف في
نظائره: أي من الانتظار وعدمه (أنقذي نفسك من النار فإني
لا أملك لكم من الله شيئاً) قال المصنف: معناه لا تتكلوا
على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى
بكم (غير) استثناء منقطع، وترادفها في هذا المعنى
والاستعمال بيد، ومنه حديث «نحن الآخرون السابقون بيد أنهم
أوتوا الكتاب من قبلنا» والمعنى هنا لكن حصل (أن لكم رحماً
سأبلها
ببلالها. رواه مسلم) في كتاب الإيمان والنسائي في الوصايا،
وذكر الحافظ في «النكت الظراف» أن البخاري أخرجه عقب حديث
شعيب عن الزهري فقال: تابعه أصبغ عن ابن وهب اهـ. (قوله:
ببلالها هو بفتح الباء الثانية) أي التي هي أول الكلمة،
أما الأولى الجارة فمكسورة لا غير (وكسرها) قال في شرح
مسلم: ضبطناه بهما وهما وجهان مشهوران ذكرهما جماعة من
العلماء. وقال عياض: رويناه بالكسر قال: ورأيت في الخطابي
أنه بالفتح، وقال صاحب «المطالع» : رويناه بكسر الباء
وفتحها من بل يبله (والبلال الماء) وفي «المصباح» : وقيل
البلال ما يبل به الحلق من ماء ولبن (ومعنى الحديث سأصلها،
شبه قطيعتها بالحرارة) تشبيهاً مضمراً في النفس وأثبت لازم
المشبه وهو ما تضمنه قوله (تطفأ) بالبناء للمجهول (بالماء
وهذه تبرد بالصلة) قال المصنف: ومنه حديث «بلوا الأرحام»
أي صلوها، من البلل المذهب حرارتها فالتشبيه المضمر في
النفس استعارة مكنية وإثبات البلال تخييل.
19330 - (وعن أبي عبد الله عمرو بن العاص) تقدمت ترجمته
(رضي الله عنه) في باب بيان
(3/170)
كثرة طرق الخير (قال: سمعت النبيّ جهاراً)
منصوب على الحال: أي حال كونه مجاهراً بالقول (غير مسر)
ووقوع المصدر حالاً كثير لكن مع ذلك هو سماعي وابن العاص
من العرب الذين لهم ذلك فيه، أو مفعول مطلق: أي يجهر جهراً
به، وقوله غي مسر صفة مؤكدة (يقول: إن آل أبي فلان ليسوا
لي بأولياء) هذا لفظ مسلم، والذي في البخاري «إن آل أبي»
قال عمرو: يعني ابن عباس شيخ البخاري «في كتاب محمد بن
جعفر - أي شيخ عمرو - بياض» قال السيوطي: أي موضع أبيض
بغير كتابة اسم للمضاف إليه قال الشيخ زكريا في «التحفة» :
المراد بفلان أبو طالب أو أبو العاص بن أمية، والمراد من
آله من لم يسلم منهم اهـ. وقال السيوطي: وفي «مستخرج» أبي
نعيم «إن آل أبي طالب» فقيل الراوي له عنبسة بن عبد الواحد
أموي من الناصبة المنحرفين على عليّ فلا يقبل منه هذا
التعبير، وقيل هو محمول على غير المؤمنين، وعلى كونه العاص
فإنما أبهمه الراوي لخوف مفسدة تترتب على ذكره. قال
الدلجي: لأن الأمر حينئذٍ كان في ذويه اهـ. وفي «تعليق
المصابيح» للدماميني قال ابن العربي في «سراج المريدين» :
معنى الحديث آل أبي طالب، قال: ومعناه إني لست أخصّ قرابتي
ولا فصيلتي الأدنين بولاية دون المسلمين وإنما رحمهم معي
في الطالبية فسأبلها ببلالها: أي أعطيها حقها فإن المنع
عند العرب يبس والصلة بلّ (إنما وليي) أي ناصري والذي
أتولاه في جميع الأمر (اوصالح المؤمنين) كذا رأيته بحذف
الواو من صالح على أنه مفرد مضاف اكتفى بعمومه، ويؤيده آية
{فإن تظاهرا عليه فإن اهو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين}
(التحريم: 4) فالحديث على طبق الآية، فإنها دلت على حصر
أوليائه فيمن ذكر. قال الكواشي في التفسير: المراد بصالح
المؤمنين: أبو بكر أو عمر أو هما أو عليّ أو كل من برىء من
المؤمنين من النفاق أو هم الأنبياء، وصالح
المؤمنين مفرد يراد به الجمع كقوله: {السارق والسارقة}
(المائدة: 38) وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون أصله صالحو
فيكتب بغير واو إتباعاً للفظ (ولكن) استدراك لما قد يتوهم
من عدم مواصلتهم بإثباتها بقوله: (لهم رحم أبلها ببلالها.
متفق عليه) رواه البخاري في الأدب ومسلم في الإيمان
(واللفظ للبخاري) ورواه البزار.
(3/171)
20331 - (وعن أبي أيوب خالد بن زيد) بن
كليب بن ثعلبة بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار (الأنصاري)
الخزرجي النجاريّ المدني الصحابي الجليل (رضي الله عنه)
شهد العقبة وبدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وجميع
المشاهد مع رسول الله، ونزل عنده رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - حين قدم المدينة مهاجراً وأقام عنده أشهراً
حتى بنيت مساكنه ومسجده. روي له عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - مائة وخمسون حديثاً، اتفقا على سبعة منها،
وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، وروى عنه البراء بن
عازب وجابر بن سمرة وأبو أمامة الباهلي وزيد بن خالد
الجهني وابن عباس وكلهم صحابة رضي الله عنهم وخلائق من
التابعين. توفي بأرض الروم غازياً سنة خمسين، وقيل سنة
إحدى وقيل اثنين وخمسين وقبره بالقسطنطينية حرسها الله
بمنه (أن رجلاً) قال الشيخ زكريا: هو أبو أيوب الراوي كما
قال ابن قتيبة، ولا مانع أن يبهم الراوي نفسه لغرض له.
وأما تسميته في حديث آخر عن أبي هريرة عند البخاري بأعرابي
فلا ينافي ذلك لجواز التعدد، وذلك الأعرابي هو ابن
المنتفق، قيل: واسمه لقيط بن صبرة اهـ. (قال: يا رسول الله
أخبرني بعمل يدخلني الجنة) برفع يدخلني عل أنه صفة عمل
وجواب الأمر محذوف: أي يثبكالله، ويجوز أن يجزم على أنه
جواب الأمر، وعليه فتنوين عمل للتعظيم والتفخيم ليكون بوصف
مقيداً (فقال النبيّ: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً) عطف
على ما قبله مفيد لبيان العبادة المعتدّ بها، أو حال
بإضمار مبتدأ كما تقدم في الباب نظيره (وتقيم الصلاة) أي
تأتي بها مستجمعة لأركانها وشرائطها وسننها (وتؤتي) أي
تعطي (الزكاة، وتصل الرحم) وخص الرحم بالذكر لقربها من
السائل أو نظراً لحاله كأنه كان قاطعاً لها فأمر بصلتها
لأنها المهمّ بالنسبة إليه، وعطف الصلاة وما بعدها على
العبادة من عطف الخاص على العام (متفق عليه) رواه البخاري
في الزكاة، ومسلم في الإيمان، ورواه النسائي في كتاب
الصلاة وكتاب العلم، قاله الحافظ المزي.
21332 - (وعن سلمان بن عامر) بن أوس بن حجر بن عمرو بن
الحارث بن تيم بن ذهل بن
(3/172)
مالك بن سعد بن بكر بن ضبة بن أدّ بن طابخة
بن إلياس بن مضر الضبي (رضي الله عنه) قال مسلم: لم يكن في
الصحابة ضبيّ غيره، نزل البصرة وله بها دار بقرب الجامع،
روى عنه محمد وحفصة ولدا سيرين، روي له عن النبيّ ثلاثة
عشر حديثاً، انفرد البخاري بحديث واحد ذكره في «مختصر
التلقيح» ، واقتصر المصنف في «التهذيب» على أن البخاري روى
عنه حديثاً واحداً عن (النبي قال: إذا أفطر أحدكم) أي أراد
الفطر من صومه (فليفطر على تمر) اسم جنس جمعي فأقله ثلاثة،
وهذا عند فقد الرطب، وإلا فهو مقدم عليه كما جاء من فعله
ذلك (فإنه) أي التمر (بركة) لما فيه من حفظ البصر وجمع ما
تفرّق منه بالصوم، ومن أنه إذا وصل المعدة فإن وجد فيها
فضلة من بقايا الطعام أخرجها وإلا كان غذاء. وقول الأطباء:
يضعف البصر محمول على كثيره المضرّ دون قليله (فإن لم يجد
تمراً فالماء) بالجر: أي فليفطر عليه كما جاء كذلك في
رواية عند رواة هذا الحديث (فإنه طهور) أي مزيل للخبائث
المعنوية والحسية. وأخذ من هذا الحديث لإطلاق الماء فيه
ردّ ما قيل من تقديم زمزم لمن بمكة على التمر، فإن جمع
بينهما فحسن، والترتيب المذكور للاستحباب، فلو أفطر بالماء
مع وجود التمر حصل أصل سنة الإفطار على الماء (وقال) أي
النبيّ عطف على قال الأول، فهو من جملة ما رواه سلمان
(الصدقة على المسكين صدقة) أي ثوابها ثواب صدقة واحدة
(وعلى ذي الرحم) أي القرابة من الأب أو الأم وإن بعد
(ثنتان: صدقة وصلة) أي فيها ثوابان جليلان، ثواب الصدقة
وثواب صلة الرحم (حديث حسن) هذا التحسين من المصنف وما
يأتي بعد من الترمذي فلا تكرار، وذلك لأن تحسينات الترمذي
ليست مسلمة له كما علم من سرّ كلامهم (رواه الترمذي وقال:
حديث حسن) وكذا رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي،
وروى الحديث عنه أبو داود أيضاً وابن عديّ، إلا أن قوله:
«فإنه بركة» انفرد به عنهم الترمذي كما في «المشكاة» ، وفي
«الجامع الصغير» بعد ذكر الحديث الأوّل بلفظ المذكور هذا
رواه ابن عدي وابن خزيمة وابن حبان، وبعد ذكر الحديث
الثاني ورواه الحاكم في «المستدرك» .
(3/173)
22333 - (وعن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله
عنهما قال: كانت تحتي امرأة) لم أقف على من سماها (وكنت
أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي: طلقها) أمره بذلك لكراهته
لها، والظاهر أنها دينية، أو خشي أن تجره إلى ضرر في دينه
(فأبيت) أي لما لها من الحبّ عندي (فأتى عمر النبيّ فذكر
له ذلك) أي إبائي وامتناعي من طلاقها بعد أمره به (فقال
النبيّ) من باب زيادة البر بالوالد (طلقها) والظاهر أنه
طلقها لأنه لا يتخلف عن امتثال أمر النبيّ، وكأن السكوت
على ذلك للعلم به من أحواله وكمال اتباعه المانع ذلك من
خطور البال لمخالفة أمره (رواه أبو داود والترمذي وقال:
حديث حسن صحيح) .
23334 - (وعن أبي الدرداء) عويمر، تقدمت ترجمته (رضي الله
عنه) في باب ملاطفة اليتيم (أن رجلاً أتاه فقال: إن لي
امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها) أي وأنا لا أريد ذلك
لمحبتها أو لسبب آخر (فقال: سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول: الوالد) يشمل الأبوين وإن علوا (أوسط
أبواب الجنة) قال أبو موسى المدني؛ أي خيرها، يقال هو من
أوسط قومه أي من خيارهم. قال العراقي: والمعنى أن برّه
مؤدّ إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها. وقال العاقولي:
المعنى أحسن ما يتصول به إلى دخول الجنة بر الوالدين.
وكلام العراقي أقرب فيكون في الحديث مضاف إلى المبتدأ وآخر
في الخبر (فإن شئت فأضع ذلك الباب) أي بعدم برّها وترك
امتثال أمرها (أو احفظه) بذلك وإن لم يكن واجباً البرّ
بالطلاق لكنه برّ لهما وإجلال لأمرهما فامتثله، وما ذكرته
من أن ما ليس واجباً أصالة لا يصير واجباً بأمرهما هو ما
عليه الجمهور فقالوا: إن أمرا بمباح في أصله صار مندوباً،
أو بمندوب زاد تأكيد ندبه، وادعى القرطبي في «المفهم» أنه
إذا أمراه أو أحدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه وإن لم يكن
(3/174)
في أصله واجباً بل كانت من المباحات، ثم
نقل المقابل عن البعض ثم قال: والصحيح الأول لأن الله
تعالى قرن طاعتهما والإحسان إليهما بوجوب عبادته وتوحيده،
وكذا جاء في السنة فذكر حديث ابن عمر المذكور ثم قال: فإن
قيل يرتفع حكم الله الأصلي بحكم غيره الطارىء. قلت: إنما
ارتفع حكمه تعالى بحكمه لأنه أوجب علينا طاعتهما والإحسان
إليهما، وكان من ذلك امتثال أمرهما فوجب لأنه لا يحصل ما
أمر الله به إلا بالامتثال، ولأن مخالفتهما في أمرهما عقوق
اهـ. وفيه ما لا يخفى وقوله: «فإن شئت» مدرج في آخر الخبر
من كلام أبي الدرداء والحديث (رواه الترمذي وقال: حديث
صحيح) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد وابن ماجه والحاكم
في «المستدرك» .
24335 - (وعن البراء) بالتخفيف والمد (ابن عازب) بالمهملة
والزاي والموحدة (رضي الله عنهما عن النبيّ قال) في عمرة
القضاء «لما خرج النبيّ وتبعته بنت حمزة تنادي يا عم يا
عم، فتناولها عليّ فأخذها بيده وقال لفاطمة: دونك بنت عمك
احمليها، فاختصر فيها عليّ وزيد وجعفر، فقضى بها النبيّ
لخالتها وقال (الخالة بمنزلة الأم) الحديث. قال العلقمي:
أي في هذا الحكم الخاص لأنها تقرب منها في الحنوّ والشفقة
والاهتداء لما يصلح الولد فلا حجة فيه لمن قال: الخالة
ترث. وفي حديث مرسل للباقر «الخالة والدة، وإنما الخالة
أمّ - وهو بمعنى قوله: «بمنزلة الأم» أي لا أنها أم حقيقة
اهـ. والمصنف أورده في الباب اعتباراً بعموم لفظه في طلب
أنواع البرّ وإسداء المعروف لها كما تسدى ذلك للأم مطلب
البرّ لها (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) ورواه أبو داود
من حديث عليّ بن أبي طالب كما في «الجامع الصغير» (وفي
الباب) أي البرّ والصلة (أحاديث) مع حديث عليّ بن أبي طالب
كما في «الجامع الصغير» (وفي الباب) أي البرّ والصلة
(أحاديث) جمع حديث على غير قياس أو جمع أحدوثة بمعنى حديث
كأراجيز جمع أرجوزة، قاله في «المفاتيح في شرح المصابيح»
كما تقدم أوّل الكتاب بمزيد (كثيرة في الصحيح) أي للبخاري
لأنه صار
(3/175)
علماً بالغلبة في لسان المحدثين عليه،
ويحتمل أنه يريد في الصحيح من الحديث للقابل للحسن والضعيف
(مشهورة منها حديث أصحاب الغار الثلاثة وحديث جريج وقد
سبقا) سبق حديث الغار في باب الإخلاص وحديث جريج في باب
فضل ضعفة المسلمين (وأحاديث مشهورة في الصحيح حذفتها
اختصاراً) وقد ذكرا كثيراً منها المنذري في «ترغيبه» (ومن
أهمها حديث عمرو بن عبسة) بفتح المهملة والموحدة والسين
المهملة (رضي الله عنه الطويل) صفة حديث (المشتمل على جمل
كثيرة) بالمثلثة تأكيد لمدلول جمل وتنوينه (من قواعد
الإسلام) أي أصوله وضوابطه الشاملة لكثير من جزئياته
(وآدابه) جمع أدب وهو
كالسنة في الطلب وإن تفاوت تأكيداً كما في «الروضة» ،
وتقدم تعريف الأدب أوّل لكتاب (وسأذكره بتمامه إن شاء الله
تعالى في باب الرجاء، قال فيه: دخلت على النبيّ بمكة)
وقوله: (يعني في أول النبوّة) هذا مدرج لبيان زمن دخوله
ووصوله (فقلت له: ما أنت) المسؤول عنه وصفه، فلذلك أجابه
بقوله (قال: نبي) أي أنا نبي، ومراده به الرسول، فهو من
إطلاق النبيّ بالمعنى الشامل للرسول كما يدل عليه قوله
أرسلني الله (قلت: وما نبيّ؟) أي ما حقيقة هذا اللفظ
ومدلوله (قال) بيان لما يؤخذ منه ذلك (أرسلني ا) حذف
المرسل لأجله للتعميم وليسأل عنه السائل فيصل إليه بعد
الطلب فيكون أقرّ عنده (فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني
بصلة الأرحام) أي بالأمر بها والحثّ عليها، وذلك داع لدوام
الاتصال وترك التقاطع والانفصال (وكسر الأوثان) جمع وثن،
قيل هي الأصنام، وقيل أعم: أي إزالتها (وأن يوحد) بالبناء
للمفعول (ا) حال كونه (لا يشرك به شيء، وذكر) عمرو (تمام
الحديث) في باب الرجاء إن شاء الله تعالى (والله أعلم) .
(3/176)
41 - باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم
المراد من العقوق عقوق الوالدين أو أحدهما، وهو من
الكبائر، مأخوذ من العق. وهو لغة القطع والمخالفة، وشرعاً
قيل ضابطه أن تعصيه في جائز وليس هذا الإطلاق بمرضيّ؛ وقال
بعضهم: طالما بحثت عن ضابطه فلم أجده، والذي آل إليه كلام
أئمتنا أن ضابطه أن يفعل معه ما يتأذى به تأذياً ليس
بالهين، لكن هل المراد بقولهم ليس بالهين بالنسبة للوالد
حتى أن ما تأذى به كثيراً وهو عرفاً بخلاف ذلك كبيرة، أو
بالنسبة للعرف فما عده أهله مما لا يتأذى به كثيراً ليس
بكبيرة وإن تأذى كثيراً. كل محتمل ولم يبينوه، والذي يظهر
أن المراد الثاني بدليل أنه لو أمر ولده بنحو فراق حليلته
لم يلزمه طاعته وإن تأذى بذلك كثيراً، فعلمنا أنه ليس
المناط وجود التأذي الكثير، بل أن يكون ذلك من شأنه أنه
يتأذى به كثيراً، وقطيعة الرحم ضد صلته وتقدم في الباب
قبله ما تعرف منه، وكذا تقدم فيه في حديث أبي هريرة أوائل
الكلام على ما يتعلق بقول المصنف.
(قال الله تعالى) : ( {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في
الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الدين لعنهم الله فأصمهم
وأعمى أبصارهم} ) .
(وقال تعالى) : ( {والذين ينقضون عهد ا} ) أي ما عهده الله
إليهم من التكاليف والأحكام (من بعد ميثاقه) أي ما أوثقه
به من الإقرار والقبول.t
وفي «رسالة الاستعارة» للخوجة أبي القاسم السمرقندي جوز
صاحب الكشاف كونه: أي الأمر الذي أثبت للمشبه من خواص
المشبه به استعارة تحقيقية في بعض المواد كما في قوله
تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} (البقرة:
27) استعير الحبل المضمر في النفس للعهد بجامع الوصلة على
سبيل الكناية واستعير النقض لإبطاله: أي إبطال العهد على
سبيل التصريح بجامع مطلق الإبطال اهـ. ( {ويقطعون ما أمر
الله به أن يوصل} ) بدل من
(3/177)
الضمير المجرور، والمراد به الرحم وموالاة
المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء ويندرج في ذلك مراعاة
جميع حقوق الناس ( {ويفسدون في الأرض} ) بالظلم وتهييج
الفتن ( {أولئك لهم اللعنة} ) البعد من الله سبحانه (
{ولهم سوء الدار} ) عذاب جهنم أمر سوء عاقبة الدنيا لأنه
في مقابلة - عقبي الدار - وتقدم الكلام في الباب قبله على
قوله:
(وقال تعالى) : ( {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما
فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً.
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} ) فيه استعارة مكنية
يتبعها استعارة تخييلية ( {وقل ربّ ارحمهما كما ربياني
صغيرا} ) والكاف في «كما» يحتمل أن تكون للتعليل كما في
قوله تعالى: {كما هداكم} (البقرة: 198) على أحد الأقوال.
وحينئذٍ فيحتمل أن يكون لبيان سبب دعائك لهما، ويحتمل أن
يكون للتنظير والمراد رحمة تامة بالغة كما بالغا جهدهما في
تربيتي حال صغرى وانقطاعي ثم كان اللائق بالترجمة تقديم
هذه الآية لأن فيها النهي عن العقوق بالتصريح، وبالقياس
الأولويّ، وباللازم من الأمر بالبر والإحسان إليهما، إذ
الأمر بالشيء نهي عن ضده، والآيتان في القطيعة، إلا أن
يقال إنهما شاملان للعقوق لأنه من قطع الأرحام، ومن قطع ما
أمر الله به أن يوصل فذكر له من الكتاب دليلاً شاملاً
لتحريمه وتحريم غيره من القطيعة ثم ذكر ما يخصه اهتماماً
به.
1336 - (وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه) سبقت
ترجمته في باب النية أول الكتاب (قال: قال رسول الله: ألا)
حرف استفتاح وأتى بها ليتنبه المخاطب من غفلته ليتوجه
لسماع ما يلقى إليه فيقرّ في قلبه ولذا إنما يؤتى بها فيما
يهتم بأمره (أنبئكم بأكبر الكبائر) جمع كبيرة، والصحيح، بل
الصواب أن من الذنوب صغائر وكبائر وأن للكبيرة حدا،
فالمختار أنها ما ورد فيه وعيد شديد في الكتاب أو في السنة
وإن لم يكن فيه حد وهو بمعنى قول إمام الحرمين: كل جريمة
تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وقلة الديانة. ومن أحسن
ما ألف فيها وأجمع كتاب «الزواجر عن اقتراف الكبائر» لشيخ
شيوخنا المحقق شهاب
(3/178)
الدين أحمد بن حجر الهيثمي رحمه الله
(قلنا: بلى يا رسول الله) فائدته مع عدم الاحتياج إليه
الإشارة إلى عظيم الإذعان لرسالته وما ينشأ منها من بيان
الشريعة، وإلى استجلاء شيء من كمالاته وعلومه التي أوتيها
بعد رسالته (قال: الإشراك با) أي الكفر بأنواعه (وعقوق
الوالدين) أو أحدهما، وجمعهما لأن عقوق أحدهما يستلزم عقوق
الآخر غالباً أو يجر إليه وتقدم تعريف أول الباب. فإن قلت:
أكبر الكبائر لا يكون إلا واحداً وهو الشرك فكيف تعدد هنا؟
وأيضاً فنحو القتل والزنا أكبر من العقوق فلم حذفا وذكر
هو؟ قلت: ادعاء أن الأكبر لا يكون إلا واحداً إنما هو إن
أريد الحقيقة، أما إن أريد الأكبر النسبي فهو يكون
متعدداً، ولا شك أن الأكبر بالنسبة إلى بقية الكبائر أمور
أشار إليها وإلى أمثالها النبي بقوله: «اتقوا السبع
الموبقات» الحديث، وحينئذٍ فالأكبر هنا لتعدده في الجواب
مراد به الأمر النسبي، وإنما ترك ذكر القتل ونحوه في هذا
الحديث لأنه علم من أحاديث أخر أن ذلك من أكبر الكبائر،
على أنه كان يراعي في مثل ذلك أحوال الحاضرين، وعليه يحمل
اختلاف الأحاديث نحو «أفضل الأعمال الصلاة» وأخرى «أفضل
الأعمال الجهاد» وأخرى «أفضل الأعمال بر الوالدين» وغير
ذلك من نظائر
له لا تخفى (وكان متكئاً فجلس) تنبيهاً على عظم إثم وقبح
شهادة الزور، فيفيد تأكيد تحريمه وتعظيم قبحه، وسبب
الاهتمام به حتى جلس بعد اتكائه سهولة وقوع الناس فيه
وتهاونهم به، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق
يصرفه عنه الطبع، والحوامل على الزور كثيرة جداً كالعداوة
والحسد، فاحتيج إلى الاهتمام بشأنه لأن مفسدته متعدية إلى
الغير بخلاف ما معه فقاصرة عليه (فقال: ألا وقول الزور)
يحتمل كون الواو استئنافية لعظم قبح هذا الذنب ومزيد إثمه،
ويحتمل أنها عاطفة على محذوف: أي اتركوا ما ذكر من الكبائر
وقول الزور وهو الكذب على الغير (وشهادة الزور) قال ابن
دقيق العيد: يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، لكن ينبغي
أن يحمل على التوكيد، فإنا لو حملنا القول على إطلاقه لزم
كون الكذبة الواحدة كبيرة وليس كذلك، قال: ولا شك أن عظم
الذنب ومراتبه متفاوتة بتفاوت مفاسده، ومنه قوله تعالى:
{ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل
بهتاناً وإثماً مبيناً} (النساء: 112) (فما زال يكررها) أي
هذه الكلمة باعتبار المعنى اللغوي، أو الشهادة لأنها أقرب
مذكور
(3/179)
وقول الزور بمعناه (حتى قلنا: ليته سكت) أي
شفقة عليه وكراهية لما يزعجه وخشية أن يجري على لسانه ما
يوجب نزول البلاء عليهم. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب
معه والمحبة له والشفقة عليه (متفق عليه) رواه البخاري في
مواضع من «صحيحه» أولها الشهادات، ورواه مسلم في الإيمان،
ورواه الترمذي في مواضع من «جامعه» منها البر ومنها
الشهادات وقال: حسن صحيح.
2337 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي) بإثبات الياء كما
هو الأفصح كما تقدم (رضي الله عنهما عن النبي قال:
الكبائر) أي منها والاقتصار عليها كأنه لاقتضاء المقام
ذكرها لتقصير بعض الحاضرين في شأنها أو لكونها أعظم
الكبائر إثماً وأشدها جرماً (الإشراك) أي الكفر (با وعقوق
الوالدين وقتل النفس) التي حرم الله قتلها عدواناً
(واليمين الغموس) الغين المعجمة والسين (رواه البخاري)
وأحمد والترمذي والنسائي كما في «الجامع الصغير» .
(اليمين الغموس) المد دور في الحجر (التي يحلفها) أي
الحالف، نظيره قوله تعالى: {اعدلوا هو} (المائدة: 3) أي
العدل (كاذباً عامداً) حال من فاعل يحلف (سميت غموساً)
بفتح الغين (لأنها تغمس الحالف في الإثم) لأنه حلف كاذباً
على علم منه، فغموس فعول بمعنى فاعل كما في «المصباح» .
3338 - (وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من
الكبائر) أي بعضها: ولا ينافي ما تقدم وما
(3/180)
بعده أنه من أكبرها لأنه لا يخرج بذلك عن
كونها بعضاً منها (شتم الرجل) أي المكلف ومثله المكلفة
(والديه) بفتح الدال: أي أمه وأباه ويلحق بهما في ذلك من
له عليه ولادة من أصوله، ولو قرىء بكسر الدال على الجمع
لشملهم إلا أن تمنع منه الرواية، ويدل على المشبه قوله
يسبّ أبا الرجل الخ (قالوا: يا رسول الله وهل يشتم) بكسر
التاء، ففي «المصباح» أنه من باب ضرب (الرجل والديه؟)
استفهام استبعاد أن يصدر ذلك من ذي عقل ولب، فإن من كان
ذلك شأنه تدعوه معرفة حقهما إلى القيام ببرّهما وشكرهما
فضلاً عن الوقوع في شتمهما، فهو استبعاد لوقوع ذلك الموصوف
بالرجولية المعربة عن الكمال (قال نعم) أي يشتم لكن
بالتسبب فيه لا بالمباشرة (يسبّ أبا الرجل فيسبّ) أي
المسبوب أبوه (أباه) أي أبا الساب (ويسبّ أمه فيسبّ أمه.
متفق عليه) . قال السيوطي في «المرقاة» : قال النووي: فيه
تحريم الوسائل والذرائع.
(وفي رواية) أي لهما أيضاً عنه وقد رواها كذلك البخاري في
الأدب ومسلم في الإيمان ورواها أبو داود في الأدب والنسائي
في الزينة وقال: صحيح، ذكره الحافظ المزي، لكن لم يذكر أن
في قوله: (إن من أكبر الكبائر) أي النسبية وهي كذلك متعددة
كما تقدم، أما أكبر الكبائر فالشرك با (أن يلعن الرجل
والديه) وهو السبب في وجوده والقائم بمصالحه عند كمال ضعفه
وحاجته (قال: يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمه فيسبّ
أمه) كأن حكمة تقديم الأب في الذكر أن الغالب عدم ذكر
النساء حتى في مقام المدح، ولذا قيل: سترة الحرم من الكرم.
4339 - (وعن أبي محمد) ويقال أبو عدي (جبير) بضم الجيم
وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء (ابن مطعم) بصيغة
الفاعل من أطعم، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن
(3/181)
قصي القرشي النوفليّ (رضي الله عنه) أسلم
عام خيبر، وقيل يوم فتح مكة، روي له عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ستون حديثاً، اتفقا على ستة منها، وانفرد
البخاري ومسلم بحديث. روى عنه سليمان بن صرد الصحابي
وابناه محمد ونافع وسعيد بن المسيب وآخرون. قال الزبير بن
بكار: وكان من حكماء قريش وساداتهم، توفي بالمدينة سنة
أربع وخمسين، وقال قتيبة: سنة تسع وخمسين اهـ. من التهذيب
للمصنف (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يدخل
الجنة قاطع) أي مع الفائزين الناجين أو أبداً إن كان
مستحلاً للقطيعة مع علمه بتحريمها (قال سفيان) هو ابن
عيينة (في روايته) لهذا الحديث فإن الحديث عندهما من طريقه
ومن طريق عقيل ومن طريق مالك ومن طريق عبد الرزاق، أربعتهم
عن الزهري عن جبير، ذكره الحافظ المزي في «الأطراف» (يعني)
النبي بقوله: «قاطع» المجمل المحتمل لمعان (قاطع الرحم)
وكأنه لعظم إثمه ومزيد الاعتناء به لا ينصرف هذا اللفظ إلا
إليه ادّعاء.
5340 - (وعن أبي عيسى) ويقال أبو عبد الله ويقال أبو محمد
(المغيرة) قال ابن السكيت وآخرون من أهل اللغة بضم الميم
وكسرها والضم أشهر (ابن شعبة) بن أبي عامر بن مسعود بن أبي
معتب بالعين المهملة المفتوحة ابن مالك بن منصور بن عكرمة
بن خصفة بفتح المعجمة والصاد المهملة والفاء ابن قيس بن
عيلان بالمهملة ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الثقفي
الكوفي (رضي الله عنه) أسلم عام الخندق، وروي له عن النبي
مائة وستة وثلاثون حديثاً، اتفقا على تسعة منها، وانفرد
البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه أبو أمامة الباهلي
والمسور بن مخرمة وفزة المزني الصحابيون، ومن التابعين
جماعات، ولاه عمر البصرة مدة ثم نقل عنها فولاه الكوفة،
فلم يزل عليها حتى قتل فأقر عثمان عليها ثم عزله، وشهد
اليمامة وفتح الشام، وذهبت عينه يوم
(3/182)
اليرموك، وشهد القادسية وفتح نهاوند، وكان
على ميسرة النعمان بن مقرن، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان
وشهد الحكمين، واستعمله معاوية على الكوفة فلم يزل عليها
حتى توفي بها سنة خمسين وقيل إحدى وخمسين، وهو أوّل من وضع
ديوان البصرة اهـ ملخصاً من «التهذيب» (عن النبي قال: إن
الله حرم عليكم عقوق الأمهات) اقتصر عليهن مع تحريم عقوق
الآباء أيضاً لأن الاستخفاف بهن أكثر لضعفهن وعجزهن بخلاف
الآباء ولينبه على تقديم برّهن على برّ الأب في التلطف
والخير ونحو ذلك، ويل هو من تخصيص الشيء بالذكر إظهاراً
لعظم توقعه، والأمهات جمع أمهة وهي لمن لا يعقل بخلاف الأم
فإنه أعم (ومنعاً) لما يجب أداؤه من الحق (وهات) الاستكثار
من حق الغير بغير حق: أي حرم عليكم طلب ما ليس لكم أخذه،
ثم منعاً بالتنوين وفي رواية بغير التنوين وهو بسكون النون
مصدر منع يمنع، وأما هات بكسر التاء أمر من الإيتاء والأصل
آت بهمزة ممدودة قلبت ألفاً. قال الحافظ: الحاصل من النهي
منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق، ويحتمل أن يكون
النهي عن السؤال مطلقا ويكون ذكر
هنا مع ضده ثم أعيد مطلقاً تأكيداً للنهي عنه، ثم ما ذكر
من أن منعاً مكتوب بالألف كذا في الأصل، لكن قال ابن مالك
في «التوضيح» : إنه من المكتوب على لغة ربيعة، ومنع بحذف
الألف على لغتهم لأنهم يقفون على المنوّن المنصوب بالسكون
فلا يكتبون الألف. وقيل حذفها لأن تنوين منعاً أبدل واواً
وأدغم في الواو فصار اللفظ: يعني بعد قلبها واواً مشددة
كاللفظ، يقول وشبهه فجعلت صورة الخط مطابقة للفظه، ويمكن
أن يكون الأصل ومنع حق فحذف المضاف وبقيت هيئة الإضافة اهـ
(ووأد) بسكون الهمزة: أي دفن (البنات) بأن يدفنّ أحياء،
يقال وأد بنته وأدا من باب وعد: دفنها حية فهي موءودة كذا
في «المصباح» ، وإنما خص البنات بتحريم وأدهن لأنه هو
الواقع فتوجه النهي إليه لا أن الحكم مخصوص بالبنات بل هو
حكم عام. يقال أوّل من وأد البنات قيس بن عاصم التميمي،
كان أغار عليه بعض أعدائه فأخذ بنته فاتخذها لنفسه ثم
اصطلحا فخير بنته فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه أن لا
تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعته العرب على ذلك. وكانوا
فيه فريقين منهم من يفعله خشية الإقتار، ومن يفعله خشية
العار، ومن العرب من لا يفعل ذلك. وكان صعصعة بن ناجية
التميمي وهو جد الفرزدق أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان
يعمد إلى من يراد فعل ذلك منها فيفديها منهم بمال فينفق
عليها، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام
فأسلما، ولهما صحبة، وكانوا في الوأد على طريقين:
(3/183)
أحدهما أن يأمر امرأته عند الوضع أن تطلق
بجانب حفيرة فإن وضعت ذكراً أبقاه وإلا ألقاها فيها.
وثانيهما أن يصبر على البنت إلى أن تصير سداسية ثم يأخذها
وقد زينتها أمها، فيأتي بها إلى حفرة كان حفرها قبل فيقول
لها انظري قعرها، ويرميها من ورائها ويطمها بالتراب (وكره
لكم قيل وقال) قال الحافظ في «الفتح» في رواية الشعبي: كان
ينهى عن قيل وقال، كذلك كثر في جميع المواضع بغير التنوين،
ووقع في رواية الكشميني هنا
قيلاً وقالاً، والأشهر الأوّل، وفيه تعقب على من زعم أنه
جائز ولم يقع في الرواية. وقال الجوهري: قيل وقال اسمان،
يقال: كثر القيل والقال كذا جزم باسميتهما واستدل له بدخول
أل عليهما، وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين كالقول لم
يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة وأشار إلى ترجيح الأوّل.
وقال المحبّ الطبري: فيه أوجه:
أحدهما أنهما مصدران، والمراد من الحديث الإشارة إلى كراهة
كثرة الكلام لأنها تؤول إلى الخطأ وكرر المصدر مبالغة في
الزجر.
وثانيها المراد حكاية أقوال الناس والبحث عنها ليخبره غيره
فيقول قال فلان وقيل لفلان، فالنهي عنه إما للزجر وهو
الاستكثار منه، وإما لشي مخصوص، وهو ما يكرهه المحكي عنه.
قلت: وعليه فهما بفتح اللام حكاية للفعل الماضي وكذا على
الوجه الثالث الآتي، واقتصر على الأوّل منهما ابن أقبرس في
«شرح الشفاء» فقال: يريد به المنع من التبرّع بنقل
الأخبار، فعاد لما فيه من هتك الستار وكشف الأسرار، وقد
أشار إلى أن ذلك ليس من محسنات الإسلام بقوله: «من حسن
أسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وفيه من جهة المعنى موافقة
لقوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين
آمنوا} » (النور: 19) الآية، لأن الله تعالى ستار. ويخص من
هذا نقل الأخبار النافعة لا سيما إذا كانت صحيحة عن ثقة
اهـ.
ثالثها أن في ذلك الإكثار الزلل إذ هو مخصوص بمن ينقل لا
عن تثبت ولكن تقليداً لمن سمعه ولا يحتاط اهـ. وقول المصنف
معناه الخ شامل للآخرين. وفي «المشكاة» قوله قيل: وقيل
بناهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير والإعراب
على أنهما مصدران ولذا دخل عليهما أل فيما يعرف القيل من
القال اهـ بمعناه. وفي
(3/184)
«المصباح» : القيل والقال اسمان من قال
يقول لا مصدران قاله ابن السكيت ويعربان بحسب العوامل، وفي
«الارتشاف» هما في الأصل فعلان ماضيان جعلا اسمين واستعملا
استعمال الأسماء وأبقى فتحهما ليدل على ما كانا عليه، قال:
ويدل عليه ما في الحديث «نهى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن قيل وقال» بالفتح وحكى الوجهين في «التهذيب» ،
ولا يستعمل القيل والقال إلا في الشر اهـ. (وكثرة السؤال)
أي سؤال المال لنفسه من غير حاجة والسؤال عن المشكلات
والمعضلات من غير ضرورة وعن أخبار الناس وحوادث الزمان،
وسؤال الإنسان بخصوصه عن تفصيل أحواله فقد يكره ذلك،
فالأولى حمل السؤال في الخبر على ما يعم الجميع وذلك لأنه
اسم جنس محلى بأل فيعم، أما سؤال المال للغير فالظاهر
اختلافه باختلاف الأحوال، ولنفس لحاجة فلا كراهة بشرط عدم
الإلحاح وذل نفسه زيادة على ذل السؤال والمسؤول، فإن فقد
شرط حرم قال الفاكهاني: يتعجب ممن كره السؤال مطلقاً مع
وجوده في عصر النبي وصالحي السلف من غير نكير، قال العلقمي
لعل من كرهه أراد أنه خلاف الأولى ولا يلزم من وقوعه
وتقديره تغير صفته، وينبغي حمل السؤال منهم على أنه كان عن
حاجة. وفي قوله من غير نكير نظر ففي الأحاديث الكثيرة ذم
السؤال فيها كفاية في إنكار ذلك (وإضاعة المال) أي بإنفاقه
في غير وجه المأذون فيه شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية،
والمنع من إضاعته لأن الله تعالى جعله قياماً لمصالح
العباد وفي تبذيره تفويت لتلك المصالح إما في المبذر أو في
حق الغير، ويستثنى كثرة الإنفاق في وجوه البرّ لتحصيل ثواب
الآخرة
ما لم يفوّت حقاً آخر أهم. قال التقى السبكي في «الحلبيات»
: الضابط في إضاعة المال ألا يكون لغرض ديني ولا دنيوي
فإذا انتفيا حرم قطعاً، وإن وجد أحدهما وجوداً له حال وكان
الإنفاق لائقاً بالحال ولا معصية فيه جاز قطعاً، وبين
الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت الضابط، فعلى الفقيه أن
يرى فيما لا ينتشر منه رأيه. وأما ما ينتشر فقد تعرض له
أحكام، فالإنفاق في المعصية كله حرام، ولا نظر فيما يحصل
في مطلوبه من اللذة الحسية وقضاء الشهوة النفية. وأما
إنفاقه في مباحات الملاذّ فهو موضع اختلاف، وظاهر قوله:
{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك
قواماً} (الفرقان: 67) أن الزائد غير اللائق بحال المنفق
إسراف، ثم قال: ومن بذل كثيراً في غرض يسير عده العقلاء
مضيعاً بخلاف عكسه، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري
في الزكاة والاستقراض والأدب، ومسلم في الأحكام، قال
الطيبي: وهذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق وهو يستتبع
جميع الأخلاق الجميلة (قوله منعاً) أي بالتنوين (معناه منع
ما وجب عليه) أي أداؤه (وهات)
(3/185)
أي معناه في المشهور (طلب ما ليس له) أي
أخذه، وتقدم قول آخر أنه نهي عن مطلق السؤال، ثم هو محتمل
لدخوله في النهي بأن يكون خطاباً لاثنين كأن ينهى الطالب
عما لا يستحقه وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه
الطالب لئلا يعينه على الإثم، قاله الحافظ في «الفتح» ،
وعليه فيكون المعنى: وكره لكم هات سؤالاً وإجابة للسائل
بها (وقيل وقال) ظاهره أنهما في الحديث بالبناء على الفتح،
ويحتمل أن يكونا مرفوعين: أي والمراد منهما شيء واحد ولذا
قال (معناه الحديث) اسم مصدر من التحديث (بكل ما يسمعه) من
أقوال الناس (فيقول قيل كذا) مما قصد به بيان المحكي ولم
يتعلق الغرض بتعيين من صدر عنه ذلك (وقال فلان كذا) مما
تعلق الغرض فيه بهما معاً (مما لا يعلم صحته ولا يظنها)
بيان لما يسمعه (وكفى بالمرء) الظاهر أن الباء مزيدة في
المفعول للتأكيد، و (إثماً) تمييز وليس مفعولاً ثانياً لأن
المتعدي إليهما كفى بمعنى وفي نحو قوله تعالى: {وكفى الله
المؤمنين القتال} (الأحزاب: 25) لا بمعنى حسب، بل قد يكون
حينئذٍ لازماً نحو {كفى با} ومتعدياً لواحد كالحديث، وقوله
(أن يحدث) فاعل كفى أي تحديثه (بكل ما سمع) من غير تثبت
واحتياط وقدمت في حديث «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك
قوته» في باب النفقة على العيال، عن المظهري أنّ يحبس
مبتدأ وكفى خبره مقدماً عليه أو خبر مبتدأ محذوف وظاهر
جريان ذلك هنا أيضاً (وإضاعة المال تبذيره) في «المصباح» :
بذرت الكلام: فرقته، وبذّرته بالتثقيل مبالغة وتكثير، ومنه
اشتق التبذير في المال لأنه تفريق في غير القصد اهـ.
(وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها) من إتلاف أو في معصية،
وقوله: (من مقاصد الآخرة والدنيا) بيان للوجوه المأذون
فيها (وترك حفظه) معطوف على تبذيره لأوّليته أو على صرفه
لقربه، وإنما يكون ترك الحفظ إضاعة للمال إذا كان (مع
إمكان الحفظ) أما إذا عمّ الحريق أو النهب وما تمكن من
حفظه فضاع عليه بذلك فلا
(3/186)
يدخل في الإضاعة (وكثرة السؤال: الإلحاح)
فيه (إلا لحاجة إليه) من مال أو علم، وظاهره أنه لا منع من
سؤال خال عن الإلحاح لما لا يحتاج إليه، وقد تقدم بيان حكم
ذلك. والإلحاح بالمهملتين: الإقبال على السؤال مواظباً
(وفي الباب) أي تحريم العقوق والقطيعة (أحاديث سبقت في
الباب) المعقود (قبله) أي قبل الباب المذكور في قوله وفي
الباب (كحديث وأقطع) بصيغة المتكلم (من قطعك) أي من قوله
تعالى للرحم: «وأقطع من قطعك» (وحديث من قطعني قطعه ا) .
42 - باب فضل بِر أصدقاء الأب والأم
جمع صديق وهو كما في «المصباح» : الصادق، وهو من الصداقة
واشتقاقها من الصديق في الود والنصح والجمع أصدقاء وامرأة
صديق وصديقة أيضاً (والزوجة) كذا في النسخ بالتاء وهي لغة
ضعيفة والأفصح والزوجين بحذفها على أنه أولى ليعم كلاً
منهما بالتصريح، وإلا فإكرام الزوجة أقرباء زوجها مقيس على
إكرامه أقربائها بالأولى لتأكد حقه عليها ووجوب احترامها
له (وسائر) باقي أو جميع فيكون من عطف العام على الخاص
للتعميم (من يندب إكرامه) من شيخ ومريد وملك عادل.
1341 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ قال: أبرّ
البرّ) أي أكمله وأبلغه (أن
(3/187)
يصل الرجل) ومثله المرأة كما تقدم مراراً
وإفراده بالذكر لشرفه (ودّ أبيه) بضم الواو وتشديد الدال
المهملة: وهو الحب، وعقب هذا الحديث قبل ذكر مخرجه بما
بعده لأنه حديث واحد. وفي الثاني بيان وقت صدور التحديث
بابن عمر بالحديث.
2342 - (وعن عبد الله بن دينار) هو أبو عبد الرحمن القرشي
العدوي المدني مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب سمع ابن عمر
وأنساً وجماعة، روى عنه ابنه عبد الرحمن ويحيى الأنصاري
وسهيل وربيعة الرأي وموسى بن عقبة، وهؤلاء تابعيون وخلائق
غيرهم اتفقوا على توثيقه، توفي سنة سبع وعشرين ومائة. (عن)
قصة (عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) هي (أن رجلاً من
الأعراب) بفتح الهمزة أهل البدو من العرب، الواحد أعرابيّ
بالفتح أيضاً، وهو الذي يكون صاحب نجعة، كذا في «المصباح»
، ولم أقف على من سماه (لقيه) الضمير المستتر يعود للرجل
والبارز لابن عمر (بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر
وحمله على حمار كان يركبه) للتروّح عليه إذا مل ركوب
الراحلة كما في «الزوائد» بعد (وأعطاه عمامة كانت على
رأسه) أي حينئذٍ يشد بها رأسه في السفر، والظاهر أنها غير
ما يعتم به في الحضر كما يأذن به الرواية بعد، وهي تبين
أيضاً أن ما وقع كان بعد تعرّفه بالرجل الأعرابي (قال ابن
دينار فقلنا) يحتمل أن يكون هو وباقي من مع ابن عمر وهو
الظاهر من الضمير ويحتمل أنه وحده، وعبر بذلك إما لتأكيد
الإضمار بصدور ذلك عنه أو لأمر آخر (إنهم الأعراب وهم يرون
باليسير فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر
بن الخطاب رضي الله عنه) بضم الواو مصدر ود من باب تعب أي
ذا ود عمر، أو وادّه أو مودوده وأطلق عليه المصدر مبالغة
قال الحافظ وضم الواو في المصدر هو المشهور، وحكى الفراء
فتحها فيه وحكى كسرها فيه فهو مثلث، قلت وقد حكاه ابن مالك
في كتاب الأعلام في المثلث
وسكت عليه، عبر بقوله لعمر الخ دون قوله لوالدي إشارة إلى
أن لبره مقتضيات:
الأوّل أنه ودّ أبيه.
(3/188)
والثاني أنه ودّ شيخه.
الثالث أنه ود رأس الصالحين، ودلالة لفظ عمر على هذين أظهر
(وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) الجملة
المصدرية يحتمل كونها معطوفة على أن هذا الخ، ويحتمل أن
تكون في محل الحال الثاني أقرب والرابط الواو (إن أبرّ
البر) أي أبلغه (صلة الرجل أهل) أي أصحاب (ودّ أبيه) أي
حبه وإن لم يكونا أقربا للفرع ولا للأصل فإن برهم برّ ذي
الود لهم من الأبوين وما أحسن ما قيل:
أهوى العقيق ومن أقام بحبه
وأهيله وهواهم لي مغنم
ما ذاك إلا أن بدري منهم
ولأجل عين ألف عين تكرم
(وفي رواية) أخرى (عن ابن دينار عن) قصة (ابن عمر أنه كان
إذا خرج إلى مكة كان له حمار) هو الذكر من الحيوان الناهق
والأنثى أتان وحمارة نادر والجمع حمير وحمر بضمتين وأحمرة
كذا في «المصباح» (يتروح) بتشديد الواو أي يستريح (عليه
إذا مل) أي إذا شثم وضجر (ركوب الراحلة) أي المركب من
الإبل ذكراً كان أو أنثى. قال في «المصباح» وبعضهم يقول
الناقة التي تصلح أن ترحل (وعمامة يشد بها رأسه، فبينا)
الألف فيه للإشباع كافة لبين عن الإضافة فالجملة بعده
مستأنفة، ومثلها بينما (هو يوماً على ذلك الحمار إذ مر به
أعرابيّ فقال) يعني ابن عمر (ألست فلان بن فلان) استفهام
تقريري. وفلان قال ابن السراج: كناية عن اسم يسمى به
المحدث عنه خاص غالب، ويستعمل من غير أل في غير الآدمي،
ومنه حديث أبي يعلى الموصلي بسند صحيح على شرط مسلم عن ابن
عباس قال: «ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالوا: يا رسول الله
ماتت فلانة، يعني الشاة» قال المصنف: هكذا في الأصل المصحح
فلانة من غير أل فهو صريح في جواز ذلك، وعدم تعين أل فيه
في غير الآدميين خلافاً للجوهري (قال بلى، فأعطاه الحمار
فقال: اركب هذا والعمامة) فـ (ــقال اشدد) بضم الدال (بها
رأسك، فقال له بعض أصحابه) منهم ابن دينار كما دلت عليه
الرواية السابقة، وقد يبهم الراوي نفسه لغرض (غفر الله لك)
فيه تنبيه على
(3/189)
أدب العتاب أن يقدم الدعاء للمخاطب ثم
يعاتب، وهذا أخذ من قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت
لهم} (التوبة: 43) قال القاضي عياض في «الشفاء» : يجب على
المسلم المجاهد نفسه، الرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب
بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته، وليتأمل
هذه الملاطفة العجيبة والسؤال من رب الأرباب المنعم على
الكل المستغني عن الجميع، ويتبين ما فيها من الفوائد وكيف
ابتدأ بالإكرام قب العتب وآنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان
ثم ذنب اهـ. (أعطيت) يحتمل أن يكون بتقديره همزة الاستفهام
الإنكاري،
ويحتمل أن يكون إخباراً لبيان لازم الخبر والأول أقرب: أي
أعطيت (هذا الأعرابي حماراً كنت تروّح) بتشديد الواو
والرفع وحذفت من أوله إحدى التاءين تخفيفاً: أي تتروح
(عليه وعمامة كنت تشد بها رأسك، فقال) دفعاً لإنكار ما
أنكروه عليه مما حاصله وضع الشيء في غير موضعه ببيان
الحامل على ذلك (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يقول: إن من أبرّ البر) لا ينافي إثبات «من» هنا إسقاطها
في الأوّل لأنها مرادة، أو أنه أراد أنه أبرّ بالنسبة
للمخاطب به ذلك الوقت كما تقدم قريباً (صلة الرجل أهل ودّ
أبيه بعد أن يولى) بضم التحتية وتشديد اللام المكسورة: أي
بعد أن يموت. قال العاقولي: والمعنى من جملة برّ الرجل
بوالده أن يودّ أصحاب أبيه وأهل وده بعد موته. وأقول: إن
المعنى إن من جملة بره صلة أهل ود أبيه بعد موته (وإن
أباه) أي: أبا المعطي (كان صديقاً لعمر رضي الله عنه) أي
فلذا وصلته (روى هذه الروايات كلها مسلم) فروى الرواية
الأولى المذكورة عن ابن دينار فذكره، وروى الترمذي في البر
والصلة من طريق آخر إلى الوليد عن دينار حديث «إن أبرّ
البرّ صلة الولد أهل ودّ أبيه» من دون القصة، وقال صحيح.
وروى الرواية الثانية عنه عن الحسن الحلواني: ثنا يعقوب بن
إبراهيم بن سعد، ثنا أبو الليث بن سعيد جميعاً عن يزيد بن
عبد الله بن أسامة بن الهاد بن عبد الله بن دينار فذكره.
ورواه أبو داود من طريق الحرّ إلى يزيد فذكر الحديث دون
القصة.
(3/190)
3343 - (وعن أبي أسيد بضم الهمزة وفتح
السين) المهملة وسكون التحتية بعدها دال مهملة (مالك بن
ربيعة) وقيل هلال بن ربيعة ومالك أثكر، ابن البدن بالموحدة
والمهملة المفتوحتين والنون، هكذا نقله ابن هشام عن ابن
إسحاق وابن عقبة عن الزهري، ورواه إسماعيل بن إبراهيم بن
عقبة عن عمه موسى عن الزهري «بالبدى» بالياء فصحف، وإنما
الصحيح النون ابن عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج
بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي (الساعدي)
نسبة لجده ساعدة وهو مشهور بكنيته، شهد (رضي الله عنه)
بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال ابن أسحاق وغيره، وعمي قبل قتل عثمان رضي الله
عنه، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية
وعشرون حديثاً، له في الصحيحين أربعة أحاديث اتفقا على
واحد منها، وللبخاري وحده حديثان، ولمسلم كذلك واحد، توفي
أبو أسيد سنة ستين قاله المدايني، قال أبو نعيم إنه وهم،
وقيل سنة خمس وستين. وقال الواقدي وخليفة: سنة ثلاثين، قال
ابن عبد البرّ: وهذا وهم فقيل إنه آخر من مات من البدريين،
وكان عمره خمساً وسبعين سنة اهـ ملخصاً من «أسد الغابة»
مما ذكره في الأسماء والكنى في ترجمته، وسكت عن تعيين محل
وفاته، وفي كتاب «در السحابة في مواضع وفاة الصحابة»
للصغاني أنه مات بالمدينة (قال: بينا نحن جلوس عند النبيّ
إذ جاءه رجل من بني سلمة) لم أقف على من سماه (فقال: يا
رسول الله
هل بقى من برّ أبويّ) المأمور أنا به (شيء أبرّهما به) أي
لأبرهما به (بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة) أي الدعاء
(لهما) كما يدل عليه قوله تعالى: {وقل ربّ ارحمها}
(الإسراء: 24) (والاستغفار) من عطف الخاص على العام
اهتماماً: أي وتدعو بالمغفرة (لهما، وانقاذ) بالذال
المعجمة (عهدهما) أي من وصية وصدقة وغير ذلك (من بعدهما)
تنازعه المبتدآت قبله ويحتمل أن المتعلق كائنات فيشمل
الجميع (وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) قال
الطيبي؛ التي ليست بصفة للمضاف إليه بل المضاف الصلة
الموصوفة بأنها خالصة لحقهما ورضاهما، لا
(3/191)
لأمر آخر ولفظ البيهقي «وصلة رحمهما التي
لا رحم لك إلا من قبلهما، فقال: ما أكثر هذا وأطيبه يا
رسولالله، قال: ما عمل به فإنه يصل إليهما» قال العاقولي:
وفي الحديث تنبيه على اغتنام فضيلة الصلة وأنها طاعة لا
يكون إدراكها إلا من جهتهما، فإنه لو فرض أن إنساناً تولد
من تراب مثلاً ولم يولد له لم يكن لذلك الإنسان سبيل إلى
دخول الجنة من صلة الرحم، فإنه لا رحم له، فإذا كان
الوالدان سبباً في مثل هذه الطاعة وجب رعايتهما وحفظهما
فيها (وإكرام صديقهما) وبمعناه حديث ابن عمر في الباب
(رواه أبو داود) في الأدب، وكذا أخرجه في الأدب بنحوه.
4344 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ماغرت) بكسر الغين
في «المصباح» : غار الرجل على امرأته غضب فيها، والمرأة
على زوجها تغار من باب تعب غيراً وغيرة بالفتح وغاراً قال
ابن السكيت: ولا يقال غيراً ولا غيرة بالكسر، وأغار الرجل
امرأته تزوّج عليها فغارت عليه اهـ. (على أحد من نساء
النبيّ) يعني ضرائرها أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (ماغرت
على خديجة رضي الله عنها) وذلك لما رأت لها عنده من مزيد
المكانة الدالّ عليه إكثار ذكرها والتنويه بشكرها بعد
فقدها، وكانت عائشة أحبّ سائر زوجاته الموجودات معها إليه،
وبينت هذا المعنى بقولها: (وما رأيتها قط) ظاهره لم يقع
نظرها عليها وذلك لتقدم وفاتها على تمييز السيدة عائشة،
فإنه كان سنها عند عهده بها بها ستّ سنين، وكان ذلك قبل
الهجرة بسنتين، وقيل ثلاث، وقيل خمس وتوفيت السيدة خديجة
قبل الهجرة بقريب من ذلك، ويحتمل أن يكون مرادها ما رأيتها
عنده ضرة معي، ويعضد هذا قولها عند الشيخين «ولقد هلكت قبل
أن يتزوجني بثلاث سنين» قال المصنف: أي قبل بنائه بها، أما
العقد بها فكان موتها قبله بنحو سنة ونصف (ولكن) أي وجه
الغيرة أنه (كان يكثر ذكرها) أي وفيه دليل المحبة، قال:»
من أحب شيئاً أكثر من ذكره» (وربما ذبح الشاة ثم يقطعها)
يحتمل كون الإسناد فيها حقيقة، وذلك من مزيد تواضعه وكمال
فضله، فقد كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويكون في مهنة أهله،
ويحتمل أن يكون مجازاً. أي يأمر بذلك،
(3/192)
ويقعطها مضارع من باب التفعيل للتكثير
(أعضاء) جمع عضو بكسر أوّله وضمه وهو كل لحم وافر بعظمه
(ثم يبثها في صدائق) جمع صديقة كصحيفة أي في ذوات صداقة
(خديجة) يفعل ذلك حفظاً لعهدها وزيادة في برّها (فربما)
يحتمل التقليل والتكثير، والأول أقرب (قلت له: كأن) بتخفيف
النون واسمها ضمير منويّ: أي كأنه (لم يكن في الدنيا امرأة
إلا خديجة) أي فذلك المقتضى لمزيد الوداد، وأما وجود من
يساويها في هذا الوصف في المقضي
لهذا الشأن (فيقول: إنها كانت وكانت) أي يثني عليها
بأفعالها وفعالها وجاء في حديث آخر «أن عائشة قالت: أوليس
قد أبدلك الله خيراً منها؟ فقال: لا وا، آمنت بي حين كفر
بي قومي ونصرتني حين خذلني قومي وأعطتني مالها حين منعني
قومي» أو كما قال (وكان لي منها ولد) بفتحتين، وهو اسم جنس
يصدق على الواحد والجمع، وجميع ولده منها إلا إبراهيم فمن
مارية، قيل وإلاّ سقط اسمه عبد الله من السيدة عائشة ولم
يثبت هذا، وإنما كنيت بابن أختها عبد الله بن الزبير (متفق
عليه) أخرجاه في فضائل خديجة، وأخرجه فيه الترمذي وقال حسن
صحيح، وأخرجه فيه وفي الوفاة النسائي، وأخرجه ابن ماجه في
الجنائز كذا في «الأطراف» للمزي.
(وفي رواية) هي فيهما إلى قوله خلائلها (وإن) مخففة من
الثقيلة واسمها محذوف: أي وإنه كان ليذبح الشاة، اللام هي
الفارقة بين إن المخففة والنافية (فيهدي في خلائلها) أي
صدائقها جمع خليلة: وهي الصديقة (ما يسعهن) أي يكفيهن
(منها) وفي «صحيح مسلم» «وإن كان ليذبح الشاة ثم ليهديها
إلى خلائلها» .
(وفي رواية) لمسلم قالت (كان إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا
بها) يحتمل كون الباء للتبعيض كقوله تعالى: {يشرب بها عبدا
ا} (الإنسان: 6) قال في «المغنى» : أثبت هذا المعنى
الأصمعي والفارسي والعتبي وابن مالك، قيل والكوفيون اهـ
ملخصاً. ويحتمل كونها مزيدة، ويؤيده ما تقدم في حديث مسلم
«ثم يهديها» والأوّل أقرب بلغة الجميع، وحفظ العهد أنسب
(إلى أصدقاء خديجة) أي أصحاب صداقتها وأصدقاء جمع صديق،
وتقدم أنه يقال على المذكر والمؤنث، ويقال فيها أيضاً
صديقة.
(وفي رواية لهما) عن عائشة رواها
(3/193)
البخاري في فضل خديجة ومسلم في الفضائل كذا
في «الأطراف» للمزي. وتعقبه الحافظ في «النكت» عليه بما
حاصله أن البخاري لم يقل فيه: ثنا ولا أخبرنا إسماعيل بن
محمد، فلذا جزم الحميدي في جميعه بأنه ذكره تعليقاً. قال
الحافظ: وقد وصله أبو عوانة عن محمد بن يحيى: ثنا إسماعيل
بن خالد عن علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
اهـ. (استأذنت) طلبت الإذن (هالة) بتخفيف اللام (بنت
خويلد) بن أسد بن عبد العزى بن قصي (أخت) أم المؤمنين
(خديجة) رضي الله عنها. وهالة هذه أم العاص بن الربيع زوج
السيدة زينت بنت سيدنا رسول الله، وليس لخديجة أخت غيرها
اسمها هالة، قاله ابن الأثير في «أسد الغابة» (على رسول
الله) متعلق باستأذنت (فعرف استئذان خديجة) أي تذكر عند
استئذانها خديجة وكانت نغمتها تشبه نغمة خديجة؛ وأصل هذا
أن من أحبّ محبوباً أحبّ محبوباته وما يتعلق به ويشبهه،
وما أحسن ما قيل:
أحبّ من أجلكم من كان يشبهكم
حتى لقد صرت أهوى الشمس والقمرا
أمرّ بالحجر القاسي فألثمه
لأن قلبك قاس يشبه الحجرا
وقال آخر:
أشبهت عذالي فصت أحبهم
إذ صار حظي منك حظي منهم
(فارتاح لذلك) افتعال من الراحة: أي حصلت له راحة نفسانية
بسماع صوت هالة لتذكره عهد خديجة. قال المصنف: أي هش
لمحبتها وسر به لتذكره بها خديجة وأيامها، وفيه دليل حسن
العهد وحفظ الود ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد
موته، وفي المطالع ارتاح أي هشّ ونشطت نفسه، وقيل حن
إليها، وقيل سر بها، ومنه يرتاع للندى ويرتاح: أي يسرّ
فيهش (فقال: اللهم هالة بنت خويلد) قال القرطبي: يجوز فيه
الرفع خبر مبتدأ: أي هذه هالة فأكرمها، والنصب عن إضمار
فعل؛ أي أكرم هالة ونحوه مما يليق بالمعنى، وهذه الأخبار
فيها فضل خديجة، والصحيح أنها أفضل أمهات المؤمنين لما لها
من السوابق الجليلة والأيادي الجميلة، وقد أقرأها الحق
السلام على لسان جبريل الأمين، ولم ير ذلك لغير الأنبياء
إلا لها وللصديق الأكبر، أما عائشة فهي أكثر علماً وأفضل
مما عداها من باقي الأمهات بلا خلاف (قولهما فارتاح هو
بالحاء) المهملة (وفي
(3/194)
الجمع بين الصحيحين لـ) - أبي عبد الله بن
محمد بن أبي نصر فتوح (الحميدي) بالتصغير نسبة لجده الأعلى
حميد الأندلسي القرطبي (فارتاع بالعين) أي المهملة (ومعناه
اهتم به) أي باستئذانها فرحاً وسروراً لمكانها من خديجة.
5345 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد
الله البجلي رضي الله عنه) يحتمل أن يكون من قول أنس فيكون
فيه أداء الفضل لأهله من أهله، ويحتمل أن يكون ممن بعده
(في سفر فكان يخدمني) وهو أسن مني (فقلت له: لا تفعل) أي
لسنك المقتضي لتوقيرك (فقال) مبيناً لسبب تواضعه لأنس مع
صغر سنه عنه (إني قد رأيت الأنصار) علم بالغلبة على أولاد
الأوس والخرزج؛ وهو اسم إسلامي كما تقدم أوّل الكتاب (تصنع
برسول الله) أي معه (شيئاً) عظيماً لا تقوم العبارة
بتفصيله، فلذا أجمل في مقالة (آليت) بالمد أي أقسمت من
الألية، وهي اليمين (أن لا أصحب أحداً منهم) وإن كان أصغر
مني (إلا خدمته) إكراماً للنبيّ وإحساناً للمنتسب إلى
خدمته والمحسن إليه. قال المصنف: ففي الحديث دليل إكرام
المحسن والمنتدب إليه وإن كان أصغر منه، وفيه تواضع جرير
وفضيلته وإكرامه للنبيّ وإحسانه إلى من انتسب إلى من أحسن
إليه (متفق عليه) والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
(3/195)
43 - باب إكرام آل بيت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم ـ
المراد منهم آله الذين يحرم عليهم الصدقات كالزكاة، وهم
عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه مؤمنو ومؤمنات بني هاشم
والمطلب: أي المنتمون لذلك من جانب الآباء، أما المنتمون
من جانب الأمهات فليسوا من آله في منع الزكاة والصدقة
الواجبة منهم، أما في الإكرام للقرابة بالمصطفى فهم كذلك
لأن القرابة والنسبة إلى ذلك الجناب الشريف مشتركة بين
الجميع وزوجاته. قال في «الكشاف» : وفي الآية دليل على أن
أزواجه من أهل بيته فالمراد من أهل بيته المنتسبون إليه
بنسب، وزوجاته (وبيان فضلهم) أي بذكر ما جاء فيه.
(قال الله تعالى) : ( {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} )
الذنب المدنس لعرضكم، والرجس كل مستقذر والمراد به هنا
الإثم، وقيل الشيطان ووسوسته، وقيل الشرك، وقيل جميع
المعاصي والجملة تعليل لأمر أزواجه ونهيهن على الاستئناف،
ولذا عمم الحكم فقال (أهل البيت) نصب على النداء والمدح
(ويطهركم) عن المعاصي (تطهيراً) من الرجس وقيل بالهدى
والتوفيق، واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير
للتنفير عنها. قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت
بفاطمة وعليّ وابنيهما لما روي «أنه عليه السلام خرج ذات
غدوة عليه مرط ومرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها
فيه، ثم جاء عليّ فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين
فأدخلهما فيه، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت} والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة
ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها،
والحديث يقتضي أنهم أهل البيت لا أنه ليس غيرهم اهـ. وقال
الكواشي: المراد من أهل البيت زوجات النبي. قلت: هذا قول
ابن عباس وعكرمة. قال ابن أقبرس: نقل ابن عطية عن الجمهور
أنهم علي وفاطمة
(3/196)
والحسنان قال ومن حجة الجمهور قوله: {عنكم}
ولو كان للنساء خاصة لكان عنكن. قلت: وقد أجيب عن هذا
الاستدلال. قال الكواشي وقال: عنكم، دون عنكن لأنه كان
فيهن فغلب، أو لأنهن في بيته وقال ابن اقبرس للقائل
باختصاص ذلك بأزواجه أن يقول: لا يمتنع أن يخاطبن بخطاب
المذكر تعظيماً لهن وإجلالاً. ومنع قول من قال المراد
بالبيت الكعبة وبأهله المسلمون، وقيل: هم كل من حرمت عليهم
الصدقة اهـ. والمصنف أورد الآية في هذا الباب، لأن آله من
جملة أهل بيته.
(قال الله تعالى) : ( {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} )
الذنب المدنس لعرضكم، والرجس كل مستقذر والمراد به هنا
الإثم، وقيل الشيطان ووسوسته، وقيل الشرك، وقيل جميع
المعاصي والجملة تعليل لأمر أزواجه ونهيهن على الاستئناف،
ولذا عمم الحكم فقال (أهل البيت) نصب على النداء والمدح
(ويطهركم) عن المعاصي (تطهيراً) من الرجس وقيل بالهدى
والتوفيق، واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير
للتنفير عنها. قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت
بفاطمة وعليّ وابنيهما لما روي «أنه عليه السلام خرج ذات
غدوة عليه مرط ومرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها
فيه، ثم جاء عليّ فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين
فأدخلهما فيه، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت} والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة
ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها،
والحديث يقتضي أنهم أهل البيت لا أنه ليس غيرهم اهـ. وقال
الكواشي: المراد من أهل البيت زوجات النبي. قلت: هذا قول
ابن عباس وعكرمة. قال ابن أقبرس: نقل ابن عطية عن الجمهور
أنهم علي وفاطمة والحسنان قال ومن حجة الجمهور قوله:
{عنكم} ولو كان للنساء خاصة لكان عنكن. قلت: وقد أجيب عن
هذا الاستدلال. قال الكواشي وقال: عنكم، دون عنكن لأنه كان
فيهن فغلب، أو لأنهن في بيته وقال ابن اقبرس للقائل
باختصاص ذلك بأزواجه أن يقول: لا يمتنع أن يخاطبن بخطاب
المذكر تعظيماً لهن وإجلالاً. ومنع قول من قال المراد
بالبيت الكعبة وبأهله المسلمون، وقيل: هم كل من حرمت عليهم
الصدقة اهـ. والمصنف أورد الآية في هذا الباب، لأن آله من
جملة أهل بيته.
(وقال تعالى) : ( {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى
القلوب} ) تقدم الكلام عليها في باب تعظيم حرمات المسلمين.
1346 - (وعن يزيد) بفتح التحتية أوله وبعد الزاي تحتية
ساكنة آخره دال مهملة (ابن حيان) بفتح المهملة وتشديد
التحتية آخره نون: هو التيمي: الكوفي. قال الحافظ: ثقة من
الرابعة من أواسط التابعين، روى عنه مسلم وأبو داود
والنسائي (قال: انطلقت أنا وحصين) بضم المهملة الأولى وفتح
الثانية وسكون التحتية آخره نون (ابن سبرة) بفتح المهملة
وسكون الموحدة (وعمرو بن مسلم) بصيغة الفاعل من الإسلام
(إلى) أبي عمرو، وقيل أبو عامر، وقيل أبو سعد وقيل أبو
سعيد، وقيل أبو حمزة، وقيل أبو نسيئة (زيد بن أرقم) بالقاف
ابن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب الخزرج
بن الخزرج بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي (رضي الله عنه) غزا
مع النبي سبع عشرة غزوة واستصغره يوم أحد، وكان يتيماً في
حجر عبد الله بن رواحة وسار معه في غزوة ومؤتة، روي له عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعون حديثاً، اتفقا على
أربعة، وللبخاري حديثان، ولمسلم ستة، روى عنه أنس بن مالك
وخلائق من التابعين، نزل الكوفة وتوفي بها سنة ست وخمسين،
وقال محمد بن سعد وآخرون: سنة ثمان وستين، وله مناقب كثيرة
(فلما جلسنا) منتهين (إليه فقال له حصين: لقد لقيت يا زيد
خيراً كثيراً) هذا إجمال لأنواعه بين أشرفها بقوله: (رأيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت حديثه) أي من فيه
والحديث رواية: هو ما أضيف إلى النبيّ أو من دونه ولو من
التابعين قولاً أو فعلاً (وغزوت معه) أي جاهدت في
سبيلالله، وفيه شرف العمل مع الصلحاء، ولذا شرعت الجماعة
في الصلوات لتعود بركة الصالحين على المقصرين فيقبل الجميع
فضلاً (وصليت خلفه) أي معه جماعة. ولما كان تفصيل ما حواه
من الخير يعسر
(3/197)
قال مؤكداً للجملة الأولى المجملة (لقد
أوتيت خيراً كثيراً) وهذا تذكير منه لنعمة الله عليه
وتحريض على أداء شكرها قدر طاقته وأن لا يغفل عنه، وهو
محمول على أنهم أمنوا الفتنة عليه لما علموه عنده من كمال
الإيمان ومزيد
العرفان المانعين من الافتتان، وقوله: (حدثنا يا زيد) فيه
طلب العلو في الإسناد وأخذ العلم من أهله وفيما ذكر قبله
تقديم الوسائل إلى المطالب، وفيه ما ذكره المحدثون من
استحباب الثناء على المحدث بالأوصاف اللائقة به والدعاء له
قبل طلب التحديث منه (ما سمعت) أي بما سمعت (من رسول الله)
أي شفاهاً، واحتمال تقدير مضاف مجرور: أي من حديثه ولو
بالواسطة بعيد (قال: يا ابن أخي) خاطبه بذلك لصغره بالنسبة
إليه (وا لقد كبرت) بكسر الموحدة (سني) أي لقد كبرت. قال
ابن طريف في كتاب الأفعال: كبر الأمر والذنب كبراً: عظم،
والكبر الإثم، وفي القرآن
{كبر مقتاً عند ا} (غافر: 35) وكبر الصبي كبراً ومكبراً،
وفي القرآن {بداراً أن يكبروا} (النساء: 6) اهـ. وظاهر أن
ما نحن فيه من الثاني (ونسيت بعض الذي كنت أعي) أي أحفظ.
قال في «المصباح» : وعيت الحديث وعياً من باب وعد: حفظته
وتدبرته وقوله: (من رسول الله) متعلق بأعي وفيه أن الكبر
مظنة النسيان وضعف القوة الحافظة، وهو كذلك، ومن ثم كره
التحديث بعد الثمانين خوفاً من الاختلاط من حيث عدم الشعور
كما وقع من جماعة لم يتنبه لهم إلا بعد الوقوع في ذلك،
وفرّع على ما ذكر قوله (ما حدثتكم) العائد محذوف: أي
حدثتكموه (فاقبلوا) أي فاقبلوه والضمير لربط الجملة
بالمبتدأ وكأنه حذفه فيهما تخفيفاً (وما لا فلا تكلفونيه)
وعلى ما تضمنه قوله هنا من نهيه عن تكليفه لتحديث ما لم
يحدث به يحمل ما أخرجه ابن ماجه في باب التوقي في حديث
النبيّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «قلنا لزيد بن أرقم
حدثنا عن رسول الله، قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - شديد» ويؤيده أن الدميري في
«الديباحة» حمله على الإكثار فقال: كره الإكثار من التحديث
كثير من السلف مخافة ما فيه من الزلل، روي عن عمر قال:
«أقلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا
شريككم» وكان مالك يقول: وأنا أيضاً أقلّ الحديث عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. (ثم قال) محدثاً لنا
(قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً
بماء) أي عنده (يدعى) أي
(3/198)
الوادي الذي فيه الماء (خماً) بضم المعجمة
وتشديد الميم كما سمى بدر باسم البئر التي به ولذا قال في
«النهاية» : وهو موضع بين مكة والمدينة تصبّ فيه عين هناك
وبينهما مسجد النبيّ اهـ. ولعل المسجد موضع قيامه حال
خطبته. وقال المصنف في شرح مسلم: خم اسم لغيضة على ثلاثة
أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة فيقال
غدير خم اهـ. وقوله (بين مكة والمدينة) حال من ثاني مفعولي
يدعى (فحمد الله) أي وصفه
بنعوت الكمال (وأثنى عليه) بتنزيهه عن سائر ما لا يليق به،
وما حملناه عليه مما تصير به الجملتان مؤسستين أولى من
جعلهما بمعنى والثانية مؤكدة للأولى (ووعظ) أي أمر بالطاعة
ووصى بها، يقال وعظه يعظه وعظاً وعظة ومنه قوله تعالى:
{إنما أعظكم بواحدة} (سبأ: 46) أي آمركم وأوصيكم (وذكر)
بتشديد الكاف: أي ذكرهم ما قد غفلوا عنه بمزاولة الأهل
والعيال من التوجه للخدمة وأداء حق العبودية (ثم قال: أما
بعد) بضم الدال لحذف المضاف إليه لفظاً ونية معناه، وكان
النبيّ يأتى بها في خطبه كثيراً حتى قال الحافظ في أبواب
الجمعة من «فتح الباري» : إن الحافظ عبد القادر الرهاوي
بضم الراء أخرجها من قوله عن أربعين صحابياً، وهي للانتقال
من أسلوب كالثناء على الله سبحانه هنا إلى أسلوب آخر أي
مما ذكر بعدها (ألا أيها الناس) بحذف حرف النداء إيجازاً
تنبهوا (فإنما أنا بشر) والقصر فيه لردّ ما قد يتوهمه قاصر
عند ظهور الخوارق على يده صلوات الله وسلامه عليه من كونه
إلهاً أو كونه ملكاً، لا لقصر صفاته على ذلك، وأيضاً أتى
به ليبني عليه ما يناسبه من الانتقال الذي هو شأن هذا
النوع، ويسمى الإنسان بشراً لظهور بشرته: أي ظاهر جلده
يطلق على الواحد والجمع وتثنيه العرب قال تعالى:
{قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} (المؤمنون: 47) (يوشك) بضم
التحتية وكسر الشين المعجمة مضارع أوشك من أفعال المقاربة:
أي يقرب. وقال الفارابي: الإيشاك الإسراع، قال الأزهري في
«التهذيب» : قال النحاة: استعمال المضارع أكثر من استعمال
الماضي واستعمال اسم الفاعل منها أقل، كذا في «المصباح» .
وقوله (أن يأتي رسول ربي) في تأويل مصدر اسم يوشك: أي يقرب
إتيان رسول ربي يعني ملك الموت داعياً إلى النقلة إلى الله
سبحانه مخيراً بينها وبين البقاء في الدنيا فإنه لا يموت
النبي حتى يخير بينهما (فأجيبه) بالنصب عطفاً على يأتي،
ويجوز قراءته بالرفع بإضمار مبتدأ، ما لم تمنعه رواية
(وأنا تارك فيكم ثقلين) بفتح المثلثة
(3/199)
والقاف. قال المصنف: قال العلماء: سميا
ثقلين لعظمهما وكبر شأنهما، وقيل لثقل العمل بهما زاد في
«النهاية» ، ويقال لكل خطير نفيس ثقل، فسماهما ثقلين
إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما اهـ (أولهما كتاب ا)
يعني القرآن (فيه الهدى) هو كقوله تعالى: {فيه هدى}
(البقرة: 2) على الوقف على قوله {لا ريب} (سبأ: 24)
والابتداء بقوله {فيه هدى} فيكون التقدير كما قال
البيضاوي: لا ريب فيه فيه هدى، ففيه خبر مقدم وهدى مبتدأ
مؤخر، والهدى في الأصل مصدر كالسرى. ومعناه الدلالة، وقيل
الدلالة على البغية لأنه حصل مقابل الضلال في قوله تعالى:
{لعلى هدى أو في ضلال} ولم يقيد الهدى بالمتقين كما في آية
البقرة إيماء إلى عموم هدايته أي دلالته لكل مسلم وكافر
كما قال في الآية الأخرى {هدى للناس} والتقييد بالمتقين في
آية البقرة لأنهم المهتدون المنتفعون بنصبه ثم، في قوله
فيه الهدى تجريد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) والتجريد أن ينتزع من متصف بصفة
آخر مثله لأجل البالغة في كمالها فيه ويكون بالباء الموحدة
نحو: لئن لقيت زيداً لتلقين به بحراً، وبمن نحو: لتلقين
منه أسداً. وبفي كالآية والحديث (والنور) أي الإشراق
والإضاءة
(فخذوا بكتاب ا) الباء فيه مزيدة للتأكيد نبه عليه في
«المصباح» ، فقال أخذ الخطام وأخذ بالخطام على الزيادة
أمسكه (واستمسكوا به) اطلبوا من أنفسكم الإمساك به، شبه
تمسك الخلق به بالتمسك بالحبل الوثيق في الاعتصام وعدم
الانفصام (فحث) بتشديد المثلثة من باب قتل: أي حرض (على
كتاب ا) أي على الأخذ به والتمسك بحبله (ورغب) بتشديد
المعجمة: أي زاد العباد رغبة (فيه ثم قال: وأهل بيتي)
بالرفع: أي وثاني المتروك فيكم المدعى حرمته أهل بيتي
(أذكركم ا) بتشديد الكاف من التذكير، وهو الوعظ: أي آمركم
بطاعة الله وبالقيام (في أهل بيتي) ثم كرر ذلك ثانياً
تأكيداً فقال: (أذكركم الله في أهل بيتي) وفيه تأكيد
الوصاية بهم وطلب العناية بشأنهم فيكون من قبيل الواجب
المؤكد المطلوب على طريق الحثّ عليه وناهيك به، ثم هو هكذا
في النسخ التي رأيت مكرراً مرتين. وفي الشفاء في حديث
الباب لكن من غير طريق مسلم قال: قال رسول الله: «أنشدكم
الله وأهل بيتي ثلاثاً» قلت: وهذا الأنسب خصوصاً، وفي
(3/200)
الحديث «كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً» وحينئذٍ
فعدم ذكر الثالثة إما من الناسخ أو من الرواة اختصاراً، أو
منه لعروض ما هو أهم من التكرار ثالثة والله أعلم. (فقال
له حصين) في «الشفاء» «فقلنا له» وهو محتمل لتواردهم عليه،
ويحتمل صدوره من حصين وأسنده إليهم في تلك الرواية لكونه
مراداً لهم (ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس) استفهام تقريري
وهو حمل المخاطب على الإقرار بمضمونه أي أما تقر بمضمون
قولنا أليس (نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته)
أعاده بلفظه ليحصل كمال المناسبة بين السؤال والجواب وخير
الجواب ما كان من لفظ السؤال كما ذكره البيضاوي في
التفسير، ولو راعى زيد الاختصال لقال بلى، قال المصنف: قال
في هذه الرواية نساؤه من أهل بيته، وقال في الرواية
الأخرى: أي لمسلم «فقلت من أهل بيته؟ قال نساؤه لا» فهاتان
الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات
في غير مسلم أنه قال: «نساؤه ليس من أهل بيته» فتأول
الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين
يساكنونه ويعولهم وأمرنا باحترامهم وإكرامهم وسماهم ثقلاً
ووعظ في حفظ حقوقهم، فنساؤه داخلات في ذلك ولا يدخلن فيمن
حرم عليهم الصدقة، وقد أشار إلى هذا بقوله: «نساؤه من أهل
بيته ولكن أهل بيته» الخ فاتفقت الروايتان. قال: وفي قوله
في الرواية الأخرى من أهل بيته نساؤه دليل لإبطال قول من
قال: هم قريش كلها لأن بعض أزواجه قرشيات اهـ (ولكن أهل
بيته) أي المرادون عند الإطلاق كما في الآية والخبر (من
حرم عليهم الصدقة) أي الواجبة (بعده) قال ابن أقبرس: هو
أحد الأقوال وتعارضه الأدلة الدالة على دخول نسائه في أهل
بيته كما تقدم في الكلام على الآية (قال: ومن هم؟) أي
الذين تحرم عليهم الصدقة (قال: هم آل عليّ وآل عقيل) بفتح
المهملة وكسر القاف (وآل جعفر) أولاد أبي طالب (وآل عباس)
وبقي عليه باقي أولاد بني هاشم من آل حمزة وأولاد أبي لهب،
وكونه آله مؤمني بني هاشم فقط قول الحنفية وهو أحد قولي
الإمام مالك، والثاني وهو مذهب إمامنا الشافعي أنهم مؤمنو
بني هاشم والمطلب، ويدل له قوله: «نحن وبنو المطلب كشيء
واحد» (قال) أي حصين (كل هؤلاء حرم الصدقة) بالنصب أي منع
الصدقة: أي الواجبة من زكاة ونذر وكفارة (قال نعم. رواه
مسلم) في الفضائل، ورواه النسائي في المناقب.
(
وفي
(3/201)
رواية) هي لمسلم، قال مسلم بعد إيراد
الطريق الأولى وإسناد الطريقة الثانية إلى يزيد بن حيان ما
لفظه: وساق الحديث بنحو حديث ابن حيان: أي الراوي في
الأولى عن يزيد أنه قال (ألا) أداة استفتاح يؤتى بها
لتنبيه السامع لما بعدها اهتماماً: أي ألا أنبهك (وإني
تارك فيكم ثقلين) وفي نسخة «الثقلين» (أحدهما كتابالله،
وهو حبل ا) قال: المصنف قيل المراد بحبل الله عهده، وقيل
السبب الموصل إلى رضاه ورحمته، وقيل نوره الذي يهدى به.
قلت: وهو على هذه الوجوه استعارة مصرحة، شبه ما ذكر في
الأقوال الثلاثة بالحبل بجامع الوصل فأطلق عليه اسمه (من
اتبعه) مؤتمراً بأوامره منتهياً عن نواهيه (كان على الهدى)
الذي هو ضد الضلالة (ومن تركه) فأعرض عن أمره ونهيه (كان
على الضلالة) وفيه «فقلنا من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، أيم
الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها
وترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا
الصدقة بعده» اهـ. وتقدم عن المصنف الجمع بين قوله في حديث
الباب في نسائه «إنهن من أهل بيته» ونفى ذلك في هذه
الرواية، وقوله في هذه «وعصبته» إن أراد الأدنين اختص ببني
هاشم، وإن أراد مطلقاً دخل الجميع وخرج ما عدا بني هاشم
والمطلب لما يدل عليه فيكون عليه مخصوصاً، والله أعلم.
2347 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي
الله عنه موقوفاً عليه) الموقوف: ما أضيف إلى الصحابيّ من
قول أو فعل (أنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته) أداء
لبعض واجبات حقه (رواه البخاري. ومعنى ارقبوا) أي مع
المفعول كما يدل عليه ذكر الضمير في الأفعال المفسر بها
وهي (راعوه) قال في النهاية: المراعاة الملاحظة (واحترموه
وأكرموه) أي افعلوا ذلك معه بمراقبة أهل بيته وتعظيمهم
وودادهم وحبهم،
(3/202)
والدخول في عقد ولائهم مع ولاء سائر من
أمرت الشريعة بموالاته من الصحابة الأكرمين والعلماء
العاملين والأولياء الكاملين، أحيانا الله وأماتنا على
محبتهم، وحشرنا في زمرتهم بمنه آمين.
44 - باب توقير بالقاف من الوقار وهو التبجيل: أي تعظيم
العلماء: أي بالعلوم الشرعية وآلاتها المطلوبة: أي وإن لم
يكونوا من ذوي السن، والمراد علماء السنة والجماعة لما ورد
من الوعيد في تعظيم ذي البدعة، وكذا يعتبر هذا في قوله
(والكبار) بكسر القاف: أي في السن وإن لم يكونوا أهل علم
(وأهل الفضل) من الكرم والمروءة والشجاعة وغيرها من خصال
الكمال التي بها تتفاضل الرجال (وتقديمهم على غيرهم) ممن
لم يكونوا كذلك: وظاهر تعبيره أنهم عند اجتماعهم يرتبون
بترتيبهم في الذكر، فيقدم ذو العلم على ذي السن، وهو على
من بعده (ورفع مجالسهم) وٌّ كانوا هم ينبغي لهم أن لا
يطلبوا رفعها تواضعاً واتباعاً لحديث «كان يجلس حيث ينتهي
به المجلس» (وإظهار مرتبتهم) أداءاً لحق ذي الحق.
(قال الله تعالى: {قل: هل} ) استفهام إنكاري ما ( {يستوى
الذين يعلمون} ) أي قام بهم العلم المطلوب تعلمه ( {والذين
لا يعلمون} ) أي لم يقم بهم ذلك فالفعل فيه في الموضعين
منزل منزلة اللازم. قال البيضاوي: الآية نفي لاستواء
الفريقين باعتبار القوة العلمية على وجه أبلغ لمزيد فضل
العلم، وقيل تقرير للأول أي لقوله: {أمن هو قانت} (الزمر:
9) الخ: أي كما لا يستوي العالم والجاهل لا يستوي القانت
والعاصي.
(3/203)
1348 - (وعن ابن مسعود عقبة) بالقاف (ابن
عمرو البدري) نسب إليها لكونه سكنها وإلا فلم يشهدها مع
النبيّ كما تقدم بما فيه من الخلاف (الأنصاري) وتقدمت
ترجمته (رضي الله عنه) في باب المجاهدة (قال: قال رسول
الله: يؤم القوم أقرؤهم) أي أكثرهم قراءة (لكتاب ا) جملة
خبرية لفظاً طلبية معنى: أي ليؤمهم، ويدل عليه حديث «إذا
كنتم ثلاثة فليؤمكم أكبركم» وحديث مالك بن الحويرث
«وليؤمكما أكبركما» وليس المراد بها الإخبار المحض لأن ما
أخبر عن حصوله فلا بد منه وكثيراً ما يؤم غير الأقرأ فدل
على ما ذكرنا (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)
قال القرطبي: تأول أصحاب الحديث بأن الأقرأ في الصدر الأول
هو الأفقه، لأنهم كانوا يتفقهون مع القراءة فلا يوجد قارىء
إلا وهو فقيه، قال: وكان من عرفهم تسمية الفقهاء بالقراء
اهـ. فلا يشكل على ما قال إمامنا الشافعي وشيخه مالك من
تقديم الأفقه على الأقرأ لأن حاجة الصلاة إلى الفقه أتم
منها إلى القراءة، وأخذ الإمام أبو حنيفة بظاهر الخبر فقدم
الأقرأ على الأفقه وهو المعبر عنه بأعلمهم بالسنة، قاله
الشيخ زكريا في «شرح الإعلام» . وقال القرطبي: السنة هي
أحاديث السنن عن النبيّ، وهذه الزيادة: أي فإن كانوا في
القراءة سواء الخ مما انفرد بها الأعمش ومحلها عندنا وعند
الشافعي فيما كان أوّل الإسلام عند عدم التفقه كان المقدم
الأقرأ وإن كان صبياً كما جاء في حديث عمرو بن سلمة، فلما
تفقه الناس في الكتاب والسنة قدم الفقيه بدليل تقديم النبي
للصدّيق، وقد نص على أن أقرأهم أبيّ، فلو كان المقدم
الأقرأ مطلقاً لقدم على الصدّيق، قيل له في قوله: «يؤم
القوم أقرؤهم» حجة لمنع إمامة المرأة للرجال لأن القوم هم
الرجال لأنهم بهم يقوم الأمر كما تقدم (فإن كانوا في السنة
سواء فأقدمهم هجرة) إلى النبي، أو إلى دار الإسلام ويراعى
ذلك في أولادهم وفيه فضل الهجرة، والأولى وإن انقطعت
ففضيلتها باقية (فإن
كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً) أي في الإسلام كما تدل
عليه الرواية الثانية «سلماً» أي إسلاماً فيقدم الشاب
القديم المدة في الإسلام على الشيخ الحديث فيه، وهذه
الفضيلة السبق إلى الإسلام. قال بعض العلماء: إنما رأت
الأئمة هذا الترتيب لأنها خلافة النبي إذ هو إمام في
الدنيا والآخرة، فهي بعده للأقرب إليه منزلة والأشبه به
رتبة، ومحل هذا الترتيب ما إذا لم يوجد
(3/204)
الوالي بمحل ولايته وإلا فيقدم حتى على
الأقرأ والأفقه، فإن لم يتقدم الوالي قدم من يصلح للإمامة
وإن كان غيره أصلح منه لأن الحق فيها له كما يدل عليه قوله
(ولا يؤمن الرجل الرجل) مثلاً (في سلطانه) فربّ الدار مقدم
على الضيف والمعير على المستعير والسيد على عبده غير
المكاتب (ولا يقعد في بيته على تكرمته) في «القاموس» هي
الوسادة (إلا بإذنه) وجه المنع من هذا ما فيه من التصرف في
حق الغير بغير إذن، وإذا منع من التكرمة بغير الإذن مع
التساهل فيها والتخفيف فيها، فالمنع من باقي حقوق الغير
بغير إذنه أولى (رواه مسلم) في كتاب الصلاة من خمس طرق
مدارها على الأعمش، ومن طريق أخرى عن شعبة كلاهما عن
إسماعيل بن رجاء عن أوس بن صمغج عن أبي مسعود، وأخرجه أبو
داود والنسائي في كتاب الصلاة من طريقهما، وأخرجه ابن ماجه
في الصلاة، كذا لخص من «الأطراف» للحافظ المزي. وقال
الحافظ السيوطي في «الجامع» : أخرجه الطبراني في «الكبير»
وابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجه اهـ.
(وفي رواية له: فأقدمهم سلماً) بكسر السين وسكون اللام
(بدل سناً) وفسر السلم بقوله (أي إسلاماً) قلت: لعله مأخوذ
من السلم بمعنى الصلح لما فيه من الاستسلام لاستسلام
المسلم وانقياده لأحكام مولاه، وهو كذلك بكسر السين وفتحها
يذكر ويؤنث كما في «الصحاح» .
(وفي رواية) هي لمسلم من حديث أبي مسعود أيضاً، وكان على
المؤلف حيث عزا ما قبلهما له عزو هذه له لئلا يتوهم أنها
لغيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يؤمّ
القوم أقرؤهم لكتاب ا) أي أرسخهم قدماً في ذلك (و) يقدم من
الأقرأ (أقدمهم قراءة) وإن اختلفوا في تقدم الهجرة وتأخرها
(فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة) منصوب على
التمييز (فإن كانوا في الهجرة سواء) أي وفي الأقربية وإلا
فالأقرأ مقدم على الأقدم هجرة كما في الحديث قبله، فحينئذٍ
يحمل المرادمن الحديث على ما إذا تساووا في قدم الهجرة
والأقرئية واختلفوا في تقدم السن في الإسلام أو اتحدوا فيه
وتفاوتوا في كبره وصغره (فليؤمهم أكبرهم سناً) لأنه أقرب
إلى التوجه إلى المولى وأكثر عروضاً عن الدنيا وتوجهاً إلى
الدار الآخرة. وتتمة الحديث قوله: «ولا يؤمنّ الرجل في
أهله وعياله» والفعل فيه مبني للمجهول مؤيد بالنون الثقيلة
(والمراد بسلطانه محل ولايته) من بلد إذا كان أميراً (أو
الموضع الذي يختص به) من
(3/205)
مسجد إن كان إماماً راتباً فيه أو بيته
وأهله مطلقاً، فأمير البلد وصاحب المنزل وإمام المسجد أحق
بالإمامة من الغير وإن كان الغير أفقه وأقرأ (وتكرمته بفتح
التاء) الفوقية وسكون الكاف (وكسر الراء: وهي ما ينفرد به)
أي عن أهل منزله كرامة له (من فراش وسرير ونحوهما) ولا
يخالف ما تقدم من أنها الوسادة عن «القاموس» لإمكان حمل
كلامه على أنه ذكر فرداً مما ينفرد به عنهم لأن الكرامة
خاصة بها وإن كان ذلك ظاهر كلامه. وقال الشيخ زكريا في
«شرح الإعلام» : وقيل مائدته.
2349 - (وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يمسح مناكبنا في الصلاة) أي يسويّها بيده الكريمة حتى لا
يخرج بعضها عن بعض (ويقول) حال التسوية كما هو ظاهر السياق
(استووا ولا تختلفوا) بأن يتقدم منكب بعضكم على منكب بعض.
يؤخذ منه أن الإمام إذا سوّى الصفوف باليد يسن له أن يقول
ما ذكر، وجمعه بين الفعل والقول كما هنا، واقتصاره على
القول فقط كما في أحاديث أخر مختلف باعتبار حال المخاطبين،
فإذا علم اكتفاءهم بالقول لفقههم وسرعة امتثالهم اقتصر
عليه، وإلا لكثرتهم أو لاختلاطهم بحديثي الإسلام محتاجين
لمزيد العلم جمع بينهما (فتختلف) بالنصب لأنه جواب النهي
(قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها. وفي «فتح الإله» : فإن قلت
هذا ينافي خبر «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
كله» إلى أن قال «ألا وهي القلب» قلت: لا منافاة لأن حديث
الباب دال على أن اختلاف القلوب ناشىء عن مخالفة الأعضاء
هذا الأمر الذي أمرت به بخصوصها، والثاني على أن مخالفتها
لما أمرت به ناشىء عن فساد القلب وخلوه عن نور الهدى
واليقين. وحاصله أن فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعضاء
وفسادها ينشأ عنه اختلاف أهوية القلوب واختلافها ينشأ عنه
اختلاف الكلمة المؤدي إل ما لا يتدارك خرقه من الفتن وضعف
الدين اهـ. (ليلني) أي ليقرب مني في الصلاة (منكم أولو
الأحلام) جمع حلم بالكسر كأنه من الحلم، وهو الأناة
والتثبت في الأمر، وذلك من شعار العقلاء، وقال المصنف:
أولو الأحلام
(3/206)
هم العقلاء، وقيل البالغون (والنهي) بضم
النون: العقلاء، فعلى قول من يقول أولو الأحلام العقلاء
اللفظان بمعنى عطف أحدهما على الآخر تأكيداً، وعلى الثاني
معناه البالغون العقلاء، وعليه اقتصر المصنف فيما يأتي.
قال أهل اللغة: وواحد النهي نهية بضم النون وهي العقل،
ورجل نه ونهي وقوم نهين، وسمى العقل نهية لأنه ينتهي إلى
ما أمر به ولا يتجاوزه، وقيل لأنه ينهى عن القبائح. قال
أبو علي الفارسي:
ويجوز أن يكون مصدراً كالهدى وأن يكون جمعاً كالظلم، قال:
والنهي في اللغة الثبات والحبس، ومنه النهي بكسر النون
وفتحها للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع. قال
الواحدي: فرجع القولان في اشتقاق النهية إلى قول واحد وهو
الحبس، والنهية تنهي وتحبس عن القبيح (ثم الذين يلونهم)
كالصبيان سواء المراهقون وغيرهم فهم في درجة واحدة (ثم
الذين يلونهم) وهم الخناثى (رواه مسلم) وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه كلهم في كتاب الصلاة، وفيه كما قال
المصنف تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى
بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو
أولى ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام عن السهو ما لا يتفطن له
غيره وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها ويتعلموها ويعلموها
الناس، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة بل السنة تقديم أهل
الفضل في كل مجمع إلى إمام وكبير المجلس كمجال العلم
والقضاء والذكر والتدريس والإفتاء واستماع الحديث ونحوها،
ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل
والشرف والسنّ والكفاية في ذلك الباب، والأحاديث متعاضدة
على هذا، وفيه تسوية الصفوف والاعتناء بها والحثّ عليها.
(وقوله: ليلني هو بتخفيف النون) أي هي للوقاية (وليس قبلها
ياء) أي قد حذفت للجازم (وروي بتشديد النون مع ياء قبلها)
كذا جعلها هنا رواية، وعبارته في شرح مسلم، ويجوز إثبات
الياء مع تشديد النون على التوكيد اهـ. وهو من زيادات هذا
الكتاب على شرح مسلم فليلحق بطرته وينبه عليه، ثم تنبهت
لكون كلام شرح مسلم في حديث ابن مسعود، وكلامه هنا في حديث
أبي مسعود ولم يذكر في الأخير شيئاً في شرح مسلم بعد ما
قدمه مما نقله عنه في حديث ابن مسعود، وظاهر أن الرأي لا
مجال له في هذا الشأن وجوّز ابن حجر الهيثمي إثبات الياء
ساكنة مع تخفيف النون وقال: إن ذلك لغة صحيحة (والنهى
العقول) سكت عن كون النهى جمعاً أو مفرداً وإن كان تفسيره
بالجمع يومىء إلى الأول لما علمت ما فيه عن الفارسي من
الاحتمالين (وأولو الأحلام هم البالغون) اقتصر عليه ليكون
العطف على
(3/207)
أصله في المغايرة. وتقدم أنه قيل إنهم
العقلاء وإنه عليه من عطف الرديف (وقيل أهل الحلم) أي
الأناة والتثبت في الأمر (والفضل) أي العلم وعليه فيكون
عطف أولي النهي عليه من عطف العام على الخاص، وحكاية هذا
مزيدة على شرح مسلم.
3350 - (وعن عبد الله بن مسعود) الهذلي الصحابي الجليل
تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الصبر (قال: قال رسول
الله: ليلني) بحذف الياء وتخفيف النون كما ضبطه المصنف في
شرح مسلم (منكم أولو الأحلام والنهى) يجوز في الظرف أن
يكون لغواً معلقاً بالفعل، وأن يكون مستقراً حالاً من
الفاعل مقدماً عليه (ثم الذين يلونهم ثلاثاً) أي كرّر ذلك
ثلاث مرات، والتكرار باعتبار صفوف المأمومين، فالأولون
البالغون والثانون الصبيان والثالثون الخناثى (وإياكم)
منصوب على التحذير وكرره لمزيد التأكيد فقال (وإياكم) أي
احذروا أنفسكم (وهيشات) بفتح الهاء وسكون التحتية والشين
المعجمة (الأسواق) أي اختلاطها والمنازعة والخصومات
وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله المصنف:
وقال القرطبي: هيشات الأسواق، قال أبو عبيدة: هو شاذ،
والهوشة الفتنة والهيج والاختلاف، يقال هوش القوم إذا
اختلفوا (رواه مسلم) .
4351 - (وعن أبي يحيى، وقيل أبي محمد: سهل) بفتح المهملة
وسكون الهاء (ابن أبي حثمة بفت الحاء المهملة وإسكان
المثلثة) واسم أبي حثمة عبد الله بن ساعدة وقيل: عامر بن
ساعدة بن عامر بن عدي بن خيثم بن مخدعة بن حارثة بن الحارث
بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس (الأنصاري الخزرجي)
الأوسي الحارثي (رضي الله عنه) وهو مدني، توفي النبيّ وهو
ابن ثمان سنين، وقد حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- أحاديث، روى له عن النبي خمسة وعشرون حديثاً، اتفقا على
ثلاثاً منها، روى عنه نافع ابن جبير
(3/208)
وعبد الرحمن بن مسعود والزهري، وقيل لم
يسمع منه اهـ ملخصاً من «التهذيب» للمصنف (قال: انطلق عبد
الله بن سهل) ابن زيد بن عامر بن عمرو بن مخدعة ابن حارثة
الأنصاري الحارثي (ومحيصة) بتشديد التحتية وتخفيفها لغتان
مشهورتان فيه وفي حويصة الآتي، قال المصنف: ذكرهما القاضي
أشهرهما التشديد (ابن مسعود) بن كعب بن عامر بن عمرو بن
مخدعة بن حارثة بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري
(إلى خيبر) البلدة المعروفة ذكر الحازمي أن أراضي خيبر
يقال فيها خيابر بفتح المعجمة وخروجهما إليها ليمتارا منها
(وهي يومئذٍ صلح) أي مع النبيّ أي بعد فتحها وإقرار أهلها
عليها صلحاً (فتفرقا) لحوائجهما (فأتى محيصة إلى عبد الله
بن سهل وهو يتشحط) أي يتخبط ويضطرب (في دمه قتيلاً) حال من
فاعل يتشحط (فدفنه ثم قدم) بكسر الدال (المدينة) علم
بالغلبة على دار هجرته مأخوذة من دان إذا أطاع وهي محل
الدين في الحديث «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز
الحية إلى جحرها» (فانطلق عبد الرحمن ابن سهل) أخو المقتول
(ومحيصة وحويصة) بتشديد الياء على المشهور فيهما كما تقدم
(ابنا مسعود) ابنا ابن عم أبي المقتول (إلى النبي فذهب عبد
الرحمن) قال الشيخ زكريا في «شرح الإعلام» وفي رواية
«محيصة» (يتكلم) فيجوز أن يكون كل منهما ذهب يتكلم وكان
حويصة أكبر منهما والجملة في محل الحال
(فقال) النبي للمتكلم (كبر كبر) بتشديد الموحدة: أي راع
الكبر بضم الكاف كذا في «شرح الإعلام» لكن في مسلم بعد
قوله كبر: الكبر في السن، قال المصنف: معناه يريد الكبر في
السن، والكبر منصوب بإضمار يريد أو نحوها وفي نسخة المكبر
اهـ. ومقتضى ضبطه النسخة الأولى أن يكون بالكسر والفتح،
قال في «المصباح» : كبر الصغير وغيره يكبر من باب تعب
كبراً بوزن عنب، وكبر الشيء كبراً من باب قرب عظم فهو كبير
أيضاً اهـ. وظاهر أن ما نحن فيه من المادة الأولى، ثم رأيت
العاقولي بين وجه ما في «الإعلام» كما يأتي عنه قريباً
(وهو) أي عبد الرحمن (أحدث القوم) سناً وأسن منه محيصة
وأسن منهما حويصة (فسكت فتكلما) بأن يذكر الأصغر الأكبر ما
نسيه. قال المصنف: واعلم أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه
عبد الرحمن لا حق فيها لابني عمه، وإنا أمر أن يتكلم
الأكبر وهو حويصة لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى
(3/209)
بل سماع صورة القصة وكيف جرت، وإذا أراد
حقيقة الدعوى تكلم عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون وكلهما في
الدعوى. وقال العاقولي: هذا إرشاد وتأديب لأنهما ابنا عم
أبيه وقد حضرا معه لنصره، وإذا لم يوقرهما بأن يجعل الكلام
إليهما فقد أضاع حقهما، إذ لا نصيب لهما في الإرث ولا ترك
لهما مجالاً في القول، والإنسان إنما يتسلى بأحد هذين مال
يأخذه أو كلام ينصت إليه فيه ويذعن له. ويؤخذ منه استحباب
تقديم الكبير سناً لأن حويصة أسنّ من عبد الرحمن ورتبة
فإنه في عداد والده، والكبر بالضم يقال فلان كبر في قومه
إذا كان أقعدهم سناً اهـ. وله نظائر فإنه يقدم بذلك في
الإمامة وولاية النكاح ندباً وغير ذلك (فقال: أتحلفون) أي
خمسين يميناً كما جاء في رواية (وتستحقون قاتلكم) أي يثبت
حقكم عليه وهل هو قصاص أو دية فيه خلاف بين العلماء، وعرضه
اليمين عليهم محمول على أن المراد إن علموا ذلك أو ظنوه إذ
لا يجوز الحلف إلا عند وجود ذلك، وعرضه على الثلاثة مع
أنها للوارث وهو الأخ،
وأما الآخران فلا ميراث لهما مع وجوده للعلم بأنها لا تجب
على غير الوارث فأطلق الخطاب لهم ومراده من يختص به
اليمين، والإطلاق لكونه معلوماً عند المخاطبين كما سمع
صورة الواقعة من القوم وإن الدعوى مختصة بالأخ قاله المصنف
(وذكر تمام الحديث) مما لا يتعلق به غرض الترجمة وهو تقديم
أهل الفضل والسن (متفق عليه) أخرجه البخاري في خمسة أماكن
من «صحيحه» ، ومسلم في الحدود، وأبو داود والترمذي وابن
ماجه في الديات، والنسائي في القضاء.
(
وقوله: كبر كبر) بالتكرير للتأكيد (معناه يتكلم) أي ليتكلم
(الأكبر) أي في السن كما ذكره المصنف في شرح مسلم أو في
الرتبة كما تقدم عن العاقولي وغيره.
5352 - (وعن جابر رضي الله عنه أن النبيّ كان) للحاجة من
كثرة القتلى وقلة العمال (يجمع بين الرجلين من قتلى أحد)
بضمتين الجبل المعروف بالمدينة، وكانت غزوته سنة
(3/210)
أربع من الهجرة على قول الأكثر. قال الحافظ
في «الفتح» : روى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري
قال: «جاءت الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا
واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر» صححه الترمذي. وأما
دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة
بن الأسقع «أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد،
فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه، وكان يجعل بينهما حائل من
تراب ولا سيما إذا كانا أجنبيين» اهـ، وقوله: (يعني في
القبر) بيان للمجموع فيه، وخرج به الكفن فكان كل يفرد
بكفنه (ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً) أي حفظاً (للقرآن، فإذا
أشير) أي بكثرة الأخذ (إلى أحدهما) أي الرجلين (قدمه في
اللحد) إلى جهة القبلة من غيره ولو أسن منه تعظيماً له أو
تشريفاً لما خص به من أكثرية الأخذ للقرآن، وظاهر منه
بالأولى تقديم الآخذ لشيء من القرآن على من لم يأخذ بالمرة
(رواه البخاري) في الجنائز وفي المغازي، ورواه أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجه في الجنائز أيضاً، وقال
الترمذي: حسن صحيح.
6353 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال أراني)
قال الحافظ في «الفتح» بفتح الهمزة من الرؤية ووهم من ضمها
(في المنام) مصدر ميمي: أي النوم، والظرف في محل الحال،
وجملة (أتسوك) بتشديد الواو في محل المفعول الثاني (بسواك)
الباء فيه للاستعانة (فجاءني رجلان) في المنام (أحدهما
أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر) لعلة أو لمعنى رآه
فيه من علم أو نحوه (فقيل لي كبر) بتشديد الموحدة والقائل
جبريل كما جاء كذلك في رواية ابن المبارك (فدفعته إلى
الأكبر منهما) قال ابن بطال: فيه تقديم ذي السن في السواك،
ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام. قال المهلب: هذا
ما لم يترتب القوم، فإن ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن وهو
صحيح، ويؤيده تقديم الأعرابي على الصديق في دفع الشراب
إليه. وفيه أن استعمال سواك الغير بإذنه غير مكروه إلا أن
المستحبّ غسله ثم استعماله (رواه مسلم) في الرؤيا وفي آخر
الكتاب (مسنداً) عن نصر بن
(3/211)
علي عن أبيه عن صخر بن جويرية عن رافع عن
ابن عمر (ورواه البخاري تعليقاً) بصيغة الجزم فقال: وقال
عفان ثنا صخر بن جويرية بالإسناد المذكور. قال الحافظ في
«الفتح» : قال الإسماعيلي: أخرجه البخاري بلا رواية. قلت:
وقد وصله أبو عوانة في «صحيحه» عن محمد بن إسحاق الصنعاني
وغيره عن عفان، وكذا أخرجه أبو نعيم والبيهقي من طريقه:
والتعليق حذف أول السند واحداً فأكثر ولو لجميع السند،
مأخوذ من تعليق الجدار.
7354 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن
من إجلال ا) أي من تعظيمه وتبجيله (إكرام ذي) أي صاحب
(الشيبة المسلم) الذي شاب شعره: أي ابيضّ ونفذه عمره في
الإسلام والإيمان فتعظيمه وتقديمه في الصلاة بشرطه على
غيره وفي المجامع والمجالس وفي القبر وغيره والرفق به
والشفقة عليه من كمال تعظيم الله لحرمته عند مولاه سبحانه
(وحامل القرآن) أي قارئه، سمي حاملاً لما تحمل في حفظه من
الدرس والمشقة في تفهمه والعمل بأحكامه وتدبره فهو كحامل
لمشاق كثيرة تزيد على الأحمال الثقيلة (غير) بالنصب على
الاستثناء وبالجر على الوصفية (الغالي) بالمعجمة (فيه)
المتجاوز الحد في التشدد والعمل به وتتبع ما خفي منه
واشتبه عليه من معانيه، والكشف عن دقيق علله التي لا يصلح
فيها عقله بما يبتدعه في الدين ليضلّ ويضلّ غيره ويجاوز
حدود قراءته ومخارج حروفه ومده (والجافي عنه) أي التارك له
البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه فإن هذا من الجفاء وهو
البعد عن الشيء. قال في «النهاية» : وإنما قال ذلك لأن من
أخلاقه التي أمر بها القصد في الأمر. والغلوّ: التشديد في
الدين ومجاوزة الحد، والتجافي: البعد عنه. قلت: لا سيما من
أعرض عنه كثرة النوم والبطالة والإقبال على الدنيا
والشهوات، وما أقبح بحامل القرآن أن يتلفظ بأحكامه ولا
يعمل بها، فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً (وإكرام ذي) أي
صاحب (السلطان) أي الملك والتسلط (المقسط) بضم الميم: أي
العادل في حكمه بين رعيته (حديث حسن رواه أبو داود) في
الأدب من سننه.
(3/212)
8355 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب
(عن جده) أي جد أبيه: أي إن أباه رواه عن جده وهو عبد الله
بن عمرو (رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ليس منا) أي من
أهل سنتنا وهدينا وطريقتنا (من لا يرحم صغيرنا) أي الصغير
من المسلمين بأن يشفق عليه ويرحمه ويحسن إليه ويلاعبه
(ويعرف شرف كبيرنا) أي بما يستحقه من التعظيم والإجلال
والتبجيل وتوضحه رواية أحمد «ليس من أمتي من لم يجلّ
كبيرنا» ولأحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه «ليس منا من
لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر» (حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي) في أبواب البر
واللفظ له عن ابن عمر (وقال الترمذي: حديث صحيح) الذي في
«الجامع» وقال: حسن صحيح، وكذا في نسخة من الرياض، والظاهر
أنه حسن باعتبار طريق صحيح باعتبار طريق آخ لأنه رواه من
طريقين ينتهيان إلى عمرو بن شعيب، وفي رواية له عن أنس
مرفوعاً؟ ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولا يوقر كبيرنا» وقد
نبه المصنف على أن اللفظ المذكور للترمذي فقال:
(وفي رواية أبي داود: حق كبيرنا) أي عبر بحق بدل شرف، وقد
أخرجه باللفظ المروي عن الترمذي وأحمد والحاكم في
«مستدركه» .
9356 - (وعن ميمون) بفتح الميم الأولى وسكون التحتية (ابن
أبي شبيب) بفتح المعجمة وكسر الموحدة بوزن حبيب: وهو
الربعي أبو نصر الكوفي. قال الحافظ في «التقريب» : صدوق
كثير الإرسال من الثالثة، مات سنة ثلاث وثمانين في وقعة
الجماجم (أن عائشة رضي الله عنها مرّ بها سائل) أي متعرض
بالسؤال لطلب الإحسان (فأعطته كسرة) بكسر
(3/213)
الكاف وسكون المهملة وهي هنا القطعة
المكسورة من الخبز والجمع كسر كسدرة وسدر (ومرّ بها رجل
عليه ثياب وهيئة) هي في اللغة: الحالة الظاهرة، والمراد
هنا حالة حسنة (فأقعدته فأكل) قال السخاوي في «المقاصد» :
ولفظ أبي نعيم في «الحلية» «فمرّ رجل غنيّ ذو هيئة فقالت
ادعوه، فنزل فأكل ومضى، وجاء سائل فأمرت له بكسرة فأكل،
فقالت: إن هذا الغنيّ لم يحمل بنا إلا ما صنعناه به، وإن
هذا السائل سأل فأمرت له بما يرضاه، وإن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أمرا أن ننزل الناس منازلهم» (فقيل لها
في ذلك) بحذف الفاعل لغرض من أغراض حذفه (فقالت: قال رسول
الله: أنزلوا الناس منازلهم) هو حض على مراعاة مقادير
الناس ومراتبهم ومناصبهم وتفضيل بعضهم عل بعض في المجالس
وفي القيام والمخاطبة والمكاتبة وغير ذلك من الحقوق كما
تقدم عن المصنف. قال الإمام مسلم: فلا يقصر بالرجل العالي
القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر فوق منزلته، ويعطى كل
ذي حق حقه من قوله تعالى: {وفوق كل ذي علم عليم} (يوسف:
76) وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها، وقد سوّى الشرع بينهم
في القصاص والحدود وأشباهها مما هو معروف اهـ. قال
العلماء: في الحديث أن العالم إذا فعل شيئاً يخفى أمره
وسئل عن ذلك يستدل بالحديث النبوي إذ هو من أقوى الحجج
الشرعية وهو أبلغ من ذكر الحكم بلا دليل (رواه أبو داود)
في الأدب من سننه، قال السخاوي: ورواه ابن خزيمة في صحيحه،
والبزار وأبو يعلى في «مسنديهما» ، والبيهقي في الأدب،
والعسكري في الأمثال ومداره عندهم على ميمون (لكن قال) أبو
داود (ميمون لم يدرك عائشة) أي فالحديث منقطع، قال السخاوي
في كتاب «الجواهر والدرر» في ترجمة شيخ الإسلام الحافظ ابن
حجر: وتعقب ابن الصلاح ما ذكر عن أبي داود بأن ميمون أدرك
المغيرة وهو قد مات قبل عائشة، وأشار إليه نظر، فإن
الاكتفاء بالمعاصرة محله في غير المدلس، وميمون قد قال فيه
عمرو بن الغلاس ليس بقويّ في شيء من حديثه سمعت، ولم أخبر
أن أحداً منهم يزعم أنه سمع الصحابة اهـ. وصرح غيره بأنه
روى عن جمع من الصحابة لم يدركهم منهم معاذ وأبو ذرّ وعلي،
فلذا قال أبو
(3/214)
حاتم: إن روايته عنها مرسلة، بل صرح أيضاً
بأن روايته عن عائشة غير متصلة وكذا قال البيهقي: حديثه
عنها مرسل، وقال أبو نعيم: إنه ضعيف، ثم ذكر السخاوي تصحيح
بعض المحدثين لروايته عن أبي ذرّ وعن معاذ والمغيرة ثم
قال: وهذا كله مشعر بإدراك ميمون لعائشة. ثم إن الجواب عن
أبي داود ممكن بأن يكون مراده أنه لم يدرك السماع منها،
وجزم ابن القيم بفساد التعقب المشار إليه: أي بالرواية عن
المغيرة وغيره بأن ميموناً كان بالكوفة، فسماعه من المغيرة
لا ينكر لأنه كان معه بها، بخلاف عائشة فإنها كانت
بالمدينة، قال: وأئمة هذا الشأن لهم أمر وراء المعاصرة،
على أن الحافظ العراقي قال: لم يأت في خبر قط إدراك ميمون
للمغيرة، إنما أخذه ابن الصلاح من رواية مسلم في المقدمة
عنه عن المغيرة حديثاً استشهاداً وقال فيه: إنه حديث
مشهور، ثم أشار السخاوي إلى أن من ذكر رواية موقوفاً عليها
(وقد ذكره مسلم في أول صحيحه تعليقاً) وهو في مسلم قليل
جداً (فقال: وذكر) بالبناء للمفعول (عن عائشة) قال المصنف:
هو بالنظر إلى أن لفظه لي جازماً لا يقتضي حكمه بصحته،
وبالنظر إلى أنه احتج به، وأورده إيراد الأصول لا إيراد
الشواهد يقتضي حكمه بصحته (قالت: أمرنا رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أن ننزل) بضم النون الأولى وسكون الثانية
مضارع أنزل وفي رواية بضم الأولى وفتح الثانية وتشديد
الزاي وهي
المشهورة (الناس منازلهم وذكره الحاكم أبو عبيد ا) بن
الربيع بفتح الموحدة وتشديد التحتية (في كتابة معرفة علوم
الحديث) في النوع السادس عشر (قال: وهو حديث صحيح) وعبارته
«صحت الرواية عن عائشة رضي الله عنها» وساقه بلا إسناد
وكذا صححه ابن خزيمة لأنه أخرجه في كتاب السياسة من صحيحه،
وتعقب التصحيح بما تقدم من انقطاعه وباختلاف رواته في رفعه
تارة ووقفه على عائشة أخرى. قال السخاوي في «الجواهر» :
هذا حديث حسن. وفي المقاصد: وبالجملة فحديث عائشة حسن، قال
أبو أحمد العسكري في الأمثال: وهذا الحديث مما أدب به
النبيّ أمته في إيفاء الناس حقوقهم من تعظيم العلماء
وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير وما أشبهه.
10357 - (وعن ابن عباس رضيا عنهما قال: قدم عيينة) بضم
العين وفتح التحتية الأولى وسكون الثانية بعدها نون فهاء
(ابن حصن) بكسر المهملة الأولى بن حذيفة بن بدر بن
(3/215)
عمرو بن حوية بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن
فزارة بن ذبيان بن مفيض بن ربيع بن غطفان بن سعد بن قيس
عبلان بالمهملة الفزاري، أسلم بعد الفتح وقيل قبله، وشهد
حنيناً والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم والأعراب الجفاة،
ثم ارتد وقاتل مع طليحة الأسدي فأسرته الصحابة وحملوه إلى
الصديق فأسلم فأطلقه، والمراد أنه قدم المدينة (فنزل على
ابن أخيه الحر) بضم المهملة وتشديد الراء (ابن قيس) والحرّ
صحابي، أحد الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - مرجعه من تبوك، وهو الذي خالف ابن عباس في
صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فقال ابن عباس: هو
الخضر؛ فسأل أبيًّا فذكر حديثاً مرفوعاً كما قال ابن عباس،
وحكاية الخلاف بينهما في كتاب العلم من صحيح البخاري، وقيل
المخالف لابن عباس عوف البكالي وهو كذلك في مسلم، قال
العلائي: كان للحرّ ابن شيعي وابنة حرورية وامرأة معتزلية
وجارية مرجئية فقال لهم الحرّ: أنا وأنتم كما قال تعالى:
{كنا طرائق قدداً} (الجن: 11) (وكان) أي الحر (من النفر)
بفتح النون والفاء وهو كما في المصباح: جماعة الرجال من
ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة ولا يقال فيما زاد على
العشرة اهـ. قلت: فهو اسم جمع لا واحد له من لفظه (الذين
يدنيهم) بضم التحتية الأولى: أي يقربهم (عمر رضي الله عنه)
منه لعلمهم وعملهم (وكان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله
عنه) المقدمين فيه (و) أصحاب (مشاورته) مصدر شاورته في
الأمر، قال في «المصباح» : شاورته في كذا واستشرته فيه:
راجعته لأرى رأيه فيه؛ فأشار علي بكذا: أي أراني ما عنده
من المصلحة والاسم المشورة، وفيها لغتان سكون الشين وفتح
الواو وضم الشين وسكون الواو، ويقال هي «من شار الدابة»
إذا عرضها في المشوار، وقيل «من
شرب العسل» شبه حسن النصيحة بشرب العسل اهـ. (كهولاً) خبر
مقدم لقوله (كانوا أو شبانا) عطف على كهولاً وهو بضم الشين
المعجمة وتشديد الموحدة الأولى جمع شاب كفارس وفرسان،
ويجوز أن يقرأ شباب بفتح المعجمة وتخفيف الموحدة الأولى
جمع شاب كفارس وفرسان، ويجوز أن يقرأ شباب بفتح المعجمة
وتخفيف الموحدة الأولى جمع شاب أيضاً كما في مصدر شب فيكون
على تقدير مضاف أو على تقدير المبالغة كزيد عدل. قال في
«الفتح» : الأولى رواية الأكثر والثانية رواية الكشميهني:
والشباب قبل الكهولة، وقد
(3/216)
تقدم بيان الأسنان ونظمها للدماميني في باب
تعظيم حرمات المسلمين، وفيه تقديم أولي الفضل على من عداهم
وإن كانوا دونهم في السن أو في النسب والحسب (فقال عيينة
لابن أخيه: يا بن أخي: لك وجه) أي تقدم (عند هذا الأمير)
يعني عمر (فاستأذن لي عليه) أي اسأل لي منه الإذن في
الدخول عليه (فاستأذن له فأذن له عمر رضي الله عنه، فلما
دخل) معطوف على مقدر: أي دخل؛ فلما دخل (قال: هي) بكسر
الهاء وسكون التحتية كلمة تهديد، وقيل ضمير، وثم محذوف أي
هي داهية (يا ابن الخطاب) بفتح المعجمة وتشديد المهملة
(فوا ما تعطينا الجزل) أي ما يجزل لنا من العطاء، وأصل
الجزل ما عظم من الحطب (ولا تحكم فينا بالعدل) هو خلاف
الجور، يقال عدل على القول من باب ضرب عدلاً (فغضب عمر)
لما نسبه إليه من الجور (حتى هم) بتشديد الميم أي أراد (أن
يوقع) بضم التحتية (به شيئاً) أي من العقوبة أو شيئاً من
الإيقاع وذلك لجفاءه وسوء أدبه معه (فقال له الحرّ: يا
أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه:
{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ) أي والأصل في
أحكام التكاليف اشتراك أمته معه حتى يدل دليل على التخصيص
والاقتداء فيما لم يدل دليل على الخصوص مطلوب قال تعالى:
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21)
وقوله: {خذ العفو} أي ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل، ولا
تطلب ما يشق عليهم من العفو الذي هو ضد الجهد، أو خذ العفو
عن المذنبين أو الفضل أو ما يسهل من صدقاتهم وقوله: {وأمر
بالعرف} أي بالمعروف المستحسن من الأفعال، وقوله: {وأعرض
عن الجاهلين} أي فلا تمارهم ولات كافئهم مثل أفعالهم، وهذه
الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها (وإن
هذا من الجاهلين) أي المأمور بالإعراض عنهم (ووا) الواو
الأولى عاطفة على فقال له الحر والثانية القسم (ما جاوزها)
وفي نسخة ما جازها (عمر رضي الله عنه) أي بالمخالفة لها
(حين تلاها عليه) بل وقف عندها فأعرض عن مكافأة جهله (وكان
وقافاً) بتشديد القاف
(3/217)
(عند) أوامر (كتاب ا) يعني القرآن كناية عن
امتثالها والقيام بأداء ما أمر بأدائه وترك ما نهي عنه
(رواه البخاري) في كتاب التفسير والاعتصام من صحيحه، وهذا
الحديث ذكره المصنف في أواخر باب الصبر وتقدم شرحه ثم،
وفيه بعض فوائد زائدة على ما هنا.
11358 - (وعن أبي سعيد) وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو عبد
الله، وقيل أبو سليمان وقيل أبو محمد حكاها في التهذيب
(سمرة) بفتح السين وضم الميم (ابن جندب) بضم الجيم والدال
المهملة وبفتح الدال بينهما نون ساكنة ابن هلال بن جريج
بمهملة مفتوحة فراء مكسورة فتحتية ساكنة فجيم ابن مرة بن
حزن بن عمر جابر بن خشين بخاء وشين معجمتين ابن لأًيُّ بن
عصم بن شمخ بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان
الفزاري الصحابي (رضي الله عنه) توفي أبوه وهو صغير فقدمت
به أمه المدينة فتزوّجها أنصاري وكان في حجره حتى كبر،
فقيل أجازه النبيّ في المقاتلة يوم أحد، وغزا مع النبي
غزوات ثم سكن البصرة، وكان زياد يستخلفه عليها إذا سار إلى
الكوفة وعلى الكوفة إذا سار إلى البصرة، وكان الحسن وابن
سيرين وفضلاء البصرة يثنون عليه. روي له عن النبي مائة
حديث، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين،
ومسلم بأربعة. توفي بالبصرة سنة تسع وقيل ثمان وخمسين،
وقال البخاري: توفي سمرة بعد أبي هريرة يقال آخر سنة تسع
وخمسين ويقال سنة ستين (قال: لقد كنت على عهد) أي زمن حياة
(رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً) تقدم ما يؤخذ
منه أن سنه كانت عند وفاة النبيّ نيفا وعشرين سنة، فالمراد
من الغلام الصغير في السن (فكنت أحفظ عليه) معطوف على كنت
الأوّل (فما يمنعني من القول) أي من التحديث (إلا أن ههنا
رجالاً هم أسنّ مني) أخذ منه علماء الأثر قوله: يكره أن
يحدث إذا كان في البلد من هو أولى به بزيادة علم أو ضبط أو
حفظ أو تقدم سن أو نحو ذلك بل يدل عليه، وهذا بخلاف باقي
العلوم فلا يكره تعاطيها للمفضول المتأهل مع وجود الأعلم
بها منه (متفق عليه) .
(3/218)
12359 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال
رسول الله: ما أكرم شاب) بتشديد الموحدة (شيخاً) أي داخلاً
في سن الشيخوخة: وهو ما بعد الخمسين (لسنه) أي لأجل كبره
(إلا قيض) بتشديد التحتية والضاد المعجمة: أي قدر (اله من
يكرمه عند سنه) أي كبره، ففيه إيماء إلى وعد من أكرم شيخاً
لسنه تعالى بأن يطول عمر المكرم حتى يبلغ ذلك السن ويقدر
الله له من يقوم بكرامته فيدان بما دان به (رواه الترمذي
وقال: غريب) في «الجامع الصغير» على الحديث علامة الحسن.
45 - باب زيارة أهل الخير
أي قصدهم تشوّقاً إليهم. قال في «المصباح» زاره: يزوره
قصده شوقاً إليه فهو زائر وزور وزوّار مثل سافر وسفر وسفار
ونسوة زور أيضاً وزوّر مثل نوح وزائرات اهـ. والمراد من
أهل الخير حزب الله المنقطعون إليه اللائذون به الحائزون
لشرف العلم والعمل به مع الإخلاص فيه، ومن تشبه بقوم فهو
منهم، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم أماتنا الله على
محبتهم وحشرنا كذلك في زمرتهم (ومجالستهم) أي ليحفظ نفسه
ذلك الزمن عن المخالفة لمولاه فإن ذلك أقل ثمرات مجالستهم،
ويراعى في ذلك الأدب ويحفظ نفسه من الخواطر بين يدي أهل
الله تعالى (وصحبتهم) أي المصاحبة معهم (ومحبتهم) أي تعاطي
ما يوصل إليها والمصادر مضافة لمفعولها الفاعل محذوف (وطلب
زيارتهم ودعائهم) مصدران مضافان لفاعلهما واستحباب طلبه
لزيارتهم له لتعود بركتهم على منزله ومن به وطلبه لدعائهم
له لأنه أقرب إلى الإجابة وأرجى إلى الحصول (وزيارة) معطوف
على زيارة المضاف إليه الباب: أي وزيارته (المواضع
الفاضلة) وفضلها بكونها مساجداً وبكونها مأثورات عن النبيّ
أو عن أحد من الصحابة أو عن متعبدات الأولياء الصالحين
فالمكان بالمكين.
(3/219)
(قال تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه} ) أي
واذكر إذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف
عليهم الصلاة والسلام، فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذا سمي
فتاه وقيل لعبده {لا أبرح} لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة
حاله وهو السفر عليه، وقوله ( {حتى بلغ مجمع البحرين} ) من
حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه، ويجوز أن يكون لا أبرح
بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه
فلا تستدعى خبراً، ومجمع البحرين ملقتى بحر فارس والروم
مما يلي المشرق، وعد لقاء الخضر فيه، وقيل البحر أن موسى
وخضر فإن موسى كان بحر علم الظاهر، وخضر كان بحر علم
الباطن، وقرىء مجمع بكسر الميم الثانية على الشذوذ من يفعل
كالمشرق والمطلع {أو أمضي حقباً} أي أسير زمناً طويلاً؛
والمعنى: حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب وهو الدهر،
وقيل ثمانون سنة، وقيل سبعون سنة، وكان الخضر في أيام
أفرندون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام
موسى ( {فلما بلغا مجمع بينهما} ) أي مجمع البحرين،
وبينهما ظرف وأضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل (
{نسيا حوتهما} ) أي نسي موسى أن يطلب حاله ويتعرفه ويوشع
أن يذكر ما رأى من حياته وووقعه في البحر، وكان ذلك
العلامة من الله تعالى لموسى على مكان الخضر، وكان الحوت
مشوياً فوثب في ذلك المكان في البحر معجزة لموسى أو الخضر
( {فاتخذ سبيله في البحر سرباً} ) فاتخذ الحوت طريقه في
البحر مسلكاً وسرباً مفعول ثان وفي البحر حال منه أو من
السبيل ويجوز تعلقه باتخذ ( {فلما جاوزا} ) مجمع البحرين (
{قال لفتاه آتنا غداءنا} ) أي ما نتغذى به ( {لقد لقينا من
سفرنا هذا نصباً} ) قيل لم ينصب حتى جاوز الموعد فلما
جاوزه وسأل الليلة والغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع
والنصب، وقيل لم يعي موسى في سفر غيره ويؤيده التقييد باسم
الإشارة ( {قال: أرأيت إذ أوينا} ) أي أرأيت ما دهاني إذ
أوينا ( {إلى الصخرة} ) يعني التي وعد عندها موسى بلقاء
الخضر
( {فإني نسيت الحوت} ) أي فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه
( {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} ) أي وما أنساني
ذكره إلا الشيطان فإن أذكره بدل من مفعول أنساني، وهو
اعتذار عن نسيانه لشغل الشيطان له بوسواسه، والحال وإن
كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما جرت بمشاهدة أمثالها عن
موسى وألفها قل اهتمامه بها، ولعله نسي ذلك لاستغراقه
(3/220)
في الاستقبال وانجذاب شراشره إلى جانب
القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى
الشيطان هضماً لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين
واشتغالها بأحدهما عن الأخرى يعد من النقصان (واتخذ سبيله
في البحر عجباً) سبيلاً عجباً وهو كونه كالسرب أو اتخاذ
عجباً والمفعول الثاني هو الظرف. وقيل هو مصدر فعله
المضمر: أي قال في آخر كلامه أو موسى في جوابه عجباً
تعجباً من تلك الحال وقيل الفعل لموسى: أي واتخذ موسى سبيل
الحوت في البحر عجباً (قال ذلك) أي أمر الحوت (ما كنا نبغ)
نطلب لأنه أمارة المطلوب، قال البكري: وحذف الياء على
التشبيه بالفواصل، وسهل ذلك أن الباء لا تضم ههنا وقرىء
بإثباتها وهو الجيد اهـ. (
{فارتد} ) فرجعا (على آثارهما) في الطريق التي ذهبا منها (
{قصصا} ) يقصان قصصاً: أي يتبعان آثارهما اتباعاً أو
مقتصين حتى أتيا الصخرة ( {فوجدا عبداً من عبادنا} )
الجمهور أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان، وقيل اليسع وقيل
إلياس ( {آتيناه} ) بالمد أعطيناه ( {رحمة} ) هي الوحي
والنبوة ( {من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} ) مما يختص
بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيب ( {قال له موسى:
هل أتبعك} ) في هذا دليل لزيارة أهل الخير في أماكنهم
ومصاحبتهم ومجالستهم والتواضع معهم. قال السيوطي في
«الإكليل في أحكام التنزيل» : في الآية أنه لا بأس
بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر واستحباب
الرحلة في طلب العلم واستزادة العالم من العلم وتواضع
المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة اهـ.
ملخصاً.
(وقال تعالى) : ( {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي يريدون وجهه} ) تقدم الكلام عليها في باب فضل ضعفة
المسلمين.
1360 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي
الله عنهما بعد) ظرف للقول (وفاة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - انطلق بنا إلى أم أيمن) هي بفتح الهمزة والميم
وسكون التحتية بينهما مولاة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (رضي الله عنها) صارت إليه بالإرث من أبيه قاله
بعض، وقال القرطبي: كانت لأمه آمنة فورثها عنها، ونقله
الدميري عن أبي بن شيخ وقال في «الديباجة» : عتقها عبد
الله أبو النبي، قال: وقال الواقدي: كانت لعبد المطلب
وصارت للنبي
(3/221)
ميراثاً: أي بأن وهبها لابنه عبد الله ثم
ورثها النبيّ. 9 إذ من البين أن النبيّ لم يرث عبد المطلب
لوجود أولاده. وفي «فتح الباري» في أواخر كتاب الهبة قال
ابن شهاب: كان من شأن أم أيمن أنها كانت وصيفة لعبد الله
بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - بعد ما توفي أبوه كانت أم أيمن
تحضنه حتى كبر، فأعتقها ثم أنكحها زيد بن حارثة، وتوفيت
بعده بخمسة أشهر واسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن
مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان رضي الله عنها، وهي أم
أيمن غلبت عليها كنيتها كنيت بابنها أيمن بن عبيد، وهي
بعده أم أسامة بن زيد تزوجها زيد بن حارثة بعد عبيد الحبشي
فولدت له أسامة، يقال لها مولاة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وخادمه، وتعرف بأم الظباء، وشربت هي وأم أيمن بركة
مولاة أم حبيبة جاءت بها من أرض الحبشة بوله. قال السهيلي:
أم أيمن بركة المذكورة: أي في الترجمة هي التي هاجرت في
حرّ شديد من مكة إلى المدينة وليس معها أحد، فبينا هي كذلك
إذ سمعت حفيفاً فوق رأسها، فالتفتت فإذا دلو أدى لها من
السماء فشربت منها فلم تظمأ بعدها أبداً، وكانت تتعمد
الصوم في خيار القيظ لتعطش فلا تعطش (نزورها) جملة مستأنفة
(كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها) كرامة
لها وكان يقول أم أيمن أمي، وكان يكرمها ويبرّها مبرّة
الأم ويكثر زيارتها، وكان عندها
كالولد ولذا تصخب عليه: أي ترفع صوتها عليه وتدمر: أي تغضب
وتضجر فعل الوالدة بولدها، قاله القرطبي. وقال المصنف: في
هذه الجملة زيارة الصالحين وفضلها وزيارة الصالح لمن هو
دونه، وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره ولأهل ود صديقه،
وزيارة جماعة من الرجال المرأة واستصحاب العالم والكبير في
العيادة والزيارة اهـ. (فلما انتهيا إليها بكت) تذكراً
لعهد المصطفى وزيارتها برئءَتها لكثرة ملازمتها له وعدم
مفارقتها له في الغالب (فقالا لها ما يبكيك أما) استفهام
تقريري (تعلمين أن ما) أي الذي (عند ا) مما أعد لنبيه مما
لا تستطيع العبارة الإعراب عن أدناه فضلاً عن أقصاه (خير
لرسول الله) قال تعالى:
{وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى: 4) (قالت: إني لا أبكي
أني) أي لأني (لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله) أي
لا أبكي لجهلي بأخيرية ما عند الله له وأنا أعلم ذلك كما
(3/222)
جاء عنها عند ابن ماجه قالت: «إني لأعلم أن
ما عند الله خير لرسوله» (ولكن) استدراك لما قد يتوهم من
انتفاء مقتضى البكاء عند علمها بشرف مقامه المنتقل إليه
بأن للبكاء سبباً آخر هو قولها (أبكي أن) أي لأن (الوحي قد
انقطع من السماء) أي لانقطاع الوحي من السماء عن الأرض
بموته، فإن بفتح الهمزة على إضمار حرف التعليل كما ضبطه
القرطبي. قال: وانقطاع الوحي سبب اختلاف مذاهب الناس ووقوع
التنازع والفتن وحصول المصائب والمحن، ولذا نجم بعده
النفاق وفشا الارتداد والشقاق، ولولا أن الله تعالى تدارك
الدين بثاني اثنين لما بقي منه أثر ولا عين اهـ.
(فهيجتهما) بتشديد التحتية (على البكاء) أي أثارتهما عليه
بذكرها ما يدعو إليه (فجعلا) من أفعال الشروع أي فشرعا
(يبكيان معها) قال المصنف: فيه البكاء حزناً على فراق
الصالحين والأصحاب وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما
كانوا عليه (رواه مسلم) في باب فضل أم أيمن ورواه ابن
ماجه، ومن العجيب قول الترمذي في الديباجة انفرد به المصنف
وهو حديث صحيح رجاله حفاظ ثقات مخرج لهم في الصحيحين أو في
أحدهما اهـ.
2361 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أن رجلاً زار
أخاً له) أي في الدين، وقوله: (في قرية أخرى) في محل الحال
من المفعول لتخصيصه بوصف الظرف (فأرصد الله تعالى على
مدرجته) أي محل دروجه: أي في طريقه (ملكاً فلما أتى) أي مر
الرجل (عليه قال) ظاهره أن الملك خاطبه وشافهه (أين تريد)
واستفهم عنه مع إطلاع الله له على ذلك إن كان ليبني ما
بشره الله به مما يأتي على جوابه وهو (قال أريد أخاً لي)
كائناً (في هذه القرية) قال العاقولي: هو جواب على المعنى
الغائي من السؤال، لأن قوله أين تريد؟ يقتضي أن يقول له
قرية كذا، فيقول ما تفعل بها؟ فيقول أريد أخاً لي، فقدمه
وأجابه من الأول علماً بما يؤول إليه السؤال (قال: هل لك
عليه من نعمة) أي عطية بالزيارة (قال لا) أي لا نعمة لي
أربها بزيارته. قال القرطبي: أي لم أزره لغرض من أغراض
الدنيا
(3/223)
اهـ. وهو تفسير مراد لا بيان لمعنى اللفظ
كما هو واضح، ثم استثنى استثناء منقطعاً، قوله (غير) أي
لكن (أني أحببته في ا) في تعليلية ومنه حديث «عذبت امرأة
في هرّة حبستها» الحديث (قال: فإني رسول الله إليك بأن
الله قد أحبك) الظرفان متعلقان برسول (كما أحببته فيه)
الكاف في محل المفعول المطلق. قال ابن أبي شريف في «شرح
المسايرة» في قولهم في تعريف النبيّ إنه إنسان أوحى إليه
بشرع، خرج بقوله: «شرع» الوحي بغيره فيكون لغير النبي: أي
كحديث الباب، وكقوله تعالى في حق مريم {أرسلنا إليها
روحنا} {فأوحينا} (الشعراء: 63) إلى أن قال الملك {إنما
أنا رسول ربك} (مريم: 19) الآية، والأصح عدّ نبوتها. وفي
المواهب اللدنية قال القرافي كما نقله عنه ابن مرزوق يعتقد
كثير أن النبوة مجرد الوحي وهو باطل لحصوله لمن ليس بنبي
كمريم وليست نبية على الأصح مع قوله تعالى {فأرسلنا إليها
روحنا} (مريم: 17) {أن الله يبشرك} (آل عمران: 39) وفي
مسلم فذكر حديث الباب وليس بنبوة لأنها عند المحققين إيحاء
الله لبعض بحكم إنسان
يختص به كقوله {اقرأ باسم ربك} (العلق: 1) فهذا تكليف يختص
به في الوقت فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل {قم فأنذر}
(المدثر: 2) كانت رسالة لتعلق هذا التلكيف بغيرة أيضاً،
فالنبيّ كلف بما يخصه، والرسول بذلك وبتبليغ غيره، فالرسول
أخص مطلقاً اهـ. (رواه مسلم) والمراد من محبة الله تعالى
للعبد إرادته الخير والتوفيق له واللطف به. وفي الحديث ما
يدل على عظم فضل الحب في الله والتزاور فيه وأنه من أعظم
الأعمال وأفضل القرب إذا تجرد عن هوى النفس، قال: «من أحبّ
وأبغض وأعطى ومنع فقد استكمل الإيمان» (يقال أرصده لكذا:
إذا وكله بحفظه) فمعنى أرصد الله على مدرجه ملكاً: أي جعله
يرتقبه وينتظره ليبشره. قال العاقولي: ويقال أرصدته إذا
قعدت له على طريقه (والمدرجة بفتح الميم والراء) وسكون
الدال المهملة بينهما وبعد الراء جيم ثم هاء (الطريق) أنسب
منهم قول القرطبي موضع الدروج وهو المشي وإن كان المآل إلى
واحد (ومعنى تربها تقوم بها وتسعى في صلاحها) أي فيتعاهده
بسبب ذلك.
(3/224)
3362 - (وعنه قال: قال رسول الله: «من عاد
مريضاً أو زار أخاً له في ا) مخلصاً في ذلك سبحانه (ناداه
مناديان) أي من الملائكة (طبت) أي انشرحت لك عند الله
تعالى من جزيل الأجر في ذلك، أو طهرت من الذنوب بغفرانه لك
بذلك (وطاب ممشاك) أي عظم ثوابه (وتبؤت من الجنة منزلاً» )
أي اتخذت منها داراً تنزله (ورواه الترمذي، وقال: حديث
حسن، وفي بعض النسخ) حديث (غريب) .
4363 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال:
إنما) أداة حصر على الراجح كما تقدم أول الكتاب (مثل)
بفتحتين الشأن العجيب والأمر الغريب، ويقال بكسر فسكون،
وميل بوزن رغيف: أي نظير (الجليس الصالح وجليس السوء) كذا
وقفت عليه في الرياض بتوصيف الأوّل وإضافة الثاني، وكأن
حكمة ذلك مع التفنن في التعبير الإشارة إلى مجانبة الجليس
السيء حيث أطلق عليه لفظ المصدر وهو السوء - بالفتح -
مبالغة في التنفير، أما السوء بالضم فاسم مصدر ويجوز ضم
وفتح السين فيما ذكر كقولك رجل سوء وفي نسخة من الرياض
توصيف الصاحب بوصفه في كليهما (كحامل المسك) أعم من أن
يكون صاحبه أو غيره (ونافخ الكير) وهو بكسر الكاف وسكون
التحتية معروف وحقيقته: البناء الذي يركب عليه الزق،
والزق: هو الذي ينفخ فيه فأطلق على الزق اسم الكير مجازاً
لمجاورته له، وقيل واقتصر عليه في القاموس: الكير نفس
الزق. وأما البناء فاسمه الكور وهذا فيه لف ونشر مرتب، ثم
فصل ثمرة ذينك الحالين فقال (فحامل المسك إما أن يحذيك)
بضم التحتية أوله وسكون الحاء المهملة وبالذال المعجمة: أي
يعطيك وزنا ومعنى (وإما أن تبتاع) مضارع من باب الافتعال
للمبالغة: أي تطلب البيع (منه) وفيه جواز بيع المسك والحكم
بطهارته لأنه مدحه ورغَّب فيه، ففيه الرد على من كرهه وهو
منقول عن الحسن البصري وعطاء وغيرهما ثم انقرض هذا الخلاف
واستقرّ الإجماع على
(3/225)
طهارته وجواز بيعه (وإما أن تجد) من
الوجدان بكسر الواو والوجود لغة لبني عامر (منه ريحاً
طيبة) أي فجليس الأخيار إما أن يعطي بمجالستهم من الفيوض
الإلهية أنواع الهبات حباء وعطاء، وإما أن يكتسب من
المجالس خيراً وآداباً يكتسبها عنه، ويأخذها منه، وإما أن
يكتسب حسن الثناء بمخاللته ومخالطته (ونافخ الكير) هو بكسر
الكاف وسكون التحتية. قال الحافظ في «الفتح» وفيه لغة أخرى
كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ
فيه، لكن
أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد. قال
ابن التين: وقيل الكير هو الزق والحانوت هو الكور، وقال
صاحب المحكم: الزق الذي ينفخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما
رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة أن عمر رضي الله عنه رأى
كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه اهـ. (إما أن يحرق
ثيابك) بناره إن وصلت إليها (وإما أن تجد منه ريحاً منتنة)
بضم الميم وكسر المثناة الفوقية وقد تكسر الميم اتباعاً
للتاء، وضم التاء اتباعاً للميم قليل، قاله في «المصباح» :
أي قبيحة متغيرة، أي فجليس الصاحب السيء إما أن يحترق بشؤم
معاصيه، قال تعالى:
{واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال:
25) وقال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم
النار} (هود: 113) وإما أن يدنس ثناءه بمصاحبته، وقد ورد
«المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» ففي الحديث
بيان نتائج كل من صحبة الأخيار والأشرار وفي الحديث ضرب
المثل وتقدم معناه في الأصل وهو المراد في الحديث، ثم خصص
بالقول السائر الممثل مضربه بمورده. قال البيضاوي: الشرط
في ضرب المثل أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي
يتعلق بها التمثيل في العظم والصغر والشرف، وفائدته كشف
المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد
المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل، فإن المعنى الصرف إنما
يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه ميل الحس
وحبّ المحاكاة، وإنما يضرب بما فيه غرابة اهـ. ملخصاً من
موضع منه، ولعله حكمة ذكر الظرف بعد تجدد الأول دون الثاني
ما في الأول من الكرامة فناسب إكرام المحكى عنه به، وما في
الثاني من ضدها فترك دفعاً للمكافحة لما يكره (متفق عليه)
قال الحافظ المزيّ في «الأطراف» . أخرجاه في البيوع،
وتعقبه الحافظ العسقلاني بأن البخاري إنما أخرجه في
الذبائح، نبه عليه القطب الحلبي في «شرحه» ووجدته كذلك.
قلت: وقد أخرجه البخاري في أوائل البيوع بتفاوت يسير فصح
(3/226)
ما قاله المزي (ويحذيك: يعطيك) وزناً
ومعنىً.
5364 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: تنكح)
بالبناء للمفعول أي تتزوج (المرأة لأربع) أي من الخصال
(لمالها) بدل مطابق، بدل مفصل من مجمل بإعادة العامل
اهتماماً (ولحسبها) بفتح المهملتين وبالباء الموحدة: أي
نسبها بأن تكون طيبة الأصل، وفي «المصباح» : الحسب ما يعد
من المآثر. وقال ابن السكيت: الحسب والكرم يكونان في
الإنسان وإن لم يكن لآبائه شرف، ورجل حسيب كريم بنفسه،
قال: وأما المجد والشرف فلا يوصف بهما الإنسان إلا إذا
كانا فيه وفي آبائه. وقال الأزهري: الحسب الشرف الثابت له
ولآبائه: قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة
لحسبها» أحوج أهل العلم إلى معرفة الحسب لأنه مما يعتبر في
مهر المثل، فالحسب الفعال له ولآبائه، مأخوذ من الحساب وهو
عد المناقب لأنهم كانوا إذا تفاخروا حسب كل واحد مناقبه
ومناقب آبائه، ومما يشهد لقول ابن السكيت قول الشاعر:
ومن كان ذا نسب كريم ولم يكن
له حسب كان اللئيم المذمما
فجعل الحسب فعال الشخص مثل الشجاعة والجود وحسن الخلق،
ومنه قوله: «حسب المرء دينه» اهـ، وصحف من ضبطه في الحديث
بالنون بدل الموحدة، لأن ذلك مذكور في قوله (ولجمالها) هو
كما قال سيبويه رقة الحسن (ولدينها) وأعاد الجارّ في
المتعاطفات إيماء إلى أن كل واحد منها مما يقصد على
انفراده واستقلاله (فاظفر) أيها المسترشد (بذات الدين) أي
بصاحبته وهو أبلغ من صاحبته لأنها كناية (تربت يداك) أي
افتقرت وأسند إلى اليدين لأن التصرف يقع بهما غالباً، ولم
ترد العرب بهذه الكلمة وأمثالها معناها الأصلي من الدعاء،
بل إيقاظ المخاطب للمذكور بعده وحثّ وتحريض عليه ليعتنى
به. وقيل معناه: افتقرت إن لم تفعل ما أرشدتك إليه، وقد
ورد ما يؤيده. أخرج ابن
(3/227)
ماجه عن ابن عمر قال: قال رسول الله «لا
تزوّجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يؤذيهن، ولا تزوجوهن
لأموالهن فعسى أموالهن أن يطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين،
ولامرأة جذماء سوداء ذات دين أفضل» (متفق عليه) روياه في
النكاح ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم عن أبي
هريرة (ومعناه أن الناس يقصدون) بكسر المهملة الأولى (في
العادة من نكاح) (المرأة هذه الخصال الأربع) زاد في شرح
مسلم «وآخرهم عندهم ذات الدين» (فاحرص أنت) تفسير لقوله
اظفر بضميره المستكن فيه (على ذات الدين) وعطف قوله (واظفر
بها واحرص على صحبتها) إطنابا للتأكيد. قال الرافعي في
المجلس الثالث عشر من أماليه: يرغب في النكاح لفوائد دينية
ودنيوية، والفوائد المتعلقة بمطلق النكاح تحصل بنكاح أيّ
امرأة كانت، ثم قال: فمن الدواعي القوية إليه الجمال، وقد
نهى عن تزوّج المرأة الحسناء، وليس المراد النهي عن رعاية
الجمال على الإطلاق، ألا ترى أنه قد أمر بنظر المخطوبة
ليكون النكاح عن موافقة الطبع، ولكنه محمول على ما إذا كان
القصد مجرد الحسن واكتفي به عن سائر الخصال، أو على الحسن
التام البارع لأنه يخاف بسببه من الإفراط في الإدلال
المورث
للوحشة والمنازعة والأطماع الفاسدة، فالمنهل العذب كثير
الزحام، ومن شدة الصبوة والميل ولا يؤمن منها تولد أمور
مضرّة، ولأنها قد تصرفه عن كثير من الطاعات في غالب
الأوقات، ومن الدواعي الغالبة المال وهو غاد ورائح، وإذا
كان كذلك فلا يوثق بدوام الألفة سيما إذا قلّ، وقد قيل «من
عظمك عند استغلالك استقلك عند إقلالك» وأما إذا كان الداعي
الدين فهو الحبل المتين الذي لا ينفصم فكان عقده أدوم
وعاقبته أحمد اهـ. ملخصاً.
6365 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا) زيارة
(أكثر مما تزورنا) فأكثر مفعول مطلق، ويجوز أن يكون
منصوباً على نزع الخافض، قال الحافظ في «الفتح» : روى
الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: «احتبس
(3/228)
جبريل عن النبيّ» وروى عبد بن حميد عن
عكرمة قال: «أبطأ جبريل في النزول أربعين يوماً، فقال له:
يا جبريل ما نزلت حتى اشتقت إليك، فقال: أنا كنت إليك أشوق
ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل قل له {وما تنزل}
الآية. وعند ابن إسحاق عن ابن عباس أن قريشاً لما سألوا عن
أصحاب الكهف فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك
وحياً، فلما نزل قال: أبطأت، فذكره اهـ. (فنزلت) أنث
باعتبار أنها كلمات (وما نتنزل) قال البيضاوي: التنزل على
مهل لأنه مطاوع نزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما
يطلق نزل بمعنى أنزل، والمعنى: وما نتنزّل وقتاً غب وقت
إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته (إلا بأمر ربك) قال
الحافظ في «الفتح» : الأمر هنا بمعنى الإذن بدليل سبب
النزول المذكور ويحتمل الحكم: أي ننزل مصاحبين لأمره تعالى
عباده بما شرع لهم، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من
ذلك عند من يجيز حمل اللفظ على جميع معانيه اهـ. (له ما
بين أيدينا وما خلفنا) كذا في الصحيح الاقتصار على ذلك،
والمراد ما أمامنا وما خلفنا من الأزمنة والأمكنة، فلا
ننتقل من شيء إلى شيء إلا بأمره ومشيئته (رواه البخاري) في
التفسير، وكذا رواه الترمذي.
7366 - (وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان (الخدري) بضم
المعجمة وسكون المهملة تقدمت ترجمته (رضي الله عنه عن
النبي قال: لا تصاحب إلا مؤمناً) فيه نهي عن موالاة الكفار
ومودتهم ومصاحبتهم، قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون با
واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله} (المجادلة: 22)
الآية (ولا يأكل طعامك إلا تقي) فيه الأمر بملازمة
الأتقياء ودوام مخالطتهم، وترك الفجار فهو نهي له بالمعنى
عن إكرام غير التقي وإسداء الجميل إليه وفي «مرقاة الصعود»
للسيوطي هذا الحديث في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وإنما
حذر من مصاحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، لأن
المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، يقول لا تؤالف من
ليس من أهل التقوى والورع ولا
(3/229)
تجالسه ولا تطاعمه ولا تنادمه اهـ. (رواه
أبو داود) في الأدب من سننه (والترمذي) في الزهد من
«جامعه» (بإسناد لا بأس به) فرواه أبو داود عن عمرو بن
عون. ورواه الترمذي عن سويد بن نضر كلاهما عن ابن المبارك
عن حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان عن الوليد بن قيس عن أبي
سعيد قال سالم: أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به، وقال
الترمذي: إنما نعرفه من هذا الوجه وأشار إلى أنه غريب.
8367 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: الرجل
على دين خليله) ويروى «المرء بخليله» والخليل الصديق فعيل
بمعنى مفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول (فلينظر أحدكم من
يخالل) أي فلينظر أحدكم بعين بصيرته إلى أمور من يريد
صداقته وأحواله، فمن رآه ورضي دينه صادقه، ومن سخط دينه
فليتنبه، ومن رآه يرى له مثل ما يرى له صحه روى ابن عديّ
في «الكامل» من حديث أنس «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل
ما يرى له» فأقل درجات الأخوة والصداقة النظر بعين
المساواة، والكمال رؤية الفضل للأخ (رواه أبو داود) في
أبواب الأدب من السنن (والترمذي بإسناد صحيح، وقال
الترمذي: حديث حسن) قال الحافظ السيوطي في «المرقاة» : هذا
الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين
القزويني على «المصابيح» ، وزعم أنه موضوع.d
قلت: قال الحافظ العلائي: نسبة هذا الحديث إلى الوضع جهل
قبيح، بل هو حسن كما قال الترمذي، فإن موسى بن وردان وثقه
العجلي وأبو داود، وقال فيه الإمام أحمد: لا أعلم إلا
خيراً. وقال أبو حاتم والدارقطني: لا بأس به. ولم يتكلم
فيه أحد، وزهير بن محمد هو المروزيّ، وثقه أحمد وابن معين
وتكلم فيه غيرهما واحتج به الشيخان في الصحيحين، وذلك يدفع
ما تكلم به فيه فتفردّه يكون حسناً غريباً ولا ينتهي إلى
الضعف فضلاً عن الوضع اهـ. وقال الحافظ
(3/230)
العسقلاني في رده عليه: قد حسنه الترمذي،
وصححه الحاكم، وقد أورده ابن عديّ في ترجمة زهير، ونقل عن
أبي زرعة الدمشقي قال: قلت لمحمد بن السريّ حدثنا أبو مسهر
عن يحيى بن حمزة عن زهير به موصولاً فقال: لم يصنع صاحبك
شيئاً حدثنا يحيى بن حمزة به مرسلاً، وقال: وقد رواه هشام
بن عمار عن الوليد عن مسلم عن زيهر به وزهير بن محمد
استشهد به البخاري ولكن قالوا: إن في رواية الشاميين عنه
مناكير كأنه لما دخل الشام حدث من حفظه فوهم فروايتهم عنه
غير معتبرة، وهذا الحديث مما اشترك فيه الشاميون وغيرهم،
وموسى
المذكور وثقه جماعة وضعفه بعضهم، فحديثه من هذه الحيثية من
قبيل الحسن اهـ. وبه يعلم ما في قول المصنف بإسناد صحيح
ألا أن يريد به المقبول مجازاً فيشمل الحسن اهـ. والله
أعلم.
9368 - (وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال:
المرء) بفتح الميم وسكون الراء وبالميم بعده: أي الشخص (مع
من أحب) وكونه معه لا يستلزم مساواته له في منزلته وعلوّ
مرتبته لأن ذلك متفاوت بتفاوت الأعمال الصالحة والمتاجر
الرابحة. قال في «الفتح» : المعية تحصل بمجرد الاجتماع في
شيء ما ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع
دخلوا الجنة صدقت المعية وإن تفاوتت الدرجات اهـ. (متفق
عليه) أي من حديث أبي موسى، ورواه أحمد والشيخان والنسائي
من حديث أنس والترمذي من حديثه وزاد «له ما اكتسب»
والشيخان من حديث ابن مسعود كذا يؤخذ من «الجامع الصغير» .
(وفي رواية) للبخاري في أبواب الأدب عن أبي موسى الأشعري
(قال: قيل للنبيّ الرجل) أل فيه للجنس (يحبّ القوم) أي من
أهل الصلاح (ولما يلحق بهم) قال أهل العربية: لما تنفي
الماضي المستمر فدل عل نفيه في الماضي وفي الحال، بخلاف لم
فإنها للنفي في الزمن الماضي مطلقاً (قال: المرء مع من
أحبّ) هو عامّ، فمن أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أو أحداً من المؤمنين كان معه في الجنة بحسن النية لأنها
الأصل، والعمل تابع لها ولا يلزم من كونه معهم كونه في
منزلتهم، ولا أن يجزى مثل جزائهم من كل وجه.
(3/231)
10369 - (وعن أنس رضي الله عنه أن
أعرابياً) هو يختص بسكان البوادي من العرب وغيرهم أما
العرب فأولاد إسماعيل عليه السلام، وفي البخاري وهو في
مسلم أيضاً بلفظ «أن رجلاً» وفي الفتح للحافظ أنه ذو
الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد، وحديثه بذلك مخرج
عند الدارقطني، ومن زعم أنه أبو موسى أو أبو ذرّ فقد وهم
لأنهما وإن اشتركا في معنى الجواب، وهو أن المرء مع من
أحبّ إلا أنهما اختلفا في السؤال، فإن كلاً من أبي موسى
وأبي ذرّ سأل «عن الرجل يحبّ القوم ولما يلحق بهم» وهذا
سأل «متى الساعة» اهـ. (قال: يا رسول الله متى الساعة) أي
القيامة، وعبر عنها بذلك لأنها تظهر في أدنى لحظة (قال له
رسول الله: ما أعددت لها) أي حتى تسأل عنها، إذ هي زمن
الجزاء ويوم الدين، قال العاقولي: وقوله: «ما أعددت لها»
من أسلوب الحكيم لأنه سأل عن الوقت فقيل له مالك ولها إنما
يهمك التزود لها والعمل بما ينفعك فيها، فطرح الرجل ذكر
أعماله لأنه كان لا يرى لها قدراً، ونظر إلى ما في قلبه من
مخصوص محبة الله سبحانه ورسوله فقدمه بين يديه (قال: حبّ
الله و) حبّ (رسوله) يجوز رفعه نظراً لصدر جملة السؤال،
ونصبه نظراً لعجز جملته، وقد قرىء بالوجهين «العفو» في
قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة: 19)
نظراً لما ذكر، والمراد من حبّ الإنسان ورسوله طاعتهما
والانقياد لأحكامهما (قال: أنت مع من أحببت) واللفظ عام
لكون كل محبّ مع محبوبه من خير أو شرّ، ومعية الله مع
الإنسان بالنصر والإعانة والتوفيق (متفق عليه) أخرجه
البخاري في أبواب الأدب (وهذا لفظ مسلم) في أبواب البر
والصلة (وفي رواية لهما) أي عن أنس أيضاً، قال: (ما أعددت
لها من) صلة لتأكيد النفي واستغراقه (كثير) بالمثلثة (صوم
ولا) كثير (صلاة ولا) كثير (صدقة) يحتمل أن يراد من المثبت
من ذلك الغرض فيكون كقول البوصيري:
ولم أصلّ سوى فرض ولم أصم
أي سواء، ويحتمل أن يكون بعض النوافل إلا أنها غير كثيرة
وفي العبارة توجيه
(3/232)
(ولكني) في نسخة من مسلم «ولكن» استدراك
مما يوهمه الكلام السابق من نفي تقديم ما يرجو ثمرته في
آخرته أي ولكن لي أعظم الذخائر هو أني (أحبّ الله ورسوله)
قال: «فأنت مع من أحببت» .
11370 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال
الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : هو أبو ذرّ (إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولالله، كيف تقول في
رجل أحبّ قوماً ولم يلحق بهم) عند ابن حبان: ولا يستطيع أن
يعمل بعملهم (فقال رسول الله: المرء مع من أحبّ. متفق
عليه) أخرجاه في الأبواب المذكورة وأخرجه أبو نعيم وزاد
«وله ما اكتسب» .
12371 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: الناس)
أي باعتبار الأفراد (معادن) أي أصولاً للخير والشر بحسب ما
جعلهم الله مستعدين له. والمعادن جمع معدن بكسر الدال لأنه
موضع العدل: أي الإقامة اللازمة وسمي المعدن بذلك لأن
الناس يقيمون فيه شتاء وصيفاً قاله الجوهري (كمعادن الذهب
والفضة) وجه الشبه. اشتمال المعدن على الجواهر المختلفة
نفاسة وخسة وكل معدن يخرج منه ما في أصله، وكذا كل إنسان
يظهر منه ما في أصله من خسة أو شرف (خيارهم في الجاهلية)
أي أشرافهم فيها وهي ما قبل الإسلام سموا به لكثرة
جهالاتهم (خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) بكسر
(3/233)
القاف: أي علموا وبضمها، وتقدم في باب
الأمر بالمحافظة على السنة أن الضم هو المشهور، ومعناه صار
الفقه سجيتهم: أي فقد وصل بما حازه في شرف الإسلام والفقه
فيه إلى ما كان عنده من الشرف والكرم والسماحة ونحوها في
الجاهلية، وهذه القطعة من الحديث تقدم الكلام عليها في باب
التقوى في آخر حديث أبي هريرة «قيل يا رسول الله من أكرم
الناس» الحديث (والأرواح جنود مجندة) معطوف على جملة
«الناس معادن» : أي جموع مجتمعة وأنواع مختلفة (ما تعارف
منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) قال السيوطي: قال
الخطابي: قوله الأرواح الخ يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى
التشاكل في الخير والشرّ، فالخير يحن إلى شكله والشرير إلى
نظيره، فتعارف الأرواح بحسب الباع التي جبلت عليها من خير
أو شر، فإذا اتفقت تعارفت وإن اختلفت تناكرت. قلت: وحكاه
المصنف في شرح مسلم عنه وعن غيره، ويحتمل أن يراد الإخبار
عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء «إن الأرواح خلقت
قبل الأجسام فكانت تلتقي وتلتئم، فلما حلت بالأجسام تعارفت
بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد
المتقدم، فتميل الأخيار إلى الأخيار والأشرار إلى الأشرار»
قال ابن الجوزي: يستفاد من الحديث أن الإنسان إذا وجد من
نفسه نفرة عن ذي فضل وصلاح،
فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته فيتخلص من
الوصف المذموم وكذا عكسه. وقال ابن عبد السلام: المراد
بالتعارف والتناكر التقارب في الصفات والتفاوت فيها، لأن
الشخص إذا خالفتك صفاته أنكرته، والمجهول ينكر لعدم
العرفان، فهذا من مجاز التشبيه، شبه المنكر بالمجهول
والملائم بالمعلوم (رواه مسلم) بجملته (وروى البخاري قوله
والأرواح إلى آخره من رواية عائشة) أي فهذا اللفظ لهما لكن
من طريقين.
13372 - (وعن أُسير بن عمرو ويقال ابن جابر، وهو بضم
الهمزة) وذكره الحافظ العسقلاني بالتحتية بدلها، قال: وقيل
أصله أسير فسهلت الهمزة (وفتح السين المهملة) وسكون
التحتية بعدها راء. قال الحافظ في «التقريب» : مختلف في
نسبه فقيل كندي، وقيل غير
(3/234)
ذلك، وقيل له رؤية، وقيل إن ابن جابر آخر
تابعي. وفي «أسد الغابة» هو ابن عمرو الكندي السلولي وقيل
الدريكي، وقيل الشيباني له صحبة مخضرم. توفي النبيّ وهو
ابن عشر سنين، قاله ابن معين. وقيل كان له إحدى عشرة سنة.
قال ابن معين: أبو الخيار الذي يروى عن ابن مسعود اسمه
أسير بن عمرو أدرك النبيّ وعاش إلى زمن الحجاج، روى عن
النبي حديثين، أحدهما في تلقيح النحل، والآخر في الحجامة.
وقال ابن المديني: أهل البصرة يقولون أسير بن جابر ويروون
عنه عن عمر بن الخطاب حديث أويس القرني، وأهل الكوفة
يسمونه أسير بن عامر اهـ. ملخصاً (قال: كان عمر بن الخطاب
إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن) هم الجماعات الغزاة الذين
يمدون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم مدد (سألهم: أفيكم
أويس بن عامر) كذا رواه مسلم وهو المشهور. قال ابن ماكولا:
ويقال أويس بن الخليص اهـ. قال: وكنيته أبو عمرو. قال
قائل: قتل بصفين، وسيأتي بيان الخلاف فيذلك عند ذكر
ترجمته، فما زال كذلك (حتى أتى على أويس رضي الله عنه) وهو
تصغير أوس، وهو الذئب وبه سمي الرجل، وقيل سمي بمصدر أست
الرجل أوساً إذا أعطيته فالأوس العطية. قاله القرطبي: وفي
كلامه الترضي على غير الصحابي، وفيه خلاف الأصح جوازه كما
في «التقريب» للنووي، وعن بعض الحنفية يقال فيما دون
الصحابة رحمه الله ولا يقال فيه رضى الله عنه تمييزاً لهم
بذلك عن باقي الأمة كامتياز المعصوم بالدعاء له بالصلاة
(فقال: أنت أويس بن عامر) بتقدير همزة الاستفهام وحذفت
تخفيفاً بدليل قوله (قال: نعم) وكذا الهمزة مقدرة بعده في
أول كل سؤال (قال: من مراد) اسم قبيلة، قال ابن الكلبي:
واسم مراد
جابر بن مالك بن أدد بن يشجب بن يعر بن زيد بن كهلان بن
سبأ (ثم من قرن) بفتح القاف والراء وبالنون من مراد، وهو
قرن بن رماد بن ناجية بن مراد، وما ذكرنا من أنه بطن من
مراد وإليه ينسب هو الصواب، ولا خلاف فيه، وفي «صحاح
الجوهري» أنه منسوب إلى قرن المنازل المعروف ميقات إحرام
أهل نجد. قال المصنف: وهذا غلط فاحش (قال
نعم، وكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم) أبقى ليذكر
مكان به من هذا الداء، ثم عوفي فيبعثه ذلك على الزيادة في
الشكر (قال: نعم، قال لك والدة؟ قال نعم) ظاهره أنها كانت
موجودة ذلك الحين (قال: فإني سمعت
(3/235)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن) إضافة أمداد
لأهل يجوز أن تكون بيانية، والأقرب كونها لاميَّة، والظرف
محتمل لكونه لغواً متعلقاً بيأتي، ولكونه مستقراً حالاً من
أويس أو صفة لأمداد، وكونه حالاً أنسب مما بعده، وعليه
فيكون (من مراد) حالاً منه مترادفة أو حالاً منه متداخلة
(ثم من قرن وكان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم) سيأتي في
الرواية الآتية «إلا موضع الدينار أو الدرهم» بالشك (له
والدة) اسمها و (هو بها بر) بفتح الباء الموحدة: أي بالغ
في البرّ والإحسان إليها (لو أقسم على ا) أي أقسم عليه
بحصول أمر (لأبرّه ا) بحصول ذلك المقسم على حصوله (فإن
استطعت أن يستغفر لك فافعل) لا يفهم من هذا أفضليته على
عمر، ولا أن عمر غير مغفور له للإجماع على أن عمر أفضل منه
لأنه تابعي والصحابي أفضل منه، إنما مضمون ذلك الإخبار بأن
أويساً ممن يستجاب له الدعاء، وإرشاد عمر إلى الازدياد من
الخير واغتنام دعاء من ترجى إجابته، وهذا نحو مما أمرنا
النبي به من الدعاء له، والصلاة عليه وسؤال الوسيلة له وإن
كان النبي أفضل ولد آدم، وكذا ما يأتي من قوله لعمر:
«أشركنا في دعائك يا أخي» ثم سأله عمر ذلك بقوله (فاستغفر
لي فاستغفر له) ففيه طلب الدعاء من
الصالحين وإن كان الطالب أفضل (فقال له عمر: أين تريد؟
فقال: الكوفة) هي البلدة المعروفة بالعراق، وسميت بذلك
لاستدارة بنائها (قال ألا) بتخفيف اللام أداة استفتاح
(أكتب لك إلى عاملها) أي ليقوم من بيت مال المسلمين منها
بكفايتك (قال: أكون) أي كوني (في غبراء الناس أحبّ إلي)
فالأصل أن أكون فحذف أن فارتفع الفعل أو أطلق وأريد منه
المصدر فهو نظير قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»
توجهيه المذكورين (فلما كان من العام المقبل) بضم الميم
وكسر الموحدة اسم فاعل، وهو بالنسبة لعام ملاقاة عمر له
(حج رجل من أشرافهم) أي أشراف أهل الكوفة ولعل إضافته
إليهم لسكناه بينهم، وإلا فسيأتي ما قد يؤخذ منه أنه من
مراد وسكت عن بيانه وتعيينه المصنف والقرطبي وكأنه لعدم
وقوفهما عليه، والمراد بشرفه ظهوره وغناؤه (فوافق عمر)
يحتمل أن يكون فاعل وافق ضميراً يعود إلى رجل، وأن يكون
(3/236)
الفاعل عمر ومفعول الفعل ضمير متصل بالفعل
محذوف وهذا أقرب ليوافق قوله (فسأله عن أويس فقال: تركته
رثّ البيت) أي رثّ متاعه، وهو المتاع الدون أو الخلق
البالي. وقال المصنف: هو بمعنى قوله بعده: قليل المتاع،
ويجوز أن لا يقدر مضاف بمعنى أن بيته الذي هو به خلق بال
(قليل المتاع) قال في «المصباح» : المتاع في اللغة كل ما
ينتفع به كالطعم والبرّ وأثاث البيت، وأصل المتاع ما يتبلغ
به من ذلك وتقليله من المتاع زهد في الدنيا وإعراض عنها
(قال) أي عمر (سمعت النبيّ يقول: أتى علكيم) وفي نسخة
بالإفراد خطاباً لعمر ويناسبه قوله: فإن استطعت (أويس بن
عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص
فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برّ لو أقسم على
الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفرلك فافعل) هذا كله مرفوع
كما تقدم مع الكلام عليه وهو من جملة معجزاته، لما فيه من
الإخبار عن الأمر قبل وقوعه وذكره باسمه وصفته وعلامته
واجتماعه بعمر، فكان كما أخبر عنه، وفيما
فعل عمر الله عنه تبليغ الشريعة ونشر السنة والإقرار
بالفضل لأهله، والثناء على من لا يخشى عليه عجب بذلك
ليقينه وكمال إيمانه، والخطاب باستطعت من النبي لعمر رضي
الله عنه، وهو حكى لفظ خطابه له، وليس مدرجاً في آخر الخبر
خطاباً لذلك الشريف كما قد يتوهم، فإن كون المصطفى يأمر
عمر مع كونه أفضل من أويس بأن يطلب منه الدعاء أبلغ في
إظهار فضله وإثارة رغبة المخاطب لطلب الدعاء منه فلهذا قال
(فأتى) أي ذلك الرجل (أويساً فقال استغفر لي، فقال) أي
أويس (أنت أحدث عهداً بسفر صالح) أي أقرب، وعهداً منصوب
على التمييز كقوله تعالى:
{هم أحسن أثاثاً} (مريم: 74) وأشار إلى فضل السفر الصالح
وأن القادم منه أرجى لإجابة دعائه فلذا سأل منه أويس
الدعاء بقوله: «فاستغفر لي» وقد ورد «إذا لقيت الحاج فمره
فليستغفرلك» وفي حديث آخر إن الله يغفرللحاج ولمن استغفر
له الحاج حتى يرجع إلى بيته، (فقال) أي الرجل (استغفر لي،
قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي) وكأن الرجل طلب
من أويس ثالثاً الدعاء ففطن أنه عرف بمقامه (فاقل: لقيت
عمر) بتقدير همزة
(3/237)
الاستفهام (قال نعم، فاستغفر له) أنه علم
أنه أعلمه بعلي مقامه وأنه لما علم ذلك لا يتركه حتى يدعو
له ودعا له بطلب المغفرة لورود ذلك في حديث عمر (ففطن)
بكسر الطاء المهملة (له الناس) وأقبلوا عليه (فانطلق على
وجهه) خارجاً لأن في ذلك إشغالاً له عن شأنه المتوجه هو
إليه من إفراد الحق بالقصد والانقطاع إليه من الخلق (رواه
مسلم) انفرد به عن باقي الستة ذكره في الفضائل، وقال في
آخر الحديث: قال ابن المنير: وكسوته بردة، فكان كلما رآه
إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟
(وفي رواية لمسلم أيضاً عن أسير بن جابر) المرويّ عنه
الحديث الأول (رضي الله عنه) زيادة في الحديث (أن أهل
الكوفة وفدوا إلى عمر رضي الله عنه، وفيهم رجل ممن كان
يسخر بأويس) لعله الذي عبر عنه في الرواية السابقة بقوله:
«من أشرافهم» ولعل سخرياه منه لغني ذلك الرجل وغروره. بما
هو فيه من الجاه والمال، واحتقار أويس لرثاثته وقلة متاعه
زهداً في الدنيا واطراحاً لها وإعراضاً عن زهراتها،
والسخرياء: الاستهزاء، وسخر من باب تعب كما في «المصباح»
(فقال عمر: هل ههنا أحد من القرنيين) بفتح القاف والراء
نسبة لقرن بطن من مراد كما تقدم (فجاء ذلك الرجل فقال عمر:
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: إن رجلاً
يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع) أي يترك (باليمن
غير أم له) وهذا مما زادت به هذه الرواية على ما قبلها (قد
كان به بياض) هو الذي عبر عنه في الرواية السابقة بقوله
برص (فدعا الله فأذهبه) ليس ذلك منه اعتراضاً على مولاه
وعدم رضاه بقضاه ولكن لعله دعاه لذلك أمر آخر مطلوب من برّ
والدته، وأن لا تقذر مخالطته وتستنكف من خدمته وهو شديد
العناية بها (إلا موضع الدينار، أو) شك من الراوي (الدرهم)
والشك في ذلك عند مسلم في طريق زهير بن حرب بهذا اللفظ،
فيحتمل كون الشك منه، أو من أحد شيوخه والطريق المجزوم
فيها بأنه موضع الدرهم السابقة، رواها مسلم عن شيوخه إسحاق
بن إبراهيم الحنظلي، ومحمد بن المثنى، وابن بشار قال:
واللفظ لابن المثنى، والطريقان مختلفان في رجال الإسناد
إلى أسير (فمن لقيه منكم فليستغفر
(3/238)
لكم) أي فليطلب منه ذلك كما قال في الرواية
الآتية «فمروه فليستغفر لكم» ثم إن كان اللفظان من عمر،
فيحتمل على أنه تارة باللفظ وتارة بالمعنى، ويحتمل أنه
تعدد ذكره منه فتارة ذكر بلفظ إحدى الروايتين، وأخرى بلفظ
الأخرى، وفيه على الاحتمال الأول دليل جواز الرواية
بالمعنى بشرطه.
(وفي رواية له) أي لمسلم (عن عمر رضي الله عنه قال: إني
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن خير
التابعين رجل يقال له أويس وله والدة، وكان به بياض فمروه)
فيه دليل لعدم اعتبار الاستعلاء والعلو في الأمر خلافاً
لبعض الأصوليين (فليستغفر لكم) كأن حكمه الإتيان بالمؤكده
في صدر الجملة ما قد يعتري الناظر له في التردد في أخيريته
على التابعين فأكد ذلك لذلك، قال المصنف في شرح مسلم: وهذا
الحديث صريح في أنه خير التابعين، وقد قال أحمد وغيره:
أفضل التابعين سعيد بن المسيب. والجواب أن مرادهم أن
سعيداً أفضل في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه لا
في الخير عند الله تعالى اهـ. قال في «الإرشاد» عن أحمد بن
حنبل قال: أفضل التابعين سعيد بن المسيب، قيل فعلقمة
والأسود، فقال سعيد: وعلقمة والأسود.d
وعنه لا أعلم في التابعين مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن
أبي حازم، وعنه أفضلهم قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق، وعن
عبد الله بن جنين الزاهد قال: أهل المدينة يقولون: أفضل
التابعين ابن المسيب، وأهل الكوفة يقولون: أويس القرني،
وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري والله أعلم. ومثله في
«التقريب» له باختصار قال السيوطي في «شرح التقريب»
واستحسنه: أي ما قال ابن حنيف - ابن الصلاح. وقال العراقي:
الصحيح بل الصواب ما ذهب إليه أهل الكوفة لما ثبت في صحيح
مسلم، وأشار إلى الحديث قال: فهذا قاطع للنزاع، قال: وأما
تفضيل أحمد لابن المسيب وغيره فلعله لم يبلغه الحديث أو لم
يصح عنده أو أراد الأفضلية في العلم لا الخيرية، قال
السخاوي: فقد فرق بينهما بعض شيوخ الخطابي فيما حكاه
الخطابي عنه، وأما قوله لعل أحمد لم يبلغه الحديث أو لم
يصح عنده فإنه أخرجه في «مسنده» من الطريق التي خرّجها
مسلم منها بلفظ: «إن خير التابعين رجل يقال له أويس» لكن
قد أخرجه في «المسند» أيضاً بلفظ: «إن من خير التابعين»
فقال: حدثنا أبو نعيم ثنا شريك فذكره بذلك. قال
السخاوي: وكذا رواه الجماعة عن شريك فزال الحصر اهـ. (قوله
غبراء الناس بفتح الغين المعجمة وإسكان الباء) الموحدة
(وبالمد) قال القرطبي: هذه الرواية الجيدة فيه
(3/239)
(وهم فقراؤهم وصعاليكهم ومن لا يعرف عينه
من أخلاطهم) قال القرطبي: والغبراء الأرض، يقال: «الفقراء
بنو الغبراء» كأن الفقر ألصقهم بها، قال القرطبي: وقد روى
غبَّر بضم الغين وتشديد الموحدة جمع غابر كشاهد وشهد،
ويعني به بقايا الناس ومتأخريهم، وهم ضعفاء الناس لأن وجوه
الناس يتقدمون للأمور ويصحبون بها ويتقاضون فيها، ويبقى
الضعفاء لا يلتفت إليهم ولا يؤبه بهم، فأراد أويس أن يكون
خاملاً بحيث لا يلتفت إليه. طالباً للسلامة وظافراً
بالغنيمة اهـ. والمعنى الأول يئول إلى هذا أيضاً.
والصعاليك بمهملتين أوله، جمع صعلوك بضم الصاد المهملة:
الفقير كما في «الصحاح» ، وقوله من لا يعرف عينه: أي
لخموله وعدم ظهوره (والأمداد جمع مدد) بفتح أوّليه (وهم
الأعوان والناصرون الذين كانوا يمدون) من الإمداد: أي
اتصال المدد (المسلمين في الجهاد) وقضية ترتيب المتن تقديم
بيان الأمداد على ما قبله لأنه كذلك فيه.
(فائدة) قال القرطبي: كان أويس من أولياء الله المخلصين
المخففين الذين لا يؤبه بهم، ولولا أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أخبر عنه ووصفه بوصفه ونعته بنعته
وعلامته لما عرفه أحد، وكان موجوداً في حياة النبي وآمن به
وصدقه ولم يلقه ولا كاتبه، فلم يعدّ من الصحابة، وقد أخبر
النبيّ أنه من التابعين حيث قال: «إنه خير التابعين» وقد
اختلف في زمن وفاته، فروي عن عبد الله بن مسلم قال: «عزونا
أذربيجان زمن عمر بن الخطاب ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا
مرض علينا فحملناه فلم يستمسك فمات، فنزلنا فإذا قبر محفور
وماء مسكوب وكفن وحنطوط، فغسلناه وكفناه وصلينا عليه
ودفناه، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره فإذا لا
قبر ولا أثر» وروي عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل
من الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ قلنا نعم، قال: إني
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أويس خير
التابعين بإحسان» وعطف دابته فدخل مع أصحاب عليّ قال عبد
الرحمن: فوجد في قتلى أصحاب عليّ. وله أخبار كثيرة وكرامات
ظاهرة ذكرها أبو نعيم وأبو الفرج بن الجوزي في كتابيهما
اهـ كلام القرطبي. وقد أفرد بعض فضلاء زبيد بعضها جزءاً في
مناقبه وقفت عليه وهو حسن.
14373 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنت
النبي في العمرة) فيه
(3/240)
استئذان التلميذ لأستاذه، والمريد لشيخه في
مهامته إذا كان مع من ذكر في أمر جامع بهم يجمعهم طاعة
الله ليكون على ذهنه إذا تفقده، قال تعالى: {إنما المؤمنون
الذين آمنوا با ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم
يذهبوا حتى يستأذنوه} (النور: 62) (فأذن لي) في ذلك ودعا
لي بالمغفرة، قال ابن رسلان: روى الثعلبي عن ابن أبي جمرة
الثمالي، واسمه ثابت بن أبي صفية «كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل
أن يقضي الحاجة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يراه، فيعرف رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء
منهم» . (وقال: لا تنسنا يا أخيّ) بفتح الياء المشددة
وكسرها قراءتان في السبع في يا بني، وظاهر أنهما على ضم
الهمزة والتصغير، وعليه اقتصر الشربيني الخطيب في «شرح جمع
الجوامع» ، وفي «شرح جمع الجوامع» للمحلي بعد ذكر الحديث
وأخي بضم الهمزة مصغر لتقريب المنزلة: أي لا للتحقير،
وبفتحها روايتان اهـ. (من دعائك) فيه دليل على استحباب طلب
المقيم من المسافر ووصيته له بالدعاء في مواطن الخير ولو
كان المقيم أفضل من المسافر، وإن كان يعرف أنه يدعو له فلا
بأس أن يذكره بالدعاء له لا سيما إن كان سفره عبادة كحج أو
عمرة أو غزو فتتأكد الوصية كما تقدم، وفي الحديث: «يغفر
للحاجّ ولمن استغفر له الحاجّ» والعمرة في معنى الحج، وهذا
الحديث يؤيده.
وقال عمر: (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(كلمة) أراد بها معناها اللغوي، وهو الجمل المفيدة وهل هو
مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل أو استعارة مصرحة
شبه الكلام بالكلمة في توقف فهم المراد على تمام كل منهما،
فأطلق عليه اسمها وجهان ذكرهما شيخنا الشيخ المحقق عبد
الرحمن الحساني، والمشهور في كتب النحو: الأول منهما،
وعليه اقتصر ابن رسلان في «شرح السنن» (ما يسرّني أن لي
بها) أي «بدلها فالباء فيه بمعنى البدل، ومنه قول الحماسي»
.
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا.
(الدنيا) وما فيها، قال ابن رسلان: فيه فضل الدعاء بظهر
الغيب واستحبابه للحاج إذا حضر في الأماكن التي يستجاب
فيها الدعاء لنفسه ولإخوانه في الله تعالى بأعيانهم، ومن
سأله الدعاء ووعده فيتعين ويتأكد عليه الدعاء له اهـ. وهذا
الحديث دليل قول المصنف في الترجمة وطلب الدعاء منهم، وذكر
لدليل ندب زيارة المواضع المأثورة قوله:
(وفي رواية) هي لأبي داود قال بعد إيراد الحديث كما تقدم
من طريق شعبة، قال شعبة: ثم لقيت عاصماً بعد بالمدينة
فحدثته فـ (ــقال) في حديثه (أشركنا) بفتح الهمزة: أي
اجعلنا شركاء معك (يا أخي) بالوجهين (في) صالح (دعائك حديث
صحيح. رواه أبو داود) في باب الدعوات آخر كتاب الصلاة
(والترمذي) في الدعوات من جامعه (وقال: حديث حسن صحيح) لعل
صحته لغيره، وإلا ففي سند أبي داود والترمذي عاصم بن عبيد
الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب ليس من رجال الصحيح، إنما
روى له البخاري في كتاب خلق الأفعال، وفي سند الترمذي
أيضاً سفيان بن وكيع وهو الراوي، وقد تكلم فيه من قبيل
دخوله
(3/241)
في صنعة الوراقة، وقد رواه ابن ماجه في
الحج من «سننه» عن أبي بكر بن شيبة عن وكيع عن سفيان عن
عاصم أيضاً والله أعلم.
15374 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبيّ يزور
قباء) بضم القاف وتخفيف الباء وبالمد وهو مذكر منون مصروف
في اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى صاحب المطالع وغيره فيه
لغة أخرى وهي القصر حكاها في «المطالع» عن الخليل، وأخرى
وهي التأنيث وترك الصرف والمختار ما قدمت، وهو الذي قاله
الجمهور ونقله صاحب المطالع عن أبي عبيد البكري وعن أبي
علي القالي، كذا في «التهذيب» للمصنف، وجمعت هذا كله من
عبارة «المغني» للشيخ محمد طاهر الهندي الفتني: قباء بالمد
والتذكير والصرف أشهر من أضدادهن، وبضم القاف وخفة
الموحدة، وفي «المصباح» هو بضم القاف ويقصر ويمد ويصرف ولا
يصرف، وفي عبارته إبهام تساوي الوجوه وقد علمت الأشهر
منها. قال السمهودي: هو قرية حوالي المدينة. قال ابن جبير:
مدينة كبيرة كانت متصلة بالمدينة المقدسة. وفي خط المداعي
إنما سميت قباء ببئر كانت هناك تسمى قباراً فتطيروا منها
فسموها قباء كما نقله ابن زبالة. قال الباجي: على ميلين من
المدينة ونقله النووي عن العلماء. وفي «مشارق عياض» ثلاثة
أميال، وهو معنى قول الحافظ ابن حجر على فرسخ من المدينة.
قال السمهودي: وقد اختبرت ذلك فرأيته على فرسخ من باب
جبريل إلى باب مسجد قباء اهـ. (راكباً وماشياً) أي تارة
وتارة، ويحتمل أن يكون باعتبار بعض المسافة
(3/242)
والأول أقرب لقربه (فيصلي فيه) أي في مسجده (ركعتين. متفق
عليه) وقد ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء أحاديث كثيرة
أوردها السمهودي في فضل مسجد قباء من «تاريخه» : منها ما
رواه الترمذي عن أسد بن ظهير الأنصاري عن النبي قال:
«الصلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي: حديث حسن غريب،
ولا نعرف لأسيد شيئاً يصح غير هذا الحديث. ثم أورد
السمهودي أحاديث في كونها فيه كعمرة.
(وفي رواية) هي للبخاري والنسائي من حديث ابن عمر (كان
النبي يأتي مسجد قباء كل سبت) وعند ابن حبان في صحيحه «كل
يوم سبت» قال السمهودي: فيرد به على من قال السبت الأسبوع
(راكباً وماشياً) أي للصلاة فيه كما تقدم فيما قبله (وكان
ابن عمر يفعله) قال السمهودي: ولابن أبي شيبة عن شريك عن
عبد الله بن عمر مرسلاً «أن النبي كان يأتي قباء يوم
الاثنين و» عن ابن أبي عروبة قال «كان عمر بن الخطاب يأتي
مسجد قباء يوم الاثنين ويوم الخميس» الحديث، ففيه استحباب
زيارته ومثله سائر الأماكن المأثورة في الحرم المكي وغيره. |